يكشف لنا الكاتب الفلسطيني كيف استطاعت تلك الرواية الجديدة من خلال بنية تبدو واقعية تسجيلية في ظاهرها، ولكنها تلعب على تعدد مستويات اللغة، وتعدد أدوار السارد الواحد المتعدد، والمراوحة بين الإخبار المباشر المحايد والاستبطان المعبر عن رؤية الشخصيات، أن تفكك المجتمع الصهيوني من الداخل وأن تعرض أوجاع الاحتلال، وهي تقدم لنا حصيلة معرفية عميقة بالأنا والآخر.

تفكيك بنية الداخل الفلسطيني وأوجاع الإحتلال

قراءة في رواية «بشير وعاموس»

غريب عسقلاني

رواية (بشير وعاموس) هي الجزء الثاني من ثلاثيته (جنون الجذور) للروائي توفيق أبو شومر بعد أن أصدر الجزء الأول (الصبي والبحر)، التي قدم فيها الراوي شهادته عن الجد الذي كان يتمتع بفهم خاص للحياة، جعله في نظر من حوله يسكن في برزخ بين العبقرية والجنون، وقد انتهى به المطاف هو وأسرته اثر نكبة فلسطين في العام 1948 في مخيم البحر حيث عاش الفاقة والفقر والحلم بالعودة والحياة على أصداء زمن جميل، أصبح فيما بعد ذاكرة تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل! في رواية (بشير وعاموس) يمضي بنا الراوي إلى سوق العمل داخل إسرائيل مع العامل بشير الهارب من إلحاح والديه واتهامهما له بالفشل وعدم القدرة على تحصيل رزقه مثل الآخرين من مجايليه، وهو غير المؤهل لحرفة معينة، وكل عدته قوة عضلاته وصدره الذي تشكل بفعل التدريب على حمل الأثقال وألعاب القوى، ومن خلال مكابداته في العمل يرصد الراوي البنية النفسية والاجتماعية لشريحة العمال، الذين شكلوا رافدا أساسيا في الحياة الاقتصادية لقطاع غزة، غزة التي يشكل فيها الريف هامشا محدودا في الكون الاقتصادي العام لغلبة الملكيات الصغيرة التي تعتمد على العمل العائلي، لذلك يعيش الواقع الريفي على هامش الحياة العامة، لأن سكان مخيمات اللاجئين في قطاع غزة يشكلون نصف عدد السكان تقريبا، ويعيشون على عوائد العمل الأسود داخل إسرائيل، والتي بات العامل الإسرائيلي يأنف من التعاطي معها بعد نكسة 1967 لتوفر العمالة العربية الرخيصة، فتحول اليهودي إلى مقاول أو رئيس عمال، لذلك نرى الحاجة والأقدار تسوق بشيرا للعمل في شركة «عاموس وأستر» لتنظيف البيوت والعمارات السكنية من القاذورات والحشرات والآفات الضارة، بتعقيم المطابخ والحمامات والمراحيض وغرف النوم، ما أتاح للبطل (الراوي) دخول بيوت مختلف طبقات وشرائح المجتمع الإسرائيلي، وهذا وفر له ولوج الواقع العقلي والوجداني للمجتمع الإسرائيلي، ومعرفة موقفه من الآخر العربي الفلسطيني، وفتح أمامه أسئلة جديدة تتطلب تريثاً طويلا قبل إطلاق أحكام قاطعة عليها، طالما رددناها، ولعل ذلك ما دفعه لأن يكتب على الغلاف الأخير للرواية تحذيراً:
«لا ينصح بقراءة هذه الرواية إلا لمن تجاوز سن الرشد الوطني»
وكأني به يحذر مسبقا من تغليب العاطفة على العقل عند السجال مع الآخر الإسرائيلي!

السارد الواحد المتعدد

تعتمد الرواية على الراوي العليم الذي يقوم بالإخبار عن الوقائع والأفعال الحادثة على رقعة القص، لكن هذا الراوي سرعان ما يتخفى وراء رواة آخرين ويتخلى عن عدسته المحايدة، فيصبح صوتا داخليا لبطل الرواية بشير، يهجس ويهمس ويعلن بما يتصارع داخله من انفعالات، ومحاولات لتفسير ما يحيط به من أحداث وسلوكيات صادم! كما يتسلل الراوي عند مفاصل معينة، فيتحدث بصوت المؤلف المكتظ بالمعرفة والمسلح بالمعلومات، فيأخذ دور الموثق والمحلل للظواهر، فينثر أسئلته في ثنايا العمل، وكأنه يحاور القارئ في جغرافيا الرواية التي رسمها بدقة لتكون بيئة مواجهة بين الفلسطيني المنزوع من أرضة والمقذوف الى واقع، دُمرت فيه القيم والتقاليد والأعراف وفرض عليه نموا شاذا فرضه الشتات في مخيمات اللاجئين، وبين الطارئ، بتعدد ولاءاته الدينية والعرقية والفكرية والسياسية الذي أقام على أرضه مجتمعا آخر وحياة أخري، فرض عليه بعد الهزيمة عودة شاذة يكون فيها خادما ذليلا مُستَغلا يعيش المستويات الدنيا من الحضور الإنساني، بتأكيد ذات موهومة بالقدرة على البقاء وتحقيق الانتصار، من خلال علاقة سوداء بين عامل عربي لا يملك غير قوته البدنية، وملاحة وجهه، وأحلامه وشهواته المتواضعة ومحاولة كسب رضا والديه اللذين أخرجاه من المدرسة صبيا ولا ينفكان عن تذكيره بعجزه وفشله، فتأخذه الصدفة إلى شركة عاموس وأستر لتنظيف البيوت، وتضعه أمام شهواته ورغباته نحو أستر التي أصبحت النموذج الذي يجب أن تكون عليه المرأة، والتي تجعله يعيش الانتصار حلما والهزيمة واقعا على مدار الساعة فهل في ذلك رصد مكاشفة جارحة للفجوة الحضارية بين واقع العربي الفلسطيني والمجتمع الإسرائيلي، أم أن هناك ما هو أبعد من ذلك، ولعل هذا ما يبحث عنه المؤلف في ثنايا الرواية؟؟

وحدة المقهورين

في مستودع أدوات التنظيف الملحق بمكتب شركة عاموس وأستر، يقضي الليل مع الأخوين خالد وسليمان وابن عمهما قائد العمل سليم، وذلك هربا من مطاردات الشرطة لعدم حصولهم على تصريح يمكنهم من المبيت في إسرائيل، إذ أن العمال الفلسطينيين يحصلون فقط على تصاريح تُضبط بالدقائق والساعات، وينضم إليهم سيرغي الروسي المدمن المشرد الذي هاجر إلى إسرائيل بعد أن اشترى شهادة تثبت يهوديته، والذي لم يحصل على هوية تمنحه حق العمل، فيعمل مع العمال العرب ويتعلم العربية قبل أن يتمكن من العبرية، ثم ينضم إلى المجموعة إسحق الذي وصل إسرائيل مع أفواج الفلاشا فيما عرف بعمليتي موسى وسليمان في العام 1978 فاعتبرهم المجتمع الإسرائيلي نفايات بشرية تلوث الشعب الإسرائيلي في أرض الميعاد. (هكذا يوحد القهر والظلم والتمييز العرقي والطبقي العمال المضطهدين من كل الأعراق، بمن فيهم العمال اليهود).

في الليل يغلق عليهم عاموس باب المستودع الضيق، فيتكدسون في العتمة مع رائحة المرحاض والرطوبة والغازات المتسربة من مواد التنظيف والعفن الضارب في المكان هروبا من دوريات الشرطة، وتحت إلحاح الحاجة يتعرضون للظلم والاضطهاد والاحتقار وابتزاز قوه عملهم خارج ضمانات وحماية قوانين العمل وبأقل الأجور، فيعوضون ذالك بتسول الإكراميات وكأنها حق مشروع لهم كالعبيد المتسولين، يشجعهم على ذلك عاموس لتعويضهم شيئا من دخلهم المهدور..فيفاوض لهم على الإكرامية، ويغض الطرف عما يقومون به من سطو على الأطعمة الموجودة في ثلاجات البيوت، وسرقة ما يستطيعون إخفائه عن العيون واستخدام تليفونات البيوت بالاتصال مع الأقارب والمعارف في البلدان العربية ما يكلف أصحاب المنازل أموالا طائلة، والانتقام غير المبرر مع بعض أصحاب البيوت الإسرائيليين بإغلاق مجاري الصرف في بيوت من لا يجزلون لهم العطاء، يقودهم سليم المبرمج الأول لعقد الصفقات مع الزبائن لطول خبرته في مجال العمل ولصلته التاريخية بعاموس الذي كان يعمل تحت أمرته عند مقاول آخر قبل أن يؤسس شركته معتمدا على خبرة سليم، لذلك فإن عاموس دائم التفكير بالاستغناء عنه ولكنه لم يعثر على البديل المناسب بعد.

بشير لم تفارقه روائح استر، حلمه الوحيد كلما غابت حضرت، بعد أن أخذته لتنظيف مطبخها وانبهرت بعضلاته، فوجد نفسه يحملها شبقا، وقبل أن ينقض عليها بشفتيه ردته صارمة وهبطت من بين ذراعيه وأسرعت إلى الحمام تغتسل، وكأنها تطرد بعض روائحه التي علقت بها .. أي موقف أخذته منه وأي سحر أخذه إلى اللهاث ومازال يدور حولها، وما زال العامل الغفل يراوح بين جبنه وسريرته البيضاء التي لم تتلوث بعد، يكتفي قانعا بأجرته وما يتلقاه من إكراميات.. لم يشارك (بشير) في سرقة أو تخريب ولم يستخدم هاتفا، ولم يطلق سحابات الأسيد على البلاط لإخراج السكان من شققهم، ولم يطلق العرس والفئران في البيوت ليصطادها وينال مكافأة على ذلك، هو صامت اتجاه أفعال سليم وأقاربه، ومتعاطف من سيرغي الروسي واسحق، اللذين لم يعترضا على كونه رئيسا عليهما وكانا ينصاعان لقيادته، ربما لسماحته وهدوء طبعه وقناعته وتعاطفه معهم. لكن الراوي الخفي لا يرى في سليم ومجموعته حالة نشاز فيلتقط من تجمع العمال عن إيرز قبل الحلابات نماذج مشابهة، مثل الميكانيكي الذي يتباهى بتغيير القطع السليمة ليركبها لعربات زبائن آخرين ويأخذ ثمنها، وعامل المشتل الزراعي الذي يزرع أشتالا خفية ويبيعها لبائع إسرائيلي جوال يتهرب من الضرائب.

وعلى جانب آخر يلتقط الراوي نموذجا له فلسفته الخاصة في تجنب ذل البحث عن عمل، والمذلة أمام المقاولين، فيقضي يومه باحثا في حاويات القمامة، عن نفايات تجد سوقا رائجة في غزة مثل ألعاب الأطفال، والأدوات الكهربية المستعملة، وأدوات المطبخ والملابس والأحذية القديمة، فأطلق العمال عليه اسم مازن الزبل، ومازن يعيل أسرة مكونة من تسعة أفراد، علم منهم ثلاثة في الجامعات، واشترى نصف دونم أرض أقام عليه منزله ودكاكينه التي حولها إلى معرض لبضاعته.. مازن تحايل على العبودية بطريقته الخاصة وهو في المخيم ذو معدن طيب، يتكافل مع جيرانه ويقدم لهم الخدمات عن طيب خاطر بلا مقابل، ما جعل السارد المؤلف يوجه سؤالا صادما عن الواقع المؤلم، حول المناطق المحتلة التي تعيش على نفايات المجتمع الإسرائيلي،فقد اعتادت إسرائيل تصدير الفواكه المعطوبة، والألبان والأجبان منتهية الصلاحية، والثلاجات والسيارات والآلات، والأثاث القديم إلى غزة وبقية المدن الفلسطينية، بحيث أصبحت المناطق المحتلة مكبا لنفايات إسرائيل، بفعل الإلحاق الاقتصادي غير المتكافئ بين اقتصاد ضعيف رأسماله قوة العمل اليدوي الرخيصة، وبين اقتصاد رأسمالي قوي ينافس على أرقى ما وصل إليه العلم والتكنولوجيا وفق برامج مالية تحقق أوسع هوامش الاستثمار المربح.

الأنا والآخر الواحد المتعدد
عندما يكون الاحتكاك يوميا، توضع الأفكار على محك الاختبار، يأخذ الوعي دوره، فالصدام حاد. فالبدايات لا تكافؤ، والنهايات دراماتيكية، ومن يرَ الآخر كتلة عداء صماء يقع في الصدمة، ومن يعتقد بعدم وجود قواسم مشتركة بين روافد الآخر تختلط عليه الأمور.. ما الذي يريده توفيق أبو شومر الذي زج بطله بشير الخارج من دفيئة المخيم،الهارب من اضطهاد أبويه اللذان يستعذبان التحكم في مصيره ورسم أدق خطوط حياته، من مولده وحتى زواجه، وفق معايير التسلط، لتحقيق انتصارات زائفة وتحقيق ذوات مهزومة، فلا يملك بشير سوى الرضوخ، وضخ المال بلا توقف في حجر والدته لائذا بعذاباته الداخلية، هروبا من جبنه المتأصل، حتى لا يُطرد من البيت، وتلاحقه لعنة الوالدين مثل أخيه الذي انتصر لكرامة زوجته المسكينة بعد أن طفح به وبها الكيل!! هذا المضطهد يدخل سوق العمل ليواجه صراعا من نوع آخر، ينفصل عن ذاته لينصت إلى صوت الرقيب الساكن فيه: "أنت تعرف أن الحالة التي ترى نفسك شجاعا هي عندما تتوحد فيَّ، فهل يعود ذلك إلى رغبتك في الهروب من ذاتك إلى ذات أخرى؟ "لذلك نراه يصاب بالذعر بعد فشله في قصارة سقف المخزن، وعندما يواجه جمال استر يستيقظ شبقه فجأة ولكنه يهمد عند حدود حملها بين ذراعيه، واللهاث السلبي، بعد أن حرمته من تقبيلها تأففا وربما قرفا أو رفضا مصحوبا بالاحتقار، فكيف يكون حاله وقد ساقته أقداره إلى دهاليز المجتمع الإسرائيلي كما خطط له الكاتب عندما زج به بين عاموس وأستر ذلك الثنائي الذي ربما يعكس صورة المجتمع الآخر فلماذا عاموس ولماذا استر؟؟

فعاموس: اليهودي الشرقي "سفارديم" يعلق صورة الملك محمد الخامس في بيته اعتزازا بالمغرب مسقط رأسه، ويفضل العرب عن اليهود الغربيين "الاشكنازيم" الذين يناصبهم الكراهية. وعاموس في التراث الديني اليهودي هو نبي من أنبياء التوراة تمرد على الفساد في المملكة الشمالية في عهد الملك يربعام الثاني، ونادى بأن يهوه إله الجميع وليس خاصا باليهود، فرفض تقديم القرابين ورفض الاستهزاء بالآخرين، وتنبأ بزوال المملكة الرابعة فناصبه الكهنة العداء وأعدموه، ولذلك يعتبر أول دعاة العدل والحرية والمساواة في العالم، أما عاموس الرواية ملتزم بحزب شاس ويجل الراب عوفاديا يوسف، ويتمنى أن يحظى بتنظيف منزله لينال بركته،، وقد نظف مع العمال بيت الراب أبو حصيرة مجانا، ونال بركته وكان سعيداً، وهو يضع الكيفا عندما يدخل بيوت المتدينين ويحتفظ في سيارته بالطاليت ذو الشراشيب والتفلين الحزام الجلدي الذي يلف حول اليدين عند أداء الصلوات الثلاث شحريت"الصباح ومنحا" الظهر ومعاريف" المساء".

وهو مدمن على شرب الكحول ومضاجعة العاهرات في غابة باروخ، ويقرأ جريدة هآرتس اليسارية!! أما إستر الجميلة فهي"امرأة فريدة، حزمها لا يفسد جمالها، عيناها الزرقاوان يبتلعان ما حولها، ومساحيق زينتها تتوحد مع بشرتها فلا تظهر للعيان، وطولها الظاهر لا يخفي أنوثتها الطاغية.." فهل تشبه استر التوراتية فهي التي أنقذت اليهود من القتل والإبادة كما خطط هامان وزير الملك الفارسي احشويرش، لولا مرورها مع عمها مردخاي وتمكنها من قلب الملك الذي وقع في هواها فردت كيد هامان وجعلت الملك يعاقبه بالموت، لذلك يحتفل بها اليهود في عيد المساخر ويأكلون رقائق خبز على شكل أذني هامان ويتذكرون استر جميلة الجميلات التي انقذت قومها من الهلاك .. فهل في أستر الرواية ما يشير إلى صلتها بإستر الأسطورة، فهي المجندة الملتزمة بدينها، تتبارك بالشمعدان بفروعه السبعة كرمز ديني ووطني، وقد انفصلت عن زوجها عاموس العابث ولكنها لم تنفصل عنه في الشركة لتحميها من الإفلاس.. وهل انتصرت بجمالها على بشير وحولته إلى تابع يستعذب عبوديتها!!

سياحة الراصد في الآخر
يتخفى الراصد في بشير العامل، ليرى كيف يحدد موقعه من المجتمع الآخر الذي يمتص عافيته، فهل وجوده بين عاموس المتناقض العابث، واستر الجميلة الصارمة يكفي لاستيعاب ما يدور حوله في مجتمع سيطر على الجغرافيا، وكيف يلتقي أفراد المجتمع على قواسم الدين والفكر الصهيوني الذي يشكل من وجهة نظرهم ركيزة الانبعاث اليهودي الذي يحقق العدل والاستقرار والسعادة بعد رحلة الشتات الطويلة، فهل ما يحدث بين السفارديم والاشكناز من عداء، ظهر واضحا ، ولكن في صورة الحدث الروائي الذي جرى في صورة عراك بين عاموس والضابط؟ فعاموس لا يقبل أن يكون الاشكناز خدما للسفارديم، فهم أقل منزلة من الخدم بينما يرى الضابط أن السفارديم مرض يجب التخلص منه؟! وكيف ينظر جيل الصابرا من أطفال الكيبوتسات الذين أخذوا من أحضان أمهاتهم إلى دفيئات زراعية ليتم إعدادهم كنواة صلبة خشنة مهمتها الدفاع عن إسرائيل، في حاضنة تنزع منهم عواطف الحنان والمودة والشفقة، ويعلمونهم العربية كلغة أولى للتعامل مع العدو العربي، وهل كان الضابط الذي حاول تجنيده عند الحلابات في إيرز واحدا منهم؟ ولماذا تلتقي جميع الطوائف على نبذ عاموس والروسي والفلاشي اسحق، ويضعون المعوقات أمام منحهم الهوية ويشككون في يهوديتهم؟ وأين هذا الخليط العجيب من أسطورة الشمعدان التي تم تحريفها " عندما دخل اليونان الهيكل لوثوا الزيت ولم تبق سوى زجاجة واحدة نقية تكفي للإضاءة ليلة واحدة، ولكن قدرة الإله وعنايته جعلت الزيت يضئ الهيكل سبعة أيام وهذه معجزة دولة إسرائيل. وقد أضيف لفروع الشمعدان السبعة أغصان الزيتون لجعل الشمعدان رمزاً للسلام والأمن والأمان .. فكيف يكون السلام بين مكونات هذا المجتمع؟ سؤال يطرحه الراصد/المؤلف عن مجتمع الآخر.

فالحارديم: أصحاب الأصولية الغيبية المقيتة، الذين يقبعون وراء متاريس مواريث ضاربة في القدم، مثل تعقيم البيوت من الخمائر في عيد الفطائر وأكل الفطير من اليوم الرابع عشر وحتى اليوم الحادي والعشرين من الشهر الأول من كل عام، للدخول في عيد البيسح، عيد انتصار قوم موسى على المصريين بعد أن سلبوهم فضتهم وذهبهم ولم يتمكنوا من تخمير خبزهم فأكلوه فطيرا، ويعتبر البيسح عيد العبور من عبودية فرعون إلى حرية الوصول إلى أرض الميعاد.. والحارديم كثيرو النسل يعيشون عمال بطالة ولا يدخلون الجيش ويعتمدون على معونات وزارة الأديان والجمعيات والأحزاب الدينية، يحرمون القراءة لغير الكتب الدينية وجرائد أحزابهم ويحرمون التلفزيون، ويحرمون غير اليهودي من العمل حتى لو سبب ذلك خسائر مثلما حدث من موقفهم من شركة تنوفا التي يحظر عليها حلب الأبقار بواسطة العمال العرب( المدنسين) أيام السبت، ما جعلها تعدم آلاف الأطنان من الحليب خوفا من مقاطعة منتجاتها، وهم أيضا يتهربون من دفع الضرائب ويشتغلون بتهريب الذهب.

وهل هذه الفئات ذات التوجهات الشاذة والمدعومة بفئة العسكر مهدت الطريق لانتشار حزب الليكود اليميني المتطرف بعد احتلال كامل أرض فلسطين في حرب ،1967 ما مهد وصوله إلى استلام مقاليد الحكم في العام 1977، وتحويل المجتمع الإسرائيلي إلى مجموعات من الأعراق والأحزاب والتيارات الدينية التي تغلغلت إلى نخاع القرار السياسي ما جعل الصحفي آفي المنتمي إلى اليسار الإسرائيلي والعامل في صحيفة هآرتس يشبه الحكومة الإسرائيلية بسفينة اختطفها الحارديم المتزمتون وهي توشك على الغرق.. فآفي وأخته كاتي نموذجان إنسانيان مختلفان يشاركان العمال المضطهدين في تنظيف المنزل، ويتناولان معهم الطعام بمودة وأريحية، ويتبادلان معهم همومهم بسرور وصدق، ويشاركونهم مشاركة وجدانية، ويجزلان لهم الإكرامية لإحساسهما بأن عاموس يسرق جهد عملهم ويتحايل على قوانين العمل، وهما أيضا يظهران فهما لمأساة الفلسطينيين وهموم المضطهدين الروس والفلاشا في إسرائيل. ولعل ما فاجأ بشيرا هو شخصية كاتي التي وجد فيها امرأة مختلفة عن استر، فهي النشيطة الودودة التي تلغي الحواجز النفسية بينها وبين الآخرين، والمباشرة في طرح أفكارها والملتزمة، فهي عضو في جمعية زوخروف، التي تعمل على التقارب بين الشعبين العربي والإسرائيلي، وتعمل على تذكير الإسرائيليين بمأساة الشعب الفلسطيني، وتناضل ضد شطب جذورهم في الوطن بتنظيم زيارات للمناطق المصادرة، وتذكير اليهود بالأسماء العربية للقرى والمواقع العربية التي تم تسميتها بأسماء عبرية مثل مدينة المجدل التي أصبحت أشكلون، وتبين كاتي مرارتها من ملاحقات المتدينين والعسكر، وخيبة أملها من عدم كسب ثقة الفلسطينيين وشكوكهم بدعاوي وأهداف الجمعية.

بين الخنوع ومواجهة الذات
تُرى .. ما السبب في موقف والدي بشير الشاذة واضطهادهم لزوجته، وتعامله المحايد البارد معها؟ وهل يعود إلى ذعره الدائم من قذفه وقذفها خارج بيت الأسرة، وحلمه الدائم بإستر الذي يكلل بالجبن كل مرة، وجفاءه جسد زوجته الراغبة كل مرة! وهو الذي يحافظ ما أمكنه على المساحة البيضاء داخله ويربأ بنفسه عن أفعال سليم وخالد وسليمان، ولكنه يمارس مثلهم التعويض بإقناع الآخرين ببطولاته الوهمية للهروب من عبوديته في سوق الابتزاز الإسرائيلي؟ فهل يتواطأ على نفسه بالوهم ليوازي انتصارات أمه وأبيه على زوجته خديجة وترخيص الآخرين وتحقير أمثال خالد الزبل الذي يتحايل على عبوديته باستثمار فضلات حاويات القمامة وعدم الخضوع لابتزاز أرباب العمل، وكذلك الغيرة من أبي الفضل الميسور الذي يتفاعل مع محيطه ولا يتواني عن تقديم الخدمات، ويوظف علاقته مع قريبه الموجود في تونس لمساعدة أهل المخيم بعد إغلاق المعابر إبان الانتفاضة، بينما يتصل أبوه بابن أخته عزيز لتحقيق مكاسب شخصية تمكنه من ابتزاز الجمهور وخداعهم؟ ويستحضر الراوي النموذج المغاير والصريح المتمثل في أسرة خديجة والذي يجعل بشيرا يعيد اكتشاف زوجته من خلال معايشته للترابط الأسري وتوزيع الأدوار الحقيقية ودور الأب الناصح والموجه، والأم التي توزع العمل بالتساوي وتنتصر لزوجة الابن، وتحتضن زوجة الابن السجين وطفلته وتحيطهما برعاية خاصة اعتزازا منها بدوره الوطني، وتوجه كل الأسرة لذلك لتدعيم صمود الأسير وتعوض زوجته عن غيابه. فهل قدم الراوي جبلة الأنا بسلبياتها وإيجابياتها بما يمكنها من الصمود في الصراع مع الآخر؟!!

وبعد:
فرواية (بشير وعاموس) رواية رؤيوية، تطرح الأسئلة حول مواجهة الآخر، وقد حشد لها الكاتب إمكانيات وأدوات الدخول في مغامرة القص، باختيار زوايا الالتقاط واختيار الأحداث والأمكنة والأزمنة ورسم الشخصيات في أدوارها بدقة، من خلال بنية تبدو واقعية تسجيلية في ظاهرها، ولكنها تلعب على تعدد مستويات اللغة، بتعدد أدوار السارد الواحد المتعدد، بالإخبار المباشر المحايد تارة وبالاستبطان تارة أخرى، وبالعصف الذهني عندما يأخذ السارد دور الموثق والمؤول المعتمد على حصيلة معرفية عميقة بالأنا، تبلورت بالمعايشة اليومية، وتعدد الإحباط خلال عقود من اللجوء والعزل والتغريب ومعاناة الهزائم الكثيرة والانتصارات المحدودة المؤقتة، الأمر الذي كرس قيما بديلة، وعلى جانب آخر محاولة المؤلف معرفة الآخر بإثراء المعرفة النظرية بالرصد الميداني،مما مكنه من الدخول إلى نسيج المجتمع الإسرائيلي والوقوف على عوامل الاختلاف والاضطراب فيه، في محاولة منه لإحالة القارئ إلى إعادة النظر في مفاهيم الصراع على ضوء ما تغير من مبادئ وأفكار، لفهم التطرف الديني في المجتمع الإسرائيلي، والتي ربما كانت وراء نهوض الأيدلوجيات الدينية في الأوساط الفلسطينية باتجاه فرض رؤاها بديلا عن الحالة الوطنية .. فهل يتوجس الكاتب من سوء الفهم، أو اختلاط الرؤية عند البعض فوجه روايته لمن يلغوا سن الرشد الوطني الذين يفتحون نوافذ العقل قبل الشروع في المحاكمة؟؟