يتناول الباحث المصري هنا أحدث دواوين الشاعر العماني كاشفا عن طبيعة نصوصه المتشظّية، كحمم "اللافا" البركانية التي تهبّ رياحها في كلّ اتجاه، وتشعّ مجازاتها عبر أكثر من مستوى دلالي ورمزي، معلنة عن وحشة الإنسان المعاصر، وساعية لخلق تناظراتها الخاصة بين بنية المدينة النفطية الحديثة، وبنية قصيدة النثر ذاتها.

المدينة بوصفها قصيدة نثر

قراءة في ديوان «حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة» لسيف الرحبي

محمد الشحات

-1-

بدأ الشاعر الفرنسي شارل بودلير (1821-1867)، أحد أبرز شعراء القرن التاسع عشر وأحد رموز الحداثة الشعرية، كتابة قصائده النثرية عام 1857 عقب نشر ديوانه (أزهار الشر)، حيث كان مدفوعا برغبة عارمة في الإمساك بشكل شعري يمكّنه من استيعاب الكثير من تناقضات الحياة اليومية في المدن الكبرى حتى يقتنص الجمال من الفوضى. وعندئذ، وجد بودلير ضالّته فيما كتبه ألوزيوس بيرتيران من بالادات نثرية مستوحاة من ترجمات البالادات الأسكتلندية والألمانية إلي الفرنسية. والبالاد نص شعري يشبه الموَّال القصصي في العربية، وهو الشكل الذي استوحاه وردزورث وكوليريدج في ثورتهما علي جمود الكلاسيكية. لم يُنشر ديوان "سأم باريس" في حياة بودلير، كما أن كلا من غوستاف لانسون وسانت بيف لم يتحمسا له، رغم أنه الديوان الذي أثَّر تأثيرا عارما في الأجيال اللاحقة. كان بودلير يري أن الحياة الباريسية غنية بالموضوعات الشعرية الرائعة، وهي القصائد التي أضيفت إلي (أزهار الشر) في طبعته الثانية عام 1861 تحت عنوان "لوحات باريسية". يقول بودلير في رسالته إلى صديقه أرسين هوساي (رئيس تحرير صحيفة "لا بريس" التي نشرت القصائد العشرين الأولى من هذا الديوان):«

«أرسل إليك عملا صغيرا ليس بمقدور المرء أن يقول عنه، دون ظلم، إنه لا ذنَب له ولا رأس، بما أن له على العكس من هذا رأسا وذنَبا في الوقت نفسه، بالتناوب والتبادل (...). من منا لم يحلم في أيام طموحه بمعجزة نثر شعري موسيقي بلا إيقاع وبلا قافية، أكثر مرونة وأشد تفاوتا في اللفظ ليتلاءم مع الحركات الغنائية للروح، وتموجات الأحلام وقفزات الوعي؟ فمن معايشة المدن الكبرى خصوصا، ومن تشابك علاقاتها التي لا تُحصَى وُلِد هذا المثال المؤرّق، وأنت نفسك يا صديقي، ألم تحاول أن تترجم الصرخات الحادة لصانع الزجاج في أغنية، وأن تعبّر في نثر غنائي عن كل الإيحاءات المحزنة التي ترسلها هذه الصرخة إلى حجرة السقف عبر الضباب بالغ الارتفاع في الشارع" (شارل بودلير، سأم باريس».

في هذا السياق المديني، يمكن قراءة نصوص سيف الرحبي الذي يعدّ واحدا من الشعراء العمانيين المعاصرين الذين تفتَّح وعيهم الفنّي على الكتابة الشعرية في حقبة السبعينيات، البينية، بكل ما يحمله اللفظ من معنى. لقد وقع شعراء هذا العِقد وكتّابه بين مطرقة الستينيات المتخمة بمقولاتها الكبرى عن التحرير والتنوير والقومية العربية وانطلاقة الثمانينيات والتسعينيات نحو بريق الحداثة المغوية. لقد تشكّلت جماليات قصيدة الرحبي في ضوء حقبة السبعينيات، بكل ما شهدته تلك الفترة من تحولات أيديولوجية وسياسية طالت مفاهيم الفن والثقافة والسياسة في العالم العربي، فانفتح وعي هذا الجيل على إبداعات الآخر الشعرية والروائية والفكرية والفلسفية قراءةً وترجمةً واقتباسًا، وأدرك الرحبي ورفقاؤه (على سبيل المثال من مصر: حلمي سالم وعبد المنعم رمضان ورفعت سلام وحسن طلب .. وغيرهم) أنهم بصدد زمن مختلف تلاشت فيه المقولات الكبرى والسرديّات الجليلة التي راجت في فترة الستينيات؛ الأمر الذي ساهم في إثراء الجانب الحيوي في لعبة الكتابة المعاصرة عند شعراء هذا الجيل بصفة عامة وفي بنية القصيدة عند سيف الرحبي بصفة خاصة، حيث أدركوا أن أزمة تلقّي الكتابة الشعرية الجديدة تكمن في المغايرة لا القطيعة، التجدّد "الفينيقي" لا التكرار والتناسخ الذي يشبه أرجل "الهيرا" المتكاثرة التي كلما فقدت رجلا نبتت أخرى شبيهة بها تماما. وفي ديوانه الجديد «حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة»، سوف يحفر سيف الرحبي في أرضية الشعرية العربية الجديدة مرة أخرى، ويقف على تخوم جماليات مغايرة لقصيدة النثر من خلال عدد من الثيمات أو الموتيفات المتكررة التي يمكن أن نرصدها في ثنايا ديوانه، وإن كان البعض يردّد، مسبقا، أن رؤية الرحبي الشعرية لم تتجاوز نصوصه السابقة التي تنطوي على رؤية وجودية واضحة . وهو أمر في حاجة إلى دراسة متأنّية. وبعيدا عن هذه الأحكام المسبقة التي قد لا تستند إلى قراءة تحليلية واعية، ستحاول هذه القراءة الانفتاح على نصوص مجموعته الأخيرة ومحاورتها نقديا عبر أكثر من مستوى.

-2-

يضم كتاب «حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة» (الصادر عن كتاب دبي الثقافية، نوفمبر 2009م) نصوصا متنوعة عن الذات والمكان والإنسان المعاصر الذي يحتدم بأسئلة منفتحة على الوجود، أسئلة تنـزّ صراخا وأنينا في وجه الخراب والعبث الكوني الذي يرسم بورتريها هائلا لتراجيديا الإنسان المعاصر. يتكون الكتاب من ثلاث عشرة قصيدة هي في الأساس نصوص متنوعة نُشِر أغلبها من قبل إما تحت عنوان نصوص أو مقالات، كما أن بعضها مدرج في مدونة الشاعر تحت أسماء مختلفة أو كأجزاء من نصوص أخرى. بداية، ينطوي الديوان/ الكتاب على رؤئ شعرية متباينة، متناغمة متنافرة في آن، ودفقات، أو نفثات، تمزج الشعري بالنثري، والدرامي بالملحمي، والتصوف بالعدمية، وتؤكد على فكرة الكتابة في إطلاقها بعيدا عن قيود النوع أو الجنس الأدبي، على الرغم من كونها كتابة تخلص في نهاية المطاف لجماليات الشعرية العربية الجديدة، أو جماليات قصيدة النثر المعاصرة التي لا تعتدّ بأية قيود أو حدود للتجنيس. إنها قصيدة يمكن قراءتها عبر مداخل وتقنيات سردية ودرامية متعددة. أما مركز الثقل الدلالي أو بؤرة المعنى أو نواة المعرفة التي ينتجها الديوان/ الكتاب فهو اشتغال نصوصه في أغلبها على تفجير الأزمة الوجودية العميقة التي يمر بها الشاعر تجاه عالمه المعاصر، المتشظّي، العدمي، المحبط، الغارق في محيط من الفوضى والعقم الأخلاقي والقبح الممؤسس. لكن الجامع لكل هذه الرؤى المتناثرة أو الشذرات أو النفثات أو التجليات، بالمعاني الصوفية أو النبوية أو الشيطانية، هو صوت المتكلم الذي يكتسب وجوده بعدا متعاليا (ترانسندنتاليا) على كل هذا الخراب السرمدي؛ لكنه التعالي غير المفارق للحس الجمعي الملتصق بالفجيعة ومرارة الخيبة وإجهاضات الحلم. هكذا كان إهداء الكتاب:

«إلى/ كل هذه الذرى/ ولا أحد/ تركله رغبة الصعود إلى الجبل/ إلى الجبال الساجية/ في ليلها السرمدي» (ص 11).

تبدو ثيمة الجبل ثيمة مركزية بالنسبة إلى كل من يتأمل عالم الرحبي على امتداد قصائده وتنوع نصوصه ومقالاته. إن الجبل، في مخيلة الشاعر، رمزٌ لاجتماع الأضداد: الوحشة والأنس، المقدّس والمدنّس، النور والظلام، الصعود والهبوط، البعث والقيامة، الموت والحشر، القطيعة والوصل، الفقد والنوال .. إلخ. ولا تنسحب هذه النتيجة بالضرورة على قصائد المجموعة الأخيرة التي نحن بصدد تحليلها الآن وهنا، في كتابه الأخير «حيث السحرة»؛ لأن الواقع النصي لا يعكس حضورا كمّيا لدال "الجبل"، بل على العكس من ذلك ثمة غياب للدالّ في مقابل حضرة المدول إلا في بعض المواضع (كما في قصيدته التي تحمل عنوان "الجداول تسرد رحلتها الجبلية"). ثمة استغناء عن الفعل واستدعاء للتجليات، ثمة توارٍ للحدث وبروز للـ"الأثر"، حيث يقول:

«ينتحبُ الجبلُ من هول الفقد/ وربما من أشياء/ لا يدركها وعي البشر العابرين./ بيني وبينك/ أيتها الجبال الخوالد/ ميثاق ولادة وموت». (لاجئة من سطوة الهاجرة، ص59)

-3-

تنهض شعرية القصيدة، في مجموعة سيف الرحبي «حيث السحرة..»،  على عدد من الاستراتيجيات التي تناوش جماليات الكتابة الشعرية الجديدة أو جماليات قصيدة النثر التي تنأى بنفسها عن حدود التجنيس وقيود الأنواع الأدبية، لكنها في الوقت ذاته تسعى بقوة إلى أن تتحرك في فضاء قيود "النوع الشعري" وتقاليده الأدبية التي هي تقاليد جوهرية لا تتصل بشكل الشعر ولا بإيقاعه بل بجوهر الكتابة الشعرية ذاتها. إن قصيدة الرحبي تسعى إلى صياغة مفهوم "المدينة" أو "مدينة الحداثة"، ذلك المفهوم الذي يوازي، في مراوغته، مفهوم القصيدة الحديثة ذاته. فالمدينة عند الرحبي مدينة متخيلة لا واقعية، ترتسم صورتها في مخيلته الكولاجية، السينمائية، التي تنهل من صور مدن عربية واقعية شتّى كالقاهرة وبيروت ومسقط وصنعاء والبصرة، وغيرها، لترسم معالم مدينة افتراضية تتناثر مفرداتها ومعالمها وحدودها في ثنايا الكتاب. لكن حضور المدينة الأكبر يكمن في قصيدته "محاولة رسم لوحة سريعة"، حيث يقول:

«كيف تستطيع الكتابة عن مدينة/ أنتَ الذي توهمتَ الكتابة كثيرا/ كيف؟/ عن أيامها الخصيبةِ/ وسنينها العجاف/ عن بشرها السارحين في برية الله/ طلعةَ كل صباح/ مندفعين إلى أحلام الجنة/ وطفولة الجحيم». (ص71) إن ما يجمع بين مدينة الرحبي ومدينة الحداثة هي صفة الشمولية (الكوزموبوليتانية)، حيث المدينة التي تجمع بين المتناقضات دون تنافر؛ المقدّس والمدنّس، النيّئ والمطبوخ، الشعري (الحوليّ، السامي) والنثري (اليومي، المبتذل)، .. إلخ. إنها مدينة منقرضة كمدن الأفلام الغربية "الويسترن" التي تدور في عالم متخيل، افتراضي، من صنع برامج الميديا وألعاب الحاسوب وجنون الفيديو جيم وغواية البلاي ستيشن:

«المدينة على حالها/ بمعراج ضجيجها القاني/ سُحب الجراد المتفحم في الهواء/ عمّال التراحيل/ ونداء الباعة الموتى/ لا شيء يدعوك إلى الخروج/ غير هديل اليمام المنطفئ/ وتفقّد أركان المزبلة/ المدينة على حالها/ بصخب جرذانها المرحة/ وصفير القطارات المندفعة نحو الجحيم/ وأنت على سريرك/ أو على أسفلت الأرض العارية/ تحاول أن ترسم صورة لبشر متفحّمين في الهواء/ في مدينة منقرضة». (ص74-75)

هل يمكن القول إن قصيدة النثر تعتمد المبدأ نفسه الذي اعتمدته الفلسفة من "وقاحة"؟ دون أن نقصد بالوقاحة هنا أي شكل من أشكال الأحكام القيمية أو الأخلاقية، بل الجرأة في وضع كل شيء موضع المساءلة حدّ التطرف. ربما كان ذلك كذلك؛ لأنه يذكّرنا بما قاله محمد عابد الجابري عن الفلسفة والمدينة في كتابه (قضايا الفكر المعاصر): «فالفلسفة تفرض القول بأن إطلاق سراحها يقتضي تحمّل خطابها حول المدينة، فهي شرط وجودها والغاية التي تجري إليها في آن واحد. كما أن صراحة الفلسفة تقتضي القول إن المجتمع المدني لا معنى له بدون المدينة. والمدينة بدون الفلسفة مجرد تجمّع سكاني لا روح له... الفلسفة مزعجة، ومصدر الإزعاج فيها أنها تبدأ بالسؤال» (ص9).

ففي الوقت الذي تنهض مدينة الجابري على قيم التسامح والعدل والديمقراطية التي هي أسس نهضة المجتمع المدني، فإن قصيدة النثر أو قصيدة الحداثة - وهي ابنة المدينة أيضا، برحابتها، وتنوّعها المخيف، وسماحة قاطنيها، وتباينهم في اللسان واللون والجنس والمعتقد - تلجأ إلى "الوقاحة الفلسفية"، أقصد إلى الجرأة في طرح الأسئلة الكبرى التي تدفع بالكتابة الشعرية إلى أن تكون قلقا إنسانيا وأرقا وجوديا، جنبا إلى جنب تفجير أو تثوير مفهوم "الشعرية" الذي يهدف إلى القبض على DNA الجنين الشعري؛ أقصد إلى الحمض النووي الشعري الذي يكمن بداخل كل قصيدة حقيقية، ويحتوي على جميع المعلومات الجينية التي تصف التطور البيولوجي للكائن الشعري، وكذلك معظم الفيروسات (الانحرافات الجمالية)، كما أنه يحوي المعلومات الوراثية (الخاصة بتقاليد النوع الأدبي) اللازمة لأداء الوظائف الحيوية والجمالية والثقافية لكل كائن شعري، والاشتغال عليها بأعلى طاقة ممكنة دون إجهاض.

-4-

تشتغل قصيدة الرحبي على عدد من الأفكار والمقولات الفلسفية التي تجمع، أو تجاور، ما بين الغربة (المكانية) والاغتراب (الوجودي)، وتناسخ الأرواح أو تناسلها أو حلولها، فضلا عن التأثر الواضح بالفلسفة الوجودية عند كل من أبي حيان التوحيدي وكيركجارد وهيدجر وبول تيلليش وغيرهم، في تجاوب لطيف لا يعتريه نتوء. يقول الرحبي مخاطبا النمر العربي الذي يسكن جبال سمحان بظفار:

«قوس قزح ناحل يمشي على الأرض/ موجة رقطاء تغمر الأزمنة/ قبل ثمانية آلاف عام قبل الميلاد/ كنتَ تسرح في الأكمات والغابات الخضراء/ الشديدة الخضرة/ حتى دارت الطبيعة دورتها الكبرى/ وضربها زلزال الجفاف/ انقرضت سلالتك القطية/ انقرض الأسد والفهد الآسيوي/ وبقيت وحيدا تائها في الصحراء/ كأنك من اختاره القدر لمهمة الوجود الشاقة/ وبإرادة لا ينقصها الشتات/ بقيت رفيقا لليباب والعدم/ حتى يومنا هذا./ ... .../ يا مَنْ تموت باكرا/ بعمر لا يتجاوز العشرين عاما/ أي لغز في حياتك المحصنة وموتك السريع». (قوس قزح يمشي على الأرض، ص39-40)

الأمر نفسه تقريبا نراه في قصيدته "سلاحف رأس الحد"، حيث الرغبة الجامحة في تشييد مملكة كبرى لأصل الأنواع دون فارق بين إنسان أو حيوان أو نبات. لذا، ينطوي الكتاب على ثراء دلالي ولفظي، بحيث يتضمن حقولا دلالية متنوعة تنتمي إلى عالم الفلك تارة، حيث نجد ولعا خاصا بالمجرّات والأجرام والكواكب والثقوب السوداء التي يتم توظيفها شعريا للدلالة على الطاقة السحرية القصوى التي قد يمارسها البشر. وتارة أخرى، نراه يوظف عوالم الحيوان والحشرات والزواحف ليضيفها إلى مملكة القصيدة، كالنسر والأفعى والحصان والأبقار والغزلان والجمال والذباب والكبش واليمام والعصافير والنمر والصقر والوعول والذئاب والغراب والأسد والفهد والسلاحف والقطا والحدأة والخفاش ومالك الحزين والماعز والجراد والديناصورات .. إلخ. إن استدعاء هذه العوالم إلى فضاء القصيدة وأنسنتها شعريا ومحاورتها يحمل دلالات الإمتاع والمؤانسة بالنسبة إلى كل من الشاعر والقارئ على السواء؛ الأمر الذي يتجاوب وببيت الأعشى الهمداني – الذي ينسبه البعض إلى تأبّط شرّا – حيث يقول فيه:

عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ             عوى وصوّت إنسان فكدت أطير

-5-

تعمل قصيدة الرحبي على تناوب الضمائر السردية، بحيث تشتغل على الانتقالات الحرّة ما بين المتكلم والمخاطب والغائب. لذا، تتباين مستويات الشعرية في القصيدة ما بين الغنائية والدرامية والملحمية، أو لنقل ما بين غنائية الشعر الذاتي ودرامية المسرح وملحمية السرد. فقصيدة "عزلة الخليل الأزدي" أنموذج دال على توظيف الطاقة الحوارية الكامنة في ضمير المخاطب. ونصوص "قمر الهضاب" و"الأب في قبره ينام" و"الأم" نماذج دالة على توظيف ضميري المتكلم والغائب في تفجير المنطقة البينية بين الشعري والنثري، أو بين الغنائي والملحمي بلغة أرسطوطاليس، حيث يمتزج الشعري بالسيرذاتي، أو الشعر بالتاريخ الذاتي أو الشخصي. لكنه الشعري الذي يقارب الفلسفة في تناولها ويبتعد عن التاريخ في التصاقه بالوقائع والأحداث والتفصيلات والإحالات. يقول أرسطو:

«الشعر أقرب إلى الفلسفة وأسمى مرتبةً من التاريخ؛ لأن الشعر أميل إلى قول الكليات على حين أن التاريخ أميل إلى قول الجزئيات» (أرسطوطاليس، فن الشعر، ترجمة شكري عياد، ص 64). لذا، تنحو بعض نصوص الرحبي نحو التعبير عن موقفها من الضجر باللغة المعجمية التي تعجز عن توصيف الوضعية العربية الراهنة؛ الأمر الذي يشتغل على الفكرة ذاتها الكامنة في عبارة النفّري الشهيرة "كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة":

«العبارة تختنق/ اللغة عقيم/ الضفادع ترسل نداء استغاثة/ في ليل العالم/ البهيم/ والمدن غارت في مواقعها/ مرتشفة لعاب كأسها الأخير». (لاجئة من سطوة الهاجرة، ص66-67)

ويقول أيضا واصفا بلاد النفط، أو الربع الخالي، في أكثر من موضع:

«نعم هذه هي البلاد/ هذا هو الوطن العربي التائه/ بين خرائط ومسافات./ أي لعنة مخبأة بين ضلوعنا/ أي صرخة يتسلقها جوعى/ ومقاتلون/ في حروب عبثية؟/ أي كوكب يتداعى في الرأس/ بمثل هذا العتو والانهيار؟/ أي قطار مندفع في براكين/ الدم/ تشيعه النظرات الوجلة/ ليتلاشى في هباء الدخان». (الجداول تسرد رحلتها الجبلية، ص100-101)

إن تضافر الغنائي والدرامي والملحمي يتجسّد، بكامل عنفوانه، في قصيدته المحورية التي استعارها الشاعر عنوانا لكتابه (حيث السحرة ينادون بعضهم بأسماء مستعارة)، ذلك التضافر الذي يتخذ من توزيع الأسطر على بياض الصفحات مساحة قصوى من الحرية الجمالية والبصرية لتتراص الجمل والعبارات والصور في توزيعات شعرية الشكل وسردية النفس وملحمية الصراع المتوتر ما بين المتكلم والمخاطب والغائب، لترسم بورتريها للعربي التائه في بلاد النفط، المنغمس في ثقافة البترودولار:

«حروب واضحة/ وقتلى في مجد الظهيرة/ ينادونني باسمي/ أن أخلع وردة اسمك/ فأنت على أبواب الربع الخالي». (حيث السحرة، ص 83)

في مثل هذا الفضاء الممتد للجزيرة العربية، متعاقبة التحولات، وباعتبارها مرتعا لسماسرة العالم الذين أتوا من كل صوب وحدب لامتصاص ضرع الأرض وما خلّفته عظام حيوانات بائدة، لن يكون الشاعر نبيا و«لا هو أوتي رأس الحكمة»، كما تقول القصيدة، بل هو شبيه بابن نوح، الباحث عن جبل يعصمه من طوفان التحديث المفزع، اللاهث وراء ناطحات السحاب والأبنية المسلحة وأسطح المباني الملطخة بأطباق التلفزة وغابة العيون المحدقة في الفراغ. لكن الرؤية التي تنطوي عليها نصوص الرحبي، في مثل هذه الحالة، هي الرؤية العدمية ذاتها التي قد تجد بذورها في نصوص سابقة، لكنها العدمية الممتزجة بمسحة تصوفية أولا ورؤيا نبوئية ثانيا ولمسة واقعية مادية ثالثا، في محاولة رهيفة لتجاوز رؤى شعرية سابقة جعلت كتاب الرحبي الأخير "حيث السحرة" يستبطن في قرارة القرار منه النبوءة الإليوتية في قصيدة الشاعر الإنجليزي القديمة "الأرض الخراب" أو "الأرض اليباب". يقول في قصيدته الأخيرة:

«الشاعر المحكوم عليه بالنفي والإعدام/ والمرأة المحكومة بالعطاء والحب/ كلاهما/ قطرة مطر في ربيع الخراب». (الجداول..، ص107)

لعل قصيدة الرحبي، بتغيّراتها وانحرافاتها وانكساراتها التي يعكسها أغلب نصوص الكتاب، تشبه حركة الأمواج في تقلّبها، والبحر في غدره ما بين مدّ وجزر، إقدام وإحجام، بحيث يمكن وصفها بأنها قصيدة غدّارة، دنيوية؛ لأنها لن تفي بما تعد، في حين أنها قد تمنح بعض العازفين عنها ما لم يطلبوه. في قصيدته بعض من أنفاس روحانية وإشارات إلهية وغربة وجودية على طريقة أبي حيان التوحيدي وكيركجارد، كما سبق أن أشرنا. بها بعض من تأملات وكثير من يوميات ونتف من مذكرات وركام من مرويّات الأسلاف وهذيانات الأوّلين. بها مديح للرؤيا الاستبصارية واستهجان للغنائية العمياء. بها تأريخ للذات وتجاهل للتاريخ الرسمي والمدوّن. بها انحراف عن عمود اللغة الشعرية العليا، بمفهوم جون كوين؛ أقصد إلى ابتعاده عن اللغة ذات البنية مسبقة التخطيط التي تحبك الأنساق الصغرى والكبرى بدقّة حائك خبير. بها نزوعات شتّى نحو سردية مغايرة تسعى إلى اكتمال تفرّد كل نص بذاته، وفي ذاته، واكتفائه بكينونته المستقلة "الآدمية" (الواحدية) سواء وقف منفردا في أرض إليوتية خراب أو على حافة برزخ قيامي أو جاوره أقران وأنداد آخرون فيما يشبه شجرة العائلة المقدّسة/ الديوان. هكذا، يمكن وصف نصوص الرحبي، في هذه المجموعة، بأنها نصوص متشظّية، كحمم "اللافا" البركانية التي تهبّ رياحها في كلّ اتجاه، وتشعّ مجازاتها عبر أكثر من مستوى دلالي ورمزي، معلنة عن وحشة الإنسان المعاصر الذي يحيا زمنا أبديا موحشا، بحيث يصبح الواقع والتاريخ مادية شعرية، سردية، ملحمية، تتواتر على ألسنة الرواة من كهّان وعرّافين ومتنبّئين وسحرة اعتادوا الطيران على هيئة حدأةٍ أو خفّاش يترنّح بين الصخور، مثلما اعتادوا أن ينادوا بعضهم بعضا بأسماء مستعارة.

 

ناقد وأكاديمي مصري،

جامعة نزوى، سلطنة عمان