يكشف الباحث العراق في تناوله المفصل لكتاب مهم عن جانب من المسكوت عنه في الدراسات العربية عن الآخر الفارسي، وكيف يرى الفرس جارهم العربي. ويجيء السؤال الاستنكاري في العنوان الفرعي الذي اراد الباحث فيه مساءلة الكتاب «أهي منصفة؟» ليكشف لنا الكثير عن موضوع قلّت عنه الكتابات النقدية الجادة.

صورة العرب في الأدب الفارسي

أهي منصفة؟

وليد محمود خالص

منذ أن نشر الأستاذ عبده وازن مقاله عن كتاب الباحثة جويا بلندل سعد (صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث) في صحيفة (الحياة) 26/3/2008، وأنا أجهد في الحصول على نسخة منه حتى ظفرت بها، وحالت حوائل الزمن دون الكتابة عن الكتاب، والتنويه به، والاشارة الى مضامينه الثمينة التي نفتقدها بحقّ في دراساتنا العربية فقد بلغت المؤلّفة الغاية في توظيف المنهج العلمي وآليّاته وهي تتعامل مع موضوع صعب شائك ذي حساسية مرهفة معتمدة على جمهرة واسعة من المصادر يقف في مقدّمتها أعمال الأدباء الفرس أنفسهم، وهي تستقي من أعمالهم نصوصها التي تخدم الموضوع، وتجليه تجلية باهرة، ولنا عودة الى هذا الأمر الخطير. ومعلوم أنّ ما تحتفظ به المكتبة العربية عن صورة العرب لدى (الآخر) ليس بالقليل، ومن هذا الكثير كتب مثل (صورة العرب في الأدب اليهودي المعاصر) يوسف يوسف. دار القلم. دمشق. سنة 2000، و(صورة العرب في صحافة ألمانيا الاتحادية) سامي مسلم، مركز دراسات الوحدة العربية، سنة 1985، و(صورة العرب في الصحافة البريطانية) حلمي خضر ساري. ترجمة عطا عبد الوهاب. مركز دراسات الوحدة العربية. سنة 1988، وغيرها. وهذا باب في التأليف أفلح فيه مؤلفوه في كشف جوانب عن تصوّر الآخرين للعرب، ورؤيتهم لهم، وينضوي هذا الأمر تحت ما أستطيع تسميته ب (النقد الذاتي) ولعلّي أستعير شيئا من عنوان ذلك الكتاب الشهير للأستاذ صادق جلال العظم وهو (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، وتبيّن تلك الدراسات ما اكتنف صورة العرب من جوانب الانصاف أو التحامل، والموضوعية أو التعصّب، والاعتراف أو المحو الى جوانب أخرى تكشف بجلاء موقع العرب في تلك (المراكز) سواء أكانت أدبيّة أم سياسيّة، أم اجتماعية، مع اليقين بأن ذلك كلّه جسم واحد لا ينفصل عضو منه عن الآخر، وان برز قسم على حساب الأقسام الأخرى.

ومن هنا يأتي هذا الكتاب حلقة في تلك السلسلة الطويلة التي لم تكتمل حلقاتها بعد، اذ تطرح الباحثة على مدى فصولها الثلاثة التي سبقتها مقدمة ضرورية، وتلتها خاتمة، أقول تطرح الباحثة من خلال جسم الكتاب كلّه تلك القضية المحورية التي يلتبس الدين فيها بالسياسة، والتعصّب العنصري بتغييب أي دور للعرب في عوامل النهضة التي شهدتها فارس على مدى قرون متتابعة حتى ولو من نافذة الدين الذي أتى به العرب، وأصبح الفرس بموجبه مسلمين شأنهم شأن الأمم الأخرى غير العربية. ولا يكتسب هذا الكتاب أهميته من مضمونه الخطير فحسب بل من موازنته مع بعض الدراسات الأخرى التي اضطلعت بشىء قريب من موضوعه اذ يظهر البون الواسع بينه وبينها من حيث التزام الموضوعية، والجرأة في التصريح بالحقائق العلمية المستندة الى النصوص، وتضييق مساحة (المسكوت) عنه، ليتحرر البحث من ربقة عوامل خارجة عنه ولن يبقى عند ذاك سوى البوح الحق، وهذا هو عين ما نتطلبه من البحث المنهجي، ونخص بالذكر عمل الباحثة نسرين هاني الدهني، الموسوم (استقبال الأدب الفارسي المعاصر في الوطن العربي) وهي رسالة ماجستير لم تطبع، تقدّمت بها الباحثة الى قسم اللغة العربية-كلية الآداب والعلوم الانسانية – جامعة دمشق. سنة 2006، وهي تحت اشراف د.عبده عبود ود. محمد علي أذارشب، ومن هذه (العتبة) الأولى للنص – كما يحلو لاخواننا المغاربة أن يسمّوها – وهي اسم المشرف الثاني نستطيع تلمّس ما سيكون عليه توجّه الرسالة العام، غير أن (العتبة) وحدها لا تكفي منهجيا بل لابد من الدخول الى النص والسباحة في فضائه.

فنرى (الرسالة) تعتمد أسلوب الحياد، وتتجنب الدخول في القضايا الشائكة سواء أكانت سياسية، أم عرقية أم مذهبية، وتختار من النصوص تلك البعيدة عن تلك القضايا، وهذا من أهم مشاغل (المسكوت عنه) كما هو معلوم، وتولي اهتمامها فقط للأساليب، والبنى اللغوية، والأشكال. فحتى مثلا عندما تقترب من روائي فارسي شهير هو صادق هدايت (1903-1950) الذي تصفه الباحثة جويا بلندل سعد بأنه «يمقت العرب، ويمقت الاسلام أيضا، لأنه يقترن بالعرب»(ص59)، ويصبّ على رؤوس العرب سيلا من الأوصاف فهم شياطين، وقتلة، وغزاة، وقساة، ولغتهم بغيضة في صلبها، أقول، حتى حين تقترب من صادق هدايت تبدو القصديّة واضحة في موقفها من حيث التغييب التام لكل ذلك لتنتهي الى وصف روايته (البومة العمياء) بأنها من «أفضل الروايات الايرانية المعاصرة في رأي أكثر النقاد الأوروبيين، والايرانيين على حد سواء»(ص291)، وتعتمد الباحثة الدهني في واحد من مصادرها على دراسة للباحثة ثريا محمد علي عنوانها (المسرحية التاريخية في الأدب الايراني الحديث) وهي في الأصل رسالة جامعية تقدّمت بها الى كلية الألسن. جامعة عين شمس، سنة 1996، اذ لاحظت الباحثة الدهني «وجود لغة سوقية في الحوار – أي حوار المسرحيات – مليئة بالسباب المقذع» الذي استنكرته، في حين أنّ الباحثة جويا بلندل سعد لا تتردد في التصريح بأنه واقع على (العرب) بالطبع، ومع ذلك لا تشير الباحثتان الى هذا الأمر البتّة، وهذه واحدة من آيات (الحيادية) التي تلبس لبوس المنهج العلمي لتصمت، غير أن الصمت نفسه ينطق بأشياء وأشياء.

غير أنها تقدم فائدة تنفع قارىء الأدب الفارسي في حديثها عن الشاعرة فروغ فرخزاد (1934-1967) حين تنقل نصا من المقدمة التي كتبها الباحث المغربي د.ادريس بلمليح للترجمة التي قام بها الأستاذ محمد اللوزي لديوانها (تشرق الشمس)، يكتب الدكتور بلمليح: «ان الشاعرة تستند الى الشعور الحاد بالغربة والضياع ... فيتولد عن ذلك ادراك حاد لضعف الواقع ووحشيته ... وهذا راجع الى أن الشاعرة مسلمة وشيعية» (ص177)، وتعلق الباحثة الدهني بقولها: «بينما في الواقع لم تكن فروغ شيعية ولا مسلمة، بل كانت مسيحية»، ولا يمكن أن نعزو هذه الأحكام الّا الى التعجّل، والتسرّع في اطلاقها بلا تثبّت، ولا نريد الاطالة في تلك الموازنات، وحسبنا منها ما سبق لتبيان اهمية هذا الكتاب الذي يصفه الاستاذ عبده وازن بقوله: «يلقي كتاب صورة العرب في الادب الفارسي الحديث ضوءا ساطعا على زوايا مكثت مستورة ومجهولة او شبه مجهولة لدى القاريء العربي، وقد نجحت الباحثة فعلا في رسم تلك الصورة المهتزة للشخصية العربية كما تجلت في الادب الايراني الحديث في تناقضاتها كافة سلبا وايجابا» (صحيفة الحياة، 26-3-2008)، ومن هنا يتجدد الاهتمام به في هذه الصفحات.

تولّي الباحثة جوليا بلندل سعد وجهها في المقدمة شطر مجموعة من القضايا المحورية التي تمهد بها لموضوعها الرئيس، وهي قضايا سياسية، واجتماعية، وثقافية مرت على المجتمع الايراني في القرنين التاسع عشر والعشرين، وساعدت على تشكيل مزاجه العام، وذائقته الجمعية مما انعكس بامتياز على النخبة، وبعد هذا على رؤيتها الادبية، ومواقفها الفكرية، وهذا ما نستطيع تلخيصه بمفردة واحدة هي «الأرينة»، وهو المصطلح الذي تختاره الباحثة نفسها، غير أن نزعة الأرينة، أو النزعة القومية المتعصبة التي صبغت الأدب الفارسي أقدم من ذلك بكثير، وتقدم نصين أحدهما من (شاهنامة) الفردوسي (ت 411 أو 416 للهجرة)، وثانيهما من (سفرنامة) لناصر خسرو، (توفي سنة 1088 للهجرة)، وفي هذين النصين يرد ذكر العرب صراحة مقرونا بأوصاف لا تختلف كثيرا عما سنراه في القرن العشرين فهم «لصوص، وجوعى، ومجرمون، وجهلة، وعراة»(ص19) على حدّ قول ناصر خسرو، وهم أيضا على لسان رستم مخاطبا سعد بن أبي وقاص: «على من تنشد الانتصار، أنت أيّها القائد العاري لجيش عار ... من حليب النوق والسحالي جاء العرب، الى ها هنا طامحين لعرش كياني. أليس في وجوهكم حياء»(ص18).

ونتفق مع الباحثة من أنّه «لا يمكننا أن نفرد الشاهنامة بوصفها عملا معاديا للعرب بكليته، اذ هناك بعض الصور الايجابية فيها» (ص18)، غير أن نصوصا أخرى وردت فيها تعمّق الرأي الأول وهو ما لم تشر اليه الكاتبة، مما حدا بالدكتور عبدالوهاب عزام ناقل الشاهنامةالى العربية الى القول اننا «لا نجد في الشاهنامة أثرا من هذا التقريب الاسلامي، وهذا برهان على أن الكتاب احتفظ بالعنعنات القديمة، ولم يشبهها بما اخترع بعد الاسلام الّا قليلا»(الشاهنامة، الترجمة العربية 1/90)، ونكتفي من تلك النصوص بنص واحد جاء على لسان رستم أيضا على هيئة بيتين من الشعر: وترجمتهما هكذا: «قد بلغ الأمر بالعربي من شرب لبن الابل، وأكل الضباب الى الطموح الى تاج الكيانين فأف لك يا فلك السماء»(الشاهنامة، الترجمة العربية، 1/89)، ويعلّق الدكتور عبدالوهاب عزّام بقوله: «ثم يذكر الفردوسي العرب في أمور غير ذات خطر حتى تذكر وقعة القادسية ... وهنا يرى القارىء سخط القصة على العرب، وتحقيرهم، والمبالغة في وصف فقرهم، وهمجيتهم ... وفي هذا يتجلّى ما ورثته العنعنات الفارسية عن وقائع الفتح الاسلامي من النفور والبغضاء»(الشاهنامة، 1/89) ويقول الدكتور طه ندا: «أمّا العرب فكانوا على عداء مع الايرانيين، ولمّا كان الضحّاك- أحد شخصيّات الشاهنامة – شريرا، مكروها عند الايرانيين اعتبرته الشاهنامة دخيلا وعدته من العرب»(دراسات في الشاهنامة، ص287)

ومن الضروري التوقف هنا بتفصيل عند أمرين نراهما مهمين لتجلية الصورة، وهو ما لم تتعرض له مؤلفة الكتاب، وكلا الأمرين محتاج الى دراسة منفصلة لا يتسع مجال هذا البحث لهما، ويتمثل أول الأمرين فيما ذكره الأستاذ عبده وازن في مقاله المشار اليه سابقا من أن «القرون الممتدة من الرابع الهجري الى الثامن شكلت حقبة من الاخاء الثقافي وشهدت علاقة وطيدة بين الأدب العربي والأدب الفارسي الذي راح ينهل من القرآن الكريم واللغة العربية، وسطع حينذاك نجم شعراء فارسيين كبار، ما برحوا يملكون حضورهم العالمي في العصر الحديث ومنهم: عمر الخيام، وسعدي الشيرازي، وحافظ الشيرازي، وجلال الدين الرومي ... لم يظهر هؤلاء الشعراء أي عداء للعرب بل هم امتدحوا الاسلام والحضارة العربية، وقد طعّموا بعض قصائدهم بأشطر عربية. هذه المسألة لم تشر اليها الباحثة ولم تولها اهتماما على رغم أهميتها ونموذجيتها» (صحيفة الحياة)، وما ذهب اليه الأستاذ وازن حقّ في مجمله من حيث اغفال الباحثة لهذه المسألة، وتجنّب الخوض فيها، وكان من الضروري الاشارة اليها ولو اشارة عابرة لأهداف منهجية، وأقول انّ ما ذهب اليه الأستاذ وازن حقّ في مجمله مرة أخرى، والّا فان من ذكرهم من أولئك الشعراء العظام لم تخل اشعارهم تماما من تلك النزعة الضيّقة، ولا يستبين هذا الّا عند التدقيق، والتفتيش الصابرين، ولعلّ غلبة (التصوّف) بتسامحه، وآفاقه الواسعة، وفضائه المترامي سبب رئيس في تخفيف تلك النزعة الضيقة، واختفائها تحت ركام من المواجيد، والحديث الذاتي الصرف، والانشغال بخلاص الروح، ويتأكد هذا لدينا اذا علمنا أن أغلب من ذكرهم الأستاذ وازن ان لم يكونوا كلهم متصوّفة كلّ على طريقته.

أمّا الأمر الثاني فهو أشدّ خطورة، وأكثر حساسيّة لتلبّسه بصيغة مذهبية، ومجيئه على هيئة يراد منها أن تنضوي تحت الاسلام، ولم نتمكن من التنبّه اليها لولا آليات القراءة الحديثة التي أسعفتنا أيّما اسعاف، فقد كانت تلك النصوص تمرّ سابقا وهي ملتحمة بسياقاتها بلا أدنى التفات لها، وكأنها جزء لا يتجزأ من ذلك الكل الذي يراد بناؤه، ويتمثل هذا الأمر في تلك الكتب التي ألّفت في عصور متأخرة، وحوت خليطا من الأحاديث، والأخبار، والروايات، والتراجم، فكأنّها لكثرتها، وعظم ما ورد فيها من مادة أشبه بصحراء مترامية الأطراف يضلّ فيها الدليل الخبير، وانّما نشير الى تلك الكتب بحسبان كونها التراث الفكري الذي نهل منه الكتّاب المحدثون، وكان عاملا مهما في تشكيل أفكارهم، وتوجيه رؤاهم، ونكتفي هنا بالتوقّف عند كتابين نالا شهرة واسعة هما (روضات الجنّات) و(بحار الأنوار)، أمّا الأول فهو (روضات الجنّات في أحوال العلماء والسادات)، ومؤلّفه هو محمد باقر بن زين العابدين الخوانساري الأصفهاني المتوفى سنة 1313 هجرية-1895 ميلادية، وقد طبع هذا الكتاب بثمانية أجزاء كبار، وهو يصنّف ضمن كتب التراجم، وقد نهج فيه مؤلّفه نهجا انتقائيا صرفا من حيث اختيار الأعلام الذين ترجم لهم مخالفا بذلك عنوان الكتاب نفسه الذي جاء مطلقا بلا تقييد، وتتسرّب بين ثناياه عبارات التنقّص من العرب، والحطّ من شأنهم، وخصوصا الخلفاء العبّاسيون الذين كانوا محط انتقاده اللاذع المرّ، وكأنه يذكّرنا بما كان يصف به ناصر خسرو صاحب (سفرنامة) الذي سبق ذكره الخليفة العبّاسي هكذا على الاطلاق بـ(الشيطان العبّاسي)، وقد لاحظ الأستاذ جورج طرابيشي في كتابه (هرطقات 2) هذا الأمر حين نقل نصوصا طويلة من روضات الجنّات تصب جميعها في هذا المجرى، وهذا يؤكد ما أشرنا اليه، وكما ذهبت سابقا من أن هذا الموضوع محتاج الى فضل نظر واستقصاء.

أمّا الكتاب الثاني فهو (بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار) لمؤلفه محمد باقر المجلسي المتوفى سنة 1037-1699، وهو أقدم زمنا من الخوانساري كما هو واضح، وقد طُبع ب(110) مجلّدا، ويقول الباحث المدقق د.علي الوردي انّ الخوانساري «كان ... شديد التعصّب لعقيدته ولا يتسامح مع أيّة عقيدة مخالفة مهما كانت، وقد أغرى الدولة باضطهاد جميع المخالفين الذين كانوا موجودين في داخل الحدود الايرانية كالسّنيين، والمتصوّفة، والمجوس، واليهود، والنصارى، ولم يسلم منه حتى الفلسفيين اذ اعتبرهم من أتباع الاغريق الكفار» (لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث، 1/76)، وقد انعكس ذلك التعصب في كتابه، ونال منه العرب الشيء الكثير، ومن خلال (الحفر) العميق للنصوص يتمكن الباحث من التوصّل الى نتيجة خطيرة مفادها أنّه قدّم صورة لآل البيت الذين عقد الكتاب برمّته لهم، لم تكن - في أحسن الأحوال - طيبة، أو كريمة تليق بهم وكان من المفترض أن يقدّمهم بهيئة تتناسب مع مقامهم الرفيع عند المسلمين جميعهم، ولم يكن الدافع لذلك سوى كونهم عربا أقحاحا لا غير، وقد التفت الى هذه القضية المفكر الايراني علي شريعتي في كتابه (التشيّع العلوي والتشيّع الصفوي)، ووقف عندها مطولا محاولا كشف غبش الرؤية التي تصيب القارىء الذي يكاد يضيع في متاهة النصوص الكثيرة التي ساقها المجلسي في كتابه، أمّا العرب – هكذا على الاطلاق – فقد نالوا على يده من الظلم، والحيف ما يطول الحديث عنه، ونسوق نماذج قليلة ممّا ورد في كتابه عن خروج المهدي المنتظر (القائم)، يكتب: «اذا خرج القائم لم يكن بينه وبين العرب الا السيف» و «يقتل في المدينة ألفا وخمسمائة قرشي» و«اتقوا العرب فان لهم جبر سوء. أما انه لم يخرج مع القائم منهم واحد»، و«ويل لطغاة العرب من أمر قد اقترب»، وغير هذا من الأحاديث التي يطفح بها الكتاب مع كتب أخرى نقلت عنه، وأفادت من نصوصه (ينظر تفصيل هذا الأمر في كتاب د.عدنان زرزور، السنّة النّبوية وعلومها، ص325 و 326 و 468 و 469، مع مصادره).

ولكي تستقر الآلية المنهجية نرى لزاما أن نقف عند وجهها الآخر وهو الاعلاء دوما من شأن الفرس، ووضعهم في مكانة عالية لا يطاولها شعب من الشعوب فـ«بين هؤلاء الأقوام والأمم ليس هناك قوم أرقى وأعظم من الايرانيين، وبطل الايرانيين رستم ليس له نظير بين أبطال العالم»(دراسات في الشاهنامة، د.طه ندا، ص288)، و«كان من عادة الايرانيين الزواج بالمحارم والجمع بين الأخوات ومصاهرة غيرهم من الأمم، ولكنهم – فيما يبدو – كانوا يأنفون من تزويج نسائهم من الشعوب الأخرى»(القصة في الأدب الفارسي، د.أمين بدوي، ص224). وحتى ماء زمزم لم تسمّ بهذا الأسم الّا بسبب زمزمة الفرس عليها (الشاهنامة، 1/90)، ويتعدّى الأمر ذلك كلّه ليصل الى الايمان بالدين الجديد (الاسلام) اذ لم تؤمن به أغلبية العرب، وقريش كلّها بينما «آمنت به العجم، فتلك فضيلة العجم»(السنّة النبوية وعلومها، د.عدنان زرزور، ص469)، ولعلّه قد تبيّن لنا بعد ذلك كلّه أن المشاغل الفكرية بوجهيها الظاهر، والمستتر كانت تتحرك باتجاهين مقصودين: الحطّ من العرب، ورفع شأن الفرس، فكأن الاتجاهين أشبه باللازم والملزوم على حد قول المناطقة لا يتحقق الأول الّا بالثاني والعكس صحيح، وهو ما وجّه الكتّاب المحدثين بوعي أو بلا وعي الى تلك النتيجة الحتمية التي تمتح من ذلك التراث كما سنرى بعد قليل. وأعيد هنا ما ذكرته سابقا من الحاجة الى دراسة منفصلة لهذا الكتاب، وغيره من الكتب وفق المفهوم الجديد للقراءة كي تنجلي الصورة بوضوح، ولم نرد بما سقناه من شواهد عن هذين الكتابين الّا الاشارة الى أنّ الموقف من العرب من لدن المؤلفين الايرانيين هو أقدم بكثير من القرن التاسع عشر، والقرن العشرين، وهو مما لم توله الباحثة عنايتها لمعرفة الجذور التي يستند اليها من كتب في تينك القرنين.

وقد حاولت الباحثة أن تتلمّس طريقها للمنبع الذي حدا بالكتّاب الايرانيين الجدد سلوك هذا الطريق في رواياتهم، وأشعارهم، فنراها تعود بنا الى تنامي نزعة (القومية الايرانية) التي أطلّت بقوة في القرنين التاسع عشر والعشرين، وسؤالها الحضاري عن سبب تخلّف ايران، وتقدّم الغرب، وهنا ينبري مفكّرون، وكتّاب للاجابة على ذلك السؤال (النهضوي)، فاذا بالعرب ينالون النصيب الأوفر من أسباب ذلك التخلّف. يكتب ميرزة آغا خان كرماني (1853-1896) أنّ «ايران ساسانية، واخمينية دمّر حضارتها البداة المتوحشون» (ص17)، والاسلام «دين غريب فرضته على الأمة الآرية النبيلة أمّة ساميّة، هم حفنة من آكلي السحالي الحفاة العراة. بدو يقطنون الصحراء. انّهم العرب المتوحشون» (ص17)، وتؤكد الباحثة أن ما قرّره كرماني في النص السابق يشكّل «نمطا شائعا في الثقافة الايرانية التي ضمّت في ثناياها صورا سلبية للعرب اكتسبها الايرانيون من خلال سيرورة التربية والتعليم» (ص17)، واستمرت هذه الصورة بعد استيلاء رضا شاه بهلوي على السلطة سنة 1921، وذلك «ببذر الشعارات الفارسية القومية، والدعاية الفكرية التي هدفت لاستعادة أمجاد الامبراطورية العتيقة لما قبل الاسلام، والتي لا علاقة لها بايران الاسلامية الحديثة» (ص23)، وقد أثمرت تلك الخطوات عن نتائج ملموسة من آياتها «تمجيد ايران ما قبل الاسلام، والديانة الزرادشتية، وعبقرية العرق الآري، ولعن العرب والمسلمين لتسبّبهم في انحدار ايران من العظمة التي كانت عليها ابان مرحلة ما قبل الاسلام، كما انتقصت من موقع الاسلام ودوره ورجال الدين في المجتمع ... كما كانت اللغة الفارسية شأنا مركزيا لايدولوجيا النظام بوصفها أساس المشاعر القومية، ومصدر الفخر الثقافي ... وتجلّى ذلك في اصلاح اللغة بغية ازاحة الكلمات الأجنبية خصوصا المفردات ذات الأصول العربية ... وسعي النظام البهلوي الى تغيير الهوية الاثنية للشعوب غير الفارسية في ايران» (ص23-24)، وقد أطلنا في الاقتباس لنبيّن التحولات الكبيرة التي أحدثها النظام في بنية المجتمع ولغته، ممّا انعكست آثاره بقوّة على الأدب الفارسي كما سنرى.

وبعد استيلاء الثورة الاسلامية على السلطة سنة 1979 حدثت «بعض التغييرات في السياسة الرسمية التي تتصل بالأقليات القومية ... ولكن في الوقت ذاته قمعت الجمهورية الاسلامية، وبشدّة الحركات السياسيّة التي قام بها العرب، والبلوش، والأكراد، والتركمان في بداية الثمانينات» (ص28)، وانتهت الحوصلة النهائية لما سبق كلّه الى (تفريس) ايران على حد قول الباحثة من خلال تقديم تعريف جديد للفارسي، والايراني في مقابل غيره من الأعراق، فالفارسي «بوصفه شخصا لسانه الأم اللغة الفارسية، وينتمي على عكس الأتراك، والعرب، وغيرهم الى شعب ايران»، أمّا الايراني «بوصفه من أهل ايران، أي مواطن من ايران»، و«تتضمن هذه التعريفات أن الفرس، والايرانيين ليس لهم حدود مشتركة، اذ يمكن للعربي، أو التركي أن يكون ايرانيا لكنّهم لا يمكن أن يكونوا فرسا» (ص29)، وتعتمد الباحثة في تينك التعريفين على اللغوي علي أكبر دهمذا في كتابة (لغة نامة) الذي يضيف واصفا «طبيعة العرب بأنهم شعب يستجر العزة من ماضيه، ومن عرقه، شأن كل الشعوب المتخلّفة» (ص29)، وتأسيسا على ما تقدّم بدأت تشيع مقولات تختصر تلك الخطوات مثل «أن ايران التي صارت مسلمة فانها لم تتعرّب» (ص30) و«ان جبن الايراني لم يكن مسؤولا عن هزائم الماضي، بل جبروت القوة العسكرية للعدو، أو فساد الملكية»(ص31).

ولم تسلم حتى شخصية علي بن أبي طالب من هذا المدّ الكاسح. تكتب: «لقد كان علي عربيا بالطبع ... ولكن أصول علي العربية لا تناقش اطلاقا، فالرسومات واللوحات في ايران تصوّر علي ايرانيا وسيما» (ص32)، وكأن مناقشة ما ورد سابقا لن يكون فيه سوى التمحّك الذي لن يجدي فتيلا بسبب ابتعاد تلك المقولات عن الواقع التاريخي، والمنطق المستقيم وكأن هناك «عقلا جمعيا» بدأ يتشكّل، وتبرز معالمه ليشمل سائر مرافق الحياة عماده ذلك الذي فصّلنا الحديث عنه فيما سبق، ولعلّ ما كتب عنه فرويد في كتابه (علم نفس الجماهير وتحليل الأنا) الذي نقله الى العربية جورج طرابيشي، أقول، لعلّ ما ساقه فرويد في كتابه ذاك ينطبق بامتياز على الحالة الايرانية الجديدة بحسبان «أنّ الجمهور النازع الى كلّ ما هو متطرف لا يتأثر الا بالتحريضات المشتعلة، ومن يبغ التحريض عليه، فما به حاجة الى أن يعطي حججه طابعا منطقيا، وانما حسبه أن يقدّم صورا صارخة الألوان، وأن يبالغ ويغلو، وأن يكرّر الشيء ذاته من دون انقطاع»، وهذا الجمهور «عظيم التأثر بالقوة السحرية للكلمات القادرة تارة على اثارة أعنف العواصف في النفس الجماعية، وطورا على تهدئتها وتسكينها»، ولا ينسى فرويد القيادة التي هي دماغ ذلك كلّه، فالأمر محتاج الى «زعيم يتمتّع ببعض الكفاءات الشخصية ... وهو نفسه مفتون اللب بايمان عميق بهذه الفكرة ليتمكّن من توكيد الايمان لدى الجمهور ... وذو ارادة قوية قادرة على تحريك الجمهور المتجرّد من الارادة»، ولا مناص من الاشارة الى الفرد في خضمّ هذا الطوفان الذي يتغير تغييرات عميقة تصل الى نشاطه النّفسي وعند ذاك «تتضخّم عاطفته تضخّما مسرفا في حين يتقلّص نشاطه الفكري وينكمش، وانكماش الفكر لدى الفرد يتم باتجاه تماثل كلّ فرد من الجمهور مع نظيره وسائر الجمهور» (كتاب فرويد السابق في مواضع مختلفة)، وانّما أطلت من الاقتباس من فرويد لنتمكّن من تقديم تفسير منطقي لهذا الانتشار الذي سنراه لموضوعات معيّنة في الأدب الفارسي الحديث، والحاح الجمهرة من الكتّاب عليها.

تخصص الباحثة فصلها الأول لـ(كتابات الرجال، آراء الرجال)، وتختار منهم خمسة هم محمد علي جمال زاده المولود سنة 1892، وهو كاتب نثري وصاحب مقالات، وصادق هدايت (1903-1951) أشهر كتاب ايران في القرن العشرين، وصادق جو باك المولود سنة 1916، وهو قاص وروائي، والشاعرين مهدي اخوان ساليس (1929-1990)، ونادر نادر بور المولود سنة 1929، وقد برزت (ثيمة) العرب في كتابات أولئك الأدباء بشكل واضح على تفاوت فيما بينهم من حيث الغزارة أو الندرة. ولكنّ الخيط الرفيع الذي يسلكهم في منظومة واحدة هو العداء للعرب، والعربيّة، والتنقص منهم، وتقديمهم بصورة متدنيّة تماما، فجمال زادة «يقرن الآخر العربي بالوشوشة الدينية والتخلّف» (ص43)، و«العربي في الصحراء يأكل الجراد مثلما يشرب كلب أصفهان المياه المثلّجة» (ص40)، ومع أن أصول زاده عربية «لكنّه لا يعدّ نفسه عربيا بأي حال من الأحوال» (ص41)، أمّا صادق جوباك فلا يرى في العرب سوى لصوص (ص60)، ويقرن العربية بـ«رائحة طلاء، وزيوت كريهة، والأكفان، والقبور» (ص62)، كما انّ أولئك العرب قد «دمّروا الحضارة الايرانية العظيمة ولم يستطيعوا استبدالها» (ص64).

ولا يكمن السّبب الّا في «اخضاع العرب المسلمين لإيران الذي هو أصل الأسباب في الهمّ، والتغريب الاجتماعي والفردي» (ص64)، ولهذا فان «العرب أحطّ من الكلاب» (ص71)، وتحوصل الباحثة رأي جو باك في الموضوع برمّته فهو لا يرى الآخر العربي الّا «منافقا، دميما، ومتوحشا، والذات الايرانية هزمها وخرّبها النفاق السّامي في هيئة الاسلام» (ص73)، ونكتفي من مهدي اخوان ساليس بهذه القطعة الشعريّة التي تقول أشياء كثيرة:

رغم الفساد الأوروبي في أيامنا هذه

والذي يلعب آلاف الخدع، والذي يقوم بغزوات متكررة

فان قذارة العرب وعارهم أكثر بشاعة

والأكثر تدميرا هو هذا البلاء القديم

مهما كثر مديحه ومهما كان خيّرا وجميلا

مهما كان نقيّا وصوت الحق

هذا الشيطان العربي القديم قد غزا ولا يزال

قتل ودمر ولا يزال (ص76-77).

ولا يختلف نادر نادر بور عن سابقه في رؤيته التي يقدّمها للاسلام والعرب، فـ«الاسلام أكثر من أيّ دين آخر يخصّ شعبا، الشعب العربي» (ص80)، والعرب «أشرار، متوحشّون، ولا يمتّون الى البشرية بصلة، وتتلخّص ثقافتهم بصور الدماء، وانتفاء العقل والقمر» (ص84)، ويكرّر النبرة ذاتها من حيث انّ العرب «وحوش، وغرباء، متطفّلون، دمّروا الحضارة الايرانية التقليدية» (ص83)، وأخّرنا صادق هدايت لسبب منهجي، اذ لا يخلو عمل من أعماله سواء أكانت قصّة، أم رواية، أم مسرحية من التعرّض للعرب، والتنقّص منهم حتى أنّ الباحثة لم تجد وصفا له سوى أن تقول: «يظهر هدايت بأنّه ممسوس بالعرب» (ص50)، وتتلاحق صور العرب في أعماله، وتتكاثر حتى يظنّ القارىء أنّ أولئك العرب شغله الشّاغل، وهمّه المستديم، ولا ننس الاسلام، والعربية فقد نالا على يديه الشيء الكثير، فـ«العدو الحقيقي للثقافة الايرانية، وسبب مشكلات ايران كلّها هو الاسلام والعرب» (ص49)، والعرب «الذين كانوا يركضون حفاة خلف السحالي ليس بامكان المرء أن يجد في رؤوسهم أي فكر فنّي» (ص51)، وهم «موبوؤن، وقذرون، وبشعون، وأغبياء، وليس فيهم ذرّة من حياء. جلودهم سوداء» (ص51)، و«حتى لغتهم بغيضة في صلبها» (ص52). ويركز هدايت «كراهيّته على الآخر العربي على وجه الخصوص، ويكره الاسلام بقدر أكبر لأنّه عربي» (ص52)، وتنتهي الباحثة الى القول: «من الصعوبة بمكان أن نجد كتابات أكثر تشويها، وأكثر عنصرية من كتابات هدايت» (ص59). ولا نرى حاجة للاطالة في التعليق، فالنصوص تتحدّث عن نفسها بصراحة، ووضوح متناهيين، وكأن الجميع ينطق بلسان واحد، مستندا الى خلفية تاريخية، يحكمه «عقل جمعي» أشرنا اليه فيما سبق.

وتجعل الباحثة الفصل الثاني لـ«كتابات النساء، آراء النّساء»، وتختار ثلاثة هنّ الشاعرة فروغ فرخ زاد (1934-1967)، وطاهرة سفرزاده (1936- )، والقاصّة الروائية سيمين دانش فشار (1921- )، وتبدأ بالأولى لتنتهي الى أن «قصائدها تخلو من أي صورة للعرب» (ص86)، اذ «لم يتسن لها سوى قليل من الاحتكاك مع العرب في الأهواز» (ص87) ولكنّها تلتفت الى نقطة محورية فيما يخصّ العرب، ففي (خوزستان) التي يشكل العرب جزءا منها «لم يكن من السهولة تحديد جنسيّتهم لأنّهم كانوا مجبرين على تعلّم اللغة الفارسيّة، وعلى ارتداء البذلات والملابس الغربيّة» (ص88)، ولن يهدينا النّص السابق بعد تفكيكه الّا الى سياسة المحو العرقي التي مارستها السلطة لـ«تفريس» المجتمع، وانضواء القوميّات الأخرى بشكل قسري تحت طائلة ذلك «التّفريس»، ومن جهة أخرى فان فرخ زاد في بعض قصائدها الاجتماعية «تنتقد على نحو جلي مؤسسة الاسلام» (ص89)، ومن الصعب ردّ هذا الأمر الى كونها مسيحية كما ورد سابقا، بل الى موقفها المستنير عموما من المفهوم السائد عن الدّين الممتزج بكثير من الخرافات، والممارسات التي هي بعيدة عن جوهره.

أمّا طاهرة سفرزادة فهناك حضور عربي في بعض قصائدها، غير أنّ نظرتها الكونيّة الى الاسلام تجعل منه دينا عالميا لا يختص بالعرب وحدهم (ص93)، وهي مع ذلك لاتنكر تاريخها الفارسي، أو هويّتها، ولكنّها تعبّر عن هذا بشكل أقلّ غلوا من (الرجال) الذين وقفنا عندهم فيما سبق، ومن الممكن أن نلمس هذا في بروز شخصية (سلمان الفارسي) في قصائدها الذي تتعامل معه بوصفه شخصية حسّاسة مرهفة ازاء الظلم المنتشر آنذاك، واعتناقه الاسلام الذي حرّره من ذلك الظلم، وتلك الجهالة معا، ولا ننسى أن الاصطفاء القصدي لشخصية (سلمان) لا يخلو من دلالات عرقية، والّا فانّ التاريخ الاسلامي مفعم بالشخصيات المحورية، فكأنّ التغييب التام لتلك الشخصيات ينطق بمحمول دلالي هو الآخر لا تخطؤه العين النافذة. أما سيمين دانش فشار فانّ روايتها (سياوشان) هي «الأكثر مبيعا في تاريخ الأدب الفارسي الحديث» (ص103)، وهي تطرح في هذه الرواية، وغيرها مواقف انسانية، ونقد لاذع للنظام مما حدا بالباحثة الى أن تختتم هذا الفصل بقولها: «انّ موقف الكاتبتين أكثر انسانية، وتختلف عن مواقف ووجهات نظر الرجال شأن هدايت، وجو باك، واخوان، ونادر بور» (ص110)، ولعلّ هذا الموقف يشكّل استثناء يقوّي القاعدة المتمثّلة في (كتابات الرجال)، وهو ما سنراه بجلاء في الفصل الثالث.

تفرد الباحثة الفصل الثالث لشخصيّة واحدة تدعوها: «رجل في الوسط»، وهو جلال آل أحمد (1923-1969)، وتعتبره «كاتبا هاما، كتب النثر وغير النثر، وعدّ الناقد الاجتماعي الأكثر أهميّة في ايران من أواخر الخمسينات في القرن المنصرم حتى وفاته» (ص111)، ولعلّ أهم ما عمل عليه آل أحمد هو اشتغاله لتحديد مفهوم الايرانية الذي انبثقت عنه سائر آرائه، ومواقفه الفكرية. ومن الممكن تحديد معايير ذلك المفهوم بثلاث نقاط هي «اللغة الفارسية، والثقافة الأيرانية الفارسية، والاسلام الشيعي»، ولنا أن نلاحظ أن تلك المعايير ليست سوى ما رأيناه من تيار عام قديم قد ألبسه صاحبه لبوسا جديدا مستعينا بآليّات عصره، واختلافه الزمني، وتبرز ظاهرة غير مسبوقة في انتاج آل أحمد الفكري لم نرها قبل هذا بالاضافة الى الانتقاص الحاد من العرب، ونعني بها ما نستطيع تسميته بـ«تعيين» العربي، فقد لمسنا سابقا أنّ الكتّاب يضعون العرب جميعا في سلّة واحدة لتشملهم عبارات التنقّص والازدراء، بينما نرى آل أحمد يخصّ عربا بأعينهم ليوجّه لهم سهام نقده، فشخصية «الشيخ غزال» شيخ المحمرة لا يمكن أن تؤشر الّا الى الشيخ خزعل الذي «لو أنّه تصرّف تصرفا أكثر ذكاء لكان بامكانه أن يصبح شيخا شأن أيّ واحد آخر من شيوخ امارات الخليج الفارسي» (ص112).

ويصف العرب اليمنيين الذين يلتقيهم بتفاصيل خاصة فهم «وسخون ... أفظاظ» (ص134)، ونال السعوديون منه ومكة والمدينة معهم نصيبا وافرا من سخريته، وانتقاده المرّ (ص139-141)، وتضيف الباحثة انّه «في جلّ نقده للحكومة السعودية، فان الميول المعادية للعرب بدت وكأنّ لها الكلمة الأولى» (ص145)، كما انّه «لا يعترض على احتلال فلسطين بقدر ما يعترض على وجود اللاجئين الفلسطينين» (ص147)، ويكشف آل أحمد عن «تعاطفه مع اليهود، واعجابه بانجازات دولة اسرائيل خصوصا فيما يتعلّق باستيعاب المهاجرين اليهود من خلال تعليمهم اللغة العبرية» (ص157)، ولم تسلم البصرة وعربها هي الأخرى من لذعات قلمه الذي غمسه بالخل، فراح يوسعها تقريعا، وتنقّصا (ص22-123). كيف نستطيع تفسير هذا التحوّل المفصلي في كتابات آل جلال من التعميم الى التخصيص، وان كان التعميم موجودا بكثافة كما سنرى؟ ترصد الباحثة نقطتين في مجمل انتاج آل جلال وهما «ان عداءه للعرب يذكّرنا بهدايت» (ص125)، وهو أيضا ذو تفكير عنصري واضح (ص132)، وكأن اجتماع هذين الأمرين في شخصية واحدة كفيلان باظهار مافي العمق على السطح بلا رتوش، أو تزويق.

فان كان الموقف من العرب ذا طبقات فان آل جلال يمثل أعلاها، وأكثرها صداما، ورغبة في البوح، والكشف عمّا هو مستتر، غير آبه بحقيقة تاريخية، أو اختلاف مكاني، أو تفسير منطقي لأسباب التخلف، أو التقدم، ومما يزيد المشهد وضوحا ذلك السّيل العارم من الأوصاف التي أطلقها على العرب، ولغتهم، وشخصيّاتهم بلا اعتبار لأي أمر، ويسند هذا الجانب نظرة اعلاء لكل ما هو فارسي، وهو ما يستدعي حتما ما قرّرناه فيما سبق عن هذين الأمرين لما قبل القرن التاسع عشر بكثير، يكتب: «العرب غرباء ... معروفون بخداعهم، وجشعهم، لغتهم فجّة» (ص119)، وهو يرغب في «أسباغ الصفة الايرانية على المذهب الشيعي، ونزع الصفة العربية عنه ... من خلال كراهيّته للأشياء العربيّة، وحبّه للأشياء الايرانية» (ص118)، ومادامت احدى الشّخصيّات «فارسيّة، فلابد أنّه شريف» (ص122)، ويستمر الكاتب «في تضمين رذائل العرب» (ص123)، و«هم ليسوا بشرا. إنّهم عرب» (ص124)، و«حقيقة العرب هي أنّهم بغيضون، ويكرهون الآخرين» (ص124)، ويقول على لسان احدى شخصيّاته: «أدركت هذا الصباح بأن العربية باتت ثقلا ينوء به كاهل وعيي» (ص153)، وتقول الباحثة: «يقترح آل جلال تاريخا اسلاميا ايرانيا حيث يسعى الى أيرنة الاسلام، ونزع الصفة العربية عنه قدر الامكان، فالعرب محتقرون، والاسلام الحقّ ظهر فقط عندما وصل الى الامبراطورية الفارسية» (ص126)، كما «تمّ تقديم الاسلام بوصفه ايرانيا في جوهره، ومنذ بداياته، وصولا الى تطوّره الأول» (ص127)، وتلخّص الباحثة رأيها فيما سبق بقولها: «انّ المشاعر المعادية للعرب التي يعبّر عنها آل جلال هي نموذجية للعديد من مفكّري القرن العشرين العلمانيين الايرانيين الفارسيين» (ص131).

هل استطاعت ايران بعد ثورتها سنة 1979 أن تغيّر شيئا من تلك الصورة القاتمة التي جاءت على يد أولئك الكتّاب، وخصوصا «أنّ الأعمال الأدبية هي انعكاس للخطاب الأيديولوجي، والأكثر أهمية هي جزء من عمليّة خلق للنزعة القومية الايرانية الحديثة، وخلق ايران بوصفها أمة حديثة»! (ص160) على حدّ قول الباحثة. هذا ما تحاول (الخاتمة) أن تتوقف عنده بعد تقديم عرض موجز لأعمال أولئك الكتّاب الذين ضمّهم الكتاب بين فصوله الثلاثة وهي تستعين بباحثين آخرين مختصّين بالشؤون الايرانية مثل منوشهر دوراج، وشاه رخ مسكوب وغيرهما، وترى أنّ «السخرية الكامنة في النزعة القومية الايرانية للفترة الدستورية ... هو أنّها انبثقت بوصفها ردّة فعل على الامبريالية الغربية، لكنّها استخدمت الأفكار الغربية في اللغة والثقافة والأصل المشترك» (ص170-171)، غير أن «ما هو هام للثورة الاسلامية في ايران هو أنّها سعت لرفض ليس فقط السيطرة الثقافية والاقتصادية والسياسيّة الغربية بل رفضت السيطرة الأيديولوجية للغرب أيضا» (ص171)، ولهذا فانّ «التجربة الايرانية تتوازى مع التجربة الغربيّة حيث تقف الكنيسة نظريا ضد النزعتين العرقية والقومية كما يقف النموذج السياسي الاسلامي، الخلافة الاسلامية، وأيضا نظريا ضدّ النزعتين القومية والعرقية» (ص171).

ولهذا فان ما ذهبت اليه الباحثة «من تأسيس الجمهورية الاسلامية في ايران هو في حدّ ذاته رفض لوجهات نظر هدايت، وجوبك، وأخوان، ونادر بور» (ص171)، أقول وبالاعتماد المبطن على كلمة (نظريا) التي تكرّرها الباحثة مرّتين في النص المتقدّم سواء في التجربة الغربية، أم في التجربة الايرانية، نستطيع القول باطمئنان، واعتمادا على الباحثة نفسها انّ النظرية شيء، والتطبيق شيء آخر، هو غيرها تماما، والّا كيف نستطيع تفسير رواج كتابات أولئك الكتّاب في ايران حتى الآن؟ والاستقبال الحافل لانتاجهم الفكري، والأدبي لو لم يقترب من الحس القومي الفارسي؟ ويدعو الايرانيين الى الالتفات الى ماضيهم قبل الاسلام، والاقتناع بمجمل الأفكار التي ضمّها ذلك الانتاج بين دفّتيه؟ وكيف نستطيع أن نفسّر ما ورد في الكتاب نفسه من سيادة مطلقة للغة الفارسية؟ ومنع القوميّات الأخرى، ومنها العرب من استخدام لغاتهم التي يُسمح بها فقط عند المرحلة المتوسّطة من الدراسة؟ وتضيف الباحثة «وفي الوقت ذاته قمعت الجمهورية الاسلامية وبشدّة الحركات السياسيّة التي قام بها العرب، والبلوش» (ص28).

انّ هذا كلّه يؤكّد ما ذهبنا اليه سابقا من الانفصام الحادّ بين النظرية والتطبيق، وتوظيف النظرية كواجهة للتجميل تخفي وراءها ما يقال فيه شيء كثير، كما انّ الانصاف المنهجي يقتضي منّا الاشارة الى أمر مهم وهو ضرورة قيام دراسة أخرى تكون أشبه بالتكملة لهذه الدراسة بحسبان أنّ أغلب الكتّاب الذين درست الباحثة انتاجهم لمعوا قبل قيام الثورة الاسلامية سنة 1979، وممّا لا شك فيه أن أجيالا أخرى من الشعراء، وكتّاب القصة، والروائيين، والمسرحيين قد برزوا بعد ذلك التاريخ الذي تزيد عدد سنواته عن الثلاثين، وستتكفّل تلك الدراسة المنتظرة بالكشف عن اتجاهات الكتّاب، ورؤاهم، وقناعاتهم من جهة، وتبيان حجم الاستقبال الذي حظيت به أعمالهم في المجتمع الثقافي الايراني من جهة أخرى، وتنبع أهميّة هذه الدراسة من قدرتها على كشف وجوه الاتفاق، والاختلاف بين الأجيال، والتحوّلات التي داخلت الانتاج الأدبي خلال تلك السّنوات، وليس بمكنتنا وضع اليد بشكل مباشر على هذا كلّه بغير هذه الدراسة التي ستقول الكثير ان سلبا أو ايجابا بالنسبة لصورة العرب التي كانت أقرب الى التّحيّز، والعنصرية، والقتامة في هذه الدراسة الحاضرة.

ويبقى هذا الكتاب (صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث) للباحثة جويا بلندل سعد، وترجمة صخر الحاج ياسين معلما بارزا في حقل الدراسات المنهجية الرصينة الذي استطاع خلال بحث دؤوب، واعتماد على مصادر أصيلة، مع أخرى مساعدة أعانت على توضيح المناخ العام الذي تفيّأ أولئك الكتّاب ظلاله، وقدرة على استخلاص النصوص التي تخدم الدراسة، مع حوار علمي هادىء معها، ومناورة منهجية في تقسيم فصول الكتاب هي أشبه بالمقدّمات التي تفضي الى نتائجها المنطقية، أقول، استطاع من خلال ذلك كلّه أن يحتلّ موقعا متميّزا في حقل الدراسات الثقافية، وهو يشكّل اضافة مهمة الى المكتبة العربيةّ.

 

باحث جامعي متفرّغ من العراق