ينطلق المؤرخ المصري من مفصل امتداد الغرب الاستعماري نحو الشرق، وانفتاح هذا الأخير نحو الغرب. يبين أثر التمحور حول ثقافة المسيطر، ويستعيد الموقف الواعي لأستاذ الأدب المقارن المصري، منذ سبعينات القرن الماضي، للحفاظ على شخصية ثقافية تمتلك مسافتها النقدية، ولا تنجر لعمى التماهي.

في التحرر من المركزية الأوربية

عاصم الدسوقي

منذ اتصل المثقفون المصريون بالغرب الأوربي في إطار الحملة الفرنسية على مصر (1798 ـ 1801)، ثم بالبعثات الدراسيّة التي بدأها محمد علي باشا والي مصر، والتي كان أشهرها بعثة 1826 التي رافقها الشيخ رفاعة الطهطاوي إماماً للمبعوثين، تبلور منهج النقل عن الغرب في كل مجالات الحياة والفكر، خصوصاً وأن هذا الغرب قبل أن يغزو بلادنا كان قد مرّ بالثورة الصناعيّة في منتصف القرن الثامن عشر، والتي سبقتها ثورة فكرية أنتجت عدة نظريات علمية ومفاهيم في التطور الاقتصادي الاجتماعي والسياسي، اهتدى بها الباحثون فيما بعد لفهم تطور المجتمعات بل وصناعة هذا التطور، وهو ما صار يعرف بالمركزيّة الأوربّية Eurocentrism. أي أن يتمحور العالم حول الغرب الأوربي ويأخذ عنه كل شيء.

وفي هذا السياق حدث تعطيل لقدرات الشعوب، التي خضعت للاستعمار بدرجة أو بأخرى، عن الاختراع والابتكار في سائر المجالات، فاستسهلوا أخذ "معلبات" الغرب الفكرية ولسان حالهم يقول إن العلم لا وطن له، وإنه لا ضرر من أخذ تجارب الغرب وابداعاته طالما أنها أثبتت نجاحها في مجتمعات هذا الغرب. ومع أن الأخذ عن الغرب جائز في العلوم التطبيقية مثل الطبيعة والكيمياء والطب والهندسة... الخ نظراً لأن مادة البحث واحدة ومتماثلة، فإنه لا يجوز في فروع العلوم الاجتماعية والإنسانيّة، لأن المجتمعات البشرية في تجاربها ليست متماثلة. ففي كل تجربة هناك الفريد والخاص والمتميز، فمصر مثلاً لم تشهد الاقطاع بالمعنى الأوربي أو البورجوازية أو الليبرالية، ومع ذلك تجد من يستخدم هذه المصطلحات التي نشأت في سياق التاريخ الأوربي بقدر كبير من التعسف.

ومنذ سبعينيات القرن العشرين حاول بعض الباحثين المصريين البحث عن خصائص تطور المجتمع المصري، بعيداً عن سيطرة المركزيّة الأوربيّة، وأن يصطنعوا مصطلحات وينحتوا مفاهيم من طبيعة المجتمع المصري وخصائصه، فوقف ضدهم الذين صاغوا أفكارهم في إطار تلك المركزية. وفي هذا الخصوص تأتي جهود الدكتور مجدي يوسف في نقد المركزية الأوربيّة عبر عدة دراسات له، منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين حين كان يعمل أستاذاً للأدب العربي المعاصر وللأدب المقارن في جامعة كولونيا بألمانيا، كتبها بالألمانية والفرنسية والإنجليزية وترجمت إلى البرتغالية والإيطالية والإيرلندية. لكن المتخصصين في مصر لم يهتموا بكتاباته لأنهم اعتبروها انتقاداً لتبعيتهم للمركزية الأوربية، على حين أن دوائر الغرب اهتمت بأفكاره بشكل ملحوظ، وأفاد بعضهم من انتقاداته ووظفوها جيداً. ومن بين هذه الموضوعات التي نشرت له في ست لغات أوربية على سبيل المثال: الإسهام العربي المعاصر في الأدب العام والمقارن، وتحولات المجتمع المصري، واستيعاب المسرح البرختي في مصر خلال الستينات، وتراث قصص الأطفال العرب في عصر هيمنة ثقافة ديزني، ونحو تفكيك معايير المركزية الغربية في الحكم على الآثار الأدبية غير الغربية، فضلاً عن دراسته التي كشف فيها انتقال الرؤية المحافظة للعالم عند توماس مان عبر تقنية رواية الأجيال إلى ثلاثية نجيب محفوظ، والتي نشرت بالانجليزية في الفصل الأول من أعمال المؤتمر العاشر للجمعية الدولية للأدب المقارن (دار نشر جارلاند، نيويورك عام 1985). ولقد لفتت هذه الدراسة نظر إسبمارك شيل عضو لجنة جائزة نوبل، حيث قال في كتابه "معايير جائزة نوبل في الأدب (1991)" إن النقد الذي وجهه مجدي يوسف إلى توماس مان ونجيب محفوظ، من خلال كشفه عن الدور الذي تلعبه تقنية الرواية في تشييد رؤيتها المتخيلة للعالم، يكاد أن يتطابق مع المعايير التي تنص عليها "شروط" منح الجائزة.

وأكثر من هذا فإن جامعة بون في ألمانيا قررت كتابه "معارك نقدية" على طلاب الدراسات العليا في مقرر "مناهج البحث"، على أن يقوموا بترجمته إلى الألمانية لإشراك طلبة الأقسام الأخرى في مناقشة الأطروحات التي يتضمنها الكتاب، التي استهدفت ترقية الوعي المنهجي لدى القارئ. وها هو القارئ الألماني ينتفع بثمرة ما قدم أصلاً للقارئ العربي بينما يهمش الكتاب وصاحبه في بلده، بدلاً من أن يكون مثار نقاش في سلسلة من الندوات المتخصصة. صحيح أن بعض قصور الثقافة في القاهرة والإسكندرية عقدت ندوات لمناقشة أفكار مجدي يوسف تبين منها تعطش شباب الباحثين إلى أداة من هذا النوع، لتشحذ قدراتهم على التمحيص المنهجي الواعي، لما يطرح عليهم من أفكار، لكن انتقال هذه المناقشة إلى كافة قصور الثقافة من شأنه تعميم الفائدة.

ولم يكن تقرير كتاب "معارك نقدية" على طلاب جامعة بون المرة الأولى التي تستفيد فيها هيئة أكاديمية غربية بدراسات مجدي يوسف، فقد سبق أن استوحت الدكتورة فرانكا سينوبولي بجامعة لاسابينزا في روما دراسة مجدي يوسف "خرافة الأدب الأوربي" في تحرير كتابين بالإيطالية قررا على طلبة الأدب المقارن بتلك الجامعة، وهما: "الأدب الأوربي من منظور الآخر" (صدر ترجمته عن المجلس القومي للترجمة بالقاهرة في 2007)، وفي هذا الكتاب يشير آرماندو نيشي في دراسته "الأدب العالمي وأدب العوالم" (ص 149) أن فرانكا سينوبولي "استوحت" نقد النظريات الساعية لتكريس ما ندعوه "الأدب الأوربي" من تفنيد مجدي يوسف للأسس الفلسفية التي قامت عليها تلك النظريات. أما كتاب فرانكا الثاني "خرافة الأدب الأوربي"، روما 1999 فإنه نفس عنوان بحث لمجدي يوسف بالفرنسية كان قد قدمه لمؤتمر "الأدب المقارن في العالم العربي" وترجم إلى الإيطالية ونشر في "كراسات جايا للأدب المقارن" في روما 1977 فضلاً عن أن المحررة تشير في مقدمة الكتاب إلى أن فكرته الأساسيّة مستخلصة من "محاضرات مجدي يوسف في جامعة القاهرة التي يعمل أستاذاً للأدب المقارن بها". ومن هنا يمتاز مجدي يوسف عن إدوارد سعيد الذي كان برغم تمرده على المركزية الغربية وإسهاماته المهمة في هذا المجال، إلا أنه كان ضحية لتلك النظريات الداعية للتمحور حول أدب وثقافة "أوربية".

وحقيقة الأمر أن مجدي يوسف منذ عرفته في نهاية سبعينيات القرن الماضي وهو يكرس نفسه لأمرين يمكن أن نقول إنهما مشروعه الفكري. أولهما: النهوض بالمنهجية العامة في قراءة الواقع من خلال التمحيص الفلسفي الواعي للأفكار التي تتناوله للوقوف في وجه التحديات الأيديولوجية التي تدعو إلى المحاكاة المطلقة لكل ما هو غربي. وثانيهما العمل على دحض الأساطير التي يروج لها في التنظيرات الغربية مثل القول بأن المسرح مهده إغريقي، أو أن "الأدب المقارن" تأسس في الغرب وحده، وأن اقتفاء أثر تقنيات أدباء الغرب الأوربي هو الطريق الأمثل لصنع الرواية أو المسرحية العربية. وفي هذا الخصوص أثبت مجدي يوسف في دراسته التي صدرت بالألمانية عام 1975، وظلت موضع مناقشة في الدوريات العلمية الغربية حتى عام 1990 في كل من ألمانيا، وفرنسا، وكندا، والولايات المتحدة، أن أفضل الأعمال التي أفادت من مسرح برخت لم تصدر عن هموم المجتمع الألماني، وإنما تلك التي صدرت عن هموم الواقع الاجتماعي المصري كما تمثلت في مسرحية "بغل البلدية" ليسري الجندي التي حصلت على جائزة مسرح الأقاليم في 1971، وأن أضعف حلقات التأثر ببرخت في مصر كانت تلك المسرحيات التي سعت لمحاكاة الأصل الألماني تأليفاً وإخراجاً.

ولقد ناضل مجدي يوسف منذ ذهب إلى جامعة كولونيا بألمانيا من أجل أن يصبح الأدب العربي الحديث موضع دراسة هناك، إلى أن تمت دعوته في عام 1965 لوضع مقرر للأدب العربي الحديث والمعاصر تولى تدريسه إلى جانب الأدب المقارن عام 1968 وفي عام 1971 انتقل لتدريسهما في جامعة الرور ـ  بوخوم، واشترك في تحرير مجلة "فكر وفن" مع المستعربة "أنيماري شيمل". وفي عام 1979 عاد إلى مصر ليعمل أستاذاً زائراً لعلم الاجتماع المقارن لطلاب الدراسات العليا بآداب طنطا، وللنقد المقارن بالمعهد العالي للنقد الفني بأكاديمية الفنون عام (1983 ـ 1984)، ومناهج البحث لطلاب الدراسات العليا في قسم الصحافة بكلية الإعلام1989 ( ـ 1991)، ولطلاب دبلومي الأدب المقارن والأدب المسرحي بكلية الآداب جامعة القاهرة طوال التسعينيات. وفي هذا الخصوص قام بتأسيس "الرابطة الدولية لدراسات التداخل الحضاري" بجامعة بريمن في 1981 التي أصبحت لها صفة استشارية في المجلس الاجتماعي الاقتصادي بالأمم المتحدة، وسوف تعقد مؤتمرها القادم في مارس2009  في مقر هيئة اليونسكو بباريس، وموضوعه "المساهمة العربية المعاصرة في الثقافة العالمية" الذي يستهدف كسر المركزية الغربية، والحث على الاستقلال الفكري والإبداع البحثي في البلاد العربية.

وبعد، فمن حق مجدي يوسف علينا أن نكرمه التكريم اللائق بمناقشة أفكاره في تفكيك المركزية الأوربية، والعمل على تحرير الذهن العربي منها، ووضع المفاهيم التي تتفق مع تطور مجتمعنا، أم ترى "أن زمار الحي لا يطرب وأن الشيخ البعيد سره باتع دوماً".