تكشف قراءة الناقد المصري لهذه الرواية المصرية الجديدة عن تغير صورة القرية المصرية القديمة التي كتبها كتاب جيل الستينات، وعن كيفية تغلغل التردي والدمار في بنية القرية فتبدلت منظومة القيم فيها، وسادتها أخلاقيات الجشع وآليات الرأسمالية المتوحشة، وتكشف معها عن تطور البنية الروائية الجمالية التي تتناولها معا.

مرثية عذبة لعالم القرية الرأسمالية

قراءة في «أمنا الغولة» لمحمد داود

ممدوح فراج النابي

محمد داود روائي مصري، يعمل طبيباً، صدر له أربعة أعمال روائية على التوالي هي (قف على قبري شويا) 2002، (العمى والسما) 2004، و(فؤاد فؤاد) 2008، و(أمنا الغولة) الصادرة عن دار ميريت للنشر 2010. على مدار الرحلة الإبداعية للكاتب - غير الطويلة - نكتشف أنَّ المؤلف يُؤَسِّسُ لمشروعٍ إبداعي يَسْتَمدُّ لبناته من القرية، والتي هنا تُصْبِحُ قريةً لصيقةَ الصلةِ بالمتغيرات التي تحدث في العالم المحيط، بآلياته التي تجعل من العالم قريةً صغيرةً بمفهوم العولمة، ومن ثم تنعكس سياساته وأيديولوجياته على إنسان القرية الذي تبدّلت مقوماته وسلوكياته، فأضحت مغايرةً لِما أَلِفْنَاه من نماذج شخصية الفلاح التي عرفناها في كلاسيكيات الأدب العربي، والتي تمثّلتْ في روائع زينب لمحمد حسين هيكل، ودعاء الكراون لطه حسين، وإبداعات محمد عبد الحليم عبد الله، وإبراهيم عبد القادر المازني، وغيرها من الكتابات التي جسّدت موضوع الريف بكل قيّمه ومُثُله.

-1-

في هذه الرواية (أمنا الغولة) يُقَدِّمُ لنا المؤلفُ عالَم الريف/ القرية، بعدما أصابته المتغيّرات التي أوصلت إنسانه لأن ينهارَ ويتفسخ (وهو ما آلت إليه شخصيات عبد الحكيم قاسم في أيام الإنسان السبعة 1967 كبداية جاءت نهايتها في هذا النص) حيث نلتقي هنا بإنسان القرية بعدما أصبح ناجحاً في التعامل مع هذه المتغيرات، وقد أضحت سلوكاً ينتهجه مع الآخرين وخاصة الأقل منه أو بمعني أدق الضعفاء، فتبدَّلت قيم وسلوكيات إنسانه وفق معايير نسق السوق التي حلّت على المجتمع، فأضحت قيّماً استهلاكية لا تبادليّة بل فاقتها إلى قيّم نفعية استغلالية، وصار منتهجو هذه السلوكيات أشبه بمصاصي الدماء الذين يتغذون ويحيون على غيرهم من الضعفاء والطيبين والسُذَّج الذين يقعون فريسةً سهلةً للغيلان حتى ولو كانوا من الإنس ( فما بالنا بغيلان العالم السفلي / الجن كما سيتضح من أفعال أمنا الغولة، وابنها روصنم ـ معكوس اسم منصور )، في صورة موازية للكائنات الطفيلية، ومن ثم تسود روح الأنانية والاستغلال والنفعية ـ الطارئة - التي حلّت تِبعاً لقيم السوق التي استشرت وتوغلتْ في الدماء، وقد وصلت فداحتها إلى استغلال طيبة وحاجة الجد إبراهيم لإرضاء إنشراح اليتيمة ابنة خليل، في شراء بطانية ضمن شوارها، مثلما فعل مصيلحي بائع البطاطين وزميله واستنزفا ما معه، حتي خشي من مجيء جرجس بائع الأحذية في موعده الشهري، لأخذ قسط الحذاء (دون أن يعلم أيضاً - أن جرجس باعه الحذاء ' بأكثر من ضعف السعر الأصلي' (الرواية : ص 130)، ولا يجد ما يدفعه له سوى الاعتذار عن دفع القسط . أو استغلال مصائب الناس كما في حالة البقال الزلباني، فراح يستغل موت الجاموسة وَعَقَدَ صفقةً مع تُجار البندر (جزارين وأصحاب المطاعم)، لشراء الذبيحة بثمنٍ بخسٍ.

هكذا تبدّل نسق القيم، وهُتكت الصورة المثالية للقرية الرومانسية، التي دأبت الخطابات على تكريسها، فنصبح أمام عالم جديد/ غريب عن القرية المحفوظة في مخزوننا العقلي. يستمد مُثُله وقِيَّمِه من نظام عالمي أحد أهم سماته، أن القوي يفترس فيه الضعيف، فلا مجال فيه للمبادئ والقيم الإنسانية، وإنما الغلبة فيه للمكائد ونَصْبِ الشِّرَاك للوقوع بالفريسة؛ لاستحلابها ومصّ دماءها. وكأننا أمام عالم من الغيلان، تتصارع فيما بينها مدفوعةً بلذة الاشتهاء ومصّ الدماء، مع الفارق، أن قانون الغيلان في مفارقة ذات مغزى لغابية النظام الإنسي، الذي يستحلُّ الإنسان أخاه دون اعتراف بانتمائه إلى جنسه وفصيله أو حتى الاحتكام إلى عهود ومواثيق - لا يصطادُ فرائسه من المكان/ الحيِّز الذي يعيشُ فيه حتى ولو كان هذا العهد بدافع المصلحة كما ذكرت الغولة الأم لابنها 'روصنم' في سياق سرد الأخطاء التي وقع فيها عندما أراد أن يصطاد روصنم الغول سبرتو بائع البطاطين، مدفوعاً بلذة اشتهاء روائح الفرائس التي لا تقاوم، فتقنّعَ بقناع زوجته في محاولة منه لنصب الشَّرك للبائع واصطياده. ومن ثمَّ، في ظلِّ هذا، فلا غرابة في أن تشتهي الأخت أخاها، ويمارسان ضرباً من العشق المحرَّم، دون اكتراث بقيم وأعراف أو حتى دين يستهجن هذا الفعل القبيح. أو ينتهج أفراده أفعالاً مقززة لا تقل بشاعة وحرمانية عن فعل زنا المحارم، مثل الشذوذ الجنسي، كما في حال الباعة السريحة فيما بينهم، حتى وإن بدا أفراد هذا الفعل من خارج القرية، لكن تواجدهم في القرية وممارستهم للفعل فيها، يؤكد اختراقها للأعراف حتى ولو كانت من الغريب، مثلما حدث مع مصيلحي وسبرتو، ومحاولاته المتكررة لممارسة الشذوذ معه، في الصندوق الخلفي للسيارة، أو النط خلفه في دورة مياه الجامع؛ لكنه فشل في الأخير. كما أن الغريب هذا حاول أنْ يُمَارِسَ مثل هذا الفعل مع أحد أفراد القرية مثلما حدث من أفعال مصيلحي مع حسن وهو يقبض يده على فخذه، أثناء الجدال على شراء البطانية (راجع الرواية ص: 91)  أو اللواط بين الرجل والحيوان، كما في حالة الرجل المعترض في الجامع، حتى صار لقبه مقترناً بهذا الفعل، فَلُقِّبَ 'بتاع المعيز' بسبب ماضيه، حيث ضُبِطَ مع مِعْزَةٍ في صِباه.

أو ما شاب نمط العلاقات بين أفراد الجماعة الواحدة، أو المشابهة من تَغيِّرٍ للنقيض، فروح المشاركة التي كانت سِمَةً من سمات هذه المجتمعات بتعبير إميل دوركايم، تقَّلصت حتى وصلت في أحد مستوياتها ـ المنحدرة - إلى الخسة والنذالة، كما حدث عند موت جاموسة الجدِّ، فتخاذل شحاته السائق والحاج منصور في المساعدة بإرسال السيارة مع حسن لإحضار الطبيب فيصل، بعد أن فشل الجد منعم في توليدها. أو حالة الموات الجماعي التي أصابت أهل القرية '5'، وعدم شعورهم بالواجب ـ من تلقاء أنفسهم ـ إزاء ما حدث لجاموسة الجد إبراهيم، رغم الفعل التحفيزي من جانب الجد منعم بمناداته في ميكروفون المسجد بالمشاركة بالشراء، وهو ما لم يفعله أحد من القرية، بل قام به واحد من الغرباء (حلاق الحمير)، وهذا الفعل يَلْقَي استحساناً من الجد منعم فيقول، بعد شراء الحلاق كيلو من اللحم دون علم الجد إبراهيم الذي رفض البيع له بحجة "أن ما جاءه من الحمير أقل من المعتاد" (الرواية : ص 129)، إن حلاق الحمير قد فعل 'ما لم يخرج من يدك يا بلد' (الرواية : ص 129 ) في إشارة بالغة لرثاء القرية التي تحوَّل البشر فيها لمصاصي دماء واستغلال على غير طبيعة القرية .

أو الصورة المزرية التي أضحت إحدى سمات التعامل بين أفراد هذه الجماعة، والمتمثِّلة في الانتهازية والاستغلال، والتي لم ينجُ من أعْرَاضِها الرجال والنساء على حدٍ سواء. فالتاجر الزلباني وجه صارخ يُجَسِّدُ هذه العلاقة - دون أن يغمضَ له جفن - من خلال تعاملاته مع زبائنه، حيث يُطَبِّقُ سياسات السوق الجديد بكل آلياته، فهو كما تُمْلِي وتفرض هذه السياسات ' لا يقول أبداً ليس عندي كذا، يعرض بديلاً، فإن لم يكن عنده بديل قال مثلاً 'لم يعد أحد يدخن التمباك، الناس كلها الآن تدخن السجائر'، إن لم يلق رأي الزلباني قبولاً، قال للزبون 'تعال غداً تجد طلبك'. (الرواية : ص 15) أو استغلاله لصداقة ابنه سالم، بحسن الحلاق منذ أن كانا تلميذين في المدرسة، فيحلق عنده مجاناً هو وابنه، دون أن يحصل حسن حتى على شفرة الموسى منه، وقد وصلت طامة استغلاله لأهل القرية، يوم حادثة الجاموسة، فيذهب للمدينة ويتفق مع الجزارين وأصحاب المطاعم على شراء لحم الجاموسة بثمنٍ بخسٍ، وهذا ما أَغْضَبَ الجد منعم منه فصاح فيه: 'تريد الجاموسة بتراب الفلوس!، يا ظالم، يا ضلالي، والله إننا لو رميناها للكلاب فذلك أفضل لنا' (الرواية: ص 128) ولا يقلُّ شحاته السائق ـ أخو الخفير فتح الله - دونية من البقال الزلباني، حيث رَفَضَ أن يَذْهَبَ مع حسن لإحضار الطبيب كما يستغل سيارة الحكومة لحسابه الخاص، أو يحاولُ أن يستغلَ امتثال أخت إنشراح بعدم أخذ الأجرة منها في مقابل العبث بجسدها أثناء ركوبها السيارة معه. وفوق هذا وذاك يأتي الاستغلال الذي يقوم به باعة البطاطين لأهل القرية في بيعهم البطاطين بأثمان تفوق أثمانها الحقيقية، مستغلين سذاجتهم وطيبتهم كما في حالة الجد إبراهيم. أما عن زينات فقد استغلت أخاها أيما استغلال، بغرض ابتزازه لاستثمار علاقتهما الشائنة معاً، تارة بشراء إصبع روج ليهديه لخطيبته إنشراح، وتارة بإعطائه الخمسين جنيهاً ليشارك في شراء البطانية التي تريدها إنشراح، وبهذا تكون العلاقات محكومة بمصالح شخصية وتحقيق هذه المصالح مرهون بمدى قدرة هذه الشخصيات على الاستجابة للضغط المفروض عليها.

-2-

هكذا أبرزت الرواية القرية بصورة نقيضة ونقيصة عما جسدّتها كلاسيكيات الأدب، أو مازالت بعض الخطابات تصدرها باعتبارها ثيمات وأكليشهات، يجب علينا كقراءٍ الأخذ بها كمسلمات لتجسيد واقع القرية ـ وكأننا بمعزل عن القرية وما يحدث فيها - والعجيب أن هذه الصورة الجديدة والنقيضة ـ عما أنتجته الخطابات التي تناولت القرية - هي الصورة الحقيقية/ الواقعية البعيدة عن التزييف وتغييب الوعي والتي نخجل من الاعتراف بها، وهو ما يُحْمَدُ للمؤلف وكأنه يزيل ورقة التوت التي تتعلق بها لمداراة قُبْحِنَا . وفي سياق التعرَّية لهذا العالم، يُقدِّمُ صورةً حقيقةً لهذا الإنسان الذي انعكست عليه مفاهيم وقيم غريبة عما كان يعتنقه. صورة حيَّة وملتبسة بالواقع بكل تناقضاته، وبإنسانه في كل لحظاته ؛ ضعفه (حالة استسلام زينات لوأد عمها علاقة حبها بابنه مصطفي (الخنفس)، ثم رضاها أن تكون زوجة ثانية لأخيه عبيدو الشهير بـ(القملة)، بعدما فشلت زواجته بابنة الأكابر، والمعاملة السيئة التي تُعَاملُ بها أو كما وصفتها بـ'مر العذاب' و 'الذل' في دار عمها البشلاوي، والتي وصلت إلى الضرب أمام الملأ في الجرن بحزمة حطب، وعجز أخيها عن الدفاع عنها). أو نزقه (كما تجسدّ في العلاقة الشاذة التي جمعت بين الأخ حسن وأخته زينات والتي وصل انحطاطها إلى الجرأة فيما طلبت زينات منه' لا أريد غيرك يا أخي، أنا بحاجة إليك ... أريدك أن تحتويني'. ( الرواية: ص 35)

أو ما يفعله شحاتة السائق مع امتثال أخت إنشراح، وتارة بآماله البسيطة، التي لا تتعدي تَحيّن الفرصة لإعطاء المحبوبة هديةً تتمثلُ في إصبع روج، كما في حالة حسن الحلاق، إلى أن ينتهي الحال بضياع الإصبع دون أن يحقق الهدف منه 'التعبير عن الحب' كما ذكرت له أخته زينات ' انشراح ستفرح، كل بنت تفرح بهدايا خطيبها، وقل لها ما تستطيع من الكلام الحلو'. (الرواية: ص 35). أو في مجرد الحلم البسيط كما في حالة حسن بأن تمني 'أن يكون له محل حلاقة، تدفع فيه الزبائن مقابل الحلاقة' (الرواية: ص 44)، أو حتي الحُلم بالنوم كما كانت تحلم امتثال أخت إنشراح التي تزغدها أمها حتى لا تنام في وجود الضيوف، وقد يكون الحلم أمنية برسم الغزالة في كراسة الرسم، كما حلمت هند أخت إنشراح. أو الإحساس بالفرح كما في حالة الجدة بالمعاش الذي أقرته الدولة، فتغمض عليه في صدرها بكيسها القماشي المربوط بفتلة دوبارة، إلى جوار خاتم نحاسي ضروري لقبض المعاش. أو الشعور بريبة وتوجس ما، من أفعال الأم (زينات) والخال (حسن)، كما في حالة البنت برديس دون أن تستطيع أن تبوح بما ترى، سوى التظاهر بأنها نائمة مرة، ومرة تحدث نفسها قائلة 'هذا خطأ يا خال، خطأ على خطأ' (الرواية : ص 103)

وفي جانب آخر تعكس بؤس ومأساة أهلها (القرية)، بطيبتهم، أو قُلْ سذاجتهم التي تصل كما في حالة الجد إبراهيم الى استضافة معظم الباعة الجائلين، وأصحاب المهن المعتاد قدومهم للبلد من آنٍ لآخر، ومع هذا يقع فريسةً سهلةً لاستغلالهم، دون مراعاة لما يقوم به من كرم تجاههم، لافرق بين التَّجار السريحة الذين قدَّم لهم الطعام، ومع هذا استغلَّوا حاجته لإرضاء ابنة ابنه 'اليتيمة' على حدِّ تعبيره، فيبيعون له البطانية بأضعافٍ مضاعفة عن ثمنها الحقيقي (250 جنيهاً)، في تمثيلية سخيفة على الجدين، فيقبلون هذا المبلغ ولسان حال السُذّج يلهج ُبالدعاء والثناء لهم على كرمهم ورضاهم بالقليل، من أجل إرضاء بنت يتيمة، وهم لا يدرون أنهم باعوا لهم بطانية معطوبة، من الألياف الصناعية، بها ثقب من حرق سيجارة. أو أن هؤلاء ليس إلا مجرد فرائس يصطادونها للظفر منهم بأقصى ما يستطيعون الظفر به.

-3-

تمتاز الرواية بريادتها وجسارتها في آن واحدٍ، في طَرْقِ موضوعات بعيدة عن تناول الخطاب السردي، أو تناولها بحذر شديد، ومن هذا تطرَّق المؤلف لموضوع شائك مازال التعامل معه بحيطة وحذر، لما يٌمِّثُله من حساسية شديدة في هذه المجتمعات التي تحتكم للنظام القبلي العشائري كمرجعية في معالجة قضاياه ومشاكله، حيث الاحتكام عادة للعرف دون الأخذ بالقوانين الوضعية السائدة، فالمؤلف تطرَّق لموضوع زنا المحارم، وهو أشبه بالمسكوت عنه في مثل هذه المجتمعات، عبر رصده للعلاقة الشائنة والمريبة بين حسن الحلاق وأخته زينات . العلاقة بين حسن وأخته زينات جزءٌ أساسي من الحكاية الأصلية، بل أنها مع المساحة النصية القليلة التي أفردها النص لها، تعدُّ تجسيداً كلياً لتأثير المنظومة الدولية بمتغيراتها الإيديولوجية المناقضة لأيديولوجيا القرية وقيم الجماعة التي تعيش فيها. كما أن النهاية المأساوية التي أصابت الكثير من الشخصيات، وعلى الأخص حرق زينات، وموت ابنتها، وترك حسن لخطيبته، كانت من تأثير هذه العلاقة الشائنة، وفي ذات الوقت تأكيد لانتصار نسق القيم، الذي كان بمثابة القانون الرادع في مثل هذه المجتمعات.
الشيء اللافت أن الراوي لم يتعامل مع هذه العلاقة ـ رغم استهجانها - بإطار من الحذر والحيطة، أو باستخدام الخطاب المجازي كما فعل يحيى الطاهر عبد الله، وإنما اعتمد الراوي هنا على خطاب مباشر، مدعوم بلغة فيها من الجرأة والقسوة، تجاوزت ما كنا نتصور أن يصدر في إطار خطاب حكائي، ولكن كل هذا كان بترتيب من المؤلف نفسه الذي يروي الحكاية بضمير السَّرد الغائب ليسمح لنفسه بمسافة سردية، تضعه في بؤرة سردية محايدة لأن يرصد الأحداث دون تقييم لها، ليضع القارئ معه في حيز واحد في تَقَبُّلِ الحكاية بوصف الأخير المروي له. هذه الجرأة في التناول والبعد عن الخطاب المجازي والتمسك باللغة العارية الحاملة دوالها مدلولاتها، تكشف الرغبة الحقيقية من قبل المؤلف الذي تشي أيديولوجيته بالرفض، لهذا الفعل الطارئ الناتج عن متغيرات جديدة حلّت على نسق القرية وأيديولوجيتها، ومن ثمّ يشي هذا الخطاب في رصده لهذه العلاقة الشائنة وتتبع مساراتها ونهاياتها المفجعة، وقبل هذا وذاك الأسباب التي دفعت بحدوث مثل هذا الفعل البغيض، أو على الأقل كانت العامل المحفِّز للفعل، أن يكون كمن يطرق ناقوس الخطر (رغم رفضنا أن يكون الأدب بوقاً أو وسيلة دعائية) للوقوف أمام هذه الظاهرة ومعالجة أسبابها القابلة للزيادة في ظل مجتمعٍ أبوي قبلي يفرض وصاياه على البنت ويَحْجِرُ على عواطفها.

كما في حالة زينات التي يفرض عليها الحاج مأمون البشلاوي الزواج بابنه عبيدو الشهير'بالقملة' في حين أنه يعلم بحبها لابنه مصطفى الخنفس، إضافة إلى وسائل القهر التي مورست عليها من سوء المعاملة التي يعاملها بها عمها وزوجها وأيضاً زوجته بنت الأكابر، والتي تصل قسوتها إلى معاقبتها أمام الجميع بالضرب بحزمة الحطب، دون مقدرة أحد ـ بمن فيهم أخوها - أن يتدخل، وأيضاً معايرتها بفقر أهلها، مما تضطر الأم للإسراع إليها بزيارة الموسم، حتى تجنبها المضايقات والمعايرات، وهو ما ينتهي الحال بها لأن تلخص حياتها في ظل هذا الوضع المقيت والمزري، بـالمر والعذاب، وتتخذ من هذا الوصف لبؤس حالها وعذابها نقطة ضعف لاستدرار عطف أخيها حسن الذي يتحول إلى زنا صريح، وإن كانت هي تراه أنه 'احتواء' لها. رغم أن الفعل هذا لم يزد عن مجرد اشتهاء كما في حالتي فهيمة ومصطفى البشاري في الطوق والأسورة، ليحيى الطاهر عبد الله، وحالة الصبي عبد العزيز في مراهقته ، في أيام الإنسان السبعة، لعبد الحكيم قاسم، لكن هذا التطوَّر والتهوّر في حجم العلاقة هنا، عكس تفسخ القيم والأواصر الحميمية داخل القرية، والذي وصلت فجاجته إلى ممارسة هذا الفعل المعيب أمام البنت برديس، وهو ما سبب لها كبتاً نفسياً وهي الطفلة الصغيرة ترى أمها وخالها في مواضع غير لائقة، ثم انتهى بها إلى الهروب من المنزل ثم الموت غرقاً.
ومن جانب ثانٍ تتمثّل الريادة في طرق النص لتيمة لم تفسح لها الخطابات السردية حيزاً مهماً في كتاباتها، رغم ان الكتابات السَّردية القديمة مثل 'ألف ليلة وليلة' جعلت من هذه التيمة أحد المكونات الأساسية في بناء معظم الحكايات، أقصد خطاب الغيلان، وما قامت به من أدوار داخل الليالي، وإن تمثلت في نص ألف ليلة وليلة بنوعيه الخيّر المحبّ للإنسان والمعوان له في شدائده، والشرير الذي يكيد المكائد للإنسان أو يساعد أخاه الإنسان في إيذائه. هنا يلج النص إلى منطقة سردية جديدة، حيث عالم الغيلان وإن كان هنا من النوع الشرير حيث حكاية أمنا الغولة تلك الحكاية التي استخدمها الخطاب الشعبي، كحكاية ضمن حكايات الجدات كنوع من الفزَّاعة التي تصدّرها لمن يرتكب الخطأ حتى لا يعاوده مرة ثانية. في هذا النص تمثل هذه الحكاية السِّحرية بعالمها الغرائبي الجزء الثاني من النص، لكن دون انفصال فالحكايتان: حكاية تجار البطاطين، وطرائقهم غير المشروعة في افتراس الزبائن، وحكاية الغيلان وامتصاصهم للفرائس مكملتان لبعض. الحكايتان متداخلتان فمنصور يصبح الغول روصنم، والمستشار غنيم، يصبح الكلب مينغ (معكوس غنيم)، والإنسية ألطاف تتحول إلى شجرة كثيرة الأغصان، والصبي يتحول إلى لمبة في منتصف الغرفة، هكذا تتحول الأشياء وتتبدل الصفات الإنسانية إلى أخرى، مع الاحتفاظ بشيء واحد هو الطبيعة الشرية، فالحاج منصور نصفه إنسي ونصفه غول، والنصف الإنسي في الواقع قاسٍ غير رحيم، فماذا يكون إذن النصف الغولي؟

-4-

في إطار هذه العلاقة الشائكة يمزج الراوي بين ماهو واقعي، وما هو فانتازي، في صورة متوازية وكأن الراوي بهذا المزج يريد أن يُرْسِلَ رسالة، مفادها أن الشرَّ وأحابيل الشيطان التي نخشاهما من العالم السفلي أو بمعني أدق هاجس 'أمنا الغولة' وما يرسِّخه مجرد ذكر اسمها من رعبٍ وفزعٍ، وهو ما أفرطت فيه الحكايات الشعبية من تجسيد أهوال هذه الشخصية الخرافية على المخيلة، والتي راحت هي الأخرى تُضْفِي على شخصية/ أمنا الغولة عوامل الترهيب، لم يعد مُقْتصِراً على العالم السفلي وحكاياته المفجعة التي تكون الغلبة فيه دائماً للغول الذي ظل بمثابة الفزّاعة، فعالم الواقع وعلى الأخص أحابيل الشر التي يستخدمها الإنسان في استغلال أخيه الإنسان فاقت أفعال أمنا الغولة في الحكاية الشعبية رغم عدم يقينية صدق الحكاية الشعبية، أما في واقعنا فالحكاية أخذت طابعاً أقل ما يوصف بأنه أغرب من الخيال، مع الأخذ بفارق أن الحكاية الشعبية من الخيال (مع أن بعض النظريات ترى أن لهذه الحكايات جذوراً واقعية)، أما هذه الحكاية (الأخرى) فهي من الواقع المعيش، فأشخاصها متوزَّعون هنا وهناك، تخالطهم وتتعامل معهم، وفي أحايين أخرى تكتوي بشرورهم (مثل البقال الزلباني). لكن هنا فاقت هذا الواقع وتجاوزته إلى عالم غير مألوف غريب، وهذا نتاج طبيعي لإفرازات الإيديولوجيات الجديدة المغايرة لواقعنا بكل ما يحمله من إرث ثقافي وحضاري وقيمي، فشاعت ثقافة احتكارية تفضَّل مصلحة الأنا ضاربةً بكل القيم والمُثُل جانباً في سبيل تحقيق مصالح هذه الأنا، تلك الأنا التي كانت غائبة في روح الجماعة، وهذا ما انعكس جذرياً في تركيب إنسانها، مع الفارق أن تغوّل إنسان القرية أنكي من الغول نفسه، حيث قوانين الغيلان التي تلتزم عهود ومواثيق وضعية تلتزم بها بينها وبين أعضائها، بألا تفترس من المكان الذي تعيش فيه، بعكس غيلان البشر التي تجد لذتها في افتراس وامتصاص دماء من تعرفهم، وكأن حياتها لا تقوم إلا بامتصاص دماء الآخرين.

ومهما ارتبطت صورة الغيلان في الواقع العياني بالشر والخديعة، إلا أن الصورة الأكثر بروزاً من صفاتها أنها تكره بعضها، وهي الصفة التي انتقلت إلى الجنس الإنسي، وهو ما اتضح في صورة الشر والشراك التي تفنن الإنسي في صُنْعَها للإيقاع بأخيه الإنسان، لاحظ ما كان يفعله التاجر عطوة الذي هو من وجهة نظر الغولة أم منصور إنه 'غول ضعيف القدرات، لكنه ماكر، إنه من الفصائل بكل مكان' (الرواية: ص 52) وكذلك مصيلحي والتاجر الزلباني. ومع هذا إلا أن للغيلان قوانيناً صارمة أكثر انضباطاً من القوانين التي تحكم البشر فيما بينهم، والعجيب أن هذه القوانين، لا نجد لها بديلا في المجتمع الإنسي، فالأم تنصح الابن بـ'أن الانتقام مهلكة للنفس قبل الآخرين لا تتورط في تلك الصغائر الإنسية' (الرواية: ص 53). وقد تتداخل عوالم الغيلان مع عوالم البشر، في إشارة واضحة ذات مغزى لتطابق الصفات بين النوعين دون غض النظر عن الفئة التصنيفية لأيهما، مثلما يَحْدُثُ مع التاجر عطوة والذي في غمرة انتشائه يتساءل مستنكراً 'هل هنا غول غيري؟' (الرواية: ص 51)

فعطوة في حقيقة الأمر هو غول محبوس في شكل إنسي إلى الأبد. وسبرتو يتداخل في شخصية روصنم، والغولة دواهي تتداخل في شخصية ألطاف الإنسية، بعد أن سخطتها إلى شجرة، والفتاة برديس في مرحلة لاحقة إلى قطة، والفتى صبي تعبئة البصل إلى لمبة. فهذا التحول من صفة غولية إلى صفة إنسية، يشي بإمكانية التداخل خاصة من لديه القدرة على الفعل، أقصد النوع الغولي، أما النوع الإنسي فهو يحاكي هذا لا في التحول النوعي الهيكلي، وإنما في الدور الوظيفي، وكأن الشخصَ يَحْمِلُ من صفات الإنس وفي ذات الوقت يقوم بأفعال الجن، وهو ما يَحْدُثُ مع البقال الزلباني، فهو إنسي لكن أفعاله أفعال جن وغيلان، لاحظ موقفه مع حسن بعد موت الجاموسة، يفاجأ حسن بأن الجنيه الذي اشتري به حسن الليلة السابقة غير صالح، ويجب أن يستبدله دون مراعاة للظرف الذي يمر به حسن. وأيضا ما قام به الباعة السريحة من استغلال حاجة الجد إبراهيم لإرضاء ابنة ابنه، ليجبر بخاطرها، فإذا هؤلاء الباعة يغالون في السعر، دون مراعاة لفقر هؤلاء الناس أو حتى طيبتهم التي دفعتهم لأن يقدّموا لهم الطعام. المهم كان هو الحصول على المال مادام وجدوا الضحية التي يفترسونها مثلهم مثل الغيلان التي تبحث عن الفريسة والصيد تلبية لسدِّ حاجةِ اشتهاءِ الفرائس فقط .

-5-

لا تنفصل الشخصيات عن هذا الواقع المأزوم، ينعكس عليها فيصيبها بشروخ، على تلك الشروخ التي هي عليها. ومثلما كانت بنية الرواية منقسمة إلى جزأين، أحدهما مرتبط بالواقع وآخر خيالي، فإنَّ الشخصيات تنقسم شكلياً إلى نوعين: إنسيّة وغيلانية، ولكن المتمعن يَكْتَشِفُ أنَّ الشخصيات الإنسية تَتحوّلُ من إنسيتها إلى الشخصية الغولية، فلا تأخذ من الإنسية إلا الشكل المظهري، الذي في بعض الأحيان يتبدّلُ إلى أشكال أخري كطائر مثل روصنم أو منصور أو لمبة كما في حالة صبي تعبئة البصل، أو كلب مثل المستشار غنيم أو قطة أو نجفة كما في حالة برديس. وقد تتبدي صلة الرواية بهذا الواقع الجديد، حيث لا توجد شخصيات تقليدية مثل العمدة وشيخ الخفراء، وإنْ وجدت فلا قيمة لها كما في حالة الأخير، بل من الممكن أن يُهَان ويشتم مثلما فعل معه الجد منعم، استياءً من فعل أخيه شحاته . الأغلب هنا شخصيات من الهامش تتحرك وتتفاعل مع غيرها، يمارس عليه الاستغلال، وهي مشغولة بالدعاء على من استغلها بأن يكرمه ويرضيه.
الشيء اللافت أن النهاية التي انتهت إليها الشخصيات، نهاية واحدة، كلها تعود إلى مخالفة نسق القيم، واختراقه في بعض الأحيان كما في حالة (زينات وحسن الحلاق)، لا حظ نهايات زينات (احتراقها، وغرق ابنتها برديس)، وحسن ( فشل خطبته من إنشراح، ومغادرته القرية، بحجة العمل، إلا أنه يعود مع جثتها، ليدفنها في القرية)، وتجار البطاطين (انقلاب سيارتهم بسبب الأمطار)، والجد منعم (وجدو جثته عند الكوبري ربما لاختراقه نسق الدين، وسعيه لبيع لحم الجاموسة وهو يعلم جيداً أنه لم يلحقها كما يدّعي، فعندما مرر عليها السكين، لم تنزل قطرة دماء، إلا أنه كذَّب وراح يغري الناس بالشراء). ولكن الشيء الغريب والمثير في آنٍ واحدٍ أنّ شخصيات مثل (الزلباني البقال، شحاته السائق، الحاج منصور)، لم تتعرض لأي عقابٍ رغم مخالفتها أيضاً نسق القيم، والتفسير الوحيد الذي أجده مقبولاً، أن هذه الشخصيات التي عُوقبت هي الخيِّرة والتي كانت تَلْتَزِمُ بنسقِ القيمِ، لكن لظروف معينة أخلّت به، وهذا العقاب جاء كتحذير لغيرهم بألا يحذوا حذوهم. وهذا ما يؤكده موت الطفلة برديس رمز البراءة والنقاء، فموتها جاء لأنها كانت شاهدة على ماسأة حقيقة صورتها ستلازمها في مراحل عمرها، ومن الممكن أن تقودها لمصير مُهْلكٍ كما في مثل حالات مماثلة، وموتها يأتي كانحياز لأيديولوجيا الراوي الضمني، ومخالفته لمثل هذه الأفعال . أما حادثة سيارة باعة البطاطين، فقد جاءت كانتقام لأفعالهم التي ألحقت الأذى والضرر بأهل القرية، فالانتقام أيضاً انتصار لنسق القيم الذي أخلوه بغشهم للآخرين من أبناء القرية.

-6-

تلعب هذه الرواية على الزمن، حيث البنية المميزة لها هي الزمن، فالزمن الأصلي للحكاية لا يتجاوز اليومين، حيث الأحداث تبدأ مع وصول عربة البطاطين أثناء صلاة العشاء إلى القرية، وبدء التجار النزول إلى القرية لمزاولة تجارتهم وتصريف ما معهم من بطاطين، وتنتهي بانقلاب سيارتهم أثناء العودة بسبب المطر. وما بين البداية والنهاية يقوم خيط سردي عام يتمثل في خطبة حسن الحلاق لإنشراح، وهو الخيط الذي يجمع الشخصيات في علاقات مع بعضها البعض الذي يبدأ بعلاقة حسن المريبة والشاذة بأخته زينات، وعلاقاتها هي أيضاً بزوجها عبيدو ابن عمها، وصولاً إلى علاقة الشراكة على جاموسة بين حسن والجد إبراهيم، لإتمام الزواج عند ولادتها، لكن الأحداث هنا تأخذ بعداً زمنياً أفقياً، حيث يمتد إلى أزمنة سابقة لزمن السرد، مثل زواج زينات بعبيدو، ووالد الحاج منصور بألطاف.
هكذا قدَّمت الرواية لنا القرية بصورة مغايرة، وإن كانت هي الصورة الواقعية بعدما خضعت القرية - ضمن جملة ما خضع - للخلخلة والاستبدال التي أفرزتها آليات نظام السوق العالمي ورأسماليته المتوحشة والمتفحشة، فأهدرت قيماً ومثلاً كانت بمثابة الحصن الذي احتمى خلفه إنسان القرية، وما أن دُك هذا الحصن حتى راحت سوءته تتعرى، ولم يبقَ إلا مَنْ يزيل عنها ورقة التوت ـ الوهم ـ فجاء هذا النص الجميل، بكل تقنياته، التي اعتمد عليها الكاتب في عكس صراع أيديولوجية هذه الجماعة ضد الأيديولوجيا الرأسمالية التي صهرت الأولى في معيتها. مستفيداً من استراتيجيات نسق الحوار بين أفراد هذه الجماعة وما شابه من انقطاع، تبدُّل صياغاته الى رسميةٍ جافةٍ. و أيضاً ما حاق طبيعة العلاقة بين أفراد هذه الجماعة التي تبدَّلت من تبادلية إلى نفعية محضة ؛ لتعكسَ الأثر الجلي لهذه السياسة الجديدة التي توغلّت في القرية وأثّرت على الكل، ومن ثمَّ تكون الرواية في مجملها مرثيةً لصورةِ القرية الباقية في أذهاننا من الصورة الرومانسية . بكل ما تحمله من قيمٍ ومُثُلٍ غابت فغابت معها القرية، وقبلها غاب إنسانها أو تشوه إلى مسخٍ من تناقضات هذه الإيديولوجيات. ولم يبقَ منها/ منه إلا الاسم فقط كشاهد على مكان نحمل له الكثير من الذكريات والحنيين، فهل ننتبه للقادم؟!