يكشف الباحث الموريتاني في دراسته لعمل باحث من الإمارات العربية أن ثمة هما معرفيا ونقديا يشترك فيه باحث من أقصى المغرب العربي مع زميل له من أقصى مشرقه، وهو الاهتمام بنقد النقد ومعرفة بينة الخطاب النقدي، لذلك يولي دراسته حول تلقي النقد العربي لأعمال نجيب محفوظ اهتمام كبيرا في هذه الدراسة.

استراتيجيات تلقي النقاد لنجيب محفوظ

الرواية: من النوع السردي القاتل إلي جماليات العالم الثالث

محمد بن بوعليبة بن الغراب

هذا الكتاب الذي نقترح علي القارئ العربي قراءته يتنزل في مجال من أهم المجالات التي يجب أن يتجه إليها البحث الأدبي، ألا وهي مراجعة القيم النقدية في حقبة من تاريخ الأدب العربي. فالكتاب يمثل خطوة مهمة نرجو لها أن تفتح طرقا ومسالك للبحث في هذا الميدان الذي لا يزال عصيا علي كثير من الباحثين نظرا لارتباطه بحقول معرفية يتطلب الاطلاع عليها دراية ببعض اللغات والثقافات الأجنبية. فالدراسات التي اعتمدت علي نظرية الاستقبال في مجال البحث الأدبي والتي اتجه إليها الكثير من الباحثين هي في الحقيقة مغرية فلقد وجدت مصطلحاتها أصداء طيبة لدى أوساط ممارسي النقد الأدبي في معظم أرجاء المعمورة. هؤلاء الذين ملوا من المقاربات الألسنية التي مارسوها لعقود من الزمن أظهرت حدودها وإمكانياتها، حيث وجد البعض منهم ضالته في هذه النظرية ذات المفاهيم المقتطفة من الفيلولوجيا وعلم الاجتماع وحتى من مناهج فلسفية أخري.

واتباعا لعادة أثيرة في المنطقة العربية ألا وهي مواكبة الموضات التي تظهر عند الأمم التي تتمتع بالغلبة انصرف نقادنا إلي هذه النظرية معرفين ببعض مفاهيمها ومترجمين بعض الأعمال حولها. كما مارس بعضهم توظيفها وتلك عادتنا ولسنا وحدنا. ومع ذلك فقد غاب عن كثير من تلك التطبيقات ما هو أساسي: ألا وهو تحديد الأهداف والغايات، كما غاب عن البعض تحديد الوسائل والمنهجيات الموصلة إلي تلك الغايات. والذي حدث مع الاستقبال لدى كثير من الباحثين في المنطقة العربية وحتى في بعض مناطق العالم الأخرى هو الخلط بين المقاربات الخاصة بالاستقبال الوطني مع الاستقبال في مجال الأدب المقارن وإن كانت أهداف المقاربتين واحدة. فالمقاربة في مجال الأدب المقارن قد انفردت بطرح إشكاليات خاصة يحدثها انتقال الأثر الأدبي من لغة إلي لغة. كما أشار إلى ذلك دانيال مورتيه في دراسته المشهورة(1) .

 أما المقاربات المعتمدة علي نظرية الاستقبال فمن أهم أهدافها كتابة ما يعرف بالتاريخ الأدبي والذي هو دراسة الاستمتاع الدائم بالآثار الأدبية عبر تقصي ردات فعل النقاد في الجرائد والمجلات والمحادثات وغيرها وليس بواسطة تاريخ الأدب الذي أخفق لاعتماده علي التاريخ التطوري وقد بين رنه فلك René Wellek ذلك في كتابه:Concepts of Criticism ورفاتير Riffatairre القائل:"يواجه تاريخ الأدب دائما خطر التحول: فهو ينقلب بسهولة إلي تاريخ أفكار إلي سسيولوجيا وغالبا ما يكون مجرد دراسة تاريخية لظواهر ذات طبيعة أدبية بالأساس {..} والظاهرة الأدبية لا تتحدد بالعلاقة بين المؤلف والنص بل بالعلاقة بين النص والقارئ"(2). إن الهدف الأساس من مقاربة الاستقبال سواء عند روادها من الفرنسيين من تبودي Thiaudet وفان تييغم Van Tieghem وغيرهم أو عند الألمان لاحقا مع مدرسة Constence بريادة ياوس Jauss هو إعادة كتابة تاريخ الآداب بمقاربات جديدة تستعين بنظرية الاتصال Communication لأن الأثر يجب أن ينظر إليه علي انه سلسلة من التواصلات وليس فقط علي أنه سلسلة من الإبداعات والعبارات.

لقد شهدت فترة أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي تزايد الاهتمام بهذه النظرية، وكنت من بين (المبشرين) بها في ذلك الوقت ولكني حذرت يومها من خطورة الضياع في المتاهات التي انساق الناقد العربي إليها قبيل ذلك بقليل وهي متاهات البنيوية.(3)  وتلت هذه الفترة فترة وظفت فيها النظرية ولكن أهمل معظم المشتغلين بها الغايات منها وراحوا يوظفون مفاهيمها قاطعين إياها من مظانها. والكتاب الذي نتناوله هنا وقع مني موقعا حسنا لما لمست لدى صاحبه من قوة في التحليل وحسن استيعاب للمفاهيم، وإن كان للموضوع خصوصية ومستويات متدرجة ومتداخلة تتطلب فطنة وذكاء متميزين في معالجة هذه الإشكالات المعقدة. وقد مهد المؤلف لعمله هذا بالحديث عن التلقي مبرزا معرفته العميقة بالنظرية وفروعها، وتمكنه من اللغة الإنجليزية على ما يبدو، وإن كانت النظريات قد كتبت بلغات أروبية أخرى ولكن الترجمات المتوفرة بها تغني عن الأصل لجودتها. ثم خصص تناوله للتلقي من خلال ربطه بكاتب بعينه وهو نجيب محفوظ وهو الذي شكل متن الدراسة ثم تقصي الحركة النقدية حول إنتاجه وتلقيه الذي طرح إشكاليات كبرى تتصل بقبول أو رفض النوع، والكيفية التي ترسخ بها نموذجه الذي أصبح (مؤسسة).

وهنا تبرز النتائج المنتظرة من بحث كهذا وهي معرفة حقيقة استقبال نجيب محفوظ من خلال أجيال النقاد ممن سبقوا الثورة واستقبلوه على أساس إيديولوجي وتحول خطاب الاستقبال إلي خطاب سياسي يصنف محفوظ ويحوله إلي مؤسسة أدبية :«تتكون -حسب الباحث- من عدة فروع إسلامية واشتراكية وإقليمية وعربية وتقدمية ورجعية وجديدة وقديمة..إلخ»(ص194). وفي مستوي رابع تتناول الدراسة النقد العربي بعد الخمسينيات حيث أثر النقد الجديد في الغرب على النقاد العرب الذين أخفقوا في محاولاتهم. وفيه يفسر المؤلف سبب الإخفاق فيناقش جيلا جديدا استقبل نجيب محفوظ بعدة النقد الغربي ونتائج ذلك الاستقبال.

وفي بحث سابق(4)  قبل إن أطلع علي هذا الكتاب ذكرت بأن دراسة الخطاب النقدي في المنطقة العربية قليلة بل نادرة باستثناء كتاب محمد برادة حول مندور محمد مندور وتنظير النقد العربي، وكتاب نقد النقد لنبيل سليمان، وكتاب إدريس بلمليح الرؤية البيانية عند الجاحظ.(5) وسسيولوجية الأدب لغالي شكري دار الطليعة بيروت لبنان 1981م. ولكن هذه الكتب وغيرها على أهميتها، متأثرة بالاتجاه الذي يغلب البحث فيه حول المؤلف بدل النص وهي فى ذلك متأثرة، بالمدرسة الوضعية، وتاريخ الأدب عند الغربيين. وقليلة كذلك الأعمال التي تتناول الخطاب النقدي في الغرب فلقد ذكر إيف شفرل سنة 1989 أن دراسة الخطاب النقدي عندهم قليلة التطور : «إن لدينا [يقول شفرل] أعمالا حول تاريخ النقد - نذكر منها خاصة كتاب Wellek- History of Modern Criticism والتى هي أعمال حول النقاد فى أغلب الأحيان (إديولوجياتهم، وطرائقهم) [...] وليست لدينا حتى الآن على ما يبدو أعمال شاملة تتجاوز الحالات الفردية لتهتم بالخطاب النقدي نفسه، ببنيته، وخصائصه : وليس كتاب نقد النقد(6)  لتودورف 1984 إلا حكاية لمسيرة شخصية [...] والسبب في نقص من هذا النوع عائد - لا محالة إلى تسليط الاتجاه في دراسة الأدب على دراسة النقد، اتجاه طبع الدراسة الأدبية لفترة طويلة من الزمن : ألا وهو أولوية الكاتب الكبير أو ببساطة الكاتب».(7) وكان كاتب هذه السطور قد أدرك ذلك فقام بنشر كتابه النقد الغربي والنقد العربي نصوص متقاطعة باللغة الفرنسية بباريس سنة 2000م(8)   ثم قام بترجمته وصدر عن المجلس الأعلى للثقافة في مصر سنة 2002م وأخري منجمة في مجلة علامات الأعداد (43\44\45\46\47)عن النادي الأدبي بجدة المملكة العربية السعودية بغية فتح باب دراسة الخطاب النقدي في بنيته وخصائصه نظرا لما تقدمه الدراسة النصية من حقائق لا توفرها نتائج الدراسات التاريخية ولا السيرذاتية.

ويأتي كتاب الدكتور علي بن تميم هذا الذي بين أيدينا: (النقاد ونجيب محفوظ) ليقوم بدراسة الخطاب النقدي حول واحد من أهم الشخصيات الأدبية التي عرفها القرن العشرون ألا وهو نجيب محفوظ. وهذه الدراسة لا تكتفي بقراءة الخطاب النقدي حول الرجل ولكنها تقدم مع المناقشة الرصينة لذلك الخطاب نبذا شديدة الأهمية عن الخلفية المؤسسة لذلك الخطاب وهي خلفية بطبيعة الحال غربية وتكشف تلك النبذ عن إلمام واسع بالنقد الغربي من لدن الباحث قل أن نجد متمكنا منه من بين النقاد الذين تعرضوا لدراسة الخطاب النقدي العربي المعاصر. وهذه النبذ ستسد ثغرات تشكلت من عدم فهم للنظريات والمفاهيم المؤسسة لهذه النظريات وكانت أن كونت نوعا من سوء الفهم لدي القارئ العربي لتلك النظريات التي كثيرا ما قرأها مترجمة ومجتزأة من منابعها الحقيقية ومن خلفياتها الفكرية وقد ترد تلك النظريات والمفاهيم المؤسسة لها في الخطابات النقدية حول الأدب العربي التي يكتبها النقاد العرب المتمكنون من النقد الغربي ولكن القارئ العربي لتك الخطابات النقدية العربية يظل في تيه لأن مصطلحاتها وإن كانت قد فهمت من طرف مستخدميها أي بعض النقاد العرب لا تدخل ضمن أفق تحري هذا القارئ.(9) كان علي هؤلاء النقاد كلما شرعوا في كتابة تلك الخطابات أن يشرحوا مفاهيمهم وتلك مسؤوليتهم العلمية لأنهم يتجهون إلي قراء ينتمون إلي فضاء ثقافي لم يستوعب كل مفاهيم وفلسفات الغرب التي اتخذ منها أولئك النقاد مرجعية علي مرجعيتهم العربية. ومن هنا نميل إلى ما ذهب إليه إيف شفرل CHEVREL YVES حين يقول: "إن هذه المفهومات من مثل "أفق الانتظار" التي جعل منها مؤرخو استقبال الأدب مفهومات عادية، تجد معنى متميزا عندما يتعلق الأمر بنص مترجم، في الواقع إن هذا النص مطبوع بانتمائه لنظام ثقافي آخر، ولكنه على أية حال من الواجب أن يعين حتما على أنه مترجم عن [...] وهذه الإشارة عليها أن تعمل كإنذار وتحذير للقارئ، أمام ما سيقرؤه، وخاصة أن هذا النص الذي تراد قراءته يحيل إلى عناصر من ثقافة أجنبية، أي إلى مجموعة من التصورات الذهنية الجماعية وإلى سلوك مرتبط بها. إن كل شيء داخل النص المترجم قد يكون فخا فأي عنصر - وحتى وإن كان بسيطا- يمكن أن يفهم فهما مغلوطا بالنسبة للثقافة التي أنتجته وأعطته معنى".(10) إن إيف شفرل YVES CHEVREL  يتحدث هنا عن الرواية، ولكن ما يقوله صحيح وينطبق كذلك على النصوص النقدية. فالمصطلحات يؤولها القارئ العربي من خلال المعنى الذي اكتسبته هذه المصطلحات في لغته الخاصة إن لم يكن يعرف السياق الثقافي الذي أعطى لكلمة DISCOURS مثلا معناها في النقد الحديث في الغرب.

إن الدكتور علي بن تميم قد أدرك أهمية تلك الخلفية فبينها بجلاء. انظر إليه متحدثا عن خلفية النقد الجديد New Criticism ومبينا أنه حتى في الغرب قد أسيء فهم تلك الخلفية مستشهدا بأطروحات يونغ القائل بان هناك وعيا زائفا بأطروحات النقد الجديد (ص347). ولقد بين كاتب هذه السطور في كتابه النقد الغربي والنقد العربي مستشهدا ببعض الألسنيين والنقاد الغربيين أن توظيف بعض المفاهيم المأخوذة من العلوم الإنسانية قد أسيء استخدامها من طرف بعض النقاد في الغرب وحتى المتميزين منهم من أمثال بارت وفوكو.(11)  وقد فصل الباحثان Alan Sokal et Jean Bricmont في كتابهما الذي صدر 1997م والذي حمل عنوان الخدع الثقافية(12) موضوع الاستخدام المغلوط لبعض المفاهيم المأخوذة من العلوم الدقيقة وبعض العلوم الإنسانية. كما يظهر الدكتور علي بن تميم نقطة في غاية الأهمية ألا وهي إخفاق هذا النقد الجديد عند نقادنا العرب ونجاحه عند نظائرهم من الغربيين. لقد أوضح الناقد الدكتور علي بن تميم فكرة قل من يعرفها من نقادنا العرب وهي فكرة النظرية النقدية الغربية والتي تصلح أن تطبق على نصوص بعينها وغير قابلة للتطبيق على نصوص أخرى. نعم لقد كان النقاد الغربيون يدركون ذلك ولكن نقادنا العرب لم يدركوه وراحوا يطبقون وبتعسف بعض النظريات على نصوص لا تتواءم معها. فنظرية السرد مثلا هي أكثر تناسبا مع الأدب الروائي الواقعي والشواهد التي يدعم بها Genette أطروحاته النظرية جلها من أدب السرد الواقعي للقرن التاسع عشر. ونظريات التوازي Parallélisme لدي Jakobson Roman وRuwet Nicolas طبقت علي أنواع محددة من الشعر والدكتور علي بن تميم أدرك ذلك لأنه يعرف المدرسة الغربية في النقد ويعرف أن النقاد الغربيين كانوا "يتخيرون النصوص المناسبة للتطبيق" (الصفحة 348 من كتابه).

وكتاب الكتور بن تميم يتطرق بجدية نادرة للخلفية الفكرية للحركة النقدية حول نجيب محفوظ مرجعا إياها إلي منطلقاتها التي تكون إيديولوجية في بعض الأحيان، وهو لعمري ما كنت أنا قد ركزت عليه في كتابي النقد الغربي والنقد العربي نصوص متقاطعة والذي اعتبره بعض المشتغلين بالنقد الأدبي مثل الدكتور صبري حافظ إحدى المحاولات النادرة التي سلطت الضوء علي هذه الجوانب من الدراسة النقدية(13) . مع أن الدكتور علي بن تميم رغم إحاطته بحركة النقد وحضور كتابي في قائمة المراجع ربما نسي تصنيفه في كتب نقد النقد التي تحدث عنها لكل من برادة ونبيل سليمان في (ص44) من كتابه مع اختلاف مقاربتي معهم. وكتاب النقد الغربي والنقد العربي يتنزل في صميم الموضوع الذي يتكلم عنه الدكتور علي بن تميم وهو دور الناقد الذي يستخدم النظرية في نقد التطبيقات.ولكن ما أقوله هنا هو مجرد إشارة عابرة أقولها للدكتور علي بن تميم وتدخل ضمن المآخذ الودية وليست الجوهرية لأن موضوع التميمي هو الحركة النقدية حول نجيب محفوظ ونقد تلك الحركة في أبعادها الفكرية والفلسفية وهذا هو ما نسعى إليه جميعا ويحتاجه النقد العربي المعاصر. واعتقد أن الإحساس بتلك الحاجة والسعي إلي إنجاز دراسات من هذا النوع لسد تلك النواقص إنما يشكل قمة الوعي بما تحتاجه الثقافة العربية وهو مثل انشغالي أنا في أقصى نقطة في المغرب العربي بنفس الهاجس. وهذا كله إنما يعبر كذلك عن وحدة الثقافة العربية من أقصى نقطة في الخليج العربي شرقا إلى أقصى نقطة منه على ضفاف المحيط الأطلسي غربا.

لقد كان الدكتور علي بن تميم في مناقشاته لهذا الموضوع البكر حريصا علي تحرير القارئ العربي من أسر النظريات الأدبية مبينا الكيفية التي يتم بها تشكل النوع الأدبي ولقد أذهلتني حقيقة تلك المناقشة التي تم فيها عرض أفكار Alastair Fowler في كتابه مدخل إلي نظرية الأنواع والأشكال لما لهذا النوع من أهمية في الثقافة التي يجب أن تتوفر للمبدعين وللنقاد العرب سوية. فيا ليتهم قرأوا هذا النوع من الكتب لتخليصهم من أسر القوالب الأدبية التي لم تعد صالحة لأزمنتنا وليدركوا أن بوسعهم صب إبداعاتهم في القوالب التي ترتاح لها أزمنتهم وتلقى استجابة لما لها من صفات مستساغة. وقد تدل هذه القوالب أو الأنواع على أمثلة معاشة أو سابقة وقد تكون أنبنت لحظة إنتاجها وكعنصر مبدع من العناصر الإبداعية المكونة للعمل. وهذا الشكل المبتدع أو المستوحى من الماضي عليه أن يتناسب مع أفق تحري(14) القارئ الأدبي أو الاجتماعي. هذا الاجتماعي الذي يصفه ياوس Jauss بأنه يتناسب مع مصالح القارئ وأهوائه وما يحتاجه ومع تجاربه التي حددها المجتمع والطبقة التي ينتمي إليها وتاريخها.(15) أو على حد تعبير الدكتور علي بن تميم شارحا أولاهما قائلا إن القراء يلجأون إلى رواية ما لأنهم اكتشفوا فيها قيما يؤمنون بها أو لأنهم وجدوا أن هذه القيم قد اهتزت في نفوسهم فهم في حاجة إلي دليل أخلاقي (ص 101).

إن هذه المناقشة المبنية على نظرية الاستقبال التي استخدمها الباحث تحرر الناقد والمبدع العربيين من أسر القوالب الجاهزة. وتقودهما إلى التفكير في مواطن أخرى من الإبداع لم تطأها قدم قبلهما. والثقافة العربية نظرا لكثرة أنماطها توفرها إمكانات لا متناهية من الإبداع. لقد فهم الدكتور بن تميم إشكالية عادة ما تغيب عن أذهان المشتغلين بالأدب والنقد وهي أسر النظريات الأدبية التي تحتم على القارئ والمبدع أن ينطلقا من تصنيف نوعي للأثر المقروء والعمل على قياسه بمعايير ذلك النوع وهذا لعمري مجحف بحق الجميع وكثيرا ما- وعلى سبيل المثال- تستحضر العناصر النظرية للنوع كما يحدث عند استخدام النظرية الأرسطية- هذه النظرية التي ترشد الباحث إلي الخوض في خصائص النوع، وتحصر الدراسة الأدبية في معان ثابتة وموضوعات وموتيفات لأن سيطرة المقاربة المعجمية Lexicographie للبحث عن المعنى هي التي تحدد معنى وشكل الأدب فيها- وهذا قد جعلها تغفل بعض خصائص النوع علي حساب خصائص كانت قد ميزت بها النوع أصلا مثلما حجب عنصر الحرب في الإلياذة عودة الزوجة المختطفة. إن الشعر الملحمي الزنجي مثلا يستجيب حتما لبعض ملامح النظرية الأرسطية ولكنه مع ذلك إذا أخرج من سيطرة المعجمية والنظرية الأرسطية قد تظهر فيه كثير من العناصر الدالة على اختلاف واتفاق الأمم في أمور متعددة. وستظهر فيه موتيفات أهم من الموضوعات في الملاحم الإغريقية مما له أهمية قصوى لقراء اليوم. وعليه فإن الباحث عندنا في المنطقة العربية يجب أن يحذر من إسقاطات النظريات وأن يواجه النص في واقعه. وإن مواجهة الأدب في واقعه لتتطلب كذلك - لغايات المقاربة الأثيرة في النقد المعاصر- أن يوصف الأدب من خلال النظرية بمفهومها الواسع تلك التي تبحث في ثنائية الشكل والمضمون والتصنيفات النوعية. وقد لا تستجيب بعض الأنواع الأدبية لها. وعليه فإنه يجب علينا أن نحذر من أسر النظريات نظريات أًصبح لها تقليد عريق داخل مؤسسات البحث العلمي عندنا وغدت اديولوجيا لها معاييرها التي تسن ما يجب أن يفعل أو يقبل أو يدحض.إن عوض كما بين الدكتور علي بن تميم يعاني من أسر النظرية إذ "يتجلي واضحا أن عوض يرفض "المرايا" لأنها تخلو من الصفة النوعية }...{ أليس عوض –كما أشرت سابقا- من أول النقاد العرب الذين اشتغلوا بمسألة الأنواع وهو في مجمل قراءاته لا يستطيع أن يتناول العمل دون الحديث عن نوعه" إن الدكتور علي بن تميم فهم كل ذلك وتساءل "وهل يمكن أن يدل هذا ضمنا على أن أبنية العقل التي تتحكم بالناقد مشيدة لتتقبل "الشيء" في إطار محدد " هذا في نظرنا صحيح جدا وهو لب الأزمة التي أصيب بها النقد العربي والسرد العربي غداة تأثرهما بالمدرسة الغربية منذ القرن الماضي.

إن الدكتور علي بن تميم يناقش فكرة تلقي نجيب محفوظ بمعرفة وذكاء شديدين فهو يناقش أزمة استقبال النوع الروائي في مرحلة نجيب محفوظ الأولي 1939\1951 وهذه الفترة هي بأمس الحاجة إلي دراسة. وقد ذكر الدكتور حاجتنا إليها فهي تضيء لنا كيف تشكلت وتتشكل المعايير الذوقية عندنا وحالة التعميم التي يتحدث عنها الدكتورعلي بن تميم عند النقاد هي التي خلقت انغلاق الكتاب على أنماط نوعية محددة لا يخرجون عنها مثل تعلق معظم كتاب الرواية (بمفهومها الواسع) منذ بداية القرن العشرين بروايات العقد Roman à collier تلك الروايات التي عرفت في أوروبا منذ القرن الحادي عشر واكتمل شكلها مع برناردين دي سنبيير Bernardin De Saint Pierre خلال القرن الثامن عشر وواصلت تأثيرها حتي القرن التاسع عشر مع زولا.وقد أظهر الدكتور جمال اشحيد تشابها كبيرا بين نصوصه الروائية وروايات نجيب محفوظ.(16)  وهي الروايات التي يحرص كتابها على أن تبدأ بالنقطة (أ) لقاء بين حبيبين ثم تأتي أحداث تفرق بينهما وعادة ما يحدث لقاء عند النقطة (ب) لتنتهي القصة بفراق. إن هذه البنية القصصية التي قد ترسخت في ذهن المتلقين في بداية القرن العشرين عند ظهور قصص المنفلوطي هي التي لعبت دورا كبيرا في رسم سيطرة هذا النموذج الروائي لدى نجيب محفوظ ومن حذا حذوه. وهنا يظهر تحكم الاستقبال في الخلق أي الإبداع الذي يأتي بعده كما يقول دانيال لفرس Daniel Leuwers "إن الاستقبال يتحكم بدوره في الخلق".(17) إنه لمن الصعب أن يتخلص الإنسان العربي من سيطرة القوالب الأدبية وخاصة حبكة الرواية الغربية لأنه بحكم تكوينه الذهني لا يتصور النوع الأدبي إلا بقواعد قياسا على الشعر الذي تنظمه القواعد العروضية الخليلية وهكذا علق منذ القصص الأولى في ذهن العربي أن لها قواعد يجب الالتزام بها كقواعد الخليل للشعر.

وكانت حركة النقد حول الأدب الروائي منذ الروايات الأولي قد دعمت ذلك بإعدام أدبيا أي أدب روائي لا يلتزم في نظر أصحابها بقواعد النوع الروائي التي رسمتها الروايات الأولى التي ظهرت في مصر. واستقرت في النظم المدرسية قواعد النوع الروائي التي لا يمكن الخروج عنها لأي روائي وإلا أعدم أدبيا من طرف النقاد.وهكذا ظل الاستقبال النشط الذي يمارسه الناقد يساهم في سيطرة النوع الذي يسميه الدكتور علي بن تميم النوع القاتل. وراح الكتاب المصريون يكتبون في قوالب الموضة الجديدة واصفين مع النقاد إياها "بالنوع البراق الذي يشير إلي أن صاحبه متأثر بالآخر القوي"علي حد تعبير الدكتور علي بن تميم (ص 106 ). ولولا الإرهاب الفكري الذي مارسه بعض النقاد والكتاب لفرض نموذج بعينه لابتكر المبدعون سردا إنسانيا يجمع كل تجارب السرد عربيا وغربيا ودوليا ولاستقبلت فنون السرد الاستقبال الطبيعي وهذا هو ما توصل إليه الدكتور علي بن تميم عند استحضاره لفولر. وغداة ترجمة بعض هذه النصوص السردية العربية إلي اللغات الغربية قال عنها الغربيون هذه بضاعتنا ردت إلينا وطفقوا يسألوننا لماذا لا تكتبون على غرار ألف ليلة وليلة وكنا قد صنفنا عبر تاريخنا الأدبي هذا المؤلف على أنه مؤلف شعبي وأوافق الدكتور في هذه الناحية من كون المعايير اللاأدبية قد تسهم في رواج أدب ما وتفرض سلطته على جمهور معين (ص 97) وذلك هو حال ألف ليلة وليلة بعد ترجمتها من غالان Gallant 1704م. ولكننا اكتشفنا مؤخرا أن هذا الأثر كان يحتوي علي تقنيات سردية وجماليات فنية لم تكن لتعلق الإنسان العربي في الماضي وسرعان ما دخلت في أفق تحريه وغدا يرغب بل ويطلب ذلك النوع من التقنيات السردية.

كان مؤلف الكتاب موفقا في عرضه لإشكاليات التلقي ويظهر أن معرفته بالنقد الأجنبي قوية عندما ناقش المنشأ الألماني للتلقي والتطورات التي أحدثها الامريكيون علي نظرياته. ثم راح يتحدث عن تأثيرات نظرية التلقي عند مدرسة كونستانس وتاثيرها علي النقاد العرب وما قدمه في الحقيقة هو إسهام فكري ونقدي يستحق أن يتبوأ مكانته في الدراسات النقدية العربية المعاصرة.وليس- كما عبر هو عنه بتواضع شديد - كونه قراءة تجعل طموح مؤلف الكتاب يستمر وليست أحلامه (الصفحة 54). والملاحظة التي سأقدمها هنا هي أن الدكتورعلي بن تميم كان عليه أن لا يبعد نقد النقد لأنه في صميم موضوعه وإن كان النقاد الذين استقبلوا محفوظا في بداياته لم يكونوا مثلي ومثله لأنهم ما قرأوا نظريات الاستقبال ولا مفاهيم الظاهراتية. فكيف نطالب غالي شكري ومحمد حسن عبد الله اللذين انطلقا كما بين المؤلف من رؤى إيديولوجية مسبقة أن يقرآ نجيب محفوظ عبر نظريات الاستقبال. هذا هو نقد النقد الذي قد يجلي بعض المواقف حيال نجيب محفوظ.

لقد بين بن تميم هدف أطروحته ألا وهي تلقي نجيب محفوظ من منظور الميتانقد وهو فهم النقد الذي أنشئ حول محفوظ ولكن حسب وجهة نظره لا غنى عن العودة إلي أدب نجيب محفوظ وهكذا جاء البحث موفقا ومتسقا مع مفاهيم الاستقبال ولكن يبدو لي ان هنالك بعدا آخر لا يقل أهمية ألا وهو البحث في مصادر نجيب محفوظ وإن كان البحث عن المصادر أصبح فكرة بائدة إلا أنه لا غنى عنها في هذا النوع من المقاربات والتي وإن تحدث النقاد عنها لم تستخرج عبر منهج الدراسة النصية أي البحث في التناص مع نصوص أخرى واكتفت الحركات النقدية في معظمها بتصريحات نجيب حولها أو بعض الاتهامات التي لا تجد مبررا نصيا لها.لقد تأثر نجيب محفوظ كما يقول هو وتزعم الدراسات تلك: ب:

J Galsworthy, A.Huxley, D.H.Lawrence, Ch.Dickens, Balzac, Stendhal, Flaubert, Zola, Tolstoi ,Dostoivsky, Tourgueniev, Tchékov, Gorky, Hemingway , Bernard Shaw, Joyce ,Dos Passos, A.Miller , Shakespeare, Tomas Mann,Goethe,Kafka Ibsen ,Strindberg, Anatole France, Proust, Malraux, Mauriac, Sartre, Camus

هذا علي سبيل المثال لا الحصر وعلينا ألا ننسي أن التشابه مع بعض هؤلاء وغيرهم من كتاب العالم هو الذي أدى عند صدور مرمار إلى حدوث ضجة وراجت شائعات تقول إنها نقلت عن قصة طاغور الدار والعالم مما اضطر نجيب محفوظ إلى الرد على تلك الاتهامات. إن دراسة التلقي عند منظريه الكبار من أمثال: Harald Weinrich, Iser, Hans Robert Jauss هي منظور لكتابة تاريخ الأدب بمعنى أن الدراسة المعتمدة على نظرية الاستقبال في كتابة تاريخ أدب معين أو أثر أو مجموعة آثار عليها أن تدرس لا القراء الذين ليسوا سوى مستقبلين ولا النقاد الذين يمارسون الدراسة التي موضوعها الأثر ولكن أيضا الكتاب القراء وهنا ينظر إلى الأدب على انه تواصل لأحداث متماسكة ولا ينشأ فعليا إلا عندما يصبح موضوعا لتجربة أدبية يقوم بها مختلف هؤلاء القراء(18) .

إن استقبال نجيب محفوظ من طرف النقاد يجب في نظرنا أن يأخذ في عين الاعتبار تلقي أعمال نجيب منذ صدورها مقسما إياها إلي مراحل مثل التقسيم الذي عمد إليه الدكتور علي بن تميم. ولكن لو تتبعنا تاريخ صدور أعمال نجيب نجد أنها بدأت بقليل قبل الفترة التي أرخ لها بن تميم وتبدأ من صدور همس الجنون سنة 1938م إذ لا تقل هذه المجموعات القصيرة أهمية عن تلك الأعمال الكبيرة التي تلتها. ومن المهم التذكير بان طبعتها السابعة كانت سنة 1970م أي أنه على مدى ما يقرب من عشرين سنة تم طبعها سبع مرات ناهيك عن الطبعات غير المشرعة مثل ما كان يحدث لمؤلفات الكاتب في لبنان وغيره وقد اشتكى المؤلف من ذلك في حياته مرارا. وهنا يصعب القبض على بعض ردات الأفعال وقياس آفاق الانتظار حولها ناهيك عن العجز في بلداننا العربية عن معرفة كل الأمور المتعلقة بالأثر نظرا لغياب التوثيق فلا يمكن أن تقوم عندنا في المنطقة العربية سسيولوجيا للقراءة لعدم ضبط عملية توزيع الكتاب ومن ثم معرفة مجمل ردات الفعل حوله بعد صدوره. كان علي المؤلف من الناحية المنهجية أن يعرض الأعمال التي صدرت خلال المرحلتين اللتين شملتهما الدراسة وأن يبين عدد الطبعات من كل قصة وعدد النسخ من كل طبعة وردود أفعال القراء بعد صدور الطبعات والدوافع التي أدت إلي ظهور تلك الطبعات خلال المرحلة الأولى من المراحل التي شغلت الدكتور علي بن تميم وفيها ظهرت الأعمال التالية:

عبث القدر صدرت الطبعة الأولي سنة 1939م 1969م طبعتها السادسة.

رادوبيس صدرت الطبعة الأولي سنة 1943م 1971م طبعتها السابعة.

كفاح طيبة صدرت الطبعةالأولي سنة 1944م 1967م صدرت طبعتها السابعة.

خان الخليليصدرت الطبعةالأولي سنة1946م 1972م صدرت طبعتها السابعة.

القاهرة الجديدة الطبعة الأولي سنة 1945م 1971م صدرت طبعتها الثامنة.

زقاق المدق الطبعة الأولي سنة 1947م 1972م صدرت طبعتها السابعة.

السراب الطبعة الأولي سنة 1948م 1970م صدرت طبعتها السابعة.

بداية ونهاية الطبعة الأولي سنة 1948م 1970م صدرت الطبعة الثامنة.

إن عدد الطبعات من كل عمل خلال هذه الفترة يسمح بقياس ردود الفعل حول أعمال الرجل سواء لدى النقاد أي القراء النشطين أو لدى القراء العاديين ممن يجب اخذ ردود فعلهم حيال الأعمال لان ردود فعلهم مهمة في قياس نجاح أو فشل تلك الأعمال. إن قياس مفهوم أفق الانتظار عند ياوص هو تشريع وتثبيت لممارسة استقبال القراء الجادين أعني الذين لديهم تجربة في قراءة الكتب الأدبية وهذه التجربة لدى القارئ تستند عند صدور مؤلف جديد على ثلاثة عناصر:

1- معرفة مسبقة بالنوع الأدبي وعند صدور هذه السلسلة من قصص نجيب كان القارئ العربي قد اكتسب قبلها تجربة في قراءة الرواية على النمط الغربي أرستها زينب وحديث عيسي بن هشام للمويلحي وروايات جرجي زيدان.أي النوع القاتل كما ورد في نص الدكتور علي بن تميم.

2- ألفة مع الأشكال والموضوعات التي طبعت المؤلفات السابقة.والكثير من القراء العرب في هذه المرحلة كانت لديهم هذه الألفة بل إنهم أصبحوا يطلبون هذه الأشكال.

3- التعارض الذي يظهر بين اللغة الأدبية واللغة العملية. لقد حصل التعارض في هذه السلسلة وهو ما تسبب في كثير من الجدل حولها.

إن الهدف من التحقيب هنا Périodisation هو كتابة تاريخ مرحلة من مراحل الأدب وذلك لأن ردات فعل القراء في مرحلة ما عند أخذها منفصلة لا تشكل للتزامن والتعاقب كلا معنويا علي مستوي التاريخ وقد لجأ ياوص إلى إدخال مفهوم أفق الانتظار Horizon d’attente لمن يريد كتابة تاريخ آفاق الانتظار وتغيراتها وهكذا كان علي الدراسة من منظورنا أن ترصد آفاق الانتظار تلك غير مقتصرة علي آفاق الانتظار الخاصة بالنقاد لكي تكتمل بذلك صورة استقبال الرجل لأنه وكما أشار الدكتورعلي بن تميم قد رفض من طرف بعض المتلقين للأسباب التي ذكرها وهي أسباب وجيهة. إن إحداث مقاطع سنكرونية تسمح بعقد روابط بين المعايير المستقبلة في مجال الشكل في مرحلة من مراحل تطور عمل الكاتب وآفاق الانتظار التي تقابلها لجد هام لكي تتضح الصورة أكثر فأكثر. وعند الحصول على مقاطع سنكرونية حصل عليها في التعاقب يمكن بعد مقارنة النتائج التي حصل عليها إظهار النجاح أو الفشل اللذين حظي الكاتب بأحدهما.

إن إحدي المراحل التي ركز عليها الباحث الدكتورعلي بن تميم هي مرحلة 1939م حتي 1951م وكنت أفضل أن تبدأ المرحلة من سنة 1938م أي سنة صدور همس الجفون يستحسن من الناحية المنهجية أن تقسم علي مقاطع تمثل مراحل يمكن قياس استقبالها كأن تقسم إلي مرحلتين من 1938م إلي 1946م سنة صدور خان الخليلي والمرحلة الثانية من 1946م حتي سنة 1951م أي ثلاث سنوات بعد صدور بداية ونهاية التي صدرت سنة 1948م. وفي كل مرحلة تجمع الحركة النقدية حول الأعمال التي صدرت في تلك المرحلة ويؤخذ كل عمل بمفرده وردات فعل القراء حوله , النشطون منهم وغير النشطين. وعلى كل حال فإن عملية دراسة استقبال النصوص الخيالية ممثل القصة تبدو معقدة في نظر منظري الاستقبال فإيزر مثلا في تركيزه علي فعل القراءة الذي يشكل القارئ عبره فعالية خلاقة ويشكل هذا الفعل نفسه موضوع دراسة الاستقبال كظاهرة من الظواهر فتحت لجمالية الاستقبال طريقا جديدا. ولكن لهذا المنهج الإيزري حدوده فهو منهج شكلي ينحصر تطبيقه علي النصوص الخيالية الروائية الإنجليزية المنتجة منذ القرن الثامن عشر والتي شكلت نموذجا حتي القرن العشرين. ولجوؤه إلي ذلك النموذج كان لإدراكه أن متغيرات هذا النموذج القصصي شبه ثابتة.(19) إن البحث في استقبال النصوص الخيالية القصصية Fiction يفرض مقاربة نظرية معقدة وهذا هو حال استقبال كاتبنا الذي كثرت المتغيرات في نماذجه القصصية التي بسطها للقراء خلال هذه الفترات.

لقد ربط معظم النقاد الذين تناولوا نجيب محفوظ بالبحث أدبه بالتحولات الاجتماعية ولكن البعض من منظري الغرب الكبار لا يرى أن البحث في العلاقات بين الفن والمجتمع ضروري في مجال الاستقبال لأن هذه العلاقات كامنة في الفن عند إنتاجه وعلينا كما يقول آدورنو Adorno "ان نحذر من البحث في وقع الآثار لأن هذا البحث لن يسمح بالقبض علي الفن كظاهرة اجتماعية لا ولا أن نطالب- كما يفعل الفكر الوضعي – بممشروعية إملاء معايير الأثر الفني.لأن الفن والمجتمع يختلفان في مضمون الأثر ولا يختلفان في الأشياء الخارجة عن الفن"(20). إن إعادة النظر في ما كتبه النقاد خلال هذه الفترات التي تناولها الباحث بجدية لمسألة في غاية الأهمية لان الناقد عندنا في المنطقة العربية مازال رهنا لوظيفته التي حددها المجتمع والثقافة والتاريخ.وقد تناول النقاد نجيب محفوظ من خلال تلك الخلفية وجاءت خطاباتهم مطبوعة بتلك الافتراضات شأن الخطاب النقدي عندنا في عمومه والذي يفتقد الغاية التي يسعي إليها وكثيرا ما يبعده ذلك عن مطابقة الحقيقة التي يرجي منه الوصول إليها.

هذه الأمور كلها استعرضها الناقد بجدارة وبفطنة نادرة.وإن توفيق هذه الدراسة قد نجم في نظرنا عن الأمور التي نوجزها في النقاط التالية:

أولا معرفة الرجل بأعمال محفوظ موضوع بحث النقاد.وثانيا معرفته بأعمال النقاد الذين تناولوا محفوظا بالنقد وثالثا معرفته بالخلفية النقدية والفكرية الغربية التي كانت أساس ذلك الخطاب.ورابعا المنهج المستخدم الذي مكن صاحب الدراسة من التوفيق في كل مراحل الدراسة حتي جاء بهذه النتائج المدهشة حقا.وفي النهاية أتمني له التوفيق في مسيرته النقدية.

 

أستاذ الأدب المقارن بجامعة انواكشوط

 

هوامش:

د.علي بن تميم، النقاد ونجيب محفوظ: الرواية :من النوع السردي القاتل إلي جماليات العالم الثالث، أبوظبي- هيئة أبوظبي للثقافة والتراث المجمع الثقافي سنة 2008

(1)   MORTIER (Daniel) Reception n’est pas raison ou les objectifs des études de réception en littérature comparée dans Œuvres et critiques,xi,1986.

(2)   RIFFATAIRRE (M.) La production du texte Ed.du Seuil Paris 1979,p89.

(3) يمكن الرجوع إلي مجلة حوليات كلية الآداب بجامعة انواكشوط في عدديها الثالث والرابع من السنوات 1993و1994وهي بطبيعة الحال مجلة غير داخلة في بؤرة الضوء وعنوان الدراسة (مقترحات أولية من أجل كتابة التاريخ الأدبي العربي ).والعذر كله لمن لم يطلع عليها.

(4) مجلة الدوحة القطرية العدد 23 بتاريخ أيلول 2009.

(5) برادة (محمد) محمد مندور وتنظير النقد العربي بيروت دار الآداب 1979، وبلمليح (إدريس) الرؤية البيانية عند الجاحظ المغرب، الدار البيضاء عن دار الثقافة 1984.

(6) أحسسنا سنة 1985 بضرورة نقد للنقد فقمنا بأول اقتراح لترجمة هذا الكتاب وصدرت ترجمة الفصل المتعلق بمخائيل باختين في مجلة المعرفة الصادرة عن وزارة الثقافة السورية العدد 281، إلى أن ظهرت ترجمة د/ سامي اسويدان، عن مركز الإنماء القومي، لبنان في السنة الموالية 1986.

(7)  - CHEVREL (Ives), «Le Discours Critique» Dans Précis de la Littérature Comparée, Paris PUF , 1989 P.195.

(8)   BOULEIBA (Mohamed) Critique Littéraire Occidentale Critique littéraire Arabe Textes croisés Paris l’Harmattan,2000.

(9) استحسن المرحوم الدكتور عز الدين إسماعيل ترجمتي ل Horizon d’attente بأفق التحري بدل الانتظار وذلك عندما ألقيت في القاهرة محاضرة حول الانتظار بالقاهرة وذلك سنة 1996م.

(10)   CHEVREL (Yves), Le texte étranger: «la littérature traduite,» Pierre BRUNEL et Yves CHEVREL dans: Précis de Littérature comparée, Paris, P.U.F. 1989, P.68.

(11)  BOULEIBA (Mohamed) Critique Littéraire Occidentale Critique littéraire Arabe Textes croisés Paris l’Harmattan,2000,p.142.

 Alan Sokal et Jean Bricmont Impostures intellectuelles Paris Editions Odile Jakob,1997.(12)

(13) أنظر مقدمة الدكتور صبري حافظ لطبعة المجلس الأعلي للثقافة بمصر لكتابنا النقد الغربي والنقد العربي نصوص متقاطعة الصادر سنة 2002.

(14) استحسن المغفور له الدكتور عز الدين إسماعيل مصطلح التحري الذي استخدمته بدل الانتظار عندما كنت ألقي محاضرة في القاهرة بحضوره حول نظرية الاستقبال يوم 25\3\1996م.

 JAUSS (Hans Robert) Pour une esthétique de la réception Paris Gallimard,1978,p.21. (15)

(16)   CHEHAYED (Jamal) La conscience historique dans les Rougon-Macquart D’Emile Zola et dans les romans de Negib Mahfouz.Diffusion Maisonneuve et Larose.Editions Université de Damas 1983.

(17)   LEWERS (Daniel)" Les lectures de la poésie" dans La réception de l’œuvre littéraire Recueil de colloque organisé par l’Université de Wroclaw Wroclaw 1983.p.121.

(18)   JAUSS (Hans Robert) Pour une esthétique de la réception Paris Gallimard,1978,p 48 p49.

(19)   KARLHEINZ (Stierle) Réception et fiction dans Poétique n°39 septembre 1979 p.299 et suivantes.

(20)   ADORNO cité par Peter Burger, Œuvres et Critiques,o.c.,p.7.