في نصه النقدي يستبين الفواز شرك الزمن السردي لعراق التاريخ والواقع، ويتلمس قيامة الحدث الروائي من حطام الهامش، وهو يحدق في قارئ مفترض، بينما يمدّ نصله الفني يكفن العين وهي تطالع مصائر الشخوص وتراكب هول المسرود في البلاد السعيدة.

السرد الذي يشبه التاريخ كثيراً

شاكر الأنباري في رواية «بلاد سعيدة»

علي حسن الفواز

هل يذهب الروائي بالضرورة إلى الوثائق أو السير ليصطنع عبرها وسائط تقوم على قبول سردية التاريخ مثلما تقوم على قبول تأويل سردية الخيال؟ وهل يملك الروائي من خلال تخيلاته ممارسات سردية يمكن أن يتداخل فيها الزمن والهوية مع الوقائع؟ وهل يمكنه أيضاً أن يرهن هذه السرديات لـ "أقمطة حكائيّة" تفرض خطابها الروائي على اصطناع التخيلات التي تبدو وكأنها تشبه التاريخ كثيراً؟ وهل يمكن للوقائع ذاتها أن تكون هي المصادر الباثة والمولدة لتخيلات هي بمثابة شبكة المصافي التي يصطاد بها الفرد/ الروائي تفاصيل العالم الخارجي؟ هذه الأسئلة هي المجال الذي تتشابك فيه منظورات التاريخ ومولدات السرد، وبما يجعل الكشف عن الهوية السردية بمثابة الكشف عن تفاصيل عميقة لتاريخ الفرد والجماعة، إذ أن هذه الهوية تتمثل إلى ما تكشفه الذات الواعية صاحبة الحضور المركزي والإثبات أمام عالم الأشياء، تلك التي تؤكد هذه الهوية عبر تأكيد الزمن السردي، وعبر مقاومة الفناء من خلال ما نقوم به تلك الهوية عبر اصطناع نقطة جذب تتجمع فيها العلامات الدالة، تلك التي خص المكان وتخص الإنسان كما يقول بول ريكور، وبما يكسبها بعداً زمنياً كائناً بفاعلية سردية ومصاغاً وفق مسارات الإمكان، وبما يجعل "العلاقة بين فعالية السرد وبين الطبيعة الزمانية للتجربة الإنسانية تعالقاً ليس بالعرضي، بل يمثل شكلاً ثقافياً متبادلاً من أشكال الضرورة، بحيث يصير الزمن إنسانياً، فيصاغ بصيغة سردية ويكتنز السرد بمعناه الكامل، حيث يصير شرطاً للوجود الزمني". (بول ريكور: الزمان والسرد، ج1، تر: سعيد الغانمي، ص53).

ما أحسبه هنا، أن متعة كتابة الرواية تبدو وكأنها عالم معاش وخبرة تتجسد عبر قدرة الروائي في ضبط مستويات التفاعل بين العالم الواقعي والعالم الروائي، وهذا لايجعل الرواية محض حكايات، بقدر ما يفترض لها أن تكون أيضاً فضاءاً لأفكار يعلنها أبطال/ شخصيات تتحول أفكارهم المجردة إلى تأملات مصورة وبما يجعلها تظهر للوجود أمامنا وكأنها شيء معين كما يقول وليم راي. إن حيازة شرط هذه الهوية تكمن في ذات الكائن الراوي وعبر تغيراته وتحولاته، إذ أن هذه الهوية تتجسد عبر سرده للأحداث، ليكون هذا السرد هو التاريخ والمعنى، فضلاً عن أن الهوية تتجوهر في حيازة ذات الكائن على القوة وعلى اصطناع المتخيل السردي الذي يمنح الروائي القدرة على التحرر والتتابع وتخليق الزمن السردي داخل سلسلة من الزمانات الواقعيّة الأفقيّة أو المستعادة، وبما يجعل الكتابة عنها وكأنها عودة إلى العالم الداخلي الذي تصنعه الذات الواعية والذي يمزق صمت الحدث الماضي أو مهيمنة الوثيقة.

الوثيقة في المتخيل السردي لا تفقد شرطها الوجودي كخطاب وأثر، بقدر ما تكتسب قوة أخرى أكثر فاعلية يكون فيها الخطاب الروائي باعتباره جزءاً من تاريخ مقترح، تتبدى فيه سيرورات الوجود الذي يبني هويته بواسطة سرده للأحداث، فضلاً عن نزوعه نحو "تشكيل عالم متماسك متخيل، تحاك ضمنه صور الذات عن ماضيها، وتندغم فيه أهواء، وتحيزات، وافتراضات تكتسب طبيعة البديهيات، ونزوعات وتكوينات عقائدية يصوغها الحاضر بتعقيداته بقدر ما يصوغها الماضي بتجلياته وخفاياه، كما يصوغها بقوة وفاعلية خاصتين، فهم الحاضر للماضي وانهاج تأويله له، ومن هذا الخليط العجيب، نسج حكاية هي تاريخ الذات لنفسها وللعالم، تمنح طبيعة الحقيقة التاريخية، وتمارس فعلها في نفوس الجماعة وتوجيه سلوكهم وتصورهم لأنفسهم وللآخرين، بوصفها حقيقة ثابتة تاريخياً" (ادوارد سعيد: الثقافة والإمبرياليّة، تر: كمال أبو ديب، ص16)

هذه الاشتغالات بدت هاجساً لي وأنا أقرأ رواية "بلاد سعيدة" للروائي شاكر الأنباري، الرواية التي تلامس واقعاً مباشراً، واقعاً يضج بالحياة والحكايات والتفاصيل، لكنه يعيد سردها عبر مشاهدة غير متحيزة تقود إلى قصديّة المؤلف، لأننا سنساق وراء وعيه الذي يعيد قراءة وعي سابق. هذا الوعي يمارس فعاليته عبر سرد الأحداث الواقعية، من خلال سياقات يختلط فيها العالم الواقعي مع العوالم المتخيلة، والتي بدت وكأنها تشبه الشهادة على المتغيرات التي لامست الوقائع العراقية بعنف، تلك التي أصبحت لأبطالها خبرات، وللجماعات بمثابة الوقائع والتاريخ المعاش، المتشيئ عبر تشكل أحداثها بصفتها سرداً فاعلاً ومتوالياً تتراكب فيه بؤرة الخطاب في الرواية القائم على إنتاج شفرات متوالية مع الذات الواعية تقترح علاقات دلالية يسميها باختين بالعلاقات الحوارية، تلك التي تضمن التواصل بين الأحداث الواقعية مع ما تصنعه من تخيلات، والتي تصوغ الحاضر وتؤوله كجزء من اشتغالاتها السردية، إذ تكون الرواية التي تستقرأ حدثاً معيناً في العراق، وفي زمن السياسي والتاريخي المعاصرين، بمثابة استبطانا لتاريخ متخيل لجماعات مهمشة، تضع الحدث الواقعي تحت موجهات الحدث السردي الذي يفجر واقعها وعالم المسكون بالثبات ويضعها داخل اشتغالات محمومة للبحث عن هوية متخيلة لتاريخ سردياتها المهمل، ذلك الذي يسحب التاريخ/ تاريخ الحدث من محدوديته كواقعة في التاريخ إلى أفق فيه الكثير من التخيل السردي، وفيه استدعاءات مهمة لمواجهة صراعات عميقة بين حيوات متناقضة، وكذلك لمواجهة الزمن والتاريخ عبر ما يقترحه هذا السرد من مواجهات نقيضة لزمن وتاريخ آخرين، وعبر اصطناع مواقف ووجهات نظر متعددة، لأن هذا السرد هنا يضع الحدث وهويته السردية أمام فضاءات من التأويل المكشوف على احتمالات متعددة للتنشيط الدلالي، ولتوسيع فاعلية القراءة وتعدد قرائها. تلك القراءة تسعى أيضاً إلى أن تكون قراءة وصف وتعرّف أولاً، أو توغل داخل تاريخ جمعي إيهامي لجماعات معينة، جماعات اصطنعت لها في الماضي موجهات وأنماط ونزعات معينة، وهي ذاتها تصنع لها في الحاضر عبر تأويل هذا الحاضر سلسلة أخرى من المواجهات والصراعات التي تتراكب مستوياتها عبر تعدد مستويات السرد الذي تقوم بها شخصيات مركزية وثانوية، ناهيك عن المستويات التي يقترحها القارئ الآخر.

قراءة الحدث في رواية «بلاد سعيدة» باعتباره حدثاً توليدياً، يتحول إلى قراءة للتاريخ، تاريخ المكان، والشخصيات، وتاريخ المنفى، وربما تاريخ الصراع الخفي المسكوت عنه، تاريخ العلاقة الغائمة مع الآخر، تاريخ العائلة، تاريخ الكينونات المهمشة. السيرة في رواية "بلاد سعيدة" هي جوهر ما تستعيده الذات الواعية في مكان محدود جداً من الجغرافيا العراقية، سيرة أحداث وشخصيات والتي تتمثل عبر ما يقترحه لها السرد من صراعات تمثل جوهر الهوية السردية التي تولد وتنضج عناصرها عبر دلالات مقابلة لما يتجوهر في تاريخ آخر للعراق الجمعي (السياسي والإثني والثقافي) والذي لا يمكن التعاطي معه إلاّ عبر هذه الاشتغالات التي تؤسس لها زمناً سردياً، إذ يكون الزمان كما يراه بول ريكور إنسانياً وذا معني عبر وضعه في إطار سردي، وحيث يصبح هذا الزمان إطاراً لحكاية إنسانية، وهذا هو الذي يجعل الزمان إنسانياً.

هذا التوظيف السردي للزمان هو الباعث على مواجهة الحدث الواقعي الذي تتفجر من خلالها وقائع الماضي (المكان/ قرية الحامضية، والزمن المعزول على ضفاف الفرد والذي ينمو أفقياً، والشخصيات/ عائلة الحاج حسين وأولاده الأربعة) وعبر نوع من التوظيف الظاهراتي الذي يستقرأ تشكلاته المقترحه/ المقروءة من خلال قصديّة ما يقترحه الوعي السردي للروائي، الوعي النافذ والفاعل والكاشف، الذي يحافظ على حركة الزمن، لكن دون انفصال عن الكثير من تفاصيل الواقع المادي والروحي والثقافي والمعيشي الذي تتأسن فيه حيوات القرية وتأريخها وشخصياتها، وهو نسق يحافظ فيه الروائي على الزمن السردي وكأنه ذاته الزمن اليومي الذي يمتد أفقياً وعمودياً.

ورغم أن الروائي يقول بأنه لم يتدخل كثيراً في إعادة صياغة الواقع، إلاّ أن التوليف السري للأحداث، تمثل إلى بنيات مولدة، وإلى بؤرة باثة بمواجهة الواقع الخارجي، إذ لا يمكن أن يكون هذا الواقع النسيج مهما كان قريباً من التاريخ الواقعي واليوميات العامة بعيداً عن اشتغالات هذا السرد وموجهاته، تلك التي تنفذ عبر قصديّة الوعي الذي يملكه السارد في التعاطي مع أحداث مروعة اقترنت بدخول القوات الأجنبية للعراق إلا عبر تقنية قد تشبه نوعاً من الهرمونطيقيا، تلك التي تؤول ما حولها، لأن تلك الأحداث أسهمت في دفع الذات إلى الاغتراب، مثلما أسهمت في إنضاج فعاليات أكثر وضوحاً للشخصيات في سياقها السردي بمقابل بروز ظواهر العنف والموت والصراع والتقاطع، فضلاً عن بروز ظاهرة الإرهاب كموجّه خارجي والذي فرض تمظهراته الغريبة والدامية في الأجندة السياسية وفي المكان العراقي، ولعل إدراك الروائي لهذه التحولات وتشكل تداعيات عواملها الصراعيّة يعكس رؤيته المضطربة والغائمة المشتتة والقلقة للأحداث، وبالتالي نوزعه للسرد، باعتباره المجال الأكثر قدرة على تأويل وعيه إزاء الأحداث والوقائع، فهو يقدم الحدث (قصف قرية الحامضية من قبل القوات الأميركية) وموت أغلب أفراد عائلته على أنه حدث مولّد، مركزي، حدث يقع في الماضي، وأن حضوره في السرد الروائي يكون هو الدافع التأويلي الذي يستعيد من خلاله الروائي وعي هذا الماضي، نحو حاضر حاشد بالتخيلات والصراعات التي يقترحها بطل يعاني من صدمة ما بعد الكارثة: "لقد عصف الانفجار برأسي من دون رحمة وخلخل شيئاً ما في نسيج دماغي، لا أريد أن أصبح مجنوناً، أريد أن أعيش كما كنت في السابق" (ص6).

الحدث الواقعي يتحول إلى حدث سردي من خلال وعي بطله الراوي المصدوم والمشتت، إذ يستعيد ماضي المكان، وماضي الشخصيات، مثلما يرسم لنا طبائعها وعوالمها السردية، صراعاتها ومواقفها من الحرب والأميركان والإرهابيين، تلك التي تصيبه بهوس غريب، هوس يمسّ طبيعة شخصيته التي تعاني من مركب صراعي بين ثنائيات قهرية متعددة، فهو يقول "إننا واقعون بين المطرقة والسندان" وكأن هذه الإشارة تختصر وعيه إزاء هذا المستوى الصراعي، وتحوله إلى دلالة رمزية موحية تكشف عن حجم المتغيرات التي أصابت المكان والشخصيات، تلك المتغيرات التي أصابت العائلة بالتشتت ترميزاً للخارج المصاب بهذا التشتت والرعب فالموتى لم يعودوا يدفنون موتاهم في المقابر، والشخصيات توزعت بين كمال الذي يبحث عن قذيفة للانتقام، وبين علي المتحمس لوجود الأميركان في تحسين وضعه الاقتصادي، وبين محمد الملتاث بقلقه وتشوهه الداخلي.

يقترح لنا الروائي في هذه السيرة كتابة مفتوحة، كتابة تلامس الحدث بكل مستوياته الثيمية والزمنية، عوالم الحرب الدامية، الصراعات من أجل المصالح، المواقف من مفاهيم ومصطلحات تحولت إلى سرديات نافذة داخل الحياة العراقي، الحياة الخاصة للجماعات المغيبة، إذ يتشكل أمامنا تاريخاً (مسروداً) بوعي متعال، تاريخاً يستغور ما نراه، تاريخاً له ملامح حادة وقابلة للمراوغة، تلامس الهواجس السرية لبنيات اجتماعية وديموغرافية مهمشة في المكان المعزول، لكنها في السياق السردي تتحول إلى قوة فاعلة لها سردها الخاص الذي يمثل هويتها كما يتخيل(بول ريكور) وأن وجودها المواجه والحاضر مرهون بهذا التحبيك السردي الذي يضمر ما يواجه تاريخه عبر مرويات متعددة، هي مرويات ليست متخيلة بالكامل، بل هي مرويات فاتنة وشعبية أحياناً للمكان والحيوات ذاتها أيضاً، وبما يجعل هذه المرويات نصوصاً تروي بديلاً عن الوقائع أحداثها الواقعية والمتخيلة المفتوحة على أزمنة وحقب متعددة.

في رواية "البلاد السعيدة" للروائي شاكر الأنباري الصادرة عن دار التكوين (دمشق 2007)، تبدو اشتغالات الهوية السردية واضحة وجلية تتمثل عبر ما تكشفه جماعات واقعية في المكان العراقي من رؤى وأفكار ومواقف وصراعات، ورغم أن الرواية تحمل الكثير من التسجيل الوقائعي لأحداث ويوميات هذه الجماعات، الضاجة بالعنف ومشاهد الموت، إلاّ أن المتخيل السردي الذي يمثل جوهر هويتها السردية، يمارس حضوره الفاعل والمثير وتوليداته طوال أحداث الرواية، من خلال شخصية البطل المصاب بصدمة الحدث، ومن خلال التداعيات النفسية التي تسردها هذه الشخصية، وكذلك من خلال ما تكشفه النزعة البوليفونية التي تعدد أصواتها وكأنها تبدو تمثلاً في تعرية ما تحمله الجماعة من انزياحات ترتبط بخصوصياتها ويومياتها وتفاصيل عاداتها وبعض أسرارها، فضلاً عما تهجس به عبر ما ينكشف من ثيمات ثانوية لكنها عميقة، تلك التي ترتبط بعلاقات الشخصيات مع بعضها، ومع تاريخها وماضيها، وكذلك مع حاضرها المتحشد بالتغاير والقهر والشدّ النفسي والرعب الذي يصيب الشخصيات بفوبيا العلاقة مع الآخر الاحتلالي والإرهابي.

إن النزعة الكابوسية التي يعاني منها بطل الرواية، وامتعاضه من الاندماج مع الآخرين منذ بداية الرواية "لست جائعاً، ورغبة الأكل تلاشت منذ الحادث، كان كل ما أرغبه هو الهدوء"ص5، هو مقدمة لعزلات مركبة (عزلة وجودية ولغوية وجنسية) والتي تقوده بالمقابل إلى سلسلة من التخيلات عن ما يمكن أن يحدد علاقته بالآخرين، فهو عبر ذاكرته المضطربة يتخيل أباه، ويتخيل أخاه سعيد الهارب منذ سنوات من رعب السلطة، وكأن رعبه من الحاضر، هو مقابل لرعب أخيه من تلك السلطة، وهذا ما يجعل الرواية وكأنها سلسلة من الكوابيس، تلك الكوابيس التي تجعل بطله أمام رغبة عارمة لاستعادة التفاصيل الصغيرة والهامشية: "في نقطة بعيدة من الصحراء تقوم المقبرة. في قبر جديد سيدفن أحمد الأعرج. وسيرفعون رايات بيض حين يذهبون لدفنه. سيزداد الموتى واحداً. تلك سنة الحياة كما كان أبي يردد. شوارع البلدة ظلت جارية بالسيارات والبشر. أصوات انفجارات بعيدة. أصوات مروحيات تحوم فوق جزيرة الفرات قرب الجسر. نخيل البلدة، وكما أراه من السطح، يتناقص قليلاً قليلاً. لم يعد أحد يهتم بزراعة النخيل. تجارة ما عادت مربحة. زوجة خالي تحلب بقرتها في الفناء الخلفي للبيت. نجاة زوجة أخي كمال تكنس الحديقة الأمامية، التي شهدت جلساتنا وحواراتنا. بحججه المنطقية والباردة كان سعيد يقنعنا دائماً. يقنعنا في تبرير، وشرح، ما يجري في حياتنا. كل ما كان يقوله صحيح، إلا أن ذلك الصحيح لم يغير الجحيم الذي نعيشه".

لقد حاولنا من خلال استعادة هذه التفاصيل إبراز تمفصلات صادمة، تكشف عن دلالات تتجاوز أرخنة الأحداث إلى سرد يصطنع دلالات أخرى، بعضها يتعلق بتفكك المكان وعلاماته، وبعضها يتعلق بتفكيك بنية الجماعة المكونة للمكان الهامشي إلى تشظيات فيها الكثير من الاعتباط، وهذا ينطلق بالأساس من طبيعة ما تمثله العلاقات الاجتماعية والاقتصادية في المكان الواقعي/ الهامش، والذي يتحول عبر صدمة الحدث، إلى واقع خاضع لسرديات الرواية، وأبطاله يتحولون إلى شخصيات سردية، وحتى المكان يتحول إلى فضاء سردي مفتوح على عوالم غرائبية وعلى أحداث متلاحقة يتفكك من خلالها المكان، إذ تنكشف الأمكنة عن تشظيات مرعبة (البلاد ـ المنفى) والحيوات عن توليد عوالم مشتبكة ومتصادمة مع بعضها البعض، تؤسطر ما حولها، وتنحو إلى اغترابات داخلية وإلى ارتكاب أوهام/ تخيلات، تتبادل شفرات لغوية ومفاهيميّة لها علاقة عميقة بأسرار المتخيلات السردية الراسبة (بنية المكان القريب من الصحراء، طبيعة الحياة المعاشة، الإرث العائلي وصورها الشعبية اليومية، زمنها الخيطي ونثارها الحكائي) والتي تقابلها توهمات سحرية ذي مرجعيات متخيلة (طيور السماء التي تقاتل معهم، المسك المتصاعد من جثث القتلى، لامعقول يوميات الحرب، الرايات البيض التي يرفعها الأهل لزيارة المقابر، فنطازيا المكان ورعبه وغيرها).

هذه الرواية لا تنتمي إلى روايات المنفى بالمعنى التوصيفي، ولا حتى إلى روايات استعادة الأمكنة عبر الحنين إليها واستحضار يوميايها وتفاصيلها على طريقة جيمس جويس، ولا حتى إلى روايات ماركيز التي تمنح المكان الهامشي سحراً غرائبياً يجعل من واقعيته جزءاً من لعبة التخيل، بقدر ما تنتمي هذه الرواية إلى نوع من الكتابة الكاشفة التي تمارس (لعبها) السردي عبر سلسلة من الإزاحات التي تبدأ من إزاحة المكان عن هامشيته الطاعنة إلى حضور يومي فاجع بمواجهة الحرب والاحتلال والقصف الدموي الذي يستدعي المكان العراقي برمزيته، فضلاً عن إزاحة (الجماعات) عن واقعها (المنغلق) إلى عناصر فاعلة سردياً، تستعيد عبر تخيلاتها أزمة المكان والحياة والحرية، إذ تنكشف من خلال أزمتها الصراعات والاستعادات والمفارقات، تلك التي تفضي إلى إزاحات متعددة لدلالات المكان الواقعي عن يومياته المطمئنة إلى مجموعة من الكوابيس والتخيلات التي تتكرر على لسان رواته المتعددة أصواتهم. هذه الإزاحات تتصاعد من إزاحات توصيفيّة إلى إزاحات دلاليّة تتجسد في التسمية المفارقة والساخرة "بلاد سعيدة" غير الموحية الى افتراض ما تحمله من تسمية مضادة، تختزن دلالة رثائيّة للمكان، وإلى استغوار نفسي يعبّر عن الصراع بين الواقع ونقيضه "إننا واقعون بين المطرقة والسندان" كما يقول الصوت الرئيسي في الرواية محمد.

لقد أدرك الروائي شاكر الأنباري لعبته السردية جيداً عبر توظيف قدرته المتميزة في معالجة تداعيات الحدث والواقعة، وعبر نسج بنيات السرد القرينة بما تركه الحدث المأساوي الذي انتهى بموت العديد من أبناء العائلة، إذ استثمر الروائي ذاكرته أولاً، وخبرته الروائية في التعاطي مع ثيمة ساخنة، مشوبة باليومي والالتباس، عبر إمكانية صنع بنية سردية مناسبة لها، تلامس واقعيتها الناتئة، لكنها تمنح للسرد اشتغالاته الفاعلة، عبر توظيف البنية البولوفونية التي تتعدد فيها الأصوات/ الرواة (محمد، سعيد، كمال، علي) أولاد الحاج حسين والذين يمثلون اتجاهات مختلفة وأمكنة متعددة، فضلاً عن رواة هامشيين يملكون شيئاً من ذاكرة المكان(أحمد الأعرج المتلصص والساخر والمراقب ليوميات الحرب، ولمياء التي يمثل سعيد الابن المغترب عن البلد عشرين سنة هاجسها الأثير)، وكذلك عبر تماسك البنيات النفسية لأبطاله دون الانجرار إلى التداعيات المحايثة بمرجعياتها النكوصية والقهرية وأثرها على اللغة الروائية.

هذه الأصوات المركزية والهامشية تلتقي بحساسيات مركبة عند سردية الحدث، يروون سيرته وفاجعته بايقاعات مختلفة. يقفون عند المكان/ المركز السردي والواقعي في آن (الحامضية) المدينة الخارجة من واقعيتها والمفتوحة على جغرافيا أسطورية حيث (الخط الدولي، المدن، نهر الفرات)، يقابله (عنف الموت، انهيار المكان، هلوسة الشخصيات)، وكأنها مدينة قدرية ينكشف المكان الإنساني والوجودي، على مكان سردي فيه الكثير من التخيل، شخصياته تتخلى وجودها المأزوم إلى هوية يعبر عنها السرد الفردي، وليس السرد الجمعي. هذا السرد يكشف عن أزمة كائنه، مثلما يكشف عن أزمة المكان الذي يتحول مكان سحري حائز على خصوصية مراقبة انهيار تاريخ المكان الدلالي الذي يقابل انهيار النظام السياسي. هذا التقابل الدامي والصاخب هو الذي يستنطق الرواة أو يجمعهم على مواجهة تداعيات الحدث، والبحث عن حلول وجودية لأزمة المكان الجغرافي والسياسي بعد الانهيار، إذ البطل السردي الخارج من محنة (الحامضية) قد يشبه البطل ذاته الخارج من محنة (العراق) وأعتقد أن ما تعرض له بطله الجريح المصاب بشظية هو صورة لهذا التلاقي المعنوي بين البطلين (الشظية المعلونة لا تستقر في رأسي بل في روحي). إن الإفراط في الإشارة إلى واقعيّة الحدث لا يعني التقليل من قيمة الاشتغال السردي الذي تمكن الروائي من ضبط إيقاعه النفسي واللغوي، فالرواية تؤرخ لحدث حقيقي، تستعيده عبر شهادة أبطاله، لكنه يظل باعثاً على اشتغالات سردية مكتوبة بتقنية مميزة، تقنية تعمد إلى توظيف الوثيقة والحدث، لكن عبر ما تثيره من استعادات، وعبر ما تقترحه من قراءات متعددة للمكان العراقي المهمش لكنه الأكثر رمزية في التعبير عن خصوصيّة ما يواجهه من أزمة المحو والموت والشواهد التي تذكّر دائما بهذه المواجهة: "هنا يرقد شهداء القصف الأمريكي بتاريخ 2 ـ 11 ـ 2005" (ص178).

رواية "البلاد السعيدة" واحدة من روايات "الحدث" التي تتلمس مكاشفة الواقع العراقي ما بعد 2003، بعيداً عن الشعاراتيّة والقراءات المنفعلة، إذ هي تنأى عن المركز الموهوم (مركز البطولات الملتبسة)، إلى الهوامش التي تملك الكثير من أسرار المسكوت عنها، تلك التي تعري الواقع وتفضح عبر فداحة معاناة الناس في الهامش الاجتماعي غير المديني عن هول الحياة، وهول الحرية، وهول الاحتلال والإرهاب، وهول الأثر الذي تركه الاستبداد في المزاج العراقي وفي عزلة المكان العراقي وصراعات الخبيئة التي لم تصنع لنا أماكن سعيدة قط.