يتناول الباحث الأردني هنا مجموعة من أطروحات الكاتب الكيني المرموق نغوجي واثيونغو حول اللغة ودورها في عملية استعمار العقول المعقدة، وفي الحيلولة دون بلورة هوية المستعمَر الثقافية. فاللغة ليست مجرد أداة للتواصل، ولكنها وعاء تكوين الثقافة والهوية معا. ومن هنا فإن محو اللغة لايقل خطرا عن اقتلاع السكان.

ما بعد الكولونيالية واللغة

نغوجي واثيونغو وتصفية استعمار العقل

رامي أبوشهاب

اللغة والبندقية
تشكل اللغة مكونا ثقافيا جوهريا يكاد يكون الأكثر تأثيرا على البنية الحضارية للأمم والشعوب، ومع ذلك فإن لغات كثير من الشعوب والأمم في مخاض عسير بين الحياة والموت والتلاشي، لاسيما في ظل هيمنة بعض لغات الاستعمار على الفضاء الثقافي الكوني، فاللغات الاستعمارية مدعومة بنظام معرفي وثقافي وإعلامي كبير إذ يعد سلاحا قائما على منصة ذات شبهة استعمارية ذات تاريخ طويل. في كتاب الروائي والأديب الكيني نغوجي واثيونغو (تصفية استعمار العقل) محاولة لتحليل هذه الأبعاد العميقة لهيمنة اللغات الاستعمارية على اللغات الأخرى، إذ يتخذ هذا التحليل أبعادا كثيرة تبدأ من البنى السياسية والاقتصادية مرورا بالبنى النفسية وانتهاء بالبنى الاجتماعية والثقافية. في الكتاب الذي ترجمه الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف والصادر عن منشورات المؤسسة الأبحاث العربية عام 1978م محاولة من الأديب الكيني لفكفكة منظومة الاستعمار التي تعمل على مستوى السيطرة على العقل، ومن هذا المنطلق حمل هذه الكتاب مؤشراته الحيوية وتوجهاته ومنطلقاته الهادفة إلى تصفية استعمار العقل، فهذه الممارسة المشبوهة لاستعمار العقل مارستها القوى الاستعمارية الكلاسيكية، ونعني بريطانيا وفرنسا وإسبانيا والبرتغال وغيرها من الدول ذات التاريخ الاستعماري على الكثير من الأراضي التي خضعت لهيمنتها.

على ما يحمله الكتاب من محاور وتوجهات نقدية للتكوين الاستعماري وقيوده على العقل، فإننا نتوجه إلى جزئية من الكتاب تتمثل تحديدا بالممارسات اللغوية الاستعمارية الهادفة إلى تكبيل العقل وتذليله ليكون أكثر تقبلا واستساغته لهيمنة الآخر، وهنا يلجأ الكاتب إلى التكوين الخلفي للإنسان، ونعني البنية البسيطة والتي تعنى بعالم الطفل، وصياغة عالمه في فضاء الآخر الثقافي، فنغوجي واثيونغو يلجأ إلى مقارعة الأساليب والتكنيك المتبع من قبل الآلة الاستعمارية الثقافية وآثارها النفسية الناتجة عن هذه الممارسة لكسر وهتك البنية الثقافية للشعوب المستعمرة، لاسيما الطفل الذي يتعرض لتشكيل ثقافي ممسوخ من خلال الفعل الاستعماري اللغوي.

يربط نغوجي بين الممارسة الاستعمارية العسكرية وتوازيها مع الممارسة الاستعمارية الثقافية أو الادعاء الحضاري الملتبس بالتعليم، يقول نغوجي في كتابه موضحا هذه العلاقة:
«في القارة السوداء، شرع المرء يعرف أن قوتهم الحقيقية لا تكمن إطلاقا من مدافع الصباح الأول، ولكن في ما تلا المدافع. هكذا خلف المدافع كانت المدرسة الجديدة. كان للمدرسة الجديدة طبيعة المدفع والمغنطيس معا. من المدفع أخذت كفاءة السلاح المحارب. لكنها خيرا من المدفع جعلت الغلبة دائمة. المدفع يرغم الجسد ، والمدرسة تدهش الروح» ( نغوجي واثيونغو ص 30)
يتبدى لنا من الفقرة السابقة التضافر بين عاملين من عوامل الممارسة الاستعمارية التي تعمل على خلفية ترابط بنيوي بين المدفع والمدرسة، فالفضاء المكاني والأرض والجسد والإنسان لا يمكن أن تخضع بكاملها دون أن يخضع معها العقل، ولهذا لا تقل ممارسة استعمار العقل خطورة عن ممارسة الضرب بالمدفعية.

يرسم لنا نغوجي تصوراته للعملية التي يتم من خلالها استعمار العقل عبر عدد من الاستراتيجيات مما ينتج عدد من المفارقات الواقعة على العقل الخاضع للاستعمار، ولهذا ينطلق نغوجي من التكوين الإنساني الثقافي الذي يعتمد في أولى خطواته على المكون الطفولي وانغماسه في البيئة المحيطة، ومن هذا المنطلق يحدد لنا نغوجي المفارقات والتشققات الثقافية التي تطال الطفل في البلدان المستعمرة، حين يتعرض لعملية انتهاك لتكوينه اللغوي والثقافي المنسجم تماما مع البيئة المحيطة بكامل أطيافها ابتداء من أسماء الحيوانات، والتعبيرات العفوية، والكلمات والمفردات المعبرة عن المحيط في اللحظات الأولى لاكتشافه لها، وتحديدا في اختبار تجاربه في الحياة ضمن بيئته، والتكوينات المستخدمة للتعبير عن هذه التجارب الأولى التي تسكن في اللاوعي العميق للطفل، لتكون فيما بعد مؤثرا ذي أهمية في رؤيته للحياة والعالم من حوله، ولكن هذه التجربة يتم اقتلاعها وتشويهها وطمسها حين يعمل الاستعمار على فصم العلاقة بين الطفل وبيئته لغويا من خلال استحضار وحشر لغة جديدة في العقل الغض، ونعني عقل الطفل، لتتحول فيما بعد عملية التعبير عن التجربة الأولى للطفل بلغة أخرى غير اللغة التي اختبر من خلالها تجاربه لأول مرة .

إن الحكايات التي يستمع لها الأطفال في الحقول والمزارع عند قطف الشاي أو البن أو الأزهار، وتتخذ من الإنسان أو الحيوانات أو الشخصيات الخرافية شخوصها تعد التشكيل الخيالي الأول للطفل، بكل ما يحيط هذه الحكايات من عوامل أخرى تتخذ من البيئة " الطبيعية" فضائها الخاص، من ريح وأمطار وشمس وروائح، فضلا عن ما يعتري الحكايات التي تسرد للطفل بما تحمله من صراع مع قوى أخرى. هذا السرد الحكائي يضطلع بها رواة شعبيون يتخذون من اللغة المتطابقة مع الواقع أداة للتوصيل كون اللغة هنا وليدة ومنسجمة مع المحيط، ولكن هذا الانسجام يتقوض بفعل اللغة الطارئة ومدراسها عندما يبدأ الانفصام بين اللغة والمحيط، فلم تعد لغة الصباح هي ذاتها لغة المساء، فالطفل يجب أن يذهب إلى المدراس" الكولونيالية" الاستعمارية، وهكذا لم تعد لغة تعليمه هي لغة الحياة التي يعيشها، ولنقرأ ما يقوله نغوجي في هذا السياق:
«لقد وهبتنا اللغة من خلال الصور والرموز، نظرة عن العالم، لكن للغة جمالا خاصا بها، آنذاك كان البيت والحقل مدرستنا قبل الابتدائية. إلا أن الهام لهذه المناقشة هو أن لغة دروسنا المسائية، ولغة جماعتنا القريبة والأوسع، ولغة العمل في الحقول كانت واحدة. ثم ذهبت إلى المدرسة، وهي مدرسة كولونيالية، فتكسر هذا الانسجام. لم تعد لغة تعليمي لغة ثقافتي» (نغوجي / ص 32).
يقدم نغوجي خارطة للممارسة الاستعمارية للعقل من خلال تقديم عدد من الاستراتيجيات التي مارسها الاستعمار على الأرض المستعمرة من المنظور الثقافي بالتضافر مع الممارسة العسكرية، ومن أهم تلك الاستراتيجيات استيلاء النظام الكولونيالي على المدراس التي كانت تدار من قبل الوطنيين، ومن ثم تحويل لغة التعليم من لغة (الكيكويو) إلى اللغة الإنجليزية، فضلا عن تحييد باقي اللغات المحلية الأخرى، فقد بات النظام العقابي جزءا من خطة فرض اللغة الإنجليزية، فالطالب يعاقب بالجلد بالعصا إن استخدم لغته المحلية، في مقابل مكافأة من يستخدم اللغة الإنجليزية. ومن استراتيجيات تحييد اللغات المحلية نظام قبول الجامعات إذ يجب على الطالب أن يتفوق في اللغة الإنجليزية بغض النظر عن تفوقه في باقي المواد، ويعلل نغوجي ما لهذا النظام من مخاطر تتمثل بالقضاء على اللغة المحلية، وما تحمله من إرث ثقافي يتمثل بالأدب الشفهي الذي استبدل بالنصوص الإنجليزية الكلاسيكية لكل من ديكنز، وستيفنسن، وهوبكنز، وبرناد شو، إذن قد تم تغييب الفضاء المحلي بكل ما يحمله من ارتباط بالطفولة، وتجاربها الأولى من رائحة ومسميات وشخوص، فالإنسان بدأ يبتعد شيئا فشيئا عن نفسه، وعن عالمه حيث يقول نغوجي في هذا السياق: «ومن هنا كانت اللغة والأدب يأخذاننا أبعد فأبعد عن أنفسنا، نحو نفوس أخرى، من عالمنا إلى عوالم أخرى» (نغوجي / ص 34).

وظائف اللغة
يشير نغوجي إلى أن اللغة تحمل جانبين، الأول وظيفي يتمثل بالهدف التواصلي، والثاني كونها حاملة ثقافة، فهنالك الكثير من الجموع البشرية التي تستخدم أحيانا لغة ما بهدف التواصل بحكم الوجود الجغرافي، على سبيل المثال وجود بعض العرقيات في المنطقة العربية التي تضطر لاستخدام اللغة العربية بهدف التواصل مع المحيط في حين لغتها الأصلية هي لغة ثقافتها، وهذا تقريبا ما يحصل في بعض الدول الأوروبية التي تستعين باللغة الإنجليزية بهدف التواصل مع المحيط، ونموذجه السويد والدانمارك، إذ توظفان الإنجليزية للتواصل مع المحيط غير الإسكندنافي، في حين تبقى اللغة الإنجليزية لغة تواصل لبريطانيا غير أنها حاملة أيضا لثقافتهم، إن ما يعمل نغوجي على مناقشته هنا الإشارة إلى دور اللغة وتداخل وظيفيتيها الأساسيتين، ونعني التواصل والبعد الثقافي، فاللغة في بعدها التواصلي حين تتموضع في البيئة بهدف الإنتاج الحياتي تنتج أشكالا من التواصل مع المحيط (الإنسان) ومع المحيط (الطبيعة ) وبمرور الزمن تتحول اللغة في تعبيراتها التواصلية إلى تجربة تمثل أنماطا معينة وعادات ومواقف ومعارف تنتقل فيما بعد إلى الجيل اللاحق للتعبير عن ما هو سيء... وما هو جيد، فاللغة تتحول إلى ثقافة تجسد القيم المعنوية والأخلاقية والجمالية حيث يرى ناطقوها وحاملوها أنفسهم من خلالها، فتصبح اللغة شأنها شأن الثقافة مصرف الذاكرة الجمعية لتجربة الإنسان في التاريخ كما يقول نغوجي (ص 36).

في الجزئية السابقة يربط نغوجي بين الهدف من فرض اللغة الكولونيالية والبعد الاقتصادي المتمثل بالرغبة في السيطرة على ثروات الشعوب، وإذا كانت السيطرة على وسائل الإنتاج الهدف الحقيقي إلا أن السيطرة على العالم الذهني يعد هدفا استراتيجيا لأنه بكل بساطة تستطيع من خلاله الهيمنة على الكيفية التي يدرك بها شعب ما نفسه وعلاقته بالعالم، وبناء على ذلك فإن السيطرة الاقتصادية لا يمكن لها أن تكتمل دون الهيمنة على الفضاء الذهني والفكري لشعب ما، فهذه الهيمنة تعني بالضرورة السيطرة على الأدوات التي يعرف بها شعب ما ذاته وعلاقته بالآخرين، ولتحقيق ذلك فهنالك أسلوبان للقيام بذلك، الأول التدمير أو الحطّ من ثقافة شعب بكل ما يحتويه من فنون وديانات وجغرافية وغير ذلك، ومن ثم القيام بإعلاء قيم لغة وثقافة المستعمر الغربي تحديداً، وهكذا ينبثق تكوين ثقافي مركزي بمرجعية غربية استعمارية. ومما لا شك فيه إن الاغتراب الثقافي للطفل يتعزز حين يتم استجلاب وعي مفارق لواقع وتجربته عبر دراسة جوانب ثقافية أخرى للمستعمر من خلال فنونه وآدابه وجغرافيته وتاريخه وموسيقاه، وكلها تقوم على أن أوروبا أو الغرب مركزيه الكون على حد تعبير نغوجي (ص 39)، وهكذا فالعملية عبارة عن عملية تخليق لصور ثقافية في داخل الطفل، ربما تأخذ سنوات كي تمحى، وربما لا ننجح في هذا ؟!

الطفل وفصم البنية الثقافية
إذا كانت اللغة أداة تواصل وثقافة فإن عملية التحويل والهيمنة والإقصاء للغة الأم، وما تحققه هذه العملية من فصم للعلاقة بين البيئة الخاصة بالطفل واستبدالها بمنتج آخر يعمل على تشويه الإدراك الخاص بالأنا، فاللغة الطارئة سواء أكانت منطوقة أو مكتوبة للطفل لا يمكن أن تنجح في بعدها التواصلي كونها ليست نتاج اللغة الحقيقية لحياته، لأنها بكل بساطة قادمة من مكان آخر، فالتكنولوجيا مثلا هي منتجهم وليست منتجنا، ومن هذا المنطلق يبدو التوظيف اللغوي لها حاملا لبذرة الدونية والنقص، وبالتالي فإن إدراك الكلمات لا ينتج من إحساس عاطفي بها، إنما هي طريقة للتعليم الذهني، وبما أن اللغة المفروضة عاجزة تماما عن نفي اللغة الوطنية المنطوقة في المنزل، وتبديدها نهائيا، فإن تحكم اللغة الاستعمارية يتم في الجانب الذهني أي في مجال القراءة والفهم من خلال قناة الكتب الأجنبية فتتحول اللغة إلى أداة لصياغة المفاهيم والفكر في داخل الطفل، وهكذا تتحقق ثلاث علائق بين اللغة والطفل- من منظور نغوجي- وتتمظهر بتشققات تفقد الطفل انسجامه الثقافي ، فهو يستخدم لغة أجنبية كلغة تواصل في المدرسة، وهي اللغة ذاتها اللغة المكتوبة التي تعمل على صياغة تركيبه الفكري، في حين يستخدم لغته الأصلية (المنطوقة) في منزله، وهكذا يتولد عالم الطفل المتشظي بين عالم تعليمه المكتوب، وبين محيطه وبيئته أي عالمه المباشر بين العائلة والجماعة، مما يولد إحساسا بالتشويش والاغتراب، ولعل هنالك من حسم استخدام اللغة في المنزل حيث يتم استخدام اللغة الأجنبية، وهكذا يكون التكوين الثقافي الوطني للطفل قد تهشم ...إلى غير رجعة.