هذه قراءة لأحدث روايات الكاتب المصري المرموق، وفيها نعيد اكتشاف الأسئلة الوجودية التي تشغل البناء الروائي، ولعلها إحدى متع هذا النص الذي يفاجئنا بكثافة المعنى وبحفرياته في المجتمع المصري راصدا علاقة المثقف بالسلطة.

ذوات مؤرقة بهويتها!

حاتم حافظ

الكتابة عن بهاء طاهر مغامرة غير محسوبة، ذلك أن الأديب الكبير الذي صاغ "أنا الملك جئت" و "قالت ضحي" و "ذهبت الى شلال" وغيرها مما تصدر المشهد الروائي العربي، صار علما علي الأدب المراوغ الذي يوهم للوهلة الأولي انه أدب متاح فإذا بالقارئ يفاجأ بكثافة المعني وطبقات البنية ومستويات التلقي.

ورغم أن أغلب روايات الأديب الكبير بهاء طاهر تسائل تيمات ثلاث عرف بها وعرف بها أدبه، وأعني بها: علاقة المثقف بالسلطة، وأثار التحولات الاجتماعية علي المجتمع المصري، وعلاقة الشرق والغرب، فإن إعادة التساؤلات القديمة والإلحاح عليها يبدو في كل مرة وكأنه محاولة لاكتشاف الإجابة من جديد، بل يبدو وكأنه إعادة التساؤل حول الإجابات نفسها.، فالكتابة عند بهاء طاهر هي حفر في العالم، حفر يهدف الى المعرفة وعدم الركون الي المأمول من الإجابات.

وفي روايته الجديدة الصادرة عن دار الهلال "واحة الغروب" يعيد بهاء طاهر التساؤل حول نفس التيمات القديمة. ولكن هذه المرة يستعين ببنية الدراما اليونانية التي تبدأ بحادث يخترق الوسط الساكن للحياة، ثم تسير الأحداث بعدها بسرعة تكشف من اللحظة الأولي أن العالم لم يعد أبدا كما كان، ولن يعود أيضا لما كان عليه، وأن البطل مساق دوما نحو مأساته، فحين ينطلق سهم القدر فلا راد له.

تبدأ الرواية بخبر نقل محمود عبدالظاهر الى واحة سيوة مأمورا جديدا خلفا للمأمور القديم الذي قتل علي يد مجهول معلوم، علي يد أهل سيدة من الأجاويد والزجالة الذين يرفضون دوما دفع الضرائب التي تطالبهم بها السلطات في القاهرة. تلك السلطات التي يعتبرها أهل الواحة سلطات احتلال. وإذا ما عرفنا أن زمن الأحداث في الرواية هو زمن ما بعد تمرد عرابي وسقوط مصر محتلة عل يد الانجليز عرفنا الموقف المشتبك في الرواية، فالانجليز يحتلون مصر التي تحتل الواحة!

يسافر محمود عبد الظاهر زوجته الانجليزية أيرلندية الأصل "كاثرين" الباحثة في الحضارات القديمة ولا سيما الحضارة المصرية، ورغم تخوفات محمود من الرحلة التي لا يأمن الوصول الى نهايتها، فإن كاثرين علي النقيض منه ترحب جدا بالسفر إلي الواحة لعلها تحظي بفرصة دراسة مصر المقدونية في عقرها، حيث توج الاسكندر ملكا وإلها لمصر في معبد آمون في سيوة.

وبالبحث عن تاريخ الإسكندر المفقود في الواحة يستدعي بهاء طاهر زمنا آخر، وهو زمن احتلال أيضا، إلا أنه باستدعائه لايكون زمنا للإحتلال فقط، بل يكون أيضا زمنا للتلاقح بين ثقافتين وحضارتين، غير أن هذا التلاقح يكون موسوما أبدا بفكرة الغزو.

*     *     *

ولأن محمود عبدالظاهر المغزو من الانجليز يذهب للواحة غازيا فإن التوتر يكون علي أشده بينه وبين أهل الواحة ورغم العلاقات التي تبدو طبيعية بينهم فان التوتر دائما ما يكون كالمغمور من جبل الجليد. وهو التوتر الذي تبدو كاثرين غير عابئة به في حين انه يؤرق محمود ليله ونهاره.

ويبدو أن السؤال عن الذات هو السؤال الذي يؤرق الجميع في الواحة، يعيد محمود اكتشاف ذاته كإنسان يعيش في منطقة البين بين، فهو يقف دائما في منتصف الطريق بين الأشياء، يشارك في حماية جيش عرابي ولكنه يصفه بأنه جيش بغاة حين يسقط عرابي، يتحرك بسرعة لإنقاذ الصبي حين يسقط جدار المعبد ولكنه يتوقف في منتصف الطريق حين يشعر بخطر التقدم. يقول محمود "المشكلة هي أنت بالضبط يا حضرة الصاغ، لاينفع في هذه الدنيا أن تكون نصف طيب نصف شرير، نصف وطني ونصف خائن، نصف شجاع ونصف جبان، نصف مؤمن ونصف عاشق، دائما في منتصف شيء ما".

ولعلها هذه المنصفية هي ما توسم معظم الشخصيات، فالشخصيات كلها مبعثرة بين ذوات متعددة، يحلمون بوحدة الذات، كاثرين مشتتة دائما بين كونها انجليزية وبين كونها ايرلندية شهد موطنها مآس كثيرة علي يد الانجليز، وهي تسأل عما عساه أن يكون تأثر الجيش الانجليزي في ايرلندا، هل هو بطل أم مجرم مرعب!

وإذا كان هذا الانقسام بين ذوات متعددة هو ما يفسر الإحساس بالقلق الذي تشعر به شخصيات الرواية، فإن مما يزيد التوتر بين شتات الذات هو مايثقل علي شخصيات الرواية من ذنوب الماضي، فلكل منهم سقطة في الماضي، فلكل منهم سقطة في الماضي تساهم في صياغة التفتت وتمتع تحقق الوحدة. محمود يؤرقه موقفه من نعمة العبدة التي اشتراها له والده من سوق النخاسة والتي رغم مشاعره نحوها فإنه يشيح يده عنها حين يحظر لها خاطر الزواج.. ويظل شبحها يطارده في أحلامه. وكاثرين يؤرقها خطف مايكل من أختها فيونا.

وإذا كانت شخصيات الرواية تظل علي تفتت ذواتها ولا تنجح في صنع الالتئام الذي تحلم به، فإنها علي الأقل تنجح في اكتشاف أسباب هذا التفتت. ولعل التغير الوحيد الذي يطرأ علي الشخصيات هو تغير الوعي، تقول كاثرين "كلانا تغير في هذه الواحة، لكن لماذا لايكون الأمر هو العكس؟ لماذا لايكون كلانا في هذه الواحة قد وجد حقيقته؟"

ولأن هذا التغير في الوعي واكتشاف الحقيقة لايحدثان إلا في نهاية الرواية فإن ذلك يستلزم سقوط ضحايا لهذا التأخير، ولعلي ذلك ما يفسر سقوط "مليكة"، فالفتاة التي كانت تصنع التماثيل في مجتمع الواحة المغلق الذي لايري في التماثيل غير مساخيط يصنعها كفار، والتي كانت لديها جرأة السؤال، والتي حاول مد خيالها بعيدا عن حدود الواحة، التي حاول الاشتباك مع الغرباء محمود وكاثرين كان يجب أن تموت بعد أن خالفت مألوف الواحة، وأفلتت من مسار المعتقد.

ويبدو أن مليكة تشبه "نعمة"، فإن كانت مليكة تصنع تماثيل، فإن نعمة كانت تصنع حكايات تدفئ بهاليل محمود، وان كانت مليكة قد زوجت لكهل، فإن نعمة كانت قد وهبت لسيد (محمود)، وان كانت مليكة قد هربت من زوجها فقد هربت نعمة من سيدها، وان كانت مليكة "في النهاية" قد ماتت، فإن نعمة قد اختفت للأبد.

يقول الشيخ يحيي خال مليكة "لماذا وضعوها وسط الرحى التي تطحن الجميع بالحرب والخصام والنزاع؟ ولماذا الحرب؟ ولماذا كان الشفاء والتعب في الأرض؟" ولعل صوت الشيخ يحيي وهو يطرح هذا السؤال هو صوت بهاء طاهر وهو يسأل عما عساه يكون السبب في كل هذا الدمار الذي يمحق البشر، فكيف يكون الاختلاف أداة الخلاف لاقدسا للتنوع الخلاق؟، ولعل هذا السؤال هو ما يبرر استدعاء صوت الإسكندر الأكبر، حين يكشف عن الفرق بين الحضارتين اليونانية والفرعونية، فلأن كانت الأولي قد بلغت تشرذمها نتيجة الديمقراطية الأثينية فإن الثانية قد بلغت مبلغ الخلود نتيجة النظام المفروض من قمة الهرم، فالملك الإله صاحب السلطتين الدينية والزمنية يقول الاسكندر.. ما فعله اليونان بحريتهم التي يفخرون بها، لم يتوقفوا عن الانقسام والاقتتال حتى كادت مدنهم تبيد بعضها بعضا "ويقول "هاهم المصريون" دامت دولتهم آلاف السنين مستقرة بسطوة الأرباب والفراعنة والكهنة".

ويقول "أيهما الأصلح لحياة الإنسان علي الأرض¬ البهجة أو الخوف؟".. ويقول""أملت في معجزة علي يد آمون تجعل الاثنين واحدا، اسكندر النغم واسكندر الدم".

*     *     *

حتى الاسكندر يحلم مثله مثل شخصيات الرواية بالوحدة حتى ولو كانت وحدة متنوعات، ولعله السؤال الذي تطرحه الرواية، لماذا لايفهم البشر بعضهم بعضا؟ رغم كل ما اخترعه البشر من طرق للاتصال. ولعله الحب هو ما يجيب به بهاء طاهر كوسيلة أخيرة للالتقاء بين البشر، فرغم أن كاثرين تحاول تعلم لغة الواحة فإنها لاتنجح في مد أي جسر بينها وبين أي من أهل الواحة، في الوقت الذي تتفاهم فيه فيونا أختها مع أهل الواحة بل وتكون صداقات معهم أيضا. ولذا فإن فيونا تستحق عن جدارة لقب "القديسة" رغم أنها لاتحب هذا اللقب.

وأخيرا إذا كان التفتت هو القاسم المشترك بين الجميع في الرواية، وإذا كان الاحتراب هو الفعل القدري بين الجميع في الرواية، الانجليز والمصريون، المصريون وأهل الواحة، الشرقيون والمغربيون في الواحة، محمود وكاثرين وصابر ويحيي.. إلخ، فإن الشخصية الوحيدة التي تتسق تماما مع ذاتها، ولاتشعر بهذا الاغتراب والتشرذم تكون هي فيونا القديسة، تلك التي "تحكي بهدوء وبساطة كأن هذا القصر الأيرلندي مكان مألوف لو فتحنا الباب فسنراه وسط الريف الايرلندي والمروج الخضراء".

رواية بهاء طاهر الجديدة "واحة الغروب" رواية تنضاف الى أدب بهاء طاهر الرائع. وان كانت أكثر روايات طاهر ميلا للشجن ربما بتأثير الإحساس بأن الأشياء تحدث علي نحو قدري محتوم من جهة، ومن جهة ثانية بسبب تأثير الأسئلة الوجودية التي لاتكف شخصيات الرواية عن طرحها. وهما مؤثران ليسا جديدين علي أدب بهاء طاهر الذي لايفقد روعته أبدا.