يقدم الباحث الفلسطيني قراءة تفصيلية دقيقة لكتاب الباحثة السورية الذي تناولت فيها أبرز إنجازات تيار تأصيلي يدعو لتمحيص مقولات الحداثة من منظور إسلامي، ودرست فيه كتابات عدد من أبرز كتاب هذا التيار: عبدالوهاب المسيري، ومحمد شاويش، وعادل حسين، وجلال أمين، وعلي شريعتي، ومالك بن نبي.

نحو نموذج حضاري مستقل

قراءة في كتاب رغداء زيدان «ضد النماذج المفروضة»

محمد شاويش

1- عن المؤلفة والكتاب
أصدرت الباحثة العربية السورية رغداء زيدان مؤخراً كتابها الأول (ضد النماذج المفروضة).(1) قبل هذا الكتاب نشرت الباحثة عدداً كبيراً من المقالات في صحف عربية ومواقع إنترنيت، وتتميز كتاباتها بالانتماء إلى جو فكري خاص يسود عند قطاع من الإنتلجنتسيا العربية يقف موقفاً نقدياً من الحداثة سواء أفي تمظهراتها في بلادها الأصلية، أم انعكاساتها (بما فيها من تشوهات وسوء فهم والتباسات) في الساحة الفكرية العربية، دون أن يستند هذا النقد إلى الخطاب الإسلاماني الشائع. إنه وفقاً لتعبير كاتب هذه السطور لا يدافع عن "إسلامانية الثقافة العربية" وإنما يدافع عن "إسلاميتها". وقد أوضحت معنى هذا التفريق في مقالات سابقة فأعيد القارئ إليها مكتفياً هنا بالقول إن الصفة "إسلامي" تخص الإسلام كله بما هو شريعة ومجتمع وتجربة تاريخية مستمرة إلى الآن أما صفة "إسلاماني" فهي مقتصرة على ما يخص تيار سياسي فكري واحد من تيارات المجتمع الإسلامي.(2)

تضع الكاتبة على عاتقها عرض مفاهيم أساسية لكتّاب من "التيار التأصيلي" وهي مفهوم "التحيز" عند عبد الوهاب المسيري،ومفهوما "الاستلاب" و "الالتباس" عند محمد شاويش، ومفهوما "الاستقلال الاقتصادي" و "الاستقلال الحضاري" عند عادل حسين، ومفهوم "الحراك الاجتماعي" عند جلال أمين الذي يقترن عنده بتوصيف عصرنا أنه "عصر الجماهير الغفيرة". ثم تنتقل بعد هذا إلى استعراض للوعي المقاوم عند علي شريعتي، ثم تنقد تهجم أحد الكتاب على مالك بن نبي في مقال كتبه في مجلة مصرية ومعظم الهجوم تناول كتاب مالك (الظاهرة القرآنية)، وهذا الفصل هو أقصر فصول الكتاب، وأخيرا ً تستعرض الكاتبة أطروحات جورج طرابيشي عن "الخطاب العربي المعاصر"في كتابه (المرض بالغرب، التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي).

2- استعراض لمحتويات الكتاب
تقديم:
كتب محمد شاويش تقديماً ً للكتاب تحدث فيه عما يميز كتاب التيار التأصيلي كما كان وصفه في "البيان التأصيلي"، وكان كتبه عام 1995 كتلخيص نظري لاتجاه مقالات بدأ بنشرها منذ عام 1992، و نشره في جريدة "القدس العربي" اللندنية عام 1999 وأعاد نشره في كتابه (نحو ثقافة تأصيلية-البيان التأصيلي) –دمشق-2007. وفي التقديم حديث عن "الالتباس" في موقع كتّاب هذا التيار في المشهد الفكري العربي المعاصر، فهم بسبب دفاعهم عن الهوية التاريخية للمجتمع قد يحسبون عند "العلمانيين" على التيار الإسلاماني بينما هم بسبب انشقاق معظمهم عن مواقع فكرية متأثرة بالثقافة الغربية بشدة (ولا سيما الموقع الماركسي) واستمرار استعمالهم للغة حديثة غير مألوفة عند الإسلامانيين قد يحسبون عند الإسلامانيين على من يسمون "العلمانيين"! ويتكلم المقدم في آخر تقديمه عن "السياق الشخصي والسياق الاجتماعي لظهور التيار التأصيلي" قائلاً إنه لا يرى جدوى في البحث عن أسباب شخصية لأن الظروف الشخصية نفسها قد تقود أشخاصاً مختلفين إلى خيارات مختلفة عن بعضها، ثم يتكلم عن وظيفتين يقوم بهما "التأصيليون" في السياق العربي المعاصر: الأولى جوهرية وهي التعبير عن المجتمع الموصوف بالتقليدي الذي يلاقي العداء من التيارين الإسلاماني والحداثي معاً إذ هو عند الأول "مبتدع" منحرف عن الشريعة وهو عند الثاني متخلف ومقاوم للتحديث. والثانية ثانوية وهي الرد بصورة أفضل وأدق على تهجمات الحداثيين على الهوية الثقافية المتميزة، ويقارن المقدم هذه الوظيفة للتأصيليين مع وظيفة علماء الكلام في العصر العباسي الذين كانوا يتولون مهمة الدفاع عن العقيدة الإسلامية بحجج عقلية لا نقلية ضد انتقادات خصوم هذه العقيدة ممن لا يؤمنون بالإسلام مما يجعل الرد عليهم انطلاقاً من النصوص أمراً قليل الفائدة.

مقدمة المؤلفة:
يبدأ الكتاب بمقدمة للكاتبة تكلمت فيها عن نشوء الخطاب الفكري لما سمي بعصر النهضة منطلقة من عامل نفسي تفسر به وقوع الفكر العربي بتأثيراته المختلفة تحت تأثير الاستلاب للغرب: "كان للاستعمار الغربي وثورة الاتصالات وانتشار مفاهيم العولمة والحداثة والليبرالية والتقدمية .. إلخ، الأثر الكبير على الفكر العربي بتياراته المختلفة، بحيث وقع تحت تأثير استلاب كامل للغرب، وشيئاً فشيئاً ترسخت في حياتنا مسلمة أساسية وهي أن النموذج الحضاري الغربي هو النموذج الأكمل والأرقى والأجمل والذي يجب أن نسعى للوصول إليه. حتى أن بعض المفكرين الإسلاميين حاول تقديم الدين على أنه دين قابل للحداثة، وهو يحمل مفاهيم لا تتناقض مع مفاهيم ومسلمات التقدم المفروضة (ص15)".

نشأ التيار الناقد للحداثة بعد ذلك نتيجة التطورات التي حدثت في العالم ونبهت إلى خطر سيطرة نموذج حضاري واحد مادي يتعامل مع الإنسان من منطلق داروني يساوي بينه وبين الطبيعة ويهدد بانمحاء ثقافات وحضارات إنسانية أصيلة، فظهرت دراسات تؤكد أن التنوع الحضاري هو الأمر الطبيعي "وأن فرض نظام واحد (هو النظام الغربي بمعاييره التي باتت مقياساً لتقدم وتخلف البلدان والحضارات) هو أمر خاطئ (ص 16)".لم تذكر الكاتبة في هذا الموضع أمثلة من الغرب على هذه النظرة النقدية لما يمكن تسميته نزعة اجتثاث التنوع الحضاري لكنها ستذكر الأنثروبولوجي الفرنسي كلود ليفي شتراوس في موضع لاحق (ص 144). يبقى أن أذكّر أن هذه النظرة تنسجم مع مجمل المنظومة الفكرية للتأصيليين العرب، ولكنهم لا يعبرون عنها بالضرورة بوضوح، وإذا كان بعض التأصيليين (مثل كاتب هذه السطور) لا يهتمون بجدية بنقد الحضارة الغربية كما هي (ربما لاعتقادهم أن وظيفتهم مقتصرة على محاولة التأثير في الثقافة العربية وليس محاولة تغيير ثقافة العالم! وهذا بالفعل حال كاتب هذه السطور) ويكتفون بدعوتها "للبقاء في حدودها" والكف عن محاولة تدمير التجارب الحضارية الأخرى، فإن باحثاً تأصيلياً آخر هو المسيري ركّز في المقابل جل نتاجه النظري على نقد الأساس المعرفي للحضارة الغربية مما يجعلنا نرى على الأقل أنه لا يستحسن وجود النمط الغربي في التنوع الحضاري العالمي! من هنا الفرق في التركيز بين التأصيليين، فعند كتاب مثل غريغور مرشو وعادل حسين وكاتب هذه السطور يكون التركيز على نقد الحداثانية العربية المستلبة للغرب أكثر من التركيز على نقد الغرب نفسه، والمسيري كما قلت مختلف في هذه النقطة، على أن التأصيليين عموماً يتفقون فيما بينهم كما تذكر الكاتبة محقة على أن "النهضة لا تعني التخلي عن الهوية والشخصية، ولا تعني أخذنا لكل ما هو غربي دون النظر في مدى ملاءمته لكياننا وديننا وخصائصنا الاجتماعية والفكرية".

"المزاج التأصيلي" الذي يصدر عنه هؤلاء الكتاب في اعتقادي يتمثل تحديداً في النفور مما تدعوه الكاتبة "الانبهار بالغرب"، وفي الرؤية الإيجابية الموالية للمجتمع المحلي والمدافعة عنه ورفض الرؤية السلبية التي لا ترى فيه حسنة تستحق البقاء، في هذه النقطة يلتقي التأصيليون كافة، وهي ما يميّزهم عن كلا التيارين الكبيرين: "المستغربين" و "الإسلامانيين". الأخيرون أيضاً لا يدافعون عن المجتمع المحلي ولا يعدونه الأساس الذي يبنون عليه "الطوبى" المميزة لمنظومتهم الفكرية، ويظهر هذا في تأكيدهم الدائم على أنهم يدافعون عن الإسلام وليس عما هو عليه المسلمون!، على حين يدافع التأصيليون عن المرتكزات الكبرى لمجتمعنا كما تبلورت عبر القرون (أي المرتكزات الكبرى لما هم عليه المسلمون!) وليس عن صيغة نظرية يراد تفكيك المجتمع وإعادة بنائه على أساسها.وانظر إن شئت دفاع المسيري عن "تراحمية" مجتمع دمنهور مقارنة مع "تعاقدية" المجتمع الأمريكي أو تذكير كاتب هذه السطور في مقالات كثيرة له بأن كثيراً من أهل الغرب (مثل "ليوبولد فايس" الذي صار اسمه "محمد أسد" وتحول إلى مفكر إسلامي) يتحولون إلى الإسلام لا انطلاقاً من اقتناعهم العقلي بالعقيدة الإسلامية، بل انطلاقاً من إعجابهم بالعلاقات الاجتماعية الإسلامية القائمة، وهي رؤية واقعة في تناقض تام مع رؤية محمد عبده الذي زعم أنه رأى في الغرب إسلاماً ولم ير مسلمين بينما رأى في بلادنا مسلمين ولم ير إسلاماً!.

مفهوم التحيز عند الدكتور عبد الوهاب المسيري
الفصل الأول من الكتاب يستعرض "فقه التحيز" عند المسيري الذي أراده المسيري "أداة لتحديد التحيزات الغربية الكامنة في المناهج والأدوات التي يستخدمها الباحثون العرب في دراساتهم"، ذلك أن كثيرين يرون القيم الغربية عالمية فيتبنونها دون إدراك لخصوصيتها الغربية: "سواء كان هذا التبني يتم بوعي أم بدون وعي فإن هذه التحيزات الكامنة تخلق ترابطاً اختيارياً بين الباحث وهذه الأفكار، ويجد الباحث نفسه متحيزاً لبعض الظواهر والأفكار، ويهمل أو يستبعد بعضها الآخر مما يقع خارج نطاق الاستعارات والنماذج الكامنة (ص 21)". وكما يرى القارئ فإن هذه فكرة في غاية الأهمية في تأسيس منهج النقد الثقافي التأصيلي للثقافة العربية الحديثة، ويبقى أن أشير إلى أن المسيري لم يستعملها كثيراً إذ أن معظم كتاباته لم تكن كما ذكرت آنفاً في نقد الثقافة العربية المعاصرة بل في بناء نموذج وصفي لتطور القاعدة المعرفية للنموذج الحضاري الغربي، وقد تولى تأصيليون آخرون مثل غريغور مرشو والفقير لله مهمة نقد الثقافة العربية الحديثة على أساس تأصيلي.

تنتقل الكاتبة إلى استعراض "قواعد التحيز"، وتقول القاعدة الأولى إن التحيز حتمي لأنه مرتبط ببنية العقل الذي لا يسجل تفاصيل الواقع كالآلة، بل هو فعال يدرك الواقع من خلال نموذج فيستبعد بعض التفاصيل ويبقي بعضاً آخر، ولأن التحيز لصيق باللغة الإنسانية المرتبطة ببيئتها الحضارية ولا توجد لغة تحتوي على كل المفردات الممكنة للتعبير عن كل مكونات الواقع مما يجعل الاختيار أمراً لا بد منه، ولأن التحيز مرتبط بإنسانية الإنسان بما هو كائن غير طبيعي لا يرد إلى قوانين الطبيعة العامة ولا ينصاع لها فكل ما هو إنساني فيه قدر من التفرد والذاتية ومن ثم التحيز. وتقول القاعدة الثانيةإن التحيز قد يكون حتمياً ولكنه ليس نهائياً وهو "يمكن أن يجرد من معانيه السلبيةويصبح هو حتمية التفرد والاختيار الإنساني (ص 24)". واللغة رغم حدودها قادرة على تحقيق التواصل وعلى المساعدة على تجاوز أشكال كثيرة من التحيز وفي بناء نماذج معرفية ناتجة عن تجربتنا الحضارية الخاصة ولكنها بنفس الوقت تساعدنا على التعامل مع أنفسنا وواقعنا ومع الآخر. إن التحيز ليس نهاية المطاف بل النهائي هو الإنسانية المشتركة. تشير الكاتبة في ملاحظة مهمة أن المسيري يميز بين الإنسانية المشتركة والإنسانية الواحدة فالأولى استعداد إنساني فطري حين ينتقل من الكمون إلى التحقق تكون أشكال تحققه متنوعة بتنوع الأفراد والحضارات أما الثانية فلا تعترف بالاختلافات وتدعو لسيطرة نموذج واحد يلغي التنوع.

ولعلنا نستطيع هنا أن نقارن مع اللغة التي هي في الأصل استعداد فطري عند البشر كلهم ولكن تحققها يكون في لغة محددة لها مزاياها الخاصة. والكاتبة تشير في الهامش إلى مصطلح كاتب هذه السطور"الإنسانوية الزائفة" ويوضع بالتضاد مع "الإنسانية الحقيقية"، والأولى تصادر سلفاً على أن البشر متشابهون دون نظر إلى اختلافاتهم الثقافية أما الثانية فهي نظرة لا يمكن الوصول إليها إلا بعد الدراسة التفصيلية للثقافات المختلفة كلاً على حدة ثم بعد ذلك يمكن رؤية ما هو مشترك بين البشر حقاً، والنتيجة الفعلية للإنسانوية الزائفة هي الوقوع بوعي أو بدون وعي فيما أطلق عليه كاتب هذه السطور في "البيان التأصيلي" مصطلح "العنصرية البسيطة". وتستعرض الكاتبة أنواعاً للتحيز يراها المسيري مثل التحيزات: الواعيوالمستتر والحاد والقوي والتحيز داخل التحيز إلى أن تصل إلى ما دعاه المسيري "تحيز واقعنا المادي ضدنا". تقول الكاتبة: "وهناك تحيز ليس له نظير في الحضارات السابقة، وهو ما أسماه المسيري "تحيز واقعنا المادي ضدنا"، والذي يفرض علينا أنماطاً من السلوك تناسب المنظومة القيمية الغربية مثل السرعة والكفاءة والتنافس (ص 25)".

وحين قرأت هذا الشرح المفرط في الإيجاز الذي يمكن فهمه خطأ عبر خلط بين مفهوم المسيري ومفهوم مؤسس لاتجاه "التأصيل الفاعل" كما صاغه كاتب هذه السطور باسم "اليوتوبيا المكروهة"، كون المسيري ظل في اعتقادي في حدود ما أسميه "التأصيل الصرف" وهو لا يرى ما يراه داعية "التأصيل الفاعل" الذي هو كاتب هذه السطور، وقد تحول إلى القول به بعد الهجوم الساحق على العالم الإسلامي إثر سبتمبر 2001 من أن المسلمين مجبرون على تبني "يوتوبيا مكروهة" ما كانت لتلائم أسس نظرتهم للعالم ولكنها فرضت عليهم فرضاً ليستطيعوا مواجهة تحدي البقاء، ومن عناصر هذه "اليوتوبيا المكروهة" التركيز على هدف التطور المادي وإدخال عنصر السرعة المحمومة في وتيرة الحياة في محاولة لردم الهوة الاقتصادية بيننا وبين الغرب، والإعلاء من شأن الفاعلية المادية والمردود المادي على حساب الفعاليات غير المادية، وباختصار: التبني الإجباري للكثير من جوانب نمط الحياة الغربي، وبالفعل حين عدت للمصدر الذي هو في هذه الفقرة كتاب المسيري (العالم من منظور غربي)(3) وجدته يقول: "من أهم التحيزات الجديدة التي ليس لها نظير في الحضارات السابقة ما نسميه "تحيز واقعنا المادي ضدنا"، فالاستعمار الغربي قد دخل بلادنا وهدم منازلنا التي تعبر عن هويتنا، ثم هدم مدننا القديمة بتخطيطها الذي يعبر عن منظومتنا القيمية، ثم بنى مدناً تعبر عن منظومته القيمية مثل السرعة والكفاءة والتنافس. فالشوارع واسعة حتى يمكن للسيارات الكثيرة أن تسير فيها بسرعة، وهو ما يعني أن السيارة مسألة يفترض وجودها كمعطى حسي ضروري ونهائي، بينما كان من الممكن أن نبني مدناً تفترض أن المشاة أكثر من راكبي السيارات، وأن راكبي الأوتوبيسات أهم من راكبي السيارات الخاصة. كما أن المدينة الحديثة بشوارعها الفسيحة تجسد رؤية في الإدارة تنطلق من الإيمان بضرورة وجود مركز إداري قوي (دولة قومية مركزية) تتبعه كل الأطراف. (ولذا كانت الشوارع الفسيحة في المدن الأوروبية الجديدة في القرن السابع عشر تسمى باللاتينية "ڤيا ميليتاريس Via miltares"، أي الطرق الحربية، إذ أنها كانت تيسر وصول قوات الدولة المركزية إلى كل السكان فتقوم بقمعهم وترشيدهم بما يتفق مع "الصالح العام"، أي مصلحة الدولة العليا هذا على عكس الطرقات الضيقة التي تسمح بمرور البشر ولا تسمح بمرور السيارات والقوات العسكرية".

وللقارئ أن يراجع هذه الفقرة عند المسيري ليرى هذه الآية البديعة من آيات النقد التأصيلي لما يعد عادة مسلمات في مجتمعنا الحاضر، ولكنه فيها لا يدعو مجتمعنا إلى الامتثال لقيم غربية، ولو من باب الضرورة على طريقة "اليوتوبيا المكروهة"، بل هو يدعوه للكف عن هذا الامتثال، أو بتعبيره هو "يجب ألا نتقبل الواقع المستورد المتحيز ضدنا. وبهذه الطريقة، قد نحرر الذات من التبعية للآخر، وقد يتدفق الإبداع".

تنتقل الكاتبة إلى استعراض تصور المسيري "لآليات تجاوز التحيز"، وهي أولاً "إدراك حتمية التحيز الذي يساعدنا على فهم السلوك الإنساني المرتكز على تلك النماذج المعرفية التي يصوغها العقل البشري من خلال تفاعله مع الواقع (ص 26)"ثم توضيح نقائص النموذج المعرفي الغربي بما هو معاد للإنسان يتعامل معه كشيء مادي لا خصوصية له تميزه عن باقي الأشياء، وبما هو يهمل الكيف (أي لصالح الكم) وما لا يقاس والمطلقات والخصوصية. ويجب دراسة الظواهر السلبية التي صاحبت الحضارة الغربية كالنازية والإمبريالية التي يراها بعضهم استثناء وهي في الواقع شيء أساسي، وعلينا دراسة المراجعات الغربية للتاريخ وعلم اللغة والعلوم الطبيعية.. والآلية الثالثة لتجاوز التحيز هي رؤية نسبية الغرب وخصوصيته ومحليته ونزع صفة العالمية عنه والتخلص من المركزية الغربية. والآلية الرابعة هي الانفتاح على العالم والتعرف على حضاراته الأخرى وبهذا سنتحرر من "الحقائق المطلقة" ونمتلك القدرة على النقد والفاعلية وعدم تلقي المعارف بسلبية بل بوعي وتعقل.

وتنتقل الباحثة إلى الحديث عن النموذج البديل الذي يجب أن نستخدمه في أبحاثنا بدلاً من التحيز للنموذج الغربي، فهو يجب أن يكون نابعاً من تراثنا وهو نموذج حضاري أساسه القرآن والسنة اللذان يحويان القيم الإسلامية والإسلام للمسلمين عقيدة ولغيرهم ممن يعيش في هذه المنطقة النواة الأساسية للحضارة التي ينتمون إليها، وهذا لا يعني نسخ الاجتهادات السابقة لعلمائنا بل استخلاص القواعد الكامنة في إبداعاتهم واجتهاداتهم، وهذا النموذج ينطلق من الإنسان وهو غير مادي، توليدي لا تراكمي لا يفترض أن ثمة نقطة واحدة تتقدم نحوها كل الظواهر وكل البشر وكأن هناك أمة واحدة، ومعرفة واحدة، والعلم البديل علم إنساني لا يدعي الكمال بل هو اجتهاد مستمر يدرك أن عقل الإنسان لا يمكنه الإحاطة بكل شيء، فهو محدود ولكنه فعال، وهو لا يهدف إلى التحكم الكامل في الواقع ولا يدعو إلى تصفية الثنائيات الموجودة لأنها انعكاس لثنائية الخالق والمخلوق والإنسان والطبيعة، وهو سينظر للظواهر في أبعادها المتكاملة دون الاقتصار على بعد واحد ثم يتم تحديد أكثر الأبعاد فاعلية وتأثيراً دون التقيد بمسلمات، وهذا العلم سينتج عنه هيكل مصطلحي جديد له ملامحه المتميزة.

تنهي الكاتبة الفصل عن مفهوم "التحيز" عند المسيري بوقفة نقدية: هي ترى أن تحيز الباحثين العرب للنموذج المعرفي الغربي لم يكن بعد اختيار واختبار ومعرفة وإنما بعد انبهار، مما لا يتفق مع تعريف المسيري للتحيز المستند إلى المعجم "الانضمام والموافقة في الرأي وتبني رؤية ما مما يعني رفض الآراء الأخرى" ذلك أن التعريف في رأيها يدل على اختيار جاء بعد معرفة واطلاع وبهذا لا يكون لمصطلح التحيز الدقة الكافية؛ لكنها توافق المسيري على أن مدى نفع المصطلح يتحدد بمدى تفسيريته لا بمدى دقته والتزامه بالمعايير المجردة. وترى الكاتبة أن "فقه التحيز" يجب أن يبحث في الأسباب التي أدت بالباحثين العرب إلى تبني النموذج المعرفي الغربي دون سواه وهو ما سيساعدنا على تجاوز التحيزات والتعامل معها كحالة تستدعي العلاج، وتستشهد الكاتبة بوصف غريغور مرشو لحالة (الفصام في الفكر العربي المعاصر) في كتاب بهذا الاسم وترى أن مفهوم"الاستلاب" كما هو موجود في كتابات محمد شاويش يصلح لتفسير هذه الحالة، إذ الباحثون وقعوا ضحية استلابهم للغرب مما جعلهم يتبنون نموذجه المعرفي بانبهار وصل إلى حد النظر إليه على أنه بديهية لا تناقش. والكاتبة تناقش رأي المسيري في حتمية التحيز انطلاقاً من كونه من صميم المعطى الإنساني، ومع ذلك فهو في رأيه ليس نهائياً ويمكن تجاوزه وأول الخطوات في تجاوزه هو إدراك حتميته. تقول الكاتبة: "لم أفهم حقيقة كيف يكون التحيز من صميم المعطى الإنساني ثم يمكننا تجاوزه؟ وكيف يمكن أن نقول إنه ليس بعيب أو نقيصة ثم نسعى من أجل التخلص منه أو على الأقل الحد منه؟"

تناقش الكاتبة هنا مشكلة شبه فلسفية ولو كنت أنوي توسيع المقال لتكلمت عما يمكن قوله عن كون المسيري في بعض النقاط من تأملاته عن "النموذج الإدراكي" و "التحيز" يذكرنا بأطروحات المدرسة الكانطية الجديدة في تأثيرها على علم الاجتماع، وبالتحديد بماكس فيبر، وأقول هنا أن المسيري بلا شك كان يعرف فيبر ولكن التشابهات بين بعض أفكاره وأفكار فيبر (قارن مثلاً بين مفهوم فيبر عن "النموذج الخالص" ومفهوم المسيري عن "النموذج الإدراكي") قد لا تعدو تشابهات شكلية وتماثلاً محدوداً جداً في طرق المقاربة لفهم الظواهر الاجتماعية. إن انشغال فيبر كان سوسيولوجياً نظرياً أما انشغال المسيري فكان من نوع ملتزم عملي بمصير الإنسانية، ولا شك أن حديثه عن التحيز كان سيرفضه فيبر الذي كان يحذر من أن يدخل الباحث تحيزاته القيمية في البحث.

تقول الكاتبة: "أعتقد أن ما هو من صميم المعطى الإنساني لا يمكن تجاوزه إلا في حالة تجاوزنا الحالة الإنسانية تفسها، وهذا بالتأكيد ما لا يقبله الدكتور المسيري نفسه. وإذا كان التحيز ليس نقيصة فلماذا ندعو إلى تجاوزه (ص 33)؟" وتعترض الكاتبة أيضاً على تبرير "الظلم المعرفي" وتقصد به حالة الباحث الذي ينطلق من تحيزات مسبقة ويطرح أفكاراً تبرر الظلم أو تمنهجه أو تظهره على اعتباره نتيجة علمية لمنهج بحثي موضوعي، فهو قدم أفكاره نتيجة استخدامه لمنهجه المعرفي المستند إلى تحيزاته التي هي من صميم إنسانيته وليست بعيب أو نقيصه! لعل هذا الاعتراض يذكرنا بفهم بعض الباحثين لتحليل إدوارد سعيد للاستشراق على أنه منطلق من حتمية معينة لكيفية تمثيل ثقافة معينة لثقافة أخرى، كيف تدخل القوة وعلاقات القوة، ما هي أواليات نشوء تصورات الإنسان لذاته وللعالم والتمييزات التي يقيمها بينه وبين الآخر وكيف تتصلب هذه التصورات في معرفة تغدو في سياق القوة والسلطة إنشاء يدعي لنفسه مقام الحقيقة. وهنا يطرح السؤال الأخلاقي نفسه: أيكون كل هذا الجور والانحياز حتمياً؟(4)

والذي أراه أن كل فهم منطلق من ثقافة ما لثقافة أخرى يحتوي بالضرورة على قدر من سوء الفهم أو "الالتباس" وعنه ستتكلم الكاتبة في فصل لاحق، ولكن هذا شيء مختلف عن الجور أو التبخيس، وحين أقرأ ما كتبه أمثال الجاحظ عن مزايا الأمم حيث يسلم لكل أمة بميزة لا توجد في غيرها أدرك بما لا يدع مجالاً للشك عندي أن النزوع لتشويه صورة الأمم الأخرى هو نزوع غربي أصيل، لعله غير موجود في كثير من الثقافات الأخرى، وفي تفسيره لا بد من نقاش طويل ليس هذا ميدانه.

تدافع الكاتبة عن وجهة نظر تقول إن "العقل البشري أيضاً يستطيع أن يقيّم ويقوّم ويراجع أفكاره واستخداماته لأنه لا يخضع فقط لمعطيات الواقع وأحداثه فيميل لموضوعيتها الظاهرة، ولكنه يخضع أيضاً لما نسميه "الضمير" أو "الحس السليم" الذي يجعله يتّبع ما يبدو له أنه الحق حتى لو خالف بهذا ما يفرضه الواقع ومعطياته، وهو ما نراه عند مفكرين وباحثين عرب وغربيين لم يخضعوا لحتمية التحيز المفترضة، ومنهم الدكتور المسيري رحمه الله نفسه (ص 34)".

تذكّر الكاتبة في خاتمة الفصل بتأكيد المسيري أن "فقه التحيز" لا يهدف إلى التقليل من القيمة الإنسانية لإبداعات الإنسان الغربي ولا إلى تحميله المسؤولية عن كل ما أصابنا من مصائب، ولكنه يهدف إلى رؤية النموذج المعرفي الغربي باعتباره أحد التشكيلات الحضارية الإنسانية وليس التشكيل الوحيد، وبهذا نستطيع التعامل معه بلا قلق فلا نقبله كله أو نرفضه كله بل ندرسه كتشكيل حضاري إنساني له سلبيات وإيجابيات، وهذا سيمكننا من الانفتاح على تشكيلات أخرى ورؤية تشكيلنا الخاص واحترامه والعمل على المحافظة عليه "حتى نستمر ككيان متماسك له هوية محددة لا كقشرة خارجية لا مضمون لها" (ص 36).

مفهوم الاستلاب عند محمد شاويش
في الفصل اللاحق تتكلم الكاتبة عن مفهوم "الاستلاب" عند كاتب هذه السطور. الكاتبة تذكر عن صواب أنني فضلت استعمال كلمة "استلاب" لا "اغتراب" لترجمة كلمة أجنبية هي الإنجليزية alienation أو الألمانية Entfremdung لأن الأولى قليلة الاستعمال في اللغة العادية على عكس الثانية مما يقلل من إمكانيات الالتباس بين المعنى الاصطلاحي الخاص والمعاني الشائعة للكلمة. تقول الكاتبة إن المصطلح استخدمه مفكرون وكتاب كثيرون وكان لكل كاتب استخدامه الخاص، وهي فكرة صائبة يبرهن عليها دارس لاستخدامات المصطلح هو ريتشارد شاخت في كتابه الذي ترجمه كامل محمد حسين بعنوان "الاغتراب". ومعنى هذا أن من الخطأ محاولة تحديد معنى عام للكلمة أو "معنى صحيح" للكلمة يكون أي استعمال مختلف لها خطأ. رغم هذا تفهم الكاتبة مصطلح "الاستلاب" بأنه "مصطلح يصف حالة الفرد الذي لا يستطيع أن يتواصل مع مجتمعه أو يقيم علاقة صحيحة وصحية معه".

تعرض الكاتبة لنظرية الفقير لله عن الاستلاب وقد كتبتها في أيام الصبا وأعدت نشرها في كتاب مشترك مع الأخ حسين شاويش صدر عام 1995 مع أن المخطوطة الأولى له كتبت عام 1986 وحالت ظروف الملاحقة السياسية ثم المنفى دون نشرها في وقت أبكر. تذكر الكاتبة محقة أني بدأت بفرضية عن العلاقة بين عاطفة الحب والمجتمع الطبقي ثم طورتها إلى نظرية أشمل عن العاطفة والاستلاب، وفي الشكل الأول اهتممت بمعنى لا شعوري للحب يتجلى في ارتباطه بفكرة الجمال، ووفقاً للفرضية فإن السمات الجميلة التي تثير الإعجاب عند العاشق هي السمات الجسدية (والسلوكية) المشتركة عند الطبقة الأعلى، والحب تعريفه أنه تحرر لدافع للانتقال الطبقي كان محتجزاً، وهذا التحرر يقع في اللحظة التي يظهر فيها الشعور بإمكانية للانتقال الطبقي عبر الاتحاد بممثل الطبقة الرمزي الممتلك للسمات المقترنة بهذه الطبقة.

وقد طورت هذه الفرضية لاحقاً بتعريف عام للاستلاب بأنه استبطان الفرد للسلم القيمي التراتبي الذي يضعه في المرتبة الأدنى، وقسمت الاستلاب ‘لى أنواع أربعة هي الاستلاب التغلبي والأخلاقي والطبقي والعنصري. ويستطيع القارئ قراءة التفاصيل في كتاب نشرته "دار الكنوز الأدبية" في بيروت عام 1995 بعنوان (حول الحب والاستلاب - دراسات في علم نفس الشخصية المستلبة).

تذكر الكاتبة بصواب أنني عرفت العاطفة بأنها عرض نفسي - سلوكي ينتج عند تحرر "دافع استلابي" مكبوت، وهذا الدافع الاستلابي يهدف إلى نبذ "الذات الحقيقية" والاندماج مع "الذات المثالية" (كما يحدد مواصفاتها "المرجع الاستلابي" وحالت ضرورات الاختصار فيما أظن دون أن تذكر الكاتبة هذا المرجع). ورغم أن الكاتبة كما تقول لا تستطيع أن تتقبل هذه التوصيفات والشروح بسهولة، لأن النفس البشرية متسعة ومتعددة وليست نسخة واحدة يصح على جميعها مع ما يصح على حالة واحدةأو مجموعة حالات "إلا أن هذه الدراسة لا تتناول الفرد كفرد منعزل، ولكنها تدرسه كفرد ضمن المجتمع، يخضع لتأثيرات كثيرة، توجه تفكيره وتخضعه لنماذج قيمية سائدة، تحت تأثير التعليم ووسائل الإعلام المختلفة وغيرها. وعلى هذا فإن لها توظيفات وتطبيقات عملية نلمسها بوضوح في الواقع (ص 41)".

أوافق على توصيف الأستاذة رغداء، وأضيف بإيجاز أن أي باحث يريد تقديم نظرية لسلوك اجتماعي لا يستطيع أن يراعي الخصوصيات الفردية اللامتناهية وحسبه أن يقدم تصوراً للعموميات. لا شك أن مؤسس مدرسة التحليل النفسي مثلاً حين وضع "نظرية عامة للأمراض العصابية" لم يجهل أن العوامل الممرضة عند فرد ليست كافية للإمراض عند فرد آخر (وليس هذا فقط بسبب دخول ما تدعوه الترجمة العربية لجورج طرابيشي "العامل الجبلّي"، بل لاعتبارات أخرى منها في رأيي المصادفة المحضة، وإن شئنا استعمال تعبير إسلامي "التوفيق"، ولا أريد أن أثقل المقال بذكر الإضافات القيمة في هذا المجال لمدارس أخرى مثل المدرسة السلوكية وغيرها). لكن "النظرية العامة للأمراض العصابية" لفرويد تظل مع ذلك هادياً صالحاً لممارس العلاج النفسي على المدرسة التحليلية.

تنتقل الباحثة في فقرة مستقلة إلى الحديث عن "الاستلاب والتأصيل" عند كاتب هذه السطور. وهي تذكر محقة أنني بعد التعرف على المجتمع الغربي أخذت موقف "الدفاع عن مجتمعنا بلا قيد أو شرط" وهذه الطريقة في التفكير أسميتها لاحقاً "التأصيل الصرف"، في مقابل موقف "التأصيل الفاعل" الذي ذكرت الباحثة أنني انتقلت إليه بعد ذلك ووصفته بشكل صائب بأنه "الذي يهتم بالسلوك الحضاري القادر على تحويل المجتمع إلى مجتمع فاعل قادر على إثبات وجوده في العالم، والدفاع عن هذا الوجود بقوة وتمكن (ص 42)". ولم تحدد الكاتبة السر في هذا التغير وقد ذكرته في عدد من المقالات ألا وهو العربدة البوشية بعد أحداث سبتمبر وإعلانه "الحرب الصليبية" على العالم الإسلامي والإسلام نفسه، مما جعلني أحس أن الدفاع عن الهوية كما هي لم يعد هو البرنامج الواقعي في ظل الخطر على الوجود نفسه، بل صار لا بد من التركيز على تغيير السلوك الاجتماعي بما يناسب هدف البقاء والقدرة على المواجهة وهو ما يحتاج إلى "وعي مناسب" يحدد" الهدف المناسب" ويقود إلى "سلوك مناسب".

تقول الكاتبة إن الكاتب موضوع الحديث "قد انطلق من نظريته الأصل التي ترى أن الاستلاب نزعة داخلية ملحة لاستبدال الذات الحقيقية بذات أخرى تأخذ شكلها من شكل متخيل لذات أخرى خارجية، وهي هنا الذات الغربية، فالمستلب في مجتمعنا يرى أن الثقافة الغربية هي النموذج المعياري الذي يجب تمثله، وكل ثقافة مختلفة عن هذا النموذج هي تخلف أو ظاهرة متوحشة لا إنسانية. لذلك فهو يتوجه إلى احتقار مجتمعه ومحاولة الخروج عنه بوسائل مختلفة، واحتقار المجتمع المحلي ونبذه يتم على أساس مرجع المنظومة الاستلابية المسيطرة المستبطن، ونقاط الاختلاف مع هذا التصور المستبطن تعامل على أنها كما قال (أدلة تعطي الحق للذات باحتقار من تحتقره) (ص 43)". وهذا تلخيص دقيق صائب لإعادة تطبيق كاتب هذه السطور لنظرية الاستلاب (كما وضعها أولاً في نهاية السبعينات وكان يطبقها على سياق العلاقات بين الشرائح الاجتماعية ضمن المجتمع) على علاقة المجتمع مع الغرب الذي يكون نوعاً من "مرجع استلابي" للشعوب المقهورة، في حالتها المستسلمة لا المقاومة للاستلاب طبعاً. تقول الكاتبة إن الكاتب الذي يتكلم عنه الفصل رأى أن هناك ثقافة سائدة في مجتمعنا سماها "ثقافة النماذج المفروضة" تشيع قيماً وأحكاماً استلابية تؤكد "تفوق وتقدم وجمال وإنسانية وذكاء" مكونات الثقافة الغربية و "دونية وتخلف وقبح ووحشية وغباء" مكونات ثقافتنا المحلية، وقد درس الآلية التي أوصلت مجتمعاتنا إلى هذه الحال وسماها "السلبنة".

ذكرت هذا المصطلح في كتابي (نحو ثقافة تأصيلية) وهو في اعتقادي جدير جداً بالدراسة النفسية الاجتماعية وفقاً للمنهج الذي وضعت أسسه في وقت مبكر من نشاطي كشغيل ثقافي، فهو يبتغي وصف كيف يصبح المستلب مستلباً، وأعتقد أن مدارس نفسية عديدة تفيد في هذه الدراسة. وليتأمل القارئ في الآليات التي تجعل الفرد يفقد الثقة بنفسه والجماعة أيضاً تفقد ثقتها بنفسها وتؤمن بأنها مهزومة لا محالة في كل صراع وهو ما سميته "الاستلاب التغلبي". غير أني خلافاً لحسن ظن الكاتبة العزيزة "لم أجر هذه الدراسة" وإن كنت أشرت إلى خطوط نظرية عريضة في الفصل المعنون "ثقافة النماذج المفروضة" في الكتاب المذكور أعلاه.(5) تذكر الكاتبة أمثلة طبق فيها كاتب هذه السطور نظريته عن الاستلاب من بينها تحليله للنقاشات عن "الحجاب" في السنوات الأخيرة، وتشير بصواب إلى أنه درس المسألة باعتبار الحجاب جزءاً من التركيبة الثقافية الاجتماعية ولم يدرسه من منطلق فقهي ديني، وفي شكله القريب ظهر "الحجاب" كعلامة "يشذ" فيها زي المسلمة عن الزي الأوروبي الذي تبنته كلياً مجتمعات عربية معينة (بلاد الشام وجزء كبير من المجتمع المصري)، على حين لم تكن هذه المسألة مطروحة في الزي الوطني المسمى "تقليدياً"، و"الشذوذ" الذي قبلته المسلمة في "الزي الطبيعي" الذي هو الزي الغربي ينظر إليه على أنه "ضريبة الالتزام" وهي ضريبة أعلن الرجل العربي بانتهازيته المعهودة في ما يتعلق بشؤون المرأة أنه غير ملزم بها! ذلك أن من "المباح" له أن يلتزم بالزي الغربي بكل تفاصيله، وقد تكون "الضريبة" المذكورة تقتصر في إزعاجها للمرأة الملتزمة دينياً المستلبة غربياً في مجتمع عربي (عدا تونس البورقيبية البنعلية وسوريا أحياناً) على اضطرارها عند مشيها في الشارع لمخالفة الزي الغربي عبر إضافات متعلقة بغطاء الرأس، وعلى أنها تعود إلى "الموضة الخالصة" كما تعرض في المجلات النسائية في المحافل النسائية والحفلات غير المختلطة، وهذه المحافل هي التي تظهر الانتماء الاستلابي للمرأة الملتزمة، ولنذكر أن أمهاتنا وجداتنا ما كن يغيرن زيهن التقليدي في محفل نسائي، أو في محفل مختلط لأنهن كن يرينه جميلاً ببساطة! ولم يكن لديهن ازدواجية في المعايير الجمالية نشأت عن الاستلاب الحديث للغرب.

ولكن هذه "الضريبة" تصبح أثقل بكثير حين تعيش المسلمة الملتزمة دينياً في المجتمعات الغربية حيث يصبح الحجاب علامة مميزة لها تجلب لها ألواناً من التفرقة، وأحياناً الاعتداءات الجسدية التي تصل في حالات مثل حالة الشهيدة مروة الشربيني إلى القتل. ومن البديهي أن الرجل المسلم هنا أيضاً يوفر على نفسه الإزعاج ممتنعاً عن مشاركة المرأة في تحمل التمييز (اقترحت على الرجال المسلمين في الغرب أن يرتدوا زياً مميزاً لهم إن كانوا يريدون فعلاً التضامن مع نسائهم غير مكتفين بالفتوى المريحة التي تجعل الرجل غير ملزم بمخالفة الزي الغربي في أي من عناصره!). وتذكر الكاتبة أيضاً تطبيقات أخرى لنظرية الفقير لله في الاستلاب في مقالاته مثل مقالات عن الموسيقى واللغة. تقول الكاتبة مصيبة إنني لم أطرح وصفة محددة لعلاج الاستلاب، وإن كان شقيقي حسين شاويش كتب الفصل المعنون ب "محاولة أولية في العلاج التحليلي السلوكي للاستلاب"، في كتاب "حول الحب والاستلاب"، وهي المحاولة الوحيدة التي حاول فيها باحث ما وضع تصور عملي علاجي للظاهرة التي وصفتها في نظرية الاستلاب أو "النظرية العامة للعاطفة" وتطبيقاتها في مفهوم "الشخصية المستلبة". ولكن كاتب هذه السطور كما تقول المؤلفة وجد في الإسلام نقاطاً كثيرة تعتبر نقيضاً للاستلاب من بينها توكيد الذات الأصيلة المستقلة ومحاربة التقليد، والثقة بالنفس، والسيطرة على الغرائز.

تربط المؤلفة كتابات المرحلة التي سميتها "التأصيل الفاعل" بمنظوراتي عن الاستلاب والارتباط موجود، ولكنه غير مباشر دوماً خلافاً لكتابات مرحلة "التأصيل الصرف"، لأن جهد الكاتب هناك كان منصباً على مكافحة استلاب الثقافة العربية المعاصرة بجانبيها النظري والممارس اجتماعياً، أما هنا فصار منصباً على تغيير الواقع عبر تغيير مكونات "السلوك غير المناسب" الذي يرسخ حالة الانكشاف أمام تفوق العدو الساحق الذي يريد بهذه الثقافة شراً. وتذكر الكاتبة في هذه الفقرة دفاع الكاتب عن التنوع الحضاري في العالم، وهي فكرة كانت مميزة لمرحلة "التأصيل الصرف"، وإن يكن هناك قد أشار إلى أن النظر للتنوعات الحضارية في العالم يأخذ ثلاثة أشكال: الشكل الأول هو النظر العنصري البسيط الذي يرى أن مكونات حضارة واحدة هي المعيار وأن كل اختلاف لحضارة أخرى في المكونات معها هو عيب فيها والشكل الثاني هو النظر النسبي وفيه تدرس كل حضارة كبنية خاصة مستقلة لها مبرراتها الخاصة وترفض فكرة وجود معيار للعالم تقاس عليه الحضارات، وهذا النظر كما قال الكاتب في "البيان التأصيلي" هو أفضل بكثير، وإنما بعد هضم منجزاته المعرفية يمكن الانتقال للشكل الأرقى الذي يستطيع فعلاً أن يرى ما هو مشترك بين البشر ومن جهة أخرى يستطيع أن يقدم قيماً للحكم على ما هو خير وما هو شر لهذه البشرية (وهي مرحلة النظر "الإنسانية الحقيقية" في مواجهة مرحلة النظر "الإنسانية الزائفة" التي تتطابق مع مرحلة "العنصرية البسيطة")

مفهوم الالتباس عند محمد شاويش
في الفصل اللاحق عن "الالتباس" عند كاتب هذه السطور تقول الكاتبة إن الفقير لله "يهتم بموضوع "الالتباس" أو سوء الفهم من منطلق اهتمامه بالوعي كضرورة للتعامل مع الواقع كما يجب"، وهذا صواب، ولعلي أضيف أنني بطبيعتي لا أحب النقل المشوه لأي معلومة أو نص! ومن هنا كنت أتضايق مثلاً من سوء نقل أو فهم المعاصرين لبعض التراث (أبيات شعرية ومفاهيم اجتماعية وأخلاقية وغيرها). وتعرض المؤلفة مفهوم الالتباس عند كاتب هذه السطور بأنه "ربط الدالة بمدلول خاطئ أو توهم وجود رابط بين دال ومدلول"، والالتباس اللغوي أبسط أشكال الالتباس، وهو حين يستعمل الفرد كلمة بمعنى ثم يفهمها آخر (بسبب ظاهرة الاشتراك اللغوي مثلاً) بمعنى آخر، كمن يقول "عين" ويقصد بها نبع الماء ويفهمه فرد آخر على أنه يقصد عضو الإبصار. ويعمم هذا على جميع أنواع "الإشارات" حيث يكون لدال معين مدلول يختلف بين جماعة بشرية وأخرى، مثل هز الرأس نحو اليمين واليسار الذي هو علامة الموافقة في بلغاريا والرفض في بلدان كثيرة غيرها. وتذكر الكاتبة أن الفقير لله يميز بين نوعين من الالتباس: نوع بسيط وهو حين يمكن وضع المدلول الصحيح مكان مدلول خطأ في نظام إشارات واحد، ونوع معقد وهو حين لا يمكن وضع هذا المدلول في سياق مقبول. لم أوضح في مقالاتي التي تحدثت فيها عن الالتباس هذا التمييز بصورة كافية ولكن الكاتبة بنباهة تستحق الإشادة ذكرت أن هذا يقع "حين يتعلق الأمر بمحاولة "ترجمة" أو "نفسير" ظواهر ثقافية معقدة تميز حضارة معينة إلى مفاهيم حضارة ثانية (ص 52)".

تقدم الكاتبة تأويلها الخاص مع بعض الاتفاق مع عبد الوهاب المسيري في فرضياته عن "نماذج الإدراك"، ولعل هذا يدلنا على أن الكتاب التأصيليين يتوصلون إلى نتائج متشابهة بحكم تشابه الخيارات القيمية التي تقود إلى ابتكار منطلقات معرفية متماثلة، حين تفسر الالتباس كجزء من فعالية العقل الذي يحاول الفهم في حالة التواصل: "يشوب التواصل الإنساني دائماً قدر يزيد أو ينقص من سوء الفهم، فالإنسان في عملية تأويل مستمرة للإشارات الموجودة حوله، وقد يصيب أو لا يصيب في تفسير هذه الإشارات، لأن العقل الإنساني يتأثر بما حوله ولا يتلقاه بصورة آلية محددة ولكنه بتعامل مع هذه الإشارات والمدلولات متأثراً بالحالة النفسية للإنسان نفسه، وبالمحيط البيئي والثقافي الذي يغيش فيه، والذي يعطي للدالات مدلولاتها الخاصة (ص 53)". تورد المؤلفة مثالا للالتباس بين الحضارات ذكره كاتب هذه السطور هو فهم الأمريكيين لعبارة الطيار المصري "توكلت على الله" قبيل سقوط الطائرة المصرية في الحادثة المعروفة فالعبارة تعني عند المسلمين شيئاً مختلفاً عما يفهمه الأمريكان منها، وقد فهموها أن الطيار قالها لأنه يريد الانتحار!

يحدث سوء الفهم (من طرف لطرف) أو سوء التفاهم (بين طرفين) عندما يعتقد أحد الطرفين أو كلاهما أن النظام الدلالي واحد عندهما. تذكر الكاتبة هذه الحقيقة وأضيف إليها أن هذا هو الذي يجعل سوء التفاهم ظاهرة حتمية، وإن كان من الممكن تضييقها، ذلك أن "النظام الدلالي" لا يتطابق تماماً بين فردين من مجتمع واحد، فكيف به إن كان بين مجتمعين مختلفين؟ تذكر الكاتبة بصواب أن اهتمامي بظاهرة الالتباس برز بعد تحولي للعيش في الغرب، وهي التجربة التي قادت خطاي الفكرية نحو "التأصيل الصرف" ثم "التأصيل الفاعل"، ولا يخفى على القارئ أن ما يميز الكتاب التأصيليين عن غيرهم هو رؤيتهم النقدية للمصادرة التبسيطية عن "إنسانية واحدة" لا تختلف فيما بينها في أنظمتها الدلالية (كانعكاس لاختلافها في التجربة الحضارية واللغوية). إن مفهوم "الالتباس" جوهري عندما يواجه التأصيلي مقولة من نوع "التثاقف"، ولكن يجب أن أذكر هنا أن استعمال مفهوم "الالتباس" من شأنه أن يصحح أشكال الهجوم المنتظر من التأصيليين على "الغزو الثقافي" ويجعل التوصيف التأصيلي لهذا الغزو أدق، لأنه بإدخال هذا المفهوم لا تغزو الثقافة الغربية ثقافة أخرى بل ما يغزوه هو "صورة ملتبسة" عنها، وقد ذكرت ذلك في فصل عن بيرم التونسي في كتاب "نحو ثقافة تأصيلية" وقلت فيه إن تصور المثقف العربي عن الغرب لا يطابق واقع هذا الغرب بل يطابق بالأحرى "صورته المصححة" (وعبرت عنها بأنها "الصورة النيجاتيف") عن المجتمع العربي.

تذكر الكاتبة تطبيقات لمفهوم "الالتباس" عند كاتب هذه السطور، منها فهم المعاصرين للتراث، ومنها مفهومه عن "الإنسانوية الزائفة" الذي سبق ذكره، وتذكر هنا رأيي في أن الالتباس "الإنسانوي الزائف" يقع فيه الغرب أيضاً حين يفهم الظواهر الاجتماعية والثقافية العربية على أرضية التاريخ الغربي (انطلاقاً من فرضية المسار الخطي الواحد للتاريخ وأن العرب يقعون على المسار نفسه ولكن في نقطة متأخرة عن الغرب، بحيث تفهم ظاهرة عربية الآن بالمقارنة مع ظاهرة غربية كانت موجودة في زمن سابق). ومنها التمييز بين مصطلحي "إسلامي وإسلاماني" وهو تمييز هام ذكرته في الفقرة الأولى من هذا المقال، ومنها الالتباس في المعسكرات الفكرية العربية وبالذات الالتباس الذي يقع عند محاولة فهم التيار التأصيلي وقد ذكرته أيضاً في فقرة سابقة، وتذكر أخيراً كمثال تطبيقي تأملاتي في موضوع الاختلاف الثقافي بين الحضارات، وتذكر في هذا السياق تنويهي بمساهمة محمود شاكر رحمه الله الرائدة في النضال ضد الالتباس الثقافي (انظر مثلاً في كتابي (نحو ثقافة تأصيلية) في الفصل عن محمود شاكر تعليقي على رؤيته الثاقبة للفرق بين مصطلح "الدين" عندنا وفي الغرب")، وتذكر ملاحظاتي على أولاد المهاجرين العرب الذين ينظر إليهم خطأ (من الغربيين ومن العرب) على أنهم عرب من الناحية الثقافية على حين أنهم في الواقع تأوربوا في شخصيتهم العميقة ولو أنهم يعاملون (وأحياناً يعاملون أنفسهم) على أنهم عرب.

في خاتمة الفصل تشير المؤلفة إلى حقيقة أراها مهمة جداً تتعلق بتطبيقات مفهوم "الالتباس": "تبرز أهمية دراسة الالتباس وتحديد درجاته ومجالاته وأسبابه بصورة متزايدة في وقتنا الحالي، ذلك أن الالتباس، كما ذكر محمد شاويش، تجاوز علاقاتنا الداخلية إلى العالم بأسره، فالعولمة فرضت أشكال التنظيم الاجتماعي الغريبة في كل مجالات الحياة، السياسية والاقتصادية والتعليمية وحتى الأخلاقية. وبالرغم من أن التطابق في هذه الأشكال الاجتماعية السائدة لا يخفي وراءه مضامين موحدة، فما نراه عندنا من هذه الأشكال التنظيمية له مضمونه الخاص فلا يمكن أن نقول إن وزاراتنا مثلاً كوزاراتهم، ولا مدارسنا كمدارسهم، وهنا أرجو أن لا يفهم القارئ الكريم أنني أقارن بين ما عندنا وما عندهم بهدف التقييم، ولكنني أذكر هذا لأنبه على أن الأمم تظهر طابعها الخاص حتى في مثل هذه الحالات التعميمية، وعندها قدرة على تطويع المستجدات وإعطائها طابعها الخاص المميز، فالتنوع هو سنة كونية لن تتبدل، غير أن كثيرين يقعون ضحية "سوء فهم" و "التباس" نتيجة تعاملهم مع هذه الأشكال التنظيمية تعاملاً واحداً في كل مكان وجدت فيه، دون مراعاة للاختلافات المميزة لكل أمة، مما يسبب مشكلات كثيرة تنعكس آثارها السلبية على العالم (ص 64)". وفي هذا الاستشهاد يرى القارئ تميزاً للمؤلفة عن بقية التأصيليين، من حيث أنها لا تنظر بنظرة إدانة شاملة لاستيراد عناصر ثقافية معينة من الغرب، حيث أنها تعتقد أن المجتمع يمارس ذاتيته الخاصة عبر تطويع هذه الأشكال لتنسجم مع بنيته هو.

ترى المؤلفة أن دراسة ظاهرة الالتباس كانت ضرورية للوصول إلى فهم صحيح يمكننا من التعامل مع الواقع كما هو لا كما نتوهمه، وهو ضروري أيضاً لتخطي سلبيات الالتباس في التفاهم والتواصل بين أبناء الأمة الواحدة من جهة وبين الأمم والحضارات من جهة أخرى "في عصر صارت السمة المميزة للمجتمعات والأفراد هي "التمركز حول الذات" و "التشظي" سواء منه الطائفي أم الإقليمي أم القطري .. إلخ، فما تواجهه أمتنا اليوم من خطر حقيقي يهدد بقاءها يحتم على أبنائها التعاضد والتعاون والتواصل حتى تتوحد الجهود الرامية لإنقاذها من خطر الفناء، وهذا لن يتم ما لم نعمل على إزالة كل العوائق المانعة من ذلك وعلى رأسها الالتباس وسوء الفهم (ص 65)".

عادل حسين: الاستقلال شرط النهضة
تبحث الكاتبة منظور المفكر المصري عادل حسين للنهضة موافقة على رأي جلال أمين الذي قال إن القضية التي ملكت عليه نفسه منذ بداية حياته حتى نهايتها كانت قضية الاستقلال، وهي تقول إن الاستقلال عند عادل حسين لم يكن يقتصر على الاستقلال السياسي، وإنما شمل أيضاً الاستقلال الاقتصادي، والاستقلال الحضاري هو الشرط للتنمية المستقلة "وبرأيه فإن الاستقلال الحضاري ضابط وموجه لتطور مجتمعنا، وهو شرط مهم لإحداث تنمية اقتصادية اجتماعية مستقلة (ص67)". ينتمي عادل حسين إلى التيار التأصيلي كما تقول المؤلفة لأنه من الكتاب الذين كان همهم البحث في طرق النهضة وشروطها بعيداً عن التقليد والتبعية. مع صحة الفكرة الأساسية هنا، لكنّ لي اعتراضاً على استعمال كلمة "النهضة" وكأنها من مشتركات كتاب التأصيل في جميع مراحل كتابتهم، إذ لا نكاد نراها في كتابات بعض دعاة التأصيل مثل غريغور مرشو ومثل الفقير لله في مرحلة "التأصيل الصرف" إلا مقرونة بالنقد اللاذع، لأنها تطلق على تلك المرحلة التي دعا فيها كتاب ومفكرون عندنا إلى أن نحذو حذو الغرب ونستنسخ مؤسساته وأفكاره وطرق عيشه وطرق عيشه.

وتذكر الكاتبة أن عادل حسين مع جلال أمين وطارق البشري وغيرهم أطلقت عليهم لفترة تسمية "التراثيين الجدد" وهو ما يذكره جلال أمين في مذكراته ، وهي تنتقد هذه التسمية لأنها توحي بأن الكتاب المذكورين متعلقون بالماضي وكأنهم غير مدركين لتغيرات المجتمع الكبيرة أو كأنهم يدعون لوقف عجلة التاريخ مع أن المتابع لأفكارهم يعرف أنهم "مفكرون تحرروا من عقدة الاستلاب للنموذج الفكري السائد والمسيطر (ص 68)". تستعرض الكاتبة بإيجاز كبير حياة عادل حسين وتذكر أن مفهومه للاستقلال تطور خلال مسيرة حياته بحيث لم يعد مفهوم الاستقلال عنده يقتصر على إخراج الجيوش الأجنبية لكنه يتعدى ذلك إلى آفاق أوسع وأكثر تركيباً تستشهد المؤلفة بعادل حسين في مقال له عنوانه "الاستقلال الوطني والقومي": "إذا كان فرض السيطرة الغربية والصهيونية على مقدراتنا عملية مركبة، أسهم في إنتاجها ما هو أيديولوجي وما هو سياسي واقتصادي وعسكري، فكذلك حال النهضة ومدخلها استعادة الاستقلال، فالاستقلال عملية مركبة في الاتجاه المضاد، وكذلك الطريق إلى الاستقلال عملية مركبة تضم ما هو أيديولوجي وما هو سياسي وعسكري واقتصادي (ص 70)". ولأجل فهم أفضل لمعنى الاستقلال الذي دعا إليه عادل حسين تتوقف المؤلفة عند النقاط التالية:

1. على مستوى النظرية: يرى عادل حسين أن الممارسة النظرية المستقلة تعبر عن عملية التقدم الحضاري الأصيل، وفي منطقتنا الإسلامية يدل على هذه العملية مصطلح "الاجتهاد". فقد رأى عادل حسين في كتابه (الاقتصاد المصري من الاستقلال إلى التبعية) ـن هناك أزمة حادة في نظريات "الشمال" بحيث سبقت السياسات الاقتصادية العملية هذه النظريات، وفقدت بهذا النظريات دورها كموجه للسياسات. دعا عادل حسين إلى ممارسة نظرية مستقلة مع صعولة ذلك بسبب طول مدة التبعية، وترتكز هذه الممارسة النظرية كما تلخصها الكاتبة على الإقرار بحقيقة المفهوم المحوري في العقيدة السائدة وهو في الحضارة الإسلامية الإيمان بالله الواحد الحالق، وعلى استيعاب منطق تفاعل المحدد العقدي مع بيئته وما أدى إليهكي يكون التجدد التاريخي وفق المنطق الأصيل للاستمرارية التاريخية، وعلى وجوب فرز الترسانة الفكرية الغربية لعزل ما هو خاص (غربي) عما هو عام (عالمي) وهذا يتطلب فحص المفاهيم وكشف علاقاتها مع عقيدتهم السائدة ومدىاتساق ذلك مع عقيدتنا، والاستفادة من تجارب إنسانية لممارسة نظرية مستقلة، وقد اهتم عادل حسين بتجربة ماو تسي تونغ كمنظر فكتاباته بحسب عادل حسين "أعمق دراسة اجتماعية حديثة من منظور غير غربي"، والمطلوب الاستفادة منه في مسعانا لصياغة نظرية مستقلة تعبر عنا وعن حاجاتنا دون أن نخدع أنفسنا فنستخدم مضمون المصطلحات الغربية مع تغيير الكلمات أو نحاول إثبات أن هذه المفاهيم لها أصل في تراثنا، ويجب أن لا نضيف مفاهيم خاصة بنا إلى المفاهيم الغربية لأن المفاهيم التي تتفرع عنها ستتناقض مع المفاهيم التي تتفرع عنها المفاهيم الغربية.

عرض عادل حسين ستة مبادئ أساسية للتنمية طويلة الأجل: أ- في العلاقات الخارجية مواجهة حقيقة أن العلاقات مع الدول الصناعية غير مواتية بسبب التناقض بين الشمال والجنوب. ب- في العلاقات الداخلية الاعتماد على النفس.ج- التنمية عملية مركبة. د- لا بد من قفزة كبيرة وجريئة. ه- الدور المحوري للدولة والتخطيط. و-عدالة توزيع الناتج. ينقد عادل حسين الجو الأيديولوجي السائد الذي يستنكر كل تحذير من مخاطر التعامل مع الشركات العابرة للجنسية وعدم وجود وعي بأن ظروف مصر كدولة نامية تختلف عن ظروف ومصالح أهل الشمال "أصبح استهداف الاعتماد بشكل أساسي على تمويل خططنا من الخارج تقليداً يدافع عنه بسذاجة مدهشة، ومفهوم التنمية والتخطيط لا زال بعيداً تماماً عن بحث التغيرات الاجتماعية والمؤسسية المطلوبة، وبدا أن مفهومنا للتنمية لا زال هو مفهوم النمو الاقتصادي المعتمد على حجم الاستثمارات، وعبر الأموال الوافدة من الخارج بالذات، وبدا أننا لم نسمع بعد عن مبدأ عدالة التوزيع (ص 76)".

تقول المؤلفة إن اهتمام عادل بتشكيل نظرية مستقلة للتنمية نابع من إدراكه العميق للآثار الكارثية للعولمة القائمة على الاستغلال والأنانية والسيطرة وتدمير البيئة، ومحاولته لتطوير "نموذج حضاري إسلامي إنساني أرقى وأفضل" ناتجة عن إيمانه أن حضارتنا "هي الأرقى والأفضل إذا قورنت بالحضارة الغربية المعاصرة التي تقوم على الفلسفة المادية والاستعلاء العنصري (ص 77)"،وللقارئ أن يقارن هذا القول لعادل حسين مع مناقشتنا في فقرة سابقة لموقف التأصيليين من الاختلاف الحضاري: أهو موقف النسبية الثقافية التي تدافع عن الاختلاف ولا تفاضل بين الحضارات، أم هو موقف تقييمي ناقد لحضارة واحدة على الأقل ويتمنى تغيرها إن لم يكن زوالها، وهي الحضارة الغربية؟

2. مفهوم الاستقلال الاقتصادي: عادل حسين كما تقول الكاتبة يميز بين نموذجين للتنمية: نموذج التنمية بالانتشار وهي النظرة التي سادت فترة في الكتابات الاقتصادية وترى في البلدان "النامية" بلاداً تخلفت عن الركب وهي قابلة للتحديث عبر انتشار تدريجي للقطاع الرأسمالي بحيث يسود على القطاع التقليدي، ونموذج التنمية المستقلة، وهو لا يتعامل مع "الدولة النامية كمجرد حالة تخلف زمني بل كحالة مركبة أورثها لها الاستعمار الأجنبي، فهذه الدولة ليست طفلاً بل هي قزم مشوه. إن استنزاف مواردها لا يزال مستمراً وأنماط التنمية مربوطة ومشروطة بمخططات وقرارات ومصالح الدول المسيطرة مما يرسخ التبعية ويعوق التنمية المستقلة. يؤمن عادل حسين أن "التنمية الجادة المستقلة لا بد أن تبدأ بكسر حلقة التبعية، وتتواصل بقرارات مستقلة تحقق تنمية متمحورة حول ذاتها، وتتجه إلى سوقها الداخلي في الأساس (ص 79)"،وقد بين أن التجارة الدولية وحركة رؤوس الأموال والديون الخارجية والمساعدات لم تكن في مصلحة الدول النامية بل ساهمت في ترسيخ التبعية وأعاقت التنمية المستقلة، ولا تتردد الدول الصناعية في استخدام كل أدوات القوة السياسية والاقتصادية وحتى القوة المسلحة كحل أخير لفرض سيطرتها. وقد أدت سياسات الدول المسيطرة إلى أن أصبحت أنماط الإنتاج في الدول النامية خاضعة لما تقرره هذه الدول، وصار إنتاج هذه الأخيرة لا يخضع لاختياراتها ولا لاحتياجاتها الحقيقية وصار بنيانها الاقتصادي مشوها وتابعاً، وقد دعا عادل حسين إلى عمل مراجعة حقيقية لأنماط الإنتاج في الدول النامية، لتقوم بتوجيه التنمية الاقتصادية بحيث تؤدي إلى تنويع هيكل الموارد ليصبح اقتصادنا قادراً على أن يمدنا بأهم حاجاتنا المعيشية وهي حاجات الغالبية من أبناء أمتنا، وهي استراتيجية إشباع الحاجات الأساسية، وهي تضمن الاستقلال من حيث تحقيقها الاعتماد على النفس ومن حيث توجهها بالإنتاج إلى السوق المحلي وهي ستكون أقل حاجة إلى استيراد التكنولوجيا المعقدة.

وإشباع الحاجات الأساسية يتطلب اعتماد "نمط استهلاك ملائم" (قارن مع مفهوم الفقير لله "السلوك الملائم" فكأن عادل حسين رحمه الله وصل إلى هذه المقولة ولكن في الميدان الاقتصادي، على حين استخدمتها أنا في ميدان السلوك الاجتماعي بعمومه). "هذا النمط الاستهلاكي الملائم يجب أن يتطور وفق معاييره الذاتية لا وفق نمط استهلاكي سائد نشرته في العالم الشركات الأحنبية العملاقة. وهذا النمط لا يعتمد على إعادة توزيع الدخل بل على تلبية الحاجات الأساسية التي تحقق إنسانية الإنسان حتى وإن أدى هذا النمط إلى أسلوب مختلف عن أسلوب الحياة في المجتمعات الغربية، لأن التقدم الاقتصادي ليس هو اللحاق بالغرب، وإنما هو القدرة على تحديد نمط استهلاك ملائم بمعاييرنا المستقلة (ص 81)".

يرى القارئ هنا بوضوح أن عادل حسين هو بحق رائد لما سميته "التأصيل الفاعل"، وقد تولى رحمه الله دراسة الجانب الاقتصادي بصورة أبعد نظراً بمراحل من وجهة نظر المنظرين الإسلامانيين لما يسمونه "الاقتصاد الإسلامي" الذين يضيقون مجالات اهتماماتهم لتصبح مقتصرة على تطبيق أحكام جزئية (مثل اجتناب الربا) على الاقتصاد، دون النظر في مسألة بناء اقتصاد مستقل مبني على الاستقلال الحضاري لمحتمعنا. وبحيث يكاد يكون نموذجهم صالحاً لاستمرار بنى الهيمنة الثقافية الغربية بأنماطها الاستهلاكية وبتقريرها للأنماط الإنتاجية المسموح بها في بلادنا. يقترح عادل حسين معياراً خاصاً بنا لقوة الاقتصاد ونموه، فهو ليس متوسط دخل الفرد الذي هو المعيار الغربي ولكنه معيار الاستقلال أو التبعية، "فبقدر ما نكون قادرين على استقلال نمط الاستهلاك وما يحققه من تلبية الحاجات الأساسية للناس نكون متقدمين اقتصادياً والعكس صحيح. كما لا يعد تقليد نمط الحياة الغربي معياراً للتقدم، فأسلوب الحياة الغربية حسب تعبير عادل حسين ليس "مثلاً أعلى أو وحيداً يقاس التقدم بقدر الاقتراب منه" (ص 82)". وكما نرى تتكامل مفاهيم الكتاب التأصيليين وتتلاقى فنحن هنا نلتقي في ميدان الاقتصاد بالنقد الذي قام به كاتب تأصيلي آخر للسلوك المستلب في الميدان الاجتماعي. (قارن مع فقرة سابقة عن مفهوم "الاستلاب" عند كاتب هذه السطور). كان عادل حسين كما تذكر الكاتبة متفائلاً بأن الدول النامية تستطيع بناء تنمية مستقلة وإن كان هذا لن يتحقق بين ليلة وضحاها.

3. الاستقلال الحضاري: يقول الكتاب إن مفهوم "الاستقلال الحضاري" لم يطرح عند المفكرين خلال الخمسينات والستينات فما كان سائداً هو فكرة "التحديث"، وهذا صحيح في المضمون وإن كان المألوف في الساحة العربية استعمال مصطلحات أخرى، حيث أن "الحداثة" و "التحديث" كما هو معلوم لم تكن من مصطلحات ذلك العصر عند أي من التيارات الكبرى في بلادنا. (من المصطلحات التي كانت سائدة مثلاً مصطلح "التقدم" وداعيته يسمى "تقدمي"). تقول المؤلفة إن "مفهوم "الاستقلال الحضاري" بدأ يطرح على الساحة الفكرية بصورة متزايدة رغم أنه لم يتبلور بشكل كامل واضح بسبب وجود بعض الاختلاطات التي ما زالت تشوش مفهومه والغاية منه (ص 83)"، هناك من يرى أن "التحضر" هو تعريب للنموذج الغربي ومن يرى أن الاستقلال الحضاري هو الانغلاق وعدم التفاعل مع الأمم والحضارات الأخرى وهذا في نظر المؤلفة خطأ لأنه تعبير عن مفهوم الأمة . المنتجة للحضارة الخاصة بها أو بتعبير عادل حسين "هو لا يتنافى مع حقيقة التفاعل الدائم بين الحضارات، ولا مع حقيقة التشابه بين الملامح الحضارية لعدد من الأمم المتقاربة نتيجة كثافة خاصة في الروابط والتفاعلات (ص 83)".

ترى الكاتبة أن الحديث عن الاستقلال الحضاري تبرز أهميته حين نلاحظ مدى تغلغل التبعية الحضارية في مجتمعاتنا وتبنينا للنموذج الغربي في كل صغيرة وكبيرة، وكما يرى عادل حسين فإننا لم نعد نستطيع أن نأكل أو نلبس أو نسكن بالطريقة التي تناسب بيئتنا لأن خوفنا من الاتهام "بالتخلف" يجعلنا نأكل ونلبس بطريقة "أسيادنا" في بيئة مختلفة. "لم يعد الفرد منا يجسر على التساؤل، ولو بينه وبين نفسه، حول ما إذا كان الجلباب أنسب لجونا الحار أو البدلة على النمط الأوروبي...كذلك لم يعد هناك من لا زال يملك الجرأة على التساؤل حول لماذا الكرسي بدلاً من الجلوس على الأرض،...فارق كبير جداً بين أن نتخذ القرار بعد بحث مستقل حول الأنسب، وبين أن نتخذ القرار في ضوء التسليم بعجزنا الدفين عن تحديد ما يلائم وما لا يلائم (ص 84)".

تلاحظ المؤلفة في هامش لها على رأي عادل حسين هذا أن تقليد الغرب يتأثر بشكل لاشعوري بهويتنا الخاصة، فالمرأة مثلاً تحاول تعديل الزي الغربي بما يتناسب مع عادات محيطها والمحجبة يفرض حجابها تعديلاً للزي الغربي "وهذا إن دل على شيء فهو يدل على أن مجتمعنا يملك القدرة على تطويع ما لا يطوع من أشياء (...) صحيح أن هذا التطويع يكون في معظم الأحيان فوضى قبيحة ولكن للأمر وفق وجهة نظري جانب إيجابي يحتاج إلى دراسة اجتماعية وملاحظة علمية حتى نستطيع معرفة الآليات التي يستخدمها المجتمع للتأقلم مع المستجدات دون أن يفقد هويته وخصوصيته، فكيف إذا انتقلنا من التقليد والتبعية إلى جانب الإبداع الحضاري الخاص بنا؟ (ص 85)"، وقد قلت في فقرة سابقة إن وجهة نظر المؤلفة هذه تجعلها لا تدين مثل المتوقع من التأصيليين كل استيراد لعناصر غربية حيث أن المجتمع يطوع المستجدات لتتلاءم مع خصوصيته.

تقول الكاتبة إن عادل حسين كان يدرك أن هناك اختلافاً جوهرياً بيننا وبين الغرب من حيث منطلق التنمية فبينما التنمية عندهم ذات منطلق تغلب فيه الجوانب الاقتصادية على الاجتماعية فإن التنمية عندنا عملية مركبة يتغلب فيها الجانب الاجتماعي الإنساني على الجانب الاقتصادي المادي، وفي الغرب يرون الفطرة الإنسانية مجبولة على تقديم المنفعة الذاتية، لذا يردون على الملاحظات بأن مستوى الأخلاق والتواد والتراحم قد انخفض بالمطالبة بمزيد من معدلات النمو على حين لا يسلم المفهوم الإسلامي، رغم مطالبته للبشر بأن لا ينسوا نصيبهم من الدنيا، بغلبة النوازع الحسية، وهو حين يطالب بتغليب الجوانب الروحية والمعنوية فهو يعني حق التوجيه وفرض الضوابط. كما نرى فإن عادل حسين من حيث التحليل يقترب أكثر من سواه من التأصيليين من أسلوب التحليل الإسلاماني، حيث أن من المألوف أن يستند التأصيليون في مرجعهم القيمي المختار إلى التركيبة الحضارية الإسلامية كما تبلورت في شكلها الأخير دون العودة المتكررة إلى النصوص وإن كان في نهاية التحليل يرجع مثل بقية التأصيليين إلى التركيبة الحضارية كنتيجة للتفاعل بين النص والتجربة.

تنقل المؤلفة تعريف عادل حسين للتراث: "مجمل التاريخ الحضاري الذي يتسع عندنا للإنجازات المادية والمعنوية. ويشمل ما هو مكتوب ومنشور وما هو كامن أو متضمن في السلوك باعتباره قيماً وتقاليد موجهة، والتركيز الخاص على الإسلام لا ينفي أثر التاريخ الحضاري السابق على الإسلام في مصر أو في غيرها من الأقاليم، ولكنه يعني أن التأثير الجوهري والإطار المرجعي المعتمد يرتبطان أساساً بالإسلام .. ونرى أن الارتباط بتراث الحضارة الإسلامية لا ينحصر في المؤمنين بالدين الإسلامي. فهو تراث أبدعه وعاشه أبناء الأمة جميعاً على اختلاف انتماءاتهم (ص 87)". أعتقد أن هذا التعريف للتراث الذي هو مرجع التأصيليين وعنه يدافعون يلتقي به الفكر التأصيلي، وهو يميزهم عن الإسلامانيين الذين يبدون أحياناً معادين للتراث لصالح تصور عن "إسلام صحيح موجود في النصوص" لا يشكل بالنسبة إليه التطبيق والخبرة التاريخية أي ثقل أو أهمية، فهم كغيرهم من التحديثيين يريدون احتثاث المجتمع من جذوره وإعادة بنائه على أساس تصور جاهز لا علاقة له بالخبرة التاريخية المتراكمة.

الاستقلال الحضاري بحسب المؤلفة ثورة في كل جوانب الحياة على التقليد والتبعية مستندة للعقيدة وللتراث وتفعيل للإبداع والابتكار وتحقيق للذات، وهو مرتبط بحاجتنا إلى اقتصاد متين وتنمية مستقلة، وإلى توحيد الجهود بين أبناء الأمة الواحدة، وإذا كانت السيطرة الغربية عملية مركبة فالتخلص من التبعية عملية مركبة أيضاً "وعلى كل المستويات: السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية والعقدية والتكنولوجية ( ص 87)". في خاتمة الفصل عن عادل حسين تقول المؤلفة إن عادل حسين رغم إسهابه في بيان شدة تبعيتنا وسوء الوضع الذي وصلنا إليه إلا أنه بدا متفائلاً وقد آمن أن تحقيق الاستقلال يتطلب تضحيات كبيرة وجهاداً صبوراً، والجهاد الأكبر هو مع النفس التي تعودت العيش وفق نمط استهلاكي معين. يقول عادل حسين: "هناك عادات تشكلت وأصبحت حقيقة مادية تصعب زحزحتها (ولا نقول إزالتها)، وقد حرصنا على الإشارة أكثر من مرة إلى أنه لا يكفي أن يبدو نموذج ما متسقاً منطقياً لكي نقبله، فإن لم يكن النموذج قابلاً للتشغيل في الحياة الواقعية، يصبح الجهد في بنائه مجرد رياضة ذهنية عقيمة، فهل يمكن تغيير البشر من الأعماق؟ إن القول باستحالة ذلك يعني أن النموذج بالفعل غير قابل للتشغيل، ولكننا نعتقد حقيقة بإمكان هذا التغيير، إذا لم نقم تقديراتنا على أساس الحسابات العادية لعالم الاقتصاد أو الاجتماع. إننا نعتقد بإمكان التغيير، وفي ذهننا عجز العقول الإلكترونية عن حساب طاقة الشعوب في لحظة مواجهة تاريخية، ولا شك أن تحقيق نهضة حضارية هو من اللحظات التي لا تخضع للحسابات التقليدية، ومع فرض توفر هذه اللحظة، فإن مهمة الباحث أن يحاول تحديد تصور للعوامل الأساسية التي تضمن نجاح هذه اللحظة، وتضمن استمرار تشغيل النموذج حتى يحقق هدفه الرئيس البعيد (ص 88)". "تشغيل النموذج" هو في اعتقادي هدف "التأصيليين الفاعلين"، وقد وضع عادل حسين هذه المهمة للناس، لكن أحداً لم يتنطح إلى الآن لتنفيذها، لأن "التغيير من الأعماق" ليس سهلاً بقدر سهولة الطلب من مصدر فوقي تنفيذه مثل جهاز الدولة.

نظرية جلال أمين في تفسير التغيرات الاجتماعية:
في الفصل اللاحق تنتقل المؤلفة للحديث عن كاتب تأصيلي آخر هو جلال أمين. لا شك أن جلال أمين يلتقي في طرق التفكير مع التأصيليين الذين رأيناهم في نقاط كبرى مثل نقد مفهوم "التقدم" المبني على تصور خطي للتاريخ، وهو مدافع عن المجتمع العربي في وجه انتقادات من يحاكم هذا المجتمع بمعايير غربية (انظر نقده اللامع لتقرير "برنامج الأمم المتحدة للإنماء" بعنوان "التنمية الإنسانية العربية للعام 2003")(6) ولكن جلال أمين رغم ما أسميه "مزاجه التأصيلي" قادر أحياناً، وبتقلبات مزاجية أن يخالف توجهات أساسية عند هذا التيار، ومن ذلك هجاؤه للجماهير على أرضية تبقى في رأيي مهما التمسنا لها من مبررات طبقية الطابع. من ذلك وصفه لما يدعوه "عصر الجماهير الغفيرة" وهذا الوصف تتكلم عنه المؤلفة في سياق وصفها لمفهومه عن "الحراك الاجتماعي". في توصيفاته لتغيرات المجتمع المصري في مقالات جمعت في كتاب شهير (ماذا حدث للمصريين) ثم تلته مقالات جمعت في كتاب (وصف مصر في نهاية القرن العشرين)، يعتقد أمين أنه وجد العامل الأهم الذي يفسر "ماذا حدث في مصر" وهو "الحراك الاجتماعي"، وهو كما يعلم القارئ مفهوم مشهور في علم الاجتماع الغربي وهو بالإنجليزية social mobility. تنقل المؤلفة ما قاله في كتابه "رحيق العمر" عن توصله لعامل "الحراك الاجتماعي": "كان هذا العامل الذي فسرت به ما يحدث في مصر هو الحراك الاجتماعي (ص 91)". والعوامل التي ساهمت في إحداث هذا الحراك هي عوامل اقتصادية في الدرجة الأولى.

هذه العوامل هي: 1- ثورة يوليو بإجراءاتها كالتأميم وتوسيع التعليم مما فسح المجال لصعود شرائح من المجتمع وهبوط أخرى. 2- الهجرة إلى دول النفط مما قاد إلى ارتقاء فئات من الشعب أعطاها فرصاً أفضل في التعليم والاستثمار. 3- الانفتاح الاقتصادي وما صاحبه من تضاعف ثروة الأغنياء وتقريب الأغنياء الجدد وهبوط مستوى أصحاب الدخول الثابتة. في الفقرة التالية تعرض المؤلفة مظاهر الحراك الاجتماعي ونتائجه عند جلال أمين. هو يقول إن معدل الحراك الاجتماعي في مصر شهد منذ أوائل الخمسينات ارتفاعاً ملحوظاً لم تشهد مثيلاً له من عدة قرون بل ربما في كل تاريخها وكان لهذا آثار في سلوك المصريين وأفكارهم ونظرتهم إلى مختلف العلاقات الاجتماعية. يقول أمين "مما يجب الاعتراف به أن من أشد العوامل أثراً في نفسية المرء مركزه النسبي في المجتمع، أو تصوره هو لهذا المركز ولنظرة الآخرين إليه ( ص 94)".

سادت الفوضى المجتمع في غمار عملية تبدل المواقع وتخللت البنى الاجتماعية وتزعزعت القيم وفقد كثير منها أهميته ومكانته في المجتمع، واتجه المجتمع شيئاً فشيئاً نحو تسليع كل شيء وصبغه بصبغة مادية فجة. وقد شملت مظاهر الحراك الاجتماعي في المجتمع المصري كل مناحي الحياة من السياسة إلى الاقتصاد إلى الثقافة وصولاً إلى الإعلام والتعليم والخطاب الديني. كانت تغييرات عميقة بل مزلزلة. مع الحراك الاجتماعي ارتبطت ظاهرة "الجماهير الغفيرة" وكانت جزئياً نتيجة له. وتتعلق "بالحجم الفعال للسكان، أي الحجم المؤثر والحاكم لنمط الحياة ومظاهر السلوك (ص 95)". الظاهرة وثيقة الصلة بالحراك الاجتماعي ولكنها لم تنتج عنه وحده إذتدعمها الزيادة في حجم السكان، الذي تدعمه السياسات الاقتصادية والاجتماعية لثورة يوليو خصوصاً، وهذا الحجم مؤثر وراسم لنمط الحياة بجوانبها المختلفة. كمثال على أثر ارتفاع معدل الحراك الاجتماعي يضرب جلال أمين مثلاً من التغير في الخطاب الديني حيث نتج شعور بالإحباط لشرائح واسعة في المجتمع، وهي ترى صعود كثيرين ممن كانوا ضمنها لطبقات أعلى وفشلها في اللحاق بهم. مقارناً بين حالة كان فيها الخطاب نفسه يوجه لمجموعة محدودة من الناس المتعلمين يقوم به خطيب مثقف وحالة يوجه فيها "داعية إسلامي" بتعليم متواضع هذا الخطاب إلى ملايين الناس.

تؤثر ظاهرة "الجماهير الغفيرة" على جوانب الحياة كافة: السياسية والثقافية والاقتصادية والعلاقات الاجتماعية، فما كان يقدم سابقاً لمجموعة محدودة العدد من الناس من الخدمات يختلف عن تقديم هذه الخدمات لفئات واسعة ستكون مناسبة لذوق وإمكانيات وخصائص هذه الفئات الواسعة. مثلاً انخفض مستوى المقالات الصحفية بانخفاض السوية التعليمية للقراء. ترى المؤلفة أن وصف جلال أمين لعصر الجماهير الغفيرة هو وصف صحيح ويحتاج لتحليلات أعمق وقد بين جلال أمين أن الظاهرة لم تقتصر على المجتمع المصري بل كانت ظاهرة عالمية أطلق عليها أمين وصف "سيطرة العصر الأمريكي" "حيث أثرت هذه الظاهرة على الشكل العام للحياة البشرية ككل، ووجهت العلوم والاختراعات والخدمات باتجاه يتوافق مع متطلبات الجماهير الغفيرة وما يناسبها وكان لها أثره الواضح والمؤلم في أحيان كثيرة على العالم ككل وليس على مجتمع بعينه (ص 98)". في نهاية الفصل تقف الكاتبة وقفة نقدية هامة مع آراء جلال أمين وتفسيره للتغيرات الاجتماعية، فهي ترى أن الحراك الاجتماعي رغم أثره لا يكفي لتفسير هذه التغيرات لأن جلال أمين نفسه ذكر "العصر الأمريكي" في أكثر من موضع وإن لم يربطه بالحراك الاجتماعي، فهذا العصر صبغ العالم بصبغته الواضحة، وسيطر النموذج الأمريكي على نواحي الحياة على أنه النموذج الأكمل مما كان له آثار واضحة على نمط العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وتغير القيم، ودراسة هذه الآثار تولاها مفكروا التيار التأصيلي "الذين سعوا لمناقشة تلك المسلمات الفكرية المسيطرة، والتي ترى في ذلك النموذج الأمريكي النموذج الطبيعي والصحيح (ص 99)".

تذكّر الكاتبة بحديث جلال أمين في كتاب (رحيق العمر) عن تأثير هذه السيطرة النفسية على مجتمعاتنا عندما تكلم عن الانفتاح الاقتصادي، فخطورتها لا تكمن في مجرد طرد عناصر الإنتاج من ميدان إشباع الحاجات الأساسية إلى إشباع "حاجات" ما كانت لتخطر على البال ولا في مجرد أنها تطرد القوة الشرائية المحدودة من سوق الحاجات الأساسية إلى سوق السلع الأجنبية، بل هي تكمن في أن "الأجنبي "يغزوك داخل نفسك" ليطرد منها أي رغبات أو ميول أو قيم تتعارض مع الرغبة في استهلاك السلع التي يعرضها عليك ( ص 100)". إن الدول الصناعية لا تواجه فقط مشكلة ضعف قدرة الدول الفقيرة على شراء ما تريد بيعه، بل تواجه أيضاً مشكلة ضعف رغبة سكان هذه الدول في شراء سلعها. وكما أن عناصر الإنتاج والقوة الشرائية محدودة فكذلك النفس البشرية ذات طاقات محدودة فهي لا يمكن أن ترغب في الشيء ونقيضه، فإن أردت تعليم العربي استهلاك أشرطة الموسيقى الأجنبية عليك صرف اهتمامه عن الموسيقى العربية، ولتعلمه استهلاك المعمار الغربي عليك تعليمه كراهية المعمار الإسلامي، ولكي تلقنه الرغبة في اقتناء السيارة الأمريكية الفارهة عليك أن تعلمه العديد من الرغبات والميول التي تتعارض مع عادة استهلاك السيارة الخاصة (ربما يعني عادة الإبقاء على السيارة حتى استهلاكها). "وبكلمة واحدة إذا أردت أن تخلق مستهلكاً جيداً ومضموناً للسلع الغربية فعليك أن تخلق أولاً شخصاً غربي الفكر وغربي الثقافة (ص 101)".

تستنتج المؤلفة أن جلال أمين يعي إذن تماماً أن "الحراك الاجتماعي لم يكن ليحدث كل هذه التغيرات في المجتمع لو لم يرافقه ذلك الانهزام الداخلي، إن صح التعبير، أمام النموذج الأمريكي المميز بخصائصه المادية الواضحة وخططه المدروسة، التي هي في النهاية نابعة من فكر مادي استهلاكي، يقيم كل شيء وفق معيار تسليعي نفعي، ويصبغ العالم بلون حضاري واحد، أصبح هو المسيطر والغالب على العالم ككل. وهنا يلتقي جلال أمين مع التأصيليين الذين يعملون ضد النماذج الحضارية المفروضة (ص 101)". وهذا تحليل سليم في اعتقادي، وإن كان جلال أمين يبدو في الظاهر متحاملاً على الشرائح الصاعدة من أسفل أي الأغنياء الجدد لصالح الطبقات المالكة القديمة، فإنه في البعد العميق لتوجهه يقف مثل بقية التأصيليين ناقداً لتهشيم البنى التقليدية للمجتمع لصالح أشكال حديثة مشوهة.

علي شريعتي والوعي المقاوم:
تعرض المؤلفة في هذا الفصل كتاب علي شريعتي (أمي .. أبي .. نحن متهمون)، وشريعتي كما نعلم مفكر إيراني ولد عام 1933 واغتاله نظام الشاه عام 1977. ترى المؤلفة أن شريعتي جعل كتبه "وسيلة لبث فكرة مقاومة الخطأ والإيمان بالإمكانات الكامنة في الشعب، تلك الإمكانات التي لن تظهر ما لم يحفزها الوعي والفهم الصحيح للدين ولمفاهيمه الفاعلة" (ص 103). يعرض شريعتي في الكتاب نقد الشباب لفهم الكبار للدين، هم لا يفهمون المعاني الحقيقية لتعاليم الإسلام، فصلاتهم مثلا نوع من الرياضة التكرارية لا أثر فيها للأخلاق أو لتصحيح النية أو صحة العمل، وهم لا يفهمون معاني ألفاظها وأركانها وفلسفتها الحقيقية وهدفها الأساسي. يبدأ شريعتي بعد ذلك بتوضيح المعاني الحقيقية لهذه التعاليم فيتحدث عن روح الإسلام وفكرته ونظامه.

لكن شريعتي لا يتكلم فقط عن عوام واقعين في أسر الخرافة والعقائد الممسوخة والجهل والجمود، بل يتكلم أيضا عن مفكرين "يتحدثون مع أنفسهم بعيداً عن الناس وفي أبراجهم وقلاعهم المغلقة....يتحدثون مع أنفسهم ويضحكون من جهل العوام..وقلوبهم راضية وهم راضون عن أنفسهم...لكن كل ما يتحدثون به إلى أنفسهم هو مجرد أوهام وتقييم متسرع وقياس مع الفارق ومفكرونا فقط هم الذين يحسون أنهم لا يفتؤون يفكرون وإلا فإنهم لم يوضحوا أي شيء للناس والسبب هو أن الأمر ليس واضحاً لهم هم أنفسهم، إنهم تماماً كالعوام في تلقيهم للقضايا العقائدية والتقليدية والدينية لمجتمعهم وتاريخهم وثقافتهم (ص 106)". تقدر المؤلفة في أفكار شريعتي أنها كانت تهدف لتصحيح المفاهيم ونشر الوعي بين الشباب مع إيمانه بحس الشعب الفطري السليم. كان شريعتي يرى أن الشعب يجب أن يؤمن بنفسه ويثق بإمكاناته لأن ما عنده هو أغلى من المعرفة والعلم. "المعرفة النفسية أو الدراية أو النباهة" عنده فوق معرفة الفلسفة والعلم والصناعة لأنها تري الإنسان نفسه وتعرفه بذاته وتلفت انتباهه إلى قدره وقيمته. كافح شريعتي احتقار الجيل لنفسه "فسياسة الاستعباد والاسترقاق تقتضي التحقير أولاً، أي يحقر الذي يراد استرقاقه، حتى يظن أنه من طبقة دنيا وأسرة منحطة، ثم يتقبل الذلة بكامل الرحب، ويلجأ للعبودية والاسترقاق (ص 106) (لعل الكلمة العربية المناسبة هنا هي "يركن")".

هذه العملية التي وصفها شريعتي مع العملية التي تقود إلى الاستلاب سماها الفقير لله مرة "السلبنة". يدعو شريعتي إلى وعي سياسي يعرفه كما يلي: "شعور الفرد بمرحلة المصير التاريخي والاجتماعي للمجتمع، وعلاقته المتقابلة بأبناء شعبه وأمته، والشعور بانضمامه وارتباطه بالمجتمع، وشعوره بمسؤوليته كرائد وقائد في الطليعة من أجل الهداية والقيادة والتحرير والحركة الشاملة تجاه شعبه وأمته (ص 107)". يتكلم شريعتي عن مفهوم معاكس لمفهوم "النباهة" وهو مفهوم "الاستحمار"، حيث يعمل المستعمر على تغيير الأولويات وشغل الشعب عن الأمور المهمة بالأمور التافهة بحجج مختلفة وأساليب تجعله يشك بنفسه وبقدراته: "إن المستعمرين لا يدعونك لما تستاء منه دائماً، فيثيرون انزعاجك فتنفر منهم إلى المكان الذي يجب أن تصير إليه، بل يختارون دعوتك حسب حاجتهم، فيدعونك أحياناً إلى ما تعتقده أمراً طيباً من أجل القضاء على حق كبير، حق مجتمع أو إنسان، وأحياناً تدعى لتنشغل في حق آخر، فيقضون هم على حق آخر هو أولى. عندما يشب حريق في بيتك، ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع إلى الله، ينبغي أن تعلم أنها دعوة خائن، فكيف إلى عمل آخر؟ فالاهتمام بغير إطفاء الحريق والانصراف عنه إلى عمل آخر ما هو إلا استحمار وإن كان عملاً مقدساً أو غير مقدس (ص 108)".

يتكلم شريعتي هنا عن ما سماه كاتب هذه السطور سابقاً "السلوك المناسب" فوظيفة التضليل الاستعماري أن يصرف الشعب عن هذاالسلوك إلى "سلوك غير مناسب"، وكنت في مكان آخر قلت إن "السلوك المناسب" ليس له طابع مطلق بل هو يتعلق بالهدف الذي يطرحه المجتمع على نفسه، وفي مثال شريعتي لا شك أن الصلاة "سلوك مناسب" في موقف آخر غير موقف الحريق. احترام شريعتي للشعب ورؤيته أن عنده خصلة ستكون هي الكلمة الفاصلة في النهضة وهي خصلة الفطرة والحس السليم والنباهة تجعله في نظر المؤلفة "مختلفاً عن كثير من المفكرين الذين لا يرون خيراً في المجتمع ويعتبرونه جاهلاً ويعولون كثيراً على العلمية والعقلانية والأساليب الغربية في التقييم السلوكي للمجتمعات والتي على أساسها يتم تصنيف تلك المجتمعات بأنها متقدمة أو متخلفة (ص 108)". وكان شريعتي يجاهر بانتمائه إلى فئة المثقفين الملتزمين بالناس ومبادئ الدين، وأنه نشأ في منطقة فقيرة وفي عائلة لا مال ولا نفوذ لها "فأنا أحس من أعماقي بأن أجدادي في التاريخ، هم أولئك الذين خاضوا أصعب معاركه وعانوا الفقر والحرمان من أجل صنع مآثره (ص 108)".

ترى المؤلفة أننا بحاجة لعلماء ومفكرين من أمثال شريعتي يؤمنون بقدرات الناس ويدرسون تحركاتهم الاجتماعية وأساليب تعاملهم مع المؤثرات الكثيرة التي يتعرضون لها وتعود المؤلفة في نهاية الفصل عن شريعتي إلى رأيها في أن مجتمعاتنا تبدي مقاومة للتأثر الكامل بالغرب، وهي تصبغ ما تأخذه من الغرب بصبغتها الخاصة. لا شك أن الكاتبة على حق حين تصف فكر شريعتي بأنه "فكر مقاوم" لأن همه الأساسي كان استنهاض همة الشعب لطرد الاستعمار وأذياله المحلية الحاكمة، وقد كان يرفع الرفض إلى درجة القيمة الأكبر للإنسان: "إن أكبر قيم الإنسان هي تلك التي يبدأ منها "بالرفض" و "عدم التسليم" اللذين يتلخصان بكلمة "لا"، ومنها بدأ آدم أبو البشر"(7). وقد كان يرى (مثل فانون، وهو كان يعرف فانون ويحترمه) أن مقاومة الحفاة الذين لا يقرؤون ولا يكتبون ستتغلب على الغرب المدجج بالأسلحة المادية والمعنوية والعسكرية: "هذا الحافي الجائع، الذي قدر له أن يبقى فقيراً، عريان، مريضاً، لكنه في الوقت نفسه تسلح بسلاح واحد هو "الفكر" و "الإيمان" و "العقيدة" له هدف واحد جعله يقاتل ذاك الإنسان فيتغلب عليه رغم كونه أمياً"(8)

في مقال لكاتب هذه السطور عنوانه "نحو وعي جديد" كنت سميت هذا النوع من التفكير "الوعي المقاوم" لأنه يكافح لأجل دفع الناس إلى المقاومة، وهو يقف في مواجهة نوع آخر من الوعي يمثله مثلاً مالك بن نبي، الذي لا يرى مدح العري والجهل، بل يرى الكفاح للتخلص منهما على الطريق المؤدي إلى القضاء على القابلية للاستعمار ثم الاستعمار نفسه.(9). ولكنه كما رأينا لا يغفل جانب العودة إلى تغيير أفكار المجتمع، وإن كان يركز على تغيير تلك البنى الفكرية التي تسبب الخضوع والاستسلام للظالمين. يرى شريعتي أن العقيدة التي تعيد للمجتمع ثقته بنفسه لها الأولوية على محاولة الحصول على "الصنعة والاقتدار والرأسمالية" مستشهداً بفانون: "كما يقول فانون إن المجتمعات المتأخرة لها مصير متشابه، وحاجة واحدة، وانتخاب واحد، لأنها تواجه قدرة متشابهة في زمان واحد ومشترك. إما أن يختار "الفكر" أولاً، أو الحضارة من غير "الفكر"، وأعني "بالحضارة" الشيء الذي يخرجه المتحضرون لنا. وقد كشفت لنا التجارب طيلة الثلاثين أو العشرين سنة الأخيرة، وحتى في الأربعين أو الخمسين سنة الماضية، أن المجتمعات التي بدأت من نقطة عقائدية، وتحركت بعد تحقق وعيها الفردي والاجتماعي، قد وقفت اليوم في صف القدرات التي تصنع الحضارة العالمية. لكن المجتمعات التي اقتدت بالحضارة الغربية بدون وعي اجتماعي، أو شعور إنساني بالوعي الفردي وبدون عقيدة بل بمجرد نهضة كاذبة، قد ظلت مسخرة للحضارة الغربية، مستهلكة على الدوام، خاضعة للذل والعبودية تحت سيطرة الغرب".(10)

مالك بن نبي فدائي يعمل وحيداً
في هذا الفصل تتناول المؤلفة بإيجاز وصف مالك بن نبي للوسائل التي يحارب بها الاستعمار الأفكار الفاعلة في البلدان التي يريد إبقاءها على حالها لا تنهض من كبوتها، ومن تلك الطرق استغلال جهل الجماهير وتحريضها ضد المفكرين الذين يعملون على إنشاء هذه الأفكار ونشرها بين الناس وتفعيلها. يستخدم الاستعمار كما تقول المؤلفة تلك الخصلة التي هي القابلية للاستعمار لجعل أطراف كثيرة تخدمه بعلمها أو بدون علمها.  تتكلم المؤلفة عن كتاب بن نبي "الصراع الفكري في البلدان المستعمرة" والذي عرض فيه لتجارب مر بها هو شخصياً عن "مراصد الاستعمار" التي تعمل على خنق الأفكار النهضوية الفاعلة وتشويهها لمنع وصولها إلى الناس.

وبهذه المناسبة تتكلم المؤلفة عن مقال يهاجم مالك بن نبي يذكر بالفعل بأوصاف مالك للأساليب الخبيثة التي يلجأ الاستعمار إليها لتشويه سمعة مفكر نهضوي ما لحجب أفكاره عن الفعل والتأثير. كاتب المقال في مجلة ثقافية مصرية حاول أن يربط بين الدعوة في العالم لتأييد "إسرائيل" وبين صدور كتاب بن نبي (الظاهرة القرآنية). توضح المؤلفة أن هذا الربط لا أساس له، فالكتاب كان يهدف إلى أن يتيح للشباب المسلم فرصة التأمل الناضج في الدين وإلى اقتراح إصلاح مناسب للمنهج القديم في تفسير القرآن الكريم. إنه "يتوجه للشباب المسلم الذي وقع تحت تأثير كتابات المستشرقين حتى صار يتجه للمصادر الغربية حتى فيما يخص معارفه الإسلامية الشخصية سواء أكان هذا بسبب فقر مكتباتنا أم لمجرد التجانس والقرابة العقلية (ص 113)". فوق الطعن بالكاتب والكتاب شوه المقال الذي تتحدث عنه المؤلفة رأي مالك بن نبي في تحريم الخمر بصورة فاضحة، ثم شكك في عقيدة مالك بن نبي وتتساءل الكاتبة إن كان المقال يريد التشكيل في بن نبي وفي المترجم عبد الصبور شاهين فقط أم هو يريد أيضاً الطعن في محمود شاكر الذي قدم للكتاب؟ وتنهي هذا الفصل القصير بالترحم على مالك "الذي قاتل وحيداً وما زال يقاتل بأفكاره الفاعلة التي لن تموت ما دام هناك من يقرأ بنزاهة ويبحث بصدق وتجرد بعيداً عن أهواء شخصية ساذجة أو خبيثة (ص 117)".

الفكر العربي المعاصر المريض!
في هذا الفصل الأخير من الكتاب تقدم الكاتبة نقداً لكتاب جورج طرابيشي (المرض بالغرب، التحليل النفسي لعصاب جماعي عربي). تمهد المؤلفة لنقدها لكتاب طرابيشي بالحديث عن كتابات كثيرة تكلم فيها المؤلفون عن "أزمة" أو "إشكاليات" أو "معضلات" أو "مشكلات" أو "تحرير" إلخ .. لهذا الفكر العربي. وجد الباحثون كما تقول أن مقولات هذا الفكرتدل على سوء فهم، وعدم استيعاب، وخلط، ووعي زائف واستلاب. بعض المفكرين رصد حالة من العجز والضعف والشحوب. جورج طرابيشي من بين هؤلاء كتب عن مرض نفسي في هذا الفكر فقرر في الكتاب موضوع الفصل أن يحلل هذا الفكر تحليلاً نفسياً، ويشخص حالة من العصاب الجماعي العربي ناتجة عن رضة حزيران 1967. والمصطلحات النفسية استخدمها كاتب آخر هو غريغوار مرشو الذي كتب عن "الفصام في الفكر العربي المعاصر". والكاتبة ترى أن مرشو يختلف عن طرابيشي في أنه لا يعمم حالة المرض على الفكر العربي كله، وإن كان هو أيضاً يجده في تيارات كثيرة. لا تريد الكاتبة نفي وجود مشاكل وعلل في الفكر العربي ولكنها تريد الوقوف أمام الأدوات التي استخدمت في "تشخيص وتحليل هذا الفكر (ص 120)".  تلخص الكاتبة مقولات الكتاب، ورأيت هنا أن لا أعيد هذا التلخيص تاركاً القارئ لقراءته بنفسه في هذا الفصل النقدي أو في كتاب طرابيشي نفسه، مكتفياً باستعراض النقاط التي نقدت فيها المؤلفة هذا الكتاب الأخير:

1- ترى المؤلفة أن طرابيشي نفسه قال عن الظواهر الإنسانية أنها "متعددة التعين وقابلة بالتالي للتفسير بأكثر من كيفية واحدة" ولذلك فإن من الممكن أن نصف جانباً من الخطاب العربي المعاصر بطريقة، ولكنها لا تصلح لتناول جانب آخر منه، فضلاً عن أننا لا نستطيع التعامل مع الجماعة كما الأفراد.

2- يرى طرابيشي أن ثمة عصاباً جماعياً أدى إلى نكوص الفكر نحو التراث مما يجعل الأمر يبدو وكأنه وباء اجتاح جميع أطياف الفكر العربي بعد رضة حزيران، لكنه بهذا تجاهل الكتابات التي توجهت بعد الهزيمة في اتجاه يناقض اتجاه الدعوة للعودة إلى التراث، ويدعو على العكس إلى الاندماج بالغرب والأخذ بالحداثة ومن هذه الكتابات كتاب قسطنطين زريق (معنى النكبة مجدداً)، وكتاب صادق جلال العظم (النقد الذاتي بعد الهزيمة)، وطرابيشي يذكر كتابات ياسين الحافظ ولكن على أنها استثناء.

تستشهد المؤلفة بأسعد أبو خليل الذي قال في مقال في جريدة الأخبار في 3 أيار/ مايو أن ما يجمع هذه الأصوات الناقدة هو الاتفاق على لوم العرب على مبالغتهم في تحميل المسؤولية للغرب، وعزو المسؤولية للعوامل الداخلية والتقليل من دور المؤامرات الخارجية. "فكيف تجاهل جورج طرابيشي هذا الفكر العربي المعاصر الذي كان بشكل أو بآخر يعتبر أن من أسباب هزيمتنا/ رجعيتنا! (ص 138)".

3- مع أن جورج طرابيشي ميّز في كتابه (مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة) بين طرق التيارات الأربعة: الماركسي والقومي والفلسفي (أو الإبيستومولوجي) والسلفي في تناول الّتراث، إلا أنه في تشخيصه للعصاب الجماعي لم يميز بينها، ولم يوضح طريقة كل منها في النكوص نحو هذا التراث. هو يقول في (مذبحة التراث) أن الرغبة في تضميد الجرح النرجسي أدت في طور أول إلى تضخم في أيديولوجيات الثورة الحارقة للمراحل وأدت في طور ثان بعد هزيمة 67 إلى نقل الصراع الأيديولوجي إلى ساحة التراث، وكذلك إلى تبلور أيديولوجيا تراثية خالصة تريد الاستغناء عن أي أيديولوجيا "مستوردة" لتنزل التراث نفسه منزلة الأيديولوجيا. تقول المؤلفة إن هذه التيارات إذن "استخدمت التراث لإثبات أيديولوجيتها هي" ويمكن القول إن رجوع هذه التيارات إلى التراث ليس نكوصاً لا واعياً سببته الرضة، بل هو استخدام للأيديولوجيا الخاصة تحول مع الوقت إلى أيديولوجيا تراثية خالصة، بحسب طرابيشي في مقابلة معه فالسلفي يريد من التراث ما يتوافق مع أيديولوجيته فينتقي من التراث بعضه وينفي عن بعضه الآخر أصالته (فهو متأثر باليونان أو الهند أو المسيحية..) ويستبعد شعراء كأبي نواس وبشار بن برد من التراث.

4- حتى على أرضية فرضية الجرح النرجسي ترى الكاتبة أن تيارات الفكر العربي يمكن تحليلها بطرق أخرى مثل طريقة غريغوار مرشو الذي شخص حالة فصام في الفكر العربي المعاصر ابتدأت منذ أن تمفصل الاتصال الثقافي بين الجماعات والمجتمعات على آليات مؤدية إلى انمحاء الثقافة المحلية لحساب الثقافة المسيطرة وانتهاء هذه الخبرة إلى نفي الاختلاف وإدانة استقلال الثقافة المحلية من أجل احتوائها وإلحاقها بعلاقة سيد/ عبد. ترى المؤلفة في ملاحظة هامة أن تشخيص حالة الفكر العربي لا يمكن أن تجري دون تحيزات سابقة ناشئة عن أيديولوجية الباحث نفسه، وهو ما لم ينكره طرابيشي عندما قال إنه داخل اللعبة وأن الذات التي تحلل هي في نهاية المطاف جزء من الموضوع الذي تحلله. وتقول إن ما جرى بعد أحداث 11 أيلول أكد أنالاندماج الحضاري ليس أكثر من تمكين الهيمنة الأمريكية على العالم.

5- حين تحدث طرابيشي عن وجوب الاندماج بالحضارة الغربية وأن أي حديث عن تعدد حضاري هو ضرب من الخيال فهذا في نظر المؤلفة "يحمل في طياته كثيراً من التقرير"، لأننا لا يمكن أن نتجاهل كيف فرضت هذه الحضارة نفسها، ولا أن نتجاهل الآلة الإعلامية وأساليبها في ترسيخ مفاهيم معينة، وتعيد الكاتبة هنا القارئ إلى كتاب نعوم تشومسكي "هيمنة الإعلام الإنجازات المذهلة للدعاية".

6- تذكّر الكاتب بتحليلات لعبد الوهاب المسيري في كتابيه "العالم من منظور غربي" و "الإنسان والحضارة"، المسيري يقول إن النموذج الحضاري الغربي ليس له علاقة بواقع الشعوب الأخرى وهو غير قادر على التفاعل مع هذا الواقع، ويؤدي تبنيه أحياناً إلى تدميره، ويدافع المسيري عن النماذج التفسيرية المركبة التي تأخذ في الاعتبار عناصر عديدة منها السياسي والاقتصادي والمعرفي إلخ.. لتفسير الظواهر الإنسانية، وعندما نقول إن التعدد هو ضرب من الخيال ونكوص وارتداد فهذا يعني أننا تجاهلنا عناصر حضارية عديدة موجودة في العالم وحكمنا حكماً قاصراً يستند إلى عنصر أو محموعة عناصر ويتجاهل عناصر أخرى لا تكتمل الصورة بدونها. تستشهد المؤلفة أيضاً بكلود ليفي شتراوس الذي كان يحلم بأن يسود الإخاء والمساواة بين البشر دون القضاء على تنوعهم، وهو يقول إن العصور الخلاقة الكبرى نشأت حين كان التواصل بين الأطراف المتباعدة كافياً لتوليد الحوافز ولكنه لم يلغ الحواجز بحيث يقضي على التنوع.

تقول المؤلفة أخيراً إنها تستغرب كيف يدعو إلى تبني النموذج الحضاري الغربي مع أنه يقول إننا بحاجة إلى "أن نزرع البذور من جديد لا أن نقطف الثمار". وترد على طرابيشي الذي يقول بأن ثمار الحضارة الغربية قابلة للنقد شرط ممارستها قبلاً بالقول: "ما الذي يدفعني لحرق يدي بالنار حتى أستطيع القول إن النار تحرق اليد؟ (ص 145)". ترى المؤلفة أن الحضارة التي يجب أن نزرع بذورها في مجتمعاتنا هي التي تحترم الإنسان ولا تجعله شيئاً مادياً متمركزاً حول ذاته وتغير السلوكيات الانحطاطية وتحافظ على قيمنا وأخلاقنا وهويتنا، وانطلاقاً من مرتكزاتنا الأخلاقية وفضائلنا الدينية تصنع نموذجنا الحضاري الخاص الذي لا يستلب لأي نموذج آخر ولا ينعزل في الوقت نفسه عن العالم، بل يشارك في إعمار الكون بعدل ورحمة ورقي أخلاقي ومعرفي لخلق المجتمع التراحمي. صنع النموذج الحضاري الخاص ورفض النماذج المفروضة: هذا ما يدعو إليه كتاب رغداء زيدان، وهو لا يتوجه إلى قارئ محايد أو هاو للقراءات النظرية الخالصة، بل يتوجه إلى فاعل عربي جديد سمته الأولى الالتزام والانحياز للمجتمع.

 

كاتب فلسطيني يقيم في برلين

 

هوامش:
(1) رغداء زيدان- "ضد النماذج المفروضة"- مركز الناقد الثقافي-دمشق-2011. والباحثة تعد رسالة دكتوراه حول الموضوع.
(2) انظر مثلاً المقال: " موقع"التيار التأصيلي" في الثقافة العربية المعاصرة ومفهوم "الهوية" عنده"-مجلة الكلمة اللندنية- العدد17- مايو 2008.
(3) انظر: د. عبد الوهاب المسيري، "العالم من منظور غربي"، دار الهلال، القاهرة، 2001، ص 74-76.
(4) انظر مثالاً على هذا التفسير لعمل إدوارد سعيد مقدمة كمال أبو ديب لترجمته لكتاب الاستشراق: إدوارد سعيد، "الاستشراق"، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت ط 6 ،2003 ، ص 1-5. وانظر إلى إجابة أبو ديب النافية على السؤال "هل كان يمكن للتمثيل أن يكون من نمط آخر؟".
(5) انظر: محمد محمود شاويش-"نحو ثقافة تأصيلية "البيان التأصيلي"- دار نينوى- دمشق- ص134-143.
(6) جلال أمين- "خرافة التقدم والتأخر-العرب والحضارة العربية في مستهل القرن الحادي والعشرين"- فصل "التنمية الإنسانية"- ص 33 - 69 – دار الشروق-القاهرة-2005.
(7) مجموعة الآثار الكاملة (13) الشهيد الدكتور علي شريعتي، "النباهة والاستحمار"، دار الأمير، بيروت 2004، ص 76.
(8) المرجع نفسه، ص 66.
(9) انظر مناقشة لهذا الموضوع في: محمد شاويش، "نحو وعي جديد"، مجلة "الكلمة" الإلكترونية اللندنية، العدد 19، يوليو 2008. قارن مع نقد مالك بن نبي اللاذع في كتاب "شروط النهضة" للطالب الذي قال في مأدبة لطلاب الجامعة "إننا نريد حقوقنا ولو مع جهلنا وعرينا ووسخنا"! (مالك بن نبي، "شروط النهضة"، ترجمة عبد الصبور شاهين،دار الفكر، دمشق، ط4، ص 39.
(10) علي شريعتي، مرجع سبق ذكره، ص 69. في هامش الترجمة نجد مقارنة بين هذا الرأي لشريعتي ورأي مالك بن نبي أن عالم الأفكار هو الذي يجلب عالم الأشياء لا العكس، والمثال الذي ضربه مالك هو ألمانيا بعد الحرب التي هدم عالم الأشياء فيها فاستعادته لوجود عالم الأفكار، والمقارنة بين الرأيين تبدو لي سوء فهم، لأن شريعتي انطلق من أرضية فكرية مختلفة عن أرضية بن نبي، فالأول يركز على بناء الوعي المقاوم بينما يركز الثاني على بناء وعي حضاري يقاوم القابلية للاستعمار، وقد سخر مالك بن نبي في أحد المواضع من ثورية فانون المتأججة في "المعذبون في الأرض" ومديحه المفرط لدور الكفاح المسلح في بناء الشخصية الجديدة لابن المستعمرات: "يحصر معنى الثورة في مجرد عمل من أعمال العنف، ولعل المؤلف بدون أن يدري قد خلص الزعماء وصغار الزعماء من همّ التفكير، وخصوصاً من عقدة الذنب تجاه الأفكار المخدوعة، ولكن الأفكار المخذولة تنتقم وانتقامها ظاهر للعيان في العالم الإسلامي" (مالك بن نبي، "مشكلات الحضارة" – مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" – ترجمة محمد عبد العظيم علي – مكتبة عمار – القاهرة – 1391ه – 1971م –ص171)