بعد شيوع استخدام التاريخ في الرواية الجديدة، تتناول الباحثة السورية هنا منطلقات استخدام التاريخ في نصوص ما بعد الحداثة، والمصادرات التي ينطوي عليها، كاشفة عن الخلفية الفكرية لتلك النزعة الفنية الجديدة، ومقدمة لأساس معرفي ضروري لأي تناول للتاريخ فيها.

ما بعد الحداثة وسردية التاريخ

أثير محمد على

كما هو معروف ظهرت الأشكال الروائيّة والفنيّة لما بعد الحداثة كتحدٍ للمعايير الحداثيّة، ومباهج الجمال العقلاني، ورأت أن اللغة نفسها أداة ملوثة أيديولوجياً، ولذلك فإنها تؤسس مشروعيتها على غائيّة خلخلة الرؤى التاريخيّة الكبرى للواقع والفن على حد سواء، والسعي للقطيعة معها. ولعل المناخ العقلي، الذي ظهرت فيه حركة المانريزم El Manierismo (الافتعالية) في القرن السابع عشر، بعد الإصلاح الديني، ونهب روما على يد جيوش كارلوس الأول (1525)، ونشوء الحركة المضادة للإصلاح La Contrareforma، أي عند الحدود الفاصلة بين النهضة الكلاسيّة وبين عصر الباروك في تاريخ الفن يشكّل ـ بشكل من الأشكال ـ تشابهاً مع المناخ الذي اندفعت فيه ما بعد الحداثة للتعبير عن نفسها في العقود الثلاث الأخيرة من القرن العشرين، وذلك من خلال اختلال الانسجام المقياسي، وتزعزع قيمة "الحقيقة الإنسانوية" أمام الذاتويّة المتعالية، وتفكيك الشكل بالشكلانيّة، والتأرجح الفني بين الروحانيّة القروسطيّة التجريدية وبين الواقعيّة النهضوية العيانيّة.

وقول التاريخ في رواية ما بعد الحداثة ـ سواء كان موضوعاً للرواية أم خلفية لأحداثها ـ يفترض استحالة الولوج إلى الماضي لا في حالته الخالصة الكليّة فقط وإنما الموضوعيّة أيضاً. فالماضي يمكن أن يعرف كنص، أو كتابة تعكسها ذاتيّة كاتبها، وعليه تتوالى نسخ متنوعة لنفس الماضي، نسخ قد تكون شديدة الاختلاف أو التناقض، إلا أن أي منها لا يمكنه من حسم قول "الحقيقة". ودلالة أن الفن عامة، والتخييل الروائي على نحو خاص، هو كذب/ وهم، إلا أنه الكذب الذي يقول "حقيقة ما كما هي، أو كما يمكن، أو كما يجب أن تكون"، تنقلب إلى أن هذا التخييل/ الكذب لا يستولد إلا كذباً في ثنايا ممارساته ومحاولاته لإنشاء المعنى وإزاحة السراب عن مجال الرؤية. ويبدو أن مثاليّة الكذب وفضيلته ما بعد الحداثويّة تتساوى مع "الصدق" السفسطائي فيما لو كان "الإنسان معيار الأشياء جميعها" ليس إلا مطلق الفرد التعبيري الذي تقهقر عن كونيّته الحداثيّة الإنسانوية، مؤكداً ذاته واختلافه، وأولوية "تفكيره الضعيف" للتعبير عن نفسه، ومشيداً بتجربته كمنتج حرفيّ لعلامات النص أو مستهلك مبدع ومؤول له. إذاً، فالماضي موجود ولكن "التاريخ" لا يشف عنه، ومقاربة الماضي في السرد تزيح "التاريخ" لصالح تواريخ مفتتة، وتتنازل عن التطلعات نحو وحدته التطوريّة لصالح تعدديته وذريته المثالية، بحيث أن تناول التاريخ في السرد لا يتوانى حتى عن إعادة كشف ما ثبت من قبل بالعقل، وإعادة تشكيل ما تشكل بالتجربة، وتفسير ما تم تفسيره بالعلم على ضوء منظور جديدٍ يفكك التاريخ وينفيه من خلال اللحظة الراهنة في حالتها النسبيّة المطلقة.

يوظف التاريخ في رواية ما بعد الحداثة ليطال أركان النظام الأكاديمي والثقافي والاجتماعي والسياسي المستقر، يتناول نصوصه أو أصواته أو خطاباته: الهوية، السلطة، الوطن، الأخلاق، الإنسان، المعنى، المنفى، الذاكرة... مقوضاً منحاها التطوري الكوني universal والقيمي لصالح تعدديّة pluralidad الأنساق المغلقة على نفسها بأدوات الشك اللاعقلاني، ويقين الريبيّة، والمسائلة اللامبالية بجواب، والتشظي، والتقطع، والتقطيع، وما وراء التخييل، والتعقيد السردي المشاد من تعدد الأزمنة وصعوبة استقرار الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبيّة والفنيّة التي تتعشّق في السرد... ويشدد السرد على صعوبة تمثيل الواقع ومعه الماضي كمرجع للفكرة أو مسوغ لها، ويؤكد على لا جدوى البحث عن الشفافية، وعلى أنه ما من شيئ يدعو للثقة، فلا جلاء للرؤية أمام حداثة "طواحين الهواء".

يوحي التاريخ في رواية ما بعد الحداثة بأنه يتخذ منحى سجالي بالقدر الذي ينحو فيه المؤلف لمعالجة مقدمات فلسفيّة في البنية السرديّة، ولكنه لا يلبث أن يركن إلى الميكانيكيّة السكونيّة، لأنه تاريخ مقتلع من السببيّة ومفرّغ من القلق والسأم على حدٍ سواء، وإن أقدم على إدراج إجابة ما على أطروحته في الشبكة السرديّة، فإنه يقدمها كإجابة حدسيّة لأنا تعتاش من راهن محلي/ هامشي مطلق منقطع الاتصال عن تاريخيّة الفضاء الجغرافي، فإدراك الذات الساردة والمسرودة بأنها توجد منفصلة عن حراك اللحظة الراهنة هو الخطوة الأولى نحو فن تجريد الماضي من آناته الزمنية النشوئيّة، والتاريخ من تاريخيته وعلميّته. وغالباً ما تدلّ مفردة "الذاكرة المتشظيّة" على "التاريخ"، آن الحديث عن "المنسي" و"المهمل" في أدبيات ما بعد الحداثة. وعليه يتم التغاضي عن التاريخ الماضي كموضوع للوعي، ليصبح موضوعاً لذاكرة فرديّة ووجهة نظرها، ولا يُرى إلى جملة الأحداث كحراك واقع يمكن تمثله بأدوات جمالية، وإنما كوقائع متجاورة ونافلة قد تقارب سقط المتاع والعبارة أو الكيتش kitsch، أو كقصص مفتتة لذاكرة تبهر المتلقي بما هو معتّق. وهذا الانجذاب إلى القديم لا تستفزه مشاعر الحنين nostalgia، بقدر ما تحرضه ذائقة الكامب camp ومتعة جماليات نشوزها.

هكذا، تقترح رواية ما بعد الحداثة مراجعة التاريخ عبر القطيعة مع البنية الزمنية الخطيّة التطوريّة، وتضع بدلاً منها شكلاً سردياً تتمكن فيه من استكشاف الأحداث التاريخيّة عبر التداخل والتشابك والتزامن بين الماضي والحاضر، مهدمة الاستمرارية، ومفككة الماضي على ضوء حاضرٍ عبثي نرجسي يتثبت مراقباً انعكاس صورته في الماء بشغف. بمعنى أن "مثال ما بعد الحداثة الأعلى" يدير وجهه عن بروميثوس رمز المعرفة العقلانيّة ومحرر التقدم، كما أنه يرى في دفع الصخرة لتتدحرج من القمة غباءاً سيزيفياً، ويدعو لتركها عند السفح والالتفات للاستمتاع بزمن الأنا الراهن، واللامبالاة بالاستلاب، والإعلاء من رمزية نرجس الأسطورية، والمناداة ببهجة اللحظة العابرة عملاً بالعبارة الرومانية: "عش ليومك" Carpe Diem، وتجاوز الأخلاق ذات السمات الإنسانويّة إلى أخلاق تتحكم بها الحالة الراهنة حين قيمة أي شيئ "تعتمد على..".

وفي العمق يمكن القول أن رواية ما بعد الحداثة تتكئ في سرد التاريخ/ الذاكرة على عدميّة فوضويّة، وعلى لعبيّة ludismo تقنيّة تمارس على خلفية حلوليّة تشظي الحقائق في حضرة تعددية التأويل الذاتي.

وتكمن قوة توظيف التاريخ/ الذاكرة في رواية ما بعد الحداثة، والتي تستخدم التقنيات التسجيليّة في قدرتها على تملق القارئ وحثه على الاستجابة واستهلاك ما تدّعيه من توثيق، وكشفٍ للأحداث وإيضاحٍ لخلفياتها المعتمة التي تدرج في بنيتها السردية، دون أن تفقد طاقتها الجماليّة التخييليّة كشرط أولي لفنيّتها التلفيقيّة Eclecticismo، ودون أن تتنازل عن تقنياتها اللُعَبيّة، وقدرتها على شد القارئ إلى حبال الإثارة واللذة المحبوكة بما هو مسرود، فالواقع في النص الوثائقي يتكافل مع التخييل لإنجاز المعمار السردي التسجيلي، وقد يحوّل مونتاج الأحداث، والآلية التي تنزّل بها المعلومة التاريخيّة في شبكة التخييل، رؤية القارئ نحو الواقعة والموقف منها.

بالطبع، فإن فنيّة التاريخ/ الذاكرة في الرواية ما بعد الحداثويّة، محكومة بخيارات المؤلف التقنيّة الكيفيّة أولاً، إلى جانب أنها تتطلّب مستقبلاً مقتلعاً من جذوره الاجتماعية، ولكنه قادر على لملمة الشكل وبناء معناه أو لا معناه الخاصين في نهاية الأمر.

ولكن مفارقة هذا النوع السردي تكمن في أنها قد لا تجنّب الرواية المنتجة في الأطراف مطبّات الأطروحات التاريخية التعددية (pluralismo) التي ينتجها المركز أو المراكز الثقافيّة، والمكبّرة والتي لم تنتهي مدة صلاحيتها، من حيث تدري أو لا تدري، رغم أنها تعلن روائياً التمرد على مبدأ المركز والمركزي، ونعت "الكبرى" و "التكبير" لسرود التاريخ. وهنا يشار إلى أن أبستمولوجيا ما بعد الحداثة هي بالنسبة للبعض منتج تأملات فضاء علماني ينغلق على مركزية نفسه بقدر ما ينفتح على تعددية اللوغوس وذاتويته.