يتناول القاص والناقد المغربي في هذا المقال "فعل التصفيق في المسرح" فاتحا بذلك مجال أحد البحوث النادرة في الخطاب النقدي المسرحي. ويرصد عبره دلالاته الرمزية، والاعتبارات المتحكمة في فعل الحضور، من خلال بعض التجارب المسرحية المغربية.

فعل التصفيق في المسرح

محمد زهير

لماذا فعل التصفيق في المسرح؟
بدءاً، نقول إن التصفيق إرسالية من ذوات في قاعة المسرح، إلى ذوات في فضاء الخشبة. إرسالية من ذوات تتلقى خطاباً مسرحياً، وتصدر عنها ردود فعل تجاهه، من أبرز حالاتها الشاخصة: فعل التصفيق. إنه نوع من الإعلان الرمزي الدال عن المشاركة إيجابياً في بناء العرض، أو الدال على موقف سلبي منه. وهذا من أهم مميزات المسرح، باعتباره لقاء مباشراً حياً يقابل فيه الممثلون الجمهور وجهاً لوجه، فيؤثرون فيه، بل ويؤثر الجمهور بدوره على أداء الممثلين بشكل أو بآخر، مما يلقي عليهم، ليس عبء الأداء فقط، بل عبء تكييف أحوالهم أيضاً، حسب استجابات الجمهور، وحسب مؤثرات الأجواء والشروط التي يؤدون فيها المسرحية. فالجمهور في حالة استجابته الإيجابية يشكل "قوة تاريخية ومشاركة في الإبداع، تمد العمل بطابعها الدينامي"(1). والمسرح في غياب الجمهور، الذي إنما ينجز العرض من أجله، شبيه بالجثة الهامدة. ومن ثمة، فالعرض المسرحي هو الكل الشامل للمؤدين على الخشبة والممثلين في القاعة.

وفي هذا المحفل التشاركي، يكون فعل التصفيق تعبيراً دالاً على وجود وإحساس، وموقف؛ فبفعل التصفيق أو غيره من ردود فعل الجمهور، يعبر هذا الأخير بطريقته عن وجوده المشارك داخل فضاء العرض. وجوده المعني بما يجري على الخشبة، فالمسرحيون ينجزون العرض، والجمهور يحضر لمشاهدته ويبدي رأيه الضمني في مشاهده ومتتاليات مجرياته، ثم في عمومه عند نهايته بالتصفيق أو بغيره من السلوكات وردود الفعل. فالتصفيق طريقة من طرق إبداء الرأي الضمني، ونوع من الإجابة الظاهرة عن رسالة موجهة من المسرح إلى الجمهور، تعني ـ من بين ما تعني ـ أنني أتواصل معك، وأتفاعل مع راسلتك، وأتأثر بها وأفهمها، وأدرك مرماها؛ بل وأصدر حكماً على ما أتلقاه بالإعجاب والامتنان أو بالاستحسان، إن لم يصل الأمر إلى حد الإعجاب.

وقد يكون التصفيق إشارة تبرم وضيق، فيعلن عندها عن موقف سلبي من العرض، أو من لحظة من لحظاته. وفي الحالتين معاً، يكون التصفيق رد فعل "نقدي" تلقائي، بسيط أو معقد، حسب طبيعة ومستوى وغاية مصدره. رد فعل يعبر بطريقته عن إحساس، أو إدراك، أو موقف... مقابلاً حالة مسرحية بحالة تلقّ تعالقها، ومؤشراً بفعله المادي على انتفاء المساحة بين الخشبة والقاعة، ومضيفاً إلى لغات المسرح وشبكة إشارياته، البصرية والسمعية، المتعددة والمتظافرة، إشارية أخرى، تنخرط في المحفل الدرامي لحظة العرض، حيث يتداخل فضاء العرض على الخشبة بفضاء تلقيه من القاعة في عملية إرسال وردّ فعل، وعلى أساسها يكون نجاح العرض أو فشله.

وأعتقد أن التعبير عن علاقة الذوات المتلقية بالعرض المسرحي، لا يتمظهر في الأفعال المادية المجسدة فقط، ومنها فعل التصفيق، بل قد يتخذ حالة أخرى هي حالة اللاتصفيق.. حالة الصمت المتوهج.. فإذا كان التصفيق يعبر عن حالة تواصل إيجابي أو سلبي أحياناً، مع العرض المسرحي أو مع لحظة من لحظاته، فكذلك اللاتصفيق، فهناك من يلتزم الصمت أثناء العرض، بل قد يتبرم من التصفيق نفسه، مؤشراً بهذا السلوك على علاقة مختلفة بما يشاهد، سواء كانت علاقة إيجابية أو سلبية، والغالب أن تكون علاقة إيجابية ومن نخبة مخصوصة. والتبرم من التصفيق يتضاعف لدى هذه النخبة، حين يكون مجانياً أو دخيلاً على الطقس المسرحي، ونقصد هنا، تخصيصاً، التصفيق المبيت، أو النشاز الشبيه بذلك التصفيق المجاني أو الرسمي المرتب، الذي تستدعيه العادة أو المناسبة، دون أن تكون له دلالة متأصلة من صلب التواصل مع الحدث، وجوهر التفاعل الحقيقي معه. ذلك أن التصفيق الذي نعته لوركا بالمنظم، وقال إنه لا يجد شيئاً يبعث على الأسى أكثر منه حتى ولو تم بحسن نية(2)، مثل هذا التصفيق لا يؤشر على رهافة إحساس، ولا يدل على فهم أو استيعاب لما يجري على الخشبة، إنه إعلان عن حضور طاف على السطح، أو عن غياب رغم ظاهرية كتلة البدن.

إن التصفيق في المسرح، إذا كان تعبيراً تلقائياً عن حالات تنتاب بعض الذوات، أو فعلاً قصدياً مبيتاً من متواطئين يجاريهم فيه متابعون، فإنه فعل قسري بالنسبة لذوات أخرى، تحب أن تشاهد في صمت صوفي، ولا ترغب بتاتاً في غير ذلك، فتعتبر التصفيق تشويشاً على صفاء المشاهدة، وتكسيراً لحالة التركيز والتواصل مع الخشبة، وانتهاكاً لسحرها، خاصة وأن التصفيق قد يكون لمشهد أو إشارة سطحيين أو مبتذلين، لا يتجاوزان أحياناً مجرد صراخ أجوف على الخشبة، أو مجرد حركات مجانية، أو مجرد إشارات جنسية، أو مغامز أو انتقادات سياسية تقريرية، مقحمة إقحاماً. وفي مثل هذه الحالات، قد لا يكون التصفيق على تحقيق فعل إبداعي، أي على جمالية معالجة مسرحية، إن كان ثمة شيء من ذلك، وإنما يكون على مؤثر آخر غير المسرح. يكون التصفيق في مثل هذه الحالات، على إسقاط وليس على إبداع. وهذه ظاهرة متداولة منتشرة في المسارح الاستهلاكية المبتذلة المروجة للابتذال.

إن التصفيق يكون سطحياً، حين يكون مجرد ابتزاز من لحظة مسرحية سطحية. أعني أن دلالته تكون بمستوى اللحظة المسرحية التي تستدعيه. فبينهما علاقة تناسب، فهو يكون سطحياً حين يستجيب لمشهد أو إثارة أو كلام أو حركة بدون عمق، والعكس صحيح. وهذا وقف على نوعية ومستوى الجمهور المتلقي، الذي تختلف تلقياته باختلاف أفراده وشرائحه، فالجمهور غير متجانس، بل يستعصي على التأطير والتحديد الصارم. وقد كتب موريس بلانشو: "ليس هناك من ينتمي إلى الجمهور، ومع ذلك فكل العالم ينتسب إليه"(3)، وأضاف أن الجمهور "يظل منفلتاً من أكثر التحديدات السياسية صرامة، وذلك بالضبط لما يتمتع به من عدم تحديد"(4). ونحن إنما يهمنا من مثل هذه الملاحظات، أن ما ندعوه جمهوراً، هو في حقيقة الأمر أفراداً وشرائح وتنوعات، قد تتقارب تلقيات بعضها، ولكنها لا تتطابق. لذلك، فإننا حين نتحدث عن الجمهور، فإنما نتحدث بتجاوز كبير. وكذلك الشأن بالنسبة لفعل التصفيق، الذي يظل حمّال دلالات غير متجانسة ما دام صادراً عن جمهور غير متجانس.

وعلى هذا الأساس، فإن التجانس الظاهري لفعل التصفيق في حركته المادية المرئية، وصوته المسموع، يضمر لا تجانساً دلالياً. إن محتوى التصفيق أو مدلوله عند هذه الذات، أو هذه الشريحة المتقاربة الحالة، ليس هو محتواه أو مدلوله عند ذات أو شريحة أخرى، بل أكاد أقول إن النبر الصوتي للتصفيق، يختلف من ذات أو شريحة لأخرى، فهل نحتاج إلى قرون استشعار دقيقة، للإصغاء إلى ما تحت صوت التصفيق، وليس فقط إلى مجرد صوته؟

لقد حضرت عروضاً مسرحية ناجحة ليس فيها تصفيق مادي، وإنما كان التصفيق داخلياً كتيماً، صامتاً بين الجوانح، حيث يصفق القلب وتتوفز المشاعر بسحر المسرح، لتلتهب الأكف في نهاية العرض، بل قد تلتبس النهاية فلا تصفق الأكف إطلاقاً. أذكر تجربة "الزغننة" للمرحوم محمد تيمد(5)، حيث بدأت هذه المسرحية التجريبية خلسة دون إشعار، وانتهت خارج المسرح في الشارع. لقد كان من علامات نجاحها عدم حدوث التصفيق فيها إطلاقاً، وهذه حالة من بين أخريات تدلّ على أن التصفيق قد يغيب في عرض مسرحي، يغيب ظاهرياً أو فعلاً مادياً، دون أن يعني ذلك أن العرض غير ناجح، إذ ليست قيمة العرض وقفاً على صفق الأكف. إن التصفيق في مسرحية كمسرحية "الزغننة" يأخذ صفة الصمت الباذخ، وهذه هي الحالة القصوى، حالة التصفيق الداخلي كما تقتضي طبيعة العرض نفسه.

ما زالت فرق كثيرة تعتبر التصفيق مقياساً لنجاح العرض، فلا تني تستجديه بوسائل وطرق لا علاقة لها بجوهر المسرح. وما زالت الكثير من الفرق لا تفكّ شفرة هذا الفعل، الذي ربما بدأه متواطئ أو غائب عن العرض، أو راغب في ممازحة فجة، فانساق معه آخرون. أذكر يوماً جاورني في قاعة المسرح سكران ثمل، يغمض عينيه ويفتحهما مخدراً بسكره، ولا يتلقى من العرض سوى أشباح خيالاته الثملة، وكان من حين لآخر يحلو له أن يصفق، فيتبعه آخرون مصفقين، وقد استهوته اللعبة فكررها مراراً.

إن التصفيق كالصمت، سلوك ذو حساسية، سلوك لا ينفصل عن نوعية العلاقة مع المسرح. وأرقى هذه العلاقة أن نرتبط بالمسرح ارتباط عشق وفضاء حياة، ونحسن اختيار عروضه وفضاءات تلقيه ما أمكن. وفي هذه الحالة يكون للتصفيق، كما للصمت ـ أي للكف عن التصفيق المادي ـ معناهما الجوهري، في أية لحظة من لحظات تلقي العرض المسرحي، من تحية الممثلين إلى تحية انتهاء العرض. كل تصفيق تكون له دلالته العميقة ومذاقه وقصده، حين تستجيب الأيدي التي تصفق إلى ما يتحرك في دواخل الذوات، المدركة لمعنى ما تفعل ولمقاصده. الذوات الملتزمة عن وعي عميق بمواثيق ضمنية، تجعلها تتدخل عند الحاجة وفي الوقت المناسب، تعبيراً عن إحساس أو إدراك أو امتنان. في هذه الحالة، قد يختار أشخاص ألا يصفقوا، فيكون ذلك حقهم القائم على طبيعة تلقيهم، فحالة التأثر أو الإدراك، أو هما معاً، قد تصل، أحياناً إلى درجة أن يعجز الفعل المادي عن التعبير عنها، أو الإيفاء بحقها، فيكون التعبير بحالة الصمت المفعم، أي بالتصفيق الصامت الحار في دواخل الذات. وقد يبلغ تأثر بعض المتلقين درجة البكاء الصامت أو الظاهر. كما أن الاستهجان أو الضجر يعبر عنهما بطرق مختلفة من بينها الصمت الثقيل والتصفيق والصفير والصراخ.

للتصفيق إذن، حالات لكل منها مدلولها، من المشاركة التفاعلية، إلى الغياب الكلي عن العرض، فقد ينام مشاهد ثم يستيقظ على موجة تصفيق، فينخرط فيها وهو لا يدري لها سياقاً ولا غاية، وقد يتظاهر أناس بالفهم، وهم في منأى عنه، فيصفقون، وقد يصفق آخرون لأن العرض ساق إليهم حذلقات، أو رطانات، أو مباذل ليست من صلب المسرح في شيء. والجمهور، كما قال لوركا: "يصفق ويغتبط عندما يشاهد قلوباً محنطة أو يسمع حواراً كالتمتمة"(6)، وأحرى به أن يشاهد قلوباً مترعة بالحياة، ويسمع حواراً راقياً مسكون بحرارتها. ولذلك أكد لوركا على "أن المسرح يجب أن يفرض نفسه على الجمهور وليس العكس"(7)، فيرتقي بذوق ومدارك ورؤى الجمهور، لا أن ينساق إلى رغباته الاستهلاكية بقصد استهلاكه وقتل زمنه!.

شخصياً، أميل إلى الاقتصاد في فعل التصفيق خلال العرض، وإلى التدقيق في لحظات تدخله، فكثيراً ما يكون في غير محله، وكثيراً ما يكون معيقاً لصفاء العرض وسيولته بدل المشاركة الإيجابية في بنائه، التي تتأسس في الأصل من التربية على تلقي المسرح، والتربية على المشاركة فيه، والاستمتاع بعروضه، والاستفادة منها في بناء الشخصية وبناء الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ هـ. ر. ياوس، عن كتاب: نظرية اللغة الأدبية، خ. م. بوثويلو إيفانكوس، ترجمة: د. حامد أبو أحمد، القاهرة، 1992، ص129.
(2) ـ حديث عن المسرح، ف. ج. لوركا، ضمن كتاب: الرؤيا الإبداعية، مجموعة مقالات أشرف على جمعها هـ. بلوك هـ. سالنجر، ترجمة: أسعد حليم، القاهرة، 1966، ص177.
(3) ـ أسئلة الكتابة، ترجمة: نعيمة بنعبد العالي وعبد السلام بنعبد العالي، البيضاء، 2005، ص60.
(4) ـ نفسه ص60 ـ 61.
(5) ـ مسرحي طلائعي من المغرب. و"الزغننة" من أهم مسرحياته التجريبية: انظر تحليلنا لهذه المسرحية في مجلة "الثقافة المغربية" العدد 18 مارس 2002.
(6) ـ حديث عن المسرح، كتاب: الرؤيا الإبداعية، ص178.
(7) ـ نفسه، ص180.