من فلسطين

روايات النساء حول النكبة

المعاناة النفسية والاستقبال السلبي للمهجَّرين

فيحاء عبدالهادي

في روايات النساء حول نكبة العام 1948م؛ (ضمن ملف نكبة مستمرة .. نضال متواصل/ مركز المعلومات العربي للفنون الشعبية/ مجلة الجنى)، نلاحظ ارتباط معاناة التهجير الاقتصادية بمعاناة نفسية كبيرة. صحيح أن التعامل مع المهجَّرين، لم يكن واحداً في مناطق اللجوء؛ لكن هناك خيطاً جمع بين شهادات النساء، من الطبقة الاجتماعية ذاتها: هو إحساس المرارة الناتج من الاستقبال السلبيّ للمهجَّرين. ومن الملاحظ أن الاستقبال السلبي للمهجَّرين قد ارتبط بإلقاء اللوم على الضحية، قبل إلقاء اللوم على الجلاد؛ إذ أجمعت المصادر التاريخية المدوَّنة، والشفوية، على أن الفلسطينيين، قد هُجِّروا قسراً، ضمن مخطط صهيوني للتطهير العرقي، وأنهم قاوموا التهجير، ودافعوا عن أراضيهم، ببسالة، قبل تهجيرهم.
كما ارتبط الاستقبال السلبي للمهجَّرين، بعلاقات القوة، في المجتمع الفلسطيني، بين النساء والرجال، وبين النساء أنفسهن، كما يتبيَّن من شهادات النساء. فالرجال هم من تفوَّقوا في التعليم، ومن وصلوا إلى السلطة. الرجال هم من يقرأون، كما تؤكِّد "يسرا سنونو"، التي هُجِّرت من قرية الكويكات، وتقيم في قرية أبو سنان / شمال شرقي مدينة عكا: "كانوا بالبلد عنا بس تنين يقرأوا جريدة: حياة جوزي وخاله". والرجال، هم الذين أتيحت لهم فرصة تعلّم الكتابة، إلى جانب القراءة، بالإضافة إلى القيام بمعظم الأعمال، على حد تعبيرها: "حياة زلمتي، هو اللي كان يعمل كل شي".
وحين نقارن شهادتها بشهادة "سامية خوري"، من القدس، والتي تنتمي إلى طبقة اجتماعية مختلفة، أتاحت فرصة التعليم للفتيات؛ تتبيِّن علاقات القوة بين النساء أنفسهنّ: "كنا نحنا بالمدرسة الداخلية في بيرزيت".كما تظهر علاقات القوّة بين النساء، بشكل دالّ، حين نقرأ شهادة الراوية، حول الاستقبال الودود، للمهجَّرين، على العكس من شهادات الراويات، اللواتي تحدَّثن عن استقبال فاتر حيناً، وقاسٍ غالباً، للمهجَّرين.
تعاني الراوية معاناة نفسية؛ أما بقية الراويات؛ فقد عانين معاناة نفسية ومادية؛ الأمر الذي برَّر اختلاف شهادتها، حول استقبال المهجَّرين، معنى ولفظاً: "الكل الموجود هناك، صار يساهم في التوزيع، ويلاقوا مصادر إعانة إلهم. في رام الله كثير جمعيات نسائية، اللي كانوا يشتغلوا ويساهموا. وصلوا وضعهم كتير سيئ، فكانوا بحاجة لكل دعم وكل مساعدة، ما ضلش إشي أظني في بيوت الناس الّلي فتحت بيوتها، وساعدتهم".
تلخِّص "آمنة المصري"، التي هُجِّرت من قريتها الطنطورة، وأقامت في سورية، أثر النكبة النفسي عليها بقولها: "والله هاللي بنتكب بيظل حزين، والله حزين (قالتها بصوت حزين)، يعني قدّ ما يصيبه بس تيجي ع باله (..) أنا قلت: العيشة اللي عشناها ما حدا عاشها! يوم والله والله إذا الذهب اتستَفْ عِلوهالباب ما إلي نفس، أنا مني وعليّ، بحلف عن حالي، إني ما بمدّ إيدي عليه، والله لأني فاقد شعوري، فاقد عقلي، خلص ما فيه، يعني الناس كلها عقلها ما معها، أي والله يا بنتي، يوم قيامة، يوم قيامة كان، يا لطيف!".
ورغم أنها تتحدث عن استقبال جيد للمهجَّرين إلى سورية؛ إلاّ أنها تتحدث عن الألم العميق، الذي نتج عن تجمهر بعض الناس، للفرجة عليهم: "سكَّنونا ببيوتهم، والله استقبلونا استقبال جيد. كانوا ييجوا يتفرجوا، إجو الفلسطينية، تعو اتفرجوا عل الفلسطينية؟! ييجوا يتجمعوا، يتفرجوا علينا. يفكرونا، يفكرونا غير شكل، شو هضول الفلسطينية؟! بقوا يقولوا: إلهم ذناب الفلسطينية، تعوا شوفوهم".
وتتحدث "عزيزة أبو هلال"، المُهجَّرة من قرية بشيت / شمال شرقي مدينة غزة، عن الأثر النفسي العميق للنكبة، والذي تسبب في إجهاضها. "والله أثَّرت عليّ، يعني أنا اللي بكلمك لما كنا في خان يونس اندبِّيت في الخندق، وأنا على راس ليلتي في ولد، على طول ثاني يوم نزَّلِت. آه، كنت حامل بولد، حسيت انفقش اللي في بطني، يعني أثّر علي كثير (تنهَّدت)، وغيري زيي، واللي حرقوا داره، والله واحد من المجدل إنه كل عيلته؛ أجت الطيارة على باب الملجأ، ونزلت الخزينة، راحوا كلهم، وضلّ الزلمة؛ صار يجري في البلد مجنون".
وتكشف "يسرا سنونو"، تآمر مشايخ أهل قرية "أبو سنان"، مع الحاكم العسكري، للتخلص من اللاجئين، بعيداً عن القرية: "لما طلعنا على أبوسنان، وكثرت الناس فيها، قاموا المشايخ قالوا للحاكم العسكري: انه إحنا بلدنا صغيره وما بتقدر تعيّش هاي اللاجئين، أهل عمقا والكويكات وأهل السميريه. قالهم الحاكم العسكري: وينتا بدكو؛ منكبّ اللاجئين، منقيمهم من البلد عندكو، قالوا لهن: كبّوهم. بالليل على الساعة خمسة، ما شفنا غير السيارات وقفت، صاروا يدخلوا على البيت، صاروا يحملوا ويحطوا بالسيارات، ضلّوا للصبح لما عبّوا السيارات، وأخذوهم على مَفرق جنين، حطّوهم بين إسرائيل وبين جنين، كانت جنين مع الأردن يومها، هناك كبّوا الناس؛ ثلاث أشهر الناس غابت وبرمت، اللي ضلّ بالأردن ضلّ، واللي ضلّ بلبنان ضلّ، واللي ضلّ بسورية ضلّ، واللي اله حدا هون رجع. لليوم بعدهن أهل أبوسنان بطلّعوا علينا انه احنا لاجئين. ولله انا كان بدي اندمج بالبلد؛ لأنه شعور الغربة صعب كتير، بس أهل البلد ما بدهم، يعني بالبداية استقبلونا ورحبوا فينا وساعدونا؛ بس لما طوَّلّت المسألة صرنا عبء كبير".
وتروي "فاطمة الرياحي"، المُهجَّرة من قرية الجماسين/ يافا إلى مخيم بلاطة، عن المعاملة السيئة التي لقيتها من أهل نابلس، بعد تهجيرها: "كانوا يسُبونا ويقولوا: يا مْهاجرين، في اللِّد، إذا واحد قَطَعْ كوزْ صَبِر قَلَعوا له عَيْنِيه عَشان كوز الصبر. وكانوا في نابلس، يا ويل إذا رُحنا نْحِش مِن أرضهم (..) يسُبّونا، وكانوا يقولوا لِلْحِمار: حا حا وِجهَك زَيّ وجه اللاجئ".
وتؤكد "عايشة زغاريت"، المُهجَّرة من عراق المنشية / غزة، والتي تقيم في مخيم العروب / الخليل، حديث الراويات، عن التعامل الفوقي مع المهجَّرين، وتتحدَّث عن تغيَّره مع الوقت:
"
يقاتلونا، ينعن أبوكوا لاجئين، لو فيكو خير ضليتوا في بلادكو، كِن قالوا لنا. والله بخمس قروش أناقل حجار، ونبني في السناسل والحصيدة نحصد معهم، بخمس قروش وبسبع قروش. بقوا يموتوا منا في الأول، غير هالأيام صاروا يوخذوا مننا ويعطونا".