هذا فصل من أحدث رسالة دكتوراة عن نجيب محفوظ في بريطانيا، خصصتها الباحثة لدراسة أليات التناص وتحول النوع الروائي في أعماله الأخيرة، وهذا الفصل عن رواية المرايا.

التشظي والتناص

استراتيجيات تمثيل الواقع في رواية (المرايا)

كريستينا فيليبس

التناص والتجريب في روايات نجيب محفوظ الأخيرة
هذا فصل من الأطروحة التي أنجزتها الباحثة مؤخرا للحصول على درجة الدكتوراة من جامعة لندن. وهي دراسة في تحول النوع في الرواية العربية الذي تم من خلال استراتيجيات تجريبية وتناصية. فمنذ السبعينيات أصبح الكتاب العرب أكثر إدراكا في معالجتهم لمشاريعَهم الأدبية وأيضًا في مراجعتهم للطريقة التي يتم بها تلقي الرواية العربية وقراءتها لعلاقات التناص مع التراث العربي، كما ابتدعوا تقنيات يعيدون من خلالها كتابة جنيالوجيا الرواية متفادين بذلك ـ قدر الإمكان ـ التأثير الغربي، كما قام عملهم في الإبداع السردي على مشاركة القارئ. وبسبب من ذلك كله ابتعدوا عن الطرق التقليدية في فهم عملية الإنتاج النصي. ويمثل أدب نجيب محفوظ ـ وهو أحد الرواد الأساسيين في الرواية العربية ـ حالة ثرية لدراسة هذا الاتجاه. وتبدأ الأطروحة بتحديد الملامح العامة لنظرية التناص، بحسب نموذج جيرار جينيت عن التعالق النصي(*) hypertextuality كما شرحه تفصيلاً في كتابه المعنون بـ طروس Palimpsests (1982)، ثم مناقشة السياق العام للرواية العربية بعد 1967، وأخيرًا أختم بالكلام عن الكاتب نجيب محفوظ وما اخترته من نصوص للتحليل. أما عن الفصول فقد قسمتها تبعًا لطبيعة العلاقة التي تقيمها نصوصه مع التراث العربي: علاقة بين نصين (ليالي ألف ليلة، وألف ليلة وليلة)، علاقة بين نص ونوع (ملحمة الحرافيش، والسيرة الشعبية)، علاقة بين نص ومفهوم يستوعب تحته عددًا من النصوص (رحلة ابن فطومة، ومفهوم الرحلة)، علاقة بين نصوص أدبية ونصوص غير أدبية (المرايا وحديث الصباح والمساء من ناحية وكتابة السيرة/التأريخ)، علاقة بين نص أدبي ونص ثقافي (حكايات حارتنا وأصداء السيرة الذاتية من ناحية والصوفية). وسوف أحاول في كل فصل من هذه الفصول توظيف النتائج التي توصل إليها جينيت من نموذجه عن التعالق النصي. وأظن أنه حين أفعل ذلك، فسوف يتضح بعض القصور في نموذج جينيت، ويقتضى الحال عندئذ أن أقوم بتوسيع النموذج حتى يكون بمقدرته تفسير طبيعة العمليات النصية وعلاقات التناص التي يستخدمها محفوظ في النصوص التي وقع عليها الاختيار. وستضطلع الدراسة أيضًا بتحديد ما تنطوي عليه الروايات الأخيرة لمحفوظ من هجوم على السلطة سواء على مستوى الشكل أو المضمون، كما ستحاول الدراسة الكشف عن الكيفية التي يظهر بها هذا الهجوم في كل نص من النصوص. وأخيرًا تنتهي الأطروحة إلى تحليل ما تمثله نتائجها بالنسبة إلى وضع الرواية العربية ومستقبلها. وهذا المقال:
"التشظي والتناص: استراتيجيات تمثيل الواقع في رواية المرايا لنجيب محفوظ". يمثل جزءًا من الفصل الرابع في الأطروحة المشار إليها.

مع نهاية الستينيات دخلت الرواية العربية مرحلة جديدة من التجريب، الذي أخذ لدى مجموعة متميزة من الكتَّاب شكل العودة إلى التراث. وإنه من المثير للدهشة أن نجد نجيب محفوظ في مقدمة هذا التيار بوصفه أحد الرواد الذين كرسوا أنفسهم لهذا الشكل من الكتابة. لقد نشر محفوظ بين عامي 1971 و1995 مجموعة من الروايات تدور حول الحوار مع التراث، وكل من هذه الروايات تتخذ لنفسها نقطة مرجعية أو سياقا تفسيريا أو نصا ما قبل المعاصر أو نوعا أو ظاهرة ثقافية. وعلى سبيل المثال تستدعى رواية ليالي ألـف ليلة (1978) حكايات شهرزاد، وتستلهم رحلة ابن فطومة (1983) المغامرات المشهورة في القرن الرابع عشر التي قام بها الرحالة المغربي ابن بطوطة، أمـا حكايات حارتنا (1975) وأصـداء السيرة الذاتية (1995) فيمتلئان بشفرات ورسائل صوفية(1). وعلى مستوى التيمة تتجاوب هذه النصوص مع إشكالية الحقيقة والسلطة؛ إذ تثير بطريقة أو بأخرى ظلاً من الشك على الكيفية التي تبدو عليها الأشياء. وأما على مستوى البنية والأسلوب فتسعى كل نصوصه إلى إنتاج شكل مغرق في المحلية، إذ عن طريق تطعيم الاستراتيجيات الروائية الحديثة بنصوص وأنواع قديمة يضفى محفوظ على الرواية العربية نوعًا من التجذر في التراث، في تعارُض مع الملحمة البرجوازية؛ مما يضع تأثير الغرب على ثقافة العرب وفنهم موضع المساءلة.

وليس من الحكمة أن نقيم العديد من التوازيات بين كتابات الأديب وأحداث حياته. ولكن لعله من المناسب بعض الشيء القول بأن التحول في أسلوب النثر عند محفوظ في السبعينيات قد ارتبط- على نحو مباشر- بأحداث في المجــال السياسي، وبصفة خاصة حدث نكسة يونيو 1967 بما أدت إليه من تصدع النظام القديم، ومن ثم تصدع البنيات والمؤسسات الداعمة له، بما فيها النزعة الواقعية في الفن. وحينئذٍ كان الانتقال خطوة إلى الأمام يقتضى اكتشاف وسائل جديدة وخلق بدائل مناسبة. وتعالج هذه الورقة الكيفية التي يمفصل بها محفوظ الواقعية الجديدة في أول رواية نشرها بعد النكسة - رواية المرايا (1972) - داخل إطار من حوار تناصي مع الطريقة العربية الكلاسيكية في كتابة السيرة.

السيرة من حيث هي تاريخ في الثقافة العربية إن التوحد بين السيرة والتاريخ له تراث طويل في الثقافة العربية. وتنطوي المحاولات الباكرة في التأريخ على تصنيف سير قصيرة لمَن رافقوا النبي (الصحابة) ومَن خلَفهم (التابعين)، وكان السبب من حيث المبدأ تحديد مدى الثقة فيهم بوصفهم نقلة لروايات الحديث. وبحلول القرن التاسع، ازدهرت عادة جمع سير الرجال وترتيبها في طبقة مستقلة من طبقات العلم الإسلامي، وعلى وجه الخصوص الشعراء واللغويون والقضاة والمحدِّثون، في أعمال عرفت باسم الطبقات(2). وبالتراكم أدى ذلك إلى نشأة "معجم السيرة" (المعجم) - وهو عبارة عن كتاب كبير مرتب معجميًا، وهو من السمات المميزة للتراث العربي. ومقتبسًا عن المؤرخين تصورهم للتاريخ من حيث هو خلاصة عامة لحيوات الناس(3)، حاول محفوظ أن يروى قصة مصر فيما يزيد على الثلثين الأول والثاني من القرن العشرين مستخدمًا سير أناس عاشوا فيها. وبالرجوع إلى مجموعة تحت المظلة المنشورة عام 1969- وهي مجموعة قصص قصيرة فوضوية تفتقد إلى الترتيب في نظام واضح- يكتب محفوظ: "كتبت هذه القصص في الفترة بين أكتوبر وديسمبر 1967"، ومن ثم يوجه القـارئ إلـى ضرورة فهم قصص المجموعة بوصفها استجابة أولية من المؤلف لهزيمة العرب(4). وفي الوقت الذي بدأ فيه محفوظ كتابة المرايا كان قد استعاد توازنه إلى حد ما، كما صار مهيئًا للتعايش مع الأزمة - مما جعله يلحق بـ بركات وآخرين - في محاولة لفهم الماضي القريب حتى يداوى الحاضر ويحيى الأمل في المستقبل(5). ومن هذه الناحية يُكِنُّ راوي النص احترامًا عميقًا للمفكر الشيوعي عزمي شاكر الذي "كان من أوائل مَن ثابوا إلى التوازن" بعد يونيه 1967، وهو احترام مستنير. وفي أكتوبر من السنة نفسها نشر عزمي مقالاً يحلل فيه الهزيمة معتبرًا إياها درسًا ينبغي الاستفادة منه:
وحذر من الاستسلام لطغيان النقد واحتقار الذات وتعذيبها وفقدان الثقة بالنفس، وأكد في النهاية حقيقة مازال يؤمن بها وهي أن الثورة هي الأرض الحقيقية المتنازع عليها لا سيناء ولا القدس وأنها هي التي يجب أن تبقى وتستمر. وفي الأعوام التي تلت ذلك عكف على تأليف كتابه الرائع "من الهزيمة نبدأ"، وهو دستور لحياة جديدة تشق طريقها نافضة عن نفسـها ركام الأتربة(6).

غير أن استرداد محفوظ لشعوره بالتوازن لم يقتضِه العودة إلى منهجه السابق في البناء السردي، كما لم يعنِ أنه نجح في إدراك أبعاد الهزيمة وأسبابها أو ترويض نفسه على تقبل هذا الحدث الجلل. إذ إن كل ما تنطوي عليه المرايا من مظاهر - البنية، الترتيب، الشخصية، القصة - تصوغها منذ البدء حتى الختام روحُ الهزيمة العربية. والحق أن الاستراتيجيات السردية في المرايا مبنية على نحوٍ يمثل الواقعية الجديدة التي يمكن تعريفها بأنها تحرر من الأوهام وإضفاء روح الشك واستخدام التشظي.

التشظي
تتميز البنية والزمن والقصة والشخصيات والراوي - وحتى مدينة القاهرة - في المرايا بالتشظي؛ حيث يمزق محفوظ الآلية السردية المسئولة عن توليد المعنى في أدبه، مثلما مزقت حرب يونيه الأسس التي أقام عليها جيله قيمه ومعتقداته. ويصف إدوار سعيد ميلاً في النثر العربي منذ 1948 نحو عدم الترابط، فيكتب الآتي: "إن وحدة التأليف مشهدية وليست دورية (مقدمة، وسط، نهاية، بالمعنى الأرسطي)" (7)، نظرًا لأن اللحظة الحالية هي الشيء الوحيد الذي يمكن للعرب أن يثقوا فيه بعد ظهور علامات استفهام حول الماضي والمستقبل. وقد أدى النزوع إلى عدم الترابط بعد 1967 إلى إنشاء شكل جديد من أشكال التناسب، ويعتبر أدب محفوظ خير مثال على ذلك. فالروايات القصيرة غيـر البانورامية التي نراها بعد الثـلاثيـة (1956- 1957) تتبنى المشهد بوصفه أساسًا بنائيًا جوهريًا، بل وكانت هذه الروايات "سلاسل مشهدية متتابعة مبنية عضويًا"؛ حيث قام محفوظ بتوظيف عمليات الاسترجاع وتتابع الأحلام (أو تعاطى مخدرات تفضي إلى غيبوبة متتابعـة) بشكل واسع في اللـص والكلاب (1962) وثرثرة فوق النيل (1966). ومع ذلك لم تتعرض الخطية لأي تساؤل جاد لأن المشهدية في حقيقة الأمر لم تكن سوى جزء من التعاقب والتواصل الواضح الساري في العمل؛ وفرق كبير بين ذلك والتشظيات السردية في المرايا التي تتألف في الغالب من صورة أو إيماءة معزولة تندرج في نظام غير واضح، مما يترك للقارئ مهمة فهم المقصود.

تنقسم المرايا إلى خمسة وخمسين فصلاً قصيرًا، لا يتجاوز كل منها بضع صفحات، وكل فصل معنون باسم شخصية تتقاطع مع حياة الراوي في لحظة ما. ولا تتعاقب الفصول بحسب أسلوب واضح، وإنما تتحكم فيها لحظة المعرفة الشخصية للرواي بالشخصية التي ترد في العنوان. كما أن كل فصل ليس مقصورًا على شخصية واحدة ولا يغطى تفاصيل حياتها كاملة بل إن تفاصيل الشخصيات والأحداث موزعة على طول النص؛ مما يجعل قراءة العمل بكامله ضرورية قبل القيام بأي وصف دقيق لأية شخصية. على سبيل المثال، يروى فصل أماني محمد بعض التفاصيل عن علاقتها الغرامية القصيرة بالراوي - كيف أغوته ثم كيف انتهت العلاقة بتدخل زوجها- ولا يكتشف القارئ أن لها علاقات برجال آخرين إلا في الفصل المعنــون بـ جاد أبو العلا(8). وبالطريقة نفسها لا يمكن لنا تكوين وصف دقيق لشخصية الدكتور ماهر عبد الكريم إلا من خلال لقاءاتنا العابرة به على طول النص السردي وليس من الفصل المعنون باسمه فقط، وهو فصل قصير يتناول لقاءه بابنة صديقة سابقة ثم دفع الإشاعات التي راجت. وكذلك يستنتج القارئ أن بلال عبده البسيوني قد هاجر إلى الخارج حين يُشار إلى نجاحه في مهجره في ثنايا فصلين فيما بعد. أما عن آراء رضا حمادة وعيد منصور وغيرهم من مجموعة أصدقاء الراوي المقربين - الذين تتضح ملامحهم عبر سلسلة من الحوادث العارضة- فتظهر لنا عبر المنظـور النصي الذي يتقاطع بعضه مع بعض(9).

والحق أن فصول النص مرتبة ترتيبًا عشوائيًا وغير مكتملة، بل وكل فصل في حد ذاته غير مترابط ترابطًا جوهريًا، إذ ننتقل من حدث أو وصف إلى آخر دون تبرير أو توسط. يبدأ الفصل الافتتاحي في الكتاب بالإشارة إلى مقالة تنطوي على تعريض بشخصية إبراهيم عقل التي يحملها عنوان الفصل، كما تزودنا ببعض التفصيلات المقتضبة عمّا أثارته أطروحته للدكتوراه من صخب. ثم ينتقل الفصل إلى حوار موجز بين الراوي والدكتور عقل دار بينهما في إحدى المحاضرات، كما يُشار إلى أن الاثنين قد التقيا في صالون الدكتور ماهر عبد الكريم بمنزله. وبعد ذلك مباشرة يرد تقرير عن مناقشة تمت في إحدى هذه الجلسات قبل أن يقفز الراوي إلى صيف ذلك العام حين قابل الدكتور مصادفة في الإسكندرية. وحينئذٍ تتداعى بعض الصور عن إبراهيم عقل مشوبة بالسخرية والازدراء بسبب تأييده للملكية على حين ينادى الطلبة بإلغائها، والأحاديث التي يدخل فيها الراوي معه مثقلة بالغمز والمداراة لمجرد أن الراوي لم يتخرج بعد. وبعد مرور ثلاثين عامًا يأتي بورتريه لإبراهيم عقل وهو في حالة من الحزن والانكسار أثناء تشييعه لجنازة ولديه، وبعد الجنازة بست سنوات يقابله الراوي مصادفة وهو خارج من مسجد الحسين. ومن هذه المقابلة الأخيرة نكتشف أن الأستاذ قد نذر نفسه للتصوف، ثم يظهر نعيه في الجرائد عام 1957، وينتهي الفصل باستعادة بعض التعليقات من قبل الراوي وبعض أصدقاء عقل. والحق أن هذا الفصل من أكمل الفصول وأطولها في النص. أما البورتريهات التي نتعرف من خلالها على حياة الراوي الشخصية فتنساب من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج بخفة وتلقائية تاركة للقارئ تخمين ما بينهما. فضلاً عن أن الأحداث العارضة والأوصاف السردية التي ينطوي عليها فصل ما، تترك- في أغلب الأحوال- الشخصية المنصوص عليها صراحة في العنوان وتنتقل إلى شخصية أخرى داخل الفصل نفسه بشكل له مغزى. وعلى سبيل المثال ثمة حوار بين الراوي وعبده البسيوني يشغل تقريبًا نصف الفصل المخصص لأماني محمد، حيث يتم الكلام عنها في بداية الحوار فقط قبل الانتقال إلى الحديث عن ما يسود الوسط الفني من تملق، في حين يغلب على فصلي صبري جاد وسالم جبر جدل سياسي، كما تحتل زوجة عصام الحملاوي كل الفصل المخصص له تقريبًا.

ولعل ذريعةَ عدم الترابط وافتقار المشاهد إلى بؤرة تتمحور حولها والتنظيم الاعتباطي الذي يبدو عليه النص، راجعةٌ إلى استخدام الراوي لضمير المتكلم؛ فالنص مكتوب على هيئة مذكرات ومن ثم فإن الذاكرة هي المحدد السردي الأعلى. وما الترتيب الزمني والعلاقات السببية والأدوات التقليدية في تقديم القصة سوى اعتبارات ثانوية، خاضعة لآلية الذاكرة، وهي آلية تتسم بالاضطراب وعدم الترابط؛ ومن ثم فالطريق مبذول أمام الراوي كي يبني ما يرويه بحسب معياره وتصميمه الذاتي. لكن ما الذي يكونه هذا المعيار والتصميم؟ تقليديًا، يحل التداعي محل الترتيب الزمني والسببية على مستوى الذاكرة التي تولد النص، إذ ينتقل الذهن من ذكرى إلى ما بعدها بحسب ما تمليه علاقات التداعي، مثل علاقة التقابل والمنطق والتخيل، وهي علاقات معقدة ذات اتجاهات متعددة ومتغيرة باستمرار غير أنها "تيمية وفي صميم الموضوع"(10). ويمكننا افتراض أن النص الناتج عن ذلك سوف يكشف لنا عن غرض الراوي على مستوى التيمة. لكننا نفاجأ بغير ذلك في المرايا؛ ففي اللحظة التي نلمس فيها درجة فاعلة من علاقات التداعي تسري عبر المشاهد المستقلة نكتشف أن الانتقال من فصل إلى ما بعده في النص يتم اعتباطًا وبحرية غير متوقعة. ومن ثم يبدو الراوي - على المستوى الظاهري - بلا تصميم وغرض واضحين؛ إن ذهنه ليس مؤثرًا على طول الحدود المتعارف عليها.

ولعل السبب يكمن في أحداث 1967؛ ذلك أن البنية المتشظية التي تنطوي عليها المرايا تعكس تمزق المثل العليا والقيم والمؤسسات بعد هزيمة العرب، ومن ثم تعكس اضطراب الراوي وفقدانه للتوازن. ويبدو أن ذلك ما دفع جيمس روى كينج James Roy King إلى أن يستعير من ليو بيرساني Leo Bersaniمفهومه عن "الذات المفككة" ليفسر طبيعة الراوي عند محفوظ، فهو ليس "شخصية موحَّدة على نحو واضح ومتماسك"(11). بل يبدو "نتاجًا لكل عناصر الحياة المصرية الحديثة وتناقضاتها"(12). إنه متشظٍّ ومفكك الأوصال. وكما الحال في القصة التي تُكتب من منظور استعادة الأحداث، يختلف الراوي المتورط في فعل التذكر عن الشخص الذي يصفه: الأول (الراوي الأصلي) يقف موقفًا ثابتًا (الحاضر السردي)، أما موقف الثاني (البطل في الماضي) فهو متغير على الدوام. ويطمح الارتحال عبر الماضي - الذكريات - إلى التوفيق بينهما. لكن الراوي في المرايا لا يتصالح مع نفسه، أي أن البطل والراوي لا يصلان إلى دمج الماضي والحاضر.

تعدد الزمانية
يؤثر التشظي على الكيفية التي يتم تمثيل الزمن بها، كما يفتح السبيل لتجلى زمانية تختلف تمامًا عن تلك التي نجدها في أدب محفوظ حتى اليوم. في مقاله عن الوضع الجيوتاريخي في الرواية العربية يركز حسام أبو العلا على عدم التناغم بين التأريخ الهيجلي للرواية للتعليمية Bildungsroman والأدب الذي ينحدر من جنوب الكرة الأرضية. فالرواية الأوربية تَعتبر البنية السردية "خطية وسببية وغائية على نحو غير قابل للتجزؤ"(13)، مما يعكس رؤية للتاريخ من حيث هو تاريخ متوازن ومتقدم إلى الأمام. أما في المجتمعات التي عانت من وطأة الإمبريالية الغربية ـ حيث تظل علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع المتحكمين السابقين فيها متوازنة على نحو متفاوت لحساب المتحكمين الحاليين- فليس التاريخ عندها معادلاً بالضرورة للتقدم(**)، ولهذا السبب فإن الأصوات التي تنطق بلسان هذه المجتمعات تستخدم الفكر التاريخي عند هيجل استخداماً محدودًا.

يغلب على القصة في الأدب العربي الحديث المنطق والترتيب الزمني وتغطية مدى زمني طويل بسبب أن الكتاب ينشدون محاكاة الرواية. ومع هيمنة الاهتمام بالشكل في الستينيات، كَفَّ ذلك الأسلوب التقليدي عن كونه ملزمًا للكتاب العرب. كما أن أحداث 1967 جعلت الرؤية التأريخية الهيجلية غير عملية. من الممكن أن تحقق الخطيةُ والسببيةُ والغائيةُ عضويةَ العمل الفني وتجانسَه، لكنه - إن عاجلاً أو آجلاً - يكون قد انتقل بعيدًا عن واقع العرب إلى حد يجعله مقطوع الصلة به. والحال هكذا، يمزق محفوظ في المرايا الأسس الزمانية التي كان قد شيد عليها - من قبل - قصصه ورؤاه إلى زمانية متعددة.
وعلى ذلك، يقدم النص مخططات زمنية متعددة. فهناك الزمن (الشخصي) السيري(14) للراوي ، وأزمنة مستقلة لكل شخصية من الشخصيات التي يقدم لمحات مختصرة عن حياتها، بالإضافة إلى الزمن الواقعي أو التاريخي أو (الجمعي) العام. أما المخطط المهيمن فيقتفى أثر الأحداث السياسية وأنظمة الحكم، والتواريخ الراهنة في غالب الأحيان. وبغض النظر عن أن عامة الشعب تؤسس مخططات الزمن فهناك أيضًا عدد من اتجاهات الزمن: زمن تقليدي وزمن حديث، زمن ليبرالي وزمن محافظ، زمن محلي وزمن (أوربي) أجنبي، وهي أزمنة في صراع مستمر، ويتضح هذا الصراع بشكل أفضل في مقاطع الحوار مما يرفع من درجة توتر اللحظة وكثافتها وتعقيدها. أما دعامة كل هذه الأزمنة فهو الزمن الاستعادي، وهو عبارة عن مسافة زمانية متغيرة على الدوام تفصل حاضر الراوي عن ماضيه وتتحرك رأسيًا وأفقيًا وميتافيزيقيًا بحسب مسارات أفكار المتحدث.

إن الزمن في المرايا - والحال هكذا - حزمة من التناقضات. ولا تتحرك هذه المخططات المتعددة إلى الأمام في تتابع بل تقفز إلى الخلف وإلى الأمام، وتتجمع معًا بإيجاز ثم تتشظى. كما تتفاوت هذه الأزمنة وتضطرب مثلما تتفاوت تجربة الشعوب العربية الحديثة وتضطرب. ومواضع تقاطعها تنطوي على دراما. وتكشف السجالات الحامية بين الراوي ومعاصريه عن الهاوية التي تكمن بين الزمن التقليدي والزمن الحديث. وفي حقيقة الأمر تمضي بعض الفصول دون أن تتعرض للأحداث الاقتصادية والسياسية التي تلقي بظلالها على مجرى حياة الشخصية التي يحملها عنوان الفصل، وهي أحداث إن لم تقلب حياتها رأسًا على عقب فإنها على الأقل تؤثر بعمق على كيانها الوجداني. وعلى سبيل المثال، تتسبب الأزمة الاقتصادية في ألا يجد سيد شعير أيَّ عمل، ومن ثم يتحول إلى توزيع المخدرات، ثم يفتح مقهى بما حققه من أرباح، ومع الحرب العالمية الثانية يصبح ثريًا بسبب تدفق الجنود الإنجليز فتتضاعف أرباحه. إن حركة التاريخ بالنسبة إلى الشخصيات مطبوعة بتغيرات سريعة على مستوى ما يصيبهم من حظ، وهو حظ لا يتحكم فيه الفرد إلا تحكمًا محدودًا. والحال هكذا يغدو الزمن على مستوى النص دورة من الصعود والهبوط، مثلما هو دورة من الأمل وخيبة الأمل على مستوى الدولة القومية العربية الحديثة. والدليل على ذلك أن الفصل النهائي يأخذ القارئ إلى الوراء، إلى بيت القاضي وأشجار الجوز المثقلة بأعشاش العصافير(15). إذ بعد أن يطوف بنا محفوظ عبر تاريخ مصر منذ أوائل القرن العشرين حتى الثلث الثاني منه نراه يعيد السرد إلى نقطة البداية، مثلما حدث في 1967 حين اكتشف العرب أنهم يعودون إلى نقطة البداية على مستويات عديدة.

الفضاء المتفكك
لعب الموطن المحلى دورًا مركزيًا باستمرار في أدب محفوظ. فقد زودته القاهرة بخلفية مكانية لقصصه في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات؛ حيث توجد أزقة الأحياء القديمة التي كان يصورها - في أغلب الأحيان - بكل تفاصيلها الدقيقة حتى يدوِّن المجتمع المصري المعاصر ويكشف عن تناقضاته الناجمة أعقاب الاستقلال وعملية التحديث، وهي التناقضات التي جعلت شخصيات مثل كمال - في الثلاثية - في ورطة على المستوى الفكري والروحي. وبطبيعة الحال فليس التمثيل الواقعي للفضاء جعله محايدًا وموضوعيًا. إذ كما يقول باختين "الكلمات والأشكال مسكونة بالنوايا"(16)، وهكذا يغير الفضاء من دلالته طالما أنه يمر عبر خيال الإنسان. إن عقد مقارنة بين العاصمة المصرية في عمل محفوظ بما نجده لدى مؤرخين أدبيين للقاهرة - من أمثال جمال الغيطاني - تكشف بوضوح أن للانعكاس وانحراف المنظور والتداعي تأثيره على المكان. يضع محفوظ في الصدارة بشكل نمطي "مجموعة متراكمة من العلامات على المدينة" مثل المقهى والسوق والوكالة، كما نراه يؤكد على الاستمرارية التي تتساوى عنده مع حالة من التفسّخ المطرد. أما عند الغيطاني فتتلازم هذه الأماكن مع معالم لها دلالة فردية أو شخصية- بوجه خاص- مثل سجن المماليك (المقشرة) والقلعة، ونقاط التفتيش البوليسي، كما يسلط الضوء على "تكرار التمزق داخل الجماعة ككل"(17). المدينة عند محفوظ ممسوسة بسلسلة من تفسخ خطّى، أما عند الغيطاني فهي واقعة في شرك الدورة أو "تكرار التمزق"(18).

وإذن ليس من المدهش- حين نضع ذلك في الاعتبار - أن يخضع الفضاء المحفوظي لتغير جذري في المرايا، فما من محاولة لتقديم طوبوغرافيا متماسكة للعاصمة. إن القاهرة في المرايا ليست العالم الصغير المحكم في زقاق المدق أو بين القصرين بزقاقها الذي يمثل مركزًا واضحًا ونقطة انطلاق، بل هي بالأحرى كيان بلا شكل، كيان متقطع سواء تعاقبيًا أو تزامنيًا، تقطعه محاور عديدة أو مواضع بؤرية. شوارع العباسية وساحة المدرسة وقاعة المحاضرة في الجامعة والمكاتب الحكومية والمقاهي (وبصفة خاصة مقهى الفيشاوي) وصالونات الدكتور ماهر عبد الكريم وجاد أبو العلا وسالم جبر- كل هذه الأماكن تشكل فضاءات رئيسية في السرد، غير أنها فضاءات ليست مترابطة لولا البطل وبعض الشخصيات التي تتحرك فيما بينها، كما أنها تنتظم باستمرار تماشيًا مع مسافة جمالية تحققها صيغة ضمير المتكلم التي يستخدمها الراوي. ومن ثم لا تبدو المدينة للقارئ في شكل متماسك، فالقاهرة في المرايا بلا طبوغرافية ملموسة. ولكل مكان داخل هذا العالم المتباين دلالة اجتماعية وأيديولوجية. يمثل حي العباسية بالنسبة إلى الراوي وبالنسبة إلى الشعب- على حد سواء - زمن البراءة والعذوبة، قائم في الماضي وموصوف بغنائية لا تحظى بها بقية الأماكن في النص. إنه الفضاء الوحيد الذي يتسع لأي وصف صادق، أما المكتب الحكومي - حيثما يقضى الراوي حياته العملية - فهو مكان النميمة والتهكم cynicism والرشوة والاختلاس، إنه يرمز إلى الفساد والانتهازية اللذين ينتشران في كل طبقات الحياة السياسية زمن الكتابة. وفي صالونات الدكتور ماهر عبد الكريم وجاد أبو العلا وسالم جبر حيثما تناقش الأفكار بحرية فيما بين الزمرة المثقفة، وفي المقاهي حيثما تدور المناقشات السياسية يتخللها شيء من المزاح والهزل- في هذه الأماكن نرى النفاذ إلى عمق الاتجاهات الأيديولوجية والفكرية التي تمور بها هذه المرحلة. ومما له أهمية ملاحظة أن المقهى وقاعة المحاضرة بالجامعة والمبنى الحكومي - وحتى الصالون - يسودها في أغلب الأحوال الرجال، وعند مواضع معينة من السرد تدخل عليهم النساء مما يؤدى في العادة إلى قدر من الإثارة، مثلما حدث حين دخلت سعاد وهبي إلى قاعة المحاضرة بالجامعة. إن الفضاء يحتكره الرجل، ويمكن أن نوظف هذه الفكرة بحد ذاتها في تتبع طبيعة المواقف نحو النساء في الفترة الزمنية التي يغطيها النص، كما يمكن أيضًا الكشف عن هذه المواقف في الوقت الحاضر.
ويعتبر التغير تيمة أخرى لفضاء يُسْلِمُ نفسَه إلى وضع أحسن. ففي حين يصبح انحلال المدينة رمزًا على تفسخ شامل في القيم والمؤسسات الاجتماعية، يكتسب التجوال في الحي القديم زمن الستينيات بعدًا آخر، حيث يجد الراوي قصر الكاتب الذي كان ذات يوم "أحد بيوت النبلاء في العباسية القديمة"(19)، "قد هدم ورفعت أنقاضه مخلفًا أرضًا فضاء تحفر تمهيدًا لإقامة أربع عمارات سكنية"(20).

معاجم السير
في ظل آلية سردية متفككة على مستوى البنية والزمن والفضاء والشخصية، وفي ظل استبدال حالة من التشوش الظاهر بالخطية، بالإضافة إلى تمزيق تمركز الشخصية، وهو تمركز ضروري في الملحمة البرجوازية - كيف تتضامّ المتشظيات في المرايا مع بعضها البعض لتروى قصة؟ كيف يمكن خلق المعنى في هذا النص المتباين وحصره في اتجاه معين؟ لعل معجم السيرة شديد الإفادة من هذه الناحية، ليس لأنه يبرر عدم تمركز بنية النص فحسب (فمشاهد محفوظ مثل تراجم المعجم مرتبة أبجديًا)، بل أيضًا لأن العديد من المظاهر في المرايا تستوجب قراءة مزدوجة، بالإضافة إلى أن ما تثيره المزاوجة بين التاريخ والأدب من قضايا يلقى بظلال من الشك على المعرفة التاريخية والحكمة المتوارثة. وقد غلب هذا النوع من الشك بعد كارثة 1967

إن صناعة تأليف المعجم وحقيقة أن النص مكوَّن من نُتَفٍ سيرية تفرضان وجود علاقة بين المرايا والمعجم، ذلك أن اختيار الذات مادةً ينطوي - في الحال - على دلالة قوية. المعجم موقوف على النخبة. ويرصد ج. ل. يونج ثلاثة أصناف رئيسية من معاجم السيرة. الصنف الأول مخصص لأفراد متميزين داخل مجال مستقل مثل الحكام أو الباحثين في الحديث أو القضاة أو الشعراء. والصنف الثاني مخصص للمشهورين في مدينة أو بلد يتمتع بأهمية استثنائية مثل معجم البغدادي (1071) تاريخ بغداد(21). أما الصنف الثالث فيتخصص في أشخاص بارزين على مستوى كل مناحي الحياة، أيْ هو معجم عام مثل معجم ابن خلكان (1282) الشهير وفيات الأعيان، ومعجـم الكتبـي (1363) فوات الوفيات(22)، ومعجـم الصفـدي (1363) الوافي بالوفيات(23). وكل من هذه الأصناف الثلاثة يركز على المشهورين (الأعيان). أما الراوي في المرايا فيحفل سجله بمشاهد الأطفال والطلبة والأكاديميين والمُدرسين والكتَّاب والصحفيين وموظفي المصالح الحكومية وربات البيوت فضلاً عن خبراته الشخصية بالمرأة. والحال هكذا يهتم المعجم الحديث بما هو يومي وبما ليس نموذجيًا، ومن ثم يكشف التحول في الذات المستخدمة مادةً عن ما يتميز به المعجم القديم من طابع مفارق وحصري، كما يكشف - لو توسعنا - عن نوع الكتابة التاريخية التي يمثلها. يعلن المعجم الحديث - على نحو مطلق - أن التاريخ ليس مسألة قصص ناجحة وإنما هو خلاصة للخبرة الإنسانية متمثلة في أعلى صفوف المجتمع وأدناها.

تكشف العودة بالتاريخ إلى بدايته الحقيقية عن أنه كان متأثرًا بالأداء السردي. فالسيرة العربية - كما لاحظنا أعلاه - نشأت وتطورت في علاقة حميمة مع علم الحديث، إذ كانت تهدف في البداية إلى تسجيل حيوات الأفراد المؤسسين للجماعة الإسلامية حتى تساعد على تحديد مصداقية رواة الحديث، وبذلك لعبت - على المستوى التقليدي - دورًا سلطويًا مهمًا. ومن حيث هي فرع من فروع العلم الإسلامي فقد حظيت برعاية الدولة الإسلامية. لكن عملاً أدبيًا مثل المرايا عمل بلا غاية عملية ولا راعى له يكفل سلطانه الإبداعي. والأخطر من ذلك أن محفوظ يفكك أواصر العلاقة بين السيرة والسلطة ليعيد تعريف الذات في التاريخ، فيعتقها مما يمليه الخطاب الوحدوي في الماضي من تقييدات شائهة وضيقة.

وتمثل هذه المقاربة موضعًا آخر من مواضع الخلاف بين التأريخ في القرون الوسطى والقرن العشرين. لقد اعتبر المؤرخون الإسلاميون الأوائل الشخصية "محددة وثابتة"، وركزوا على ما يجعل من الذوات حالة نموذجية تتعارض مع التفرد والتميز. وعليه، فقد اهتمت عملية تجسيد الشخصية اهتمامًا كبيرًا بالمظاهر الخارجية - الهيئة والأقوال والأفعال - في حين ندر الكلام عن الأفكار الشخصية المستقلة، وغاب الربط بين تجربة الطفولة وتجربة النضج غيابًا تامًا. ولهذا السبب يغلب على المعجم في التراث العربي خاصية جمع الأفراد الذين يشتركون معًا في أمور معينة فيراهم من حيث علاقتهم بالخصائص العامة للمجموعة التي يندرجون تحتها(24). يقدم روبنسون Robinson سيرتي صـلاح الديـن (1193) وأحمـد بن حنبـل (855 ) بوصفهما نماذج معيارية. ففي كتاب ابن شداد (1235م) المعنون بـ سيرة صلاح الدين(25) ينتهي من الكلام عن الحياة الباكرة لصلاح الدين في عشرة أسطر، مهملاً بذلك الفترة السابقة على تلقيه العون والرعاية من نور الدين بن زنجي (1146 - 1174) بادئًا من استهلال هذا المحارب لحياته العامة. وبطريقة مشابهة، تقدم السير المكتوبة عن ابن حنبل - مثل سيرة حنبل بن إسحاق (886) المعنونة بـ ذكر محنـة الإمام أحمـد بن حنبـل(26) - مشهدًا إطاريًا لحياة البطل، وليس الغرض من ذلك الخلوص إلى الشخص الفرد وإنما الخلوص إلى الحدث المشهور الذي أدى بابن حنبل إلى تصدر مشهد السجال التقليدي الدائر حول (العقــل والنقل)، أعــني معارضته لاستجواب المأمون (833) الذي شغل ما يقرب من تسعة أعشار السرد(27).

وعلى العكس من ذلك، يبدى راوي المرايا اهتمامًا واضحًا بخصوصية الشخص. فهو يتبنى رؤية نظريات التحليل النفسي الحديثة للشخصية والتكيف الجنسي على اعتبار أن الشخصية نتاج للخبرة، وبصفة خاصة خبرة الطفولة، بالإضافة إلى أنه يسعى - في كثير من الأحيان - سعيًا منظمًا إلى معرفة الكيفية التي صارت بها الذات إلى ما هي عليه والسبب في ذلك. وحينئذٍ يبتدع استخدامًا جديدًا لأعراف الترجمة. تتضمن تقارير السيرة بشكل نمطي تفاصيل تتعلق بتاريخ الوفاة والنسب والأساتذة والمستوى التعليمي والترحال وزيارة الأماكن المقدسة (الحج)، والمناصب التي تولاها الشخص والحدود العامة لأفكاره والصفات الأخلاقية والهيئة الجسدية وملاحظات فيلــولــوجية حــول اسمه، والنوادر المشهورة عنه، وفي حالة المؤلفين تتضمن السيرة قائمة بمؤلفاته(28). ويتوقف الإسهاب أو الإيجاز في التقرير على مدى التسليم بأهمية الذات موضوع السيرة، ولذلك نرى بعض التقارير تتكون من سطور قليلة في حين تشغل تقارير أخرى عدة صفحات، غير أن مدى ملاءمة المعلومات لـ الترجمة كان يتوقف على مدى وضوحها.

ولا تنطوي المرايا على كل بنود هذه القائمة إذ تَعتبر بعضها زائدة عن حاجتها، غير أنه ينتابنا إحساس معين بأن الراوي لديه - كما هو حال مؤرخي العصور الوسطى - صورة ذهنية لما ينبغي تضمينه عن حياة الشخص وكيفية صوغه في بنية، وهو يستخدم ذلك على وجه الخصوص في تناوله لزملاء العمل الحكومي، بالإضافة إلى أن ذخيرة معارفه الشخصية تجعله متمكنًا بشكل محترف، ينضاف إلى ذلك أن المسافة التي يتخذها من الذات توفر له سكينة عالية تمكنه من الاستدعاء والتذكر. على سبيل المثال يكشف تأمل السطور الافتتاحية في فصول: شرارة النحال، وصبري جاد، وصقر المنوفي، عن أنها مصبوبة في صيغ.

شرارة النحال:
عرفت شرارة النحال أول عهدي بالوظيفة الحكومية. كان عامل التليفون. في العشرين من عمره. ومن حملة الابتدائية حديثًا. وكان يلفت النظر بجمال وجهه ورشاقة قده ورقـة شمائـله(29)...

صبري جاد:
تعين بإدارة السكرتارية في أواخر عام النكسة. كان في الثانية والعشرين من عمره، ومن حملة ليسانس الفلسفة... وكان من أصل ريفي لكنه نشأ وتربى وتعلم في القاهرة في أسرة متوسطة، ابنًا وحيدًا بين ثلاث بنات توظفن وتزوجن(30).

صقر المنوفي:
كان طبيعيًا أن يوصف عم صقر المنوفي بأنه الساعي بإدارة السكرتارية. ولكن جاء وقت كان يطلق على إدارتنا العتيدة بأنها إدارة عم صقر. وكان أقرب إلى القصر والبدانة ولكنه كان جم النشاط بل فاق نشاطه عادة المهام المطلوبة منه. وكان جاسوسًا بالسليقة ولحساب نفسه... (31).

وعند الحديث عن أفراد لهم مثالب أخلاقية يعود الراوي تلقائيًا إلى طفولتهم. فبعد أن يقدم الراوي خليل زكي في الفصل المخصص له بوصفه شخصًا عدوانيًا، ينتقل إلى الحديث عن إدمان والده للأفيون وكيف أنه "يعامله بفظاظة ضرب بها المثل"(32)، ثم كيف طرده في نهاية الأمر إلى الشارع. وبطريقة مشابهة، لم يعرف عيد منصور الحب أبدًا نظرًا لأن أمه ماتت بعد ولادته مباشرة، وكان أبوه "بخيلاً، دقيقًا، فظًا، جامد المشاعر فربى ابنه تربية شديدة لا رحمة فيها ولا مهادنة"(33). وهكذا يندرج سلوك هؤلاء الأفراد في سياق. إن محفوظ يحاول استكشاف ما يجعل هؤلاء الرجال يتصرفون بالطريقة التي يتصرفون بها. إنه يعيد التاريخ إلى مداره الخاص حين ينتقل بالمركز من النخبة إلى البروليتاريا، وبذلك يكشف محفوظ عن المعالجة الناقصة للشخصية الإنسانية التي اضطلع بها كتاب السير فيداويها بالتأكيد على التفرد والوجدان.

السرد الكاليدوسكوبي(***)
وأيًا كان الأمر، يسعى محفوظ إلى وضع شخصياته في ترتيب معين. والمعجم من حيث هو فرع من فروع العلم الإسلامي يتصف باليقين واقتناع راسخ. وفي المقابل تتصف المرايا بعدم اليقين والغموض. في أعقاب 1967 افتقر السرد إلى المنطق والوحدة، وقد تطلب الفن الأصيل من الفنان أن يبتدع الوسائل التي يعرض من خلالها فقدان الثقة في الطريقة التي تبدو عليها الأشياء، وجنون الثقة فيها. وكان التشظي أحد التقنيات التي تبناها محفوظ لهذه الغاية. أما التقنية الأخرى فقد اعتمدت على تحويل موتيفة المرايا وهي موتيفة أساسية في السيرة العربية.

يقول الكتبي إن "علم التاريخ مرآة العصور"، فمن خلاله يكتسب المرء معرفة بـ"خبرات الشعوب"(34). وعلى نحو مشابه، يصوغ الصفدي الفكرة نفسها: "إن عقولنا تطوف في مرآة المعاني التي يحملها الماضي"(35)، حيث يشير إلى ما تزودنا به دراسة التاريخ من بصيرة ننفذ بها إلى أعماق الماضي، ويعـطي سبـط ابن الجوزي (1256) تأريخه عنوان "مرآة الزمان في تاريخ الأعيان"(36). والحق أن عبارة "مرآة العصور" يتبناها العديد من مؤرخي الحقبة التالية، فهم يرون أنفسهم كتّابًا للتاريخ، أما مشروعهم التاريخي فهو مفتاح لفهم الماضي(37). غير أن محفوظ يحول موتيفة المرآة إلى كونها ارتيابًا في إمكان وجود صور استاتيكية وثابتة عن الوجود؛ إذ يلتقط من خلالها صورًا عن التاريخ وفاعليه مفترضًا أنها مجرد صور وكفى. إن كل فصل في النص لهو في حقيقة الأمر مجرد صورة وحدث عارض ومرآة. وفي هذه المرايا نرى انعكاسات الشخصيات والراوي وتاريخ العرب الحديث وهو يتشكل، لكن هذه الانعكاسات تتغير على الدوام وتعتمد على الزاوية التي نقترب بها منها، كما أنها تختفي دون إشعار مخلّفة للقارئ مجرد صورة سريعة الزوال ومتناقضة - في الغالب - عن الراوي والعالم.

ويعتبر إبراهيم عقل ـ في الصفحات الافتتاحية ـ خير مثال على ذلك، ففي الفصل المخصص له يتبدى كما لو أنه مجموعة من المتناقضات لا تسمح لنا باستخلاص رأي واضح في هذا الرجل، إذ يَظهر أستاذًا تراجيكوميدي ماكرًا يتحول إلى درويش مما يترك في النفس انطباعًا بدراما ضاحكة مثيرة للرثاء، وهي مجموعة من التقلبات لا تسمح بالوصول إلى نتيجة مُرضية عن الرجل. حتى عندما يظهر اسمه مرات عديدة ـ على نحو غير متوقع ـ في أحاديث، كما اتضح، تدور فيما بعد، نعرف من خلالها أن ابنيه قتلا ولم يموتا في وباء الكوليرا، فهل كان عندئذ متورطًا في مؤامرة ما؟ ويصفه طنطاوي إسماعيل بأنه "لقيط مهرطق"(38)، ويرى محمود درويش "أنه أستاذ بلا تلاميذ"(39)، ويجد فيه عباس فوزي مصداق هواجسه عن ضحالة الشهادات الأكاديمية(40). أما ماهر عبد الكريم فيرفعه إلى أعلى مكانة(41)، في حين يعامله الطلبة - الذين يُدرِّس لهم - بازدراء مصحوب بالتعاطف(42). غير أنه لا رأى من هذه الآراء نهائي أو حاسم. والحق أن ردود فعل الشخصيات على الدكتور عقـل ما هي إلا انعكاسات يعبرون بها عن أنفسهم وعن القلق الأيديولوجي السائد في تلك الفتـرة بقدر استبصاراتهم عن الرجل. إنهم مرايا لبعضهم البعض(43).

ومن الأمثلة الأخرى على هذا الوضع شخصيات كانت على علاقة بأماني محمد وفي الوقت نفسه على علاقة بزوجها عبده البسيوني وابنها بلال، منها جاد أبو العلا والراوي. ففي الفصل المخصص لها تقدم أماني نفسَها للراوي باعتبارها امرأة مطلقة، وتصف زوجها السابق بأنه "أناني نذل متوحش"(44). وتبدأ بينهما علاقة غرامية يؤكد الراوي أنها تمضى بلا حب حقيقى من ناحيته. وفي وقت تالٍ من العام نفسه يزور عبده البسيوني الراوي ويكشف له عن حقيقة أن أماني مازالت زوجة له ويعترف له بوحشيته التي ادعتها، فقد ضربها ذات مرة وهو فريسة لجنون الغضب. ولمصلحة أولاده أبقى عليها ولم ينفذ طلبها الطلاق منه، ثم يطلب من الراوي أن ينهى علاقته بها بل وطلب مساعدته في إقناعها بالعودة إلى بيت الزوجية فرحب الراوي على الفور قبل أن يتحول الحديث بينهما إلى شئون أخرى. وهكذا ففي هذا الفصل القصير لدينا صورة الراوي عن أماني باعتبارها ضحية تستحق الشفقة، ويتجاور مع هذه الصورة وصف الزوج لزوجه بأنها متمردة وأم غير مسئولة. كما لدينا صورة عن البسيوني غير الرحيم بأماني إلا أنه يستحق احترام الراوي لكونه صديقًا قديمًا. والراوي نفسه، على قدر ما يَعتبر علاقته بأماني فعلاً من أفعال الإيثار يبدو لنا صاحب نزوة، ثم يظهر - بعد زيارة البسيوني له - شخصًا ساذجًا يسهل خداعه. وبالإضافة إلى ذلك ينطوي الحوار بين البسيوني والراوي على انتقال سريع من الحديث عن أماني إلى الحديث عن أمور أخرى، كما أن ما أبداه الراوي من استعداد لإقناع المرأة بالعودة إلى هذا الزواج التعِس مؤداه في النهاية أن الرجلين على حد سواء كارهان للنساء عمومًا.

وعلى مدى ثلاثة فصول - فيما بعد - نلقى أماني وبلال - ابن البسيوني- حيث يدور حوار بين البسيوني وجاد أبو العلا والراوي وبلال نفسه حول حماس الأخير للعلم وقراره باستكمال دراسته في الخارج. ويكشف هذا الحوار عن ملامح جديدة يتصف بها الأب والراوي. إذ من خلال انعكاس البسيوني في مرآة ابنه العولمي النزعة نرى الأب وطنيًا بل ومحافظًا، أما الراوي الذي يتجنب عمومًا الدخول في أي مواجهة فمن الواضح أنه منزعج على غير العادة من نقص وطنية بلال. ثم نفاجأ بعد قليل بكلام عجلان ثابت "أن جاد عاشق آخر من عشاق أماني"(45)، وهكذا يغدو الفنان المحتال والصديق غير الحميم (لما هو معروف عن ضحالة جاد وحقيقة أنه لم يكتب بنفسه مؤلفاته) أقل من أن يكون مرآة متممة للراوي الذي هو الآن مجرد "شخص يقف في صف طويل من المغفلين"(46)، وينحدر إلى مستوى جاد نفسه.

وتجرى الأحداث كما المرايا أيضًا. والكيفية التي تتجاوب بها الشخصيات مع الأحداث الجارية في الحياة العامة تتكلم بأصوات عالية وكأن اقتناعها الشخصي محل اختبار، وهي شخصيات مضطرة إلى اتخاذ قرارات صعبة. رضا حمادة وأبو بدر الزيادي والإخواني عبد الوهاب إسماعيل والشيوعيان كامل رمزي وعزمي شاكر يتعرضون للسجن بسبب نشاطهم السياسي، في حين أن استقامة شخصيات أخرى مثل إبراهيم عقل وماهر عبد الكريم، وحتى عزمي شاكر في أخريات حياته حين بدا لين الجانب (على الرغم من أن الراوي يرى تحول عزمي شاكر تحولاً فكريًا وليس بدافع المصلحة الشخصية) (47) - هذه الاستقامة محل تساؤل حين يظهر للعيان أنهم مذعنون أو "يتفادون المواجهة" كما يشير إلى ذلك جوردون Gordon(48). وثمة شخصيات لا تقترب إطلاقًا من السياسة مثل سرور عبد الباقي مما جعل الراوي يوجه له الانتقاد الآتي: "إنه مهما يكن من تفوقه وبراعته وفائدته فلن يعتصر من ذاته إمكاناتها الإنسانية حتى ينظر إلى نفسه لا باعتباره جوهرًا فردًا مستقلاً ولكن باعتباره خلية لا تتحقق لها الحياة إلا بوجودها التعاوني في جسد البشرية الحي"(49). في حين أن شخصيات أخرى مثل صبرية الحشمة تسارع إلى تحويل محنة البلد لحسابها الشخصي، كما نرى عيد منصور يبتهج للحرب مع إسرائيل عام 1948 ولـ "الصراع في القنال" عام 1951 (50)، أما سرور عبد الباقي فتداخله لهجة التشفي بعد نكسة يونيه عام 1967 (51)، وتنتاب سالم جبر بهجة خفية لنفس السبب(52)؛ مما يكشف عن الوجه القبيح لهؤلاء الرجال الثلاثة. وتلعب كثير من المناقشات حول تطورات الوضع السياسي دورًا من حيث هي مرايا للعصور. وعلى المستوى الشخصي يُلْقِى موت بدر الزيادي وشعراوي الفحام مزيدًا من الضوء على شخصيات معينة. غير أن أيًا من ذلك ليس قاطعًا بحال، مثلما أن قضية إبراهيم عقل وأماني محمد غير محسومة، ومن ثم فمن الخطأ أن نعتبر رد فعل الشخصية على حدث ما شيئًا بخلاف كونه مظهرًا من مظاهر الشخصية باديًا من وجهة نظر محدودة.

وما من شك في أن أكثر هذه الشخصيات إبهامًا هو الراوي نفسه، وليس مرد ذلك إلى ما يتميز به السرد من طابع متشظٍّ فحسب - مما يجعل السرد نفسه مرآة تعكس ذهنًا مضطربًا بما يوحى أن ثمة رجلاً ليست لديه صورة واضحة عن نفسه كما رأينا أعلاه - بل مرده أيضًا إلى هيئة الراوي المتعددة والمختلفة، وهو تعدد واختلاف ناجمان عن تغير المسافة بين حاضر الراوي وماضي الراوي، كما أنهما ناجمان عن أننا نراه في أغلب الأحوال عبر عملية مرآوية معقدة (كونه منعكسًا في انعكاسٍ آخر) - أيْ هو "نتاج إدراكنا لما يقوم به من إسقاطات"(53) - مما يحجب القارئ عن عمل صورة له. إن انتقالات الراوي عديدة: فهو ينتقد إبراهيم عقل ويتعاطف معه في الفصل الأول، ثم ينتقل إلى طفل ساذج ومستجوب أخلاقي لأحمد قدري في الفصل الثاني، ثم إلى محب لأماني محمد يختال بنفسه ثم إلى مغفل يسهل خداعه، ثم إلى متفرج غير مدرك لحدث مقتل جاره أنور الحلواني أثناء مظاهرة في الفصل الرابع...إلخ. وإلى جانب ما استدعاه من علاقاته الرومانسية العديدة يستدعى مرتين فقط بعض تجاربه الشخصية، مرة حين حاول شرارة النحال تجنيده لحسابه في تزوير الانتخابات(54)، والأخرى حين ألغى عدلي المؤذن ترقيته في اللحظة الأخيرة(55). وفي بعض الأحيان يعبر عن آرائه، وفي أحيان أخرى يفضل التفلسف غير أنه لا يصر على قصد معين أو يحاول إقناع الآخرين بوجهة نظر مستقلة، مكتفيًا بدور المتسائل. إنه شخص يتملص من إصدار الأحكام تاركًا للشخصيات الأخرى القيام بهذا الدور، ويساعده على ذلك كونه حاضرًا معهم على الدوام حين نلقاهم.

ولأن الراوي حاضر مع شخصياته فكل صورة عنه تتلاشى، يتواجد للحظة ويتلاشى في اللحظة التالية. فيغدو النص - حينئذ - فسيفساء من الصور، فسيفساء مشهد سريع التغير، إنها فسيفساء لا تمنحنا فرصة تركيب السرد أو غزله إلى سرد موحَّد ومتماسك، غير أنها تسمح بأن تكون الصور الناتجة صدى لبعضها البعض وأن تتعدد وأن تقف جنبًا إلى جنب في تعارض ظاهر. تجسد كلُّ صورة حقيقةً ما في لحظة مستقلة من الزمن؛ وذلكم شكل الحقيقة الوحيد بعد 1967 حين تهاوى الخطاب عن الماضي القريب والهوية القومية كما تهاوت الثقة بالنفس. وهكذا يقدم النص - من حيث هو كل - الحقيقة من حيث هي تعددية وعلى درجة عالية من الذاتية. إن فاعلية المرآة بحد ذاتها هي طريقة مؤثرة في قول قصة دون تعالٍ، دون سلطة، دون سببية ومركز وسياج، ودون سائر المفاهيم المرتبطة بالنزعة الواقعية. وبهذا المعنى ترصف المرايا نفسَها مع أعمال ما بعد حداثية مثل العار Shame (1983) لسلمان رشدي.

ليست المعرفة/الحقيقة تعددية وذاتية فحسب بل هي أيضًا خادعة. إذ إن ما يتبقى في المرآة لهو الوهم؛ مما يثير احتمال أن الصور المعروضة ليست حقيقية، مع أنها معروضة بما هي ذكريات مكتوبة بضمير المتكلم ومكتظة بأحداث واقعية وأماكن وشخصيات عامة - سعد زغلول، مصطفى النحاس، الملك فاروق، إلخ - فالنص لا يألو جهدًا في التشديد على تاريخيته. وعلى نحو مماثل تستلهم لغة النص - التي يغلب عليها طابع التحقيق الصحفي - لغة أنواع من وسائل الاتصال وبصفة خاصة الجرائد حيث ترتبط التكوينات السردية بتقرير الوقائع. ومما يدعم هذه الصلة الأخيرة ما ينطوي عليه تقديم المعلومات من سمات مثل استخدام علامات الاعتراض والرسوم التصويرية المصاحبة(56). والنتيجة هي التوتر: المرآة والذكريات والجرائد والمعجم تشتبك مع بعضها البعض في حوارية عبر نص يضع موضع المساءلة الحدود الفاصلة بين التاريخ والأدب.

دور التشظي في إظهار التيمة
وتستمر هذه المساءلة على مستوى التنظيم السردي. وعلى الرغم مما يبدو عليه النص ظاهريًا من عدم استقرار ومحاولة تقديم قصة دون تعالٍ، فإن المرايا تنطوي على تصميم وقصد. والحق أن العشوائية تأثير مطلوب وتصميم للواقع. غير أن المقاطع المتشظية تتماسك معًا عن طريق الراوي، وإلى حد ما عن طريق الفضاءات والأحداث التي تشارك فيها الشخصيات. لكن الطريقة التي يتم بها معالجة الشخصيات تُظهر تيمات معينة، كما تنطوي على تتبع للتغير الذي يصيب المجتمع المصري والراوي على حد سواء، من حيث هما ثمرة هذا التغير، فيما يزيد على خمسين عامًا هي الأعوام التي يغطيها الإطار الزمني للسرد.

ومن النظرة الأولى يتضح على الفور أن اختيار إبراهيم عقل ويسرية بشير في الفصل الافتتاحي والفصل الختامي لم يكن اعتباطًا. فالدكتور عقل- الأستاذ الجامعي - أحد معارف الراوي الشخصية الأعلى مقامًا على مستوى العمر والسلطة، وينطوي الفصل المخصص له على مقومات النص الرئيسية: الجدل السياسي وتيمات التغير وفكرة المسئولية والقضاء والقدر. كما تجسِّد شخصيته ما يعانيه المجتمع المصري من تناقضات. وفصله بحد ذاته ينطوي على البرنامج السردي الذي يشتغل النص بحسبه. بالإضافة إلى أن معاناة عقل وعدم قدرته على المشاركة في العالم تنطبع على السرد منذ البداية. وفي المقابل يعود بنا فصل يسرية بشير إلى زمن براءة الطفولة، فيعرض لنا شخصًا لم تمسه بعد متاعب الوجود الإنساني بكل رعبها. إذ بعد أن طاف المؤلف بالقارئ خلال فترة من أشد فترات التاريخ المصري اضطرابًا فجعله وجهًا لوجه مع شخصيات تثير العديد من التساؤلات كما وضعه أمام منطلق الأفعال الإنسانية - نراه يعيد تقديم نوع من الأمل. وكما رأينا أعلاه يثير ظهور يسرية في هذه المرحلة الأخيرة نوعًا من الشك - أيضًا - في الفرضية التي ترى التاريخ معادلاً للتقدم، وبذلك ينتهي النص بنغمة سلبية وإيجابية في آنٍ معًا بكل ما في الكلمة من معنى، وهي نغمة تتراصف مع تناقضات كان النص يدعمها على طوله.

ينضاف إلى ذلك أن الاختيار المتأني والقصدي للشخصيتين الأولى والأخيرة، والطريقة التي تتضامّ بها الفصول، وتجاور أو تقارب فصول معينة - له دلالة في الغالب. وعلى سبيل المثال فالفصول الأربعة التي تأتى بعد الفصل الافتتاحي (الفصل الثاني والرابع والخامس والسادس) تتضمن بعض حوادث عارضة تترك بصمة لا تمحى على الراوي: تجربته الجنسية الأولى والتحول الأخلاقي الذي طرأ على أحمد قدري ثم اصطدام الراوي - لأول مرة - بألفاظ مثل "القتل" و"الرصاص" و"مظاهرة" و"الإنجليز" و"الشعب" و"سعد زغلول" و"الثورة"، ثم موت نجم كرة القدم الواعد بدر الزيادي، وإصرار بلال غير الطبيعي على الهجرة خارج مصر. والنتيجة هي التلقين: أىْ أن القارئ يكتسب - تدريجيًا - نفس الميل الذي شكلته ـ عند الراوي ـ سنوات التكوين الأولى، ونفس الحساسية، فيدخلان معًا ـ القارئ والراوي ـ على نحو متزامن إلى عالم فوضوي. إن القارئ لمدفوع بمعنى ما إلى مشاركة الراوي تجربته.

وفي منتصف النص تقريبًا نصادف مجموعة من المشاهد شديدة الدلالة تتركز حول موظفي الحكومة الذين يدعمون الفساد والتحيز والنفاق الذي تفشَّى في المصالح الحكومية المصرية في هذه الفترات من القرن الماضي. وعن عمدٍ تأتى صورة شرارة النحال أولاً بوصفه تجسيدًا لأسوأ ما ينطوي عليه هذا العالم. ثم صبري جاد وصقر المنوفي وطنطاوي إسماعيل وعباس فوزي وعدلي المؤذن وعبد الرحمن شعبان وعبدة سليمان وفتحي أنيس وكاميليا زهران. وبذلك نجد أنه كلما اقترب السرد من نهايته يتحول اهتمام الراوي إلى مشاهد أكثر عمومية، فقارئ هذه المشاهد تتكون لديه صورة واضحة عن الأشغال الحكومية تمكنه من استبصار مشكلة المسئولية حين يطرح على نفسه السؤال الآتي: إلى أي مدى يمكن لإنسان أن يحافظ على أخلاقيات عليا وسط هذه البيئة؟ فموارده لا تكفى إطعام عائلته، والأمل الوحيد في رفعها أو إكمالها أن يتكيف مع ممارسات مخالفة للقواعد وهي ممارسات سائدة: "أسعفـوه بوظيفة يمكن أن تدر عليه رشـوة"(57)، ذلكم ما يقترحه عبد الرحمن شعبان حلاً لمشكلة فقر فتحي أنيس. أما الوحيد الذي يحاول أن يعيد بعض الكرامة إلى بيئة فاسدة فهو طنطاوي إسماعيل. لقد بدأ عمله مراقب حسابات وبسبب إخلاصه وضميره وأمانته زوَّر خصومه توقيعـه على إحدى الوثائق الرسمية ثم اتهموه بالفساد ووجد نفسه مطرودًا من الخدمة(58).

إن تجاور مشاهد معينة وقرب بعضها من بعض مهَّد السبيل أمام القارئ حتى يرى الشخصيات في تباينها؛ فتجاور الضابط الحر قدري رزق مع الشيوعي كامل رمزي يعنى ضرورة التفكير في تعاقب طرفين ينطويان على المثل الأعلى نفسه. وبطريقة مماثلة يتجاور فصل المتأورب عبد الرحمن شعبان مع فصل الإسلامي عبد الوهاب إسماعيل الذي لا معرفة لديه بثقافة أجنبية ومع ذلك فهو محاور ماهر؛ مما يدعو إلى التفكير في مدى سلامة فكرة تفوق الغرب التي كان يؤمن بها بعض مفكري هذه الفترة. كما يأتي أستاذ الراوي ماهر عبد الكريم الدكتور المحترم والمعلم القدير (الذي يظل أسمى من أن يتحزب سياسيًا) تاليًا (****) للمرشد الأمني الحقير محمود درويش، بهدف التأكيد على المحاسن الأخلاقية لأولهما في مقابل الإفلاس الأخلاقي عند الثاني.

ولابد من الانتباه إلى أن الراوي في المرايا ليست لديه أحكام نهائية. لكن من المهم ملاحظة أنه لا يخشى تقديم حس عام بعدالة شعرية حين يجاور - في الغالب - بين المصير النهائي لإحدى الشخصيات وأفعالها السابقة، ولعل هذه المجاورة تدفع القارئ إلى رؤية الأمرين مرتبطين معًا ارتباط السبب بالنتيجة. فعلى سبيل المثال نرى أحمد قدري - عضو البوليس السياسي وشيطان العذاب - يعانى من أزمة قلبية، أما المتدين المنافق زهران حسونة فيفقد ابنه في معركة القنال وتنهار شركته عام 1961 بعد التأميم، بينما يصاب ابن شرارة النحال برصاصة غير قاتلة في حرب اليمن، كما يصاب زوج ابنته في مظاهرة عقب 1967، في حين أن الموظف الحكومي الفاسد صقر المنوفي يفقد ابنه الأوسط في معركة وتختفي ابنته هاربةً وتموت زوجته: "إنه الجزاء الحق"، هكذا يسلم صقر المنوفي بما يحدث له(59).

دور التشظي في تتبع التغير على المستوى الشخصي والاجتماعي
يُعتبر التغير أحد العوامل المؤثرة في تصميم المرايا وبنيتها. ففي غضون بضعة عقود يغطيها الإطار الزمني للسرد يعانى المجتمع المصري من تغير ضخم، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بدور المرأة. ويخضع الراوي أيضًا للتغير من حيث هو ثمرة لهذا المجتمع ومن حيث كونه إنسانًا يمر من مرحلة الطفولة إلى مرحلة النضج. كما يتعقب السرد هذا التغير في احتماله على مستوى المرأة. تتخذ أربعة عشر فصلاً من أسماء سيدات عناوين لها. وباستثناء حادثين عارضين يشيران إلى ما مضى (تزوير انتخابات وترقية لا تتم وتزويج سرعان ما ينتهي)، فإنها المشاهد الوحيدة التي يتورط فيها الراوي مباشرة في الفعل، ومن ثم فهي التي تزودنا بالقدرة على الاقتراب من شخصية الراوي. وتندرج هذه المشاهد في ترتيب يعكس ما يطرأ على دور المرأة العربية من تحول، كما يعكس في الآن نفسه التحول في المواقف منها. وتعتبر أماني محمد - وهي المرأة الأولى التي نلقاها في المرايا - خير مثال على ما يظهر من تناقضات وإشكالات في المراحل الأولى من تحرر المرأة: فلا هي ولا زوجها ولا الراوي متهيئون لاستقلال المرأة. فعبده البسيوني لكونه شوفينيا كلاسيكيا يرفض تطليق زوجته مع أنه لا يحبها، إذ يراها مجرد شيء يملكه: "إنها مجنونة ولا قيمة للإبقاء عليها لولا الأولاد"(60)، وفي الوقت نفسه تسئ أماني استخدام حريتها بالانغماس في علاقات جنسية مع رجال من أمثال الراوي وجاد. أما الراوي فيراها مجرد حالة تستحق العطف ويسارع إلى التنازل عن علاقته بها بمجرد أن يطلب منه ذلك صديقه الرجل.

أما البطلات الثلاث التاليات فهن أيضًا ضحايا لمجتمع لا يزال في أعماقه محافظًا. إذ سرعان ما ينهى الراوي علاقته بثريا رأفت حين تعترف له وعيناها مغرورقتان بالدموع "أن شخصًا ما خدعها وهي في سن البراءة"(61). وقد تضمنت لقاءاتهما العديدة حوارًا حول قضية مهمة ألا وهي ما إذا كان يحق للمرأة أن تواصل الدراسة والعمل بعد الزواج أم لا، مما يكشف عن تحيز الراوي حين تثار قضية تقسيم الأدوار: "رغم ثقافتك فأنت دقة قديمة"(62). وبعد هذا الفصل بثلاثة فصول نرى كيف تَحول التقاليد بين الراوي وحنان مصطفى، فقد أحبها الراوي في فترة الطفولة، غير أنها حُبست في البيت حين بلغت الثانية عشرة من عمرها إذ تنكرت أسرتها لفوائد التعليم. أما درية سالم فتعانى من حظ يشبه حظ أماني محمد، فهي عشيقة الراوي لفترة من الزمن، وقد اعتبر علاقته بها غير جديرة باحترامه: "لم يعد يربطني بها إلا المجاملة ثم العادة"(63)، وحين تعرَّف إلى زوجها الدكتور صادق عبد الحميد أنهى علاقته بها على الفور. ولعل التوازي الصوتي بين اسمي درية وثريا يدفع القارئ إلى رؤية إساءة معاملة الأولى من حيث هي وريث طبيعي لإساءة معاملة الثانية، كما يدفعه إلى إدراك موضوعة التطور غير العادل للنساء في النص.

غير أنه يمكننا التقاط شيء من التقدم ينطوي عليه السرد. فثمة سعاد وهبي وعبدة سليمان (الفصل 19 والفصل 34) اللتان تمثلان مرحلة وسطى في النظرة إلى المرأة حين سمح المجتمع لها بدخول مناطق كانت مقصورة تقليديًا على الرجال فقط مثل قاعة المحاضرة بالجامعة والوظائف الحكومية، ولم يحدث ذلك دون أصداء معينة. لقد تسللتا إلى منشآت مدنية، ومع أنهما قوبلتا بترحاب على المستوى الرسمي فلم تكونا مهيأتين لذلك على المستوى العقلي. إذ وقعتا في دائرة الإشاعات والظنون كما سمحتا لنفسيهما بأن تسقطا ضحية الخداع: فقد بدأت سعاد في مواعدة المدرس الإنجليزي فثارت أقاويل حالت دون رجوعها إلى الجامعة في السنة التالية، أما عبدة فوجدت نفسها أمًّا بعد سقوطها ضحية لمحمد العادل. وبين المرأتين تأتى صبرية الحشمة، وهي استثناء القاعدة ذلك أنها ترقت في السلم الاجتماعي من خلال الدعارة أثناء الحرب العالميـة الثانية. وهي ليست بخلاف زهيـرة في ملحمـة الحرافيـش (1977)(64) ، إذ وجدت التعبير عن قوتها من خلال الرجال فصارت غنية بفضل الدعارة والحانة بعد تحويل الجنس - وهو الخدمة الوحيدة التي يمكن أن تقدمها النساء للرجال- إلى مهنة مربحة.
وفي مشاهد عزيزة عبده وفايزة نصار وكاميليا زهران (38، 43، 47) نصادف المرأة الواثقة في نفسِها إلى الحد الـذي تؤكد به نفسَها فتمضى وراء غايتها بدرجة من النجاح. وفي الفصلين 50 و54 يتمكن الراوي أخيرًا من إقامة صداقة مبنية على أساس مساواة حقيقية واحترام عقلي مع امرأتين تتمتعان باستقلال كبير هما مجيدة عبد الرازق ووداد رشدي، فكلتاهما سيدة قرارها، ولا يعنى ذلك أنهما سعيدتان بالضرورة. وهكذا نفهم - من خلال النص - أن مصر تنتقل من بطريركية صارمة - عبر مرحلة من الصراع الحاد بين الأعراف المتداولة والمواقف الفردية - إلى وضع بدأ فيه الرجال والنساء تفاعلاً على قدم المساواة في مجالات معينة. ومن الممكن اعتبار الراوي نفسه تجسيدًا لموقف الرجل العربي من المرأة. ومع أنه عدَّل من موقفه إلى حد ما، نراه يتمسك بتحيزات معينة، فنزوعه الأول نحو وداد كان محكومًا بكونها عشيقة محتملة بالنسبة له، أما صفاء الكاتب - وهي نموذج الجمال عنده في مرحلة الطفولة - وقد تزوجت في مطلع شبابها - فتظل هي المرأة الأمل.

التاريخ من حيث هو خطاب سردي
ها نحن أولاء نكتشف أن النص ينطوي على تصميم وقصد؛ مما يثير قضية الطبيعة السردية في المرايا. والحق أن النص يعانى من تشويش وارتباك تنطوي عليهما عملية السرد. يعرض محفوظ المرايا على هيئة شذرات من الذاكرة وصور مرآوية حتى ينقل لنا ما يعانيه الراوي من اضطراب وما تعانيه المؤسسات والمعتقدات من انهيار، كما ينقل إحساسًا بما تتصف به المعرفة من طبيعة غير مستقرة بل وخادعة. بالإضافة إلى أن المقصود من التشظي الإيهام بأن الكتابة تتم دون وسيط ودون أية قيود، وكأن المشاهد التي ينطوي عليها النص منفصلة عن أيِّ سياق أيديولوجي، وكأن التصور الضمني القائم أن الإجابات على أزمة الحاضر ودروس المستقبل سوف تأتى من تلقاء نفسها. من الواضح - والحال هكذا - أن العبء بكامله يقع على القارئ، إذ عليه أن يتولى بنفسه أداء دور الموالف Bricoleur فيضم القطع المتشظية بعضها إلى بعض حتى يشكل سردًا له معنى. بالإضافة إلى أن الطريقة التي يختار بها المؤلف الأسماء تجعله متورطًا في محاولة خلق معنى مؤثر وإنتاج تأثير معين. وهاهنا أيضًا يضطلع التشظي بدور، فمع أنه يمثل تحديًا للأعراف السردية القائمة إلا أن وضعه في الصدارة يعنى أنه هو نفسه استراتيجية سردية. ولما كان القارئ يضطلع بعبء الموالفة bricolage فهو أكثر وعيًا بعملية البناء السردي، وحينئذ لن يغدو التنظيم الأولى في النص - أي التشظي - سوى مجرد إمكان من إمكانات عديدة متاحة أمام الكاتب. وحينئذ أيضًا يصبح ما يقدمه الراوي من تفسير مجرد فهم شخصي للأحداث مما يجعلنا نرى التاريخ- والحال هكذا- من خلال عيني فرد واحد بحسب برنامجه الخاص.
وبحكم القرابة المنعقدة بين المرايا والمعجم فإن المعجم يتورط تلقائيًا في كل هذه الأمور. وبحكم علاقة تواصل معينة يتبادل الراوي ومؤرخ العصور الوسطى المواقع. فكما ينتقى الراوي أسماء شخصياته ينتقى المؤرخ العربي - في العصور الوسطى - مادته وينظمها حتى يعكس رؤية فردية للتاريخ. وعندما يحاكى محفوظ شكل السيرة العربية ومنهجها من أجل إبراز طريقه عمل المعجم، واتساعًا بهذه الفكرة يبرز عملية التأريخ من حيث هي "إعادة بناء خيالية" فيما يقول جوتشوك(65) Gottscholk، فإنه يقدم شكلاً من أشكال الخطاب. إننا نواجه هاهنا نتائج شديدة الخطورة: لو أن التاريخ بناء بشرى ونسق دال فكيف يدَّعى أنه ينطق بالحقيقة؟ ولو أن الماضي بحسب ما يعرفه كريجرKrieger "تعاقب مستمر لأشكال من الــواقع الإمبريقي الصرف"، ولو أن الشكل الوحيد الذي يمكن أن يصل إلــينا مــن خلاله هو نص(66) - مثل المعجم - فكيف نطمح إلى معرفته؟ تنطوي المرايا على تشظي وتبغي إحداث تأثير من خلال موتيفة المرآة كما تُزاوج بين التاريخ والأدب، ويعمل التصميم في الخفاء على تشتيت الحدود بين الواقع والخيال. ولكل هذه الأسباب لم تكن رواية محفوظ الأولى بعد 1967 مجرد تعبير عن انعدام يقين استحوذ على المجتمع العربي بعد الهزيمة، بل كانت أيضًا طريقة من طرق التشكيك في المعرفة التاريخية والخطاب الموحَّد بوجه عام. وهكذا تغدو الاستراتيجية الرئيسية - أي التشظي - إحدى الخصائص المميزة لأدبه اللاحق. أما الخصيصة الأخرى التي يوليها عناية أكبر فهي محاولة إعادة كتابة جنيالوجيا الرواية العربية. إذ عن طريق استدخال استراتيجيات سردية مرتبطة بـ المعجم في المرايا يمنح محفوظ الرواية حضورًا يصلها بجذورها في التراث مما يضفى عليها بعدًا يجعلها مُغْرِقَةً في المحلية. وتمثل هذه النقلة محاولة واضحة للتخاصم مع الرواية الغربية، مما يفتح طريقًا جديدًا أمام مستقبل الرواية العربية.

ترجمة حسام نايل


(*) حول معنى المصطلح والمجال المعرفي الذي نشأ فيه والإفادة منه في درس الأدب، انظر: جابر عصفور، التعلق/التعالق النصي 1 و2، جريدة الحياة اللندنية بتاريخ 3 و17/12/2003، كما أخذنا ترجمة عنوان كتاب جينيت "طروس" عن جابر عصفور الواردة في الموضع نفسه حيث يوضح مسوغ هذه الترجمة- المترجم.
(1) جميع الطبعات منشورة في مكتبة مصر .
(2) Chase F. Robinson, Islamic Historiography (Cambridge: Cambridge University Press, 2003), pp. 72- 4. On the Arabic Biographical Tradition see: Paul Auchterlonie, Arabic Biographical Dictionaries: A summary Guide and Bibliography (Durham: Middle East Libraries Committee, 1987) M. J. L. Young, Arabic Biographical Writing, Cambridge History. Vol. III, pp. 172-7; Khalidi, Arabic Historical Thought in the Classical Period (Cambridge: Cambridge University press, 1994), pp. 46-8, 204-10; Robinson, Islamic Historiography; Franz Rosenthal, A history of Muslim Historiography ( Leiden: Brill, 1968); G.R. Smith, Tabakat, Encyclopaedia of Islam II, vol. X. pp. 7-10.
(3) Ibn Khallikan in his Wafayt al A'yan wa Anba Abna' al zaman (Beirut: Dar al thaqafa, 1968- 72) vol. I, pp. 19-20. writes: هذه رسالة موجزة في علم التاريخ. وقد دفعني إلى جمع مادتها ولعي بأن أتعرف على الأشخاص المشهورين في الماضي، تواريخ وفاتهم وميلادهم وما فعله كل منهم في حياته.
Cited from Tarif khalidi, Arabic Historical Thought in the Classical Period (Cambridge: Cambridge University Press, 1994), p. 207.
(4) Rashid El Enany, Naguib Mahfouz: The Pursuit of Meaning (London and New york: Routledge, 1993), p. 200.
(5) Halim Barakat's Awdat al T'ir ila al Bahr (Beirut: Dr al Nahar, 1969)
وهو يمثل أحد ردود الفعل الواقعية على 1967 التي ينبغي أخذها بعين الاعتبار.
(6) Al Maraya (Cairo: Maktabat Misr, 1972), P. 30. وقد نشرت الرواية مسلسلة أولاً في مجلة الإذاعة والتلفزيون عام 1971. أما عن دراسة الكتاب
See: Roger Allen , Mirrors By Najib Mahfuz. Muslim World 62 (1972), pp. 115- 25 and 63 (1973), pp. 15-27.
(7) Edward Said, Arabic Prose and Prose Fiction After 1948, in Reflections on Exile and Other Literary and Cultural Essays (London: Granta, 2000) , p.49.
(8) Maraya, 61.
(9) يحصي جيمس روي كينج ما يزيد على اثنتي عشر إشارة إلى إبراهيم عقل وكذلك العديد من الإشارات إلى ماهر عبد الكريم وسالم جبر وزهير كامل، وأكثرها إلى عباس فوزي، وما يزيد على العشرين إلى رضا حمادة وجعفر خليل، وليست كلها ذات دلالة بالضرورة
J.R. King, the Deconstruction of the Self in Nagib Mahfuz's Mirrors', Journal of Arabic Literature 19 (1988), p. 56.
(10) Ibrahim Taha, The Palestinian Novel: A communication Study (London: RoutledgeCurszon, 2002), p.92.
(11) Leo Bersani, A Future for Astyanax: Character and Desire in Literature (Boston: Little, Brown, 1969), p. 313. Cited from King, Deconstruction, p. 57.
(12) King, Deconstruction, p.57.
(13) Hosam Aboul Ela, 'Writer, Text and Context: The Geohistorical Location of the post 48 Arabic Novel, Edibiyet 14/1&2 (2003),p.7.
(**) سوف نجد صدى قويًا لهذا التعليق في الفقرات التالية غير أنه ينطوي على قصور شديد، كما يكشف عن نزعة تمركز أوربي مغالىً فيها تعود إلى الآمال الأوربية التي انعقدت في عصر الأنوار والتي سرعان ما خابت بعد الحرب العالمية الثانية منتصف القرن الماضي وتأكد إخفاقها التام بعد 11/9 مطلع القرن الحالي. إن التقدم المعكوس على نفسه باستمرار، ويحمل كلما تقدم نقيضه الملازم له. وبغض النظر، ينطوي اللاهوت المصري القديم على تصور للزمان يراه خطيًا من خلال الانتقال والتحول، وهو تصور فاعل بدرجة معينة في نص محفوظ ومطعَّم بتصور إسلامي (أصولي) عن الزمان من حيث هو حركة دورية تعود إلى نقطة الأصل. وذلك على خلاف نص إدوار الخراط الذي يقاطع بين تصورين للزمان: أولهما إسلامي (صوفي) يرى الزمان نسبة عدمية (ابن عربي)، والثاني مسيحي (شرقي) يراه حركة مستمرة نحو الخلاص. ولذلك تفصيلات كثيرة ليس هاهنا موضعها وإنما أردنا مقابلة التصور الأوربي بغيره- المترجم.
(14) عن الزمن في السيرة
see: Bakhtin's essay, Forms of Time and of the Chronotope in the Novel', The Dialogic Imagination, Four Essays by M. Bakhtin, ed. M. Holquist, trans. C. Emerson and M.Holquist (University of Texas Press : Austin, 1981), in particular, pp. 130-47.
(15) Maraya, p. 320
(16) Bakhtin, Dialogic Imaginationn, p. 293
(17) Samia Mehrez, 'Re-Writing the City: The Case of Khitat al Ghitani Mundus Arabicus 5 (1992) p. 148
(18) Ibid.
(19) Maraya, p. 163.
(20) Maraya, pp. 165-6
(21) Cairo: Maktabat al Khanji, 1931, 14 vols.
(22) Cairo: Maktabat al Nahda al Misriyya, 1951.
(23) Beirut: Dar Ihya al Turath al Arabi, 2000, 29 vols.
(24) M.J.L. Young, 'Arabic Biographical Writing', 170
ومقاربة الشخصية على هذا النحو لها ما يوازيها عند قدماء اليونان
see: Bakhtin, Chronotope in the Novel, pp.130-2.
(25) Cairo: n.p. 1962
(26) Cairo: n.p.1977
(27) Robinson, Historiography, pp. 62-3
(28) Dwight F. Reynolds, ed. , Interpreting the Self: Autobiography in the Arabic Literary Tradition (Berkeley: University of California Press, 2000), p. 42; Robinson, Historiography, pp. 67-72; M.J.L Young, Arabic Biographical Writing, p.171.
(29) Maraya p. 138.
(30) Maraya, p. 156.
(31) Maraya, p. 167.
(32) Maraya, p.75
(33) Maraya, p. 245
(***) نقترح مقابلاً للرسم الإنجليزي kaleidoscope عبارة "ديمومة التغير أو التبدل"، وسوف تشرح صاحبة المقال المقصود من كاليدوسكوب في النصف الثاني من الفقرة الثانية تحت هذا العنوان مباشرة، وهو لا يختلف كثيرًا عن المعنى المعجمي للكلمة، فاكتفينا بشرحها- المترجم.
(34) al kutbi, Fawat al wafayat, vol. I, p. 1. Cited from Khalidi, Historical Thought, p. 207.
(35) At the beginning of al Wafi bi'l wafayat, Cited from khalidi, Historical thought, p. 208.
(36) Vo. VIII (Hyderbad: Da'ira al Ma'rifa al ' Uthmaniyya, 1952) Cited from Ibid.
(37) Khalidi. Historical Thought, pp. 207-8.
See: Rosemary Jackson, Fantasy, the Literature of Subversion (London: Methuen, 1981), p. 87. Cited from King, 'Deconstruction', p. 55
(38) Maraya, p. 174
(39) Maraya, p.293
(40) Maraya, p. 183
(41) Maraya, p. 287
(42) Maraya, p. 14
(43) King, Deconstruction, pp. 57-9.
(44) Maraya, p.26.
(45) Maraya, p. 61.
(46) King, Deconstruction, p.62
(47) Maraya, p. 228.
(48) Haim Gordon, Naguib Mahfouz's Egypt: Existential Themes in His Writings (New York :Greenwood Press. 1990)
ويرى جوردون أن المسئولية والنضال من أجل أشياء تنطوي على قيمة في ذاتها هي تيمات مركزية في أدب محفوظ.
(49) Maraya, p. 124.
(50) Maraya, p.248.
(51) Maraya, p.124.
(52) Maraya, p.118.
(53) King, Deconstruction, 66.
(54) Maraya, p. 143-4
(55) Maraya, p.193.
(56) see note 6.
(57) Maraya, p. 261.
(58) Maraya, pp. 174-8
(****) أظن أن سهوًا وقعت فيه صاحبة المقال فالعكس هو الصحيح، وقد داوينا في مواضع أخرى بعض هذا النوع من السهو دون إشارة- المترجم.
(59) Maraya, p. 169.
(60) Maraya, p. 31.
(61) Maraya, p. 52.
وفيما بعد يكتشف الراوي أن المجرم هو عيد منصور
(62) Maraya, p.51.
(63) Maraya, p.84.
(64) Published by Maktabat Misr.
(65) Louis Gottschalk, Understanding History : A primer of Historical Method, 2nd edn. (New york: Knopf, 1969), p. 48, Cited from Linda Hutcheon, A poetics of Postmodernism: History, Theory, Fiction (London: Routledge, 1988), p. 92
(66) Murray Krieger, Fiction, History, and Empirical Reality, Critical Inquiry ½ (1974), P. 339. Cited from Hutcheon, Postmodernism, p. 92.

المراجع:

أعمال محفوظ الواردة بالدراسة:
- زقاق المدق، القاهرة، مكتبة مصر، 1947.
- بين القصرين، القاهرة، مكتبة مصر، 1956.
- قصر الشوق، القاهرة، مكتبة مصر، 1957.
- السكرية، القاهرة، مكتبة مصر، 1957.
- اللص والكلاب، القاهرة، مكتبة مصر، 1962.
- ثرثرة فوق النيل، القاهرة، مكتبة مصر، 1966.
- تحت المظلة، القاهرة، مكتبة مصر، 1969.
- المرايا، القاهرة، مكتبة مصر، 1972.
- حكايات حارتنا، القاهرة، مكتبة مصر، 1975.
- ملحمة الحرافيش، القاهرة، مكتبة مصر، 1977.
- ليالي ألف ليلة، القاهرة، مكتبة مصر، 1978.
- رحلة ابن فطومة، القاهرة، مكتبة مصر، 1983.
- أصداء السيرة الذاتية، القاهرة، مكتبة مصر، 1995.

مراجع أخرى:
Aboul Ela, Hosam. Writer, Text and Context: the Geohistorical Location of the post 48 Arabic Novel. Edibiyet 14/1&2 (2003), pp.5-19. Allen. Roger . Mirrors By Najib Mahfuz. Muslim World 62 (1972), pp. 115-25 and 63(1973) pp. 15-27.
Auchterlonie Paul. Arabic Biographical Dictionaries: A Summary Guide and Bibliography. Durham: Middle East Libraries Committee, 1987 - البغدادي، أحمد بن علي: تاريخ بغداد، القاهرة، مكتبة الخانجي 1931، 14 مج.
Barakat, Halim. Awdat al Ta'ir ila al Bahr. Beirut: Dar al Nahar, 1969. Trans. Trevor Le Gassick. Days of Dust. Wilmete: Medina , 1974. Bakhtin, Mikhail M. Forms of Time and of the Chronotope in the Novel, in the Dialogic lmagination: Four Essays by M. Bakhtin. Ed. Michael Holquist. Trans. Caryl Emerson and Michael Holquist. University of Texas Press: Austin. 1981.
Bersani Leo. A Future for Astyanax: Character and Desire in Literature. Boston: Little, Brown, 1969.
El Enany Rasheed. Naguib mahfouz: the Pursuit of Meaning. London: Routledge, 1993
Gordon, Haim. Naguib Mahfouz' Egypt: Existential Themes in His Writings. New York: Greenwood Press, 1990.
Gottschalk, Louis. Understanding History: A Primer of Historical Method. Second edittion. New York: Knopf, 1969.
Hutcheon, Linda. A Poetics of Postmodernism: History, Theory, Fiction. London: Routledge. 1988.
Ibn Khallikan, Ahmad b. Muhammad. Wafayat al A' yan wa Anba' Abna al Zaman. Ed. Ihsan Abbass. Beirut: Dar al Thaqafa, 1968- 72, 8 vols. Trans. Baron McGuckin de Slane. Ibn Khallikan's Biographical Dictionary. Paris: Benjamin Duprat, 1842-71, 4 vols.
Ibn Shaddad, Baha' al Din. Sira Salah al Din (al Nawadir al Sultaniyya wa'l Mahasin al Yusuftyya). Cairo: n.p., 1962. trans. Donald Sydney Richards. The Rare and Excellent History of Saladin. Aldershot: Ashgate, 2002.
Jackson, Rosemary. Fantasy: the Literature of Subversion. London: Methuen, 1981.
Khalidi, Tarif. Arabic Historical Thought in the Classical Period. Cambridge: CUP, 1994.
Krieger Murray. Fiction, History, and Empirical Reality. Critical Inquiry ½ ( 1974). Pp. 335, 60.
- الكتبي، محمد بن شاكر: فوات الوفيات، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية 1951.
King, James Roy. The Deconstruction of the Self in Nagib Mahfuz's Mirrors. Journal of Arabic Literature 19 (1988). pp.55-67. Mehrez, Samia. Re-writing the City: the Case of khitat al Ghitani, Mundus Arabicus 5 (1992), pp.143,67
Reynolds, Dwight F. Ed. Interpreting the Self: Autobiography in the Arabic Literary Tradition. Berkeley: University of California Press, 2001
Robinson, Chase F. Islamic Historiography. Cambridge: Cambridge University Press, 2003.
Rosenthal, Franz. A History of Muslim Historiography. Leiden: Brill, 1968.
- الصفدي، خليل بن أيبك: فوات الوفيات، تحقيق أحمد الأرناءوط وتركي مصطفى، بيروت، دار إحياء الكتب العربية 2000، 29مج.
Said, Edward. Arabic Prose and Prose Fiction After 1948', in Reflections on Exile and Other Literary and Cultural Essays. London: Granta, 2000.
- سبط بن الجوزي، شمس الدين يوسف: مرآة الزمان في تاريخ الأعيان، حيدر آباد، دائرة المعارف العثمانية 1952، 8 مج.
Taha, Ibrahim. The Palestinian Novel : A Communication Study. London: RoutledgeCurzon, 2002.
Young, M.J.L. Arabic Biographical Writing, in M.J.L. Young, J.D. Letham and R.B. Serjeant, eds., Cambridge History of Arabic Literature:
Religion, Learning and Science in the Abbasid Period. Cambridge:
Cambridge University Press, 1990, vol. III, pp. 172-7.