يفتح مقال سعيد يقطين، في هذا الباب الذي يكتبه خصيصا للكلمة، آفاقا جديدة أمام الثقافة العربية لتفكر في الأسئلة الكبرى التي تطرحها علينا متغيرات العصر. ويتناول هنا آفاق الكتابة الرقمية ومواضعاتها الجديدة.

آفاق جديدة: فن الكتابة الرقمية

سعيد يقطين

 

1. سؤال الكتابة العربية

الكلمات المفاتيح: الكتابة العربية ـ الكتابة الرقمية ـ الكتابة الكمية

1. تقديم:

قبل الخوض في قضايا تتصل بالكتابة الرقمية ومتطلباتها لتتلاءم مع شروط الوسيط الجديد الذي ساهم في إفرازها، ولتتطابق مع مستلزمات أنماط تلقيها التي تختلف بالضرورة عن نمط الكتابة "الورقية"، نود لفت الانتباه إلى طبيعة الكتابة التي مارسناها نحن العرب لنقف على حدودها ومشاكلها، وذلك بهدف العمل على تطويرها في ضوء ما يقدمه لنا الوسيط الجديد من جهة، ولتسهيل عملية الانتقال بعد ذلك إلى كتابة رقمية متلائمة مع تحولات طبيعية على صعيد الكتابة من جهة ثانية. ويبدو لي أن هذا أول درس نستخلصه، ونعمل على تطبيقه ونحن نروم اقتحام عوالم الكتابة الرقمية. إن عملية الاقتحام هذه تدفعنا أولا إلى قراءة ما راكمناه سابقا في ضوء الكتابة الجديدة لإقامة جسر بين الماضي والمستقبل، آخذين بعين الاعتبار التحول الذي أدخله الوسيط الجديد في التواصل والإبداع والتلقي.

2. لكل شيء نهاية:

2. 1. أذكر، عندما كنا صغارا في الابتدائي، أن مادة الإنشاء كانت أصعب مادة نتلقاها. وأتذكر أيضا، أنني عندما صرت أستاذا في الإعدادي أن المادة نفسها كانت تشكل عبئا على الأساتذة، ويجدون صعوبة في تدريسها.  نسيت كل الموضوعات التي كنا نكتب فيها، لكني لم أنس الخطاطة التي رافقتنا طيلة حياتنا: كنا مطالبين بكتابة المقدمة فالعرض وأخيرا الشعور. وعندما انتقلنا إلى الإعدادي بقيت الخطوات هي نفسها، وإن تغير إسم المرحلة الأخيرة الذي حلت فيه " الخاتمة " محل الشعور. وكأن المقرر (في الإعدادي) يتوجه إلى تلميذ في سن المراهقة، وهو معفي من التعبير عن شعوره وأحاسيسه ومطالب فقط بتقديم خاتمة يعبر فيها عن أفكاره أو يعرض لنا الخلاصة التي انتهى إليها. أما في الثانوي والعالي، فالخطوات هي هي، ولكن بتعابير جديدة: فالمقدمة تصبح طرح الإشكال، والعرض تحليل الموضوع. أما الخاتمة فصارت تركيبا.  إنها الخطوات نفسها التي سنتعرف عليها في دروس اللغة الفرنسية وآدابها والفلسفة تحت مفاهيم مختلفة: أطروحة (Thèse)  ونقيض الأطروحة ( (Antithèseوتركيب (Synthèse).

2. 2. هذه الخطاطة تقود عملية التفكير في القضايا والموضوعات وفق خطة نتدرج فيها من نقطة بداية إلى نقطة نهاية. وهي وليدة تصور علمي في عملية التفكير والتعبير، وهي القاعدة الذهبية نفسها لتي كان يبنى عليها العمل الدرامي أو السردي التقليدي: حيث هناك بداية للحدث وتطور له ليصل أقصى مداه في العقدة التي يتم التدرج بعدها نحو الحل (النهاية). لكن هذه الخطاطة إذا كانت تستقيم في كتابة الموضوع ذي البعد الفكري، بوجه عام، فهي قابلة للخرق في الإبداع. فالروائي مثلا قد يتبع مسارات مختلفة في تقديم المادة الحكائية، وليس مضطرا إلى تقديمها وفق زمن وقوعها، إذ يمكنه مثلا البدء بالخاتمة، ثم ينتقل إلى أي نقطة في مجرى الحكي، ويظل ينتقل وفق البناء الذي يعطيه لنص الرواية. ومنذ  الثورة التي أدخلتها الرواية الجديدة أو اللارواية على بناء القصة، تم تدمير تلك القاعدة الذهبية التي نجد لها جذورا في بويطيقا أرسطو، وصار الروائي "حرا" في تقديم مادته الحكائية وفق ما تمليه عليه " الضرورة السردية " كما يتصورها، وليس بناء على قواعد معينة يخضع لها.

2. 2. مارس العرب القدامى الكتابة، وحاولوا التنظير لها والتقعيد لمختلف أنواعها، واعتبروها صناعة لا بد لها من مستلزمات وضرورات. ظل الخضوع لقواعد الكتابة الشعرية والنثرية كما قعد لها ونظر متواصلا طوال التاريخ العربي القديم. لكن مع دخول الاستعمار، وبروز التحولات التي تتناول، عادة، تحت إسم النهضة العربية، طرأت تحولات على الكتابة العربية التي صارت تتجاوب مع متطلبات العصر، وكان للصحافة والتعليم العمومي العصري دوره الكبير في طبع الكتابة العربية بسمات جديدة ما تزال مستمرة إلى الآن. غير أن الاهتمام بقواعد الكتابة العربية الحديثة لم تلق العناية التي أولاها العرب القدامى لهذه الصناعة، فأكثروا فيها التصنيف. ويمكننا هنا استثناء كتاب لم يحظ بالعناية اللازمة، وكان من الممكن أن يفتح تقاليد كتابية مؤسسة على قواعد محددة لو تم استثمار ما ورد فيها وتطويره، أعني كتاب "فن القول" لأمين الخولي.

2. 3. نجد أنفسنا، ونحن على أعتاب مرحلة جديدة من الكتابة، هي التي نسميها الكتابة الرقمية، أمام ضرورة بحث وتناول الكتابة العربية بالدرس والتحليل، لتسهيل عملية الانتقال إلى الكتابة الجديدة وفق قواعد جديدة للكتابة، إذ لايعقل في رأيي أن نمارس " كتابة جديدة " بقواعد قديمة. ومن هنا تأتي أهمية الحديث عن الكتابة العربية كما مورست لنتبين خصوصيتها وملامحها ومدى إمكانية استمرارها في أفق الكتابة الرقمية. يستدعي التطور والتحول تغيير السائد من القواعد وخلق قواعد جديدة لتتلاءم مع الأساليب الجديدة. فلكل شيء نهاية. ولهذا فنحن أمام ضرورة البحث عن قواعد جديدة للكتابة، أي فن جديد للكتابة الرقمية الجديدة.

3. الكتابة العربية وأسئلتها:

3. 1. في كل تاريخنا الثقافي الحديث انصب إنتاجنا الكتابي على " المعلومات " أكثر مما انصب على طرائق تحصيلها أو كيفية صياغتها على عكس أسلافنا أو معاصرينا من الغربيين. لقد اهتم القدماء العرب، منذ بداية عصر التدوين بصناعة الكتابة شعرها ونثرها وصنفوا الكتب الكثيرة التي تلزم عملية الكتابة وآلياتها. وعندما تصفح هذه المصنفات التي صنفت في أدب الكتاب والصناعتين وصناعة الإنشاء ومستلزمات الكتابة بوجه عام سنجد أنفسنا أمام تراث هائل. ونجد الشيء نفسه في مقررات تعليم اللغة الأجنبية الأولى (الفرنسية مثلا) حيث نعاين الاهتمام المتزايد بآليات التعبير الشفوي والكتابي وفق قواعد محددة ومضبوطة. لذلك كانت منهجية تدريس الكتابة صارمة ومقننة ولم يكن أحد من التلاميذ أو الطلاب يجد صعوبة في كتابة الإنشاء أو في تحليل النص المسرحي أو السردي على عكس ما يقع في تدريس العربية وآدابها. وكانت مواد اللغة وطرئق التعبير الشفوي والكتابي تستمر حتى في الجامعة. أما في شعب اللغة العربية، فتنتهي علاقة الطالب باللغة العربية ومنهجيات التعبير الكتابي والشفوي، وتصبح علاقته بها مقتصرة على تحصيل المعلومات بغض النظر عن امتلاك الطالب لآليات التعبير. وفي إعداد بحوث الإجازة أو الدكتوراه يجد الطالب نفسه أمام بعض الكراسات في السوق التي تقدم له " نصائح " عن كيفية كتابة الرسالة أو إعداد الأطروحة. وعادة لا يستأنس الطالب حتى بهده الكراسات التي يرى نفسه أكبر منها لأنه شغل تجاوزه في مراحل تكوينه الإعدادي أو الثانوي.

3. 2. إن إهمال كيفية تحصيل المعلومات وطريقة صياغتها في تكويننا في التعليم الثانوي والعالي له دخل كبير في الواقع الذي تعرفه اللغة العربية كما يبدو لنا ذلك من خلال الكتابة بها. إن التعليم الذي تلقيناه في الابتدائي وحتى الثانوي، وهو الإطار الذي كان من الضروري أن نتلقى فيه أساسيات التعبير وآلياته، شفويا وكتابيا، كان ناقصا ومبتورا بالقياس إلى طرائق تدريس اللغات الأجنبية في تعليمنا العمومي.  كانت من نتائج هذا التكوين الذي تلقيناه، ونسهم الآن في تلقيه، آثاره القصوى على التعبير الشفوي والكتابي العربي. ويمكننا إجمال ذلك فيما يلي:

3. 2. 1.  ضعف العناية باللغة نحويا وصرفيا وإملائيا، والتساهل في ارتكاب الخطأ في التعبير الكتابي والشفوي. أتذكر، الآن، كيف أن أستاذة الفرنسية لم تكن تتساهل في النطق ب R  راء، وتصر على إعادة النطق بها غينا. ولا تتعب من التنبيه إلى ذلك في كل وقت وحين، ومع كل التلاميذ. من لم يتساهل في نطق صوت، كيف سيتصرف في غيرها من الأمور الأكثر تعقيدا ؟

3. 2. 2.  عدم الاهتمام نهائيا بعملية ترقيم الكتابة ( استعمال الفواصل والنقط،،، ) ولا نعرف متى نعود إلى السطر ( تقطيع النص، ولعبة البياض والسواد،،، ). نكتب كما اتفق، ونقرأ وفق مشيئة المعلم أو الأستاذ. ولكننا لم نعلم تعليما حقيقيا ماهي الجملة ؟ وكيف يمكننا صياغتها، وكيف تكون ؟ أتذكر أن الترقيم درسته مرة واحدة في الابتدائي، وكان الهدف منه فقط هو التفريق بين النقطة والفاصلة، تماما مثل التفريق بين الباء والتاء. لكننا في الفرنسية، على العكس ظلت تلازمنا عملية الترقيم، ونحاسب على أننا وضعنا الفاصلة محل القاطعة ( ؛ ) وتخصم لنا النقط بسبب ذلك.

    كما أننا في عملية الكتابة لم نتعلم قط على " تلخيص " النص بناء على عدد محدد من الكلمات في مادة العربية. بينما كنا نقوم بذلك في قاعة درس الفرنسية، وأذكر كيف أننا عندما ننتهي من الكتابة نبدأ نعد الكلمات التي كتبناها، ونحذف ونضيف كيلا نتجاوز الرقم المعطى لنا.

3. 2. 3. عدم إيلاء مسألة المنهجية في الكتابة والتعبير الشفوي ما تستحق من العناية. إذ يكفي أن يستعمل الطالب مفردات صعبة وغريبة، وأسلوبا إنشائيا جميلا وبراقا وخادعا ليكون نجم المؤسسة في الإنشاء. وينال التقريض اللازم من التلاميذ والأساتذة. فالعبرة، عندنا، تكمن في مادة التعبير، وليس في كيفيته ولا في طريقته.

 لو أردت تعداد معضلات " الكتابة " بالعربية كما تعلمناها ونعلمها حتى الآن، وكما نمارسها عندما نكتب، ونتلقاها حين نقرأ لضاقت بنا هذه " الآفاق الجديدة " التي نبغي ارتيادها مجددين وطامحين إلى مستوى أحسن وأفضل.  ويكفي، في هذا السياق، أن أقول: في غياب تعلم " مهارات " الكتابة و " منهجيات" التعبير الشفوي والكتابي باللغة العربية، وفي ظل التساهل في الكتابة بها ( بلا تقطيع ولا ترقيم،،،)،  وفي تغييب تطبيق حتى القواعد البسيطة التي تعلمنا في كتابة الإنشاء وتحليل الموضوع ( الأطروحة، نقيضها، تركيب )، وفي،،، وفي،،، كيف يمكن للكتابة العربية أن تكون ؟ وهل بهذه الكتابة التي تُسوَّد بها الصحائف والكتب يمكننا أن ندخل عصر الكتابة الرقمية ؟ إن الاهتمام بالمادة في ذاتها وبكمية المعلومات على حساب كيفية تقديمها جعل الكتابة العربية كمية لا كيفية وعددية لا نوعية. والكم والعدد يتعارضان تعارضا مطلقا مع الكتابة الرقمية. إن الكتابة الرقمية تنهض أولا وأخيرا على الكيف والنوع ولا تعنى بالكم ولا بالعدد. فما معنى الكتابة الكمية وما صلاتها بالمعلومات وكيف تتحقق في الكتابة العربية ؟

4. الكتابة العربية الكمية:

4. 1. تعتمد الكتابة العربية، منذ عصر النهضة إلى الآن، اعتمادا كبيرا على كمية المعلومات التي تقدمها. ولما كانت عملية الكتابة تتحقق في مقام تواصلي بين طرفين أساسين هما الكاتب والقارئ، لا بد لنا من وضع هذين الطرفين في وسط عملية الكتابة العربية، كي لا يظل حديثنا معلقا وغير محدد.  إن الكاتب العربي يتوجه إلى قارئ نهم ومتعطش للمعلومات والمعرفة، لأن العلاقة بينهما كانت غير متكافئة: إنها علاقة تراتبية. فالكاتب مجهز بمعارف وممتليء بالقراءات الكثيرة وعنده، بشكل أكثر أو أقل، وجهة نظر في الموضوع الذي يتناوله. هذا النمط من العلاقة بين الكاتب والقارئ تقليدي لأنه يتحقق في مجتمع تسود فيه الأمية وحيث وظيفة الكتابة محدودة، والذين يمتلكون قدراتها وآلياتها قليلو العدد بالنسبة إلى عدد القراء. فالكاتب، هنا، مثل الفقيه في المجتمع التقليدي: فهو الذي يحفظ القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة والنصوص التي تزخر بها كتب المحاضرات. لذلك يمكنه ممارسة الحديث والخطبة والإفتاء. إن رأسماله الأساس هو " المعرفة " مقابل "اللامعرفة " لدى مخاطبيه. وعندما سيدخل " مفهوم المثقف " مجال الاستعمال في اللغة العربية الحديثة سيكون هذا " الكاتب " هو نموذج المثقف العربي. إنه يكتب في كل الموضوعات من الأدب إلى السياسة مرورا بالاجتماع والتاريخ والفكر. ويبدو ذلك في كتاباته التي تمتلئ بالاستطراد والتشعب، وكل همه هو تكديس المعلومات والإكثار من الشواهد والأمثلة بدون ترتيب أو تنظيم.  هذا الاستطراد المعرفي وتلك الكتابة غير المنظمة دليل استمرار المرحلة الشفاهية في مرحلة مختلفة هي الكتابة. فالكاتب " يكتب " تقريبا كما " يتحدث "، ونجد آثار ذلك في العديد من الكتابات العربية الحديثة التي لا تبدو فيها منهجية معينة على مستوى الكتابة.

4. 2. أما القارئ، في هذا النطاق، فهو المثقف المحتمل أو الممكن. لذا فهو مدعو لتلقي المعرفة من " أقلام " ( كانت المقالات توقع ب" قلم فلان " ) الرجال، كما كان المتلقي العربي القديم، في المرحلة الشفاهية يتلقى المعرفة من " أفواه " الرجال. وبما أن بغيته هي تحقيق الامتلاء المعرفي الذي يقدمه له " الكاتب " من خلال الاستطراد المعرفي فزمن قراءته مطلق: يقرأ على مهل، يسطر وينقل المعلومات في دفاتره الخاصة. وقد يقرأ الكتاب ويعود إليه مرات ومرات. وهذا القارئ، اليوم، هو الكاتب غدا وسيعيد إنتاج الطريقة نفسها مساهما في استمرار الكتابة الكمية وديمومتها.  بما أن ميثاق الكاتب ـ القارئ يقوم على تراتبية معرفية، فإن الكاتب مرسل المعرفة والقارئ متلقيها. وطبيعي أن تنعكس هذه العلاقة على الكتابة التي تغدو وعاء لحشد المعلومات وتراكمها، ولا عبرة بالتنظيم أو اتباع منهجية محددة. تبدو هذه الصورة بجلاء في:

4. 2. 1. المقالات: تصلني بين الفينة والأخرى مقالات للتحكيم فأطلع عليها بعناية ودقة لأني مطالب بكتابة تقارير عنها، فأجد العلة المهيمنة كامنة في "طريقة" الكتابة لا في المعلومات. أجد الأفكار جيدة، واللغة رائعة، لكني غالبا ما أجد خللا في: الترقيم، وتنظيم النص وتقطيعه. فلا فرق لدى بعض الكتاب بين: الجملة والفقرة. وبين الفقرة السابقة والتي تليها. كما لا نجد التفريق بين الملخص والخاتمة. وأعتبر هذا من العيوب الأساسية في كتابتنا بالعربية. وهذه الظواهر لا أجدها فقط في المقالات التي أقرأ من أجل التحكيم، ولكن أيضا في العديد من المقالات التي تطالعنا بها المجلات والكتب العربية.

4. 2. 2. الأطاريح: الخلل نفسه نجده في الأطاريح والرسائل التي نناقش. يبذل الطالب مجهودا كبيرا جدا في تحصيل المعلومات ومراكمتها، ويوزع أطروحته إلى أبواب وفصول. ولكننا لا نجد للفصل أو الباب تمهيدا أو تركيبا، وعندما نطلب منه تلخيص أطروحته في جملة مفيدة يكون أعجز الناس عن ذلك. نقول له: ما هي الأطروحة التي تدافع عنها ؟ فلا يفهم السؤال، لأن الأطروحة، بالنسبة إليه هي الخمس مئة صفحة التي ملأ وكتب ؟

4. 2. 3. في المؤتمرات والندوات: يطلب من المتدخل، وهو أستاذ وباحث، أن يوجز تدخله في عشرين دقيقة. فيحتج لهذا الطلب، ويرى أن عليه أن يقرأ مداخلته التي تتكون من أزيد من عشرين صفحة كاملة غير منقوصة ؟ وكثيرا ما يستنكف من سلوك الرئيس الذي يستعجله بإنهاء مداخلته التي لم يبدأها بعد، لأنه ما يزال في المقدمة، وقد استوفى ثلاثين دقيقة ؟ فما تسمع من المتدخل غير: إني سأقفز، وسأقفز، ويعتذر في النهاية موجها اللوم إلى الرئيس الذي كان متواطئا ضده ولم يسمح له بإكمال مداخلته. إني لا أبالغ في تقديم هذه الصورة، ومن يقرأ المقالات ويناقش الأطاريح ويحضر المؤتمرات العربية، سيتفق معي بكل تأكيد على هذا التشخيص الذي يوصلنا إلى الخروج منه بخلاصة واحدة. هي: إن المعلومات عندنا، في كتابتنا وفي تعبيرنا الشفوي،  أهم من طريقة تقديم المعلومات. ولذلك يمكننا أن نتحدث إلى ما لا نهاية، ولكننا أعجز من يكون عن الإيجاز مع البيان. إن ما نقوله عام جدا، وليست فيه أطروحة ونقيضها وتركيبها. هذا الدرس المنهجي الأولي لا نلتزم به في كتاباتنا وتعبيرنا الشفوي. فكيف والحالة هذه يمكننا أن ننتقل إلى " الكتابة الرقمية"؟ فهل سنمارس "الكتابة الرقمية" بذهنية "الكتابة الورقية" التي انتقلنا إليها محملين بقواعد "الشفاهية" ؟ إذا كان هذا ديدننا، فسنمارس كتابة رقمية بذهنية ورقية!

5. لكل شيء بداية:

5. 1. عندما أومأنا أعلاه ( 3. 2 ) إلى أن تدريس اللغات الحية ( الفرنسية ـ الإنجليزية ) والكتابة والتعبير بهما لا يركز فقط على المعلومات ولكن أيضا على طريقة التقديم، كنا نقارن بين لغتين وثقافتين. لقد مرت الفرنسية أيضا من مرحلة الشفاهية إلى الكتابة، والآن دخلت الكتابة الرقمية، ومورس بها الإبداع والفكر. لكن كل مرحلة لها طابعها الخاص والمميز، ويتم الانتقال من مرحلة إلى أخرى بناء على عوامل طبيعية في التحول.  لقد تطورت عملية الكتابة في الغرب نتيجة الدور الذي لعبته اللسانيات في المرحلة البنيوية في تطوير اللغة وطرائق تحليلها وفهمها. فأعيد النظر في " الجملة "، ومع نظريات " تحليل الخطاب " ولسانيات النص تم التقدم في فهم آليات بناء الخطاب وتنظيمه وانسجام مكوناته واتساقها. إن المعرفة لم تكن تركز فقط على " المعرفة " أو المعلومة، ولكن على " الطريقة " أيضا. ولعب المبدعون في مختلف الأجناس على استثمار هذه المعرفة الجديدة، فتفنن الكتاب في بناء النص وبنينته وتنظيمه. كما اهتم التحليل بأجزاء النص أو الخطاب وبنياتهما الجزئية أو الكلية، فظهرت مفاهيم جديدة مثل التقطيع، والمتتاليات، والمقاطع والوحدات والبنيات،،، وبرزت مستويات تتناول ترابط الأجزاء واتساقها وانسجامها وتعالق المكونات،،  كل هذه المستويات المتصلة ببنية الكلام تم تحليلها جزئيا، وانتقلت هذه المعرفة من التخصص إلى البيداغوجيا، وصارت جزءا أساسيا من التكوين اللغوي للتلميذ والطالب. ومع الاهتمام بالتواصل وتقنيات التعبير احتلت طريقة تحصيل المعلومات والتعبير عنها حجر الزاوية في العملية التربوية والعلمية والإبداعية. لذلك كان التطور طبيعيا إلى المرحلة الرقمية، لأن كل التقنيات سيتم توظيفها في المرحلة الجديدة. ولذلك بدأنا نجد الكتابة الرقمية في الغرب تتأسس على كل المعرفة التي حصلت في مرحلة سابقة، وسنتوقف عند عناصر ومقومات هذه الكتابة في دراسات لاحقة.

5. 2.   أما بالنسبة إلينا، فالكتابة الرقمية ليس لها الآن أي معنى. إننا عمليا لما ندخل هذه المرحلة على النحو الأمثل. لذلك فالمطلوب هو تجديد الكتابة العربية، وأن تكون لنا بداية جديدة، وإلا تعثر دخولنا الكتابة الرقمية. وأول تجديد يجب أن يطال طريقة ممارسة الكتابة وفق قواعد محددة ومضبوطة لتؤهلنا إلى الانتقال إلى هذه الكتابة الجديدة.  لقد بدأ إصلاح التعليم العالي، مثلا، في المغرب سنة 2002 و2003 باعتماد نظام الوحدات والفصول، وتم تغيير المقررات والمناهج لتتلاءم مع غلاف الساعات الجديد ونظام الفصول. لكن مادة واحدة كانت هي " المادة السحرية " التي تقدم ثورة في مجال الإصلاح هي مادة: تقنيات التعبير والتواصل. تتصل هذه المادة بما كنا نتحدث عنه تحت إسم " طريقة تقديم المعلومات " بدل " كمية المعلومات ". لكن هذه المادة تدرس باللغة الفرنسية، وفي القسم العربي، تدرس كما اتفق في غياب تصور دقيق ل" تقنيات التعبير والتواصل " باللغة العربية.

5. 3.  تؤكد هذه الخلاصة أن البحث والحديث في " التقنية " و"الطريقة " في كتابتنا كان مهمشا ومبعدا من دائرة الاهتمام. وعندما بدأنا نعي أهمية ذلك، وجدنا أنفسنا على عتبة " كتابة جديدة " هي الكتابة الرقمية التي نجدها تنهض على أساس: الكتابة الكيفية لا الكمية، وعلى انتقاء المعلومات لا حشدها ومراكمتها، وعلى الإيجاز لا الإسهاب والإطناب. كما أن نمط تلقيها يبنى على السرعة لا على البطء الذي كانت تتسم به الكتابة الورقية. فكيف يمكننا دخول هذه الكتابة بدون ضبط جديد لغايات الكتابة وفهم جديد لطبيعتها، وبدون تغيير تصورنا لوظيفة الكاتب والقارئ التي تتأثر، بالضرورة، بهذا الوسيط الجديد، وكتابته التي هي الكتابة الرقمية ؟

جوابا على هذا السؤال، سنعمل على توضيح أسس الكتابة الرقمية وصلاتها بالوسيط الجديد في الدراسة القادمة.

                  

Said@wanadoo.net.ma