يقدم محرر الكلمة هنا تحليلا ضافيا لأحدث الروايات الفلسطينية، يكشف فيه عن طبيعة كتابة جيل ما بعد النكبة للقضية الفلسطينية، والحفاظ على جذوة فلسطين حية وقادرة على البقاء رغم المحو والمؤامرات الصهيونية المتواصلة، وتجذير المتخيل الوطني الفلسطيني في وعي القارئ وفي تكوين الشخصيات على السواء.

كتابة فلسطين بعد جيل النكبة

«قبل أن تنام الملكة» بين رواية التكوين ورواية المتخيل الوطني

صبري حافظ

هذه رواية مهمة بحق، ربما أهم رواية فلسطينية صدرت عن الجيل الثاني لكتاب فلسطين بعد الروايات الفلسطينية الكبرى لغسان كنفاني وإيميل حبيبي وجبرا إبراهيم جبرا. رواية أوجاع الشتات الموئسة، ومسراته الصغيرة الموحشة. رواية تحفر في العمق الإنساني الفلسطيني وتقدم مسردا بما يقترفه الواقع العربي الكذاب ضد الفلسطيني من صغائر يومية تحط من إنسانيته، وتعلي من جلد الفلسطيني وصموده ونبل مواقفه. ولأنها رواية الجيل الذي لم يولد في فلسطين، فإن كتابتها لفلسطين تكتسب دلالات مضاعفة تؤكد الحق الفلسطيني وتجذره في الوعي والضمير. وهي رواية تكتب المرأة الفلسطينية كما لم تكتب من قبل باقتدار وعمق وبعد عن أي عواطفية. صحيح أن الأب مكتوب فيها بحب وإنسانية، حتى ليكاد يخرج حيا من بين الصفحات، وصحيح أن علاقته الوطيدة بابنته «اللي ارجل من ألف زلمة» لها خصوصية لم تكتب من قبل في الرواية العربية، كعلاقة بنوة ورفقة وتماثل. «جلستُ إلى جانبه فيما كانت الموسيقى الضاجّـة في الأسفل تبلغ نهاياتها، أشعلتُ سيجارة لي وله، ندخن منكسيْ الظهر والنفس. كان أبي رجلاً وحيداً ومهزوماً، وأنا كنت – من دون أن يعرف أبي ربما - امرأة مهزومة أكثر». (ص309) لكن مدار السرد هو هذه المرأة/ الابنة/ الأم، وابنتها التي جعلتها الأم / الساردة مدار حكيها وحياتها الصعبة معا. فهي رواية المرأة والأمومة والأمل الفلسطيني الذي تجسده ملكة.

هي رواية مهمة لأن الروايات التي تكتب باقتدار وتمكن الوجع الشخصي والوجع الوطني معا قليلة، وأقل منها تلك الروايات التي تختار التركيز على وجع النساء خاصة، وتفلت في الوقت نفسه من انشوطة الانحصار فيه، والاقتصار على الاشتباك بقضايا المرأة والجنوسة والسيرة الذاتية. فأغلب الروايات التي تكتبها المرأة العربية خاصة عن قضايا بنات جنسها، ومنذ تنامي مد الكتابة النسوية السهلة التي تنتح من الخبرة الذاتية، ينغلق فيها العالم على المرأة، وكأنها كون بذاته ليست له همومه الوطنية والسياسية كبقية الأكوان البشرية. ولا يعني هذا أن المرأة العربية، والفلسطينية خاصة، لم تكتب هموم وطنها الاجتماعية والسياسية. فجل أعمال الكاتبة الفلسطينية الكبيرة سحر خليفة تكتب هذا الهم الوطني الفلسطيني، وتجسد تحولات المجتمع الفلسطيني أو بالأحرى تشوهاته تحت وطأة الاحتلال والتشريد. كما أن هذا أيضا هو الحال مع روايات رضوى عاشور التي رصدت الكثير مما دار في المجتمع المصري. لكن كتابة هموم الذات والوطن معا، أو هموم الذات في الوطن، وهموم الوطن في الذات أمر آخر.

وقد طلع علينا العام الماضي 2011 بروايتين مهمتين فيما يتعلق بالمرأة وفلسطين معا: وهما (الطنطورية) لرضوى عاشور، و(قبل أن تنام الملكة) لحزامة حبايب. استطاعت أولاهما أن تنطلق من المرأة لتكتب رواية المتخيل الوطني الفلسطيني من خلال تلك المرأة «الطنطورية» بنت القرية الفلسطينية التي محاها العدو الصهيوني عن الخريطة ولم يبق منها سوى خرائب. فاستعادتها الرواية بحكاياتها وتواريخها ووضعتها على خريطة الوعي العربي حية من جديد. أما الثانية فإنها حققت إنجازا فريدا في الرواية العربية وهو المزاوجة بين كتابة رواية المتخيل الوطني الجمعي الفلسطيني وهو يصارع في الشتات والمنفى للإبقاء على هويته من ناحية، وكتابة رواية تكوين Bildungsroman المرأة الفلسطينية من الجيل الذي ولد ونشأ في الشتات والمنفى، بهواجسها الفردية ومعاناته الفريدة لتجربة النفي والهزيمة من ناحية أخرى. تكتب هذه الرواية الثانية دون الوقوع، كما هو الحال في كثير من روايات التكوين التي كتبتها المرأة، في شباك الرواية النسوية وتبسيطاتها، وإن كانت تكتب لنا في الوقت نفسه رواية نسوية بامتياز، ولكنها رواية تنتمي إلى أرقى مراحل الكتابة النسوية المشغولة بكتابة الاختلاف،(1) وليس كتابة السجال الساذج المكرور ضد النزعة الأبوية. لأن هذه الرواية تكتب في الوقت نفسه واحدة من أجمل العلاقات الإنسانية الخصبة بين البنت وأبيها في الرواية العربية.

العتبة الشهرزادية وبنية القلب والإبدال:
تتكون رواية حزامة حبايب (قبل أن تنام الملكة)، وهي روايتها الثانية بعد روايتها الأولى (أصل الهوى) 2007، من ستة أبواب و18 فصلا: يوشك كل باب منها أن يكون تناولا لموضوع محدد من الموضوعات الواسمة لتجربة الرحيل والنفي والشتات الفلسطينية، ولتجربة المرأة العربية معا. وتوشك الأبواب الستة في الرواية أن تكون في الوقت نفسه المعادل الروائي لأيام الخلق الستة قبل أن يستريح الرب في اليوم السابع! أو بالأحرى قبل أن يدرك أنه لا راحة بعد الخلق أبدا، اللهم إلا راحة التحقق الجزئي وما يعتريه من قلق، وهواجس عدم الاكتمال وعدم الرضى! لكن الخلق السردي، يختلف عن الخلق الأسطوري أو التوراتي في أن لديه مع حرية التخييل، وتغيير منظور السرد وموقع الراوي، حرية اللعب بالزمن وإعادة ترتيبه على هواه. وهذا ما فعلته ببراعة هذه الرواية التي توشك زمنيا أن تراوح مكانها، لتواصل الحفر في ماهية الوطن، وماهية الذات/ المرأة معا. حيث تبدأ درجة صفر الزمن فيها في «الفصل صفر» لحظة رحيل الابنة «ملكة» للمرة الثانية، لعامها الدراسي الثاني في الجامعة التي اختارت الدراسة بها في بريطانيا، وتنتهي في فصلها الأخير «الفصل 17» في نفس اللحظة أو بعدها بهنيهة، وقد عادت الأم/ الراوية إلى غرفتها، بعد أن ودعت ابنتها في المطار، ومع هذه المراوحة الزمنية في مكانها تقدم لنا الرواية تجربة عمر كامل من الشتات والألم والمنفى تستغرق زمنيا ما يقرب من نصف القرن، أو ما يزيد عليه في بعض التأويلات، وهو عمر المنفى والشتات الفلسطيني تقريبا.

ولكن قبل الدخول في سراديب البنية السردية والبنية الزمنية لهذه الرواية الشيقة، دعنا ندلف إليها من بابها، ومن عتبتها الأولى: العنوان: (قبل أن تنام الملكة)؛ والذي يستدعي أطيافا شهرزادية واضحة من ناحية، والتباسا في طبيعة الراوي والمروي له في العنوان من ناحية أخرى. فالعنوان، وهو العتبة الأولى للنص يضع النص كله في صورة الحكي الذي ترويه البطلة لابنتها واسمها في النص «ملكة» قبل أن تنام. لكن انتهاء الرواية نفسها بنوم الراوية بعد أن ودعت ابنتها «ملكة» في مشهد البداية، وعادت إلى بيتها تتأمل آثار ابنتها المتروكة في غرفتها: «في غرفتي، أستلقي على سريري، أفرد جناحيّ فوقي لحافا وافيا دافئا، وأرتخي .. مستسلمة للنعاس»(2) تطالب القارئ بإعادة التفكير في دلالات العتبة. وفي دلالات العنوان معا. وفي أيهما حقيقة الملكة المعنية في العنوان، البنت التي تحمل هذا الاسم، أم الراوية نفسها التي اختارت لابنتها الاسم الذي تريد ربما لنفسها قبل أي شخص آخر. ففي الرواية باب كامل في دلالات الأسماء. غير أن التباسات العنوان تلك بما تنطوي عليه من سيولة في موقف الراوي والمروي له وتداخل بينهما، توسع من أفق العنوان والقراءة معا، وأهم من هذا كله من دلالات عالم المعنى في الرواية. كما أنها تردنا لنتأمل من جديد العتبة الشهرزادية مع هذا الوعي بالتباس الملكة أو بتعدد دلالاتها. فنحن نعرف أن التي تروي قبل أن تنام هي الملكة شهرزاد، وقد أكدت الرواية بنهايتها للنص المكتوب بأن استسلمت بطلته للنوم بعد عودتها من وداع ابنتها في المطار، ان الملكة المقصودة هنا أيضا هي البطلة/ الراوية/ جهاد.

لكن العتبة الشهرزادية وعلامات سردية أخرى توجه القارئ لقراءة تأخذ منطلق الحكي الشهرزادي في الاعتبار عند قراءة هذه الرواية، وتقلبه رأسا على عقب في الوقت نفسه، والقلب والإبدال من استراتيجيات كتابة الاختلاف التي استخدمتها هذه الرواية على أكثر من مستوى فيها. حيت يتم الحكي/ الكتابة «قبل أن تنام الملكة» كما كان الحال مع شهرزاد التي تحكي (ألف ليلة وليلة) قبل أن تنام لشهريار، حكاياتها التي تدفع بها عن نفسها وعن بنات جنسها الموت، وتعلق عبرها الزمن كي تواصل الحياة. وهي أطياف ستؤكدها الرواية حينما تستهل خمسة من أبوابها الستة بـ«بلغني أيتها الملكة السعيدة»، أو تنويعات مختلفة على تلك الصيغة الشهرزادية الشهيرة. وتستهل بابها السادس والأخير بـ«ثم أدركني الصباح يا ملكة» وهي اللازمة الشهرزادية حينما يقارب الحكي نهايته. كما أنها كثيرا ما تذكر بها قارئها أثناء السرد حينما تقول مثلا «لعل حكايتي تعرج على بعضها إذا ما سمحت لي الليالي المقبلات بقصها».(ص 34) وهي كلها إشارات تؤكد أن الملكة المعنية هنا هي الابنة «ملكة» وليست الأم/ الراوية «جهاد» التي تروي الحكاية لابنتها الملكة قبل أن تنام. لكن الكاتبة وهي تربط نفسها بتراث جدتها، وجدة الخطاب السردي البدئية، شهرزاد، تؤكد انفصالها عنها في الوقت نفسه، ووعيها بأنها تكتب لنفسها/ وتكتب حكايتها. صحيح أن التي تحكي في النص الشهرزادي هي الملكة قبل أن تنام، مما يؤكد أهمية النهاية حين تنام الراوية. لكن هذا التوازي مع المنطلق الشهرزادي يرافقه انفصال عنه، أو بالأحرى تناقض معه واختلاف. وهو الانفصال الذي يربط السرد، مع عملية القلب والإبدال، بميراث أحدث من السرد النسوي الذي يكتب ما تعارف النقد النسوي الحديث على تسميته بكتابة الاختلاف، وليست الكتابة النسوية/ السجالية بالمعنى التقليدي البسيط للمصطلح.

فالعلاقة الشهرزادية قد انقلبت هنا رأسا على عقب، ليس فقط من خلال تبديل علاقات القوة الاجتماعية في النص، دون الدخول في مواجهات سجالية عقيمة معه، كما كان الحال مع مرحلة الكتابة النسوية السابقة لكتابة الاختلاف، بتغييب الرجل كلية من معادلة الحكي، بل من حياة البطلة: اللهم إلا الرجل/ الحبيب/ الند/ المستحيل، أو الرجل/ الأب/ الند/ الرفيق. فحضور الرجل في كتابة الاختلاف مشروط بندية العلاقة معه، والإجهاز على تراتبيتها القديمة. ولكن أيضا من خلال نوع من استراتيجيات تمثل الجنسين معا في شخصية البطلة/ المرأة واحالات الاسترجال Androgyny التي تجعل الراوية ممتلئة بالجنسين معا، دون أن تفقد شيئا من أمومتها، أو حتى من أنوثتها. فالتي تحكي هنا هي الأم المتمردة «رجل البيت» كما يدعوها أبوها «يا بابا يا جهاد! أنتِ رجل البيت» (ص 137) لابنتها المعاندة، والتي لا تقل عنادا عن امها. وسنعرف أنها قامت بهذا الدور «رجل البيت» فعلا لا مجازا لسنوات طويلة من حياتها. لا بالنسبة لأسرتها الصغيرة فحسب، بل حتى بالنسبة للأسرة الأكبر، حيث ترعى أيضا عمها «أبو تيسير» حينما يلجأ لها متعثرا في خجله، وهو يسأل مثئثئا إذا ما كان أخوه قد سأل عنه، أي أرسل له معونة، وهو الأمر الذي تفهمه الراوية اللماحة وتستجيب له كما ينبغي لرجل البيت أن يفعل، فتكون شهادته الصريحة لها «والله يا عمي إنتي أرجل من ألف زلمة»(ص 248). بل وتشمل الجيران الذين يتحولون إلى جزء مهم من الأسرة «الفلسطينية» الأكبر، حينما تتكفل بتعليم «وليد» دون أي صلة قرابة به، اللهم إلا صلة الوطن المشترك والقهر المشترك.

 أقول أن التي تحكي هي الأم «ربة البيت» بالمعنى الأشمل للربة، وليست الزوجة المستسلمة لزوجها المتسلط، تريد ترويضه عبر «كيد النسا» التقليدي كما كان الحال مع شهرزاد والملك شهريار. وإنما كما تحكي الأم لمليكتها، لملكة/ ابنتها واستمرارها معا؛ لابنتها التي ربتها وحدها، بعدما طردت أباها، ومن وضع بذرتها في رحمها، من حياتها وحياة ابنتها معا، من البداية. بالصورة التي يتحول معها انفصال الابنة عنه إلى رغبة مضمرة، مع بلوغها سن الرشد الأنثوي في السادسة عشرة، في أن يكون قد مات «هل مات؟ تسألين بصيغة التمني الخفي!»(ص311) وهو تمنٍ تحققه لها استراتيجيات السرد حينما تستبعده كلية من الرواية، فلا يستحوذ على أكثر من صفحة منها. وحينما يكون الحكي كله نوعا من تثقيف الابنة/ المحكي لها/ والمشاركة في كتابة سفر تكوينها الوطني والنسوي والمعنوي معا. كما أن هذا التمني المضمر في السؤال يكشف لنا أيضا عن نجاح الأم في استبعاده كلية من حياة ابنتها، حتى كرست الابنة بتمنيها المضمر ذاك هذا الاستبعاد وأكدته.

فكتابة الاختلاف التي تتجسد في اكثر من جانب من جوانب هذه الرواية، وتتجلى في تفاصيل رحلة بطلتها مع التكوين والنضح، تسعى لوضع المرأة في بؤرة النص ومركزه، وهذه من استراتيجيات هذه الكتابة الشائعة، كي تكتب اختلافها وتميزها وتفردها معا. وليس وضع المرأة في بؤرة النص قاصرا، كما تفهمها بعض النصوص على سرد الوقائع من منظورها، أو على رواية النص بضمير المتكلم، وإن كانت كلها من الاستراتيجيات النصية المساعدة في هذا المجال، ولكنه يتصل قبل أي شيء بمركزية المرأة في بنية النص ودورها الجوهري في حبكته، حتى لو امتلأ بالرجال. وقد حققت هذه الرواية مركزية المرأة في النص من خلال امتلاء النص بمرايا النساء العديدات، وتمكينهن وحدهن من أن يقدمن الرجال فيه. فلا يوجد في النص رجل ليس مقدما عبر عيون امرأة: سواء أكانت هذه المرأة زوجته او ابنته أو حبيبته. كما أن الرواية لحرصها على مركزية المرأة لم تتح لأي من رجال النص أن يقدم أيا من تفاصيله عبر منظوره الخاص، ولا حتى أن يقدم لنا أيا من نسائه. بمعنى أن علاقات القوة النصية، إذا ما حاولنا رسم خريطة لها في النص، تميل دوما لصالح المرأة. أو بالأحرى تقوم في فضاء النص بقلب علاقات التراتب الاجتماعية بين الرجل والمرأة رأسا على عقب، دون أي مواجهة صدامية مع الرجل، إذ تتم بطريقة السرد الحصيفة والمراوغة.

فشخصيات هذا النص النسائية أضعاف شخصياته الرجالية من حيث العدد، وأهم منها من حيث الدور الروائي معا. لذلك فإن لعبة الأوزان النسبية للشخصيات في النص، تميل هي الأحرى لصالح المرأة وتحقق مركزيتها فيه. حيث نجد أن وزن الرجال النسبي فيه من حيث الضرورة النصية والروائية، يوشك أن يكون ثانويا بالمقارنة بوزن النساء وأدوارهن. وقد أشرت إلى لجوء النص إلى استراتيجية تغييب الزوج الفظ/ الأب من حياة الأم «جهاد» وابنتها «ملكة» بشكل قصدي من مركزه. فالرجال موجودون في النص كآباء وأبناء وأزواج وعشاق، ولكن وجودهم فيه يوشك أن يكون لاحقا، أو ملحقا بوجود نسائه من حيث الوزن الروائي النسبي للشخصيات، ودورها في عالم النص وحبكاته المتراكبة. كما أنه يعتمد عليهن بشكل أو بآخر، وقد تجاوز الاعتماد في هذه الرواية الاعتماد النفسي أو العاطفي، إلى الاعتماد الاقتصادي عبر قيام البنت بدور «رجل البيت»، واعتماد أبيها وعمها عليها في تسيير أمور حياتهم.

كتابة الاختلاف .. كتابة الجسد الجديدة
لكن استراتيجيات القلب والإبدال التي تنبهنا لها العتبة الشهرزادية، وهي واحدة من أهم سمات كتابة الاختلاف، لا تتوقف عند موقع الأنا الراوية وموقفها وعلاقتها بالمروى له/ا؛ وإنما تتجاوزها إلى  تفاصيل السرد نفسه وطبيعة تعامله مع المرأة والرجل معا. فنحن هنا بإزاء رواية حريصة على مركزية المرأة من ناحية، وعلى الغوص في عالمها من ناحية أخرى. تكتبه بجرأة ملحوظة في تناول المسكوت عنه. تكتب المرأة وعلاقتها بجسدها بطريقة جديدة وجريئة معا، ليست الجرأة الفضائحية التي تستهدف الإثارة كما تفعل غيرها من الكاتبات اللواتي يفهمن كتابة الجسد على أنها نوع من كتابة الإثارة الفضائحية، ولكن الجرأة المستبصرة التي تكشف عن أن أكثر المواضيع إثارة، مثل الجنس، قد أحالها الواقع المقهور المثقل بالهزيمة، إلى شكل آخر من أشكال القهر الذاتي، للنفس والآخر معا. فكتابة الاختلاف تطرح علينا تصورا جديدا لكتابة الجسد، يعتمد على نقض كتابة الجسد المألوفة، والتي اعتاد عليها التصور الأبوي أو الذكوري للعالم. حيث لا يصبح جسد المرأة موضوعا للغواية والإثارة والإغراء، وإنما موقعا تتجلى فيه صراعات الواقع وإحباطاته، وعذابات الروح الإنسانية، وسلبيات المجتمع الذكوري معا.

فلم يعد جسد المرأة في هذه الكتابة الجديدة موقعا للشهوة أو موضوعا للإغراء، وإنما ساحة للكشف عن تناقضات الواقع وعلاقاته الجائرة. بصورة يتخلل فيها القهر الاجتماعي والفردي فيه أكثر العلاقات حميمية وأبلغها تعبيرا عن طبيعة العلاقة بين الإنسان وجسده من ناحية، والإنسان وعلاقاته الحسية بالآخر من ناحية أخرى. فما عليك إلا أن تقرأ وصف «محظية، أم معاذ»، «أقرب الجارات إلى قلب أمي بنميمتها التي لا تعدم مسحة عجائبية» (ص 48)، مثلا لمواقعات زوجها لها، حينما سألتها «روعة» «كيف بتنامي يا أم معاذ مع أبو معاذ»(ص 169) وقد أنجبت منه خمسة صبيان وسبع بنات، حتى تدرك أننا هنا بإزاء كتابة جسد من نوع جديد وفريد، يكشف لنا عن أن أكثر لحظات الزوجين حسية، وقوفا وهي تغلي الغسيل في الحمام مرة، أو نوما بينما أمها توقظها كي تجلب لها كوبا من الماء (ص 171)، ليست إلا امتدادا للقهر الذي يعيشانه معا، كل يمارس قهره على الآخر بطريقته الفريدة. حيث يرافق قهر فايز/ أبو معاذ لزوجته وتوريمه لبدنها بالخيزرانة قبل مواقعتها (ص103)، وعي مماثل منها بأنها هي الأخرى قد قهرته «أنا نكت بخته لفايز». (ص103) فقد «كان متيما بشقيقتها هدية الأجمل منها بكثير، لكن أهلها أرادوا لهدية نصيبا أحسن من صبي نجار، فلبّسوه محظية بمهر لم يزد على دينار، وحملوها له جاهزة مجهزة». (ص101)

لذلك فإن ممارسة الجنس المكتوبة بصراحة وبالتفاصيل الساخرة التي ترويها محظية لنا بنفسها ضاحكة، «وهي تستعيد مشاهد سوريالية من حياتها الجنسية مع أبو معاذ»(ص170)، ممارسة دون لذة حقيقية، ناهيك عن أي تعمد للإثارة. لا تستهدف أي استثارة فضائحية أو إغراء كما كان الحال في الكتابة القديمة عن الجنس، بقدر ما تسعى لبلورة صورة ثرية للواقع، مترعة بالتفاصيل الإنسانية الكاشفة عن بنيته التحتية من ناحية، والمعرية لأرواح شخصياته من ناحية أخرى. وتصل كتابة الجسد/ الجنس في هذه الرواية ذروته التعبيرية كممارسة كاشفة للقهر ولأدواء الواقع العربي المهزوم، والهزيمة من نغمات القرار في هذه الرواية، ذروتها في مشهد مواقعة زوج البطلة «جهاد» لها بعد الزواج، أو بالأحرى مشهد اغتصابه القسري لها أو انتهاكها بكل ما ينطوي عليه من المشهد من عنف، وقهر يمارسه زوج مقهور هو الآخر في مستوى من المستويات. هذا المشهد الذي تتحول فيها المواقعة إلى موقعة خاسرة للطرفين: من انتُهك جسدها وروحها، وانتهى بها الأمر «ملقاة على الأرض، شظية بشرية تذرف دما وانكسارا» (ص298) تجيب بمفارقة تهكمية مرّة على مكالمة أمها التي اتصلت للاطمئنان على اكتمال طقوس الزواج بـ«كل شيء بخير .. أنا الآن امرأة»(298)؛ ومن يعبر اغتصابه لها عن قهر تاريخي دفين، حين يبرر زوجها «أحمد ناهض» زواجه منها، برغم معرفته بعلاقتها مع إياس، بقهر إياس له. «حبيت أكسره، مفكر حاله إشي كبير. عنده كل شيء، ويظن إنو بيقدر يحصل على أي شيء». (ص297) لكنه لمرارة المفارقة لم يكسر إلا نفسه، لأنه لم يستطع حقا أي يحصل عليها ولا على أي شيء في عالمها. فقد غيبه فعله الشائن ذاك من الرواية وألغاه كلية، برغم عناد القدر البيولوجي الذي جعل فعل الاغتصاب ذاك يترك نطفته فيها، وتتخلق به أجمل كائنات عالمها/ ابنتها «ملكة»، مدار حياتها وبؤرة اهتمامها. لكن البنت هي الأخرى تعي في مستوى من مستويات النص عدم جدارته بالوجود، لا في حياة أمها ولا حتى في حياتها هي، حيث لا تسأل عنه إلا مقرونا بالموت. (ص311)

ولا تقتصر كتابة الجسد الجديدة، بنت كتابة الاختلاف وعلاقات القوى النصية الجديدة، على مقارباتها النصية المختلفة للجنس، ولن أتحدث هنا عن الجنس المرضي، مثل اغتصاب حارس العمارة للخادمات السيريلانكيات، وخاصة شيلا (ص195)، أو توريدهن لقائد الوحدة العسكرية العراقية المتمركزة عند أول طريق المطار. لأنني أريد أن انتقل إلى كيفية امتداد كتابة الجسد الجديدة أيضا إلى قلب التصور السائد عن عري المرأة، وعن الجسد/ العورة، ولعبة المكشوف والمستور باعتبارها لعبة إثارة بامتياز. فعري المرأة في هذه الرواية يكشف هو الآخر عن الجوانب المضمرة في المسكوت عنه من ناحية، وعن طبيعة علاقات القهر والهزيمة الاجتماعية من ناحية أخرى. لذلك كان عري الجارة «سكينة» التي يشت عقلها فتخرج من شقتها شبه عارية، تعرض قبحها للأنظار، مدخلا لتناول الرواية لعري النساء بعيدا عن، أو بالأحرى ضدا لـ، كل التناولات السابقة له. فقد «كان عري سكينة المعلن يحاكي عريهن المداري الذي يكرهنه وأحيانا يقرفن منه».(ص161) كان عري سكينة الموصوف هو الآخر بطريقة توشك أن تكون النقيض لميراث وصف العري في الرواية العربية، مرآة لعريهن جميعا، وقد «جرى لحم فخذيها على الأرض تعبه النظرات الفضولية. صنعت الدوالي النافرة عناقيد خضراء مزرقة تكتلت في بعض بقاع ساقيها لم تكن الجارات ليفوتن فرجة كهذهز كن يدعين الإشفاق على المخلوقة، فيسارعن في جلب أغطية من بيوتهن كي يسترن لحم سكينة المفضوح». (ص160)

وتقدم لنا الرواية تنويعات أخرى، وبنفس المنطق السردي، على عري النساء الكاشف بلا مواربة عن بشاعة يدركنها، ولا يخجلن منها، حينما تقول محظية لروعة «شايفة .. قديش أنا بشعة» (ص162) فترد عليها «عارفة يا محضية؟ عن جد إحنا بشعات!» (ص162) هذه المواجهة الصريحة للنفس تتم بحس تهكمي ساخر، وهو من أدوات النص في الكشف والتعرية، وتجنب الوقوع في العواطفية/ السنتمنتالية الممجوجة. فحتى حينما تخلع «أم حسام» فستانها «مطمئنة إلى حصافة بيتنا في احتواء عريها، وتطلب من أمي أن تعيرها سوتياناتها السوداء التي ترفع صدرها لترتديها في حفلة زفاف ابن عم زوجها»، (ص168) فإنها تدلق على هذا العري المغاير والذي كان يمكن أن يصبح مصدرا للغواية، ماءا باردا في الجملة التالية مباشرة: «فيما يقتحم بشّار، أصغر أبناء محضية، بيتنا عاريا ملقيا لحمه اليانع على لحم امي، بعدما فر من بيتهم بينما كانت أمه تحممه استعدادا لحدث تاريخي، قاطعا مسافة عري طويلة إلى بيتنا، مناشدا أمي كي تخبئه عندها من المطهّر». (ص168)

ومن خلال هذه الحميمية النسوية الكاشفة، تكتب الرواية ملمحا آخر من ملامح كتابة الاختلاف ألا وهو الكشف عن أن بنية العلاقات النسوية، بين النساء بعضهن البعض، مغايرة لبنية العلاقات الذكورية بين الرجال. إذ تكشف لنا حزم العلاقات النسوية التي تعرفنا على بعضها في علاقات الأم مع جيرانها مثل سكينة ومحضية وأم حسام، وسنتعرف على بعضها الآخر حينما ينتقل السرد للأردن ونعرف شيئا من علاقات الأم مع أختها وحماتها وسلفتها وغيرهم من أفراد الأسرة الممتدة، عن أن علاقات النساء تتسم بأنها علاقات تضامنية، تختلف بنيويا عن علاقات الرجال التصادمية التنافسية التصارعية. فحتى حينما تضرب الأم اختها رحمة التي اعترفت لها بحبها لرجل آخر، وقد «انهالت أمي على خالتي رحمة بصفعات عديدة رن لها وجهها المشدود ونزف معها أنفها: ودخلتيه غرفة نومك؟ ظلت أمي تسأل خالتي رحمة من باب الاستنكار، وفي كل مرة تجيبها بنعم ونعم ونعم تصفعها أمي بغضب أشد، ثم وقعت المرأتان على الأرض ونشجتا مطولا». (264) أقول حتى حينما تصل المواجهة بين امرأتين إلى حد أن تضرب أحداهما الأخرى، فإن ذلك يكون تعبيرا عن عمق التضامن لا الصراع؛ على أنها معها تشد أزرها وتخاف عليها برغم صدمتها البادية واستنكارها لما فعلته.

موقع الراوية الملتبس وبنية الحكي:
إذا كانت استراتيجيات القلب والإبدال التي تتسم بها كتابة الاختلاف تسيطر على بنية السرد والكتابة في هذا النص، فإن أول ملامحها تتبدى في موقع الراوي/ الراوية التي تحكي لنا كل ما يسرده علينا النص، استجابة لطلب من ابنتها «أحكي لي حكايتك». (ص25) وهو الطلب الذي ينهي به النص الفصل صفر، بحيث يكون الطلب هو درجة صفر الحكي لا درجة صفر الكتابة، يبدأ بعده الفصل رقم 1، وكأن كل ما دار قبله هو مجرد تأطير له وتمهيد ضروري. ومما يدعم دور هذا التأطير عتبة أخرى من عتبات النص هي المقتطف الذي آثرت الرواية أن تضعه على ظهر الغلاف، والذي ينتهي هو الآخر بهذه الجملة «أحكي لي حكايتك». كي يكشف لنا طبيعة العلاقة بين الراوية التي ستحكي حكايتها، وابنتها المغادرة لها، والتي تطلب منها أن تحكي لها الحكاية دون ان تنتظر لسماعها. بل تغادرها كي تعيش هي الأخرى حكايتها، وبالطريقة التي اختارتها رغم ممانعة الأم، إذ تقوم في واقع الأمر بفعل الغياب من الحكاية، ومغادرة الأم التي ستحكيها إلى بريطانيا التي تدرس بها، أو تعود إليها لتواصل فيها دراستها للعام الثاني، فالباب الافتتاحي معنون بـ«الرحيل الثاني»، بعد أن قضت الابنة مع الأم أجازتها الصيفية.

والواقع أن طلب الابنة للحكاية وغيابها منها معا أمر بالغ الدلالة والأهمية، تؤكده النهاية التي تدفع القارئ إلى إعادة التفكير في ماهية «الملكة» في العنوان. إذ يبدو للوهلة الأولى، ومن الإحالات الشهرزادية المختلفة أن «الملكة»/ الابنة/ المحكي لها، هي المقصودة، لكن غيابها النسبي والفعلي معا من الحكاية، يردنا إلى النهاية التي تدفعنا إلى إعادة تأويل العنوان على أنه لا يحيل إلى الابنة/ المحكي لها، وإنما إلى الراوية/ الساردة نفسها: شهرزاد التي تحكي حكايتها، ثم تستسلم للنعاس بعد الانتهاء منها. وكأنها تحكيها لفعل الحكي نفسه، وليس لابنتها الحاضرة الغائبة معا، أو كأنها تحكيها لتتخفف من عبء الحكاية، لأننا بإزاء راوية همها الأول هو أن تحكي حكايتها، فالحكي بالنسبة للمرأة شكل من أشكال التحقق. وهذا الالتباس في هوية الملكة وهوية المسرود له، هو أحد مفاتيح الدخول إلى موقع الراوي في هذا النص والتباساته وتعدد أصواته بين الأنا والنحن. فقد بدلت حزامة هنا الثنائية الشهرزادية التقليدية: المرأة الراوية المشغولة بالحكي والخائفة على حياتها، تؤجل بالحكي فعل جزّ رقبتها في الصباح، والرجل القوي السامع المسيطر والخائف معا من خيانة المرأة له، وعبثها بشرفه.

ومع أن الخوف يبدل مواقعه، وينتقل من المروي له إلى الراوية، وقد حلت مكان المرأة الضعيفة التي تروى كي ترفع سيف الموت المسلط عن رقبتها، وكي تبدد مخاوف الملك من خيانة زوجته له، إلى امرأة تروي بين امرأتين: الأم والبنت، تروي لنفسها ولابنتها معا، لأننا نروي حكايتنا كي نعرف أنفسنا حقا، وكي نفهمها. ورواية الحكاية هي شارة امتلاك الهوية والسيطرة على الخطاب الصادر عنها. هكذا تجسد الراوية/ الملكة من خلال سردها قصتها وقصة فلسطين معها. بعد أن تضع الرواية خوف شهريار من الخيانة في قلب شهرزاد التي لا تخاف هذه المرة من فقدان حياتها، وإنما من فقدان من تحب! أحب من تحب: ابنتها! التي تصرخ في وجه أمها في الصفحة الأولى من الرواية «بكرهك»! مستدعية تلك التسمية العراقية الجميلة للأبناء بـ«الجهّال». لأن الابنة لا تعرف كم تحبها أمها، وكم تحب هي الأخرى أمها التي تفانت في أن تتيح لها كل ما افتقدته في حياتها، التي يشكل النص بأبوابه الستة قصة خلقها؛ أو قصة الخلق التعويضي الذي تجسد الابنة أحد تجلياته. لذلك كان من الطبيعي أن يكون الفصل صفر، الفصل الإطار هو فصل الرحيل، لأن الرحيل هو عنوان الفلسطيني الأول، قلت أن الرواية تبدأ من درجة صفر الزمن: زمن الرحيل في بابها الأول. والرحيل هو درجة صفر أي زمن فلسطيني وشارة منفاه. به بدأت المأساة الفلسطينية وعبر تواصله يتكرس وجعها. لذلك تتأمل البطلة/ جهاد/ الراوية معنى الرحيل من الصفحات الأولى في الرواية: «أيمهد رحيل لآخر؟ أنتدرب على رحيل أقصر لنحتمل رحيلا أطول؟ أم أننا نحترف الرحيل كما احترفنا العيش في مدن ليست لنا، وأوطان لغيرنا تلفظنا متى ما ملت منا؟»(ص12).

فالرواية في مستوى من مستويات المعنى المتراكبة فيها هي رواية رحيل الفلسطيني من منفى إلى منفى دون أمل في التأقلم مع منفاه، أو حتى اعتياده. يقول إدوار سعيد في (تأملات في المنفى) إن «المنفى موضوع يفرض نفسه بغرابة على الفكر، ولكن من المريع أن تخبره أو تعيشه. لأنه صدع قسري لا برء منه بين الإنسان وموطنه، بين النفس وبيتها الحقيقي، ولا يمكن التغلب على الحزن الأصلي العميق الذي يولده. صحيح أن الأدب والتاريخ ينطويان على فصول من البطولة والرومانسية والمجد، وحتى الانتصار في حياة المنفى، فإن هذه ليست سوى جهود للتغلب على وحشته المدمرة والموهنة للعزيمة. لأن انجازات المنفيّ دائما ما يضعضعها إحساسه بفقدان ما تركه وراءه للأبد.»(3) والواقع أن كلا من الحزن الأصلي العميق والإحساس المر بالفقدان هما نغمة القرار في هذه الرواية التي تكتب سيرة بطلتها ورحلتها مع النضج والتكوين ضد كل ما يوجهه إليها المنفى من ضربات موجعة. فليس ممكنا أن نتحدث عن رحلة البطلة دون الوعي بأن سداة حياتها ولحمتها قد نسجت على وقع ضعضعة الإحساس بالفقدان لكل إنجازاتها كما يقول إدوار سعيد.

وبرغم هذا الإحساس المرّ بالفقدان، أو ربما بسببه، هناك على مد هذه الرواية تلك الرغبة القوية في تأكيد الذات وتجذيرها في دوائر اجتماعية وجغرافية مختلفة في مواجهة كل صروف المنفى وسلبياته. فنحن بإزاء ذات تعي بأنها تكتب نفسها وتكتب فلسطين معا. ولذلك فإنها تكتب هذه الذات في تفاعلها الجدلي الخلاق مع محيطها المباشر أسريا وجغرافيا، ومحيطها الأوسع عربيا، أو بالأحرى مع كل ما هو فلسطيني في المحيطين. فبالرغم من أن قسما كبيرا من الرواية يدور في الكويت، فإن الكويت تبدو فيها مكانا شاحبا لا هوية له منذ سجله غسان كنفاني على خريطة الوعي الفلسطيني كمقبرة، لأنه مجرد محطة مؤقته من محطات المنفى الفلسطيني، تماما كالأردن من بعده أو الإمارات. وسوف نؤجل الحديث عن تلك الأماكن ودلالاتها الروائية مؤقتا، لنستكمل تناولنا للذات الكاتبة/ الراوية/ الفلسطينية معا. فالرواية تبدأ سردها بضمير المتكلم الذي يمتزج في الفصل «صفر» بضمير المخاطب، وهو الضمير الذي سيسفر عن نفسه بوضوح في الفصل التالي: «الأول». لأن معظم فصول الرواية مروية بهما، وحتى حينما تبدأ بعض الفصول، وهي قليلة، بضمير الغائب فإن السرد فيها سرعان ما ينزلق إلى أي من هذين الضميرين أو يمزج بينهما. كي تؤكد الرواية من البداية، وعلى طول سردها، طابع المناجاة التأملي والمستوحش معا، وخاصة حينما يكون المخاطب غائبا كما في هذه الحالة. حالة مناجاة الذات وتجلياتها في ابنتها (والتي توشك هنا أن تكون قرينا لها أو وجها من وجوهها) بعد رحيلها عنها.

ويكتسب هذا الطابع الذي يسيطر على السرد طوال النص على مستوى أي تحليل لمحتوى الشكل في الرواية دلالات بالغة الأهمية. فنحن بإزاء ذات تروي لمخاطب غائب، أم تراه حاضرا يتجسد في القارئ؟ مخاطب أو بالأحرى مخاطبة لأننا هنا في عالم المرأة بامتياز، طلبت منها أن تحكي حكايتها، ومضت دون أن تنتظر سماع الحكاية، مما يرجح جانب الإفضاء على التوصيل. لأن الإفضاء تعبير عن الذات التي تفضي وتفضفض. أكثر مما هو رسالة محددة بين مرسل ومستقبِل، حاضرا كان أم غائبا. وهو أمر لا يغيب عن البطلة/ الراوية التي تعي على مستوى الميتانص Metafiction، أي النص الشارح في النص، أن الكتابة بالنسبة لها تعبير وخلاص، هي أداتها لتشكيل واقعها الخاص الذي يتخلق حيِّيا محتاطا ومغامرا في الكلمات. حيث تصف كتابتها داخل النص «ثم أدع القلم يمشي بطيئا فوق الورق البارد، غائب الأفكار، يدفأ مع الوقت ويستأنس بالمثابرة، فيتدفق لسانه، بثرثرة لا معنى لها في أحيان كثيرة، وببعض البلاغة في أحايين متفرقة، وذلك مع رسمي الحكي فوق بياضه الأليف. يُخلق بشر ويفنى آخرون، بشخبطة عارمة جارحة. تطلع أصوات وتكمم أخرى، وعلى سهوب الخيال يتشكل الواقع، واقعي، حيّيا في الكلمات التي تنسج سردي بطيئا ومتسارعا، مُحتاطا ومغامرا». (ص 226)

ها هو النص الشارح داخل النص يؤكد لنا أن الإفضاء مقصود لذاته، به تطلع أصوات وتكمم أخرى، وعلى إيقاعه يتشكل الواقع، وتكتب الذات نفسها. ليس أي واقع وإنما كما تقول «يتشكل الواقع/ واقعي» واقع الذات الراوية نفسها، لذلك علينا أن نتأمل دلالات بنيته. وهي بنية تضع البطلة/ الراوية في المركز منه، يتحرك بمشيئتها الزمن صعودا وهبوطا حسب متطلبات الحكي، كي يظل ثابتا عند لحظة الإفضاء والرحيل والفراق، التي تبدأ بها الرواية وتنتهي. وبين البداية والنهاية لا نعرف البطلة فحسب بل نحبها، أو نقدر معاناتها على الأقل، كنموذج حيّ يجسد أوجاع المنفى والجلد الفلسطيني في الشتات. ونعرف أيضا كل شيء عنها منذ ميلادها بالكويت وحتى عودتها لشقتها في الإمارات عقب وداعها لابنتها، في المطار، مرورا برحيلها من الكويت عقب الغزو العراقي له، وحياتها في الأردن لعدة سنوات قبل الرحيل من جديد إلى الإمارات هذه المرة. وحتى نعرف البطلة/ الراوية بحق فإن الرواية تقدمها وسط مجموعة من الدوائر وعبر سلسلة من الفصول تشتبك فيها قصة تكوينها الشخصي بتحولات الواقع الفلسطيني وسعيه المستمر للحفاظ على احتلال الموقع الأخلاقي الأعلى. وهذا الاشتباك بين الاثنين هو الذي يجعل الرواية أكبر من رواية تكوين امرأة فلسطينية، لتكون رواية تكوين المرأة الفلسطينية بأداة التعريف في الجيل التالي للنكبة.

وما يفرض هذا التأويل على النص مسألتان: أولاهما حرص القضية الفلسطينية على التشبث بالموقع الأخلاقي الأعلى وهو الموقع الذي تصوغ الرواية عبره مواقف البطلة/ الراوية في مواجهة محيطها بمن فيهم أخواتها وأفراد أسرتها. وثانيتهما هي صعوبة الفصل بين قصة تكوين البطلة وبين قصة الشتات والتشظي الفلسطيني التي تدفعها للتمسك بفلسطينيتها، وبما تنطوي عليه من موقع أخلاقي معا. يقول إدوار سعيد في كتابه (المسألة الفلسطينية): «رغم كل شيء، رغم أننا قد تشتتنا وتشظينا جغرافيا، رغم أننا لا نملك أرضنا الخاصة بنا كدولة، إلا أننا قد توحدنا كشعب أساسا بسبب الفكرة الفلسطينية، فكرة فلسطين التي صغناها من تجربتنا الخاصة في الاقتلاع والاضطهاد الاستثنائي، لها تماسكها وقوتها التي استجبنا لها جميعا بحماس إيجابي».(4) وهما مسألتان متضافرتان ومتفاعلتان على مستوى لاوعي النص العميق، بصورة لا تنفصل فيها فكرة البطلة عن نفسها، عن فكرة فلسطين بهذه الصورة التي طرحها سعيد.

وهذا التضافر والتفاعل بين المسألتين هو ما ينطوي عليه محتوى الشكل في هذه الرواية والذي بدأ بـ«الباب الأول: في الرحيل الثاني»، باب نقطة صفر الرواية، ونقطة صفر النكبة الفلسطينية معا والتي بدأت هي الأخرى بالرحيل القسري عن الوطن. ليس فقط لأن الفصل الوحيد الذي يندرج تحته مرقم برقم صفر، وهو أمر غير مألوف في الروايات، ولكن أيضا لأن احتراف الرحيل والفراق قد تجذر في تكوين البنت المختلف عن أمها، والرافض لمبالغاتها في شجن الفراق: «أنا رايحة أدرس مش رايحة أحارب». (ص11) لكن الأم برغم حزن الفراق تعي أن وجود الفلسطيني نفسه رحيل متواصل: «أيمهد رحيل لآخر؟ أنتدرب على رحيل أقصر لنحتمل رحيلا أطول؟ أم أننا نحترف الرحيل كما احترفنا العيش في مدن ليست لنا، وأوطان لغيرنا تلفظنا متى ما ملت منا». (ص12) صحيح أن المشترك بين البنت وأمها أكثر من المختلف، إذ نراهما تبكيان معا على فيلم «بيلي إليوت»، وتتشاركان معا في الاهتمام بالفن والثقافة. وأهم من هذا كله بالهم الفلسطيني: إبان مجزرة الرصاص المصبوب البشعة حيث يجمعهما البكاء برغم البعد الذي فرضته الجغرافيا.

فعلاقة البنوة العميقة التي تكتبها الرواية وتتغلب بها على القهر والفقر والعادة بين البطلة/ الأم وابنتها، تفرقهما الأرض وتجمعهما فلسطين من ناحية، وبين البطلة الابنة وأبيها «نعيم» من ناحية أخرى، تقابلها في الرواية علاقة التناقض والتضاد بين البطلة «جهاد» وأخواتها البنات وقد غرقن جميعهن في مباءة الاهتمام بالذات والتحجب «سائرات في الحياة غاضات أبصار الشوق .. فتضاءلت تطلعاتهن وتقهقرت آمالهن». (ص172) والمفارقة المؤسية أن أولى البنات اللواتي تحجبن، فعلن ذلك تحت وقع هداية مستوردة من مصر، وهو أمر له دلالاته السياسية. و«حاول أبي أن يثني رانيا عن الهداية المستوردة، أو تأجيلها إلى أن يتشكل وعيها بموازاة تشكل جسدها، لكنها ظلت على موقفها، تدعمها معلمتها المعارة من مصر» (ص172). لاحظ وصف الأب للتحجب بأنه هداية مستوردة، وللأسف من مصر الذي زحف عليها الظلام في الزمن الرديء قادما من الجزيرة. فما يحدث لمصر سرعان ما يؤثر على فلسطين. وقد كتبت الرواية مسيرة زحف الظلام تلك، حيث أن بقية الأخوات اختفين تماما وراء ظلمة النقاب «رولي» و«رشا». فإلى جانب تأسيس البطلة «جهاد» من خلال تماثل علاقتي البنوة وتناقض علاقات الأخوة لاختلافها من ناحية، ولفلسطينيتها من ناحية، حيث نجد أن قدر الابن الفلسطيني الأكبر هو أن يكون رجل العائلة الثاني مع أبيه. وهو الأمر الذي تحملته «جهاد» البنت برغم ذكورة اسمها، حيث يؤكد لها أبوها «يابا ياجهاد! أنتِ رجل البيت».(ص137) هناك أيضا رغبة النص في رصد مسيرة التحولات المقلوبة التي انتابت الواقع الاجتماعي الثقافي العربي. فالنص يسجل لنا بين سطوره مسيرة هذا الواقع تحت وطأة الهزيمة من التنوير وأحلام الاستقلال التي تنعكس في أسماء الأولاد: «جهاد» التي أراد الأب أن يحمل بها اسم «ابو جهاد»، حتى لو كانت أول أبنائه بنتا، و«جمال» و«ناصر» و«بن بيللا» إلى الهروب من الهزائم إلى الحجاب والنقاب وغيرها من أشكال تغييب العقل واليأس من الحلم بمستقبل أفضل معا.

من رواية التكوين إلى رواية المتخيل الوطني:
وهذا الاهتمام بالتحولات الاجتماعية والثقافية ينقلنا إلى بعد آخر من أبعاد هذه الرواية. فهي تبدو بسبب كل ما تناولت من ملامحها حتى الآن رواية تكوين وتثقيف Bildungsroman بالمعنى الجديد لهذا المصطلح الذي يخرج برواية التكوين عن بنية رواية الأجيال التقليدية، أو رواية سيرة الذات في العالم أو الأسرة تحديدا (كما كان الحال مع ثلاثية نجيب محفوظ، وهي رواية تكوين بطلها كمال عبدالجواد)؛ ولكنها رواية تكوين تمزج بين تجليات هذه الرواية الجديدة، عبر استراتيجيات السرد المراوغة، وبين رواية كتابة الاختلاف النسوية بحساسية أدبية فائقة. فالراوية تحكي لنا كيف تكونت الراوية «جهاد» اجتماعيا وثقافيا وشعوريا وحتى قوميا، عبر رواية أجيال شبه محذوفة، تمتد من الجدتين: فاطمة ورضية عبر الأسرة الصغيرة: «أسرة نعيم» التي هي بكريتها، ببناتها الخمس وصبيانها الثلاثة، وصولا إلى الأبنة «ملكة» التي ربتها وحدها حتى كبرت وذهبت لدراستها الجامعية في بريطانيا؛ والأسرة الكبيرة: التي تضم العمة نجاح والعم «موفق» أبو تيسير، والعم محمود الحاضر الغائب بعد استشهاده في معركة الكرامة [ولمعركة الكرامة دلالتها في المتخيل الوطني الفلسطيني الجديد، فبها يبدأ تاريخ المقاومة وتخليق حركات تحرر فلسطين الجديدة بعد النكبة]، والخالة رحمة وبناتها وعمة الأم «قديرة» والجيران، وحتى من سيلتحقون بالأسرة ويصبحون جزءا من ميراثها ودائرتها الأوسع مثل وليد وماهر. رواية الأجيال هذه مكتوبة بحق، ولكنها شبة محذوفة، وإن كانت حاضرة بقوة، وفاعلة في رواية التكوين الجديدة. فمنذ أن بدل نجيب محفوظ نفسه في روايته الجميلة (حديث الصباح والمساء) بنية رواية الأجيال بشكل جذري، أصبح من الضروري كتابة هذه الرواية بشكل جديد. وهذا بالفعل ما حققته حزامة حبايب في روايتها تلك، حيث يوسع الإجهاز على البنية الزمنية التقليدية لرواية الأجيال من أفق الرواية، دون أن ينال من قدرتها على كتابة رحلة تكوين بطلتها مع الوعي، ومع المسؤوليات التي يضعها على عاتقها دور البنت/ الابن الأكبر في الأسرة. فيجعلها رواية تكوين كما ذكرت، لا تنسى تكوين بطلتها النفسي والروحي والعاطفي، عبر علاقة الحب المهمة في حياتها مع «إياس سليمان» والكتابة والثقافة، وعلاقة الرفقة والصداقة النسائية الحميمة مع زميلتها «مريم» في مدرسة الرصيفة، وغيرها من عناصر التكوين.

لكن اهتمام الرواية برصد الأحداث التاريخية والسياسية، منذ معركة الكرامة 1968 وحتى مجزرة الرصاص المصبوب البربرية 2008 مرورا بما انطوت عليه العقود الأربعة المريرة في التاريخ الفلسطيني من أحداث ومآسٍ دالة، وولعها برصد التحولات الاجتماعية والثقافية العربية عامة منذ الحلم بالاستقلال حتى إسدال النقاب على الوجه والعقل معا، وسيطرة الجماعات المتأسلفة على الواقع العربي الاجتماعي منه والسياسي على السواء، هو ما مكنها من كتابة رواية أخرى موازية لا تقل عنها أهمية، هي رواية المتخيل الوطني الفلسطيني بالمعنى الواسع لهذا المصطلح. وما أعنيه هنا برواية المتخيل الوطني، هي الرواية التي ربطها بنيديكت أندرسون في كتابه العلامة (المتخيل الوطني Imagined Community)(5) بتكوين الشعور القومي والوطني لدى جماعة إنسانية معينة، الرواية القادرة على بلورة هوية شعب وصياغة شخصيته، وبلورة بنية مشاعره الثقافية، والتي تساهم في تخليق اللحمة الوطنية التي تربط بين أبناء هذا الشعب، وتعزز إحساسهم بهويتهم الوطنية أو القومية المتميزة. ورواية (قبل أن تنام الملكة) من هذه الناحية هي رواية فلسطين الوطن العصي على المحو، وقد تجذر في البشر رغم قسوة الشتات والمنفى وصيغ المحو المنظم المختلفة. ورغم ما يربو على قرن كامل من محاولات حركة الاستيطان الصهيونية المدعومة بأعتى القوى الاستعمارية إلغاءه.

وهي من هذه الناحية رواية المنفى بامتياز، لأنها رواية الجيل الثاني بعد النكبة، ليس الجيل الذي ولد على أرض فلسطين وطرد منها، ويحن للعودة إلى فراديسها المفقودة، وإنما الجيل الذي ولد في الشتات، وحمل هويته صليبا لا أمل في النزول عنه. وهو كصليب ورمز لظلم فادح لا يمكن التعايش معه، أو غض الطرف عما ينطوي عليه من معاناة. فلا أمل في التعايش مع المنفى كما يقول سعيد في «تأملات في المنفى»، المقالة التي جعلها عنوانا لكتابه الشهير. لأن أي مسحة رومانسية توشح بها المنفى في الماضي، حينما كان قضية شخصية، قضية موقف ومزاج وتحد ومعارضة، سرعان ما تبددت في عصرنا الراهن، لأن عصرنا «بحروبه الحديثة وإمبرياليته وطموحات حكامه الشموليين المسربلة بصبغة شبه عقائدية، هو في الواقع عصر اللاجئين والمشتتين والهجرات الجماعية. وفي هذا السياق غير الشخصي لا يمكن أن يخدم المنفى أي من المفاهيم الإنسانية، ولا يمكن فهمه إنسانيا أو جماليا. فغالبا نجد أن الأدب المكتوب عن المنفى يجسد قلقا ومصيرا من النادر أن يعيشه أغلب البشر، أو يخبروه خبرة مباشرة ... لأن الفقدانات التي يفرضها على من يعيشونه، وصممه إزاء أي محاولة لفهم أيه إيجابيات فيه ... تجعله كالموت، وإن افتقد إلى رحمة الموت، في نزعه للملايين من البشر مما توفره لهم التقاليد والأسرة والجغرافيا من غذاء»،(6) غذاء روحي ووطني معا.

وما يدعم كون (قبل أن تنام الملكة) رواية متخيل وطني إدراكها العميق المضمر بأن ثمة بعدا قسريا، يوشك أن يكون قدريا، بالمعنى السياسي والاجتماعي للقدر، وليس بمعناه الميتافيزيقي، للمنفى الفلسطيني. فليس لدى الفلسطيني الذي حكم عليه بالنفي من وطنه ترف اختيار منفاه، وإنما هي عملية طرد قسري من الأرض والوطن، ثم «من بلاد تلفظنا متى ما ملت منا». لكن أهم ما تجسده الرواية، هو طرحها للحياة الفلسطينية المفعمة بالحيوية والتألق والإنسانية في مقابل الموت الذي يفرضه المنفى كما يقول إدوار سعيد. وهو طرح عززته عملية التضافر على مستوى البنية الروائية بين رواية التكوين ورواية المتخيل الوطني. فرواية التكوين هي رواية تألق الحياة المفعمة بالرغبة في النمو والنضج، وهي التي مكنت رواية المتخيل الوطني من أن تطرح الحياة الفلسطينية/ والهوية الوطنية الفلسطينية بقوة في مواجهة الموت الذي يتربص بها من كل موقع. لأن رواية التكوين هي التي جعلت حجر الأساس في كتابة فلسطين كمتخيل وطني عصي على المحو، هو البشر لا المكان. على عكس كثير من روايات المتخيل الوطني التي يشكل تجذرها في المكان أهم رواسيها المنطلقية.

وهذا الإنسان الفلسطيني الذي يجالد منفاه، ويتحمل ترسبات الهزيمة في أقرب الناس إليه، لا يني يواصل الارتقاء بحياته ويسعى لتخفيف وطأة صليبه عليه عبر الاستمرار في الحياة، والاستمرار في التقدم فيها معا. فنحن هنا بإزاء جماعة فلسطينية تتقدم بالمعنى الثقافي والاجتماعي للتقدم برغم كل الصعاب. فأسرة البطلة التي عانت من شظف العيش لتوفير الستر، بسبب تعليم الأب المحدود، وبسبب حجمها الكبير: ثمانية أبناء (خمس بنات وثلاثة أولاد) تحرص بفضل الابنة «جهاد»، وقيامها بدور رجل البيت الثاني مع أبيها، على أن ينال كل أخوتها، البنات منهم قبل البنين، تعليما عاليا. لوعي الفلسطيني بأن التعليم هو آلة الحراك الاجتماعي المضمونة. لذلك يبدو خروج «رانيا» من الحسبة مبكرا «خرجت رانيا من بيتنا وحسبتنا مبكرا»(ص182) نوعا من الخطيئة الاجتماعية في حق الأسرة، وفي حق فلسطين نفسها. وما يضاعف من وقع هذه الخطيئة على الأسرة هو ارتباطها بالنفاق الديني، وتعارضها مع ما يدعو إليه الدين من تكافل. فقد كانت «رانيا» هي من جلبت الحجاب والهداية المستوردة إلى الأسرة، واضطرت الأم إلى التحجب بعدها، «إذ لم يعد مستساغا أن تمشي الأم في الشارع حاسرة، فيما تزملت صغيرتها بحجاب متكامل». (ص173)

لكن خروج رانيا ومن تلاها من الحسبة، هو ما يدعم حيازة «جهاد» للموقع الأخلاقي الأعلى لأنها ساهمت في تعليم اخوتها جميعا بالجامعة، وفي دفع مصاريف تعليم وليد فوق البيعة. بصورة ارتقت بها حياتهم فوق حياة الشظف والستر التي وفرها لهم الأب الذي لم يتح له مثل حظ أبنائه من التعليم. ويوشك وليد أن يكون هو الآخر نموذجا لتفاني الفلسطيني في التقدم رغم الصليب الرازح فوق كاهله. فقد تحمل وليد الصبي الذي تكويه «زوجة الأب» بالسكين الساخنة لأدنى هفوة، صليبه بجلد لا يتوفر لكثير من الرجال. وواصل بيع الكعك طفلا كي يوفر تكاليف تعليمه. «ثم صار يشتغل في معرشة بطيخ في الصيف، ثم في محل لبيع الجلابيب النسائية بعد المدرسة. وعلى الرغم من معدله المرتفع في الثانوية العامة إلا أن والده أشهر عجزه عن تعليمه .. حين علمت بأمر وليد من أمي .. تكفلت برسوم دراسته الجامعية»(ص305) وها هو الآن مهندسا في شركة ألمانية بمسقط.

لكن الفلسطيني الذي ولد في الشتات/ المنفى بعيدا عن فلسطين الرازحة تحت عبء الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، والذي يحرص على التعليم والتقدم، لا يملك ترف تجذير نفسه في أي مكان. لذلك كان «الرحيل»، والحياة في «البيوت العارية» من المفردات التي تظهر بوضوح في عناوين أبواب هذه الرواية. لكن الرحيل في حالة راويتنا يتجسد أيضا كطرد من الأرض/ القبر/ الكويت التي ولدت البطلة/ «جهاد» فيها، والتي تأسست في الرواية الفلسطينية كمقبرة منذ (رجال في الشمس) لغسان كنفاني حيث تحولت إلى مقبرة لأبطاله الثلاثة؛ وحتى (الميراث) لسحر خليفة التي تعود فيها «نهلة» إثر طردها من الكويت التي افنت فيها سني شبابها، كي تعلم الأخ في أوروبا، وتبقي لأبيها مزرعته في «وادي الريحان» ضد توسيع مستوطنة «كريا راحيل»، وسعي المستوطنين الصهاينة الحثيث للاستيلاء على الأرض الفلسطينية. تعود «نهلة» من الكويت مطرودة بعد حرب الخليج والاحتلال الأميركي لها، لتكتشف عبث سعيها العبثي لتأمين مزرعة الأب/ لتأمين ارض فلسطين عبر الكويت.

والواقع أن الرواية استطاعت تصوير الكويت بحق كمقبرة لكل حلم فلسطيني حقيقي: من حلم التحقق وحتى حلم الحب. وأن تكتب احتلال العراق للكويت كما لم يكتب من قبل في الرواية العربية، وتكتب وقعه على الفلسطينيين خاصة بطريقة دامغة. فخروج البطلة من الكويت بعد تحولها إلى مدينة قهر وأشباح يعيد من جديد إلى الذاكرة مشاهد النزوح القسري الفلسطيني من أرض فلسطين إبان النكبة. ألا يبدو هذا المفتتح للفصل الحادي وكأنه مكتوب عن نزوح عام 1948؟ «لم تخايلني الظنون لحظة أن أيامي تلك كانت ستكون أيامي الأخيرة في الكويت. كنت مفعمة بالثقة أننا في مكاننا ثابتون، رغم إرث النزوح ... حتى أنني من بالغ اليقين أو فيض الإثم تركت رواية (خفة الكائن التي لا تحتمل) على الكومودينو بالقرب من سريري بعلامة في منتصفها، كي أكمل قراءتها حين عودتنا». (ص176) وهو إثم يعززه الوعي بأن المكان ليس حقا مكانهم. إذ يبدأ الباب الرابع من الرواية، والمعنون بـ«في البيوت العارية» بهذا المفتتح الدال: «إن الحياة في بلد نفطي كالكويت لم تجعلنا كويتيين، كما كان أقرباؤنا الكثر الذين خلفناهم خلفنا في المخيمات يتهموننا أو يحسدوننا». (ص153) وتكشف لنا كيف أن هذه الحياة لم تكن إلا امتدادا لحياة الفلسطيني في المخيم، فشقتهم في الكويت لم تختلف في تفاصيلها كثيرا عن بيت عمها أبو تيسير في مخيم الوحدات في عمّان. «ففي كلا البيتين هناك الصورة إياها لعمي محمود الذي استشهد في معركة الكرامة»(ص 153). لأن الكويت صنعت للفلسطيني «الجيتو» الخاص به في منطقة النقرة، وانشأت له فيها مخيماته.

الزمكان وجغرافيا السرد الروائي:
توشك كتابة المكان في هذه الرواية أن تكون نوعا من كتابة المحو، وخاصة إذا ما تفحصنا تعاملها مع المكان فيها: مثل الكويت والأردن والإمارات. فجغرافيا المكان الواقعي الذي تدور فيه الرواية، ليست مقصودة لذاتها، وإنما لكي يخلق السرد الروائي تحت إهابها جغرافيا بديلة أخرى واقعه باستمرار تحت الممحاة كما يقول جاك ديريدا، هي جغرافيا فلسطين. وسوف نحتاج هنا إلى تناول المكان من خلال مصطلح ميخائيل باختين الشهير «الزمكان Chronotope» وهو مصطلح يدمج السابقة التي تشير للزمان Chrono مع لاحقة تشير عادة للمكان Topos ليبلور مفهوما مهما في نقد الرواية للعلاقة الجدلية بين الزمان والمكان، أو زمكانية الموقع الروائي في أي عمل روائي متقن. لأن الرواية عنده لا تقدم مكانا محايدا أو منفصلا عن زمانه، وإنما متجذرا في زمان محدد ويكتسب حيوته ببشر محددين لا وجود لهم خارج هذا الزمكان المعين. بالصورة التي يوشك أن يكون الزمن فيها هو البعد الرابع لهذا المكان بأبعاده الثلاثة المعروفة.

يقول باختين في (الخيال الحواري The Dialogic Imagination) «سنخصص مصطلح الزمكان للرابطة الداخلية المضمرة بين الزمني والمكاني في التعبير الأدبي. وهو مصطلح يستعمل في الرياضيات، وقد استخدمه أينشتين في نظرية النسبية. لكن معناه في النظرية النسبية ليس مهما بالنسبة لنا، ولكننا نستعير المصطلح هنا لغايات أدبية محضة، باعتباره استعارة، أو بالأحرى نوعا من الاستعارة، لأن ما يعنينا هو حقيقة أنه يجسد استحالة الفصل بين الزمان والمكان، وبأن الزمان هو البعد الرابع للمكان. والزمكان بالنسبة لنا هو أحد مكونات البنية الأدبية، ولن نتناوله في أي مجال آخر من مجالات الثقافة المختلفة. فالزمكان الأدبي يتم فيه دمج الزمني والمكاني بطريقة حصيفة وعمدية ومستبصرة لخلق كل متكامل. حيث يكتسب الزمان ثقله ويكتسي باللحم ويصبح مرئيا من خلال الفن، كما ينضح المكان بحركة الزمن فيه وبالحبكة والتاريخ. وهذا اللقاء بين المحورين، بما ينطوي عليه من اندغام الدلالات والمؤشرات، هو ما يتسم به الزمكان الأدبي. لأن الزمكان ينطوي على دلالات داخلية وتجنيسية في العمل الأدبي، بصورة يمكن معها القول إن الزمكان هو ما يحدد الجنس الأدبي والتمييز بين الأجناس، حيث أن القيمة الأساسية لزمكانية العمل الأدبي هي تجسيد الزمن، كما أن الزمكان كمكون من مكونات الشكل الأدبي يساهم بدرجة كبيرة في صياغة صورة الإنسان في الأدب. لأن صورة الإنسان هي دوما زمكانية».(7)

 بهذا التصور الباختيني المهم بأن صورة الإنسان في الرواية هي دوما «زمكانية» علينا أن نتناول طبيعة المكان في هذه الرواية. لأننا بإزاء رواية فلسطينية قوية لم يدر فيها مشهد واحد على أرض فلسطين. وهي لذلك برهان ساطع على أن فلسطين باقية وستعود، برغم كل ما تفعله دولة الاستيطان الصهيوني على أرضها؛ وعلى أن كتابة فلسطين وتجسيدها في الأدب هي شكل من أشكال طرحها عبر الإنسان في مواجهة المحو. فكتابة المكان في هذه الرواية هي نوع من بلورة الممحي على أطلال المكان الحاضر/ الغائب معا وأطراسه. إذ يدور القسم الأول منها، إذا ما تعاملنا مع الزمن التتابعي Chronology فيها بطريقة تفصله عن الزمن الروائي الذي يتحرر من التتابع التقليدي والتسلسل السببي، في الكويت. ففيها ولدت البطلة «جهاد» وعاشت وتعلمت وأحبت وتزوجت وانجبت ابنتها الأولى بعد الطلاق، وقبيل الاجتياح العراقي للكويت، والاضطرار للرحيل عنه. أما القسم الثاني، أو بالتحديد السنوات السبع الأولى في حياة ابنتها «ملكة»، فتدور في الأردن حيث الأسرة الفلسطينية الأوسع. ليس فقط الجدات والعم والعمة والخالة وأبناؤهم وبناتهم، وإنما أيضا فلسطينيون آخرون، مثل مريم وماهر ووليد، سيوسعون أفق الأسرة لتصبح جديرة بتجسيد فلسطين. ثم يجيء القسم الثالث والأخير، وهو أقصر الأقسام من حيث الأمد السردي، وإن كان لا يقل طولا من حيث الزمن التتابعي عن القسم الأول، فيدور في الإمارات التي جاءت إليها بابنتها «ملكة» طفلة، واستمرت بها حتى فردت البنت جناحيها وقررت أن تغادر عش الأم للدراسة في بريطانيا. فتمرد الابنة، وهي تشب عن الطوق وتفرد جناحيها وتطير، مرآة لتمرد الأم وتكريس لأهميته.

لكن الرواية لا تكتب الزمن فيها بشكل تتابعي، وإنما تعتمد البنية الزمنية على التركيز على بؤرة الحاضر، واستدعاءات الماضي عبر ثيمات محددة مثل مآل المال، أو دلالات الأسماء، أو طبيعة الغرف العارية، أو الحب غير المنطقي، من أجل فهم أعمق له من ناحية، ومن أجل توسيع الأفق الزمني وتعميقه تاريخيا عبر الحفر فيه من ناحية أخرى. كما أنها لا تكتفي بتلك المرتكزات المكانية الثلاثة، وإنما توسع جغرافيا النص من خلال التقنيات الالكترونية، لموضوعة الوطني في العالم. وخاصة حينما يتسع الشتات ليشمل «إياس سليمان» والابنة «ملكة» في بريطانيا. لكنها تفعل هذا كله من أجل أن تكتب رواية المتخيل الوطني الفلسطيني، ولامبالاة المنافي أو قسوتها التي تحول دون أن تكون بديلا للوطن. فهي غير مشغولة بالكويت أو الإمارات أو حتى الأردن، غير مشغولة بجغرافيا الواقع، وإنما بجغرافيا المتخيل الوطني الفلسطيني البديلة. حيث يتأسس تحت إهاب كل ما يدور فيها من وقائع سردية معنى الوطن المرتجى بكل زخمه وعرامته.

فاستراتيجيات كتابة المكان/ الوطن في الرواية تعمل دائما على بلورة الجغرافيا الفلسطينية البديلة في مواجهة الجغرافيا الواقعية/ جغرافيا المنفى. فبضربة سردية موفقة تحيل تقنيات الزمكان الكويت إلى واحدة من تجليات تبلور المخيم الفلسطيني، شارة النكبة وعنوانها. حينما تربط بيت أبيها في حي «النقرة» بالكويت، ببيت عمها «أبو تيسير» في مخيم الوحدات، بالأردن. ليصبح البيت فيهما معا مكانا للجوء الفلسطيني، تطلّ عليه صورة العم محمود الذي استشهد في معركة الكرامة، وكأنه فرد حي من أفراد الأسرة، يبث التلوين في صورته حياة جديدة، ويحيله إلى شارة فخر واعتزاز للأسرة التي دفعت ضريبة الدم من أجل فلسطين. «ففي كلا البيتين هناك الصورة إياها لعمي محمود الذي استشهد في معركة الكرامة، وقد تم تلوينها لاحقا، فغدا عمي فيها أنقى وجها وأرق ابتسامة، بملامح سينمائية غشتها طلة حلمية» (ص153). وهناك أيضا نفس الأثاث تقريبا ونفس المقتنيات ومواد الأكل والشرب التي يتخلق عبرها نمط حياة فلسطينية صرفة. حيث يتواصل الوصف هكذا «وهناك أيضا في كل من مخيمي النقرة والوحدات ..» (154) بالصورة التي يمد فيها المكان الكائن بصدفة جغرافية في الكويت أواصر علاقته الفلسطينية المتينة بمكان كائن هو الآخر بصدفة جغرافية أخرى في الأردن.

وتتخلق العلاقات الإنسانية بين سكان هذا المخيم الكائن بمحض المصادفة في هذا البلد النفطي الذي قدر الانجليز له، لغايات في نفس الإمبريالية، أن ينسلخ عن العراق، وقدرت له فوائضه النفطية وعجزه البشري أن يكون مخيما لأكثر من نصف مليون فلسطيني يقيمون أود الحياة فيه، تتخلق العلاقات وكأنها تتخلق في زمكانها الخاص الذي لا علاقة له بالكويت. فقد فقد سكان هذا المخيم وطنا، وفرض عليهم وطن آخر انتزعه نفس المستعمر الانجليزي، الذي منح فلسطين بوعد بلفور المشؤوم للصهاينة، من جسد العراق، فظل يحمل سمات الأوطان الاصطناعية وتناقضاتها وتوترات سكانها. حيث تدخل بنا الرواية إلى قلب الأسرة الفلسطينية التي تنفي الشتات والنفي والقهر بتشبثها العارم بإنسانيتها وبالحياة، وبوفرة قدرتها على خلق البشر الذين يجعلون الحياة حياة. حيث لم يكن متاحا للفلسطيني من ملذات في مقبرة الكويت تلك غير ما دعاه العبقري الراحل يوسف إدريس بـ«أرخص ليالي» فيزداد عدد الأولاد. ويقع على كاهل البنت البكر أن تكون «رجل البيت» مع أبيها، تحمل عنه بعض عبء الأسرة الفلسطينية الكبيرة التي تدفع بالديموغرافيا شرور الجغرافيا. فقد رزق الأب بثمانية بينما رزق العم بعشرة. (ص156) وتعرفنا على علاقات هذه الأسرة بجيرانها من صديقات الأم وأعضاء «جمعياتها» لتوفير الأموال التي تحتاجها النسوة بسبب تقتير الزمن. وعلاقة البطلة/ الراوية بصديقتها في المدرسة «فلسطين»، وعلاقة الأب بذلك الطيف الحلمي الجميل [المرأة الواقفة في الشرفة كل صباح تشرب قهوتها وتمج دخان سيجارتها] الواقف في شرفة معلقة في فضاء حلمي لا علاقة له بالجغرافيا، والتي وقع الأب في غرامها لشهور حتى اختفت ... تبدو هذه الشخصيات كلها وكأنها ليست موجودة في جغرافيا الكويت، وإنما في مجرة الشتات الفلسطيني الخاصة.

ولا تطل الكويت على هذه المجرة الفلسطينية الثرية بإنسانها إلا بشكل سلبي خالص، يتجسد مرة في غارات «بو حمد» صاحب البيت الذي يدق الباب عليهم، يوشك أن يخلعه، مطالبا بالأجرة التي تأخر الأب في تسديدها في موعدها، وهي غارات تصفها الأم بـ«هبّ الطوز» (ص157) الذي يهب عليهم برياحه السافية. وكان على الأسرة أن تنتظر عمل البنت حتى تدرأ عنها شروره «فلم يعد بو حمد يهب علينا رياحا رملية صفراء تهدد باقتلاعنا من وطننا الراسخ». (ص189) أو من خلال محاولة الكويت عرقلة مسيرة الفلسطيني نحو التعليم، والتعليم شرط حياة بالنسبة للفلسطيني، بحرمانها لأبناء الوافدين، وأغلبهم من الفلسطينيين، من حق التعليم الحكومي المجاني. (ص33)، وهو الأمر الذي تغلبت عليه البنت «جهاد» بتفوقها والتحاقها بجامعة الكويت «التي اشترطت معدلات تعجيزية لقبول الوافدين». (ص 131) أما إطلالة الكويت الثانية على تلك المجرة الفلسطينية، فجاءت مع تصفير الكويت، أي تحويلها إلى صفر عقب استرداد العراق لها عام 1990 وإعلانها المحافظة التاسعة عشر. هنا تبدو الكويت على حقيقتها كمقبرة، فحتى لو لم يكن القارئ واعيا بتأسيس الرواية الفلسطينية للكويت كمقبرة، في أعمال غسان كنفاني وسحر خليفة، فإن زمكانية تعامل الرواية مع الكويت ستكشف له ذلك. فقد هرب سكانها منها بعد الاجتياح العراقي. هنا تكشف لنا الرواية الكويت على حقيقتها؛ وقد تحولت إلى أحراش حقيقية لا مدينة حديثة. يرتع فيها الجند العراقيون بلا رقيب، ويفرض فيها حراس العمارات على الخادمات السيرلانكيات والفيليبينيات اللواتي علقن في هذا الوضع المزري إتاوات مادية وجسدية معا. وتكشف لنا الرواية من خلال وصفها لما تعرضت له مجموعة من الخادمات السيرلانكيات من اغتصاب وسرقة، اضطررن معها لقتل حارس العمارة القوّاد، مصدر عذابهن، عن طبيعة الكويت وقد عرتها عملية الاجتياح، وكشفت كل عوراتها القبيحة.

في هذه الكويت/ الصفر ولدت البنت، كما ولدت أمها من قبلها. ولكن إذا كانت الأم قد ولدت في الكويت في مرحلة ازدهارها، فإن البنت هي الأخرى قد ولدت فيها، ولكن في توقيت مهم هذه المرة هو توقيت إلغاء الكويت، أو درجة صفرها ومقبرتها المؤقتة، وتحويلها إلى المحافظة العراقية التاسعة عشر. لذلك كان طبيعيا أن تترك البنت الكويت بحكم ضرورة ما يمكن دعوته بالقدر السردي الذي لا يقبل لحياة فلسطينية جديدة أن تتخلق في تلك المقبرة. وقد بلغت هذه الابنة الآن، وبعد التحرير أو الاستعمار الأميركي للكويت، العشرين وذهبت للدراسة في بريطانيا، لا من الكويت التي ولدت فيها، وإنما من الإمارات، التي عاشت فيها لسنوات طويلة من حياتها، ولكنها ألغتها من تلك الحياة كما ألغت أمها الكويت من حياتها قبلها. فالإمارات، وبالرغم من أن الابنة أمضت فيها مع أمها زهرة صباها وبدايات مراهقتها قد غيبت هي الأخرى من فضاء النص تماما، حيث يكتب النص شخصية البنت زمكانيا في سياق هذا التغييب، الذي ساهم تقلص الأمد السردي في تعزيز غيبته. حيث لا يبدو أن للأمارات أي وجود في حياة الأم أو ابنتها، أو أي دور في تطوير الحبكة السردية، اللهم إلا استخدامها تكأة للإقناع السردي، وتبرير قدرة الأم على تعليم ابنتها في أوروبا.

قلت أن ضرورات القدر السردي، وللسرد الجيد منطقه وضروراته، حكمت ألا تعيش البنت في مقبرة الكويت، وهو الحكم الذي اتاح، عبر رحلة السفر القسري من الكويت، عبر العراق إلى الأردن، للرواية أن تكتب واحدة من أكثر فصولها تأثيرا ودرامية. وأن تكتب ميلاد الفلسطينية الجديدة، أو أحدث الأجيال الفلسطينية الذين تمثلهم الأبنة، في قلب الرحيل والنفي، تجالد امها كي توفر لها الحد الأدنى من ضرورات الحياة. وكأنها تكتب رحلة الخروج والشتات الفلسطيني الأول من جديد، لمن توهم أنه قد تغلب على شتاته، أو أنه قد استقر في أرض غير أرض فلسطين. أو كأنها تمهر الأبنة بخاتم الرحيل والشتات الفلسطيني وهي لاتزال في لفائف الميلاد. وقد شاءت لها تلك الضرورات أن ترتحل وهي طفلة إلى الأردن التي تكتبها الرواية زمكانيا بشكل مغاير كلية لكتابتها لكل من الكويت والإمارات. فالأردن، وهي تاريخيا وواقعيا موطن أكبر عدد من الفلسطينيين، كانت بمنطق السرد، ضرورية كي تنشأ فيها «ملكة» أو تمضي بها سنوات الطفولة والتكوين الأولى. فتكريس البنت كفلسطينية كأمها جزء أساسي من كتابة المتخيل الوطني الفلسطيني في هذه الرواية، لذلك كانت كتابة المكان الأردني فيها مغايرة كلية لكتابة الكويت أو الإمارات.

فالأردن مع أنها «أرض ناشفة، ومدى جغرافي تخفف كثيرا من تنويعات السلاسة والانسياب»، (ص219) توشك أن تكون زمكانيا في هذه الرواية هي الجغرافيا الفلسطينية البديلة. ففيها يعود الفلسطيني إلى كن الأسرة الكبيرة الممتدة من العمات والخالات والجدات والأعمام وحتى الجيران. فيها تنداح الحدود بين جغرافيا المخيم والواقع الخارجي، وتستطيع الأسرة التي كانت منفية في الكويت، مهددة بأن تهب عليها رياح «الطوز» المقيتة في أي لحظة، أن يكون لها بيتها، مهما كان تواضع هذا البيت، بحديقته ودواليه وشجرة الأكادينيا والخوخ، وصبيان الجيران الذين يتسلقون الشجرة ثم يقعون منها في قلب الأسرة، ويصبحون جزءا من عالمها الثري الممتد. في الأردن تدخلك الرواية بيسر في حياة هذه الأسرة الفلسطينية الكبيرة، وتجعلك تعرفهم بحميمة وكأنهم أهلك بالفعل. تعرف عبر هذا كله فلسطينيتهم ومعاناتهم، وأن هذا النوع من المعاناة وإن شاركهم فيه كثير من الفقراء مثلهم في عالمنا العربي، هو فلسطيني بامتياز. في الأردن أيضا يتأسس دور البطلة/ الراوية كرب الأسرة، بعدما آثرها الأب على نفسه بلعبة ورقة مغادرة الكويت: من منهما يترك الكويت/ المقبرة، وكتب اسمها على الورقتين. وهي لعبة تدعم العلاقة الحميمة وما تنطوي عليه من ندية، وتعزز في الوقت نفسه من سلطة الفعل الروائي ودلالاته.

وفي الأردن أيضا تتأسس علاقة الصداقة الوطيدة بين البطلة وزميلتها مريم في المدرسة، وهي علاقة قوامها تشبث كل منهما بفلسطينيتها في وجه الفلسطينيات المتأردنات (ص88) اللواتي لا يدركن أن قدر الفلسطيني هو الحفاظ على هويته الفلسطينية، لا الذوبان في أي هوية أخرى. لذلك لم نعرف في الرواية إلا مريم باهتماماتها وفلسطينيتها وحبها للحياة، أما المتأردنات فقد أحالهن النص إلى كم مهمل لا قيمة له، ولا يعبأ حتى بأن يمنح أي منهن اسما، لأن التسمية طقس وجود، قبل أن تكون فعل اعتراف. وكما هو الحال مع الكويت، فإن الأردن لا يطل زمكانيا على هذا القسم  إلا بشكل سلبي، عبر ناظرة المدرسة عيوش وتهديداتها المستمرة بشأن تحية العلم، أو عبر الموظف الذي يطلب من البطلة أن تقسم يمين الولاء مرة ثانية بعدما قامت به بربرة، لأن ولاءها الوحيد هو لفلسطينيتها قبل أي شيء آخر. أو الشرطي الذي يفحص ما يقدم ضد أخيها الحبيب «بيللا» من شكاوى، وإن بدا أكثر تعاطفا معها من الآخرين، وهو ينبهها إلى ما يحق لها وما لا يحق تحت طائلة القانون. وهكذا تكرس كل استراتيجيات الكتابة مختلف جوانب المتخيل الوطني الفلسطيني المكانية منها والإنسانية والسياسية على السواء.

هوامش:
(1) المقصود هنا هو الإشارة لما توصلت إليه الباحثة الأمريكية المرموقة إيلين شوولتر في كتابها الشهير عن أدب المرأة في الأدب الانجليزي والذي أصبح من كلاسيكيات النظرية النسوية، وهو  Elaine Showalter, A Literature of Their Own: British Women Novelists from Bronte to Lessing (Princeton, New Jersey, Princeton University Press, 1998)  إلى أن هذا الأدب مر بثلاث مراحل، تسمى أولاهما بمرحلة الأنوثة Feminine والذي تبنت فيها المرأة كلية المنظور الأبوي لها واستبطنته كي تدخل عبره إلى ساحة القوة الرمزية والتعبير الأدبي، وثانيها هي مرحلة الأدب النسائي السجاليFeminist  الذي سعت فيه المرأة لتقويض سلطة الرجل وتبديل تراتباتها، والثالثة هي مرحلة كتابة الاختلاف  Femaleالتي تكتب فيها المرأة اختلافها دون الدخول في عراك مع الرجل لا طائل من ورائه.
(2) حزامة حبايب، قبل أن تنام الملكة، (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2011) ص 322، وبعد ذلك ستكون كل الإشارات للرواية داخل النص لصفحات هذه الطبعة.
(3) راجع Edward Said, Reflections on Exile: And Other Literary and Cultural Essays (London, Granta Books, 2001), p. 173.
(4) Edward Said, The Question of Palestine (New York, New York Times Books, 1980), p. x
(5) للمزيد من التفاصيل راجع  الكتاب: Benedict Anderson, Imagined Communities: Reflections on the Origin and Spread of Nationalism (London, Verso; Revised edition 1991)
(6) إدوار سعيد (تأملات في المنفى) المشار له في هامش 3، ص 174.
(7) M.M. Bakhtin,The Dialogic Imagination: Four Essays by M.M. , translated by Caryl Emerson & Michael Holquist, University of Texas Press, 1981, p. 103.