القاصة المصرية تكتب كيف تسلل الخوف والقلق إلى حياة صبي حاول أن يكون له دور وطني، وكيف من خلال تفاصيل حياته في البيت والمدرسة يتفتح وعيه وتتشكل رؤاه إلى الواقع الذي يعيشه.

مناضل صغير

نبيلة الجندي

استيقظ يوسف مبكرًا كعادته أثناء العام الدراسي وذهنه مشوش بشتى الأمور والأفكار وبعض القلق يعتريه.. قلق لا يعرف له سببًا محددًا.. ربما لوجود حصة الجغرافيا ضمن جدول اليوم فهو يمقت هذه المادة ويحاول دائمًا أن ينحيها جانبًا ولا يعير لها من الاهتمام الذي من شأنه تعكير صفو مزاجه.. إذن فالسبب الحقيقي معروف لديه ولكن لا يرغب في مواجهة نفسه به.

أيقظه من هذا القلق صوت سعاد المربية وهي تقول له:

-ياله يا سي يوسف روح اغسل وشك والبس هدومك أنا محضرهالك على الكرسي!

كان لمداخلة سعاد فعل السحر إذ سرعان ما انتشلته من حالة الاضطراب التي كان عليها وأعادته إلى أمر الواقع واقع الصبي ذي الإثنى عشر ربيعًا.

انتهى من ارتداء ملابسه وتوجه إلى مائدة الإفطار وبدأ في تناوله مع "سلمى" أخته الصغيرة فوالداهما لا يشاركهما هذه الوجبة إلا في الأجازات.

قبل أن يستعد للانصراف أتت له سعاد بالطربوش وشنطة الكتب..

-إنت نسيت تلبس الطربوش.. وناولته إياه، فأخذه منها على مضض ووضعه على رأسه وقبل أن يعبر باب المنزل كان قد أزاحه إلى مؤخرة رأسه وهو ينفخ من الزهق وانصرف.

في طريقه إلى البوابة الحديدية، آخر بوابة تفصل البيت عن الشارع، قابل الأسطى فتحي الطباخ النوبي الذي يحضر دائمًا في نفس ميعاد خروج يوسف وتبادلا تحية الصباح.

خرج إلى الشارع الخالي إلا من بعض الصبية المتوجهين إلى مدارسهم أو إلى كتاتيبهم.

وصل إلى المدرسة التي لا تبعد كثيرًا عن منزله ووجد أمامها كما هو الحال يوميًا بعض التلاميذ ملتفون حول عربة الفول والطعمية وعم محمود يناول كل منهم شقة بها المطلوب. لطالما أراد أن يتذوق فول أو طعمية عم محمود بالسلطة لكن هيهات فهذا من رابع المستحيلات فأبعد ذهنه سريعًا عن التفكير في هذه الرغبة التي لا تقدم ولا تؤخر وانصرف إلى الإصلاح من هندامه وإعادة الطربوش إلى مكانه الطبيعي حتى يبدو في المظهر الذي يعتقد أنه يرضى والديه،  ودخل إلى حوش المدرسة وما هي إلا دقائق ودق جرس الطابور كان مكانه في المقدمة لقصر قامته قليلاً وبدأت التلاميذ تتوجه إلى فصولها وكما كان في مقدمة الطابور، كان مكانه أيضًا في الصف الأول من الفصل.

بدأت الحصة الأولى حصة اللغة العربية، كان أستاذ هذه المادة أديبًا يشرح النصوص بطريقة تشد انتباه تلاميذه وبالأخص يوسف فهو قارئ جيد لكبار الأدباء مثل طه حسين والمازني وتوفيق الحكيم.. لم تكن فقط قراءة الأدب هي الوحيدة التي تستهويه ولكنه كان شغوفًا بالإلمام بكل ما يتعلق بكبار الساسة وزعماء الحركات الوطنية، ليس فقط في مصر بل في العالم أجمع. ولا عجب في ذلك فهو ينحدر من عائلة تحوي الكثير من المناضلين الذين أفنوا شبابهم في محاربة الاستعمار والفساد.

كان النص الذي اختاره الأستاذ هو إحدى خطب الزعيم مصطفى كامل. وما أن بدأ في الشرح حتى أخرج يوسف كراسة فنزع منها ورقة وأخذ يدون فيها بعض الكلمات والجمل المأثورة وتعليق المدرس عليها حتى يضمها إلى باقي مقتنياته المودعة في أدراج مكتبه حيث كان دائمًا ما يسجل أفكاره ومبادئه على أوراق يخفيها في طيات كتبه القديمة. لا يخرجها إلا عندما يذهب للقاء زملائه أعضاء «جمعية نهضة وادي النيل» التي أسسها ووجد نفسه دون أن يسعى لذلك زعيمًا لها. كان عليه أن يغذي نشاطها من آن لآخر بأفكار وشعارات يأتي بها من هنا وهناك لكي تبعث الحماس في أفرادها.

كان أعضاء هذه الجمعية ينتمون لطبقات اجتماعية متواضعة، وهم المفضلون دائمًا عنده، أما مقرها فكان منزل عبد الرحمن حيث يذهبون إليه كلما سنحت الفرصة ليتشاوروا ويتناقشوا ويخططوا..

فكر يوسف مرارًا أن يتخلى عن هذا الدور الذي وجده أكبر من أن يملأه ولكن زملاءه حالوا دون ذلك، فاستمر مذبذبًا بين الحماس والضجر مما كان يجعله في أحيان كثيرة قلقًا مشتت الأفكار..

مر الوقت والأحوال في المدرسة يسودها الهدوء والنظام، وقرب انتهاء اليوم الدراسي إذ بسيوني فراش سيادة الناظر، الأستاذ الجليل عبد الظاهر، يقرع باب المكتب.

-                   ادخل!

-                   أتنين أساتذة بره عاوزين يقابلوا سيادتك..

-                   أهلاً وسهلاً.. يتفضلوا..!

كانا رجلان لا يبدو على وجوههما أي تعبيرات أو ملامح تشير عن شخصيتهما أو تكشف عن هويتهما..

-                   أهلاً وسهلاً.. اتفضلوا!

ودعاهما للجلوس

-                   خير إن شاء الله.. أي خدمة أقدر أقدمها.. قهوتكم إيه..؟

-                   مضبوط..

-                   بسيوني تلاتة قهوة مضبوط!

-                   (للمرة الثانية) خير إن شاء الله..؟

-                   نشرب القهوة في الأول، وإن شاء الله خير..

كان في جوابهما ما جعله يرتاب ويتوتر وظهر ذلك على وجهه واضحًا لكن الضيفان لم يعيرا لهذه المشاعر التي ألمت بالناظر أي اهتمام.

عاد بسيوني بصينية القهوة.

-حط الصينية على مكتب سيادة الناظر واتفضل انت واقفل الباب وراك!

بدأوا في ارتشاف القهوة والناظر يحاول جاهدًا أن يخفي ما يبدو عليه من الارتباك بجمل مألوفة. أو لا معنى لها إلى أن انفضوا من شرب القهوة فبادر أحدهم فجأة بسؤال:

-                 عندك طالب اسمه يوسف عبد العزيز احمد

-                 أيوه مين سيادتكم؟

-                 رأيك فيه إيه؟

-                 تلميذ مهذب وهادئ وملتزم ومن أعرق العائلات..

-                 مين سيادتكم..؟

-                 إحنا من مباحث طنطا. وصل لنا إنه يقوم بتوزيع منشورات يعادي فيها    نظام الحكم.

-                 .. إزاي الكلام ده يا افندم ده تلميذ يا دوب عنده اتناشر سنة.. إزاي الكلام ده..!!

أنا هابعت أجيبه لكم عشان تتأكدوا بنفسكم..

* * * * *

-            ادخل يا يوسف.. سلم على الاساتذة..!

-            إنت يوسف عبد العزيز أحمد؟

-            أيوه يا افندم..

-            إنت مكون جمعية إسمها "نهضة وادي النيل..؟"

-            لأ..

-            طيب روح فصلك بعد إذن سيادته _(مشيرًا إلى الناظر)

-            إرجع فصلك يا يوسف!

-            شفتم حضراتكم ده ولد في غاية الهدوء والأدب، مؤكد في لبس في الموضوع

-            هنشوف...

عاد يوسف إلى فصله والخوف والرعب يسيطران على كل كيانه.

وصل فصله وفتح الباب وتوجه إلى مكانه بدون أي استئذان فبادره الاستاذ:

-            في إيه يا يوسف..؟

-            لم يجب.. مرت دقائق قليلة

-            دق بعدها جرس انتهاء اليوم الدراسي. لملم يوسف أدواته ووضعها في حقيبته وانصرف بسرعة أخذاً طريق العودة.

كان في أثناء سيره يشعر وكأن أحدًا يتبعه فيسرع الخطى حينًا ثم يستدير خلسة ليطمئن ثم يعود فيزيد من سرعته وكما هي خطواته كانت مخاوفه تزداد وتتبلور وتتجسد.. وانتهى إلى أنه لا بد من إخبار والدته بما جرى فقد تشير عليه بما يجب أن يفعله. وتذكر فجأة أن والده في مأمورية ولن يعود إلا الغد. حمد الله  كثيرًا على ذلك وانتابه شعور بالارتياح النسبي فدب  النشاط في قدميه ووجد نفسه يزيد من سرعة خطاه بالقدر الذي تطيقه ساقيه وصل للبيت ووجد نفسه ينادي:

-ماما.. ماما.. إنت فين..؟

-أيوه يا يوسف أنا هنا في الصالة الكبيرة.. في إيه..؟

كانت جالسة في مكانها المفضل وبيدها مفرش صغير تقوم بتطريزه.

وصل إليها وجلس بجوارها وانخرط في بكاء شديد فطوقته بذراعيها..

-مالك يا يوسف.. في إيه..؟

-المباحث بتدور علي..

-بتقول إيه..؟ بتقول إيه..؟ ليه بتدور عليك..؟

شعرت وكأن أحدًا يضغط على أكتافها ويغوص بها في بئر.. استجمعت قواها وبدأت في سؤاله وهو يجيب ولا تعليق منها على إجابته..

-قوم معايا..

سحبته من يده ثم دخلا حجرته وطلبت منه أن يفرغ كل ما في أدراج مكتبه من أوراق ومدونات استبعدت البعض القليل الذي لا يبعث على الشبهات ووضعت الباقي في شنطة قديمة من الجلد أحضرتها بنفسها ثم طلبت منه أن يبقى في حجرته ولا يتبعها.

توجهت أمه إلى الفناء الخلفي "للبيت الثاني" كما كان يطلق عليه، بيت جدته وحيث كانت بعض حجرات الخدمات ومنها حجرة الفرن وطلبت من الخبازة إشعال الفرن ثم رمت بيدها الحقيبة المحتوية على الأوراق ودُست بها ضمن "الوءيد" وما هي إلا لحظات وبدأت النار تلتهم ما قدم إليها..

انبعثت رائحة نفاذة من احتراق الجلد خرجت على أثر انبعاثه الجدة أو "ست الحاجة" كما كان الجميع ينادونها.

-في إيه يا عيشة (الخبازة) انتم بتحموا الفرن بإيه..؟

-ما فيش يا ست الحاجة دي الست زينب هانم أعطتنا شنطة قديمة نحطها في "الوئيد"

-أجيبلكم وئيد تكملوا بيه..؟

-لا يا ست الحاجة عندنا كفاية.

انصرفت الست الحاجة وهي تتعجب وتبرطم بكلمات غير مفهومة

عادت زينب هانم إلى البيت وفي طريق عودتها أمرت الطباخ أن يصرف نظر عن عمل الأرز المعمر الذي كانت قد طلبته منه لوجود "دخنة" في الفرن ربما رائحتها تسئ لمذاقه ثم دخلت على يوسف في حجرته فبادرها:

-عملت إيه في الشنطة..؟

-حرقناها..

 

القاهرة – 2010