رسالة فرنسا: حصاد مهرجان «كان» 62 (2 من 2)

تحولات في الدورة 62 بسحر الضوء الذي يشجينا

صلاح هاشم

 

تري ماذا حقق مهرجان "كان" السينمائي الدولي في دورته 62 المنصرمة، وكيف نستطيع ان نحدد من خلالها تيارات واتجاهات السينما في العالم من واقع المهرجان الاشهر والاضخم في العالم، والذي يعتبر الحدث الاعلامي الدولي الثالث في العالم بعد "الدورة الاوليمبية" و "نهائيات كأس العالم في كرة القدم" وأعظم "استعراض" سينمائي علي وجه البسيطة.. عاد الينا "كان" هذه المرة، ليحط بجوار البحر مثل سفينة عملاقة، كما في فيلم "اماركورد" فيللينى،عاد بعطاء سينمائي جد وفيرة، فحمل الينا عبر مسابقته الرسمية اكثر من عشرين فيلما، من ضمن قائمة الاختيار الرسمي، التي اشتملت علي اكثر من خمسين فيلما روائيا من أصل أكثر من مائة فيلم جديد، عرضها المهرجان في المسابقة وفي التظاهرات الموازية لها مثل "نظرة خاصة" و "كلاسيكيات كان" وغيرها. وكان المهرجان خصص قسما لعرض الافلام التي تم ترميمها من قبل مؤسسة السينما العالمية التي يترأسها المخرج السينمائي الامريكي الكبيرمارتين سكورسيزي، ومن ضمنها فيلم "المومياء" للمخرج المصري العملاق شادي عبد السلام، وفيلم "بييرو المجنون" للمخرج والمفكر السينمائي جان لوك جودار. 

برجمان في «كان»
كما عرض المهرجان ايضا في تظاهرة خاصة فيلما جميلا عن حياة المخرج السويدي الكبير انجمار برجمان صاحب "التوت البري" و "برسونا" و "صرخات وهمسات" قدم صورة لما كان يجري وراء الكواليس وهو يخرج افلامه، وعلاقته بالممثلين وطاقم العمل، في محاولة لكشف "اسرار" بصمة المخرج السويدي في كل افلامه. تللك البصمة التي تنطبع مثل "الختم علي" نظرة وطريقة وأسلوب برجمان، في تأمل معاني الحياة من خلال الملاحم السينمائية العظيمة التي كان يصنعها لنا في افلامه.

تللك "النظرة" الحياتية الفلسفية "التي تجعل أفلامه مميزة، وتستطيع ان تلتقط فيلما لبرجمان بسنارة من بين عشرات الافلام، وتقول ان برجمان صانعه. كما تستطيع ذات الشييء مع "حكواتية" السينما العظام ـ كتابها كما نحب ان نسميهم وروائييها"، مثل الفرنسي روبير بريسون، واليوناني ثيوانجلو بولوس، والايطالي روبرتو روسوليني، والمصري صلاح ابو سيف وغيرهم. بل لقد تفوقت اعمالهم السينمائية احيانا، علي الروايات التي اقتبست منها، وصار في مقدورنا الآن ان نتحدث مثلا عن افلام برجمان او الامريكي فرنسيس فورد كوبولا، كما نتحدث عن اعمال الروائي الكولومبي جارثيا ماركيز، او الروائي الروسي تولستوي، او الروائي اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، وذلك من خلال "سينما المؤلف"، اي السينما التي تحمل وجهة نظر المخرج صانع الفيلم فقط،، ومن ان يتدخل الانتاج في اية مرحلة من مراحل صنع الفيلم، ولو بشعرة.اذ تكشف افلام سينما المؤلف عن "رؤية" او "نظرة" المخرج للعالم، لكي تضع السينما في قلب "العالم"، وتوظفها كـ "اداة تفكير"، في مشاكل ومتناقضات مجتمعاتنا الانسانية، وهي تمتعنا وتثقفنا في آن. 

سحر الضوء في السينما الذي يشجينا
ومن هنا، تتأكد ونفهم القيمة الكبري لهذا المهرجان العرمرم، ودورته الجديدة 62، في الكشف عن محاولات السينما، في ان تكون فنا أصيلا، معتمدا ومحترما، وليس مجرد اداة للتسلية وللترفيه. تكون مثل "رواية"، من الروايات الادبية الروائع التي صنعتنا مثل "الارض" لعبد الرحمن الشرقاوي و "الايام" لطه حسين، و "اولاد حارتنا" لنجيب محفوظ. والفرق هنا ان الرواية تكتب بالحبر، في حين ان السينما "كيف كيف" ـ وهي كلمة عربية التقطها الفرنسيون من أفواه المغاربة، وضموها الي قاموس لغة الحياة اليومية بالبلدي، وصارت تعني "ذات الشييء بالمثل". فالسينما هي "كتابة" ايضا، لكن كتابة "مغايرة"، كتابة من نوع آخر، لكن ليس بالحبر، كتابة أجل، لكن بـ "الضوء"، ولذلك فان شرط عرضها في قاعة مظلمة، هو وحده الذي يسحرنا...

يريد مهرجان «كان» في دورته 62 وكما في كل دورة جديدة، ونحن نتابع اعماله منذ عام 1983 أن يعيد في كل مرة الاعتبار الي السينما "الفن"، خارج دوائر الحسابات التجارية، وهيمنة السينما الهوليوودية علي أسواق الفيلم في العالم، وفرضها لـ "نوع" و "نمط" واحد ـ استاندر ـ يسير علي وتيرة انتاج واحدة بالجملة. يريد "كان" ان يعلي من "قيمة" السينما الفن عبر محاولات سينما المؤلف، لكي يكبر معها، ويعلو بها خطوة، علي سكة التقدم والتطور والرقي، وكأنه يريد من كل تلك "المحاولات السينمائية الجديدة" التي يعرضها، ويكرس لها ساحته، أن يصعد بالسينما الي السماء، حيث تكون النجوم المتألقة الزاهرة، ولكي يحتفل بها هناك في "الجنة". وهو "معني" تللك المقدمة الفيلمية، التي تعرض قبل عرض الافلام في مهرجان "كان" وتسحرنا ونحن نتهيأ لمشاهدة الفيلم، وكأنها نوع من "التدليك" الذهني البصري، فتأخذنا لنصعد مع موسيقي الفرنسي سان صان سلما الي النجوم، ثم اذا بها فجأة نطير، نطير مثل العصافير الي ما بعد السلالم، لكي نلحق بسعفة "كان" الذهبية المحلقة في السماء، كما لو ان مهرجان "كان" وكما يفعل في كل دورة، يريد ان يقول لنا ان السينما التي تجعلنا نحلم، خليقة بأن يحتفل باعمالها من "سينما المؤلف" التي تسير علي سكة تطوير السينما الفن من خلال الابتكار والاكتشاف والدهشة.. في تلك سموات صافية، وجميلة، ومرصعة بالنجوم.. فتجعل "المقدمة" البعض في قاعة عرض قصر المهرجان، التي تتسع لاكثر من الفي مشاهد مثل البواخر الكبري العملاقة، وتضج بالتصفيق والفرح، يروح يلتقط لها الصور، لتذكره بسحر ذلك المهرجان الذي يصعد بنا الي جنة عدن السينما في السماء، ويجعلنا نتأمل في نجومها. 

«كان» 62. بانوراما لعمليات تحول "ميتامورفوز"
ليس مهرجان «كان» مجرد "شاشة". ابدا. مهرجان «كان» هو احتفال بـ "فن" السينما واحتفال بـ "بسينما المؤلف" وهو يوظف جانبه "الاستعراضي" بالزفة والهيصة والزمبليطة، وحفلات النجوم الساهرة وسهراتهم الصاخبة لكي يتقدم ـ علي الطرف الآخر ـ بسينما المؤلف خطوة، علي سكة تطوير السينما الفن. بكل اختراعات وابتكارات الفن المدهشة وهو بالضبط ما فعله المخرج الايطالي العملاق فيلليني في فيلمه "الحياة الحلوة" ـ لا دولشي فيتا ـ باستعراضه لحياة الطبقة الارستقراطية الايطالية الحلوة اللذيذة، لكي يقدم لنا علي الطرف الآخر، مأساة صحفي يجد نفسه يغرق، ويبتلعه اليم والعدم، بعد ان انتحر صديقه، وهجرته صديقته، واظلمت الدنيا في وجهه، وصارت "العبث" بعينه، وغابت شمس كل القيم النبيلة الاصيلة في حياته.وهو يقينا من أروع أفلام فيلليني التي تؤرخ لتحولات المجتمع الايطالي. وقد كان "كان" شاهدا عبر مرآة الافلام علي التحولات التي شهدتها مجتمعاتنا علي مستوي الواقع وعلي مستوي السينما ذاته اي علي مستوي اختراع "النظرة" بابتكارات الفن المدهشة.

وقد ظهر ذلك المنحي من خلال أفلام المسابقة الرسمية، ضمن قائمة الاختيار الرسمي، التي حملت زخما سينمائيا مهما، وصورت في معظمها "حالات تحول"، في عالم يسير نحو "فوضي" CHAOS الدمار الشامل، ويسطر عليه العنف بشكل دموي مروع. حتي اننا يمكن ان نعتبر ان معظم افلام المسابقة الرسمية قدمت "بانوراما لحالات "تحول" ميتامورفوز" ـ في قلب تناقضات مجتمعاتنا الانسانية التي تعيش الآن اخطر مرحلة في تاريخ البشرية. مرحلة الافول والسقوط في العدم، فقد استهلكنا علي ما يبدو كل شييء، ولم يعد متبقيا اي شييء للاجيال القادمة، وصارت الكوارث ـ كوارث البيئة وانفلونزا الخنازير والمجاعات والازمات المالية والحروب ـ تطاردنا في كل مكان، حتي لم يعد مع تغير الطقس بسبب ثقوب الاوزون اي مكان آمن في العالم، وليس هناك اي شييء ينتظرنا عند نهاية الافق سوي صورة المستقبل القاتمة..

وقد عبرت السينما في مهرجان "كان" من خلال افلام المسابقة ـ أكثر من عشرين فيلما ـ ومن خلال عمليات التحول METAMORPHOSE المذكورة في تللك الافلام، عن تشاؤمها وخوفها من ان تكون هذه هي نهاية الطريق، ونكاد نكون بعد ان فقنا "البوصلة" وصلنا الي "المحطة النهائية" أي القيامة الآن. وقرعت نواقيس الخطر. وتظهر عملية "التحول" الميتامورفوز هذه التي تمر بها الشخصيات في معظم افلام المسابقة، كما لاحظنا.

قسيس يتحول الي مصاص دماء في «عطش» لبارك شان وتظهر في الفيلم الكوري "عطش" لبارك شان ووك الذي شارك في المسابقة، اذ يتحول قسيس تدريجيا في الفيلم الي مصاص دماء، ويذكرنا الفيلم بفيلم "طارد الارواح" للامريكي وليام فريدكين، وكيف تحولت طفلة وديعة في الفيلم الي شيطان رجيم، واعتبر "عطش" من اجمل الافلام التي شاهدتها في المهرجان، وعلي الرغم من تحفظاتنا علي طول الفيلم، الا انك لن تحس اثناء مشاهدته بأي ملل، وقد اعجبت بمحاولته في تطوير وتجديد "النوع" نوع افلام دراكيولا ومصاصي الدماء، التي تسمح في ورشة "النوع" بالاختراع والابتكار والتجديد، وتجعل الفيلم، يلقي بظلاله علي "الحاضر" المعاصر ومشكلاته.

كما اعجبت ايضا بعملية "التحول" التي تمر بها شخصيات فيلم "INGLOURIOUS BASTERDS للامريكي كوينتين ترانتينو، فالبطلة الطفلة التي ظهرت في اول الفيلم في بيت في الريف الفرنسي، اثناء الاحتلال النازي لفرنسا، والتي شهدت عملية ذبح افراد اسرتها اليهودية كاملة ـ وكان احد المزارعين الفرنسيين خبأهم، وحضرت فرقة من العسكر النازي لتفتيش البيت فعثرت عليهم. تتحول هذه الطفلة التي استطاعت الهرب الي صاحبة قاعة عرض سينمائي في باريس وتقوم بالانتقام منهم والثأر لاسرتها. بل ان ترانتينو في الواقع كرس فيلمه كله (من نوع الوسترن علي خلفية نوع افلام الحرب) للانتقام من هلاك اليهود علي يد النازية معلنا عن سقوط "الرايخ الثالث" علي يد السينما، فالسينما وحدها هي التي تستطيع ان تنتقم من النازية حتي لو اضطرت الي تغيير الوقائع التاريخية، ولذلك يصير الفيلم الي مذبحة للنازي في آخر مشهد ويموت فيها الزعيم النازي ادولف هتلر. وينتقم تارنتينو هكذامن الرايخ الثالث ويفجره ويدمرة بقوة قنبلة السينما، وقد ذكرني هنا بفيلم "يد الهية" للمخرج الفلسطيني ايليا سليمان الذي يفجر فيه ايليا دبابة بنواة مشمش، الامر الذي لا يمكن ان يتحقق إلا.. في السينما..

والجميل ان الفيلم الذي يغير فيه ترانتينو من الوقائع التاريخية، ويحكي ايضا عن فرقة من الجنود اليهود الامريكان متخصصة في الانتقام لليهود، وتروح تتعقب قادة النازي العسكريين وتذبحهم، ثم تقوم كما كان يفعل الهنود الحمر في افلام الوسترن التي يظهرون فيها كمتوحشين بقطع فروة رأس القائد العسكري النازي، والاحتفاظ بها، كما يحتفظ مصارع الثيران باذن الثور بعد ذبحه، ويتفاخر بانجازه. الجميل في فيلم ترانتينو انه يتحول ايضا او يجعل فن السينما يمر ايضا بعملية "تحول" اذا يستخدم ترانتينو ساحة الفيلم لممارسة كل انواع واشكال التجريب، وينهل فيه من اضافات افلام الوسترن والكونج فو وافلام التهكم والفكاهة والسخرية وافلام الترسو من الدرجة الثانية الرخيصة بحواراتها واجوائها، بل انه يكاد يجعل من كل مشهد في الفيلم فيلما تجريببيا داخل الفيلم، ولذلك بدت لنا بعض المشاهد طويلة اكثر من اللازم، من ذلك المشهد الحواري في الحانة الفرنسية، الذي يصور فيه ترانتينو قعدة أو جلسة كلام يستغرق عرضها اكثر من 25 دقيقة في الفيلم، لرغبته ربما في ان تكون هذه محاولة لتقديم "الكوميديا ديلارتي" في السينما.  

ويحتشد فيلم ترانتينو كالعادة في كل افلامه، لأنه عاشق مهووس بالسينما، يحتشد بالاشارات والاحالات الي الافلام التي شاهدها واعجب بها وتأثر بها ترانتينو في حياته، بل نكاد نقول ان كل فيلم صنعه ترانتينو هوعلي الطرف الآخر من موضوعه او ثيمته او حكايته، يمكن اعتباره بمثابة "تحية" أي TRIBUTE الى "نوع" معين من الانواع السينمائية. ومن هذا المنظور يمكن اعتبار فيلمه هذا بمثابة تحية الي افلام الحرب، فهو يذكرك بافضل افلام النوع مثل فيلم "مدافع نافارون" وفيلم "دستة اشرار"، وهو ايضا تحية الي افلام الوسترن، ومنذ اول مشهد في الفيلم، فالمنظر الطبيعي في الريف في فيلم ترانتينو، يذكرك علي الفور بالمنظر الطبيعي من براري وجبال ووديان في افلام الغرب. كما ان ترانتينو يستخدم شريط صوت موسيقي يجعلك تتذكر في التو افلام الوسترن الاسباجيتي الايطالية، التي كان يصنعها المخرج الايطالي العملاق سرجيو ليوني، وهكذا يصالح ترانتينو المبتكر المخترع السينمائي المدهش في فيلمه، بين افلام الوسترن الاسباجيتي وسينما الحرب، وينحني وهو يطور من احداث الفيلم الي الامام، باتجاه الذروة، ينحني تحية لكل الاختراعات والابتكارات السينمائية المثيرة، في كل افلام النوع، FILMS DE GENRE ويضرب لاصحابها باشاراته الخبيثة الجميلة تعظيم سلام. 


تارانتينو مع أبطال فيلمه

وعربي يتحول من سجين امي الي "نبي" في فيلم أوديار 

كما تظهر ايضا هذه التحولات في فيلم "النبي" الفرنسي لجاك أوديار، الذي يتحول فيه سجين فرنسي من اصل عربي من انسان أمي ساذج، الي قاتل ونبي، وزعيما لعصابة تستقبله عند خروجه من السجن بالافراح والزغاريد، بعد ان يكون "ولد من جديد" في السجن. والفيلم كله هو عبارة عن تصوير ومراقبة ومتابعة دقيقة لعملية "التحول" المذهلة المثيرة المرعبة التي يمر بها، وكان يستحق الحصول علي جائزة في التمثيل والتصوير والاخراج والمونتاج لانه يجعلنا ومنذ اول لحظة نغطس في سحر الفيلم، ونتابع تفاصيل تطور احداثه ونحن مشدوين الي مقاعدنا، وكأننا نشاهد فيلما بوليسيا من افلام هيتشكوك ملك الرعب في السينما. وقد اعتبرناه اقوي افلام المهرجان قاطبة ورشحناه للحصول علي سعفة "كان" الذهبية (انظر مقالنا عن المهرجان في رسالة باريس في باب "رسائل وتقارير" في «الكلمة» عدد شهر يونيو)..

فيلم "ضد المسيح" يحكي أيضا عن عملية "تحول" تمر بها شابة تلعب دورها في الفيلم الممثلة شارلوت جانسبورغ، تفقد طفلها الذي يقفز من نافذة الدار وهي تمارس الحب مع زوجها ويسقط من علي ارتفاع شاهق ويموت، فتحزن لموته حزنا مروعا، وتدريجيا تتحول في الفيلم الي مصااصة دماء كافرة يحركها الشيطان ويتلبسها، وعلي الزوج في نهاية الفيلم ان يخلص الناس منها ومن شرها حتي يصعدوا علي شكل جماعات في نهاية الفيلم وهم يتسلقون التلال لكي يحييونه ويشكرونه بعدا صار "المخلص" مثل المسيح الذي حارب الشياطين والشر وكان صاحب معجزات مثل صاحبنا في الفيلم. وامتلأْ الفيلم الذي اشعلها مخرجه حربا علي "الجنس الثاني اللطيف المخيف الناعم" واعتبر ان كل بناته من السحرة ولابد من حرقهن كما كان يحدث في العصور الوسطي، امتلأ بصور العنف الدموية المذهلة مثال ذلك: يظهر في الفيلم ثعلب مخيف قبيح منهوش لحمه، ليصرخ فجأة في وجهنا بصوت بشري مثل البنت التي ركبها الشيطان وصارت تتحدث بلسانه في فيلم "طارد الارواح" يصرخ ان العالم تتحكم فيه الفوضي.. وفي مشهد آخر تقوم الزوجة بعملية استمناء لقضيب زوجها المنتصب ثم اذا به حين يقذف دما، ويتناثر الدم علي الشاشة، تركب علي القضيب. وتريد زوجها ان ينكحها في كل وقت ولا تشبع ابدا. 

«حرب الجنس» عند لارس فون تراير
ونري عملية جماع ونكاح ملتهب في اول لقطة في الفيلم، تستغرق اكثر من 10 دقائق بحركة الكاميرا البطيئة جدا جدا، ابطأ من ايقاع البطء العادي المعهود في اللقطة، وينقل مخرج الفيلم الدنمركي لارس فون تراير علي لقطة للطفل الذي يستيقظ في ذات الوقت، ويشاهد عملية النكاح، بل ان امه تلحظه بطرف عينيها وهو يستدير، ويتجه الي النافذة ويسقط منها الي الشارع. لقد كانت الام تعرف اذن وياللرعب انه سيسقط وسيموت، لكنها لم تتحرك، وانشغلت فقط بشهوتها التي لا تشبع ابدا. ولذلك حق عقابها. اما الزوج، فهو يا عيني محلل نفساني غلبان، ولا يستطيع ومهما بلغ طول قضيبه وفعل، ان يشبع شهوتها. اي ان لارس مخرج الفيلم عنده "عقدة" من النسوان، ويخاف مثل بعض الرجال المعقدين منهن، وقد اراد بعد ان اصابته حالة اكتئاب وانهيار عصبي، ظل يبكي معها في الفراش طيلة شهور. اراد المسكين ان يعالج نفسه بصنع هذا الفيلم، حتي يشفي ويبرأ من عقدته، لكن السؤال هنا ماهو ذنبنا لكي يقصفنا بكل ذلك العنف الدموي النسائي علي الشاشة، وتجسده شارلوت بتمثيلها القوي، حتي تكاد من فرط الاستغراق في تمثيل الدور، تنسي في الدور نفسها، وتتحول بالفعل في الفيلم الي سفاح ووحش حقيقي، وساحرة من ساحرات العصور الوسطي، ومصاصة دماء تستحق لوحشيتها الحرق.

فيلم "ضد المسيح"، افضل عليها اسم "المسيح الدجال"، الذي يتجسد في صورة "المرأة" كما يتمثلها لارس، وكان له في كل افلامه مشاكل مع كل النساء من الممثلات اللواتي لعبن ادور البطولة في أفلامه، مثل الفرنسية كاترين دينوف والايسلندية المغنية بورك، هو فيلم "ترف" بين افلام المخرج الدانمركي الرائع المريض بمرض "جنون العظمة" وعادة ما يقدم نفسه كأحد أعظم 20 مخرج في العالم، وهو فيلم "ترف" كما احب ان اسمي هذا النوع من الافلام، لأنه لا يحمل قضية او يعكس هما، علي العكس من كل افلامه الرائعة مثل فيلم "تكسير الامواج" مثلا. قضية الفيلم ان كان له قضية، هي تصوير والكشف عن "عقدة" مخرج من النسوان، وكان لابد ان يصنع لكي يحل لارس مشكلته هو معهن، ويمرمط بهن الارض، من خلال فيلم ينتمي الي نوع "افلام الرعب وأمنا الغولة GORE" ومصاصي الدماء والجن والعفاريت. فيلم بتصريحات غريبة مثال ذلك ان الفوضي صارت تتحكم في العالم. والله؟ طيب ما احنا عارفين يا صاحبي وغارقين فيها لشوشتنا؟.

ويتبقي السؤال: تري لو كانت اتيحت لنا الفرصة لعمل فيلم للاساءة الي المرأة واعلان "حرب الجنس" SEX WAR كما فعل لارس فون تراير، كنا عملناه وصنعناه؟. كلا. تأتي الاجابة علي السؤال المطروح بعد برهة تفكير، علي الرغم من المحاولة الفنية الجديرة بالتأمل والاعجاب في الفيلم وعناصره الفنية من تكوين وتصوير واداء للمثلين، وادارة وتحريك لهم، لكنها وحدها لاتكفي لعمل فيلم. وعندما اقول جديرة بالتأمل، أعني ان من حق أي انسان أن يصنع الفيلم الذي يريد، ولذلك يستحق فيلم "ضد المسيح" المشاهدة، حتي لو كان يكفر بكل تللك الفضائل التي يفاخر بها الانسان.