تعود "الكلمة" لنشر مادتين من الصحافة العربية: الأولى منشورة سنة 1928 في "العصور" وتناول خطة إصدار مجلة "الرابطة الشرقية". أما المادة الثانية فمأخوذة من "مجلة الجديد" سنة 1929، ومحبرة بقلم علي عبد الرازق يرد فيها على نقد الشيخ رشيد رضا السلفي.

مجلة الرابطة الشرقية

أثير محمد على

في عددها لهذا الشهر تنشر مجلة "الكلمة" الإلكترونية مادتين من الصحافة العربية. نشرت المادة الأولى سنة 1928 في مجلة "العصور" لصاحبها اسماعيل مظهر (1891-1962)، وهي عبارة عن تقديم لخطة مجلة "الرابطة الشرقية" الناطقة بلسان الجمعية التنويرية التي تحمل نفس الاسم. أما المادة الثانية فمأخوذة من صفحة صدى الصحافة في "مجلة الجديد" سنة 1929، ومحبرة بقلم محرر مجلة "الرابطة الشرقية" علي عبد الرازق (1887-1966) يرد فيها على الشيخ رشيد رضا (1865-1935) صاحب "المنار"، ومريديه السلفيين من منتقدي مجلته وما يدور في فلكها الفكري والأدبي والفني والعلمي. إن حفريات حوليات الجدل الفكري والسياسي بين قطبي "الرابطة الشرقية"، ورصيفاتها من دوريات صحفية أخرى كـ"جريدة السياسة" لمحمد حسين هيكل (1888-1956)، وبين "المنار" تعود لمراحل تاريخية سابقة: تتجذر في القرن التاسع عشر وتتفرع في عقد العشرينات الذي دخلت فيه مصر القرن العشرين بخطوات حثيثة مع تمثال نهضة مصر(1919). ويمكن القول أن الصراع المعرفي بين المجددين والقدماء استمر ليمسح سنوات العشرينات بتقلبات حادة بعد ثورة زغلول 1919، وإعلان دستور 1923، ومن ثم إلغاء الخلافة الإسلامية في تركيا من قبل مصطفى كمال أتاتورك سنة 1924.

من هنا ليسب بمستغرب أن تأتي علمانية كتاب "الإسلام وأصول الحكم" (1925) لعلي عبد الرازق وسط موج السخط على سقوط الخلافة، ودعوة الأزهر لمؤتمر يبحث في مسألة الخلافة في محاولة لجرّها نحو الديار المصرية بتقليد الملك فؤاد بردتها وطقوسها السياسية السلطوية. لعل حيثيات الاتهام التفتيشي من قبل المحافظين وتشكيكهم بهوية مؤلفي "الإسلام وأصول الحكم"، وكتاب "في الشعر الجاهلي" (1926) لطه حسين يربط بين الاثنين في قضية واحدة. وفيما يبدو أن مؤثر ذلك المناخ الاتهامي التكفيري وتضييق الحريات الفكرية، انعكس على حراك ونشاط لغة الجرائد المجددة إيجاباً بالتحدي، فظهرت مجلة "العصور" لاسماعيل مظهر (1927)، و"المجلة الجديدة" لسلامة موسى (1929) كامتداد للتيار التنويري في مواجهة السلفية. إضافة إلى أن ظهور مجلة "الرابطة الشرقية ترافق مع كتاب "اليوم والغد" لسلامة موسى. من جانب آخر لا يفوتني هنا التنويه إلى أن إصدار مجلة "الرابطة الشرقية" تزامن مع تأسيس تنظيم الإخوان المسلمين على يد حسن البنا (1906-1949) تلميذ الشيخ رشيد رضا. سياسياً، ظهرت مجلة "الرابطة الشرقية" (1928) في خضم الصراع على السلطة بين القوى الليبرالية المتعاركة على الحياة البرلمانية والمؤيدة لدستور 1923، وبين القصر والقوى المحافظة التي عملت على توسيع سلطات الملك، واستطاعت إبطال دستور 1923 ووضع دستور 1930 على قياس الملك الفضفاض.

لقارئ الكلمة نترك ترجيع محاولة تنويرية هامة في تاريخ الثقافة العربية كي نتأمل معاً بين الأمس واليوم:

 

الرابطة الشرقية

وردت إلى مجلة العصور (ع. 14، مج. 3، القاهرة، اكتوبر 1928)  نشرة من اللجنة التي تقوم على إصدار مجلة الرابطة الشرقية هذا نصها:

مجلة الرابطة الشرقية: تتشرف اللجنة التي وكلّ إليها تدبير مجلة "الرابطة الشرقية" بأن تضع تحت نظركم ذلك البيان الوجيز تقرؤون فيه شيئاً عن غاية المجلة وموضوعها ومنهجها، ولعلكم ستجدون منه أن الغاية التي انتدبت المجلة لها من النبل والشرف، بحيث ينبغي أن تحلّ في كل قلب نبيل شريف، ومن العزة وبعد المنال بحيث ينبغي أن يتعاون على السعي لها جميع القادرون ممن يؤمنون بمبدأ العمل لعظمة الشرق وسعادة الأمم الشرقية. غاية خالصة لا يشوبها مس من نزعات الهوى والغرض، ولا ميل إلى وجه من وجوه الربح والتجارة، ولا اعتبار لمعنى من معاني المنفعة والكسب. ولكن دونها عمل كثير، وبذل كريم وصبر جميل لوجه الله تعالى وفي سبيل الشرق والشرقيين.

باسم هذه الغاية النبيلة العزيزة التي نشعر بأنها رابط بينكم وبين المجلة وثيق، ومبدأ مشترك رفيع، وعهد أكيد، نتقدم إليكم بمجلتكم "الرابطة الشرقية" علماً بأنكم ستكونون لها نعم المولى ونعم النصير.

(عن اللجنة: علي عبد الرازق)

*     *     *

نبهت حوادث العالم في تاريخه الحاضر كثيراً من علماء الشرق وقادة الرأي فيه إلى أن الأمم الشرقية أصبحت أحوج ما تكون إلى أن تتصل بينها الروابط، وتتمهد لها أسباب التعارف والتقارب. كان الشرق في حاجة إلى ذلك منذ القدم، منذ انقسم العالم إلى أمم شرقية وغربية منذ كان الشرق شرقاً والغرب غرباً. وكان المتقدمون من دعاة الإصلاح في العالم الشرقي يشعرون مثلنا بهذه الحاجة، ويدعون إلى العمل على سدها، إلا أن هذه الدعوة لم يقدر لها أن تتوطد على نظام ثابت، وقواعد محكمة، لذلك كانت تتقلب على تقلبات الأيام فتظهر حيناً وتخفى، وتضعف آونة وتقوى. لكن إحساس الشرقيين بتلك الحاجة قد أصبح اليوم أقوى منه في كل ما سلف من العصور. وأدرك العاملون على نهضة الشرق أنه قد آن لهم أن يقيموا الدعوة إلى الرابطة الشرقية على ما ينبغي لها من أساس متين ونظام محكم.

لذلك اجتمع في مصر سنة 1341 هجرية سنة 1922م أفذاذ من رجال الشرق العاملين على إصلاحه. وبعد التشاور فيما بينهم أسسوا جمعية دعوها "جمعية الرابطة الشرقية" "يكون غرضها نشر علوم الشرق وآدابه والبحث في شئونه، للعمل على ترقية شعوبه وتكوين صلة تعارف بين أرباب الرأي والقلم منهم على اختلاف أجناسهم، لتبادل الآراء والمعلومات في هذا السبيل. ثم لتكون رسول سلام وتعارف بين الأمم الشرقية، التي لها من سوابق تواريخها المجيدة، وحضارتها القديمة، وتقاليدها القويمة، ومدارك أفرادها العالية وموارد ثروتها الثمينة ما تستطيع به أن يخدم بعضها بعضاً، وأن تتضامن في سبيل إسعاد المجتمع الإنساني وتربيته لخير جميع الأجناس والأديان".

شعرت جمعية الرابطة الشرقية منذ نشأتها بأنه لا مناص من أن تكون لها مجلة خاصة تخدم أغراضها وتنشر مبادئها وتعينها على الوسائل التي تريد انتهاجها. لكن حالة الجمعية وظروفها في الماضي لم تكن لتسمح لها بالتفكير الجدي في إصدار المجلة على الوجه الذي يليق. ثم أراد الله، وله الحمد، أن تتغلب الجمعية على تلك المصاعب التي كانت تعترضها، فلذلك قررت بجلسة 7 ذي القعدة سنة 1346 (27 ابريل سنة 1928) أن تصدر مجلة تدعى "الرابطة الشرقية" ووضعت لها نظاماً تسير عليه، واختارت لجنة تقوم بتدبيرها مؤلفة من ثلاثة أعضاء.

 

برنامج المجلة

الغاية التي تعمل المجلة لها هي، في الجملة، إزالة ما يمكن إزالته من الفوارق غير الطبيعية التي أقيمت سداً بين الأمم الشرقية وبعضها، ومحاولة التقريب بين هذه الأمم، حتى يتيسر لها أن تتعارف، فإذا ما تعارفت تآلفت، وإذا ما تآلفت تساندت وتعاونت، وإذا ما تساندت وتعاونت استطاعت أن تعيش حرة قوية، وضمنت لحياتها أن تكون سعيدة كاملة، ولمدنيتها الناهضة أسباب الرقي والنجاح، فيتساوى عند ذلك الشرق والغرب، ويصبح كلاهما عضداً للآخر في مجال العمل النافع لخير البشرية كلها.

وسوف لا تألو المجلة جهداً في التماس تلك الغاية بكل الوسائل التي تناسب ما لذلك المقصد الكريم من نبل وشرف. فتحاول أن تتبع بعناية كل مظاهر الحياة الشرقية وعناصر نهضتها، وما يكون ذا أثر قريب أو بعيد في مدنية الشرق، فتتخذ من ذلك كله موضوعات لبحث حرّ ونزيه يشترك فيه أهل الرأي البصيرون، ممن يعنيهم أمر النهضة الشرقية، عسى أن يتضح سبيل الخير والشر، ويتميز وجه النافع والضار، دون أن تقف المجلة في ذلك موقف المتعصب لأمة ولا طائفة ولا دين ولا مذهب. تريد المجلة في جميع الأحوال أن تقف موقف السفير الأمين الذي يحاول أن يزيل ما قام بين أمم الشرق من حجب وعقبات ليرى بعضها بعضاً، ويسمع بعضها بعضاً، فتتعارف، فتتقارب، فتصبح بنعمة الله إخواناً.

 

موضوع المجلة

تعنى المجلة بكل ما يكون ذا علاقة بنهضة الشرق أو مؤثراً في مدنيته، وبكل ما يساعد على تمكين العروة بين الشرقيين. لا تتقيد بناحية من البحث دون ناحية، ولا موضوع دون موضوع، ما دام ذلك داخلاً في حدود أغراضها، ومتصلاً بمظهر الحياة الاجتماعية في الشرق. والمجلة حريصة، من أجل ذلك، على تنكب المباحث التي لا يكون فيها ما ينفع مبدأ الرابطة الشرقية ولا يمس الشئون الحية في أمم الشرق. وكذلك تحرص المجلة على مجانبة الأبحاث التي لها علاقة بالمنازعات الدينية، والخلافات المذهبية. فإن التعرض لمثل هذه الأبحاث في الشرق خطر يخشى أن يغتال كل دعوة إلى تقارب الشرقيين وتواصلهم. تلك دعوة يجب أن تأخذ سبيلها بعيداً عن كل ما يثير حزازات النفوس، ويحرك نزعات العصبية. وتتجنب المجلة الخوض أيضاً فيما قد يعرضها لفتن السياسة، فلا تتناول المباحث السياسية إلا من نواحيها العلمية البريئة.

 

الموضوعات التي تعنى بها المجلة بنوع خاص هي:

1)    المباحث العلمية.

2)    الاجتماع.

3)    الاقتصاد.

4)    الأدبيات والفنون الجميلة.

5)    الأخبار والحوادث المشتملة على ما يكون له اتصال خاص بموضوع المجلة.

6)    الإشارة بقدر ما يمكن إلى ما يظهر من الكتب والمباحث، التي يكون لها ارتباط بموضوع المجلة مع تلخيص المهم منها ونقده.

7)    درس حالة التعليم في الأمم الشرقية المختلفة.

8)    جماعة الرابطة الشرقية، بنشر قراراتها وأهم أخبارها ومباحثها وتلخيص المحاضرات التي تلقى بها.

ويشترط فيما تتناول المجلة من المباحث، بوجه عام، أن يكون مفيداً لأمم الشرق، ومتصلاً بحياتها الحاضرة، وألا يكون فيه ما يثير خلافاً دينياً أو سياسياً.

 

نصراء المجلة

تعتمد المجلة، في أداء واجبها وتحقيق أغراضها، على المساعدة التي ترجوها من أعضاء الرابطة الشرقية، وكل من يتفضل بمناصرتها والكتابة لها في حدود موضوعاتها من شرقيين ومستشرقين.

 

مراسلو المجلة

تتخذ المجلة، تدريجياً، في كل جهة من أهم الجهات الشرقية وغيرها مراسلين يوافونها بالأنباء، ويكتبون في موضوعاتها، ويستكتبون من ذوي الرأي والمكانة في بلادهم من يرون في كتابتهم نفعاً للشرق وللمجلة.

 

اشتراك المجلة:

رأت اللجنة، مؤقتاً، أن تظهر المجلة مرة كل شهرين، وأن تكون قيمة الاشتراك السنوي خمسين قرشاً صاغاً في مصر، وستين في الخارج، تدفع سلفاً. وأن ترسل المجلة مجاناً إلى حضرات أعضاء الرابطة الشرقية.

 

عنوان المجلة

المخاطبات غير المالية تكون باسم "لجنة الرابطة الشرقية بشارع سامي رقم 26 بالمالية بمصر". والمعاملات المالية تكون باسم "حضرة صاحب السعادة أحمد شفيق باشا" بالعنوان المتقدم.

 

لجنة المجلة

الرئيس: السيد عبد الحميد البكري.

مدير المجلة: أحمد شفيق باشا.

المشرف على التحرير: الأستاذ علي عبد الرازق.

(مصر، القاهرة 17 صفر سنة 1347/ 5 أغسطس سنة 1928)

 

صدى الصحف

بين الرابطة الشرقية والمنار

صدر العدد الثالث من مجلة الرابطة الشرقية، التي يقوم على تحريرها العالم المحقق الأستاذ علي عبد الرازق، غنياً بكثير من المقالات القيمة والبحوث الممتعة كالعددين السابقين. ولما كانت الرابطة الشرقية مع حداثة عهدها قد حلت في العالم العربي مقاماً حسدها عليه أولئك الأوغال، الذين لا يريدون أن يظهر غيرهم في هذا الوجود على ضعة نفوسهم وسوء منبتهم، فقد أعلن الحرب عليها أستاذ عرف بين المتجرين بالأديان باسم الشيخ رشيد رضا، فصمدت له في هذا العدد، وأصلته نارها بالكلمة الآتية، ننشرها الآن ليطلع قراء الجديد على هذا النوع من الأناسي، ولعلموا كيف يكيد المرتزقة من الصحفيين للأشراف الذين لا يبتغون إلا وجه الله والعلم الصحيح.

 

نحن علي عبد الرازق وصاحب المنار رشيد رضا

بين الشيخ رشيد رضا صاحب المنار وبين المشرف على تحرير مجلة الرابطة الشرقية خصومة قديمة العهد معروفة، ولقد كان يحسن بهذه الخصومة أن تبقى بعيدة عن عمل لا شأن له بها، وعن أناس لا يعنيهم من أمرها كثير ولا قليل، ولكن الشيخ رشيد يأبى إلا أن تتغلب على أعصابه ومشاعره تلك الخصومة، وتملأ عليه مشاغله وأوقات حياته، فهو لا يبرح متأثراً بها في جليل أعماله وصغيرها، وفي خاصها وعامها، كأنهما صغرت نفس الشيخ رشيد وضاق صدره حرجاً بتلك الخصومة، فهو لا يرى في الوجود غيرها، ولا يشعر إلا بها، أو كأنما كبرت في نفسه تلك الخصومة حتى ملأت عليه فجاج الأرض وسدت في وجهه منافذها.

أما المشرف على تحرير هذه المجلة فقد عرف لهذه الخصومة حقها وأراد أن يقف بها عند حدودها، فلا يخلط بها ما ليس له بها صلة، ولا يلقى أعباءها على أناس لا ينبغي أن ينالهم من عبثها شيئ. وأما الشيخ رشيد فإنه لم يستطع أن يصون نفسه عن التورط في تلك الخصومة وإثاراتها في غير موطنها، ولم يستطع أن يتخلص في وقت من الأوقات من سلطان الحقد والضغينة عليه، فإذا هو يستقبل خبر هذه المجلة بغمر المشرف على تحريرها والطعن فيه من قبل أن يظهر العدد الأول منها. ومن قبل أن يعرف منهجها وأسلوبها. لم يستطع الشيخ رشيد أن يحيي الإعلان عن مجلة الرابطة الشرقية، ولا أن يستقبلها بكلمة صالحة غير أن يقول: "نحمد الله أن آن إصدار هذه المجلة التي قررنا إصدارها من أول العهد بإنشاء الجمعية ولكن نخشى أن يظهر فيها شيئ من شذوذ المراقب الذي يسوء جميع المسلمين كدفاعه عن الترك، وثنائه على خطة حكومتهم في نبذ الإسلام وراء ظهورهم ومحاولة إزالة كل أثر له في شعبهم، ولكن الرجاء في سماحة الرئيس وسعادة الوكيل أن يحولا دون ذلك، فالمراقب لا بد له مراقبة".

ظهر العدد الأول من المجلة فلم ينظر الشيخ رشيد إليه إلا من وراء الدغل والسخيمة، غطى على سمعه وبصره غشاوتهما، ولم يشعر إزاءه إلا بما يأكل قلبه من خصومة المشرف على التحرير، فكتب ينتقد العدد الأول، وما ينتقد في الحقيقة إلا شخص المشرف على تحريره، وما يقول عن العدد الأول من مجلة الرابطة الشرقية إلا حديثاً مكرراً من حديثه، الذي رمى به المشرف على التحرير من قبل قال: "صدر العدد الأول من مجلة الرابطة الشرقية فإذا هي مجلة تؤيد ما يسميه ملاحدة هذا العصر بالتجديد اللاديني وتحرير المرأة المسلمة، وتدافع عن الترك والفرس والأفغان فيما يحاولونه من تجديد يهدم الإسلام على احتراس قليل من التعبير هو أقرب إلى الدفاع عن مصطفى كمال وأمان الله خان منه إلى الهجوم عليهما، وينبئ عن الخشية عليهما من الفشل لا من تمنيه لهما".

قرأنا هذا الكلام فضحكنا وقلنا رجل لا يفتح عينه إلا رأى المشرف على تحرير هذه المجلة، ولا يرهف أذنه إلا سمع المشرف على تحرير هذه المجلة. وهو لا يقدر ولا يفكر ولا يقرأ إلا رأى المشرف على تحرير هذه المجلة وأصحابه وأصدقاءه ينوشون عقله وقلبه وحسه من قريب ومن بعيد، ينغصون يومه، ويؤرقون نومه، ويطيلون همه ويمدون غمه، ويفسدون عليه كل شيئ، فهو كما قال الشاعر:

مازلت تحسب كل شيئ بعدها   * * *    خيلا تكر عليكمو ورجالا

والأشباح التي تخيف الشيخ كثيرة ومختلفة الأنواع، تأتيه من فوقه ومن تحته وعن أيمانه وعن شمائله. فمصطفى كمال يفزعه، وأمان الله خان يروعه، وشاه الفرس يزعجه، ودعوة التجديد تخرجه عن طوره، وما أقل ما يستقر الشيخ في طور. ولكن، هذه الأشباح ملحة عليه تكاد تقض مضجعه. ألم تر إليه ينكر على العدد الأول من هذه المجلة أنها لا تتمنى الفشل للفرس والترك والأفغان، كأنما أنشئت هذه المجلة لتتمنى الفشل للأمم الشرقية الناهضة، ولتقطع ما بينها من صلة يجب أن توثق وتدمر ما فيها من أمل يجب أن يشيد، وتثبط ما فيها من عزيمة يجب أن تقوى، وتحارب على الاجمال ما فيها من نهضة حياة يجب أن تجتمع الجهود على نصرها وتأييدها وتوجيهها إلى الخير وقصد السبيل.

والشيخ رشيد محرف للكلم عن مواضعه، وكأنما قد خلق الله نفسه معوجه كلسانه، لا يمر بنفسه المبدأ الصحيح والمذهب القيم حتى يفسد ويتلوى، كما لا تجري على لسانه الكلمة المستقيمة حتى تقبح وتتشوه. وأوضح دليل على ذلك أن يحتكر فلسفة الأستاذ الإمام ودعوته إلى الخير والإصلاح، فإذا هذه المضيئة الحية الحرة قد مرت برأس الشيخ رشيد، فظهرت في آثاره مظلمة ناشرة للظلمة، ميتة باسطة لسلطان الموت، جامدة مسرفة في الدعوة إلى الجمود. وإذا هو يتمنى الفشل للأمم الإسلامية الناهضة، ولو قد عاش الأستاذ الإمام وشيخه جمال الدين. ولو قد رأيا مثل هذه النهضة في الأمم الإسلامية لكانا بذلك أسعد الناس وأشدهم غبطة. ولاطمئنا ورضيا واستقبلا جوار ربهما سعيدين بأن جدهما لم يذهب سدى، وبأن جهدهما قد أتى ثمره يانعاً طيباً. وإذا الشيخ رشيد أشد الناس إسرافاً في تكفير المسلمين وتفسيق الصالحين. والاحتكام على الله عز وجلّ في الثواب والعقاب.

ولو قد عاش الأستاذ الإمام فرأى الشيخ رشيد يسئ إلى كلمة الله هذه الإساءة لأسرع إلى ما بينه من سبب فجذمه في غير أناة ولا فتور. وكيف وقد كان رحمه الله أشد الناس بغضاً للتكفير والتأثيم ونفوراً من رمي الناس بالإلحاد والخروج على الدين. ضحكنا من الشيخ وأعرضنا عنه وما أكثر ما نعرض عنه من لغو القول.

ولكن العدد الثاني من مجلة الرابطة الشرقية قد ظهر، فلم يكد ينظر فيه حتى أخذته الصاعقة ودارت به الأرض، وخرّ عليه السقف من فوقه ولم لا؟ ألم تتمثل له هذه الأشباح التي تخيفه وتفزعه وفيها الترك والفرس والأفغان حية قوية الحياة، ناهضة سريعة النهضة، مجددة حريصة على التجديد؟

أليس بعض هذا يكفي ليذهب بصواب الشيخ رشيدّ أوليس المشرف على تحرير هذه المجلة ينشر أخبار هذه الأمم الحية الناهضة، فيفسر ويعلق ويتمنى الفوز ولا يتمنى الفشل، ومن حوله أصحابه وأصدقاؤه يرون نهضة الأمم الإسلامية فيدرسونها ويفسرونها ويحاول كل منهم أن يوجهها إلى قصد السبيل؟ أليس يعد ذلك كافياً ليكفر الشيخ رشيد نفسه ثم ليكفر الناس؟! وذلك ما فعل الشيخ رشيد: أسرع إلى هذه المطية المنكرة التي يوغل بها في الشر ويوضع بها إلى الفتنة، أسرع إلى مطيته المنكرة وهي قلمه، فرمى عالمين من علماء الإسلام هما صاحبا الفضيلة مصطفى عبد الرازق وأحمد أمين بالإلحاد واللادينية لماذا؟ لأن أولهما كما يقول الشيخ رشيد "شقيق المشرف عل تحرير المجلة"، ولأن الثاني فيما يظهر صديق للمشرف على تحرير هذه المجلة. كأن الاتصال بالمشرف على تحرير هذه المجلة بصلات الرحم أو المعرفة قد أصبح مصدر اللادينية!

ومن عجيب الأمر أن ينكر هذا الشيخ على الأستاذ مصطفى عبد الرازق أنه أظهر أهل الشرق على رأي جماعة من علماء الغرب فيهم في أمانة وصدق، دون أن يظهر رأيه الخاص في هؤلاء الناس وما يرون. كان من الحق عليه ألا ينقل رأياً حتى يبين حكمه عليه ورأيه فيه. أما الأستاذ أحمد أمين فلم ينكر عليه إلا اسمه، وأنه يرى من الخير للشرق أن يجدّ في الأخذ بأسباب المدنية الغربية. ولكن وراء الأكمة ما وراءها. فنحن نعرف ماذا ينكر على هذين الأستاذين ينكر عليهما قبل كل شيئ أنهما من العلماء الذين يسمع الناس لهم في غير شك ولا ريبة ولا تظنن، وأن لهما من الوجاهة العلمية والدينية ما ينقطع دونه (نستغفر الله بل دون بعضه) نياط قلب الشيخ. وينكر على أولهما بنوع خاص أنه كان أشد الناس اتصالاً بالأستاذ الإمام، وأنه ورث علم الأستاذ وفلسفته ودعوته إلى النهضة، وأنه ظل في الدعوة إلى طريقة الأستاذ ماضياً مخلصاً مستقيماً، لم يفسد عليه الأمر في ذلك ضعف، ولا طمع ولا رغبة، ولا رهبة، ولا خور، ولا تهالك على حطام هذه الدنيا، يلتقطه من هنا ومن هناك، يذل في سبيله نفسه. ويبيع في سبيله دينه وضميره، وأنه فوق هذا كله أعلم الناس برأي الاستاذ الإمام في هذا الشيخ وأمثاله من الأدعياء، وأقدر الناس على أن يظهر هذا الرأي فتكسد يومئذ بضاعة، وتخيب يومئذ آمال، وتضمحل يومئذ عزائم.

ويصل الدعي إلى الدكتور هيكل بك، وللدكتور هيكل بك صحيفة سيارة، ونفس الدعي جزعة خوارة، وقد طالما جرحته "السياسة" بأنياب وأضراس فهو لا يمس الدكتور هيكل إلا مساً رفيقاً. ورأى شيئ ينكر على هيكل؟ ينكر عليه أن ينتظر أن يبعث من الشرق روح ديني يصلح الغرب في مستقبل الأيام، كما كان الأمر في الماضي. ولم يذكر هيكل ديناً جديداً وإنما ذكر ديناً قد يكون الإسلام. وهنا روى الشيخ رشيد عن السيد جمال الدين حديثاً إن صح ألزمه الحجة وأقام عليه البرهان، وإن لم يصلح – وما نخاله صحيحاً – كان دليلاً جديداً على أن الشيخ رشيد يكذّب أيضاً على السيد جمال الدين.

زعم الشيخ رشيد أن السيد جمال الدين كان يقول: "إذا أردنا أن نقنع الأوربيين بحقيقة الإسلام وإصلاحه وجب أن نقنعهم قبل كل ذلك بأننا لسنا مسلمين".

أسمعت؟ أوعيت؟ كان السيد جمال الدين إذاً يكفر الأمة كلها ويقرّ على نفسه بالكفر! فإن يكن هذا صحيحاً فالذين يدعون إلى التجديد إنما يريدون أن يخرجوا الأمة من هذا الكفر الذي أقر به عليها جمال الدين، وما يزال يتبعه في ذلك الشيخ رشيد، هم يريدون أن يردوها إلى الإسلام صحيحاً سمحاً كما خرج من منجمه ونجم من معدنه. ولكنا نعتقد أن السيد جمال الدين لم يقل هذه الكلمة المنكرة، وقد كان أطهر نفساً وأذكى قلباً وأبصر بالصواب من أن يرمي أمة محمد (صلى الله عليه وسلم) بالكفر والإجماع على الضلال، إنما هو نزع الشيطان جعل الشيخ يتورط في الإثم، ويورط معه فيه أئمة الدين والهداة إلى الحق: كذب على السيد جمال الدين، كما كذب على الأستاذ الإمام وكما يكذب على الله نفسه عزّ وجل حين يصل إلى الدكتور طه حسين فينكر عليه أنه يريد أن يختص علماء الدين بالوعظ والدعوة إلى الله، وأن يتركوا الدينا لأهل الدنيا، فيزعم أن الله قد خلق الوظائف المدنية وغيرها من شؤون الدنيا لعلماء الدين، ويستدل على ذلك بآيات كل ما تدل عليه أن الله أباح للناس أن ينتفعوا بكل ما خلق لهم. فمن أنكر هذا وأي صلة بين هذا وبين انصراف علماء الدين عن الوظائف المدينة وشؤون الدنيا إلى الله؟ ولكن الشيخ رشيد لا يريد أن ينصرف علماء الدين عن الدنيا لأنه يحسب نفسه عالم دين ولأنه يريد أن يأخذ بحظه من الدنيا، وهل يعيش الشيخ رشيد إلا للدنيا؟ وهل يطلب الشيخ رشيد حظه من الدنيا إلا من طريق الدين؟

وينكر الشيخ على المجلة أنها نشرت للأستاذ سلامة موسى مقالاً عن الحضارة في الشرق والغرب دعا فيه صاحبه إلى إيثار الحضارة الغربية، ومس فيه نظام الميراث الإسلامي، وسوء نية الشيخ في هذا ظاهرة، فالأستاذ سلامة موسى مسيحي يعرف الناس جميعاً منه ذلك، متطرف في نزعته إلى التجديد وقد يعرف الناس منه ذلك أيضاً، وقد أخذت مجلتنا نفسها بأن تكون لساناً للشرقيين جميعاً لا نفرق بين أديانهم وأجناسهم، كما أنها لا تنصر جنساً على جنس، لأنها مجلة إخاء لا مجلة تفريق. ومن حق الشرقيين جميعاً عليها أن تنشر لهم آراءهم القيمة ومباحثهم ما لم يتجاوزوا فيها حدّ الأدب والقانون. وهي حين نشرت مقال الأستاذ سلامة موسى لم تتجاوز أن قامت بواجبها الذي فرضته على نفسها كما أنها لم تبح لنفسها أن تتجاوز الانصاف فعلقت على هذا المقال وبرأت من تبعته ووضعت الأمر في نصابه. وكان الذي وضع الأمر في نصابه ودافع عن نظام الإرث الإسلامي للدكتور منصور فهمي الذي يراه الشيخ من دعاة اللادينية. ولكن الشيخ رشيد أحرص على الإسراف في سوء النية من أن يعرف للمجلة وللدكتور منصور إنصافهما وإقرارهما الأمر في موضعه.

وبعد فلماذا يريد الشيخ رشيد إلى هذه المجلة وأصحابها والذين يكتبون فيها؟ فإن كان يريد أن تكون نسخة من المنار وأن يكون أصحابها وكتابها صوراً من نفسه، فالمجلة وأصحابها وكتابها أكرم على أنفسهم وأحب للشرق والحق من أن يتورطوا في ذلك، وهم إنما يجدون ويكتبون ويبذلون ما يبذلون من جهد ليستنقذوا الشرق من أناس فيه لا يدعون إلى خير ولا يريدون إلا النفع، ولا يبتغون من الدين والعلم إلا أخس أغراض هذه الحياة، وإن كان يريد من هذه المجلة وأصحابها وكتابها أن ينظروا إلى هذه النهضة الشرقية نظرة من يقدرها ويريد أن يؤيدها ويوجهها إلى قصد السبيل فذلك ما فعلوا وما سيفعلون. وخليق بالشيخ رشيد أن يتبعهم في ذلك إن استطاع.

هذه سبيل المجلة ستمضي فيها راشدة إنشاء الله ولأنف الكاشح الرغم.

(الجديد، ع. 47، القاهرة، 4 مارس 1929)