ينشر باب مواجهات هذا الشهر حوارين مع ناقدين مغربيين مرموقين ومتميزين: أهتم أحدهما بالشعر وكتبه، بينما اهتم الآخر بالسرد وكتبه أيضا. وبرغم اختلاف مقترب كل منهما وتميز لغته وأنجازه النقدي، فإن ثمة هموما ثقافية ونقدية مشتركة تجمع بين الحوارين، وتطرح من خلالهما الكثير من القضايا النقدية والإبداعية المهمة.

النقد لا يقوى على مجاراة انفجارأت الكتابة

حوار مع الناقد والمترجم المغربي بنعيسى بوحمالة

محمد العناز

بنعيسى بوحمالة أستاذ جامعي وناقد.. واحد من الذين خبروا واحات وأسرار القصيدة المغربية، وكذا العربية، المعاصرة وصاحبوها عن طريق مواكبة منجزها بالنقد والقراءة والعبور بها إلى لغات أخرى. شعريّة لغته النقدية تخطّت الحدود الوهمية بين الشعري والنقدي وعبرت جغرافيات متعدّدة. يحلم كثيرا بوضعية تفرّغ تامّ للكتابة والتّعاطي معها بمزاج صاف، أي امتهانها على نحو ممنهج والعيش من مردودها رغما من معرفته المسبقة بتعذّر تحقيق حلمه هذا في ظل الشروط الثقافية والتّرويجية الهشّة للمكتوب في العالم العربي. له مشاركات في العديد من الملتقيات النقدية و الثقافية المغربية و العربية و الدولية.

صدر له: "النزعة الزنجية في الشعر السوداني المعاصر: محمد الفيتوري نموذجا" (2004) و "أيتام سومر.. في شعرية حسب الشيخ جعفر"، في جزئين، (2009)، كما ساهم في كتب جماعية حول الشعر المغربي والعربي والعالمي نشرت بالمغرب وخارجه، وأنجز دراسات حول تجارب شعراء عرب ومغاربة معاصرين، كبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وسعدي يوسف وصلاح نيازي وصلاح عبد الصبور ومحمود درويش ومحمد عبد الحي وقاسم حداد ورفعت سلاّم وحلمي سالم وأمجد ناصر وسيّد جودة وأحمد المجّاطي ومحمد السرغيني ومحمد بنيس ومحمد بنطلحة وحسن نجمي وياسين عدنان ومحمد غرافي..؛ ونازك الملائكة وآمال الزهاوي وأحلام مستغانمي ومليكة العاصمي وخلاّت أحمد وظبية خميس وسعدية مفرّح..؛ وإلى جانب اهتمامه بالنقد الشعري يولي بوحمالة عناية لترجمة الشعر بحيث سيترجم منتخبات شعرية للألماني بول سيلان والفرنسيّين إيف بونفوا وسيرج بّي والبلجيكي جيرمان دروغنبرودت والإيطالية دوناتّيلا بيزوتي والكرواتية لانا ديركاك والسلوفاكي جوراس كونياك.. مثلما قدّم وترجم جزئيا كتابا جماعيا بعنوان "البحر الأبيض المتوسط.. ضفّة من تلقاء أخرى" يضمّ نصوصا منتقاة لشعراء وقاصّين ومسرحيّين وموسيقيّين وسينوغرافيّين وغيرهم من المبدعين المنتمين إلى بعض الدول المتاخمة للبحر الأبيض المتوسط كفرنسا وإسبانيا وإيطاليا واليونان..؛ مثل أليم سور غارسيا، نينا فينيتسانو، أمينة سعيد، كارلوس غراسا تورو، سيرج بّي، سلافين ماركو بيروفيتش، وأندري نيتون. سيصدر له قريبا، عن إحدى دور النشر العربية، كتاب "شجرة الأكاسيا" في نقد الشعر.

* بدأت شاعرا تنشر نصوصك الأولى في الملاحق الوطنية، لكنك سرعان ما تخلّيت عن ممارسة غواية الشعر ووجّهت مجهرك نحو مساءلة المنجز الشعري المغربي والعربي والعالمي نقدا و ترجمة، فهل هذا التحول رهين بعدم نجاحك كشاعر أم أن جغرافية الشعر لم تعد تستوعب أحلامك.. أم أن اهتمامك بنقد الشعر وترجمته هو جزء من ممارستك للفعل الإبداعي باعتبار أن النقد والترجمة لهما شكلان إبداعيان بوجه من الوجوه ؟
- دعني أقول، بداية، بأني كنت مقتنعا، شديد الاقتناع، و لمّا أزل كذلك، بأنه لا وجود لممارسة فنيّة، ومنها الممارسة الشعرية، بمعزل عمّا يتواطأ عليه بالموهبة أو الاستعداد القبلي. فالموهبة هي المنطلق أمّا مدرج التّتويج فهو المعرفة المثابرة والخبرة المكتسبة والاقتدار على التطوير والإضافة، ولولا هذا لما كان للآداب الإنسانية أن تغنم مخيّلات شعرية هائلة، من عيار هوميروس وامرئ القيس وأبي الطيب المتنبي ودانتي أليغيري وإيزودور لوكاس لوتريامون وآرثور رامبو وطاغور ووولت ويتمان وبول سيلان وميغيل هرنانديث وسيزار فاييخو وروبيرتو خواروث وإيمي سيزير وبيي ضاو وأدونيس وصلاح عبد الصبور وصلاح ستيتيّه..؛ إلى آخر قائمة البّانثيون الشعري الخالد. وإذن لأقل بأنّي وأنا أستنصت النّبض الخفيّ لكياني في بواكير العمر الطازجة والملتبسة وجدتني أميل إلى الصمت والعزلة واستبطان الأشياء، بدل التّحديق فيها.. تماما كأيّما تموقف شعري إزاء مظاهر الوجود و مجرياته. ثم حصل أن أخذ هذا القدر الشخصي يتغذّى، و بالتالي يتقوّى، من خلال قراءاتي النّوعية في تلك السّن، أساسا ل "إلياذة" و"أوديسة" هوميروس.. لتحفة "ألف ليلة وليلة"، وكذا عبر إدماني مشاهدة الأشرطة السينمائية الميثولوجية، الهوليودية والإيطالية، فكان أن عرفت مفاعيل هذه الاعتمالات التلقائية ترجمتها الكتابيّة في قصيدتين اثنتين، إن صحّ لي نعتهما بنعت جسيم كهذا، ملؤهما البوح والتعبير الفائر عن انفعالي بالعالم آنئذ. وبتحفيز من الشاعر الصديق علال الحجّام سأبادر إلى نشرهما بجريدة "العلم" المغربية، فكانتا بذلك بداية العهد، وآخره في آن معا، بالممارسة الشعرية التي تفترض مؤهّلات أدائية أكبر وأعقد ممّا كان بحوزتي وقتئذ.

وفي هذا المضمار، وإن نحن استأنسنا بسير بعض النقاد المحترفين فسنلاحظ ارتهانهم بالكتابة الشعرية في لحظة من لحظات مسارهم النقدي المكرّس. تلك كانت، مثلا، حالة الناقد الفرنسي سانت بوف، أحد الأساتذة الروحيّين لطه حسين، وإليوت وهنري ميشونيك..؛ في النقد الغربي، وحالة عباس محمود العقاد وعز الدين إسماعيل وكمال أبو ديب..؛ في النقد العربي الحديث، هذا ناهينا عن نقّاد عرب قدامى، كأبي هلال العسكري وحازم القرطاجني، بل وإن نحن وسّعنا، نسبيا، الدائرة فلسوف نلقى هذا الملمح الدّال حتى في سير فلاسفة خلّص لم يمنعهم اشتغالهم الفلسفي الصارم من التّحرش بالشعر، كأفلاطون وفريدريش نيتشه وكارل ماركس..؛ وعليه فإن كنت قد أعفيت نفسي، أو القصيدة هي التي أعفتني لا فرق، من متطلّبات ومكابدات لا تحصى (لنا عبرة، بصدد هذه المسألة، بالشاعر النمساوي الكبير راينر ماريا ريلكه الذي سيقضّي زهاء عشر سنوات وهو يكابد محنة كتابة ديوانه المزلزل "مراثي دوينو")، فإن حساسيّتي الشعرية المتجذّرة ستنمّي لديّ، كنوع من الاستعاضة، خصلة قراءة الشعر فيما توالى من سنين وتقتادني، كنتيجة، إلى تصريف فائض علاقتي القرائية بقصائد ومتون في هيئة مقاربات نقدية وترجمات شعرية ما فتئت تجذّر هذه الحساسيّة وتوطّد انشدادي إلى فضاء هذا الجنس التعبيري الفاتن والشّائك.

* باعتبارك مارست القصيدة وخبرت بعضا من أسرارها وتمرّست بدروبها العصيّة، إلى أيّ حدّ يحضر فيك الشاعر أثناء عملية النقد ؟ هل تستطيع الفصل بين ذائقتك الشعرية وثقافتك النقدية، أم أنك من دعاة التوفيق بين الذوق و سؤال المنهج ؟
- عن ممارسة الكتابة الشعرية دعني، ثانية، أدقّق بأن الأمر لم يتعدّ حدود قصيدتين اثنتين، و من ثمّ سيكون ضربا من المجازفة أن أتحدث، بوثوق واطمئنان، عن أسرار القصيدة ودروبها العصيّة لأن هذا لن تكفله، فيما أرجّحه، سوى الدّربة المستديمة والتراكم الفعلي. مقابل هذا فأنا لا أستطيع، حقّا، الفصل بين ذائقتي الشعرية وثقافتي النقدية. وفي هذا الإطار اسمح لي بأن أرتجع، نسبيا، إلى الوراء.. إلى سني التحصيل الجامعي لمّا أخذت في التعرّف، عن قرب، على النقد العربي، القديم منه بخاصة، و ذلك لأن المقرّرات الجامعية كانت تنحاز، حينئذ، إلى ما هو قديم، في حين لن يتاح لي أن أستكشف في خانة النقد العربي الحديث سوى معارف ضيقة وضحلة تتصل بطه حسين وميخائيل نعيمة وشوقي ضيف ومحمد مندور. و لربّما هي مصادفة خلاّقة، بقدر ما تنصبّ رأسا في حساب حساسيّتي الشعرية، المومأ إليها قبل برهة، تتجاوب كذلك مع تطلّعي الصميم إلى مدّ جسور قرائية مبتكرة ومنتجة مع النص الشعري، تلك التي هيّأت قراءة مقالات نقدية متفرّقة لكلّ من الناقد المصري أنور المعداوي والشاعر والمفكر الإسباني ميغيل دي أونامونو (من جيل 1898 الإسباني)، مصادفة لن تتأخر عن استفحالها الأرقى ساعة أمدّني صديق من جيلي كان طالبا، حينها، بشعبة الأدب الفرنسي بكلية الآداب بالرباط بكتاب "درجة الصفر في الكتابة" للناقد الفرنسي الجميل رولان بارت. وإذن بفضل المعداوي (الذي ظللت رغما من فضله الرمزي عليّ، و ياللمفارقة، أنطقه، مذ تعرّفت على صوته النقدي المائز، بتسكين العين و نصب الدّال مخفّفة إلى حدود العام الماضي لمّا سمعت الصديق الشاعر رفعت سلاّم، و أنا وإيّاه والصديق الشاعر محمد الصالحي نتغذى سوية في مطعم قاهري أنيق، ينطقه بنصب العين ونصب الدّال مشدّدة) وأونامونو وبارت سوف أتملّك سبلا قرائية باذخة، حميمة، ومفتوحة للنص الشعري تجعل من اللحظة النقدية لحظة حوار وتفاعل.. صداقة و تماه.. مع هذا النص وتخوّل لجمرة الشعر الكامنة في دخيلة الذات القارئة بالتوهج، مفردات ولغات واجتراحات، وتمنح الفعل النقدي، بتعبير بارت، هيئة اقتراب شغوف و ودود من النص، هيئة فعل إبداعي بالأحرى. بهذا إن حقّ لي أن أعيّن اختيارا نقديا ما يوجّه اقترابي من النص الشعري فهو المزاوجة المرنة، المتسامحة، بين أساسيات المنهج، و ليكن، مثلا، البنيوية الشكلانية أو البنيوية التكوينية أو نظرية الدّالية التي اعتمدتها في كثير من دراساتي، و بين التّعاطي الحرّ، المنصت، و المنفتح، مع هذا النص.

* هل يمكن إخضاع كتاباتك لوحدة فكرية أو مشروع نقدي بعينه، أو، بتعبير آخر، هل تكتب ضمن استراتيجية معينة أم أن الصدفة هي التي تقودك إلى الكتابة و اختيار المتن ؟
- في هذا الصدد أقول إن كتاباتي النقدية تصدر، في غالبها، عن تصميم مسبق وبالتالي، ضمن مشروع نقدي شخصي متواصل يسعى إلى التربّص بأسئلة الكتابة، التمثّل، الذات، العالم.. الموت، المجهول، الإمكان، الاستحالة..  توسّلا بنصوص ومتون شعرية على درجة من الاغتناء الجمالي والجسارة الرؤياوية تعينني على ارتياد تخوم قصيّة بقدر ما تهمّ الشاعر تهمّني أنا الآخر. و بهذا المعنى تتّخذ الوساطة النصية التي تتيحها هذه النصوص والمتون صفة البرزخ الرمزي الذي يسلمني إلى تلك التخوم، وكلّما كانت القصيدة متعالية في أدائها و رهانها إلاّ و اطّرد إيغالي، لغة و تأويلا، في اللاّمتوقّع من المهبّات والأصقاع التي تفترعها. لكن إذا كان هذا هو ما يوجّه، من حيث المبدأ، كتاباتي النقدية فليس معناه امتناعي عن محاورة نصوص وتجارب شعرية، وقد تكون أحيانا روائية أو قصصية كأعمال نجيب محفوظ ومحمد برادة وأحمد المديني والميلودي شغموم وميرال الطحاوي..؛ خارج هذه الاستراتيجية ممّا قد تستلزمه مني مشاركات ثقافية، هنا و هناك، لكن من غير ما تغاض قاتل عن مشترط الكفاية أو المعياريّة الشعرية المستحقّة.

* هذا الحديث يدفعنا إلى التساؤل عن اهتمامك بالنزعة الزنجية في بعض ما تكتبه، فهل تمتلك الزنجية مفهوما محدّدا في كتاباتك ؟ و ما مدى حضورها في راهن الشعر العربي ؟
- إن اهتمامي بالزنجية له صلة ما، إن أردنا، بجانب من تربيّتي الروحية واندغامي، كجزء كبير من أبناء جيلي، في الموجات الموسيقية العربية والغربية السائدة آنئذ. فلقد كان وجداني موقوتا، من جهة، على النماذج الراقية في الغناء العربي التي يأويها الرّيبّيرتوار الغنائي لعمالقة أفذاذ من عيار محمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ واسمهان وفيروز، ومن جهة ثانية على الموسيقى السوداء القادمة من أمريكا، موسيقى البلوز والغوسبل والجاز، و إلى الآن لا أزال محتفظا بأسطوانات نادرة من هذا التراث الغنائي الفريد. إن تمثّلي لأمريكا لم يكن وليد انتقائية ما وإنّما هو نتاج نظرة متوازنة يتداخل فيها ما هو فكري بما هو أخلاقي. ذلك أني بقدر ما كنت مشدوها بالحلم الأمريكي، بثمرات العقل الأبيض الأمريكي التي جسّدتها رموز و علامات جاذبة: جون كينيدي، مركبة أبّولو، برودواي، هوليود، تينيسي ويليامز، وليم فولكنر، إميلي ديكنسون..؛ كنت معنيّا أيضا بأمريكا العميقة، أمريكا الجنوب الرّعوي، الرّائق، وحيث أولئك البشر الملوّنون والمقتلعون، قسرا، من مسقط رأسهم الإفريقي ليزجّ بهم في الطاحونة الأمريكية البيضاء، المتغطرسة، معنيّا، كما قال فديريكو غارسيا لوكا في ديوانه "شاعر في نيويورك" إثر رحلته الأمريكية الشهيرة، بالسّود الذين هم الاستعارة الحيّة في أمريكا الرأسمال والعقلنة الباردة، الاستعارة التي ترشح بها تراتيلهم الكنسيّة، أهازيجهم، رقصاتهم الموصولة بجروح العبودية والعنصرية والمهانة.

هكذا، وبتأثير من الموسيقى السوداء الأمريكية سأجدني أقرأ، من بعد، بعض عيون الأدب الزنجي الأمريكي، رواية "كوخ العمّ توم" وبعض أشعار لانغستون هيوز وستيرلينغ براون..؛ و من ثمّ وأنا أكتشف محمد الفيتوري، ضمن الأفق العام للشعرية العربية المعاصرة، والذي كانت لاسمه سطوته النقدية والإعلامية في تلك الأثناء، فلكأنّني عثرت على التحقّق الكتابي، في اللغة العربية، لجروح الذات السوداء المناظر لما أنجزه الشعراء السّود في هذا المضمار، لا في إفريقيا ولا في الشّتات، توسّطا باللغات الأروبية، فحدث، وأنا أقرأ ما كتبه هؤلاء مقارنا بينهم وبين شاعر عربي، أن انجررت تلقائيا إلى قلب الثقافة السوداء، في تعبيراتها الجمالية المختلفة، إلى تاريخ إفريقيا وتقاليدها، أي إلى كلّ ما يمثّل الأرضية الصلبة لفكرة، أو إيديولوجيا، الزنجية. وإذا ما ربطت هذه المغامرة البحثية بولعي بالموسيقى السوداء الأمريكية سأعتبر الأمر بمثابة إسداء تحية رمزية شخصية لأمّة عانت من ويلات وآلام تاريخ ظالم لكنها اهتدت، رغما من هذه الويلات والآلام، إلى أجمل إبداع موسيقي.

من هنا، إذن، منشأ علاقتي بالزنجية وارتهاني، الذي ما انفك قائما، بالثقافة السوداء. الزنجية كمبدأ وتصوّر للعالم، كتمثّل للهوية الجمعيّة وكموقف من الحضارة الغربية، مثلما تجلّت مقدماتها الفكرية والنظرية في كتابات الفيلسوف آمو غينيا – أفير (القرن 18)، أول فيلسوف إفريقي، مرورا بأقطاب آخرين كإدوارد ويلمت بلايدن و ويليام دي بوا، وانتهاء إلى الثالوث الشعري الذّائع الصيت: السينغالي ليوبولد سيدار سنغور، المارتينيكي إيمي سيزير، والغوياني ليون غونتراس داماس، الذي سيكرّس الزنجية كفكرة، أو إيديولوجيا، موجّهة للأمّة السوداء و يمنحها دفعة قوية في المحافل الثقافية والسياسية الدولية ويستقطب لها، أيضا، تعاطفا فكريا وأخلاقيا من لدن النّخبة الثقافية الغربية (جان بول سارتر، أندري بروتون، جورج بالانديي..؛) لتتولاّها، فيما بعد، أجيال لاحقة من الشعراء والروائيين والقصّاصين السّود، وفاعلون إبداعيون في حقول المسرح و السينما والتشكيل والموسيقى والكوريغرافيا، وتنعقد لها ملتقيات دولية كبرى، آخرها ملتقى داكار (2010) للفنون الزنجية.

وعن حضورها في الشعر العربي، ولو أن المقام لا يسمح بالتفصيل في هذه النقطة، يمكننا القول بأن الشعراء السّود كانوا، دوما، جزءا لا يتجزّأ من تاريخ الشعر العربي (لنستحضر مثال عنترة بن شدّاد العبسي)، إلاّ أن الزنجية بالتحديد الذين تبلورت عليه في كتابات المفكرين والمنظّرين والسيّاسيين السّود وعكستها أعمال ونصوص مبدعين سود في إفريقيا وأمريكا وجزر الأنتيل فلا يمكن الحديث عن مواظفتها في الشعر العربي المعاصر فيما خلا الشعر السوداني، لاعتبارات تتصل بالجغرافيا و التاريخ و الثقافة في هذا البلد الأفرو – عربي، وفي قصائد معزولة لشعراء من خارج السودان، كبلند الحيدري وأحمد عبد المعطي حجازي ومعين بسيسو وسميح القاسم..

* هل يمكنك أن تحدّثنا عن علاقتك بتجربة محمد الفيتوري الشعرية التي أفردت لها كتابا صدر عام 2004، خصوصا وأن هذا الشاعر لم يأخذ حقّه الكافي من النقد مقارنة مع مجايليه والذين عاصروه من الشعراء ؟
- مثلما أشرت سابقا فإن تعرّفي على الشاعر محمد الفيتوري قد تمّ في إطار اهتمامي بالشعر العربي المعاصر وبأسمائه الكبيرة، كبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وأدونيس و أحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور وغيرهم من الرواد. لكنّي وأنا أقرأ شعره هو بالذات فاجأتني مغايرته الجذرية، في دواوينه الإفريقية التي دشّن بها مشواره الشعري، لزملائه فيما يخص الموضوع الشعري. و حالما علمت بأنه سوداني (قبل أن يتحول إلى الجنسية الليبية فيما بعد) بدأت أستوعب هذه المغايرة. و لأنّني كنت مهيّئا، سلفا، للتفاعل مع الموضوع الإفريقي في الشعر العربي المعاصر فإن تجربة الفيتوري الشعرية سوف تقودني، توّا، إلى المدار الأوسع للشعر السوداني الحديث والمعاصر، بكافّة أجياله، ثمّ إلى رحاب السرد والمسرح السودانيين، فتاريخ البلد وتقاليده. وحتى أتعمّق أكثر هذه المغايرة تبيّنت لي ضرورة خوض مقارنة متّئدة بين تعبير الفيتوري ومجايليه السودانيين عن نزعة زنجية لا غبار عليها وبين تعبير شعراء أفارقة وأمريكيين وأنتيليّين عن ذات النزعة بواسطة لغات أروبية فخلصت إلى تقاطعات شتى على مستوى التعبير والرؤيا ممّا خوّل للّغة العربية الاندراج، وعن كفاءة، في المدوّنة اللغوية العالمية التي اقترنت بالزنجية وساهمت في ذيوعها الثقافي والإعلامي. جزاء هذا سينال الفيتوري، ما في ذلك ريب، حظوة إعلامية وترويجية، تكاد تكون غير مسبوقة، خصوصا في مصر خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، بالنظر إلى فرادة موضوعه الشعري قياسا إلى موضوعات الشعرية العربية المعاصرة، لكنه لم يتناول نقديا على نحو رصين، هادئ، ومستغور، وأملي أن أكون قد سددت، بكتابي عنه، هذه الثغرة في النقد العربي الحديث.

* أصدرتم كتابا في جزئين هو عبارة عن قراءة في التجربة الشعرية لواحد من أقطاب الحداثة الشعرية العربية الستّينية في العراق، يتعلق الأمر بالشاعر حسب الشيخ جعفر. لماذا كتاب "أيتام سومر.. في شعرية حسب الشيخ جعفر" ؟ وما هي الخلفيات المعرفية والجمالية التي تقف وراء هذا الاختيار ؟ هل لكون الستّينيين العراقيين نجحوا، فعلا، في تخطّي شعرية الريادة والقطع مع منجز أبيهم الشعري الرمزي بدر شاكر السياب ؟
- في هذا العمل يتعلق الأمر بمساءلة ما يمكن احتسابه نوعا من قيمة مضافة، كتابة ورؤيا، في الشعرية العربية المعاصرة وكانت قد مرّت قرابة عقدين زمنيّين على أولى تربّصاتها بالإبدال الشعري الجديد. وإذن فانطلاقا من دأبي على تتبّع الشأن الشعري العربي، وكذا انجذابا شخصيا مني تجاه الأعمال والخبرات التي تتصادى والهاجس الشعري الملازم لكينونتي، كان أن سعيت، وأنا أتدبّر المنجز الشعري لحسب الشيخ جعفر، إلى النزول عميقا، وعن محبّة ومراهنة، إلى هاوية الشعر السّحيقة، الأصيلة، والمدمّرة، ألا وهي الهاوية الأورفية. أوليس أورفيوس هو أول شاعر ومغنّي كوني بحسب الميثولوجيا الإغريقية، وما نزوله المجازف، لكن العاشق، إلى الجحيم أو "الهاديس" الميثولوجي الإغريقي كيما يستردّ حبيبته يوريديس إن هو، عمقيّا، إلاّ نزول من أجل تملّك القصيدة المتفلّتة، الهاربة أبدا، كأيّما جمال أنثوي فاجع. وإذ ضاعت منه حبيبته، في غضون تلك اللّفتة الدراماتيكية التي شاءها مزاج الأسطورة، أيقن كشاعر، من فوره، ألاّ مصير للقصيدة سوى في متاهات الفقد، الغياب، والاستحالة.

لعلّ هذا ما تشفّ عنه تجربة حسب الشيخ جعفر، هذا الشاعر النّابه والحزين، وحتى أؤطّر تجربته هذه على نحو أفضل وألتقط جوهرها الحداثي الدّامغ كان عليّ أن أعود إلى ذات المرجعيات الشعرية التي تغذّت عليها نصوصه (الهايكو الياباني، الشّي الصيني، هولدرلين، ريلكه، غابرييلا ميسترال، و الشعراء الروس بخاصة.. إلى التراث الصوفي وإلى تحف روائية وقصصية ومسرحية وسينمائية وتشكيلية وموسيقية وكوريغرافية.. كان لها فعلها النّاجز في نسيج هذه النصوص)، وذلك موازاة مع عودتي إلى الجهد الشعري والثقافي الجمعي الذي قام به جيل الستينيات العراقي، أحد ألمع وأذكى الأجيال الشعرية التي عرفها الشعر العربي المعاصر، حتى أقيس، من خلال مقترحات شعرائه التّصورية والإبداعية حدود القطيعة (بمعناها الباشلاري) مع البرنامج النظري والكتابي لشعرية الريادة مختزلة في قطبها الأبرز أو رأس حربتها بدر شاكر السياب، وأتأكّد، إن شئنا، من مدى توفّقهم، كأبناء شعريّين، إلى قتل أبيهم الرمزي هذا، كما أوديب في تراجيديا سوفوكليس، حتى يستردّوا، من داخل اليتم الشعري الفادح، لا الأمّ ولا طيبة / مسقط الرأس، التي هي في وضعيتهم الأونطولوجية و الرؤياوية "إيدن" (الجنّة) السومرية (التي انحدرت منها "عدن" الواردة في الكتب الدينية التوحيدية) بما هي مضارع لحظة حضارية هاربة.. قصيدة مستحيلة.. أو يوريديس أورفية.

لقد استغرقت منّي هذه السّفرة الرمزية مع حسب الشيخ جعفر إلى حيث يستضيفنا معا أورفيوس في مفرق لحظته الرؤياوية اللاّتوصف سنوات من القراءة والتّعرف والتّأمل، في الشعر والنقد والتاريخ والميثولوجيا والثقافة..؛ لكن ما يشفع لهذا الجهد النقدي المتواضع هو ما خلّفه الكتاب من صدى طيّب وإيجابي في المغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن والعراق والخليج..؛ عكسته منابر إعلامية وثقافية عربية كثيرة، ورقيّة وإلكترونية، وتسجيله، على مدى فترة، لأعلى نسبة من المبيعات في مكتبة الشروق القاهرية، أضف إلى ذلك التفاعل النقدي الذي استثاره وعبّرت عنه كتابات وتحليلات نقّاد وشعراء أصدقاء، عراقيين كعلي جعفر العلاق وباسم المرعبي وهيثم سرحان ومحمد غازي الأخرس، ومغاربة كنجيب العوفي وخالد بلقاسم ونبيل منصر ومحمد غرافي.

* تتعامل الثقافة العربية مع المغرب باعتباره وطن النقد، فعلى سبيل المثال يقال إن مصر تكتب ولبنان يطبع والمغرب يقرأ. إلى أيّ حدّ يمكن اعتبار مقولة المغرب النقدي صحيحة رغم أنشعراء كبار من قبيل سعدي يوسف وأدونيس رأوا أن الحداثة الشعرية آتية من المغرب العربي؟
- في ظنّي يبقى لهذه المقولة جانب من الصّحة إن نحن ربطناها بذاكرتنا الشعرية المغربية. ذلك أنه بإزاء مشرق بعيد جغرافيا ومتجبّر في شعريته، بدليل أنه أفرز شعراء من العيار الثقيل، كأبي تمام وأبي الطيب المتنبي، وأندلس، على مرمى حجر، ترفل في نعيم شعري فوق اللّزوم سيتمخّض بدوره عن قامات شعرية فارعة، كابن زيدون و المعتمد بن عبّاد، لم يفلح المتخيّل الشعري المغربي سوى في إعطاء شعراء / فقهاء أكثر منهم شعراء حقيقيّين. و لمّا نقول فقهاء يلزم أن نردفها بما يقيّد الذهنية الفقهيّة، عادة، من أخلاقيات التحرّج والاحتراس والاعتدال والتعفّف..؛ التي تعيق طاقة التعبير الشعري المجنّح. فلقد هيمن الفقهاء والعلماء والأطبّاء والمتكلّمون والفلاسفة على تاريخنا الثقافي أكثر من الشعراء، وإذا ما أمعنّا النظر في التجربة الشعرية المغربية المعاصرة فسنلاحظ بأن قرائن شتى لهذا اللاّوعي التاريخي لا يزال لها حضورها، السّافر والمضمر، في جزء لا يستهان به من النصوص والمتون، وتخصيصا لدى الأجيال الأولى. لكن، وبوجه عام، وأيضا في ظلّ ارتباك معادلة مركز/ محيط ثقافي التي سادت لعقود في مفصلة الجغرافيا الثقافية العربية، يمكننا القول، ودونما تزيّد كان، بأن المغرب ليحيا، كما أقاليم عربية أخرى، ديناميكيّة لافتة تطبع لا الإبداع الشعري ولا الفعالية النقدية بفضل قرائح شعرائه المتميّزين ومشاريع نقّاده المثابرين، الشيء الذي كان، وسيكون، له دوره الحيوي والبالغ في تجديد دماء الشعر والنقد العربيّين الراهنين.

* نقف الآن عند موضوع الجامعة.. فماذا يمثّل لكم الانتماء إليها؟ وماذا قدّم النقد الأكاديمي للقصيدة المغربية على الرغم من الثورة التي تعيشها هذه القصيدة كما صرّحتم لإحدى الجرائد المصرية على هامش ملتقى قصيدة النثر الذي انعقد في القاهرة العام الماضي؟ هل ما زالت الجامعة المغربية تقدّس المعرفة وتعمل على نشرها أم أنها تخلّت عن هذا الدور وتبنّت الطرح التقني الضيق ؟
- ليس في مكنة أيّ متنوّر إنكار الدور الريّادي، إن معرفيا أو ثقافيا أو قيميّا، الذي تقوم به الجامعة في المجتمعات التي تهيّئ لها أسباب نجاح هذا الدور. ويكفي أن نستحضر الأهميّة التي اكتسبتها قلاع جامعية عالمية لأنها شكّلت قاطرة مجتمعاتها نحو التّحديث والتقدم والرقيّ، كهارفارد، بيركلي، أوكسفورد، موسكو، شانغاي، كيبّ تاون..؛ وبخصوص ما أسداه النقد الأكاديمي للقصيدة المغربية فليس بوسعنا التّهوين، بأيّ حال من الأحوال، من إيجابية الخدمات النقدية والتحليلية التي قدّمتها دراسات جامعية، بعينها، للقصيدة المغربية، وذلك بفضل ما يتمتّع به النقد الأكاديمي من أرصدة معرفية وما يطبعه من تبصّر منهجي، ولقد استفدت شخصيا من هذا الامتياز الذي لولا الجامعة لما أمكنني التوفّر عليه. لكنه، أي هذا الصنف من النقد، لا يقوى، بالنظر إلى حيثيات اشتغاله، وفي مقدمتها إيقاع عمله البطئ، على مجاراة الانفجار المدوّي الذي تعرفه الكتابة الشعرية في المغرب، كما الوضع في باقي الأقطار العربية و مناطق الشّتات العربي، لذا فهو يترك، والحالة هذه، الجانب الأوفى من هذه المهمّة للنقد الصحفي الذي يظلّ، هو الآخر بأثر من حيثيات اشتغاله، أقرب إلى الإخبار والانطباع منه إلى الممارسة النقدية بمعناها الدقيق.

أمّا عن تقديس المعرفة والتقنية فما من خيار لأيّ جامعة في العالم، خصوصا مع الطابع العملي، البّراغماتي، لكثير من مشكلات العصر، في أن تهتمّ بما هو تقني، إلى جانب ما هو نظري. و للعلم فإن الجامعة، مهما بلغت جديّة برامجها وصرامة مقرّراتها وكفاءة أطرها، لا تعمل أكثر من تيسير مسالك الطموح الأكاديمي للمواهب التي توطّد نفسها على الذهاب بعيدا في تحصيلها المعرفي والثقافي.

* ما زالت قصيدة النثر محطّ ارتياب الكثيرين، خصوصا الذين ينتمون إلى الجامعة، ألا ترى أن وصاية الأكاديمي على قصيدة النثر و رفضه لها تعيد إلى أذهاننا ما تعرّضت له قصيدة التفعيلة إبّان الخمسينيات ؟ هل نحتاج إلى نكبة جديدة حتى يشكّك الأكاديمي في معرفته ويعلن القطيعة معها باحثا عن أشكال ثورية ؟
- بداية لابد من مراعاة كون الجامعة، كفضاء للمعرفة العالمة والمسؤولة، من طبعها أن تتحفّظ، دوما، حيال كلّ ما لا ينضوي إلى قيم هذه المعرفة ومعاييرها، لهذا فليست قصيدة النثر لوحدها وإنّما الكثير من النظريات والأفكار والمبتكرات، التي سيثبت المستقبل مصداقيّتها، لم تلق ترحيبا، غداة ظهورها، من قبل العديد من المؤسّسات الجامعية. فالجديد يبقى، غالبا، محطّ ارتياب واحتراز ريثما يتكفّل الزمن باسترجاع الثقة فيه. كذا كان مآل قصيدة التفعيلة في أثناء ظهورها بحيث سيصل أمر مناوءتها من طرف محافل التقليد والمحافظة، آنئذ، حدّ تأثيم رموزها، عقديّا أو إيديولوجيّا، بله اتّهام بعضهم بالعمالة لمنظّمات ثقافية غربية كانت تستهدف تخريب التراث الشعري العربي الذي يمثّله نموذج القصيدة العمودية. ولنذكر، ما دام حديثنا عن قصيدة النثر، هذا الوليد الشعري الطّري والإشكالي، أن الشاعر الأمريكي وولت ويتمان وهو يقترح مشروعه الكتابي الجرّئ، من خلال ديوانه "أوراق العشب" (1855)، سيمسي عرضة لموجة قاسية من النّكران و التجاهل و التّبخيس، هذا في مجتمع كان قد قطع أشواطا في الحداثة والتقدم كالمجتمع الأمريكي، ولن يجد من يتفهّم جدارة ومستقبليّة مشروعه هذا ويقف إلى صفّه سوى المفكر والناقد المرموق إمرسون.

*  الجيل الشعري الجديد، أقصد جيل الألفيّة الثالثة، ما زال يبحث عن شهادة ميلاد. فالآباء يرفضون رفضا باتّا الاعتراف به رغم أنه برهن على جديّته التي ينبغي أن تجد نوعا من الاحتفاء.. لماذا هذا الرفض لابن يطالب بحقّه في الحياة ؟ و إلى متى سيبقى هذا الابن في خانة المؤجّل النقدي ؟ ألم يحن الوقت لكي نسلمه شهادة ميلاده حتى لا يحيا مشوّها ؟
- لنأخذ الأمور، فيما أرى، بشيء من التّريث والموضوعية. فمذ كانت الحياة الإنسانية إلاّ وهي قائمة على الصراع، صراع الدول والأعراق والعقائد والحضارات والإيديولوجيات والطبقات والأجيال والآباء والأبناء..؛ هذا الصراع لهو وقود سيرورة التاريخ ولولاه لكان مصير هذا الأخير هو السكونيّة والثبات. وكما في كافّة المجالات فما أن يشيخ جيل شعري ما حتى يأخذ في التّبرعم جيل أكثر فتوّة وقوّة. ولأنّ صراع الأجيال الشعرية هو صراع رمزي بامتياز، وصحّي في الجوهر، على المواقع والمصالح الاعتباريّة في النّسق الثقافي والمجتمعي العام فإن الآباء، لتشبّثهم بالحياة شعريا، غالبا ما يشيحون بناظرهم عن الأبناء، أمّا الأبناء، و من فرط استعجالهم أمر فرض ذواتهم في المجال الشعري، فيعمدون إلى اغتيال هؤلاء الآباء. على أن ما يغيب عن الأبناء هو أن آباءهم المزمع تنحيّتهم، رمزيا، قد مرّوا هم أيضا بنفس الموقف وهم يعلنون عن بواكيرهم الشعرية وأن هذه البواكير سيقيّض لها، بنفس المنطق، أن تبقى، لسنين وعقود، حبيسة دائرة المرجأ النقدي والإعلامي إلى حين نضوج صوتهم الشعري واتّضاح قسمات هويّتهم الإبداعية الخالصة.

في السابق، وعلى الأقلّ، كان المجال الشعري مقنّنا أكثر، سواء بأسمائه الشعرية المحصورة أو بنقّاده – سدنته الحريصين على حرمته، وبالتالي، فقد كان صراع الأبوّة والبنوّة الشعريّتين يخضع لمواضعات صارمة، وشفّافة في آن معا، بحيث يستدعي من الآباء فضيلة الإنصات والرعاية و من الأبناء  التحلّي بأخلاقية التّلمذة المستديمة والكدّ التّحصيلي، مع احترام الطرفين لبعضهما البعض بالرغم من تباين القناعات والآراء. أمّا اليوم، ومع الزلزلة المعلوماتية التي أحدثتها وسائط الاتصال الحديثة، فقد تلاشت قواعد اللعبة أو تكاد، إذ بقدر ما سمحت هذه الوسائط بدمقرطة التعبير والانتشار الشعريّين ميّعت، في نفس الوقت، أوفاق الممارسة الشعرية وضوابطها لتسود، باستثناء أصوات شعرية نادرة لكن واعدة، صورة الشاعر / الطّوب موديل: جرعة من وسامة.. جرعة من أناقة أو بوهيمية لا فرق.. وفائض من جرأة،  هذا شكلا، و هو من حقّ أيّ كان، أمّا مضمونا فلا تلفي سوى إطلاق الكلام على عواهنه، هكذا كيفما اتفق، و منتهى الخواء الذي يشتطّ عن جوهر الشعر بملايين السنين الضوئية، وأفظع منه ذلك الهوس بحرق المراحل والجهل الكارثي، المتعمّد، للآباء الشعريّين القريبين فأحرى الأسلاف العريقين. فقبل أن يزمع شعراء الريادة على القطع مع التراث الشعري العربي ألمّوا به أوّلا واستوعبوه حقّ الاستيعاب، أمّا آباؤهم الرومنتيكيون المباشرون، علي محمود طه وإلياس أبو شبكة وأبو القاسم الشابي، فياما أشبعوا أعمالهم قراءة ودراية قبل أن يستجمعوا قدراتهم الشعرية لإزاحتهم من المشهد الشعري. وفي هذا المنحى فإن شارل بودلير سيعكف، إن نحن وددنا مثالا من الأدب الغربي، قبل أن يجاهر بعقيدة الحداثة الشعرية، على المنجز الشعري الغربي، من هوميروس إلى فيكتور هيغو، قراءة وتدبّرا واستعادة، فيخلص إثر هذه السياحة المديدة في النصوص والتجارب إلى أن كل الأسماء الشعرية التي تملأ تلك المسافة الزمنية الطويلة لم تضع اليد على جوهر الشعر لأنها لم تسع، في تحليله، إلى بناء جملة شعرية في كمال وأيقونيّة الجملة التشكيلية والجملة الموسيقية، وحالما يفكّ الشعر سرّ الإعجاز التشكيلي والموسيقي سيعثر، فيما خلص إليه، على مطلق حداثته.

فأنا، شخصيا، لا أستسيغ سماع شاعر شابّ يتحدث بحماس عن إيزودور لوكاس لوتريامون، مثلا، بينما هو لا يعرف، أصلا، الحطيئة.. يتحدث عن نصّ ما بعد الحداثة وهو لم يقرأ، بالمرّة، قصيدة "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب. أعرف أوّلا ثم باشر حقّك، الذي لا منازعة فيه، في التجاوز والتخطي لأننا نقتل، شعريا، آباء يفترض فينا أننا نعرفهم حقّ المعرفة وليس كائنات هلامية.

* سبق و أن اشتغلتم على الترجمة.. مؤخرا حدث سجال على صفحات جريدة "القدس العربي" بين المشارقة و المغاربة بسبب اللغة الوسيطة في الترجمة، ما رأيك في هذا السجال ؟ ألا يمكن اعتبار الترجمة، عن طريق لغة وسيطة، خيانة للنص الأصلي أم أنه تسهم، لا محالة، في بناء المثاقفة بين المجتمعات ؟
- إن قضية الترجمة تبدو بمثابة شجن ثقافي آخر، لذا ليس من المستغرب أن تثير، بين الفينة والأخرى، سجالات وخلافات تجد تفسيرها في تباين زوايا النظر إلى هذه القضية. وإذا ما توخّينا الاختصار، ودفعا حتى للمقولة العدميّة، المستنسخة عن المأثور الإيطالي "الترجمة خيانة"، أعتقد أنه لا مناص لنا، في إطار التفاعل الثقافي المنتج، عن الترجمة. من المحقّق أن الرجوع إلى النصوص في لغاتها الأصلية أمر إيجابي ويحصّن المترجم تجاه الكثير من المزالق، لكن إن لم يتيسّر هذا فلا مانع، البتّة، من التّوسل بلغة أخرى وسيطة كمخرج إجرائي تعمل به الكثير من الآداب والثقافات، وأنا، شخصيا، ترجمت منتخبات شعرية للألماني بول سيلان والكرواتية لانا ديركاك والسلوفاكي جوراس كونياك..؛ توسّطا باللغة الفرنسية.. وإلاّ ما العمل ؟ ممّا لا شك فيه أن ترجمة الشعر تستجلب مصاعب مضاعفة مقارنة مع ترجمة النثر، ومع ذلك فقد غنمنا، في الأدب العربي الحديث، مثلا، روائع شعرية عالمية ما كان لنا أن نحظى بها لو لم تجازف ثلة من المترجمين الحاذقين بنقلها إلى اللغة العربية: قصيدة "البحيرة" لألفونس دي لامارتين التي ترجمها أحمد حسن الزيات.. قصيدة "الأرض الخراب" لإليوت التي ترجمها لويس عوض.. قصيدة "غيمة في بنطلون" لفلاديمير ماياكوفسكي التي ترجمها حسب الشيخ جعفر.. قصيدة "عواء" لألان غنسبرغ التي ترجمها سركون بولص..؛ أولم يقل الشاعر الرومنتيكي الأمريكي المبرّز روبرت فروست: " إن الشعر لهو ما يتبقّى بعد الترجمة" ! 

* يشهد المغرب الثقافي تحوّلات كبيرة، سواء على مستوى المؤسّسات الثقافية أو المثقفين أنفسهم، باعتباركم أحد المساهمين في المشهد الثقافي المغربي كيف تقيّمون دور المؤسّسة في هذه المرحلة ؟ و هل ما زال مفهوم النخبة يشكّل إرثا وطنيا خصوصا في ظلّ تراجع الثقافة و تقهقر أهميّتها بالنسبة للمجتمع ؟
- طبيعي أن يشهد المغرب الثقافي تحولات على مستوى المؤسّسات الثقافية والمثقفين، مثله مثل باقي دول العالم. ولربّما ما يجب أن يعاد فيه النظر ليس هو المؤسّسات بحدّ ذاتها، لأنّ ما هو مؤسّسي يكون أكثر فاعلية ومردودا مقارنة مع ما هو غير مؤسّسي، وإنّما هو أدوار المؤسّسات وتدخلاتها، أقصد إسنادها للجانب اللوجيستيكي في النشاط الثقافي، تعقيله، وتوزيع ثماره وترويجها، مع إبقاء المأموريّة الإبداعية للأفراد لأن الإبداع أو الابتكار لهو شأن فردي صميم ومرهون بقدرات واستعدادات متعيّنة تتفاوت بين الأفراد. على أن الأفراد، رغما من تناثرهم وفرقتهم، منذورون، بقوة التّمفصل الثقافي والمجتمعي، إلى تشكيل نخبة عليها أن تتولّى تدبير كيفيّات تموقعها في الفضاء العام وكذا طرائق تلبيّتها لانتظارات ثقافية سريعة التحوّل، لا أقلّ و لا أكثر، وليست قيد التّقهقر أو الاندثار.

* وأنت في رحلتك الطويلة حاملا مجهرك تميّز بين جيّد الشعر و رديئه، أفلا يراودك حلم القصيدة ؟
- إذا ما اتخذنا الجودة، هنا، بمعنى الملاءمة لانفعالاتي الوجودية والروحية، وليس بدلالتها المقولاتيّة التي كانت وراء نشأة النقد العربي في ثقافتنا القديمة، فقد يصدق القول بأنّ مقارباتي للنصوص والتجارب الشعرية هي نوع من التّحري عن المعنى المتجوهر للوجود والذي يبقى الشعر مؤهّلا، أكثر من غيره من الفنون، لاستشرافه.. التّحري، بتعبير رديف، عن القصيدة التي حاولت مشاكستها قبل أن أدرك حجم عسورتها لأكتفي، هكذا، بصداقتها الحميمة من خلال المتابعة والقراءة والمحاورة.