تبدأ المقالة بصوت يفتح باب الذكريات على أيام "شيخ الكتّاب"، ليتحول إلى حوار تحليلي تستدعى عبره حاشية تاريخيّة للتوظيفات الذئبيّة التي طالت الدين منذ الحبو الأول لمفهوم المواطنة، وانعكاسات ذلك على الترويج المعاصر للردة الدينيّة نحو نوع متورم من استعلائيّة كهنوتيّة تدّعي "الإسلام الصوفي".

الدين، السياسة والاكليروس

سعيد بوخليط

سيبدو من مبتذل الصنيع، استرجاع بعض الأقاويل التي لا زال صداها يرن في آذاني منذ وأنا متعلم إلى جانب أطفال آخرين في كُتاب حينا الشعبي. فعلى الرغم من العنف المادي والرمزي الذي مورس علينا من قبل مربين صارمين، لا يعرفون في حق الحشو لومة لائم، فإن القوة الناعمة لبعض الألفبائيات ستخلق لدينا لحظات الفقد، مناعة ضد اغتيالات الإيديولوجيا. منذئذ بدأنا نتنفس كالهواء، أن الدين لله والوطن للجميع. الإسلام دين الفطرة والطبيعة الإنسانية، لا وسائطيّة ولا مؤسسات، فالعلاقة مع الإله مباشرة وصافية وخالصة لا تشوبها شائبة. الإله، صاحب السلطة المطلقة على خلقه يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء. كما أن شعائر التعبد والممارسات البرانيّة، تبقى بعد كل شيء مجرد مظاهر شكليّة، لا تلامس بأية درجة من الدرجات زخم الإيمان الروحي والأخلاقي الذي يطويه الفرد في ذاته، هكذا فإماطة الأذى عن الطريق فعل إيماني يحتسب في خانة سلوكات التدين. ثم، مع مرور الوقت وحينما بدأ أفقنا يتسع رويداً رويداً، أدركنا أيضاً أن الإسلام نص وعقل وزمان أي علاقة جدليّة دائمة بين المقدس والتواريخ البشرية، فتمثل الديني للعقلي يعني الانفتاح والاحتمال والممكن، وإلا اكتسى وجهاً سلبياً، وأضحى عنصراً معيقاً للتقدم المجتمعي.

مناسبة هاته الإشارات، التوظيفات الديماغوجية التي تلاحق الدين من داخل الحقل السياسي وذلك لأهداف ومصالح شخصية أو فئوية ضيقة، تلغي المضامين التحررية والثورية للدين إذا تماهت حمولته مع الفكر الكوني. اختلال المعادلة يجعل من الدين وبشكل سلبي حقاً: زفرات للمخلوقات المعذبة، كلما أحلنا على مسارات تنظيمات الإسلام المتطرف، التي تعكس خطاب أزمة يعبر عن إخفاق فادح للمشروع المجتمعي الكبير، حيث الظروف والشروط والمحددات والنتائج هي ذاتها على امتداد الوطن العربي، وليس الأمر فقط في المغرب مع بعض التلوينات الخفيفة طبعاً. لقد طفت الجماعات الدينية إلى السطح مباشرة، مع انكسار المد القومي الناصري وبروز المخطط السعودي لإعادة صياغة جغرافية المنطقة العربية، حين انتفخ آل سعود باحتياطاتهم النفطية لا غير، وما درّ عليهم ذلك من أموال طائلة كالسيل، وخلق مسوغات مادية كي يبثوا إيديولوجيتهم الوهابية في كل مكان واجتثاث جذور الفكر التنويري، عزْم لا زالت حلقاه مستمرة وبأوتار مختلفة، بالتالي لم يكن نشازاً أن يخرج تنظيم كالقاعدة والذين يحدون حدوه، من جوف الحقبة السعودية، بعدها سينقلب السحر على الساحر. في السياق نفسه، سيتم تفعيل المشاريع الأمريكية الإسرائيلية وسحق بلد كالعراق وتمييع القضية الفلسطينية أو ما فعلته السعودية في الحرب الأهلية داخل لبنان، ووقوفها ضد المقاومة باسم المبرر الطائفي ثم تلاعبها واستفزازها المستمرين لمشاعر وأحاسيس المسلمين، فحتى جدتي تدرك جيداً بأن الأموال السعودية ومعها باقي الإمارات الخليجية، هي التي تنفخ الحياة في شرايين الإمبريالية العالمية وبالتالي ضرب طموحات الشعوب العربية نحو الانعتاق والتحرر. لا يجب أن يغيب عن بالنا أيضاً، في هذا الباب مكر الرئيس السادات، حين لإطلاقه العنان للحركات الدينية من أجل القضاء على ما تبقى من ثورة 23 يوليوز 1952. إستراتيجية تبناها أيضا النظام في المغرب، حين غيب معرفياً العلوم الإنسانية وأقفل أقسام الفلسفة باعتبارهما الأرضيّة المطلقة للتحديث مقابل دعمه وتمسكه على طريقته ووفق تصوره بفكر الزوايا والمشايخ بغية إبقاء المجتمع لصيقاً ببوتقة التقليدانيّة المنسجمة مع منظوراته السياسية. غير أن الاستقواء بمسيسي الدين للقضاء على التقدمين، ما دام الأولون يخدمون بطريقة أو أخرى البنية التيولوجية للرجعيات، انتهى إلى نتائج كارثيّة.

أما المنحى الآخر للدين، وقد أضاع وجهه السليم، فيروم جلياً نحو تبرير مقولة "الدين أفيون الشعوب" والتي بقدر ما تبدو تبسيطيّة واختزاليّة وميكانيكيّة في تصور الأنثروبولوجيين، لأنها لا تستوعب حقيقة جوهر الشعور الديني لدى الفرد حتى داخل المجتمعات الغربية التي قطعت أشواطاً كبيرة في فصل الدنيوي عن الديني، فهي لازالت صالحة بغية تعرية الموضة الجديدة التي يطلق عليها "الإسلام الصوفي"، وقد أصبح الجميع مؤخراً يمرر سبحة بين أصابعه من مجالس الغناء إلى الولائم فمؤتمرات الأحزاب السياسية، بطريقة سينمائية تماماً مثلما يفعل شيوخ النفط. طقوس، تكشف عن آخر صيحات الترهل العربي ومحاولات أكثر يأساً للخروج من مأزق الإسلام السياسي والاستحواذ ثانية على ألباب الجماهير بخلق أحجيات جديدة، تملصاً من المسؤوليات وربحاً لمزيد من الوقت خاصة وأن مشاكلنا تزداد تراكماً وتفاقماً. في ظل غياب حلول عقلانية جدية تصلح جذرياً انهيار السياسة والاقتصاد والفكر، وتبني العقول والأجساد. هذا "الإسلام الصوفي"، يبشرنا بمجتمع الدراويش والمجاديب والقانعين المتخشعين تجاه الأقدار، فكل شيء نعمة ثم يتسع القلب لمحبة اللاعدالة والاختلالات والفوارق والجور والبؤس والظلم ومن صفعك في خدك الأيسر، فهبه خدك الأيمن...، لأن العدالة السماويّة عينها ما تحقق أرضيّا والقائم مطلق الممكن. هكذا، انتهى إطار الدولة، ومستلزمات الحق المدني واطمأن الناس إلى منظومة فكرية لا تختلف عن التدين الشعبي إلا في السياق والقصد، كل ذلك باسم تسامح وأريحية التصوف، كلحظة نوعيّة حسب ظنهم لدحض هستيريا الموت والتخريب التي اشتعلت لدى أصحابنا في الإسلام السياسي تحت يافطة تكفير الجميع لأنهم أضاعوا سبيل "المحجة البيضاء".

إذا كانت التنظيمات الجهادية تثير الرعب والمرارة في نفس الآن، والتي تظهر بأن بنيات زماننا المعرفي تتضاعف كسلاً وتكلساً وتصلداً، فالإسلام الصوفي، يبعث على الضحك الساخر ثم زم الشفاه بعد ذلك، ونحن نتملى يوميات التوظيف الرسمي كما يحدث حالياً في المغرب، حيث تشتد حدة الترويج لهذا النوع من التدين بهدف مواجهة النزوعات الانقلابيّة للإسلام السياسي غير أن الأمر يبقى تمويهاً وتضليلاً، في نفس أفق خلطتهم للحداثة، عبر ملاحقة المساحيق والاستسهال. هكذا، أساؤوا إلى هذا التصوف أكثر مما انتصروا إليه، فالتبست المفاهيم والحقائق، وأضحت الألسن تتداول باستغراب أشياء ظلت مرفوضة وغير مقبولة إنسانياً، لكنها الآن معتادة وبديهية. لقد علمتنا كتب التاريخ والسير، أن المتصوفة بقدر عمقهم الفكري وصفائهم الروحي، أشخاص بسطاء جداً يعيشون كالأنبياء والحكماء والثوار، يجاهدون النفس الأمارة بالسوء ويصدحون بالحق في وجه الجبابرة، يكرسون حياتهم للخير وخدمة الآخرين، وقد ينعزلون في الجبال والمآوي حفاة عراة مترفعين عن كل المتع الفانية تعبيراً عن رفضهم المطلق لما يجري.

لكن، متصوفة هذا الزمان ويا للمفارقة! هم على شاكلة القياصرة، يمتطون بكل ما أوتوا من قناع الدروشة ظهر النعمة والمتع، يشكلون مجالس للإكليروس، حيث تطلع في المنابر الإعلامية، صورة شيخ جالس بخيلاء وزهو لا ينطق ببنت شفه، كأنه كوكب والرعاع يطوفون حوله، يترقبون بلهفة تطاير قطرة من لعابه كي يستحموا ببركاتها ويتطهروا من أدرانهم. أما الزوايا التي كانت فضاء للعلم ومقاومة الاستعمار وإصلاح الأخلاق، فقد حولها المتصوفة حالياً إلى فنادق خمسة نجوم حيث مالذّ وطاب من رغد العيش، ويغدق عليهم المخزن بسخاء عطايا من أموال الشعب، يجدر به أصلاً توجيهها إلى التعليم والصحة والتشغيل والسكن والبادية والقطاعات الاجتماعية. أما متصوفة الواجهة فلن يغيروا برهبنتهم من واقع حالنا شيئاً يذكر، كما أنهم لن يؤسسوا نموذجاً حضارياً للإسلام، بل سيكرسون لا محالة وبأشكال مختلفة عقلية القطيع والتبلد، التي ستعرقل بمئات السنين التطور نحو الديموقراطية والحداثة. التدين الذي نريده، ودون تسمية ولا بهرجة ولا تسيس، أن يكون المرء رقيباً على نفسه، زاهداً وبليغاً مثل قامة شارلي شابلن، لا يمارس وصاية على أحد غير إدراكه السليم لحقوقه وواجباته، ثم يمارس حريته في حدود عدم تعديه على حرية الآخرين.

 

مراكش/ المغرب

boukhlet10@gmail.com