هذا كتاب يتوقف عند إشكالية عميقة تتعلق بموضوع الأدب والقراءة، من خلال حوار مناظرة جمع بين مثقفين يشرحا معا، واقع الأدب والفكر بالغرب في نهاية القرن العشرين، ودقة متابعتها للتحولات الثقافية التي تعرفها المجتمعات البشرية عقب التحول الى العالم الافتراضي.

الأدب والقراءة في عصر الخواء

حمّودان عبدالواحد

صدر عن منشورات مجلة سيميائيات المغربية، المجلة المتوسطية للاشكال الحضارية بتطوان، كتاب "الأدب والقراءة في عصر الخواء" وهو ترجمة من الفرنسية إلى العربية لحوار طويل وفريد من نوعه بين مارك فومارولي Marc Fumaroli  وفيليب صولرس  Philippe Sollers كانت قد نشرته دورية باريزية واسعة الانتشار Le Débat " المناظرة " سنة 1994م تحت عنوان:

La Littérature entre son présent et son passé "الأدب بين حاضره وماضيه".

ترجَم هذا الحوار وعَلق عليه ووَضَع حواشيه وحقق أسماءَ أعلامه وعناوينَ مؤلفاتهم، وصدّره الأستاذ والباحث المغربي، الدكتورُ نزار التجديتي، وقدّمه الدكتور حمّودان عبدالواحد، من أكاديمية مرسيليا، بكلمة تناولت مجموعة من الأسئلة تمحورت حول مفهوم الحداثة.

وقد أعاد المترجمُ – في التفاتة منه تربوية إلى القارىء - تنظيمَ فقرات الحوار بعناوين فرعية جاءت مواضيعُها مرتبة على الشكل التالي :

 1ـ مفهوم الأدب الفرنسي

 2- أزمة الأدب الفرنسي وأسبابها

3 - مفهوم الأدلوجة

4 - بين المحدثين والكلاسيكيين

5 - مأساة النقد الأدبي

6 - سِرُّ طُغْيَانِ الرِّوَايَةِ

7 - المجاهدة الأدبية

8- أمثولة الكاتب الواحد

9- العائلة الجامعة

10- البلاغة والجدل السياسي

11- وظائف الإقناع

12- طلاق الفلسفة من الأدب.

وعند الاضطلاع على مضامين هذه العناوين، سيجد القارىءُ نفسَه أمام خلاصة جدلية لتاريخ الفكر الأوروبي من القرن السابع عشر إلى نهاية القرن العشرين، وسيعرف آنئذ لماذا وصف المترجمُ هذا العمل في تصديره بأنه " تجوال ممتع رفقة مرشديْن مؤنسيْن ".

هذه المتعة أو لذة القراءة والمتابعة تجد تفسيرَها بوجه من الوجوه في قناعة الدكتور نزار التجديتي – ونحن نشاطره نفس الرأي – بقيمة " تشريح هذا الحوار أو المناظرة لواقع الأدب والفكر بالغرب في نهاية القرن العشرين، ودقة متابعتها للتحولات الثقافية التي تعرفها المجتمعات البشرية – المتقدمة والمتطلعة على السواء – عقب تحول العالم الأرضي إلى " قرية افتراضية " (حسب تصور أبراهام مولز) يزداد فيها يوما بعد يوم دورُ تقنيات الإتصال الجماهيري على مستوى الإخبار والتواصل والتكوين والتحريك والتجييش ".

ولعل هنا تكمن نوعا ما فائدةُ هذه الترجمة بالنسبة للشعوب العربية اليوم. وهو ما ترمي إليه بعضُ الأسئلة التي يطرحها الدكتور حمّودان عبدالواحد في مقدمة الكتاب: "لماذا هذه الترجمة وبالضبط في هذا الوقت؟ هل لأنّ العالم العربي الذي يمر بأزمة هوية عميقة (وثورات شعبية كلها في بداية الطريق) بحاجة إلى هذا النوع من التفكير في أدبه – ماضيه وحاضره -  حتى يمكنه إعادة النظر في ذاته أي في لغته وفكره وتطلعاتها الحضارية ؟ ".

من هنا تأتي، أولا، قيمة الحوار أو المناظرة المترجمَة على المستوى الأخلاقي. فعلى الرغم من الخلافات العميقة بين مارك فومارولي وفيليب صولرس، تبقى ميزة نقاشهما الحاد هي قناعتهما بضرورة احترام الرأي الآخر، فلم تصدر منهما كلمة نابية سوقية في حق أحد. وهذا يعنى أن سجال الأفكار ليس فقط رياضة فكرية، واستراتيجية لغوية، تحليلية وتدليلية، بل هو، قبل كل شيء، ممارسة أخلاقية وسلوك حضاري أي حوار بالمفهوم الحقيقي للكلمة.

من هنا أيضا تنبع أهمية الترجمة المسؤولة في بعدها العلمي . أنْ تترجم من لغة إلى أخرى معناه أن تتقن اللغتيْن، وأن تترجم مناظرة بين عَلمَيْن فرنسييْن لهما مكانة خاصة في ميدان الكتابة والإبداع والبلاغة والفكر عند الفرنسيين وغيرهم في العالم، في لحظات زمنية محدّدة من التاريخ الأدبي الفرنسي، معناه أن تكون على علم واسع بالمفاهيم والأدوات الابستمولوجية في تاريخ الفكر داخل أنظومة اللغتيْن، وأيضا ذا قدرة ومرونة كافتيْن لجعل مفاهيم الأدب والبلاغة والفلسفة مثلا في اللغة المصدر تتأقلم دون تشويه أو تحريف مع مقابلتها من المفاهيم في نفس الميادين داخل نسق اللغة المُصَب فيها. وهذا ما توصّل إلى تحقيقه بنجاح لافت للنظر الدكتور نزار التجديتي.

هذا، ويبقى الوعيُ بوجود الآخر وأهمية تصوراته للكون والتاريخ والإنسان والأشياء والزمن...، من خلال أشكال التعبير الفني والجمالي والفكري، المحرّكَ الرئيسي في ترجمة المناظرة بين مارك فومارولي وفيليب صولرس والتحمّس لها. وهو الأمل الذي عبّر عنه المترجمُ في نهاية التصدير بأن: "يجد القارئُ العربي في جِنَانِهِ الأَجْنَبِيِّ ما وجدناه نحن عند الآخر من فواكه الأدب الكوني وأزهار الفلسفة الحديثة وأصوات الشعر العذبة وأصداء الجدل الخصبة خارج حدود الأوطان".

هكذا يمكن القول بأن الترجمة تساهم مثل الخلق والإبداع، والفن والفلسفة وسبل المعرفة وقنوات التواصل الأخرى...، في تقليص البعد بين الشعوب والثقافات، كما أنها بحق أقربُ طريق إلى الحوار بين الحضارات، وأداة ثمينة وضرورية للتخلص من قفص الهويات الضيقة.

 

كاتب مغربي يقطن بفرنسا