يراجع الناقد المغربي أهم الأفكار التي بلورها كتاب "تحليل النص السردي" تقنيات ومفاهيم، بما ينطوي عليه من مفاهيم أساسية كبرى والتي انبنى عليها علم السرد والنقد الأدبي المنبثق عنه، وهذه المفاهيم منتقاة من أهم المراجع الرائجة في الساحة النقدية مما تداوله النقاد العرب والغربيون وأشاعوه بدرجات متفاوتة في الوضوح والدقة والصرامة والملاءمة العلمية.

المفاهيم النقدية والوعي المنهجي

عبد اللطيف الزكري

تقديم:

عرفنا في نقدنا العربي المعاصر"علم السرديات"-narratologie- منذ الستينيات، وأغلب ما تم تداوله في هذا المضمار، كان وافدا إلينا من النقد الفرنسي، البنيوي خاصة، حتى ازدحمت النقود السردية وتدافعت مع بعضها البعض في عراك ومناوشة وجدال جعلت أكثر المفاهيم السردية تداولا ملفوفة بغلالة من الغموض، وكأن النقد الأدبي الصحيح هو الذي يطغى عليه الغموض حتى ليجهد القارئ ويستفزه ويستثيره، لينفض منه يديه في نهاية المطاف، ولقد أومأ الدكتور محمد بوعزة إلى هذه الوضعية في مقدمة الكتاب-الذي نتناوله بهذا التقديم-فاقتبس من روجر هينكل قوله في كتاب (قراءة الرواية): [ومن ناحية أخرى يبدو النقد الأدبي-بالنسبة لكثير من الناس-عملية ذهنية صعبة وغامضة لا يمكن-فيما يعتقدون-أن يفلحوا في النهوض بها.] (ص9في قراءة الرواية وفي كتاب محمد بوعزة). ولعله لهذا السبب، قام الناقد الدكتور محمد بوعزة بتأليف هذا الكتاب حول تحليل النص السردي لإعادة صياغة المفاهيم النقدية بوعي منهجي صارم وواضح، ينحو إلى الدقة والبساطة واللين العلمي في تحديد المفهوم وصوغه وتظهيره بما يجعله في ذهن المتلقي محفورا كالنقوش في الألواح والحجارة القديمة. فما هي أهم المفاهيم النقدية الثاوية في تضاعيف كتاب (تحليل النص السردي) وما الوعي المنهجي الذي يوجهها ويحكمها؟

أولا:المفاهيم النقدية:

ينطوي كتاب الدكتور محمد بوعزة [تحليل النص السردي] على المفاهيم الأساس الكبرى التي انبنى عليها علم السرد والنقد الأدبي المنبثق عنه، وهذ المفاهيم منتقاة من أهم المراجع الرائجة في الساحة النقدية مما تداوله النقاد العرب والغربيون وأشاعوه بدرجات متفاوتة في الوضوح والدقة والصرامة والملاءمة العلمية، وهو يعبر عن ذلك بقوله:[لذلك كان هدف هذا الكتاب وسط ركام المراجع النظرية المتداخلة هو تلبة حاجة القارئ إلى مرجع عملي في تحليل النص السردي، يكون بمثابة دليل يستجيب لشروط تحليل النص السردي، وفي نفس الوقت يقدم له معرفة منهجية وظيفية بأهم المفاهيم والتقنيات الأساسية في تحليل النص السردي.] [ص10]. إن هذا الهدف المعلن عنه من لدن الكاتب في المقدمة يجده القارئ في فصول الكتاب السبعة التي تشكل مدارمعالجة المفاهيم النقدية الكبرى، وكون الكتاب دليلا مرجعيا في تحليل النص السردي، جعله يبني المفاهيم النقدية الكبرى بناء دقيقا لينا بما تفيده الليونة من يسر في التعريف والتحديد ودقة وإحاطة شاملة في هذا التعريف وهذا التحديد، ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار العناوين التي تحملها فصول الكتاب السبعة هي المفاهيم المفاتيح السبعة لتحليل النص السردي وهي:

أولا: مفهوم الرواية: النظرية والتكون.

ثانيا: مفهوم دينامية الشكل الروائي.

ثالثا: مفهوم بنية الشخصيات.

رابعا: مفهوم الرؤية السردية.

خامسا: مفهوم بنية الزمن.

سادسا: مفهوم بنية المكان.

سابعا: مفهوم صيغ الحكي.

إن هذه المفاهيم السبعة الكبرى تتحدر منها مفاهيم أخرى أساسية، تزيد في بلورتها وتوضيحها وإضفاء الوظيفية والإجرائية عليها، فإذا أخذنا، مثلا، مفهوم بنية الشخصيات وجدناه يتفرع إلى مفاهيم توضيحية وظيفية ستة هي:

1)    مفهوم الشخصية

2)    مظاهر الشخصية

3)    أشكال التقديم

4)    تصنيف الشخصيات

5)    العلاقات

6)    العوامل.

ولا شك أن المتلقي يتفق معي على أن هذا التفريع للمفهوم الأكبر ضروري نقديا ضرورة تشكيل المفهوم وصوغ حده والكشف عن كيفية اشتغاله في النص السردي. بل إن المفاهيم الكبرى السبعة، نفسها، تترابط ترابطا كليا، بالتحام الأجزاء _المفاهيم بعضها ببعض.

يبدأ الناقد الدكتور محمد بوعزة الفصل الثالث من كتابه بتحديد مفهوم الشخصية [الذي جعلناه مثالا على كيفية بناء المفهوم لدى الناقد على غرار كل المفاهيم الأخرى]، يقول: [يمثل مفهوم الشخصية عنصرا محوريا في كل سرد، بحيث لا يمكن تصور رواية بدون شخصيات][ص39] وليدعم تعريفه هذا يتكئ على الناقد روجر. ب. هينكل في كتابه قراءة الرواية، فيردف التحليل الأولي السابق لمفهوم الشخصية، يقول هينكل: [ومن ثم كان التشخيص هو محور التجربة الروائية][ص39] لكن هذا التحديد لا يتناسى التعريفات الأخرى للشخصية التي قد لا تكون آدمية فقط بل وحتى حيوانا أو جمادا أو فكرة مجردة. نراه ينتهي في تحديد مفهوم الشخصية إلى العنصر المفهوم الموضح الفرعي السادس لمفهوم الشخصية، وهو [العوامل] وهو المفهوم المعروف عند غريماس في السيميائيات السردية.

إنني وأنا في مقام هذا العرض لكتاب الدكتور محمد بوعزة أقول بأن طريقته في بناء المفاهيم النقدية السردية، قد اتسم بخصائص علمية، أهمها:

1)    الدقة

2)    الوضوح

3)    الليونة

4)    اليسر في التوصيل النقدي

5)    الملاءمة.  

ولعلها خصائص علمية تكفي صاحبها فخرا وعلما أنه استوفى ما وعد به في مقدمة الكتاب استيفاء كاملا ينم على الإخلاص للعلم وقارئ هذا العلم.

ثانيا:الوعي المنهجي:

في مقدمة الكتاب إياها أعلن الدكتور محمد بوعزة عن وعيه المنهجي الصريح بما ينجزه في كابه يقول:[إضافة إلى إشكال المفاهيم، اعتنى الكتاب بإشكال قراءة النص السردي لما تبين له من أن قراءة النص السردي ما زالت تهيمن عليها القراءة المدرسية التقليدية والانطباعية، وهي قراءة تستند إلى الحدس أكثر مما تعتمد على استراتيجية منهجية مضبوطة المقاييس واضحة المعالم. لذلك توخى الكتاب في هذا المستوى صياغة مقترح لتحليل النص السردي، بتقديم إحاطة مركزة بالاتجاهات المعاصرة في مقاربة النص السردي وبنياته الأساسية، الشخصيات، الرؤية السردية، الزمن، المكان، صيغ الحكي. [ولهذا الغرض اتخذ الكتاب منحى بيداغوجيا مزدوجا:

1)    التقديم المركز لأهم نظريات وتقنيات تحليل النص السردي

2)    تقديم مدونة أمثلة وتطبيقات، وبذلك حرص على الجمع بين برغماتية التحليل ومتعة المعرفة النقدية لتحفيز القارئ على ممارسة قراءة منهجية للنص السردي] [ص11_12] فالوعي بالمنهج ماثل بوضوح في هذه القولة النقدية المستفيضة التي اجتزأناها من مقدمة الكتاب، وهي تشير بوضوح إلى الوعي بالمنهج_الذي لا يقتصر على ما هو نظري، بل يتعداه إلى الممارسة_التي هي المحك في تطويع المنهج، وفي جعله مألوفا ميسورا، يتسلح به القارئ ليغوص في عالم النص وفي مجاهيله ودروبه وكل ما يشكل بنيته العامة. وبالتمعن في كتاب الدكتور محمد بوعزة نجده يلتزم بالقولة النقدية الواردة في المقدمة والمشار إليها سابقا، فهو عادة ما يبدأ بتحديد المفهوم[الأكبر أو ما يتفرع عنه من مفاهيم صغرى] ثم يقفو ذلك بما يسميه [التظهير] أي الانتقال من التعريف النظري إلى الممارسة النقدية على متن سردي ما [أديب لطه حسين مثلا]. واللافت للنظر أن التظهير يقوم بوظيفة التمثيل والترسيخ، أي الإتيان بمثال نصي يطبق عليه المفهوم حتى يترسخ في ذهن المتلقي ويتكشف له بوضوح. ولا ينجز كل هذا إلا ب[تقديم معرفة مركزة بأنماط مقاربة النص السردي وبنياته الأساسية(السرديات البنيوية، السيميائيات السردية، الشعرية، نظرية التلفظ، المتخيل)][ص10] وعلى الرغم من تعدد المرجعيات النقدية التي يستلهم منها الناقد محمد بوعزة مفاهيمه النقدية، فإنه استطاع أن يؤالف بينها إيلافا منسجما متناغما يحقق لها في نهاية المطاف، الكفاءة المنهجية التوصيلية. إن هذا الوعي المنهجي كان هدف كبار النقاد في السرديات، فهم عادة ما كانوا يستمدون مفاهيمهم من النصوص السردية ذاتها ويستقون منها أسماء هذه المفاهيم، كما فعل تودوروف في كتابه (مقدمة للأدب العجائبي) وأيضا جيرار جنيت في (صور3) عند تعامله مع نص روائي واحد هو (البحث عن الزمن الضائع لمارسيل بروست) لكن هذه الطريقة قد تتوه بالقارئ إذا لم يكن على اضطلاع بتلك النصوص في مصادرها الأصلية الكاملة.

إن الناقد محمد بوعزة بانتهاجه طريقة (التظهير) قد خفف على القارئ معاناة العودة إلى النصوص الأصلية الكاملة، بالاكتفاء بنموذج نصي_قصير عادة سواء كان مأخوذا من رواية ما أو قصة قصيرة_وهذا التظهير المرتبط بالمفهوم النظري، يجعل المزاوجة بينهما ممتعة ومفيدة ومقربة للمفهوم على أحسن ما يكون التقريب والإمتاع والإفادة.

لكننا مع ذلك نسجل على الناقد الدكتور محمد بوعزة تخليه عن مفهوم مركزي في تحليل النص السردي وهو مفهوم [الدلالة] الذي يرتبط بالتأويل العام للنص السردي، هذا التأويل الذي كان في الأصل أطروحته للدكتوراه حول أعمال سليم بركات، فلا يستقيم - في اعتقاد - تحليل النص السردي دونما الإلمام بالدلالة - باعتبارها مفهوما قائما بذاته - وكذلك باعتبارها ماثلة في كل المكونات الكبرى للنص السردي.

خاتمة:

لا أخفي على المتلقي استمتاعي الكبير بهذا الكتاب[تحليل النص السردي_تقنيات ومفاهيم] وأعترف بأني لم أجد ناقدا مغربيا قد قام بمثل هذا الإنجاز النقدي الميسر لما عرف وراج من مفاهيم نقدية سردية كبرى على أني أعترف أيضا أن ناقدا فرنسيا معروفا هو برنار فاليط كان قد نشر في بداية العقد الأخير من الألفية الثانية كتابا تحت مسمى(جمالية الرواية المعاصرة) قد انتهج فيه صاحبه هذا النهج بالمزاوجة بين تقعيد المفهوم وتظهيره بأمثلة نصية توضحه وتقربه وتجعله في المتناول.

 

الهامش:

محمد بوعزة: تحليل النص السردي: تقنيات ومفاهيم، منشورات الاختلاف، دار الأمان، الدار العربية للعلوم ناشرون، الجزائر، الرباط، بيروت، الطبعة الأولى2010  وجميع الإحالات إلى الصفحات داخل المقال فهي إلى هذا الكتاب وإلى هذه الطبعة.