يحتفي هذا العدد بالقص العراقي، فيقدم مع رواية على بدر وحوارية التكرلي هذه القصة القصيرة لأحد أبرز الأصوات القصصية العراقية كي تكتمل بها تنويعات أشكال السرد الغنية في أرض السواد المترعة بالمواهب والخصوبة.

درب العطشى

عائد خصباك

اضطر الرجل لتسّليم ابنه الأعمى إلى عمران ليعمل عنده في محل الخياطة، وذلك يعني أن الابن سيغادر إلى أرض أخرى، رغم أنها ليست بعيدة عن (درب العطشى) في منطقة الجعيفر، سمع الابن أباه يقول له: ما أن يعبر الباص جسر الشهداء إلى الرصافة و يستدير شمالا الا و تكون في الحيدرخانة، موطنك الجديد. نجح المخطط الذي رسمه الأب، وسعد كثيرا بالتوصل إلى ما يطمئنه على مستقبل ابنه الأعمى، لأن الاطمئنان على حرفة يتقنها ابنه بات أمرا ضروريا لكي يضمن العيش، و إلا فمن له في هذه الدنيا الغادرة من بعده؟

لم تكن هذه بداية لحياة سارت عليها حياة الأعمى فيما بعد، بدايتها الحقيقية تبدأ من الوقت الذي نظر اليه الصبية من رفاق (درب العطشى) ليس كواحد منهم فقط بل كزعيم يعتمد عليه في الاوقات الحرجة، من دون أن يخطر في بال أحد أن العمى يقف عائقا أمام أفعاله، ما أن يطلب منهم القيام بشيء الا وينفّذ طلبه على الفور دون اعتراض، ربما لو كان ذلك الأمر صادرا من أحد غيره لكان في ذلك جدل، لكن الوضع الذي هو فيه أعطى الأوامر مكانة اكبر من حجمها. ذهابه إلى الحيدرخانة سيحرمه من تلك المكانة التي كان يتمتع بها، و سيحرم رفاقه من صحبةربما لا يجدون مثلها مع شخص غيره، لكن الأب رأى أن لا جدوى من ذلك كله، لاجدوى من الأصحاب ومن درب العطشى بكل ما فيه. لم يعترض الابن بكلمة، فقط توقف قليلا كما لوكان يصيخ السمع إلى شيء ما ثم أسلم نفسه لأبيه ليعبر به الجسر إلى الحيدرخانة.

منذ أن التحق بعمله، أصبح لا يفارق محل الخياطة إلاّ كل يوم جمعة لزيارة أسرته، يذهب في الصباح إليها ويعود آخر النهار، ثم أخذ يفعل ذلك مرة كل شهر، وانقطع نهائيا بعدما مات أبوه وغادرت أمه الدرب و المنطقة كلها مع بناتها اللواتي هن أخواته، لترحل مع رجل تزوجها إلى مدينة أخرى، ولم يبق له أحد في هذه الدنيا غير صاحب محل الخياطة. أصبح لا يفارق الحيدرخانة، متفانيا في خدمة المحل ينظفه في الصباح و المساء ويرعى شؤون متطلباته ومتطلبات زبائنه، ومتفانيا في خدمة صاحب المحل، يوصل أولاده إلى المدرسة في شارع السراي ويعود بهم إلى البيت الذي على مرمى حجر من المحل، كان الخياط يستسهل طلب الأشياء منه، وهو طالع و نازل منشغل بذلك و يعتبر هذا من ضمن واجبه. إلى أن يأتي الليل ويغلق باب المحل عليه لينام فيه.

هذا كله جعل الخياط يجلسه معه وراء ماكنة السنجر ليقوم بتدريبه على أصول الصنعة، ويدع أعمى مثله يضغط على الدواسة بقدمه اليمنى لأول مرة ثم يتابع بقية الخطوات معه بهدوء، واذا أخطأ فانه يعيد تعليمات الدرس وخطواته العملية على مسامعه. خلاصة الأمر كان الخياط دليلا ماهرا لأصابع الأعمى، فقد جعله مع الأيام يتقدم في سير العمل بشكل حسن إلى أن برع فيها، وآنذاك قال له: صحيح إن الصنعة هذه تتلف البصر مع الزمن و لكن معك الأمر يختلف، فليس لك جريدة تقرأها لأنك أصلا لاتعرف القراءة، بل ان هذا الموضوع لاعلاقة لك به من أساسه لأن ليس لك عينان تخاف أن ينطفئ نورهما، لهذا يجب أن تسير بالصنعة وراء نور أصابعك. وبالفعل كانت أصابع يديه العينين اللتين فقدهما بعدما أصابه الجدري في طفولته، وقد حقق تقدما ملحوظا و بزمن يعتبر قياسيا في خياطة السراويل ثم الثياب فازداد زبائنه من الفلاحين النازحين إلى المدينة للبحث عن مصدر للرزق. وقبل أن يصبح قادرا على إنجاز عشرة سراويل في النهار الواحد، كان الخياط كثيرا ما يتابع حركة أطراف أصابعه على قطعة القماش الذي تدور عليه الإبرة في حركتها الدائبة، وكان يعجبه أن يرى كيف يميل برقبته صوب أعلى الماكينة. فضلا عن ذلك تعلم كيف يرجع السير الجلدي للماكينة اذا خرج عن مساره، وأتقن تعبئة المكوك اذا فرغ من الخيط، ومتى و في أي ثقب يعبئ الماكينة بالزيت، ما عصى عليه أبدا لضم الخيط بالإبرة وما وجد صعوبة في تغييرها اذا عطب طرفها المدبب. أعجبت حركة أصابعه الخياط وكان يرى فيها شيئا بارعا أثناء فكّ الإبرة ولضم الخيط وإرجاعه السير الجلدي إلى مكانه، إلى درجة أنه لم يعد بحاجة إلى مراقبته بعدما يدفع إليه بلفافة قماش كان قد فصلها، لقد اطمأن إلى أنه سيتصرف مع القماش بطريقة خياط يجيد صنعته، مما أتاح له ذلك الانصراف للتفصيل فقط، ولم يعد يجلس وراء الماكينة إلا في الحالات الضرورية فقد تركها له.

ظل المحل مكانا يمضي فيه ليلته كان ذلك صعبا عليه عندما كان والده على قيد الحياة، لكن عندما توفي، وهو أصبح شابا يافعا، اعتبر ذلك المكان مكانه الذي لا يرضى بديلا عنه، فلو أنه أراد المبيت كل ليلة في مكان، وأن يشارك أهل الحيدرخانة الأكل في صحونهم لتحقق له ما أراد لكثرة الذين يعرفونه في المنطقة، لكن المحل بالنسبة الية كان بيته الذي لا يستطيع أن يبتعد عنه،لكن في النهاية لابد من أن يبحث له عن مكان أخر، عندما خطب له الخياط أخت زبون يتعامل معه، مع أنه كان يخشى أن شكلها قد لا يعجب الأعمى، وعندما أراد أخذ رأيه في الموضوع، قال الأعمى: من غير الضروري أن ينظر لها المرء كل يوم. حالما تزوج انتقل للسكنى في واحدة من غرف منزل يسكنه أناس كثيرون، لا يبعد كثيرا عن المحل، وبعد ذلك بأيام أشاعت زوجته بين الخلق أنهم خدعوها، أعمى وقبلت به، ولكن أعمى و خياط سراويل للفلاحين، هذا ما لا تقبله، فلم يقدر على كسر تبرمها من معاشرته، وقد كادت إبرة الخياطة تضرب سبابته مرات عديدة لأنها دائمة الشجار معه، تظل الليل بطوله تبادله الشتائم بأعلى صوتها، حتى علم من يسكن في غرف المنزل الأخرى أنه لا صلاح فيها وأنها مرت بزواجين فاشلين قبل ان يلمها هذا الأعمى،كانت بين فترة و أخرى تجمع أغراضها وتغادر المنزل لتعود اليه بعد بضعة أيام، وفي المرة الأخيرة عندما جمعت أغراضها رحلت معها دون عودة، ومنذ أن اصبح يسكن الغرفة لوحده وهو يرغب في الذهاب إلى (درب العطشى)، فأصحابه هناك سيسعدون به بعد هذه الغيبة وينزلون بناء على طلبه إلى ماء النهر يسابقهم في العوم مثل تلك الأيام، ويثبت لهم أنه مازال أفضلهم في الغوص، دعهم يحسبون الارقام له، والله لن يخرج رأسه من الماء قبل أن يصلوا إلى الخمسين في العد البطيء، ليست تلك الأيام بعيدة على ذلك الصبي النحيل برقبته الطويلة والذي لا تهدأ له حركة، كل البيوت تعرفه، حتى السفارة البريطانية التي تشرف بنايتها على النهر قريبة من مدخل (درب العطشى) تعرفه، وما زال قادرا على أن يسمي الكبار والصغار بالاسم و الكنية واللقب اذا اقتضى الأمر، ويحدد أين موقع بيته ومن هم جيرانه حالما يسمع صوت كل واحد منهم. قرر بشكل نهائي أن يكون يوم غد الجمعة هو يوم ذهابه إلى هناك.

انتشر هذا الخبر بين من يقطنون غرف المنزل، في تلك الليلة رشوّا ساحة المنزل بالماء ليفعل الهواء الندي فعله الساحر في النفوس وتصرفوا معه كما لو أنهم سيفارقونه لا محالة إلى الأبد،و أثناء ما كانت أقداح الشاي التي يديرها بعضهم على الحاضرين، قال له جاره الذي يسكن على يمين غرفته: تصدق بالله أن محبتك في نفسي ازدادت من يوم ما عرفت الحركة التي قمت بها مع السفير البريطاني وأنت صغير. لم يفهم الحاضرون شيئا لذلك طالبوه بالتوضيح، قال: أعطوني فرصة لأنقل لكم المواجهة التي حدثت بينه وبين ذلك السفير حسب ما لدي من معلومات، لما كان درب العطشى يقع بالقرب من السفارة البريطانية ولا يفصله عن سورها الخارجي غير طريق معبّد ينتهي بانتهاء السور، وليس بين الجارين أية علاقة ولا يمت أحدهما إلى الاخر، فالطريق الفاصل بينهما يجعل من السفارة شيء والبيوت شيء آخر، والذي حدث أن ذلك الطريق المعبد أصبح مكانا يلعب فيه الصبية من درب العطشى والدروب الأخرى كرة القدم، ومن هنا جاءت في رأسه فكرة، هذا الذي أمامكم أوقف من يبلغه إشارة معينة فيعرف أن سيارة السفير تخرج الآن من بوابة السفارة إلى الشارع، وعندما تبلغه الإشارة الثانية التي تعني أن السيارة أصبحت في مواجهة ذلك الطريق المعبد، يكون هو قد سدد الكرة بقوة معينة لتأخذ طريقها من فوق رأس الواقف في المرمى كحارس للهدف لتصيب مكانا في تلك السيارة، من وجهة نظر السفير أن تلك الكرة سددت سهوا من قبل ذلك الصبي. وفي اليوم الثاني عندما خرجت السيارة من السفارة و الاولاد يلعبون الكرة ضربت الكرة السيارة بالطريقة نفسها، وقد رأى السفير بعينيه من سدد الكرة و هو نفسه الذي كان قد فعلها يوم أمس، أراد السفير مفاتحة وزارة الخارجية و اعلامهم بأنه أصبح هدفا لأعمال قد تضر بمصلحة البلدين ارتكبها أحدهم و هو يلعب الكرة على الطريق الذي يسلكه عند خروجه من السفارة، لكنه فضل التريث و أن لا تكون المفاتحة هذه قبل أن تحقق السفارة بنفسها و بطرقها الخاصة عن شخصية ذلك الذي سدد الكرة، وما هي الدوافع لذلك، ولم يأخذ التحري عنه أكثر من يوم واحد،يدخل بعدها مدير استخباراته عليه ليعلمه بأن الذي فعلها كان صبيا، فقال السفير: أعلم أنه صبي ولكن قد يكون مدفوعا من أناس لكي يقوم بذلك الفعل، فأجابه: إنه صبي و أعمى يا سعادة السفير. عندها اقتنع السفير أنه لو فاتح الخارجية بذلك الموضوع و توصلوا إلى ما توصل إليه مدير استخباراته لكانت فضيحة بكل المقاييس. من جانبه لم يعلق على ما سمعه من جاره وسط ضجة الحاضرين الذين باتوا يطلبون المزيد حول هذا الموضوع، لم يؤيد تلك الحكاية و لم يكذبها، بل فتحت شهيته للحديث، قال: عندما كنا ننزل إلى النهر، تدفعنا المياه إلى حيث سور السفارة المطل على النهر فنطلع عنده من الماء، آنذاك أطلب المعونة فيقدم لي أحدهم كتفه للوصول إلى أعلى السور لأصرخ في وجه الانجليز بالكلام الذي يفهمونه، طبعا هو كلام لا علاقة له بالإنجليزية ولا بأي لغة أخرى، مجرد رطانة بكلمات تلتوي و تتمايل بعد خروجها من الفم، كلمات ليس لها معنى،ثم نرمي بأنفسنا في النهر ثانية. قبل أن يطلقوا كلبهم البوليسي علينا، و ضحكوا إلى أن أصابهم التعب.

أخيرا قال لجاره الذي يسكن على يمين غرفته: غدا في الصباح قبل أن أتحرك أسلمك مفتاح الغرفة، قد تحتاج فيها إلى شيء.
ـ أحتاج إلى أي شيء مثلا ؟
ـ إلى المكواة التي معي أو المروحة الكهربائية.
ـ عندي مكواة ومروحتك لا أريدها فهي عنيدة، مرة تدور و تأتي بالهواء ومرة لا تدور.
ببطء أدخل كفه في جيبه وأخرج منه عدسة مكبرة عرضها أمامه قائلا:
ـ قد تحتاج إلى هذه أثناء قراءة جريدة، وكن حريصا عليها، أعطتني إياها امرأة جاءت تسأل عن مكان مطبعة الإخلاص القريبة من محل الخياطة وعندما عرفتها بالمكان فتحت حقيبتها و أخرجت منها هذه العدسة المكبرة وقالت لي: خذها تنفعك، عندي غيرها.
قال جاره: بأي شيء تنفعك؟
ـ لا أدري، مثلما تنفع الناس.
وأضاف: يقال إنها كانت تدرّس في الجامعة قبل إحالتها على المعاش، تسكن لوحدها بعد أن تفرق الأبناء و الأهل،في شقة فوق محل الكوافير الذي في شارع السراي، كان الله في عونها.
قال جاره: لا يوجد في شارع السراي محل كوافير.
ـ متـأكد؟
ـ مثلما أقول لك.
ـ شيء غريب.. و العدسةالمكبرة؟
ـ لا أريدها، ربما تنفعك.

أرجعها إلى جيبه فورا،عندها سأله جاره إن كان بحاجة لأحد يرافقه، لأن منطقة الجعيفر التي سيذهب إليها تغيرت عما كانت عليه في السابق، فصف العمارات العالية التي شيدت على جانبي الشارع الرئيسي هناك غيرت من معالم المنطقة، و لقد تاه فيها أناس لطالما ترددوا على المنطقة و كان نظرهم سته على سته. فشكره قائلا أنه يعرف (درب العطشى). وقت الضحى،و الجمعة يوم ملائم لصعود الباص الذي أخذه إلى منطقة الجعيفر، أوصى السائق أن ينزله عند (درب العطشى) فقال له أنه لا يعرف دربا بهذا الاسم، فأوضح له أنه قريب من السفارة البريطانية التي في الجعيفر. عبر الباص جسر الشهداء وبعد ثلاث محطات نزل، وقف على الرصيف، طويلا ناحلا وقد مدّ رقبته منصتا لصوت ما يخمن أنه قد يقوده إلى ما جاء من أجله. ظل فترة واقفا هناك بلا حراك ولم يهتد إلى شيء، كانت حركة السيارات في الشارع شديدة ومعها استحالت عليه المجازفة بالعبور لوحده، أخذ بيده أحدهم إلى الرصيف المقابل، وعندما وصل قال له شكرا أنا أعرف بقية الطريق الذي سأسلكه، أليس هذا الذي أمامي هو المدخل الذي يوصل إلى (درب العطشى)؟ فقال له ذلك الشخص أنه لا يعرف دربا بهذا الاسم، كما أن الذي أمامك هو عمارات جنب بعضها على طول الشارع، ومضى تاركا إياه في حيرة من أمره.

لم تعد المنطقة كما كانت فليأخذ بيده أحد عبر أي طريق يوصله إلى ضفة النهر وهناك سيجد حلا لحيرته، اقتربت منه أصوات مجموعة من الشباب وهم يمرحون مع بعضهم، أحدهم ضربه بكتفه فقال لهم على الفور متحديا: من فعل هذا؟ تقدم أحدهم منه: أنا، ماذا تريد؟ وقف الآخرون ينتظرون الذي سيحصل مع صاحبهم، لكنه أدرك على الفور أنه من الخطأ التورط في مشاجرة يكون هو المتضرر الوحيد فيها، قال مغيّرا من لهجته: أريد من يدلني على (درب العطشى). استغرب أحدهم قائلا: ولماذا هم عطشى و ماء نهر دجلة القريب منهم يكفي لإرواء العالمين جميعهم. ضحكوا فقال لهم: هو بالقرب من السفارة البريطانية، رد أحدهم: السفارة موجودة، أما الدرب فربما تلاشى تحت هذه العمارات التي شيدت مؤخرا. و توصلوا إلى حل هو أن يأخذوه معهم، على أمل أن يناقشوا أمره فيما بعد، دخلوا به إلى مقهى قريب، جلس الجميع حول طاولة وظل هو واقفا لا يدري ماذا يفعل، طلبوا منه الجلوس وقد هيأوا له كرسيا فاستجاب لطلبهم، لكن أحدهم دفع الكرسي من تحته قبل أن يجلس بلحظة فوقع على الأرض، أرتفع الضحك الصاخب في أرجاء المكان، ورافق الضحك صياح وشتائم وتعليقات، ربما لم يعنه ذلك كله لأنه انشغل بموضوع العدسة المكبرة التي طفرت من جيبه فكان صوت سقوطها على الأرض بالنسبة اليه أعلى من تلك الأصوات، ومن مكانه مد أصابع يديه، من دون أن يطلب معونة أحد، باحثا عنها هنا وهناك بين أحذيتهم.

كولونيا                      Eidk53@yahoo.de