يقدم الناقد المغربي محمد برادة قراءته المتميزة لرواية الروائي اللبناني إلياس خوري الجديدة (كأنها نائمة) لتفتح هذه القراءة الباب أمام اهتمام نقدي بهذا العمل الجديد.

(كأنها نائمة) ما مصير الحلم إذا انطفأ الحالم؟

محمد برادة

يستظل إلياس خوري في روايته الجديدة بأروقة النوم والحلم والموت وما بينها من علائق تجسّرها الاستعارات لتحيلها إلى فضاء روائي تنسج حواشيه اندفاعات الفانتستيك المخترقة للواقع المحدود، وتمويجات اللغة المتراوحة والمتواشجة في آن، بين تلقائية الكلام ونتوءات اللغة الفصحى المنحوتة في أشعار تخطت القرون لتندسّ في ثنايا نصّ سرديّ يعيد لتعددية اللغة وظيفتها الحيوية والممتعة. عبر ثلاث ليال، نتابع ميليا في (كـأنها نائمة) وهي تلملم ، تدريجاً، ما عاشته وستعيشه. ونرتاد معها عوالم متباينة تتصل بحكايات أسرتها اللبنانية آل شاهين، وبقصص عائلة زوجها منصور الحوراني الفلسطيني. والسرد قائم على الاستطراد أوعلى "الشيء بالشيء يذكر" كما قال القدماء؛ ولذلك يتكسّر التعاقب الزمني ويتلاشى السرد الخطّي ليصبح مجموعة نوَيات متحركة. يستحضرها سارد بضمير الغائب، ويضعها في مواقف وفضاءات لا تتقيد بالمألوف أو بمنطق ما هو" واقعي". من هنا، يغدو البعد الفانتستيكي هو سدى النص والجسر نحو توسيع دوائر الحكي والتخييل. ويتولّى حرف التشبيه "كأنّ" في عنوان الرواية، إحالتنا على مسالك التخييل في الرواية والتي اصطلح النقاد على تمييزها ب "كما لو..." التي تشعرنا بوجود تخييل داخل إطار التخييل الروائي؛ وما يستتبعه من تأكيد على أن أحداث النص تقع ضمن الافتراض، وأن لا مجال لمقارنتها بما يماثلها في "الواقع"؛ وبذلك ينتفي التقابل بين الكذب والصدق، بين الحقيقة ونقيضها.

ويسعف على هذا السرد "المتقافز"، الحلزوني، كون شخصية ميليا المحورية تتمتع بملكة خارقة تمكّنها من أن تبصر في مناماتها ما حدث أو سيحدث، وهذا ما يجعلها منجذبة إلى النوم كلما أرادت معرفة حقيقة الألغاز التي تكتنف مسار حياتها. لذلك يأتي حكيها (وكذلك السرد داخل النص) منزلقاً على حدّ تعبيرها: "الكلمات كانت وسيلة ميليا إلى الانزلاق: تنزلق من كلمة إلى أخرى، أو تنزلق في كلمة واحدة إلى مجموعة من الصور، ولا تعود قادرة على استعادة طرف الخيْط الذي يسمّونه بداية الحديث. لم يكن لخيْطها طرف، تحكي كمن يلفّ الخيطان وتتابع من دون أن تستطيع ربط الأشياء بعضها بالبعض" ص161. ينطلق السرد، إذاً، من ليلة زواج ميليا بمنصور ورحلتهما إلى شتورة لقضاء أيام عسل بفندق مسابكي في عزّ البرد والشتاء ... وما تحكيه ميليا تنقله عن أحلامها، فيأتي متقطّعاً، مشوباً بغير قليل من الوقائع الخارقة. إنها تسترجع محطات من طفولتها ومراهقتها وعلاقتها بخاطبيْن: وديع صاحب الفرن، ونجيب صديق أخيها سليم، قبل أن يعشقها منصور من أول نظرة، عندما رآها خلال إحدى زياراته لبيروت التي كان يتردّد عليها للتبضّع من أسواقها.

لا تستطيع ميليا أن تحدد سبب قٌبولها الزواج من منصور: هل لأنه يشبه أخاها الصغير موسى الذي تحبه؟ أم لأنه استحوذ عليها من خلال الأشعار القديمة التي كان يستعيرها ليتغزّل بها، ويلمس وتراً حساساً تيقّظ في نفسها أيام كانت تتردّد على المدرسة: "تشعر حين تستمع إليه أنه يأخذها، وأن الأشعار التي يرويها ترفرف حول عينيها وتضمّها في عالم سحريّ يصنعه صوتُ الرجل. قالت إنها تحب صوته، بُحة خفيفة مصنوعة من مزيج التّبْغ والقهوة، وانحناءة حنان مُوقعة على بحور الشعر العربي، وخُفوت مُبطّن بما يشبه المخمل." ص 235. عبر الليالي الثلاث، يتضافر السرد الارتدادي، الحلمي، ليرسُم أجواء الحب بين منصور وميليا وسمات الفضاءات الرّحبة، وتضاريس الأسرتيْن في بيروت والنّاصرة ... وعلى رغم التبايُن، هناك ما يجمع هذه الشخوص والحكايات: الانتماء إلى بلاد الشام الواسعة، إلى اللغة العربية وجمالية شعرها، وحضور المسيحية عبر نصوصها وأساطيرها وما نُسج من كرامات حول أنبيائها.

من ثمّ، فإن الشخوص لا تتحرك داخل أبعاد وسياقات بشرية مُحجّمة لأن الحدود لم تعُد توجد بين الواقعيّ واللاواقعي. هي، منذ المنطلق، شخوص تتدثّر بغلائل أُسطورية وتفيض بترميزات تمتدّ إلى فضاءات وخلفيات تاريخية متشابكة، يختلط فيها البشريّ بالإلاهيّ والعنف الأرضيّ بالألغاز الربّانية التي تندّ عن الفهم العقلي. ويطالعنا في بناء النص، تعارض لافت بين منصور وميليا: الأول، على رغم أنه يسكن الناّصرة، فهو حسيّ في نزوعه الحياتي، يتذوّق الطعام ويكرع العرق المقطّر، ويحفظ أشعاراً تشعل الحواس والوجدان، ويذوب داخل جسد محبوبته الفاتنة ... أما ميليا فهي متعلّقة بالرؤيا التي تُسعفها على مواجهة الشر وتمنحها القدرة على التعالي لبلوغ أقصى درجات الصفاء الروحي. وهذا لا يمنعها من أن تتفوّق في الطبخ وتعيش تجربة جسدها مع زوجها مستظلّة بخفر مثير وجميل. ما يميزها عن منصور، قدرتها على استدعاء الحلم لتتمكن من مواجهة الحياة وتبيُّن الزائف من الحقيقي: "..كانت ميليا تلعب مع نفسها لعبة المنامات، وحين لا تذكر منامها تواصل إغماض عيْنيها مُدّعية أنها نائمة في انتظار أن ترى شيئا يتّكئ عليه نهارها" ص78. عبر المنامات، شيدت ميليا فضاءات ومدارات شاسعة تتجوّل في أرجائها، لا فرق بين ماض وحاضر ومستقبل. إنها تستعيد لحظات من حياة جدتها حسيبة التي استعادت بكارتها بعد أن ولدت ابنها يوسف، وتستحضر قصة عشقها الغامضة للضابط الفرنساوي، وكذلك مغامرات جدّها سليم مع مريم المصرية، وعلاقتها هي بإخوتها الأربعة وبأُمها سعدى ... مشاهد من الماضي تتتالى بالتوازي مع "حاضر" ميليا ومنصور بعد أن سكنا الناصرة وتأكّد أنها حامل تنتظر صبياً بفارغ الصبر، وترفض الانتقال إلى يافا لتسكن مع أم منصور وزوجة أخيه الشهيد.

إن أحداث الفترة التاريخية المُنبئة، منذ 1947، بما كان المشروع الصهيوني يحضّر له من حرب وطرْد واحتلال، لا تكاد تندرج في صلب السرد، وإنما تظل ماثلة في الخلْف، نستشعر تأثيرها وفداحتها عبر إشارات قليلة لا تبْعدنا عن قصة ميليا ومنصور وعن المناخ الديني الأسطوريّ الذي سيضطّلع بوظيفة الترميز ومجابهة الأرضي للسماويّ. لكن كل هذه العناصر التي يعتمدها بناء نص "كأنها نائمة" لا تأخذ سمْتها ويكتمل شكلها إلا من خلال "الفكر الروائي للّغة" الذي هو حجر الأساس في هذه الرواية. والمقصود بالفكر الروائي للّغة، تلك التجليات التي تتمُّ عبر الحواريّة وتعدُّد مستويات التعبير، ووعْي الكاتب لتاريخ اللغة التي يستعملها وأبعاد المُتخيّل التي يُحمّلها للنص. وقد استطاع إلياس خوري أن ينجز تجاوُراً بين لغة الكلام والفصحى، بين لغة الذاكرة ولغة التواصل اليومي، بين رمزية اللغة وحرفية التعبير. والأمثلة كثيرة، نكتفي بحوار حول المتنبي دار بين ميليا ومنصور قبل أن ينشد لها أبياتاً تقول :
ومن لم يعشق الدنيا قديماً        ولكن لا سبيل إلى وصال
نصيبك في حياتك من حبيب    نصيبك في منامك من خيال

"حدثها عن أبي الطيب المتنبي، النبي الوحيد الذي تنبّأ شعراً. كل الأنبياء عجزوا عن كتابة الشعر أو خافوا من كتابته، إلا هو(...) "ومشي على وجه المي متل المسيح"؟ سألت ميليا. "لا، مشي على الكلام"، جاوبها منصور. "يعني مش نبي حقيقي"، قالت.
"ليش كل الأنبيا مشيوا على المي"؟ سأل منصور.
"شو بيعرفني"، قالت. ص, 148.

وهذا الاتجاه في توظيف اللغة من خلال مستويات متعددة ومتباينة هو مُكوّن أساس في معظم روايات إلياس خوري؛ إلا أنه يأخذ في هذا النص حيّزا كبيراً ويحقق متعة جاذبة. وأرى أن هذا التحقُّق اللغوي داخل الرواية يُمهد لإبراز علائق الشعر بالنثر وتفاعُله مع رموز النصوص الدينية في تعبيراتها الرؤيويّة: " يقفز(منصور) بين الأبيات، يعود إلى البيت الأول، ينزلق إلى البيت الأخير، يقدم ويؤخر، يعلو فوق الماء ويسقط فيه، كأنه يسبح. يقول إن الشّعر ماء وجسد المرأة ماء، والحب ماء، والله على عرش الماء، "وجعلنا من الماء كل شيء حيّ " ص 181. من هنا تتراءى إمكانات التصالح بين أُفقيْ منصور وميليا، كما يتبدّى اللقاء بين جمالية الشعر وروحانية الرؤيا الدينية المُتخلصة من الوعظ وإرغامات التلقين.

ولكن لاسبيل إلى وصال
لا تُسلمنا رواية: (كأنها نائمة) إلى دلالة معينة أو تأويل راجح، لأن طريقة صنع شعرية النص حريصة على استقلالية الرواية وتُوفر لها متعة متعالية عن المعنى المتّصل بسياق معين. مع ذلك، يلفت نظرنا حضور عاطفة الحب من خلال مستوييْن: مستوى بشري، حسيّ، تمثله قصة منصور وميليا؛ ومستوى رمزيّ يتغذى بالمنامات والشعر واستعادة قصص دينية تجللها الأسطورة والكرامات. ويكتسي المستوى الثاني لتجليات الحب والشغف كثافة مليئة بالإيحاءات لأن التملُّك من جديد لروحانية المسيحية تتمُّ عبر السخرية والانتقاد وتنسيب الاعتقاد. وهذا ما نجد له نموذجاً في كلام الراهبة الحاجّة ميلانة ومواقفها التي ترفض كل ما ينبض بالحسية أو ينضح بالشهوة والفتنة: "قالت الراهبة إن الشيطان يتسلل إلى المرأة لأنها تمتلك جسداً جميلا ومُكتملا." الله خلق المرأة مُكتملة لكنها اختارت النقصان، انظروا إلى ستنا مريم عليها السلام، هل كانت في حاجة إلى رجل كي تكتمل؟ طبعا لا، اكتملت بالروح القدس لأنها مكتملة أصلاً"
" بس مش كل النسوان مريم العدرا" قالت ميليا". ص,94.

ويضطلع الراهب طانيوس بدور انتقادي من خلال حديثه عن النسخة السريانية للإنجيل وتقديمه تأويلاً مُغايِراً لقصة إبراهيم الخليل مع ابنه إسحق ... كذلك، فإن اللجوء إلى التشكيك في الحقيقة المطلقة لبعض الحكايات والنصوص المسيحية، يعمل على "أنسنة" الشغف الديني وإدماجه في مدار الفهم البشري. لكنني أعتقد أن (كأنها نائمة) تطرح على القارئ، ضمنياً، سؤالاً عويصا يتصل بجوهر الرواية في وصفها جنساً تعبيريا: هل هي تعبر عن حيوات أشخاص فُرادى؟ أم أنها تلامس بالضرورة، "رواية العائلة" وفضاءات التاريخ؟ وهذا سؤال يطرحه إلياس في روايته (يالو) على لسان هذا الأخير: "هل حين أكتب عن حياتي يجب أن أكتب عن جدي وأمي وأبي، أم أن حياتي تخصني وحدي؟" ص,299. وفي (كأنها نائمة)، على رغم أن دعامة الرواية تقوم على قصة حب بين منصور وميليا، فإن الموضوع لا يكتسب تميُّزه وحضوره إلا من خلال فضاءات أرحب تلامس "رواية العائلتين" وتحيل على فترة تاريخية وتعاليم وأناجيل وأشعار وكرامات واعتقادات كلها تغدو بمثابة أنا ـ أعلى يتسرّب إلى المتخيّل الروحي والاجتماعي للفئات التي تنتمي إليها شخوص الرواية.
بقوْل آخر، فإن العلاقة بين التاريخ الشخصي والتاريخ العام للشخوص الروائية تأخذ أهمية كبيرة، لأنها تتيح الوقوف على الطبيعة الصراعيّة بين الأنا والعالم، بين الذات والوسط الاجتماعي والثقافي قبل أن يتمكن الشخص من بناء فرديته المميّزة.

ونجد في مسار كُلّ من ميليا ومنصور ما يُجسد تعارُضاً بين التاريخ الشخصي والتاريخ العام، ويؤشّر على بُعد مأسويّ يتمثل في حضور الموت واستمرار العطش على رغم وصال الأجساد. لا شك في أن إلياس خوري قد وُفّق إلى أن يفسح المجال أمام المُقتضيات اللعبية التي يستدعيها السرد وإغراءات لغة الكلام المكتوبة برهافة وحذاقة؛ وبذلك جعل روايته تقاوم المعنى الجاهز وتُحقق متعة قِرائية أولاً قبل أن تُشرع الأبواب أمام تأويلات تتعدّى الآنيّ إلى مجال الذاكرة والتأمل في تلك المناطق "الروحية" واللاشعورية التي تؤثر خلْسة في تشكيل جزء أساس من وجداننا. ونحن نقرأ (كأنها نائمة) لا نستطيع أن نقاوم سطوة ميليا الحكائية واسْتدراجها لنا إلى عوالم المنامات التي تجعل الأشياء تتبدى في تجليات متباينة. لكنها وهي تقترب من ولادة طفلها، باتت حريصة على أن تُوازن بين الحلم واليقظة، وغدتْ مُتلهفة على أن تلمس جسده الصغير وتستقبل صيحته الأولى ... غير أن الوصال يتلاشى في اللحظة التي يهلّ المولود على العالم، لأن ميليا فارقت الحياة. عندئذ نتذكر ما قاله نيتشه: "حين يستيقظ النائم ينطفئ الحلم، لكن عندما ينطفئ الحالم ماذا يصير الحلم؟ ".

نعم، ما مصير الحلم إذا مات الحالمون أو تعبوا أو قنعوا بما هو قائم؟

المغرب ـ بروكسل
* إلياس خوري، (كأنها نائمة) بيروت، دار الآداب، 2007.