يستثمر الروائي العراقي في روايته الأولى تاريخ العراق القديم وأساطيره برموز الخلق والموت المستمر منذ عمق التاريخ حتى الآن في بنية روائية تجريبية تستثمر فنيّ النحت والرسم في محاولة (الفرد – الفنان) البحث عن الذات وعلاقته بـ (المكان – الحجر) وتاريخ العنف في بلاد ما بين النهرين، بمزج الرموز القديمة والمعاصرة.

البرقيل (رواية)

محمد علي النصراوي

هوامش للتنويه:
1 / البرقيل:
قال أبن منظور في (لسان العرب)، البرقيل هو الجلاهق وهو الذي يرمي به الصبيان البندق. وعن أبن عربي، برقل الرجل إذا كذب. وعن السيد الزبيدي في (تاج العروس) قال الخليل: البرقلة كلام لا يتبعه فعل مأخوذ من البرق الذي لا مطر معه، وبهـذا فأنه يجمع بين الكذب والبرق، والكذب هنا يقترب مـن المعنى المقصود باللفظ العامي: الخلط، وإذا ما عكسنا العلاقة بين القول والفعل أنطبق معنى البرقلة على القول الذي لا يتبعه فعل .. وهو قريب بالمعنى المحسوس من المقصود. وكما جاء في كتاب (الفكر البري)، لكلود ليفي شتراوس _ والذي نقله إلى العربية وقدم له وعلق عليه د. نظير جاهل، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع _ بيروت / لبنان / ط 1 عام 1984 م ما يأتي: «ويظل البرقيل في أيامنا هذه وضمن هذا السياق نفسه ذلك الرجل الذي يعمل يدوياً مستخدماً وسائل تُعدُّ منحرفة بالمقارنة مع التي يستخدمها الحرفي. ص / 38».

2 / العالم الأسفل: حسب المعتقدات الدينية السومرية، يمثل الطبقة الأخيرة تحت الأرض والذي يلي طبقة مياه العمق مباشرة، وقد وصِف بأنه تجويف هائل تحت الأرض وقد أطلق السومريون على هذا التجويف بنهر العالم الأسفل المعروف باسم (خَبر) حيث يتقدم أسوار مدينة الموتى. وعلاقة هذا النهر بتلك المدينة، أشبه بموضع الخنادق التي تُحفر حول أسوار المدن في عالم الأحياء وعلاقتها بتلك الأسوار، فهي تُحفر زيادة في التحصين بوجه القادمين أليها ولم يكن يسـمح بعبـور الموتى لنهر (خَبر) والوصول إلى الأسوار إلاّ بعد إنجاز الشعائر الجنائزية وتقديم القرابين إلى آلهة العالم الأسفل.

3 / (خمط _ تبال): وهو ملاح العالم الأسفل ومن أتباع آلهته، ويعني حرفياً (أحمل بسرعة)، وظيفته يقوم بتعبير الموتى عبرَ نهر العالم الأسفل وقد وصف بأن له رأساً يشبه رأس طائر الزو ويدين وقدمين بشريتين.

4 / أريش _ كيكال: وهي الإلهة الرئيسة في العالم الأسفل وكانت تحكم بمعاونة عدد من الآلهة الأخرى ومن الأتباع من صغار الآلهة والشــياطين الذين كانوا مكلفين بتنفيذ أوامرها وتحقيـق رغباتها.

5 / نركال: وهو شريك الإلهة (أريش كيكال) في حكم العالم الأسفل بعد زواجه منها.

6 / (قُرب/ إيل):  وتعني (كربلاء) باللغة الآرامية. قُرب: بمعنى حرم، إيل : بمعنى الإله ومجموعها: حرم الإله. ذكـر ذلـك المستشـرق الفرنسي ماسـنيون فـي كتابـه (خطط الكوفـة) وأيـده الدكـتور مصـطفى جـواد في كتابه (دراسات في فلسفة النحو والصرف واللغة والرسم)، كما ذكره الأب انستانس الكرملي فـي معجمـه (المساعد).

7 / الغاضرية: وهـو الاسم القديم لمدينة كربلاء، وقد تسمى (الغاضريات) التي تتكون من مجموعة من القرى، تمتاز أرضها بالرخاوة، والكربل: أسم نبت الحامض الذي تشــتهر بزراعته.

8/ الكورة: وهي فرن كبير مبني من الطابوق الناري المضغوط وذلك لتحمل درجات الحرارة العالية، ينتصب على قاعدة دائرية الشكل، ثم يرتفع منتفخاً مثل قبـة الجامع منتهياً من الأعلى بفتحة دائرية أصغر حجماً، من خلالها يدخل العامل إلى داخل الكورة بواسطة سلّم من الخشب، وبعد سحب السلّم من الأعلى يبقى العامل منتصباً على قاعدة الكورة. ومن هناك يتسلم قطع الطين المتيبسة من يد عامل آخر ممتدة من الفتحة العـليا، وفي الداخل يتم ترتيب القطع بشكل متراكب على بعضها. لقد اشتهرت مدينة كربلاء ببناء هـذه الكـور منـذ العهد البابلي، وكانت تسمى آنذاك (كور بابل) وهي إحدى بوّابات بابل العظمى.

9 /الأراسي: هي شبابيك مركبة من الخشب، وفي المنازل الشرقية القديمة الطراز، تكون هذه الأراسي معشقة بزجاج ملون كاللون الأصفر والأزرق والأحمر. يرتفع الأرسي وينخفض بواسطة إطار من الخشب، وهي غالباً ما ترى في الأزقة القديمة أو تلك المطلة على الأسواق الشعبية كسـوق (الــﭼاﭼين).

10 / ﭼفرة الزورخانة: كان الذهاب إلى الحمامات العمومية الخاصة بالرجال والنساء يُعدّ من الطقوس الشعبية والمهمة التي تدخل ضمن التكوين الاجتماعي للمحلة أو المدينة .. ففي مدينة كربلاء كما في بغداد يكون الحمام العمومي للرجال بمثابة ناد رياضي خاصة في النصف الأول من القرن الماضي، حيث تقام في داخل الحمامات العمومية للرجال حفرة دائرية الشكل واسعة تسمى (ﭼفرة الزورخانة)، ينزل إليها الرجال وهم يؤدون تمارين رياضية، بحيث تكون حركاتهم متناسقة مع إيقاع الطبلة التي ينقر عليها (المرشد) بينما يجلـس المتفرجون على المقاعد المحيطة بالحفرة. واللعبة هي رفع ثقلين مخروطي الشكل يحركهما اللاعب بحركات شـبيهة بألعاب الكروباتيك.

11/ موكيل، لابارتو، الجالا، ليلو، لاباستو، اكيخازو: وهـي جميعها أسماء لشياطين متعددة في العهد السومري، وقد تبيّن أنها عبارة عن أمراض مجهولة تدخل جسم الإنسان.

12 / البعلزبول: رئيس الشياطين كما ذكر في الكتاب المقدس (العهد الجديد):يسوع وبعلزبول،بشارة متي.ص/ 27.

13 / الــﭼرّاوية: لفظة بغدادية تعني عٍمة ملفوفـة من (اليشماغ) وتعدّ من الأزياء البغدادية الأصيلة والتي أشتهر بها قرّاء المقام العراقي الذي يسمى بـ(الــﭼالغي البغدادي).

14 / كوديا: أشتهر العصر السومري الحديث بمنحوتاته كما يظهر ذلك أن مدينة (لكش) قد سيطرت على المنطقة برمتها بل على القرن الثاني والعشرين قبل الميلاد، بإنتاجها الذي أشتهر بكميته ونوعيته ويرجع الفضــل إلى رجل واحد هو (كوديا) الشخصية الغامضة، فقد حكم خمس عشرة سنة وربما أطول من ذلك، لكنه تجنب أن يحمل لقب ملك، فبدلاً من ذلك قنع بمنصـب حاكم (باتسي)، جعل من مدينة (لكـش) مركزاً حضـارياً لا ينافسـه أحد. ظـهر (كوديا) في ثلاثين تمثالاً معظمها في المتاحف العالمية. لكن (كوديا) / الناسخ المتعبد الذي وُظّفَ هنا كمادة أولية داخل الرواية لا علاقة له بـ(كوديا) حاكم مدينة لكش.

15/ سوق الــﭼاﭼين ، سـوق العرب، سـوق البزّازين، مقهى (عباس منسي)، محلة (باب السلالمة):  وهي جميعها من المناطق الشعبية القديمة والتي تقع في مركز مدينة كربلاء.

16 / السَرَب: فكرة (السَرَب) تدل على الرمز الأولي لروح الحضارة العربية، إذ يُعدّ الكهف الذي وفقاً له تتصور هذه الروح المكان، وهو بعينه السـرداب الذي يختفي فيه الأمام المستور. وقد ظهرت كلمة (السَرَب) في كتاب (الاسطماخس) لأرسطاطاليس وهي إحدى الرسائل الموجهة إلى الأسكندر.

17/ المازورات: فترات زمنية متتالية بين نغمة وأخرى

18/ مقام اللامي: المقام الذي أكتشفه ورسخه المرحوم القارئ محمد القبنجي عندما سمع بوفاة أبيه وهو في ألمانيا لتسجيل أسطوانات لشركة بيضافون.

19 / الروازين: وهي لفظة شعبية وتعني (الرفوف) باللغة العامية التي تتكون على شكل دكات مرتفعة والتي تُعدّ جزءاً من بناء الجدار كما في الدور المبنية على الطراز الشرقي.

20/ الكلارينيت، الأوبوا، الكونتراباص، الفيولا، الشللو، الفلوت: وهي جميعها آلات موسيقية تستخدم في جوقة الأوركسترا لعزف الســمفونية.

21 / الجهاركاه، النوى، الحسيني، الناري، السيكاه: هي أسماء الأنغام التي تسـتعمل في السـُلم الموسيقي للمقام العراقي.

 

قُرب / أيل

ذُكرت (قُرب / إيل) في أقوال الرواة:
       إذا ما رغبتْ نفسك في النزول إلى (قُرب / إيل)، فانزل إلى ذاتك، واتخذها نموذجاً تعتمد عليه.، عندئذ تســتطيع أنْ تبتكر الأجداد والأشـــياء والوطن .. (قُرب / إيل) هي ذاتُكَ، فإذا عرفتها عرفتَ نفسك.
       يا لسخرية الأقدار، (قُرب / إيل) تنتقل من حقبة إلى أخرى وفي كل حقبة تتحطم تحت أقدام الغزاة، تُسفك فيها الدماء، وتُستباح نساؤها، ويقدمون أطفالها قرابين إلى محرقة الرب لتلتهمهم في ثلاثة أيام وفي هذه الأثناء يقوم الغزاة بتقديم طقوس الطاعة والعرفان إلى الملك الذي يأخذ عرش الإله..
       إذا ما نوى أحدكم السفر إلى (قُرب / إيل)، وعرف أنَّ ذاته تسبح في أديم ضبابها، منتشياً برائحة عتاقتها، عليه أنْ يدخل ذاته.. سيلاحظ أنَّ (قُرب / إيل) تلوح له في الأفق، شيئاً ما معلقاً بين السماء والأرض.

 

- 1 -

إحساس غريب انتابني عندما رجعت إلى مدينتي، ذلك الانشداد القسري الطافح بالحنين، على إن الأمور كانت تجري على وفق ما حدثني عنها، عندما أشار بيده وهو يحدد الموقع وقال لي في الجهة الشمالية الشرقية من المدينة – المركز أو الانطلاقة الأولى لتعيين الذات، القضية أو المهمة هو عليك أن تكون، ولكن يا صديقي العزيز كيف يمكن أن تكون مايسترو وعازف كمان من الدرجة الأولى، كيف يمكن تحقيق ذلك..؟ لابد من الذهاب إلى هناك لتتمكن من زيارة المكان عن كثب.

وحينما حطت قدماي في أرض المدينة بعد غياب طال أمده وجدت الطرقات قد تغيرت معالمها وكانت مهمتي الأولى هو البحث عن هويتي وسكنني الجزع من أن الزمن فعل فعلته في تعرية الجزء الأكبر من المدينة فانسل خيط الغربة إلى داخلي جعلني متشرداً أبحث عن أسماء الطرقات التي ودعت فيها طفولتي، وجاءني صوته من عمق الفضاء يحثني على المجيء أليه، فقال لي: (هناك ستجد روحك المطمئنة)، فقلت له: (بحـق الســماء كيف ذلك يا صـديقي..؟ أرجوك أن تحدثني..)، فالتفت نحوي وقال: «هناك تلة صغيرة.. لأن العراقيين هم من أوائل القوم الذين كانوا يشيدون زقوراتهم فوق تلال عالية تمتد متجهة نحو السماء. والعبيد منهم هم وحدهم مَنْ يحملون قطع الطين المشوية على أكتافهم ليصعدوا بها إلى أعلى القمة. وبعد أن يشيدوا البناء كاملاً يقدمون قرابينهم على دكة المذبح قرباناً للإله الجديد.. تعال، تعال ستجدني بانتظارك».

أخفض صديقي شهاب / النحات رأسه إلى الأسفل وهو يحاول أن يلمّ شتات أفكاره ثم ألتفت أليّ وقال: «عندما تقرر الذهاب إلى هناك وتشعر في نفسك أنك مؤهل للسفر والمجيء إلى المدينة، فما عليك إلاّ أن تحدد الجهة الشمالية الشرقية، وتنطلق على بعد ميلين متوغلاً بين البساتين العامرة بالرمان والبرتقال، ثم وأنت تتقدم تمتد أمامك غابات النخيل الشاسعة وعند مستوى النظر تماماً ينفتح لك فضاء رحب، وبينما أنت تسير لتعبر عدداً من الترع والمبازل تحس إن الأشجار وهي تفرش أجنحتها قد أصبحت مأوى لأنواع من الطيور وعندما تتأكد من نفسك أنك قد احتويت المكان أو أن المكان قد احتواك. حينذاك تستطيع أن تدخل إلى عمق هواجسك لتوقظها فتفتح تابوت السبات وتخرج مطمئناً، تسـتقبل عيناك لون السـماء لأن الأزرق الشفاف دائماً يسكن في الأعالي. ومن جهة الشرق ينشق أمامك درب ترابي ضيق وفيما أنت تسير فيه متوغلاً تصعد بك الأرض شيئاً فشيئاً، وعلى بُعد مئة متر يتراءى لك هيكل متداع لبناء قديم، ينتصب فوق تل الغاضرية وإذا ما رَغَبتْ نفسك أن تتبع فضولها فان ورشتي سـتكون بانتظارك هناك».

وهأنذا قد لبيت الدعوة وجئت لأزور صديقي (شهاب/ النحات) في ورشته الكائنة فوق تل الغاضرية وكأي إنسان تتبّعتُ فضولي لاقتحام ورشته وقد تبيّن لي:

إنَّ القسم الأكبر من فناء الهيكل جعله النحات مكشوفاً تحت السماء حيث أنتصب برج مبني بقطع من اللبن المجفف، على ارتفاع أربعة أمتار من منصـة الكـورة التي كتبت على قاعدتها بالخط المسماري (زقورة – قُرب/ إيل – تفتح ذراعيها للنهار)، وهي شامخة باتجاه السماء كما لو إن أجداده العظام عندما بنوا معبدهم السماوي هذا، تركوا له زقورتهم آخر إنذار لهجمات الغزاة على سلالتهم المحصـنة ضد فعل التهجين، وهي تنتظر هبوط آلهتهم على الأرض.

الفوضى منتشرة في جميع الزوايا، ما بين فرن الأصباغ الصغير وبرج الكورة انتشرت قطع أحجار صغيرة وبقايا زجاج متكسر وأوانٍ خزفية أنكسر معظمها، تكومت مع بعضها فشكلت أمام الرائي حالة اللامبالاة منطبعة في المكان.. فقد تبعثرت أكياس النايلون الصغيرة والمعبأة بالأصباغ الجاهزة وتلك التي يصنعها في فرنه – هي أوكسيدات النحاس وأوكسيدات الخارصين وأوكسـيدات الحديد ومادة (القلاي) ومسـحوق الزجاج ومسحوق مادة (الفرفوري) التي يصنع منها النحات أصباغ السيراميك. بينما كانت الخلطات الجاهزة لطلاء القطع الفخارية قد تيبّست في قعر أواني البلاستك، حال الانتهاء من استعمالها وثمة قطع فنية غير مكتملة تُركت في أماكنها قد تراكم عليها الغبار.

المرء إذا ما عبر هذه الأشياء متنحياً في الجانب الآخر من الفناء يمكنه أن يرى مسقفات (الجينكو) وحصران (البواري) المربوطة على عوارض خشبية قد جلست هي الأخرى على جسور خشبية ثبّتت بإحكام شديد على جدران الهيكل المتداعي _ قد شكّلت القسم الآخر من فناء الورشة الصغير.

 

- 2 -

حينما توغلت قليلاً نحو الداخل، لاحـت لي (بوّابة الهبــوط)، في أحدى المغاور المظلمة ، فاتحة فمها نحو مفازاة موغلة في أعماق المدينة،حتى بدت عتاقتها جزءاً من تكوينها الداخلي.. فسمعت صوت أنين خشبها المتآكل، كأني به صوت الزمن الذي يسحب المرء إلى مكان الأجداد.. هناك أرتعشت النفس لامة أحاسيسها المكبوتـة، وهي تريد الأنتقال إلى عالم تتماهى فيه الذات مع الزمن، فاجتمعت الجمل الموسيقية مع بعضها في تصاعد مستمر، شاحذة أحساس الغربة المتنامية في أعماقي، أحساس جعلني أستحضر ذاتي قبالة نفسي لأحاورها عن أسى الروح وغربة النفس، حتى بدت دقات القلب هي الأخرى مسرعة كأوتار كمان هائج أنتفض على حين غرة محتجاً، متدفقاً ومخترقاً صمت اللحظة، لحظة أنعتاق الروح من أسرها، ولكن كيف يمكن للروح أن تحطم غرائز الجسد، ذلك المنفى الداخلي..؟ وإذا ما حاولت هذه الروح أن تتحرر من نفيها الطوعي، تستطيع أثبات وجودها، وتدوين كينونتها لتشق طريقها نحو مفازاة المدينة الموغلة في أعماق الزمن..

في الداخل.. يحاول المرء التقاط الأشياء التي تسربل الزمن إلى تكوينها، لذا كان أجتياز البوّابة يُعدُّ الطريقة الوحيدة لقراءة المكان، لكن صوت صديقي (شهاب / النحات) كان يأتيني نابعاً من عتاقة أشيائه المتروكة هنا وهو يقول «هنا سوف تستعيد أنفاسك، ويهدأ قلبك، لأن الروح تتعرف على أشيائها الضائعة، كأنك تقتنص الأشياء قبل أن تمحو ذاتها». لكن الرؤيا اصبحت بعيدة المنال، مشوشة حتى أنَّ الأشياء فقدت ملامحها.. ولكن كيـف تُقتنـص الرؤيا ويُقرأ المكـان عـن كثب.. ؟ فانتصبت أمامي جدران متآكلة بنيت بقطع من اللبن المجفف، وهي تفتح لي أنفاقاً مرعبة، راحت تشق طريقها نحو أعماق المدينة.. إلاّ أنَّ أحدها فتح لي طريقاً ضيقاً يشق مداه نازلاً إلى أنفاس الحشود اللاهبة، وهي ترتل أدعيتها اللاهوتية، وفي القاع التحتي من اللامكان، كانت التراتيل تستعيد عزاءها الضائع كأن الانفصال قد وقع تواً لا علاقة له باللحظة الآنية، ثم اجتاحني هواء سريع آتٍ من العمق محملاً بأنفاس بشرية لاهثة تخرج من بين زوايا الآجر المتآكل ومن تصدع الجدران.. حشود بشرية وهي تسير على شكل ارتال تردد ترانيم وابتهالات بان الخطيئة سـكنت أرواحها رافعة أيديها تسـتجدي عطف الإله داخل المعبد.

وحينما توغلت أكثر شاقاً طريقي بين دهاليز المدينة، ظهر لي من عمق الجدار: رأس مقطوع يتدحرج في دهليز ترابي وهو يقهقه، مهرة لها قرن على الجهة اليمنى من جبهتها، امرأة لها لحية طويلة بينما شفتها السفلى مشقوقة، ثم تبيّن إن رجلاً في المدينة له علاقة آثمة بامرأة ما، وشُوهد الشيطان (موكيل) يركض في طرقات المدينة، وعندما يحل الليل يذهب إلى إحدى المقابر ليدخل جثة الميت ثم يخرج منها على هيئة أفعى طويلة لها ثلاثة رؤوس.. ولماّ رجعت القهقرى ووقفت عند حائط متداع تكثر فيه الثقوب السود رأيت أماً ترضع طفلها فوجئتْ ان فمه قد تحول إلى خرطوم طويل كالفيل.

الجدران – تسحبك نحو ويلات الأجداد الذين ارتكبوا معاصي ضد الإله، لهـذا ظهرت أجسادهم مشوهة تخرج من جوف النفق وتطفو في المنظور الأفقي، وعليك أن تعبر الحاجز إذا ما أردت دراسة اللحظات القابعة بين طابوق الآجر.

هأنذا الآن أقف متوارياً خلف الأعمدة الكونكريتية لأنظر: فتبيّن لي أن طريق الصلاة يمتدّ مخترقاً المدينة نحو الهيكل المتداعي – فشاهدت أيدي الحشود مرتفعة وهي تنشد عزاءها بينما هسيس أقدامهم العارية تجوس معبد الإله – فتحولت الترانيم إلى نحيب يقطع أوصال القلب، وراح موكب الجنازين يتكرر مخترقاً (طريق الصلاة).. كان مشهد التوابيت المحمولة علامة المدينة الفارقة وهي تزحف نازلة نحو (قاعة الخطيئة).

..أجتاح المكان بشر من حجر، بأجساد مقطعة، مبتــــــورة، وبجماجم مشوهة تجلس في عمق الجداران راحت عيونها الغائرة تحدق في ظلام قاعة الخطيئة.. وحينما ألتفت إلى الوراء شاهدت فصيل الطبول يُعلن اقتحامه ليدخل المشهد معززاً بشـتى الأسـلحة اللامعة وبأحزمة الجلود الخشـنة، وها.. هو السلّم يتصاعد شيئاً فشيئاً مبتدءاً بجملته الموسيقية القصيرة، ثم خرجت فصـيلة النحاسيات من أحد الأزقة فأعلن البوق صوت النفير، وبدأ ضرب الطبول يشتد إيقاعه، تجيبه الأبواق بصراخ وعويل متدفقاً كشلال عارم أجتاز (طريق الصلاة) متقدماً نحو مركز المدينة.. خرجت الرؤوس المشوهة تسير في الطرقات – وحينما حاولت التيقن من ذلك بان الأشكال اختلطت مع بعضها بدت المدينة متروكة هجرها أهلها وهي قابعة في عمق الحجر..

 

- 3 -

تحركت التماثيل في قلب قاعة الخطيئة رافعة أيديها احتجاجاً على ما يحدث محاولة أن تعيد الأمـور إلى نصـابها، عنـدها ظهر (كوديا) جالساً في عمق الفناء وقد لبس عِمته المطعمة بأحجار الياقوت والزمرد، شـابكاً يديه على صـدره بتلك التقوى أمام الآلهة.. كوديا / الناسخ المتعبد باستطاعته تأويل الأشياء وسرد الحكاية ومن أية نقطة تشـاء. أشار بيده إلى أحد الشوارع وقال:

«هذا الشارع مخصص لموكب الجنائز تُحمل فيه جثة الميت على الأكتاف وتسير خلفها حشود الأقارب والأصدقاء بخشوع تام وهم يطوفون به حتى إذا ما انتهوا إلى معبد (قُرب / إيل) يتوجهون عِبرَ بوّابته الرئيسة وفي الداخل تدفن الجثة مع تمثالها الذي أُعدّ خصيصاً لهذه المناسبة وهذه المهمة يقوم بها الدفان الذي صمم الشكل بانتظار وصول الموكب، ثم يقدم أهل الميت خروفاً سميناً إلى قاعـة المذبح ليكون قرباناً لأله المدينـة.. يالسـخرية الأقـدار،قُرب / إيل) تنتقل من حقبة إلى أخرى وفي كل حقبة تتحطم تحت أقدام الغزاة، تسفك فيها الدماء، وتستباح نساؤها، ويقدمون أطفالها قرابين إلى محرقة الرب لتلتهمهم في ثلاثة أيام متتالية وفي هذه الأثناء يقوم الغزاة بتقديم طقوس الطاعة والعرفان إلى الملك الذي يأخذ عرش الإلـه، حيث تقدم قوارير الخمرة المعتقة لكهان المعبد وتعزف موسـيقى النصر وتبدأ حلقة الرقص بتواصل مستمر ليل نـهار، وفي كل سـنة يُعاد قداس الاحتفال ويسمى هذا الـيوم بالأيكيتو».

.. وفي الحال أخرجت دفتر ملاحظاتي وسجلت فيه: الحركة الأولى تتقـدم من هنا، زعيق، صـراخ، عـويل تبـدأ به جوقـة (الكلارينيتات) من نقطة التلاشي.. هياج، صـخب، نيران، رقص، اهتزازات هستيرية، وليل كاسح من قلب الصحراء.. نيران، نيران تتصـاعد ورائحة أنفـاس بشرية خائرة تتمرغ بالتراب – نحيب متواصل / ثم تدخل جوقة (الوتريات) دفعة واحدة لتحاور آلات النفخ النحاسية بزعيق متواصل وتتفجر الموسيقى لاسـتعادة اللحن الأول – ثم يخفـق مرتجـلاً تُعيـد صـياغته آلة (الأوبوا) التي تمهد الطريق لاسترداد شتات المشهد:

بدأت النغمات الآن تتصاعد من قلب الجدران تُعلن ثمة هسيس أقدام ثقيلة تتخطى بتبختر ألهي في ممر الصلاة، اختبأت العيون خلف الآجر وهي تشاهد عباءته المزركشة بفنطازية عصر التوحيد وهي تخفق وراء ظهره، مؤكداً للجميع أن القداسة شيء من رحمة الإله يعطيها نتفاً للقادمين أليه والمتبركين بيده الممدودة نحوهم، يده السـخية المعطاء، ولماّ صـعد السلّم المؤدي إلى زقورة (قُرب / إيل) وقف على دكة العرش بقامته المديدة رافعاً يده أمام حشد من رعاع المدينة وهو ينظر إليهم بعينيه البنيتين القاسـيتين وقال:

«سيكون عرش الإلهة إريش – كيكال هنا.. قُرب إيل بيت الرب – سـأجعله بيتاً من نحاس أحمـر يتوهج تحت الشـمس وسـتقدمون قرابينكم أليه تباعاً».

خرجت الحشود من قلب الظلمة، أصوات بشرية، متأججة، هادرة، لاهثة، رافعة أيديـها وهي تتضـرع إلى صـوت الإله / الحارس على معبـد (قُرب / إيل):

فليهدأ الغضب في قلب الرب

فليهدأ غضب الإله

ويمسح عنّا خطايانا ويجعل ذنوبنا في قلب الأعداء

 

.. وبعد أن جعلتُ الكمان يستلم اللحن الرئيس من جوقة الأوركسترا، أخذ يترجل منفرداً، يُعلن عن شخيره المتواصــــــل، بدا الإله /الحارس(قربائيل) بصوته الدافئ الحزين يحمل في داخله كبرياء النفس واعتدادها:

«يا أبناء قُرب / إيل النجباء، ها.. هي الأرواح الشريرة كالعشب الذي يغطي وجه الأرض، برقها يصعق ويحرق كالنار، تصيب الإنسان بالمرض وهو في فراشه، وتضيق على جسده وتملأ المـدن والأرياف نواحاً وآهات.. الشـياطين تقف أمام الرجل المذنب، الذي يعصي أوامر المعبد، لذا فغضب الإلهة إريـش – كيكال يكون كالصاعقة تنقض عليه وتحرقه في مكانه. ذلك الرجل الخاطئ، المذنب، النجس، المرذول، التائه، يخرج من جسـده الإله، بينما الشياطين تقف له بالمرصاد، تحوم حوله وتعشش في جسده مع حاشية الشر والشقاء».

تدفق صوت الإله / الحارس قربائيل مزمجراً بغضب صاعق أمام الحشود البشرية رافعاً قبضته إلى الأعلى مهدداً بها شياطين الخطيئة.. أعداء الشعب:

سواء كنت (أتيمو) الذي خرج من الأرض

أو (ليلو) الذي لا سرير له

أو امرأة لم يعرفها أحد

أو رجلاً لا يعرف أن يأخذ امرأة

أو كائناً سقط في الصحراء

أو كائناً ذبح عند أسوار قُرب / إيل ولم يدفن في التراب

أو كائناً استؤصلت جذوره كنخلة

أو كائناً وصل العالم السفلي بقارب

أو يرقة لم تدفن

أو حشرة لم يأبه بها أحد

أو لابارتو

أو لاباستو

أو إكيخازو

أو عبداً ميتاً

أو امرأة حامل ميتة

أو امرأة مرضعة ميتة

أو رجلاً شريراً ميتاً

أو أتوكو شريراً

أو كائناً تاه في مدينة (قُرب / إيل)

أو كائناً ضل في (شخاتو)

.. خرج كوديا / الناسخ المتعبد من بين جدران الآجر، جامعاً شتات أنفاسه وقال: «لم يكن يظهر أمامنا دائماً فهو في أغلب الأحيان مختف في قاعة العرش تحرسه ثلة من كهان المعبد الذين ينفذون أوامره. وفي يوم الجمعة كنا نراه من خلال الممرات وهو يراقب سير الأمور فيشـرف بنفسـه على ممرات الدهاليز ليعزز من تحكيم حصن الهيـكل. وكانت الجمعة هي اليوم المشهود لنزوله إلى سـاحة المعبد، وبعد أن يقف على منصة العرش الأمامية، شامخ الرأس ماسـكاً فأسـه الحجرية المرصعة بالذهب والياقـوت، يقف عن يمينه (خازن القرابين) وعـن شـماله (خمط – تبال) ملاح بحر الموت.. عندذاك تبدأ طقوس المعبد الإلهي بتقديم القرابين والنذور إلى الإلـه / الحارس قربائيل ليمنحـهم بركاتـه.. وقتها تسـتيقظ (قُرب / إيل) دّرة سابحة في ندى الصباح، مبتهجة ومتألقة بألوانها النحاسية معطية الإنذار النهائي لكل الهجمات الآتية من الغزاة». .. فاكتشفتُ نفسي تحت رحمة شيء معين، لم أفقه كنهه، هكذا أنقلب المشهد وأصبحت وسط الظلمة، تلك الظلمة التي تفور بدخان أزلي، وفوجئت أني في مكان ما بعيداً عن عالمي، ليست لي القدرة على أن أتحسـس قدمي أو ذراعـــــي، مطمور تحت وابل من الظلام الأبدي، ثم لاحت لي نجمة في سماء الكون، نجمة شبحية سرعان ما تراقصت أمام عيني وتلاشت، ومن جرّائها تفتحت معالم الأمور وتبيّنت شبحاً أنساب من بين جدران الآجر، ذا قامة طويلة عريض المنكبين يمتلك وجهاً أسود كالقير ورأساً كطائر الزو وله ذراعا نسر قدّت من الفولاذ، يجرّ وراءه سلاسل حديد ضخمة، وقف أمامي وهو يصـوب نحوي نظرات الموت، فتراجعت إلى الوراء وقلت له مرتعباً:

-      مَنْ أنت..؟

-      أجابني بقهقهـة رعدية انطلقت من فمه، كأنها نابعة من فوهة بركان.

-      خمط – تبال.. ملاح بحر الموت..!

-      ماذا تريد مني..؟

-      جئت لأخذك إلى مدينة (قُرب / إيل) الشامخة..

-      وما أدراك أني أريد الذهاب أليها..؟

-      هو قال لي..!

-      مَنْ..؟

-      هو..

-      هل أنت تعرفه..؟

-      نعـم نعـرفه حـق المعرفـة.. قال لنـا إذا ما شـاهدتم صـديقي (المايسترو سـالم)، اجلبوه إلى هنا كي يتسـنى لـه الدخـول إلى (قُرب / إيل) كما أوصيته آخر مرة.

-      آه.. أنت إذن تتكلم عن (شهاب / النحات)، كم أنا مشتاق لرؤيته، هل حقاً أنه هنا.. ؟

-      نعم.. لقد أُعدّ لك مكاناً أميناً تستريح فيه، تعال معنا وستراه..!!

أخذني (خمط – تبال) من يدي وسار بي في ممرات ودهاليز عميقة فوجدت نفسي داخل هيكل يتكون من أواوين مزخرفة بينما كانت كثرة الأعمدة الممتدة إلى الأعلى تجعل أي امرئ باستطاعته أن يختفي وراءها بسهولة ومن هناك رأيت قوارير مصفوفة على منصات مرمرية وغلمان حور العين يتخطون حولها.. رأيت برومثيوس وأديسون وملاّ حنش الــﭼالغـﭼـي، جالسين على منصة مرمرية وقد قدمت لهم أطباق من مأكولات غير مرئية ممزوجة برائحة الخمور المعتقة.. الكائنات البشرية التي خرجت من قلب الجدار تحولت رؤوسها إلى رؤوس ثيران لها لحي طويلة قصت وعدلت بأناقة رجل وقور، بينما بدت بعضها تحمل رؤوس أسود تفتح فكوكها مزمجرة أمامي.. ولماّ أنهينا أحد الدهاليز المظلمة انفتحت أمامنا هوة عميقة نحو (أرض اللاعودة)، حينها أشار بيده وقال:

«يمكنك الدخول.. هذه قاعة العرش».

عندها اكتشفته في الحال من بين الجميع، كأنّ شيئاً ما مس قلبي وسحبني من عمق الظلام، متوهجاً بكبرياء أخاذ، لا تحمله الأرض يسير كالرجل القشعم يفرّد جناحيه في هواء (السَرَب) يحمل تحت فمه العاجي لحية طويلة متدرجة بزوايا حادة. كانت دهشة الاكتشاف جعلتني أتراجع إلى الوراء.. ولماّ صوب نحوي نظرة صافية، خارقة، جاءني صوته من غياهب الزمن يعشش في داخلي كما لو أني أعرفه معرفة يقينية، بأن هناك أموراً اتفقنا عليها، يفتح لي الآن أبواب الطفولة على مصاريعها وقال لي بشيء من التأني:

-      أنا قربائيل.. حارس هذا المعبد، لقد أمرتهم أن يأتوا بك إلى هنا، كي تهيئ نفسك لدخول هذه المدينة.. (قُرب / إيل) تفتح ذراعيها للقادمين الجدد وتمنح بركاتها لهم باستمرار وسيكون قدرك محكوماً بقدرها.

وحينما رفعت رأسي لأتأكد أكثر كانت دهشة الاكتشاف ما تزال تسير في كياني.. عندئذ تبيّنت أن شهاب / النحات كان أكثر دقة في بروز خطوط الزوايا، جاعلاً عينيه مطعمة بفصين من حجر الزمرد وله ذؤابة قد نزلت على جبهته كأنها غرة شمس حولته في الحال إلى هالة متدحرجة آتياً من قلب الحجر.

 

- 4 -

فانكشفت الأشياء أمامي واضحة وضوح الشمس، بينما كانت لطخات الجدران السود تحيل الفناء إلى لون رمادي قاتم جاعلةً الألحان المتفرقة تمتزج مع بعضها، بهياج متدفق عـــارم، أدى بالأوركسترا ان تجمع إيقاعها الكوني الغاضب في آلة (الكونتراباص) فارتج صوتها خارجاً من جوف المكان يعلن؛ إن نذير العاصفة آتٍ لا محالة، ثم انفلقت السماء إلى نصفين خرج من وسطهما صوت الرعد يرج الأرض.. ولماّ رفعت نظري لأتأكد كانت الغيـوم عبارة عن كتلة دخانية متراكبة على بعضها تشكل طبقات، ترسل نذيرها الوحشي، ومن العمق سمعت زمجرة واحتكاكاً واصطفاقاً وقرقعة، بدت حالة السماء تنذرني بما سيقع، فارتديت معطفي الأسود الطويل واضعاً ذلك الشيء المعدني الثقيل فـي بطانته، ورحت أسير في الطرقات لأتخذ التدابير اللازمة.. عندذاك رأيت قطيع (الجالا) يتقافز أمامي مما جعلني أهرول مبتعداً عنه وعكفت يميناً نحو سوق السرّاجين.

كان اصطفاق مصاريع الشبابيك من أثر العاصفة يئنّ في داخلي وكلما أبتعد، أحس أن شيئا ما يركض خلفي مما حدا بي إلى التلكؤ تحت شرفات الدكاكين كي يتسنى لي رؤية ما يجري في الطرف الأخر من السـوق. عندها لاحت لناظري طفلة في السابعة من عمرها، خرجت تواً من أحد الأزقة المظلمة وهي تركض حافية القدمين ممزقة الثياب تجرّ وراءها كهلاً، طويل القامة محدودب الظهر، له لحية بيضاء متدلية وهو يسحب قدميه وراءها متعثراً، قلت مع نفسي من المؤكد إن البنت كانت تستجدي وهذا جدها، لابد أني قد رأيتهما في مكان ما.

.. ومن العمق كان يأتيني الصوت صافياً، رتيباً يشبه تكتكة الساعة، إحساساً غريباً يداخلني، جعلني خفيف الخطى أصد الرياح العاتية كما لو أني أسير منساباً كانسياب الماء الجاري، وفكرت إن أمـوراً أخـرى عليّ أن أؤديها والحـالة أشبه بسرمدية الكون هناك كان المطر يأتيني يغسل الأشياء ويحررها من شوائبها العالقة. وفي داخلي ثمة نســيج معقد من تضافر الأحاسيس كانعتاق الروح من أسـرها، والمهمة عبارة عن تحدٍ لممارسة طقوسي الذاتية.

.. وكانت ظلمة وليل كاسح يجثم على (قُرب / إيل) فانبثق (سـوق الــﭼاﭼين) من قلـب المدينة يفتح طريقه متوغلاً في محلة (باب السلالمة) ويشق مداه نحو(سوق العرب)، كانت دكاكين القفالين والحدادين كمغاور ظلماء تفتح فمها لممر السوق الضيق، وبدا لحن المزاريب هو الآخر يشترك مع أوركسترا المطر يعطي نشيجه الهادر متدفقاً مع عزاء السوق. والمهمة التي أخذتها على عاتقي هو اكتساح الأشياء الراكدة في قلب الظلمة.. انبثق (شهاب / النحات) من خلف جدران الآجر المتآكل وصوب نحوي نظرة خارقة وقال لي بشيء من الاعتداد بالنفس: «عليك أن تغور عميقاً في ماضيك، وأن يكون لك نموذج تحتذيه، وأن تعتمد عليه في مسيرة حياتك المتلكئة، يجب أن تبتكر كل الأشياء من جديد: أن تبتكر الوطن من الداخل، وأن تبتكر الأجداد وأن تخترع كل شيء وتستكشف كل شيء».

.. ولماّ مررت من أمام مقهى (عباس منسي) الكائنة بين محال القفالين جذبني صوت المذياع وهو ينساب من العمق، وفي الحال تشـكّلت أمامي بانوراما السـوق بان منطقتي تركن هنــــا، هي مركز الأرض، ينبعث منها قبـس من نور خافت، عندها غصـت عميقاً في باطـن الأرض بين جذورها اللامتناهيـة والنداء يجعلني أتريث كي أقرأ تاريخ المدينة المتكونة هنا والتي ملأت الكون بفوران أزلي. صدى أصوات تأتيني من بعيد تحملها الريح، كأن شيئاً يحرك الصمت.. فانساب صوت الكمان في أذني متقطعاً، مرتعشاً حرك في داخلي الشجون الراكـدة في قعـر الحلـم فانفتحـت الهوة عميقة تهبط بي نحو (أرض اللاعودة)، مسـلوب الإرادة، مشـلول الفـــــكر، فاقد الوعي، وبدا ذلك التنسيق الكوني الذي يحيط بي، يجرفني نحو الهاوية وثمة هيولي كثيف يأخذني سابحاً في عمق فضاء معتم، أصبحت عائماً أترصد نفسي كيف يمكنني ابتكارها وأنا غارق في لجة العدم. وسكتت كل الأصوات وصفن الكون في دماغي، وأندمج العدم مع الظلام.. من هناك بدأ يزحف إلى داخلي صوت من غياهب الزمن يأتي مسـترسلاً بإيقاع رتيب، يشبه إيقاع القطرات النازلة من صـنبور ما، لكن الظلمة وحدها سحبتني نحو القاع فتبيّنت؛ ثمة قطـيع يتقافز يتجه نحوي دفعة واحدة، يخربش كالجرذان، يخرج من الثقوب السود التي حفرتها السـنون العجاف فامتلأ الكون بصفيرها الوحشي، وفي إثر ذلك أخذت أهرول في شـوارع مهجورة وطرق ملتوية، الطرق التي تؤدي إلى أزقة موحشة، أرى بيوتاً هدتها الأعاصير، أبوابها مشـــرعة داخل دهاليز معتمة، كانت هي الأخرى تؤدي بي إلى سراديب قاتمة بينما القطيع يخرج من الأسفل ومن الأعلى، شيء لا يطاق مما حدا بي أن أختبئ وراء جدران الآجر المتآكلة، فشاهدتهم يهدمون (سوق البزّازين) أولاً ثم بدأوا يهدمون (سوق السرّاجين)، تيقنّتُ من نفسي إن وجوه القطيع ذات أقنعة بشرية فقفزت مهرولاً بغير هدى في طرقات المدينة وتهتُ في شعابها الضيقة.

.. أما الآن فبدت الذبالة تتراقص أمامي داخل زجاجة الفانوس وهي تتضاءل شيئاً فشيئاً، كشفت أو كونت لي المكان، ولماّ أردت أن أدقق أكثر، وجدتُ نفسي داخل قبو مطمور تحت الأرض، انسابت منه ألوان قاتمة سرعان ما تحولت إلى هياكل مشوهة فقدت ملامحها، تخرج من جوف الآجر المتآكل، أشبه بكتل هلامية تقفز وتدخل الجدار.. شاهدتُ الشيطان (ليلو) يحمل في وجهه قناعاً بشرياً واضعاً على رأسه تاجاً أنتصب فوقه تنيناً أعور وله أرجل طائر الزو وقد داس بقدمه اليسرى على رأس تمساح، بينما انتصب في الجانب الآخر (خمط – تبال) ملاح بحر الموت يحمل وجهاً أسود كالقير وقد تحولت يداه إلى يدي نسر.

فابتدأت النغمة صغيرة، حادة، تشق الصمت بصـفيرها، وهي تُجسد لي عمق الهاوية، بدت كأنها الفلك وهو يدور بي.. ولماّ ألتفتّ يميناً، وثبتتّ عيني نحو زاوية القبو، كان تمثال الإله الباسل (نركال) قد أخذ حيزاً كبيراً وهو منتصب على قاعدة من حجر اللازورد واضعاً على رأسه تاجاً مرصعاً بالزمرد والياقوت بينما قدماه قدّتا من حجر الزبرجد وعلى دكة العرش أنتصبت (إريش – كيكال) شامخة بجسدها المتناسق يحمل رأساً برزت منه عينان محاريتان وله خطم مرصع بالذهب، وقد أمتلك الجذع يدين وقدمين بشريتين قدّتا من حجر الزبرجد الأخضر، راحت تشمر بيدها أمام شرذمة من شياطين (الجالا) وهي تأمرهم بتنفيذ أوامرها.. هجمت ألحان الوتريات تئنّ بنحيب متواصل تؤجج الآلام، ساحبة معها الشـعور الطافح وهي تعبئ في داخلها أحاسيس الغربة؛ زئير، صراخ، أنين، شخير، بكاء ثم تمتمات تدفع بي إلى هاوية عميقة لا قرار لها من الظلام.. ثم هدأ اللحن في استرخاء مريع كأن الاحتضار. بدأ يداخلني شعور بأن الهاوية قاب قوسين أو أدنى وهي تفتح لي فمها المرعب، أسود قاتماً.. بدأت الكمانات ترتجف بارتعاشات نغمية آتية من عمق الصمت، بطيئة، تخفق كخفقان قلب مُتعَب ثم تاهت عليّ معالم الأمور بحيث أن صوت الصمت نفسه يشبه الفراغ التام يتحول شيئاً فشيئاً إلى صوت قطرات الماء النازلة من صنبور ما تُعلنها نقرات (البيانو) وهي آتية من عمق القاعة.. أردت أن أحرك يدي أو قدمي لم أستطع كما لو كنت مشدوداً بشيء خشـن الملمس وتعذر عليّ التنفس، ظلّ صدري يعلو ويهبط بذلك الإيقاع الرتيب، عندها شاهدت كتلة الطين المتكومة إلى جانبي تنتفض متحولة إلى رأس آدمي.. سقط ضوء الذبالة على جانبه الأيسر، تأكدت أن العينين نفسهما وهذه التقاسيم الدقيقة للأنف والفم العريض الذي يرتسم أو يتكون بتلك الدقة وكانت الغمزة هي أشارة التفاهم، لكني استطعت أخيراً أن أميز الشبح الذي أنساب كانسياب وتر القرار واقفاً أمامي بكل كيانه. فصحت كمن عثر على ضالته:

- شـهاب.. لابد إنك.. هذه قسماتك أليس كذلك..؟

- نعم.. أنا شهاب / النحات، لقد أرسلني الإله / الحارس على هذه المدينة وقال عليك أن تحرره من قيوده الخشــنة، وتقوده إلى (قُرب / إيل) وسيكون ضيفاً عزيزاً علينا.

- لقد حملني (خمط – تبال) على ظهره ومن بوّابة الهبوط عَبَرَ بي بحر الموت ثم أنزلني إلى هذا القبو المظلم وقال لي تريث هنا، حالما ينظر مجلس (الأنوناكي) في قضيتك المطروحة أمام الإلهة (إريش – كيكال)، حينها نرسل لك رسولنا الذي سوف يحررك من قيودك الخشنة.. هل أنت ذلك الرسول..؟

- نعم.. نعم، تعال معي إن (قُرب / إيل) سوف تبتهج بقدومك أليها.

عندها ضحك ضحكة عالية اهتزت ذبالة الفانوس على أثرها وكادت تنطفئ.. فجأة دخلت علينا صبية مبتلة تماماً كأنها خارجة تواً من غدير مظلم بعد أن أنقذوها من الغرق، ثوبها يشبه الخرقة المبللة لغسل الصحون، مدت يدها الناعمة، الرقيقة ورأسها الصغير مطرق إلى الأرض، أنتهز شـهاب / النحات الفرصة داساً في يدها ورقة نقدية، عند ذاك تأكدت من نفسي أن الإله (سين) ما زال ينشر نوره الشاحب وهو معلق في كبد السماء والفجر لم يظهر بعد، ومن عمق الصمت تسربت إلى داخلي حالة الخدر.. وحينما غامت عيناي وشطح خيالي، انتابني إحساس مفاجئ سحبني نحو قاع الرؤيا، ففتحت عيني لأتأكد، وجدت (قُرب / إيل) تلوح في الأفق، شيئاً ما معلقاً في عمق الكون كقنديل متوهج يتدلى من شحمة القمر، معلقاً بين السـماء والأرض، محاطاً بسور منيع يصدّ الغزاة من كل الجهات، يعلو وينخفض مع انخفاض الأرض، تهت في شعابها وأنا أترصد الأماكن التي افتقدتها.. فجاءني صوته من غياهب الزمن، صوت يتغلغل في باطن الجمجمة ويعرش عالياً فوق المدينـة، ولماَ رفعت رأسـي تبيّنتُ إن الأمـور ما تزال تجـري كما هي، حينها رأيته.. كما أراه الآن ينتصب رأسه فوق برج الزقورة ينظر أليّ نظرة، خارقة، صـافية، كأنها شعاع من سهم ضوئي أخترق كياني، بدا كنسر عجوز خَبَرَ الحياة بكل طاقته الجياشة، تخرج من جبهته غرة شمس أضاءت الورشة على حين غرة، فتراجعت إلى الوراء متعثراً بآنية خزفية منزوياً في ركني أراقب ما يحدث، إذاك خرج رأس الرجل القشعم ماثلاً أمامي وقال:

(قُرب / إيل التي تريد الدخول أليها تقع بين الخيال والواقع، هي مدينة المقابر، تسـتقبل قوافل جنازيها من كل المدن ليدفنوا موتاهم فيها ).

* * *

.. في قاعة العرش وكما هو معهود للجميع جلس كوديا / الناسخ المتعبد في مكانه المخصص على حجر اللازورد لاماً ذراعيه على صدره وقال:

إن مجمع الآلهة (الأنوناكي) بقيادة الإلهة (إريش – كيكال) قرر في جلسته المنعقدة في (2..3 بعد الميلاد) أن يمثل المايسترو سـالم بين يديها ليقرأ أمام الجميع تقريره الذي أُعده عن النحات شهاب، على أن يقوم ناسخ معبد (قُرب / إيل) بنسخه وتوزيعه على مجمع الآلهة.

وفـي ضـوء المناقشـات التـي جـرت، عُقـد الاجتمـاع الثـاني في (أرض اللاعودة) برئاستها وذلك للبت في هذه القضية، وعلى هذا الأساس كان تقرير المايسترو سالم، النقطة الحاسمة في تنفيذ أوامرها. وهكذا تم لها إرسال الإيعازات إلى شبكة الأتصالات العالمية بتسـليم هذا التقرير على شكل ملف خاص داخل أقراص معدنية مانعة للرطوبة والحرارة على مر السـنين، ليحفظ في مكتبـة (قُرب / إيل) العامة، كي يتسنى للأجيال القادمة أن تطّلع على الأحداث الهامة التي تجري في قصر العدالة.

عندها أعلنت الإلهة (إريش – كيكال) أمام أعوانها من شـياطين (الجالا) بتنفيذ أوامرها، وكان هذا قرارها الأخير – هو أن تخلق من دم كائن بشري مذبوح إلهاً يقف على حراسة معبد (قُرب / إيل)، ليقدم لها القرابين ونذور الطاعة والولاء.

وقد جاء في أحدى الوثائق المهمة التي عثر عليها في مكتبة (قُرب إيل):

عجنت الإلهة (إريش – كيكال) الطين بدم كائن بشري مذبوح، حتى يلتحم الإنسان والإله معاً في كتلة واحدة.. راحت فصيلة الطبول تعلن عن بدئ التكوين التي أستمرت سبعة أيام متتالية.. ثم خرجت فصيلة النحاسيات مبتدئة لحن التكوين الإلهي، وفي إثر ذلك خرجت الحشود مخترقة شارع الموكب مقتربة من معبد (قُرب / إيل)، رافعة أيديها وهي تستجدي عطف الإله الذي سيكون الحارس الأمين على معبدهم: لتكن روح الإلهة (إريش – كيكال) ممتزجة بدم الإنسان.. قربائيل إلهنا.. قربائيل إله الجميع، ولمّا وصلت تراتيل الحشود إلى السماء هناك وفي العالم العلوي اجتمع مجلس الآلهة الأنوناكي مقررين مصير روح الإله الجديد (قربائيل).

وعلى الأرض نفذت شياطين (الجالا) رغبة الإلهة (إريش – كيكال) بذبح كائن بشري في أحدى البساتين الكائنة في منطقة (تل الغاضرية) وبدمه عجنت الطين ثم نفخت فيه من روحها فخلقت منه (قربائيل) الحارس الأمين على معبد (قُرب / إيل)..

 

تدوين الحجر

ذلك الذي يترك نفسه مطبوعاً في المكان.. تسكنه الذات أو يسـكنها.. فتختلج النفس عندما ترى ذاتها حاضــرة فيه، ومنفصلة عنه في آنٍ معاً..

ذلك الذي ينقش نفسه في الحيز الذي لا يمكن حسمه، فيطبع دمغته التي لا تنفكُّ تمحو نفسها، بينما تُبقي جزءها الآخر في الباقي من علاماتها..

هل أنا في كامل وعي الآن..؟ هل حان الوقت على التصدي لاقامة طقوس المعرفة..؟ تلك التي يمكن اكتشافها من داخل جُبْ الذات.. على أن الأمور هي.. هي، المدينة ترتسم أمامي في الأفق، تدعوني كي أتوحد معها.

أردت أن أتخلص، أن أتحرر كأي إنسان آخر ينظر إلى الأمور بجدية، فوجـدت نفسي متلبـساً بهذا السحر الذي لا انفصـام منه كالقدر الذي وقع علي.. جعلني أنظر إلى السماء تارة وإلى الأشياء المحيطة بي تارة أخرى، لا شيء يعينني على حالتي المزرية كإنسان سادر في حلمه، مقيم في ورشتي الكائنة فوق (تل الغاضرية) وسألت نفسي ماذا أريد..؟ كيف التوصل إلى تلك الفكرة التي حامت حولي كالقدر؟ متمعناً بكل الأشياء التي جمعتها أمامي كي تعينني على المعرفة.. فبدت عيناي تراها لأول مرة، تلك التي غارت في قعر الذاكـــرة، أخذت تطفو الآن مرتسمة في الأفق. وعندما غامت عيناي متحسسة أشياءها المخفية، انسابت الكتل متراقصة، تنمو.. تخرج من جوف الحجر، فعرفت إن الحركة هي الروح القابعة فيه، فانسابت تعرجاته كانسياب السلّم الموسيقي، صافية كأنفاس البشر وهم يطلقون ترنيماتهم اللاهثة كأنها كورس جماعي سكن الحجر منذ أن أبتكر الإنسان أداة القتل.. أخذت الأرواح تنبعج وتتشكّل وتتقاطع وتبتعد كأن لا علاقة لها ببعضها بعضاً، ظلت ذليلة تدعو للرثاء، مختفية وراء الترنيمات والنغمات.. فسقطتُ مغشياً عليَّ أستنجد بالرؤى الفارة من عقالها والتي ظلت حبيسة لسنين غائرة في عمق الزمــن.

.. كان جسمي مضعضعاً وثمة دوار خفيف يدور في رأسي، مطروحاً تحـت الجمجمـة الخزفيـة المعلقـة في جدار الآجر المتآكل فأخذت أناجيها: «أيتها الروح الهائمة لا تتركيني فان الإعصار لشديد ولسوف يجتاحني هل أقدر على صد هذه الرؤى.. قُرب / إيل تضيع مني.. أنتِ السبيل الوحيد للبحث عن مضامينها الضائعة».

فجاءني صوت صديقي المايسترو سالم ينبثق من عمق الحجر: «لا مناص من ذلك، إن الفكرة سكنت عقلك، فلابد أن تتقمصها بكل أبعادها فهي قدرك الذي اشــــتقت أليه، عليك بالموسيقى فهي الروح التي تكمن في الحـجر».

وكانت المغامرة الجزء الأسـاس في عملية التكوين على أن المسألة جد معقدة، فوجدت إن الأمور قد تهيأت لي. لذلك فكرت في نفسي أن أقوم بتمرينات ذهنية عدة أصاحب فيها الموسيقى، ولا أدري هل أنا اهتديت إلى ذلك السر القابع في قعر الذاكرة، السر الذي يحفزني على تجميع المضامين المتخفية وراء منطـق الأشـياء المتناثرة..؟ هجمـت علـيّ الرؤى دفعة واحدة تقودني إلى (أرض اللاعودة)، ففتحت أمامي أنفاقاً ودهالـيز مرعبة توغل في مجاهيل الزمن، كرجل مسكون يؤدي طقوسه ملبياً نداءً مجهولاً سكن قلبه وعقله.

.. فما كان عليّ إلاّ أن وضعت قطعة الحجر أمامي ورحتُ معه في رحلة طويلة.

تمرين رقم – 1 -
في البدء، عندما حاولت الحركة..
كان الصعود غير مألوفٍ لديّ، كي أتمكن من خلاله التحليق نحو مديات اتسعت أمامي.. وتأكدت من نفسي إن الباب المركون في جهة الشرق يفتح مصراعيه دائماً للقادمين إليه.. فجـأة سـمعت الصـوت ينبـع من جـوف الحجر: «الآن يمكنك التقدم.. يمكنك ولوج الأفق».

.. وحينما نظرت إلى الأسفل تبيّنتُ ثمة جزماً متهرئة وممزقة ترتفع ثم تهبط ثم ترتفع صاعدة، وعندما أمعنت النظر جيداً ميزت رهطاً من الأقدام قسم منها رجالية خشنة تقرنت بشرتها فبدت كأنها أقدام بغال اعتادت على التسلق وقسم منها أقدام طرية ناعمة ذوات بشرة بيضاء هي أقدام مراهقين، كانوا يتسـابقون مع أقرانهم من البغال كي يكونوا في مقدمة الرهط، وقالت لي الأقدام: (هل أنت مستعد للصعود..؟)، فأجبتـها بالتأكيد الذي ملأ نفسـي الظامئة: (نعم.. لابد من ذلك وسوف أصل)، وأرتسم أمامي الباب ذو المصراعين الكبيرين لكن الشيء الأكثر غرابة هو إن السلالم كانت معلقة في الهواء والسلّم الذي كنت أصعد عليه، سلّم خشبي مشروخ يئزّ تحت قدمي، يعطي صوت أنين الهاوية وقد بدا لي انه معلق في الفضـاء في نقطة وهمية.. خارجـة عن التاريخ وعن تكوين الأرض. وكانت الأعمدة التي تحمل بناءً واسع الأطراف معلقة هي الأخرى في الهواء وظهر لي البناء مهدماً أكلته الإرضة.

.. فانسابت الشمس بخيوطها الذهبية سابغة على الأشياء ألقاً صباحياً مشبعاً بالندى يتلألأ على الأعشاب الطرية معطياً صبغة خضراء دافئة، ومن بعيد عِبرَ الأفق تراءت لي ستارة ذات لون رمادي قاتم تكشفت شيئاً فشيئاً عن رؤوس نخيل متداخلة تخترقها صواريخ شمسية.. فلاح لي جذع النخلة المقطوع الرأس شامخاً تحت الشمس، فكان الدليل الأكيد على تلك المضامين.. بدأت الشمس تغرق الأرض بدفئها ثم نفذت ببطء من خلال الأشجار الشامخة والتي زينت الجهة الشرقية من الشارع الفرعي، بينما أمتد النهر الذي تكسرت فيه الأشعة إلى هالات برّاقة والتي كشفت عن تيجان بعض النخيل السامقة مطبوعة بشـكل معكوس على سـطح الماء، وهو يشق مداه في الشارع الفرعي كان كل شيء دافئاً أخاذاً يوحي بالشروع وبحركة صباحية.

.. فتباطأت قدماي مع النهر، وهناك أعتدت على أن أخزّن بعضاً من استكشافات كرنفالاتي من الأشياء المرئية وفي خضم هذا الابتهاج الصباحي، تسرب إلى داخلي قسم قد أخترع تواً من بعض الأحزان الشفافة والعملية التي كنت أقوم بها قبل ذلك النهار، هي المسير أو الصعود أو التسلق.

.. وعندما سألني صديقي (المايسترو سالم) الذي يشاركني كل تصرفاتي اليومية والذي يرافقني في رحلاتي الجنونية في ذهابي وإيابي عبرَ أفق العالم، في كل التفاصـيل الجزيئية من مكونات الخلق. والذي أتقابل معه في النقطة نفسـها عنـد تقاطع الأضداد: (( هل أنت وحيد دائماً..؟))، أجبته مستغرباً وبعد أن كاد أنين الهاوية يخرج من عمق السلّم: «إخلولق الوحيد أن يتوحد، أنا أجمع نفسي من الشـتات، من ذلك الشـكل العشـوائي لتدوين النفس في رقائق غير مرئية من عالم أُعيد صـياغته رويداً رويدا داخل الذات، هل تعلم..؟ إن الذات تسكن هناك عند المنعطف خلف الأشجار وراء المدرسـة الابتدائية بالضـبط عند الفـرع الجانبي فتظـهر أمامك البوابة الكبيرة المركونة تحــت القوس، مُعلنة عن وشوك يوم جديد، فيقوم الزمن بأكل ما تبقى من طعامه اليومي، تاركاً على الجسم خريطته المُعَلّمة بتفاصيل دقيقة يقرؤها القادمون الحاذقـون باكتشـاف تلك المخلفات وهم على العموم من الأعداء.. هل تعلم ؟ كأني أدوّن ما لا يدوّن. تلك المقاييس التي وضعوها في لائحتهم، المقاييس التي تكوّنت من جرّاء نفسها في كل يوم تزداد ظهوراً، تدهوراً وانحطاطا».. فارتجّ السلّم في داخلي يشدو بأوتاره المهزوزة كزوبعة انتفضت فجأة تحشرج بنغمات قوية تلمّ شتات الروح التي تبعثرت في الهواء، تُحرك الغصينات الطرية التي أخذت تنمو مطمئنة تحت الشمس وطغت على صوت العصافير، و حفيف الأوراق المترنحة، وهاج الكون ثائراً بحمم متفجرة من فم بركان يقذف ناراً حامية، أحرقت المسقفات والأعمدة العملاقة وبدت الشرفات معلقة في الهواء.

.. أخذت الأشـكال المختفية تخرج من عمق الحجر كاسحة المكان: هياكل بشرية تحمل رؤوساً سوداً كبيرة الحجم والشيء الذي لاح لي بذلك اليقين إن آذانهم الطويلة تدلت إلى خصورهم، يتقافزون فوق الحمم يحملون على أكتافهم مجارف ومعاول يصعدون سلالم مبعثرة.. من هناك أطلت قاماتهم العملاقة من تلك الشرفات المنتصبة في الهواء.. عندها تراجع الهزيم مبتعداً وسكنت العاصفة واختفت الرعود فاكتشفتً أن السماء تعطي لهباً فيروزي اللون شفافاً أكثر زرقة من قبل وعادت الغصينات تتماوج مع الأوتار الهادئة فصدحت العصـافير كتلة متفجرة، راقصة من خلال الستارة الخضراء.

.. أحسست بالأقدام ترتفع وتهبط متقدمة إلى الأمام بينما المنعطف يبتعد ويبتعد، كأنه يتلاشى مع امتداد النهر الذي بدوره يضيق شيئاً فشيئاً وينتهي وراء اللامكان.

.. وأمتدّ السلّم مرة أخرى يشدو بنغمات أوتاره الهادئة والتي تنساب الآن كانسياب ماء رقراق تنخطف منه أضواء برَاقة تتكسر هي الأخرى كمويجات ناعمة مما جعلت أوتار القلب تخفق بهدوء صامت فكانت الموسيقى تنبع من عمق الصمت، هي موسيقى كونية تنطلق من مركز الذات.. ومن خلال الأفق المنظور تجلى لي شيء رهيب غير عادي يتكثف كسحابة داكنة تحجب نور الشمس، لكن عيني القلقتين سرعان ما اكتشفت نباتات الفطر النامية والمتفتحة كفـمٍ مزموم يعـطي للرائي قُبلة هوائية تُقبّل الكون بصمت تألقها وبرونقها الأخاذ.

.. وعلى حين غرة وهذا ما تأكدت منه أحسست إن المكان قد غزته أجمات عديدة شجيرات وأشجار عالية تشابكت أغصانها ملتوية ومتداخلة مع بعضها، كيدٍ خفية تصنع منها مسقفات منسوجة بأتقان صانع ماهر، أو كأجنحة امتدت تحجب نور الشمس محيلة المكان إلى ظلام أشبه بظلام الكهوف الحجرية، شيء غير مألوف بالمرة:

هجمت كتلة العصافير متفجرة من قلب المكان وبدت المناقير سلاحها الوحيد تهاجم به الأشباح المتسربة إلى الداخــل، ثم كان الصمت أكثر رهبة، فتشتد الأوتار مع بعضها بقوة تعزف موسيقى أنين الهاويـة، كما لو إن الصـمت أتحد مع المكان ليكوّن كتلة واحدة. ومن قلب الصمت هذا يشرئب رأس الأفعى متحركاً كسهم ينخطف أمام الرائي فجأة.. فتستعد الطبول لتُعلن عن صوتها بالضربة المتفق عليها هو صوت القدر الآتي من سلّم القرار.

تمرين رقم – 2 -
أمسكت أزميلي ورحت أحفر خطوطي على كتلة الحجر ولكي أعطيه اللمسات الأخيرة، جعلت الوجه غريباً لا يشبه صاحبه البتة، فقد أنخسف صدغاه حتى إن عظام فكيه بدتا أكثر طولاً وبروزاً من السابق، له عينان تغشاهما غمامة غير مرئية.. فانعقص قوس الحاجبين بحيث أدى تقاربهما إلى بروز كتــلة لحمية مما جعلت وجه التمثال يتخذ مسـحة رجل غاضـــب، كأنه يواجه معركة حامية، ينظر إلى الأمام بعينين جاحظتين وبالانتباهة نفسها التي أعتاد عليها.

.. ثم مضيت في عملي برويّة وأنا أراقب التمثال، فجعلته منتصباً، طويل القامة نحيفها، وبعد فترة أمتلك ذراعين طويلين لهما كفان برزت سلامياتهما إلى الأمام، فصيرتهما كف عامل ماهر يعترك الحياة وحيداً ومستوحداً.

.. وحين أخلولق الوحيد أن يكون متوحداً، لبس ثوب القديسين وراح يُعبّر عن لواعجه الهائمة من نياط قلبـه وكان يرتل تراتيله وحيداَ، منفرداً أعزل وخاشعاً، يطلب الرحمة، وها هو في غمرة الهياج الروحي كان يسمع صخباً وحشياً آتياً يكتسح الطرق ويحطم الأشياء، فهاج السلّم بجمله الموسيقية محشداً جيشاً أوركسترالياً يُعلن عن ضربته الكاسحة. وكان هناك حشد من المتبرمين قد اصطفوا في باحة الفناء يشاهدون مشهداً لم تعتد أعينهم على رؤياه.. فظهر له الشيطان (تيعو) برأسه الأصلع وبلحيته المتدلية، يقف وقفة مَنْ استطاع بجيشه أن يكون المستعِمر الأول، حاملاً بيده سوطه الناري فيما هو يعلن عن صفير المعركة، تقدم لحنان هائجان لهما ملامح قائدهما يدخلان منطقة الدائرة ويمسكان بالتمثال الذي بدا وحيداً في مواجهة الرجـال.

.. بعد إن أعلن الطبل عن ضرباته الإيقاعية، كان التمثال وبكل طمأنينة ينزع ملابسه بتؤدة وببطء رجل تعود على أن تُسلب حريته، ربطوا ذراعيه وقدميه بقائمتي السرير الحديدي الذي أُعدّ خصيصاً في منتصف الفناء، وكان حشد المتبرمين ينشد متصاعداً مع النغمة الأسـاسـية لعودة الغزو: يا إلـــــه الناس، رحماك.. هذا شيطان رجيم..!

.. حينها أمر صديقي المايسترو الجوقة الأوركسترالية أن تهدأ تدريجياً ويعود الصمت مرة ثانية، يحدد وبتلك الدقة المتناهية ذبذبات تأوه الكرباج في الهواء ولكن كيف كانت الأمور تجري..؟ حينما مدد التمثال جسـمه منبطحاً على الســرير، تم ربطه بحبال القنبْ الخشنة، عند ذاك كان الصمت.. الموسيقى الأكثر اكتمالاً وهي تعزف مقطوعتها الأزلية، مما جعلت الوجوه الكالحة والمسودة من أثر البرد تغمض أعينها لتبقي الصورة البشرية المنبطحة، منطبعة في فراغ الدماغ.

.. ثم صار (تيعو) يتقدم مستعرضاً مشيته متبختراً ومزهواً بنفسه، فاتحاً ساقيه للريح نحو مركز الدائرة، كان متمنطقاً بنطاقه الجلدي العريض وقد ظهر جسمه العلوي عــارياً، فتدلى كرشه إلى الأمام أبيض ناصعاً كأنه قربة مملوءة بالبراز.. تهتز أمامه مع كل حركة من ساقيه أمام صدره فتحول إلى كتلتين منتفختين ومنتصبتين إلى الأمام وله زندان مملوءان يحتويان على عضلتين ماهرتين، وقد زينت ذراعاه بقطعتين من الجلد المطعم بالفضة أذاك اكتشف التمثال وبالدقة نفسها إن كف الشيطان اليمنى كانت تمسك بكرباج مفتول كأنه قد أمسك بأفعى طويلة تتلوى ذات اليمين وذات الشمال.

.. وحينما حطت عيناي إلى الأمام مع مستوى النظر تأكدت إن الكرباج قد رسم قوساً دائرياً في الفضاء ينفلت أمام الرائي كالسهم المباغت ينطلق من نقطة وهمية، نقطة حددتها قبضة الشيطان المرتفعة. كان الصمت يجلب صوت الصفير المُعلن عن رنة يترجع صداها في الهواء هي رنة ارتطام أو إصطفاق الكرباج باللحم البشري فتصعد القبضة الممسكة ثانية ويرسم الكرباج قوساً دائرياً آخر وبعد أن يدور الجزء الحر ثلاث دورات في الهواء يســقط صافقاً اللحم البـشري كرّة أخرى، كان أزيز النغمة حاداً، يصفر وحيداً، يسابق الريح، رفيعاً يخترق تجاويف الكون ثم تأتي الرنة قوية، ذلك الاصطفاق المدهش كأنّ باباً سحبها تيار هوائي مفاجئ بقوة خاطفة، فيترجّع صداه يرّن في طبلة الأذن ويظل الدماغ مستعداً لأن يتقبل أو يتوقع أن هناك إصطفاقاً آخر سوف يحدث، هناك في المزاغل الظلماء من سرادقات الصمت الساكن في حيز الدماغ.

وكان الجسم ممدداً، هامداً، لا تصدر عنه أية نأمة.. (إلاّ إن الأصابع تأخذ بالتلوي وتتشنج ممسكة بالمقبض النحاسي للمطرقة الكبيرة وقد ارتسمت فجوة المفتاح سوداء كأنها علامة استفهام).

.. كان رهط الأقدام يتقدم صاعداً صعوداً بطيئاً حتى صارت لكل درجة نغمتها الخاصة بها هو أزيز الخشب المشروخ والذي يرتفع شاهقاً نحو العُلا ثم يأتي دور التمثال الذي يتقدم ببطء حاملاً كدس الطابوق الثقيل المستند على صدره فاتحاً ساقيه استعداداً لوضع قدمه الأيمن على سلّم الصعود وعندما يجتاز منتصفه يكون أزيز الهاوية قد وصل أليه.. عندئذ يخرّ الكرباج هابطاً بقوة مضاعفة، فقالوا له: «بحق السماء لا تحمل هذا العدد الهائل من الطابوق، ألا تلاحظ هذا السلّم المشروخ كيف يئنّ تحت قدميك..؟»

لكن التمثال ظل إلى ذلك الحين جاحظ العينين ينقل أحماله من الطابوق إلى سطح الكورة بعناد عامل يحب عمله بشغف وبتلك العزيمة نفسها على مثابرة النفس للتصدي فسألوه مرة أخرى: «هل أنت نفســك الآن ؟ أي إن هذا الجسـد نفسه الذي كان..؟»

فالتفت الذي قدّ من حجر بعينيه القلقتين ونظر إليهم نظرة خاطفة، ثم تحركت شفتاه في الهواء ونطقتا: «لم أكن أحس بشيء، كلما هناك كنت أحوم فوق الجميع وأنظر إليهم وهم يضربون جسداً آخر خارج نطاق كياني المربوط ربطاً متقناً، وقتها كان التابوت العائد لقفصنا والمصنوع من خشب الصاج، يضعون فيه جثثاً مختلفة الطول، ففكرت جيداً إن جثتي سوف تتحرر رويداً، رويدا من نطاق عالمها المحسوس، فظهر لي حشد هائج يموج تحت شمس الظهيرة يفترش شوارع المدينة وكنت أحدهم نحمل النعش ورحنا نهرول مسرعين كأنّ هناك شيئاً زائداً نريد التخلص منه بأي شكل من الأشكال، وبالتأكيد الذي لازمني أحسست إن النعش الذي نحمله كان ثقيلاً ســـــبب لي آلاماً مبرحة تركـــــزت في نقطة تنفتح كفوهة بركان تقذف حممها».

.. وكما رآها أول مرة، كان عمق (الحفرة) دائري الشكل بنيت بالطابوق على شكل حلقات متداخلة، متراكبة على بعضها وقد اتخذت شـكل قبة، تضـيق شـيئاً فشـيئاً كلما ارتفعت، فترتســم أمامه (الفتحة السوداء)،.. وقتها وقعت عينا التمثال على الأماكن المنخورة، وتلك الفجوات المتكونة بين طابوقة وأخرى، فتأكد من نفسه إن السائل الذي يسيل منها كان فحمي اللون، نتناً، متخمراً، شيئاً لا يطاق فاغطسوا جسمه فيه بينما بقى الرأس طافياً، ككرة من البلاستك انقذفت داخل فوهة (بالوعة).. أغمض التمثال عينيه ولماّ فتحهما رأى اللحي السـود متدلية تُشكل دائرة من العفاريت تجمعت فوق الفوهة.. رؤوس لهـا أعين محملقة تنظر أليه شزراً تحمل في طياتها علامة انتصار خبيثة،.. كانوا واقفين في ركن الفناء يسمعون ضـربات الطبل بإيقاع رتيب، ينتظرون ليشاهدوا ماذا يجري، بعد ذلك أمتد الزمن برهات لا نهاية لها، صاح أحد الملتحين متقافزاً في الهواء فرحاً بأعلى صـوته محـركاً يده أمام الجميـع: «الله أكبـر.. الله أكــــبـر، قولوا أشهد أن لا إله إلاّ الله»، وقال أحد المتبرمين ماذا جرى هل اقتربت القيامة.. ؟ هل جـاء يوم النذير..؟ عندها ربطوا التمثال بحبال القنبْ الغليظة نفسها، كان جثة هامدة، أسودَ، تنبعث منه رائحة نتنة وقد هزل جسمه وراحت أسنانه تصطك من شدة البرد، كأنّها تعزف لحناً شجياً خاصاً، وقد أصفرَ لونه، حسبت أن الجسد قد فاضت منه الروح. ولماّ طرحوه أرضاً سحبوه بالحبال جراً إلى منتصف الدائرة. وهناك أشبعوه ضرباً لا يطاق.

.. حينها أمتد السلّم أسفل الفوهة يعزف لحن الهاوية، يحمل الأقــدام الثقيلة، الأقدام التي تقرنت من جرّاء الطين المتيبس عليها، أحس بالسلّم يهتز كلما نزل إلى الأسفل وجاءه الإحساس بأنه معلق في فتحة الكورة، شرعت الطبول تدق مع ضربات القلب وبدت متفجرة كلما هبط الجسم أكثر، حتى إذا ما أستقبل القدم منصة الكورة يكون وجيب القلب قد تراجع فتهدأ أنفاسه، وقتئذ يُسحب السلّم من الفوهة العليا ويبقى التمثال قابعاً في بطن الآتون وحيداً، مستوحداً يتناول القطع الطينية اليابسة ليرتبها ترتيباً قبل شوائها، فتتصاعد الحرارة المتبقية من اليوم الفائت بعد انطفاء الكورة كأنّها حمم متفجرة تنقذف من فم بركان يسحب داخله شعور الإنسانية المضرّجة بدمائها تعطي للعالم بصمة تحدٍ.

تمرين رقم – 3 -
الآن بدأت الأشكال تبرز من داخل الحجر على شكل تجاويف وانبعاجات تتشـكل بخطـوط انسـيابية، عندها جلست على بُعدٍ لأتأمل.. أنبثق التمثال من قلب الحجر وراح يسبح في أديم ضباب كثيف، ثم تكشف أمامي شيئاً ما لامعاً، برّاقـــــاً، يرتسم في الأفق ثم وقف من تلقاء نفسه شامخاً لحدود السماء، فانتصب التمثال وحيداً يخطو خطواته الثابتة في جوه الغائم، كانت الخطوط تتقدم وحدها بإيقاعها المعهود.. بإيقاع الصمت المذهل الذي حرض الرؤيا على أن تتسع لتشق طريقها عِبرَ مفازة موغلة في عمق السَرَب.

.. والتمثال كان يعي اللحظة التي خرج فيها من قلب الحجر ليواجه طريق الحياة وحيداً وبدأ الآن يسـير كمن يبحـث عن شـيء ما.. فانتصبت أمامه أعمدة أشجار عملاقة وارفة بأوراقها وبأغصانها المتشعبة أشبه بالصواري المعلقة في كبد السماء تاركة على الأرض كوثرها الرقراق يجري مستقيماً عند الأفـق، كانت الحركة أشبه بالترنيمات الخافقة تتقدم صاعدة، هابطة، مسترسلة مع سير الهواء، ترسم له خطاً وهمياً يخترق الستارة الخضراء القاتمة من جهة الشرق، والشارع الفرعي يمتد أمامه بين أشجار الدردار والصفصاف الباكي يرسـم له غاية عميقة مكبوتة، كما لو إن عينه تكونت تواً لتقرأ الأشياء بتفاصيلها.

.. وكان المسير أو الصعود أو التسلق، هي الحركات التي يؤديها بإتقان آلة ميكانيكية. ومن خلال التسلق الذي أعتاد عليه أتضح له أنه كان واقفاً وسط ذلك الضباب الذي ما كَرُب َمتحولاً إلى ظلام دخاني يمحي الأشياء ويعتمها.

.. وكان ليـس كما تصورته بل أصبح الآن أكثر طولاً من السابق، يقف وقفة من يريد أن يصلي صلاة التوبة، مشرئباً بعنقه شامخاً، ماداً رأسه نحو السماء. وكانت الدنيا تتراقص من حوله، قلقة، غير ثابتة، فاكتشـف نفسه في مركب سكران يترنح باهتزازات رتيبة. وكان إيقاع الرؤيا متماوجاً، فعندما تأتي النغمة حادة ومتفجرة، تبدأ عملية الصعود دفعة واحدة. وكان الصعود شيئاً غير مألوف أو غير منطقي أو غير واقعي، فتنقشع الغمامة السوداء التي تحجب الرؤية ويتراقص الأفق بعيداً.

..وكما تصورته أول مرة، بدا لي طويل القامة، عريض المنكبين يحمل كتل الصلصال الثقيلة بتلك المهارة مستخدماً عضلاته الماهرة لنقل أثقاله من ماكنة (الخباطة).. كأنه يحمل كرة مطاطية للأطفال كبيرة الحجم تزن ما يعادل ثلاثين كيلو غراماً من الطين متجاوزاً المسافة التي تمتد من أقصى القاعة ليعبر بها الساحة المفتوحة ثم يدخل بها مرة أخرى قاعة ثانية تقع على يمين فناء المعمل المكشوف فيرميها في المكان المخصص لها.. رحت أحث الخطى وراءه كأن شيئاً يجرني أليه متتبعاً خطواته السريعة لأنظر:

كانت الكتل الصلصالية التي يرميها في الهواء تكوّن قوساً دائرياً لتحط على الأرض أمام جوقة من العمال الجالسـين حولها وهم يقومون بعمليـة قـص الصـلصال بقـالب حديدي ثقيل إلى قطع متساوية الأحجام، عندئذ لاح لي إن عينيه الكـــبيرتين، الجاحظتين ترمياني باسهم نارية برّاقة، تشـع تحت قوس الحاجبين، كنت أنظـر أليه كما لـو إني أنظر إلى جدار أصم أكلته الأمـلاح وتناثر آجره على شكل قشور، فتشـربت الأملاح راسـمة بقعـاً غائرة..جـدار بُني فـي زمن ما على أرض غدقـة بالمياه الآسـنة، على أن الحفـر الصـغيرة بـدت كخـرائط تحتـوي على تفاصـيل دقيقـة تعطي الدليل النهائـي لعمـر التمثال..أو أنه أشـبه بزهرة يافعة، متفتحة جالسـة علـى غصـين يتـرنح فـي الهـواء..إن هنـاك شيئاً ينبع من الداخل يشكل أمام الرائي علامة تحدٍ، علامة على أنها سوف تُقام بنفسها وتقاوم، المقاومة هي البقاء بوجه العاصـفة.

.. وكان تمثالي يقاوم كل العواصف، إلاّ إنها أثرت فيه فبدا وجهه منحوتاً وقد برز عظما الفكين اللذين كونا فماً يفترّ عن ابتسامة خفيفة هي ابتسامة عامل ماهر قنوع.

.. ثم تحركت النغمات في الفراغ، بطيئة، متنافرة، تنطلق من نقاط متباعدة تنبع من أعماق غير محدودة ثم تتضافر وتندمج مع بعضها وكان تمثالي واقفاً هناك في الوسط، يمدّ رأسه من الشرفة المعلقة للكورة. وبدا للناظر طويلاً وأسمر.

.. في قاعة العزف كنت أسمع وأراقب صديقي المايسترو سالم الواقف هناك. ومن خلال الضوء الساقط من مسقفات القبة المعلقة انكشف لي وجهه أحمر، أشيب الرأس كثيف الشعر يترنح متمايلاً في قلب المنصة تحت قوس المسرح، أحمر العينين وقد دخل تواً في غيبوبة زمنية كأنه يتابع رؤيا سكنت رأسه. في البدء أنطلق الصوت من الصفر متناهياً يتذبذب، متشنجاً، ثم صوت شخير وبكاء.. فيهتزّ الوتر وينسحب القوس في الهواء انسحاباً فجائياً مما جعل أصوات النهيق تنبثق من أماكن متفرقة. كان صاحب النهيق طاعناً في السن أنجب فريقاً متكاملاً موزعاً في المخابئ الممتدة في ماوراء الستارة الخضراء للبساتين وله صوت نهيق يائس، إلاّ إن سلّم القرار تصـاعد محتجاً مما أدى إلى انبثاق الأضـواء الحمر من القبـة المعلقة.. عندها أعلنت الأوركسترا هياجاً منتظماً يهدر كالشلال المتدفق. كتظاهرة انطلقت تواً مخترقة شـارع الأضرحة متجهة نحو مركـز (قُرب / إيل)، فتجمعت هناك تصـدر مارشـاً عسكرياً اسـتعداداً لحمل الجنائز، وها.. هم أولاء يصلون (فتحة الموت)، فيمدّ لهم (خمط – تبال) مخالبه كالصـاعقة لانتشال جثة الميت، وهـو يحملـها على عجـل، مخترقـاً بها مياه بحر الموت.. فيخرّ الموكب باكياً ومتشنجاً في جامع الأضـرحة، حينذاك تبدأ الجموع الهائجة استعدادها لردم حفرة الموت.

..من عمق الحجر بدت لي البوّابة معلقة هي الأخرى في الـهواء، وهي الآن باب خشب لخان كبير يتكون من أواوين متتالية معلقة على أعمدة خشبية تخزّن في داخلها أكياس التوابل والكركم والتتن الهندي.. كانت عوارضها من خشب الصاج – (ظهرت الغصينات ملتوية ومتشابكة بانحناءات متراكبة ومتداخلة مع بعضها بعضاً. عليها ورقات كبيرة الحجم بقدر راحة يد عامل ماهر وأخرى صغيرة، لكن الأزهار بدت أكثر وضوحاً جالسة على كربلة كبيرة، ظهرت حركتـها متمايلة كأنّ الريح اجتاحت الغصينات فجأة. جعلتها تتمايل ناحية اليمين في المصراع الأيسر وأخرى ناحية الشمال في المصراع الأيمن،متماسكة بوحدة واحدة وقد اختفى الغصـين الرئيـس وأصبحت جميعها نابعة من آنية خزفية كبيرة الحجم لها فوهة واسعة – هذا يدل على أن الحفر كان عميقاً ومتقناً في خشب الباب) – ترتفع البوّابة خمسـة أذرع من ذراع العمل على أحد مصراعيها مطرقة نحاسية مركبة وسـط قوس نحـاسي كبير وقد جلـس طارقها على المطرقة بإتقان.

.. دخل من الباب الرئيـس، وحيداً كما كان، يراقب عن كثب مكاناً كان مألوفاً لديه.. فوقعـت عيناه على البلاطات المثلومة والمتكسـرة في الممر المؤدي إلى منصـة العرش داخل قاعة التضـحية – هنـاك كان التمثال يسـتطيل شـيئاً فشـيئا ويمتد مكـوّناً أحـد الأعمـدة التي تحمـل على كاهـلها سـارية المحـراب.. كانت عيناه شاخصتين عِبرَ (الفتحة المظلمة)... فانبثق منها الشـيطان (تيعو) الملتحـي مـرة ثانيـة يلبـس قناعاً شــبحياً وله قـرنان ملتـويان وخطـم خنزير، ثبتـت عينـاه الواسـعتان في جبهتـه، يتقـافز فـي الهـواء، وهـو يصـرخ بصــوت يشـبه شـخير آلـة (الكونتـرباص)، يحمل في يده صـولجاناً ذي لسـين معقوف، حاد النصل، شــاهراً أياه في الهواء تتبعه شرذمة من شياطين (الجالا) وهم يتقافزون وراءه.

.. فتبين لي أنهم على ثلاثة أصناف، صنف كالنخل الطويل حتى قيل إن منهم مَنْ طوله مائة وعشرون ذراعاً وصنف منهم طوله وعرضه سواء يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، فهذا الجنس لا يترك وحشاً ولا ذا روح إلاّ ويأكله ومن مات منهم أكلوه، وصنف منهم في غاية القصر، فمنهم من طوله شبر وشبران لا يموت أحدهم حتى يرى له ألف ولد، وهم يلحسون الجدران بألسنتهم الطويلة.

.. كنت متأكداً من أن شرذمة القطيع كانت من الصنف الثاني تستعمل مخالبها لتقطيع الجثث المرمية على طول الممر، تسحب بأسنانها الأمعاء الوردية الملفوفة، فتراءت لي الحقائب البشرية ممزقة تبعث رائحة نتنة غائرة في عمق الزمن، خليط أو مزيج ملحٍ متيبـس مع بعضـه أشـبه بكيـس من (التتن الهندي) أنشق وسطه، فانبعثت رائحته تزكم الأنف.

تمرين رقم – 4 -
.. كان المايسترو منتصباً في قاعة العزف وهو يحرك عصا القيادة، فانسـاب الصوت بطيئاً كأنه أنين جرح غائر في أعماق الزمن.. يتلـوى ويئـنّ بشـخير متحشـرج ينبعث من أوتـار آلة (الشيللو) ينبع من عمق الحجرات التي كونتها ذاكرتي المســلوبة، بقيت محتفظة بأســرارها الأزلية. وعندما تلقت أذناي الذبذبات المتسارعة، كانت تعطي إيقاع الزمن الغابر، ما لبثت أن تفجرت إلى غضب عارم يعزف مارشاً جنائزياً يكتسح كل التاريخ ليوّلد في ومضة عابرة مشهداً بانورامياً، فتسلمت الأبواق اللحن الإلهي بقوة هادرة، وكان ثمة شيء يسمو، يمتص الجراح ويعلو بها خفاقاً بأجنحة ملائكية في قبة السماء. كان السلّم يتصاعد يجمع الألحان في نقطة مركزية ضاجة كالحياة في صــراع عنيف، فتغلغل المشهد أمامي متجـسداً في ثنايا الدماغ عن رقصة المذبوح وهو يتلوى بدمائه، متشنجاً يسقي الأرض العطشى.. بقي تمثالي وحيداً في هذه الدنيا، حائراً يتوسل، يتعذب، يصــارع، يقاوم، فيشتد الرعد متصاعداً بإيقاع غادر وجاء البرق يقذف سوطه الناري كهدير يعلو يخنق صوت الآلام وعذاب الجراحات.. عِبرَ الأفق المنظور، كان التمثال يتراءى له مشهداً تعسفياً غادراً، حينها كانت الشمس في قلب السماء، تلهب الأرض وتسخن الهواء.. أضحت قدماه تتعثران الآن في المسير، ذلك المسير الذي أعتاد عليه بجزمته المتهرئة وهي تجرف معها التراب المتكدس في الطرقات... فتبين الوحيد والمستوحد إن المدينة هجرها أهلها وتحولت إلى خرائب متداعية، كانت الشبابيك هي الأخرى معلقة في الهواء تصطفق مصاريعها بقوة وحشية، كأنّ أرواحاً شريرة حملتها الرياح الشديدة وهي تصفر.. فالتقطـت أذناي صـوت آلـة (ألترمبون) المنطلقة تواً من عمق المسرح تعطي اشـارة الهدير الآتي.. ثم تداعى صوت قادم من السماء يعلن عن زوبعة متنامية في الأفق، وها.. هي رويداً، رويدا تتقدم فيعلن قائد الأوركسترا إن النذير قادم يجرف معه تراب الأبنية التي هدمت ورماد الأشـــياء التي احترقت متحولاً إلى مطر أسـود يسبح في الفضاء.

.. وفي إثر ذلك أخذ التمثال يركض متخلصاً من شارع الأضرحة متقدماً نحو معبد (تل الغاضرية)، متيقناً في ذاته وبالسر الذي ظل محتفظاً به في ذاكرته إن مركز (قُرب / إيل) أصبح ساحة جرداء تتراقص فيها شياطين (الجالا) بطمأنينة. ولكنه تأكد من ذلك ملياً إن الأشباح تتضـــــح أمامه، تخرج هكذا من جوف الأرض ومن خلال الأفق البعيد ظهرت له نقطة غبراء سرعان ما تنامت تحت الشمس الملتهبة، إلى قطيع وحشي أسود اللون يتكون من شياطين ومردة يجوبون الطرق التي اختفت معالمها، حاملين سواطير معقوفة حادة النصل ينخطف بريقها تحت الشمس، يتقافزون في الهواء ويصرخون صراخاً وحشياً:(ها،ها..هووو.. هيـ هيـ يـ)، يتقدمهم (البعلزبول) ذو الشكل الخنزيري، راكضـاً بكل قوته نحو (وادي البقيع)، رافعاً بيده اليمنى رأساً نوراني الطلعة مهيباً، ينبثق منه صـاروخ ضـوئي شـذري اللون يخترق الأفق متجهاً نحو السماء... كأنّي بلحية الرأس المتدلية كونت نبعاً من الدماء الحارة وهي تسـيل كجدول يسقي الطرقات التي تكدست بتراب الأضرحة، بينما كان (البعلزبول) يحمل بيده اليسرى صولجانه المعقوف وهو يخور بصوته الأجش متقافزاً على غير هدى، وإذا بالتمثال يفرّ مهرولاً بكل قوته مختفياً في جامع الأضرحة الذي تهدم قسمه العلوي بينما بقي محتفظاً بأعمدته المنتصـبة كأنّها شـوامخ لا تتزحزح، مادة جذورها العميقة في الأرض... فتحول التمثال إلى أحد الأعمدة يحمل قناعاً إنساني الطلعة منحوتاً من الحجر ومنه قد برز عظما الفكين بوضوح وله ذراعان طويلان امتدتا نحو الأسـفل لهما كفان قويان، ظهرت سلامياتهما إلى الأمام، هما كفا عامل، ماهر، قنوع يصارع الحياة، وقف متصلباً على منصته ليشاهد ما يجري: كانت الأضرحة على شكل هياكل صغيرة بنيت بالطابوق، يرتفع طرفها بمنصة مرمرية، هي الموضع المحدد لشاهدة القبر، كأنّها أقنعة لكائنات حجرية ضخمة حفرت عليها خرائط إنسانية توضح معالم أصحابها.. كان الصمت إيقاع النغمة المنسابة الذي يتراقص فوق رؤوس الموتى الذين تمددت جثثهم باتجاه واحد، أشبه بأولئك الذين تجمعوا في ساحة الميدان لاستعراض أسمائهم وهم ينتظرون نقطة الانطلاق لمعركة حامية لا حدود لها.

.. ثم بدأ شيء يتمرغ من داخل الصمت، يتذبذب بإيقاع راقص غير مسموع يمتدّ سلّمه بسرعة هائلة – قرار متكـرر عنيد، ينطلق بجمل موسيقية قصيرة، يتحدى الزمن في المســـير، إلاّ إنه وفي غمرة تلك الغيبوبة التي نمت في رأسي، استيقظتُ على عازف البيانو والذي تحرك تواً من أمام منطقة المايسترو، يمدّ يده اليسرى تكرر لحن القرار بينما تسير يده اليمنى في طريقها وهي تسـتجيب لنغمات القدر الآتي ومن عمق الزمن بدأت النغمة تتقدم، صغيرة، حادة، تمدّ رأسها بسرعة أفعى ماهرة تعطي صفيراً وحشياً قادماً من بعيد، ينطلق من فوهة (الكلارينيت) أرواحاً شريرة تتراقص أمامي.

.. وها، هو الشيطان (تيعو) يتقدم أمام التمثال برأسه الخنزيري الأصـلع وبلحيته الطويلة المتدليـة، بخطواته الثابتة نحو مركز الدائرة.. فأغمضت عيني وأنا أسمع صوت الصفير الذي ينطلق من آلة (الفلوت) يحدد نغمات الكرباج بإيقاع متكرر عنيد، عندئذ تأخذ جوقة الأبواق وآلة (الكونتراباص) والطبول بامتصاص اللحن الأساس، فانفتحت القبور عن فوهات سود تطايرت منها رؤوس مختلفة الأشكال، قسم منها يحمل مناقير وحشية، حادة، وقسم منها قروناً ملتوية، ترفعها عاصفة هــادرة، وزوابع رعدية شكّلت سرباً يغطي السماء بالرؤوس.. تراجع التمثال القهقرى وفرّ من مكانه مهرولاً بكل قوته، لكن الرؤوس المتطايرة تحاول ان تهجم عليه، فترتطم مع بعضـها بعضاً بقوة إيقاع رتيب.. هابطة، صـاعدة.. ولماّ حاول ان يعرف مكامن الأمور أكثر اتجه نحو (سوق الــﭼاﭼين ) وفي المنعطف أرتسم أمامه الباب الخشب ذي المصـراعين الكبيرين ومنه دخل الخان، مطمئناً، ظافراً.

.. أخذ السلّم يئزّ تحت قدميه، ولمّا لامست قدمه اليمنى قاع الكورة أحس أن ضربات قلبه تباطأت وهدأت أنفاسه اللاهثة.

تمرين رقم – 5 -
.. ظلت الرؤوس معلقة في السماء تتكاثر فيما بينها بسرعة هائلة فكونت سرباً لا متناهياً يجثم فوق (قُرب / إيل) يحجب نور الشــمس، وكان التمثال ينظر أليها بشيء من الدهشـة والفزع، مراقباً ذبذبات الهبوط غير المتوقعة تعطي خاتمة مطاف الدنيا، فاصطبغت السماء بحمرة قانية واختفت الشمس فيها وجاءت الريح بصفير الهاوية جارفة معها الرؤوس على غير هدى. وقف وراء أحد الأضرحة يراقبها بصمت، لكن أحدها سقط على الأرض بالقرب منه وفي الحال تشكّلت له أرجل عنكبوتية تحمل الرأس وهي تسير برويّة، وعندما نظر أليه ملياً تأكد في نفسه أنه قد رآه في مكان ما، فاتحاً له الآن أبواب قلبه، مطمئناً في داخله كأنّه قد عثر على ضالته ولمّا دقق في تفاصيل خريطة قناع الرأس تأكد له أنه رأس (ملاَ حنش الــﭼالغـﭼـي) معتمراً (جرّاويته) الملفوفة لفاً متقناً وبلحيته البيضاء، أفترّ فمه الآن عن ابتسـامة رضى. فتشكلت في مخيلته تلك الصورة الفوتوغرافية الباهتة، ذات الإطار الذهبي وهي تعكس رأس الــﭼالغـﭼـي بملامحه المضببة، فاعتقد في نفسه أنه قد شاهد الصورة وهي معلقة في مقهى (عباس منسي) كانت الملامح هي نفسها، لكن الشيء الذي لاح له بيقين والذي لن ينساه أبد الدهر.. إن عينيه كانتا تعطيان بريقاً باهراً أحمر اللون شفافاً وحيوياً كأنهما أتيا من أعماق الدهر، تبعث خيوطاً غير مرئية أقرب إلى المغناطيسية تجذبه أليها، فانجذبت عينا التمثال أليها بدهشة مفاجأة، عندئذ قال الرأس: «نحن بانتظارك دائماً.. قُرب / إيل، تفتح ذراعيها لاستقبالك، حيث نقيم احتفالاً خاصاً للقادم الجديد».

.. هنا استغللت الوقت، أخرجت دفتر رسوماتي ورحت أرسم بأقلام الفحم التي هيأتها للعمل، خطوطاً مضطربة وعشوائية التقطتها بإيماءة خيالية أقرب إلى الخربشات الوهمية النابعة من عمق الذاكرة – تلك الذاكرة التي خزنتها في تجاويف الدماغ.. فانبهرت عيناي حينما اكتشفت بوّابة الخشب تنبثق من عمق الورقة، تحدد لي الهدف، ثم امتدت الخطوط الخشنة أمامي متبعثرة وكنت لا أعي ماذا يجري ولكن ما لبثت الخطوط أن ألتقت مع بعضها فتجمعت بشكل مرئي.. كانت النقاط تشكل حركة متداخلة لعملية الرؤيا ولكن سرعان ما اتضحت فتحتا العينين وهما تتشكلان من العمـق، فعرفت أن خيوط التجاذب المغناطيسي تسحبني نحو الداخل.

.. تحت نور المصباح الخافت تراءى لي أن إيقاع الخط بدا متقطعاً، يتراقص ويشكل عمقاً سرمدياً، ثم تباطأ وأخذ يسير مسترسلاً رفيعاً، حاداً كأنه يخترق فضاء الورقة ويشكل موقعه في المكـان وبدأت الكتل تتكون منذ اللحظة الأولى لعملية الإيحاء التكويني.. أعمدة خشبية عملاقة نصبت في مواقعها الرئيسة، ألتقت رؤوسها بجسور خشبية متراكبة على بعضها بعضاً.. فاعتقدت في داخلي إن الأواوين المتداخلة تؤدي إلى جحور مظلمة، ومنذ ان ولجت قدماي الخان كنت متأكداً في ذاتي إن الخط الراقص ينمي الإحساس الإيقاعي في ترتيب أكياس (التتن الهندي) المخزنة في أحد الجحور بينما في الجحر الآخر حينما أخذت على عاتـقي مهمة المراقبة، كانت (بساتيق الخل) المغطاة رؤوسها بالطين مركونة في زاوية القبو المظلم، وفي الجانب الآخر كان البريق المعدني لعُلب الدهن الحر الكبيرة يخطف بصري بفعل الضوء المنساب من فتحة الدخول، كانت العُلب الصفيحية تأخذ الجزء الشمالي من الحائط. ومن الجحر الثالث انبعثت رائحة التمور، ثم اكتشفتُ الأواني الخزفية المملوءة بالدبس جالسة على قواعد خشبية ومن السقف تدلت قلائد من الباميا والباذنجان.

تمرين رقم – 6 -
وعندما حاولت أن أثبت الرؤية تأكدت إن يدي المايسترو راحت تؤشر في الهواء، صاعدة هابطة.. بدت الحركة وهي تنتقل من الذراع الممتدة إلى العصا على شـكل إيقاعات راقصـة غير مسموعة. وفي الحال أنطلق شيء ما بعيد المنال قابعاً في منطقة وهمية تقع خارج مدار الصفر، بتحفز وثاب، غير مبالٍ، يخترق الزمن في التقدم، ويجتاز الأفق. فتتهيأ الأقواس ببطء ثم تسقط على أوتارها برنة جماعية معلنة عن بدء الحركة. إلاّ إنها لا تلبث أن تتصاعد متقدمة إلى الأعلى بصوت رفيع، رقيق حاد النغمة. فيستمر زمن النغمات المرسومة على شكل (مازورات) متلاحقة تنبثق من فتحـة صـندوق (الفيولا)، أصواتاً مندفعة تتراقص في الهواء، محركة غصـينات الكروم بتموجات أوراقها الدقيقة المعطرة بشذا الربيع.

.. كنت أراقب صديقي وهو يعطي إيعازه المتقطع إلى جوقة العازفين، فبدا كما لو إني أراه لأول مرة.. طويل القامة محني الظهر، متهدل الكتفين، غزير الشعر أشيبه، منتصباً فوق منصته، ماداً عصاه عِبرَ الأفق، مشدود الأعصاب، متحفزاً ومضطرباً حتى إذا ما أصطبغ وجهه بالحمرة القانية قفز من مكانه متوثباً كأسد فرّ من عرينه، فانطلق هياج ثعلبي أحمق نابعاً من عمق المسرح وفي إثر ذلك اشتدت دربكات سنابك الخيل بهوج صاخب هادر، تعلنها ضربات فصيلة الطبول وكانت جلبتها كالصاعقة التي أعطت الإيعاز للبوق ليطلق صوت النفير، ومن عمق المكان ابتدأت جوقة الكمانات مسترسلة بدوران متكرر عنيد. كان صوت الأرض يدور، الأشياء تدور، الجدران تدور، السقوف تدور بقبة هائمة معلقة في عمق الفضاء.

.. ومن خلال الضباب تراءى لي برج الزقورة ينبثق من وسط الكون يمتدّ سلّمه معلقاً في الفضاء، سلّم غير نظامي، تتبعثر فيه البلاطات التي أكدت على سلامة الرؤية.. ولكن كيف أعيها، كيف أسكن منطقة العقل..؟ فأمست جميع الأشياء مقدسة، الصعود على السلم شيء مقدس، وترنحت في مكاني ولأول مرة أحسست بالضياع الذي جعلني خارج دائرة القداسة، أقتحم المكان كشخص يريد صعود برجه العاجي.

.. وهناك نحو الآفاق البعيدة وعندما فتح تمثالي عينيه وجد نفسه داخل جُب مظلم تسربت أليه مياه الأمطار الغزيرة وباليقين نفسه الذي لاح له تأكد من أنه كان وحيداً يراقب تسرب المياه من خلال عتبة باب الخشب المشروخ، فعالج المكان بكتلة صغيرة من الطين ثم بكمية من التراب وبعنـاد أخرق فتحت المياه مجرى واسعاً يسير بقوة إلى الداخل، ثم رويداً، رويدا أصبحت كشلال صغير ينحدر نحو الأسفل وبعد أن هدّه التعب وقف التمثال حائراً ينظر مشدوهاً إلى كمية المياه التي حولت الجُبّ إلى فتحة بئر غائرة في أعماق الزمن تحتوي على السجلات التي دونت فيها حياته ما قبل الولادة وما بعدها برموز وطلاسم خبأت في داخلها أسراره الدفينة فشكّلت ما يأتي: كانت الدرجات المبلطة مثلومة النهايات، وكان كلما هبط يمتد السلّم نحو الأسفل، يفتح في الأرض نفقاً مرعباً وثمة ذبالة تتراقص بعيداً تعطي بصيص ضوء خافت يكاد يختفي، فيتأكد من نفسه إن الدرجات غير متناسقة الحجم، عالية وضيقة وقد تهدم قسم منها بحيث أصبحت في بعض الأماكن لا تتحمل قدم إنسـان.. وكلما هبطت قدمه إلى الأسفل، يتشبث بالجدران الترابية مخافة ان ينهدم السلّم تحت قدمه ويهوي في قرار لا يُعرف نهايته.

.. حينها تقدم إلى وسط الملجأ وجلس على دكة خشبية مصنوعة من صناديق العتاد، وها.. هو الضوء الباهت المنبعث من ذبالة شمعة يتراقص على سطح الماء أمامه... فلاحت لي صورة الرأس وهو يتقدم بأرجله العنكبوتية وبعينيه الواســــــعتين، ففغرت فاهي وتبينت إن الــﭼالغـﭼـي جالس في عمق الحجر معتمر (جرّاويته)، فانبثق قناعه الإنساني أكثر وضوحاً من السابق، بشاربه الكث وبلحيته البيضاء يسخر من مهزلة القدر، فبدا لي إن الرأس آتياً من أعماق الظلام يخترق سطح الجدارية فاكتشفت أن العينين الحمراوين أكثر انبهاراً من السابق، هما نفسهما عينا الــﭼالغـﭼـي.

.. وهدأت العاصـفة وتوقف الدوران وسكنت الرعود وخفتت البراكين الثائرة، وابتعدت السنابك المتطايرة راسمة نقطة غبراء عبر الأفق.. عندها تنحى (الكونتراباص) وحيداً، خائفاً، تنسلّ منه نغمة بطيئة متحشرجة ومتقطعة لامّة نفسها نحو الداخل، كأنّ الصمت بدا يتكلم من عمق ظلام دامس يُغرق المرء في لجة العدم، ويُخزّن في داخله بكاء البشرية الذي يصهر الروح ويطير بها في فضـاء خرافي.

.. ولأول مرة أحس التمثال بنفسه خفيفاً يتدلى إلى الأسـفل، أمسكتْ به قوى خفية وراح يهبط في أعماق سرمدية. والجُب ينفتح أمامـه عـن (فوهة مظلمة) واسـعة لا قـرار لـها تهبط به نحو (أرض اللاعودة).

.. وتلوّت نغمة من داخل العدم تنبعث من السلّم – الخشب المشروخ تئزّ تحت قدميه، وتهيئ له صوت أنين الهاوية.. فابتدأت فصـيلة الطبول تدق مرة أخرى معلنة عن صخب وحشي آت، ثم انبعث ضوء أحمر من مكان ما تحت القبة المعلقة، ثم صـوت ضجيج وهياج جماعي، كانت البراكين تصدر حممها الثائرة، حمماً تسيل بسائل أحمر تكتسح الطرق كشلال هادر لا يعرف الرحمة، يسير بنغمات لحنية منتظمة، قمة ثم قعر. وحينما فتح عينيه على اتساعهما ليتأكد:

كان يرى بوضوح تلك الكائنات البشرية المشوهة خارجة من جوف الحجـر تسـيل منها دماء، غزيرة، طريـة، حارة.. فغـرقـت (قُرب / إيل) بالدم، كانت الكائنات تهجع بصـمت تحت الهودج بقبته الممتدة نحو السماء.

تمرين رقم – 7 -
التمثال ظل قابعاً في جحره متأكداً من نفسه على إن الشتاء لم يكن مبعث الرائحة بل كانت الأشياء نفسها هي مصدر الرائحة، التي تسربت أليه من خلال سنين طافت في عقله لبرهة وجيزة. فكانت رائحة الخشب المحترق هي اطمئنان داخلي يعيد له تكوينات عابرة، فشكّلت لديه لائحة للأشياء المنسية منذ أن.. صارت لها قيمة أثرية منطبعة في شاشة الذاكرة وبقيت مختفية وراء الحجب كأنّ التـمعن فيها هو التوقف المفاجئ للزمن، فتتم عملية القنص عشوائياً.. فجاءه الصوت الذي لا كيان له غير صدى يرنّ في داخله: «عليك أن تستعيد عزاءك بشيء من التأني، قف أمامي كما أنت بصورتك الأخيرة، ثم لا تلتفت، فأن الالتفات يغير مجرى الذاكرة، كما أنت، ها.. كما أنت الآن، بالعنفوان الجامح وبالبصيرة النفاذة التي تخترق بها عمق الزمن، لا تتذبذب كن أصيلاً، حينما تتوقف حاول أن تعيد ما فات بشيء من الجَلَد الروحي، هل أنت لاهوتي تعرف أين يكون الله، أم من النزق الروحي تحاول ان تشـكل الكراهية عمداً كي تتقن صنع التمرد، ثم إذا كان هذا، عليك أن تتمسـك، فالتمرد ربما يعيـد لـك ما فات وبأناة رجـل ماهر، تُفٍّ.. عليك أن تمـوت.. ! ولكـن قبـل ذلك فان الموت سائر في جسدك!»

وبشيء من الأسى الممض، عندما اعترته الدهشة النامية في تلابيب نفسه عند أول إيقاع لترنيمات الصعود والهبوط، الترنيمات التي انطلقت متبخترة بإيقاعها الرنان مكونة له الرؤيا: {..كان السابلة يدخلون ويخرجون بتواصل أخاذ لا يعتريـه التوقف، وفي الليل الحالك كان باب الخان يفتح مصراعيه للآتين، فيمتدّ بهم الممر ببلاطاته المثلومة عبر الدهليز إلى عمق الهيكل وهناك ينتصـب القنديل المتوهج ينير أحد الجحور.. كنتُ لا أفقه شيئاً وأنا أشمّ الوجوه، وقد ارتسمت عليها ابتسامة رضى.. وكان هرج ومرج صخاب وعراك كاذب لا يجذب انتباهي وهم يبحثون عن ملآّ حنش الــﭼالغـﭼـي}، فهاج الجميع مرة واحدة عندما دلف الــﭼالغـﭼـي باب الخان بحركته البطيئة المتّزنة يجرّ قدميه المتعبتين بعد جولته النهارية الطويلة. فتصاعدت أصوات شتى، أصوات هياج وصياح وطقطقة وسحب وشحط كما لو إن الأصوات تنبعث من عربة ضخمة هو صوت صرير خشبها المتصدع مع أنين عجلاتها داخل فناء الخان.

.. ولمّا سقط الرأس أمامي بأرجله العنكبوتية كنت أعي في نفسي إن لا مفرّ من ذلك أن شيئاً ما يجذبني أليه، أنه هو.. وعندما نظرت إلى عينيه الواسعتين والــساخرتين معـاً قال الرأس: «لا عليك سنقيم لك الآن احتفالاً مجانياً بمناسبة مجيئك إلى قُرب / إيل، كم طال بك الزمن منذ افتراقنا، ها.. أنت الآن تأتي وحيـــداً لتزورنا».

.. كان الرأس الذي أنبثق من قلب الحجر يتقلّب على أرجله العنكبوتية وهو يقودني إلى منزله، عندما أشار لي بإحدى رجليه كي أدخل من خلال (الفوهة المظلمة). ثم كان سلّم الهبوط يتأرجح بنا كأنّنا معلقان في العدم لا أعرف أين سأنتهي.. والسلّم يعطي نقراته السريعة، الهابطة الصـاعدة، والصـاعدة الهابطة، تنطلـق مـن (سنطور) قديم، كان صوته مأساوياً يرنّ داخل جرة محكمة وكان ثمة عويل متقطع النبرات يتصاعد بأسى الزمن المنصرم.

.. فتأكدت ان يدي المرتعشة الممسكة بقلم الفحم أخذت تتراقص فوق فضاء الورقة راسمة عليها خطوطاً متقاطعة عشوائية.. إلاّ أن النقيرات خرجت من عمق صندوق كوني أجوف يرنّ بنبرات متواصلة تسير من مقام (النهاوند) مسترسلة بشجن روحي أخاذ، وكان هناك شيء من البكاء يخرج معها بأناة تسبر غور النفس.. فتشكّلت أمامي العينان في وسط الورقة فجأة، واسعتين، حمراوين، طافحتين بحياة عامرة، وكانتا هما نفساهما اللتان جذبتاني بخيوطهما المغناطيسية، ثم شـيئاً فشـيئاً تشـكّلت الصـورة الفوتوغرافيـة واضـحة أمام عيني معتمـرة (الــﭼرّاوية) فتأكـدت أكثـر حينما دققت النظـر كانـت لحيتـه قد غـزاها الشـيب وكَبُرَ أنفه بحيث إن عينيه الواسـعتين قد غـارتا الآن وبدتا مطفأتين فتكونت الخريطة الإنسـانية بتفاصيلها الدقيقة وبزواياها المتشكّلة من تقاطيع الخطوط، دقيقة، خفيفة، مرتعشة تارة وخشنة حيناً آخر، فتراءى لي القناع البشـري أكثر تنسـيقاً... وعلى الكرسي الخشبي ذي المساند الرمانية الشـكل ظهـر جالسـاً في عمـق الحجـر على يمين الــﭼالغي وهو يترنح متمايلاً أحمر الوجه فاتحاً فمه على أتساعه، يُخرج صوتاً صافياً – متقطعاً – عالياً مقترباً من نغمة (سيكاه) مكمـلاً لحـن (النهاوند) معـرجاً على مقام (الرسـت) بشيء من براعة (القارئ) الحاذق. حتى أن لحيته البيضاء أخذت تتراقص مهتزة مع إيقاع النقر المتواصل.

في إحـــدى (الدرابين) الممتـــدة كأنفـاق غائـرة في محـلـــة (باب السلالمة) جلسـت امرأتان تتحدثان أمام باب مفتوح:

- هـذا أبن ابو الــﭼرّاوية.. خايب، يعتبر نفســه مِتعلم.. أوي يا فخرية، شـوفي، رافع خشمه للسـمه، ناسي أبوه شنوجان.

- سكتي، سكتي لتسمعج نهاوند تره هسه تطلعلج بالقبقاب، مره عجوز خايبه مثل أبنه، هسه أسويلج فضيحة بالعكد.

وكان يحاول جاهداً ان يعبر تلك (الفوهة المظلمة) التي كونها الزمن، واضعاً كلتا يديه على الجدارين الرطبين الصاعدين إلى الأعلى وبقوة دفع الذراعين جانباً، رفع جسمه المتدلي مع قدمه اليمنى واضعاً أياها على الدرجة العليا وبشيء من التأني استطاع صعود السلّم وفي الغرفة العليا المطلة على الخان، رآها.. كانت ممددة على حصـيرة قديمـة متهرئة الأطراف، متلفـعة بعباءتها السـوداء... الآن تأكد إن عينيها كانتا غائرتين تحملقان في السـقف، بدت له الغرفة خالية من الأثاث وقد تراكم عليها غبار كثيف غطى الأرضية والرفوف ثم تراءت له كومة من الجص والآجر قد تساقطت من الســـــقف، فبانت له ثلاثة جذوع من النخيل السود نخرتها الإرضة، منحنية انحناءً شديداً نحو الأسفل تكاد تسقط بين لحظة وأخرى ولكنها ظلت معلقة في الأعلى مكونة سقفاً مشوهاً تتراقص فيه الفئران والحشرات.

.. فشاهد نفسـه في باب الغرفة وهـو يطلق صيحته المفاجئة: (أمي...) فاكتشف إن صوته قد دار دورة كاملة، كأنه بداية لمقـام (اللامي) ثم أنقطع، وفي اللحظـة التي أنقطع فيها الصـوت.. اختفى الجسم المسجى الملفوف بالسواد. عندئذ أدرك إن الغرفة كانت مهجورة خالية من كل شيء تعجّ بالتراب والغبار المتساقط عليها.. كانت عيناه لا تصدقان ما تريان.. تقدم مرتعشاً وسط الغرفة ثم انحنى ساجداً وهو يُقبل الأرض ببطء.

تمرين رقم – 8 -
أحس تمثالي إن خطوط التجاذب المغناطيسي تجره نحو الرأس العنكبوتي ثم سمع نغمة أقرب إلى النقرات تأتيه من أوتار (سنطور) قديم، كانت النقرات ترسـل نغماتها صـاعدة، هابطة بحيث إن الضربات كانت تحسب حساب لحن (الرست) بالجمل الموسيقية المتفق عليها، ومن منصة الجحر، اكتشف إنه كان جالساً على يمين فرقة (الــﭼالغي)، أحمر الوجه فظهرت عليه الخطوط المحفورة في جبهته أكثر بروزاً على شكل أخاديد متعرجة جعلت الجبهة كأنها تقويم لسـنين صاحبها، غائرة كما الأيام تمضي، تائهة كأشياء عابرة، سرعان ما تنطمر تحت ركام الزمن المنصرم.

تنحنح قارئ المقام الحاج عبود الشواك حينما سئل بين الحاضرين عن براعة الــﭼالغـﭼـي في تلك الجلسة فقال: كان رأس الــﭼالغـﭼـي يترنح متمايلاً مع إيقاع نغمات (الجهاركاه) التي ابتدأت مسترسلة بتصاعد بطيء محققة نغمة (نوى) مازجاً معها لحن (الحسيني)، كأنه درويش أنبثق من تحت الأرض فجأة، شـارباً كميات كثيرة من عرق (هبهب) المعـــتق، رافع الرأس، زائغ النظرات، كأني به يريد اكتشاف عوارض السـقف الخشبية، وعلى حين غرة بدأت حنجرته تصدر صوتاً مبحوحاً، متأوهاً بآهات متقطعة حيناً ومسترسلة حيناً آخر. كأنه أنفصل عن هذا العالم وهو يدخل ذاته برويّة فنان ماهر وبتأني القارئ البارع..فانجلى لي أن الــﭼالغـﭼـي بدأ يئنّ ويتلوى متذبذباً بين النغمتين، لكنه نزل بسلّمه المتأرجح يطلق آهاته بصوت فحولي، متشنج، عندئذ تحول إلى مقام (الرست) ثم بدأ يصعد سلّمه بالمهارة السابقة نفسها صائحاً بأعلى صوته ليدخل به لحن (الحسيني)، عندذاك بدأت حنجرته بالهبوط تدريجياً محققة سـلّم (الجهاركاه) مرة أخرى، وهذا ما تأكد من الجميع بدأ يصرخ، صراخاً متقطعاً كنباح كلب منزوٍ بين الأحراش ينادي أنثاه التي لم يعثر عليها فبقى وحيداً محتجاً، هائماً يبحـث عن حل مـا، فحقـق بهـذا الاحتجاج لحن (الحسيني) كرة أخرى ثم أستقر على نغمة (نوى)، فسمعه الجميع يتلفظ كلمة (فرْيا دِمِنْ)، فبدأ نغمته بتقطيع عنيد منتهياً بكلمة (دِمِنْ)، (فا صول فا مي كاربيمول ره دو ره مي كاربيمول فا صول لا صول فا لا فا صول)، عندها شوُهد حنكه يتراقص مع الذبذبات المنطلقة من السنطور وبدأ يتأوه متمايلاً قارئاً أبياتاً من الشعر، مترنماً بقطعة من (اللاووك) بادئاً أياها بترديد كلمة (أويي)، فتنـاهى إلى الجميـع، إن صـوته أخذ بالـنزول تدريجـياً داخـلاً به نغمـة (الدوكاه) وهــو يردد كلمـة (يار) منتهــياً بلـفظة (يارمِنْ).

.. التمثال استرجع ما كان غائباً عن وعيه في تلك الليلة الشتائية القارسة، كان قد حضر فيها إلى مقهى (عباس منسي) كل من عبود الشــواك ونجم الخياط وحميد صـيدلي وأموري الأعـور، أخـذ (ملآّ حنش الــﭼالغـﭼـي) مكانه المخصـص على يمين الجـوقة ومن بين المقامات التي طُولـب بقراءتها مقام (الحليلاوي). قال خضير الولهان الذي حضر تلك الجلسة:

كان ضوء القنديل المعلق على عمود المقهى قد سقط على وجه الــﭼالغـﭼـي، فتبيّن للجميع كما لو إن الدم صعد إلى رأسه فجأة وسكن هناك محتقناً في وجهه ماكَرُبَ أن أصبح قرمزي اللون شفافاً يتموج أمام الضوء. وعندما أنطلق وتر (الجوزة) بأنغامه المتواطئة، أجابه (السـنطور) بضرباته المتواصلة، صاعداً وأياه بين الجواب والقرار، يتأرجح في مكانه، لا يستكين، هابطاً بالنغمات متلاشياً مع الصمت.

ومن الصفر، أبتدأ شيء ما صاعداً برعونة إنسان لاهث، ومن نقطة معينة من الانتشاء أنطلق صوت الــﭼالغـﭼـي بصيحة عالية من نغمة (نوى) يتلفظ كلمة (ويلاه.. ويلاه)، قارئاً الشطر الأول من الزهيري بصيحة (النوى):

مخلص تندعي وتمشي بطريج العـــــــــدل

وكبال عيني تحب واحد وآنه عـــــــــــدل

سامع بعمرك رمح يختفي ابوسط العـدل

يل عكب ذاك التعب وصلك لغيري صفة

وعندك الحك انهضم والماي فوكه صفة

أنت الوفي والوفة جان ألك أحســـن صفة

وان جان طبعك ظلم جاوين صار العدل

إلاّ إن نهاوند قالت: عنـدما كنت حاضرة هناك في القسم المخصص للحريم، تأكد لي إن الــﭼالغـﭼـي كان متواطئاً بالنزول إلى نغمة (سيكاه)، راجعاً إلى (النوى) بالشطر الثاني وبهذه النهاية كان قد حقق مقام (الرست) بقطعة من (السيساني) وهو يتلفظ: (عمي ويل خالي ويل واويلاه ويلاه)، عائداً مرة أخرى إلى الشطر الثاني بصيحة من (النوى) محققاً بذلك نغمة (الناري) فاسـتقر على نغمة (السيكاه). ولمّا وصل إلى الشطر الخامس بدأ صائحاً من جديد، فاحمـر وجهـه وانتفخت أوداجه مقتربا ًبأعـلى صـوته من نغمة (النوى)، بـدا نازلاً بها متأوهـاً بآهـات متقطعـة واصـلاً إلى (السيكاه) فاخذ يتلفظ جملة (بطوا بطوا ماجوا)، عندها أخذ الــﭼالغـﭼـي يتلاعب بالأوزان مقطعاً أياها منطلقاً من جملة: (يبابه يزغيرون ناغيني وفرد حبة دنطيني يا مدلل)، فاستقر أخيرأً مستسلماً بنغمة (السيكاه).

مرة أخـرى انطلق صـوته متصاعداً بنغمة (النوى) وذلك بلفظة (أوَه) ثم نـزل مرة ثانية إلى مقام (الرسـت) وهو يتلاعب بالأنغام، أنطلق صاعداً بأعلى صوته محققاً نغمة (الجهاركاه) وهو يردد جملته التالية: (رجليه ما طاوعني وخان بيه حيلي واويلي)، فاستقر أخيراً على نغمة (الدوكاه).

تمرين رقم – 9 –
اكتشف تمثالي تواً إن الحشرات تبسط أجنحتها في المـكان، وكان صريرها يتواصل باستمرار في ليل كثيف حالك السواد، وهو الآن ينزوي في جحره الذي كونه عِبرَ سنين مضت، تائهة كأنها خارجة عن حساب الزمن.

.. في مخزن المعدات كان ينقل عينيه، من خلال ذبالة الشمعة فسقط ظله على الجدار كشبح دخل معه المكان يرافق وحدته، ينزوي معه في الضرّاء والسرّاء، يتكلم معه، يناجيه، يخاصمه، يلعنه، ولكنه يتركه وحيداً يدخل عمق الزمن من نقطة متلاشية من فضاء عقله، فوقعت عيناه على الأشياء المبعثرة، الأشياء التي تؤكد إن رائحة الذاكرة ما زالت مستمرة تعطيه عمق المعرفة.. هناك في الداخل كانت الأشياء هي: ماتورات كهربائية قديمة أكلها الصدأ وثمة أكياس معبأة بشظايا الزجاج وأخرى مملوءة بقناني زجاجية فارغة والتي تدخل في صناعة السيراميك.

إلاّ إن قسماً كبيراً من تلك الأكياس تمزقت وخرجت أحشاؤها قطعاً زجاجية تراكمت مع بعضها بعضاً وشغلت حيزاً كبيراً من المخزن، تصاعد مرتفعاً إلى مستوى الأكياس الأخرى، ورغم تراكم الغبار عليها كانت تنثر ضوء الشمعة المتراقص باتجاهات عديدة، في الزاوية الأخرى المقابلة كان مقص الأنابيب المعدنية مثبتاً على قاعدته الجالسة على ثلاثة أرجل، ينشر ظله على عوارض السـقف الواطئ كأني به شـبح إنسـان ثبّت في مكانه فأصـبح جـزءاً لا يتجزء من ديكور المخزن.. كانت ذراع الماسكة الممتدة إلى الأمام والتي تخرج من مثلث القاعدة هي فم إنسان يريد التحدث........

ماذا قلت يا أمي.. أرجوك أن تتحدثي..؟

قلت لك يا عزيزي أن أباك ليس من الرجال الذين يمكن معرفتهم بسهولة.. كنت أراه وقد لبس (صايته) المصنوعة من حرير البريسم متبختراً بـ(جرّاويته)، مزهواً بنفسه مثل طاووس رافعاً رأسه إلى الأعلى، تحدق جميع العيون فيه، أما صوته الرخيم الصافي يجذب أليه انتباه الناس..وهناك أيضاً كانت عيناه الواسعتان الحمراوان تجذبني أليه.. كنت أتمنى.. أعوذ بالله من شر الشيطان الرجيم.. هكذا جاءتني (فخرية) بنت الولهان وقالت لي اليوم سيحضر الــﭼالغـﭼـي الجلسة وسيغني ويقرأ مقاماته، ثم ولت هاربة من أمامي.. نعم وهكذا سكن هذا الأرعن رأسي، ورحت أفكر فيه تفكير بنت ساذجة، حتى أخذت الحرارة تسعر في داخلي.. شيء ما ينتابني في الليل، أحتاج أليه، وبعد أن جلسنا جميعاً في مواجهته أخذ يقرأ مقام النهاوند.. ثم كانت عيناه تخترقان كياني، تتربصان بي كأنهما عينا هر تريدان افتراسي، وهذا قدري.. حاولت طرق باب غرفته و الــﭼالغـﭼـي على أثر تلك الجلسة استأجر في الخان الغرفة المجاورة لغرفتنا وهو يأتي أليها في أوقات متباعدة لا نعرف أين يذهب وماذا يعمل.. نعم في تلك الليلة ياولدي حاولت طرق باب غرفته بالخبث الذي كنت أحمله، الخبث الذي حولته إلى غنج أنثوي، اعتقدت في داخلي وكان هذا غير صحيح قد نشرت شباكي عليه، قلت في نفسي سأجعله يتلعثم، سأجعله يركع تحت قدمي ولكني أنا التي ركعت تحت قدميه.

ثم قطعت الحديث فجأة فقلت لها:

ثم ماذا حصل بعد ذلك يا أمي..؟

فأجابت (نهاوند):

نعم. في ليلة شتائية قارسة كان المطر فيها ينهمر بشدة، وقتـها كانت أمي الضـريرة ممددة على حصيرة عتيقة متهرئة، ترتجف من شدة البرد، وكنا لا نملك شيئاً نأكله ومضى علينا يوم كامل ونحن نتضور جوعاً. وكلما أحاول أن أفتح الباب.. نعم أفتح باب غرفتنا كان الهواء البارد يجتاح الغرفة بقوة شديدة، حتى إن الأراسي التي تحطم زجاجها تسهم هي الأخرى بمرور الهواء البارد.. وانتهت المؤونة كلها، الأكل والنقود والنفط، فقالت أمي أذهبي يا نهاوند إلى غرفته، لابد إنه يحتفظ بشيء من النفط، ثم اسأليه إذا كان لديه شيء يؤكل.. فأجبتها: شيء يؤكل..! فقالت لي وما زالت تلك الجملة تحفر في دماغي.. كأنها أتت في الوقـت المناسـب لتحل الأزمة: (يا نـهاوند إلى متى لا تفهمين الأمـور، ألا تريدين أن تكوني ســـــــعيدة..!) وهذا هو القدر يجمعنا في غرفة واحدة.. كان خلالها الــﭼالغـﭼـي يغيب عنا فترات طويلة يترك لنا شيئاً من المؤونة التي لن تكفينا في غيابه وبدا ظهوره مثل المفاجأة التي تحلّ علينا.. ولكنه سرعان ما يتركنا وحيدتين تنهبنا الوحشة والمرارة كان اختفاؤه ومجيئه قدرياً.. الــﭼالغـﭼـي يا ولدي يخفي في داخله سراً لا أعرف كنهه وفي يوم ما اكتشــفت أنه كان يحمـل (فرداً) طويل السبطانة، فهبط قلبي وانكمش في مكانه.. كنت لا أستطيع التحدث أمامه فعيناه الصارمتان تجعلاني انزوي في مكاني لا أفقه من أموره الحياتية شيئاً.. ثم ماتت.. ماتت أمي في يوم شتائي قارس، جاء فيها الــﭼالغـﭼـي بعد منتصف الليل، كنت أنتظره مثل وقوع القدر، وكعادته جاء مضطرباً أشبه بالمطارد وقد تمزقت ملابسه وظهر صدره الأسمر المُشعر عارياً، بينما كانت (جرّاويته) محلولة في رقبته، وعيناه تبحلقان في ظلام الخان.. كان مبتـلاً بماء المطر تماماً حتى إن ملابسه تلطخت بالوحل، كنت يا ولدي أرتجف من البرد والحزن، وعندما صعد إلى غرفتنا، نظر إلى جثمان أمي المسجى على الأرض والملفوف بالعباءة السوداء،.. هناك وقف الــﭼالغـﭼـي وهو يحدق بجثمان أمي بشيء من الخشـوع.. ثم بـكى، بكى الــﭼالغـﭼـي يا ولدي، بكاء الرجال.

.. ولمّا أنزل التمثال رأسه إلى الأسفل وقعت عيناه على قطع الأحجار المختلفة الأحجام والتي هيأها للعمل، ومن الحائط تدلت آلات معدنية قديمة ومناشير ذات الذراعين ومن بين تلك الأشياء وُضع سرير حديدي عليه (مندر) قطني عتيق، كان فيما مضى جزءاً من الأشياء المتروكة في المخزن.

هنا كان (الطاعن في السـن) يسقط جسمه المتعب منزوياً في ركنه، يبدو للرائي شيئاً زائداً لا فائدة فيه مستهلكاً تماماً، غزا رأسه الشيب وأنخسف صدغاه وبرزت عظام جمجمته، كأنه قناع مزيف تُرك مع الأشياء في مخزن المعــدات.

.. في الخارج كانت الريح القوية تصفر بشدة مما جعلت عوارض السقف تئزّ، ثم أنهمر المطر فجأة، مدراراً، كأن السماء هي الأخرى أخذت تبكي لتشاركه طقوس حزنه، فأحدث صخباً وحشياً وضجيجاً هائجاً كالنشيج ينقر الصفائح المعدنية التي يتكون منها سقف المخزن، فبدت له جزءاً سـرمدياً يشارك أوركسترا الكون، أشبه بعازف متمرس أخذ ينقر على مفاتيح (البيانو) نقرات متقنة، سريعة ومتتالية لا على التعيين مما أدى بالهوام المتناثرة أن تسقط هائمة على الأكياس وتختفي وراء الأشياء المبعثرة، منزوية في جحورها هي الأخرى.

 

الطغراء

 سيمياء عين الذات..

ذلك المتصور في الذهن، الذي يأخذ مكانه في النفس.. إنه توقيع الأثر حينما يترك بصمته علامة في إمكانية انبعاثها من جديد..

ذلك هو جسد النص حينما يتمرأى خارج ذاكرته..

• طغراء عين الذات من علاماتها:

حضور الجسد أمام ذاته..

نسيان العالم من أجل خلق عالم جديد..

• في طغراء الجسد بدت نهايات الخطوط متلاشية، متحولة إلى نقط تتراقص في فضاء لا يمكن حسمه، إلاّ أن الغريزة كانت جزءاً من تكوينها الداخلي، ثم أتضح إنها منكسرة في أماكن متفرقة ومنشطرة على نفسها، تعطي للرائي إيقاعاً صامتاً يوحي بالحركة، لا يلبث أنْ يدخل جسم التصميم مرة أخرى،

• ولكن كيف يمكن للطغراء أنْ تمحوا ذاتها، في اللحظة التي يكون فيها جسد الوثيقة محفوظاً في الباقي من علاماته.؟

-1-

.. جلست متطلعاً إلى المشهد بتأن ثم شيئاً فشيئاً دخلت في عمق اللوحة، فتجلى لي سطحها قاتماً ملبداً بالغيوم والأزرق الغامق يلطخ الفضاء كأنّ النذير قادم لا محالة، فارتجف المشهد أمامي وحطت عيناي على جمرات رأس النرجيلة وهي تتوهج متألقة مع امتصاص الدخان المنبثق من رأس المبسم. ورحت متتبعاً خطواتي التي بدأتها منذ الوهلة الأولى من عملية مزج الألوان. فكان الاقتراح على أن الأزرق والأحمر والأسود يعطيان تموجات ترابية تتخللها زوايا سود وثمة قواطع من رفوف خشبية أُعدت متسلقة جدران القاعة ثبتت في أماكن معينة لترتيب الأشكال المختلفة لقطع الصلصال... ساح السمائي على الحيز المكشوف مقترباً من الرمادي الداكن، فاكتشفت إن تمثالي دخل اللوحة وقف هناك وســط الحوض الطيني وهو يخبط المزيج الرائب.

.. فقال منـدوب الضـمان الاجتماعي: (- مَنْ أقدمكم في العمل..؟)، فاتجهت يد الخمس عشرة عاماً مشيرة أليه، فاستدرك الواقف إلى جواره حينما نظر أليه تبين إنّ رأسه قد غزاه الشيب مبكراً وظهرت لحيته بيضاء ناصعة مثل نتف القطن متجاوزاً عِقده الرابع متعدياً مرحلة الموت الذي أتفق عليها الإله، مرحلة انكشــفت أمام (الطاعن في السن)، محطة مر عليها مرّ الكرام عارفاً سرها وهو الآن يحاول أن يصـلها بتأن مثابر قنوع، يعرف مكامن أمورها السرية.. رسموها له بأتقان، بينما راحت عيناه تقيسان رواق القاعة من الأقصى إلى الأقصى.

.. أشتد الأزرق الغامق مقترباً من البنفسجي الداكن يصبغ السماء بكتل غامقة كأنّما دقائق الدخان اخترقت الكتل الثلجية كاتمة على تألق بياضها منحنية بحملها إلى الأسفل أشبه بامرأة حامل تريد التخلص من حملها بطلقة واحدة. فأرعدت السماء بوابل من أمطار غزيرة وانهمرت سيولاً جارفـــــــة، فتوقف الزمن وتراجع إلى الخلف محتفظاً بلحظات الحاضر بشيء من ارتباك الرؤيا جعلت المشهد ضبابياً، داكناً ورمادياً مقترباً من مزج الألوان بدكنة يوم ماطر.. رحت أراقب السيول النازلة من مسقفات (الجينكو) والبواري المصنوعة من القصب والمعلقة على عوارض خشبية تشبّعت هي الأخرى بمياه الأمطار فاستحالت أروقة المعمل إلى مزاغل ظلماء تحجبُ الرؤيا ممزوجة مع صوت الانهمار الوحشي.. وقف تمثالي وحيداً يراقب المياه التي تسربت إلى داخل المعمل محيلة الكتل الصلصالية إلى طين رائب يسيح إلى الأسفل وأصبح جزءاً من أرضية القاعة، وركض ذو الخمس عشرة عاماً محتمياً تحت أحد المسقفات وفي أثر ذلك هرع العمال متراكضين على غير هدى باحثين عن مخابئ تشكّلت من جرّاء نفسها تحت المسقفات ثم هبت العواصف شديدة كاسحة الأشياء من أمامها يهدر صوتها كصفير وحشي، فاهتزت السقائف وطار قسم منها.. انكشف المشهد مرعباً يصدر طقطقات (الجينكو) الطائرة وسُمع صرير العوارض الخشبية تئزّ متمايلة.. حينها تأكدت من إن ظهر التمثال كان ملطخاً بالوحل تماماً.. هجمت الأمطار دفعة واحدة مما أدى انهمارها الشديد إلى فتح فوهة واسعة من تحت العتبة. كانت قوة ضغط المياه هو الذي ذوّب كتل التراب فأحدث مجرى سريع الحركة كنبع انبثق من تحت الأرض كاسحاً الطريق المتعرج الشبيه بالسلّم المصنوع من حفر الأرض متجهاً نحو الأسفل وبرغم جميع الإجراءات التي أبتكرها لسد الفوهة كانت تجابهه بعناد أصم، لم يتمالك نفسه متراجعاً القهقرى وهو ينظر زائغ العينين من خلال ذبالة الشمعة التي ثبتها على حجر مرتفع، وبعد هنيهة تحول الملجأ إلى فوهة واسعة عميقة أرتفع فيها الماء المنساب.. نزل التمثال وهو يخوض بقدميه العاريتين وسط المياه حاملاً معه ما تبقى من الشمعة ذاهباً إلى سريره الذي يعلو سطح الماء، تمدد هناك وحيداً، أعزل ينظر إلى البركة التي تشكّلت في حيز المــــكان، كانت نظراته تخترق السطح محيلة أياه إلى غدير مظلم لا يعرف قراره أبداً. وهو هناك مركزاً نظراته في نقطة متأرجحة، شعر بجسمه خفيفاً قد طاف فوق المياه محمولاً من قبل أشباح مجهولين رهينة أياديهم، ثم أنتابه شعور بأنه سوف يسقط بين لحظة وأخرى في وسط الغدير وتبتلعه المياه شيئاً فشيئاً وبالتأكيد الذي لازمه في تلك اللحظة.. أنبعج سطح الماء مرتفعاً إلى الأعلى أشبه بالمنطاد، أو كيس من المطاط يتمدد كيفما يشاء، لكنه سرعان ما تحول أمامه إلى رأس بشري وميزه أنه.. هو بعينيه السوداوين. المتراقصتين في محجريهما على الدوام. متأكداً من نفسه إن الرأس كان طافياً على سطح الماء بعنفوانه الرجولي.. قفز التمثال من مكانه وهو يحدق بعمق إلى الرأس الطافي، ثم صاح مندهشاً: «- أنت.. أبي، لابد أنك أبي..!»

قهقه الرأس عالياً مما أحدث ارتجاجاً في عملية الرؤيا وردّ عليه بتأنٍ: «- لا تخف. كنْ قوياً كما عهدتك».

ثم مدّ له يداً مشعرة وقال له: «- تعال يا بني.. سوف أنزلك إلى قُرب / إيل المدينة التي ظللت تحلم بالدخول أليها».

 

- 2 -

.. كانت اليد العنكبوتية قد جذبت التمثال بقوة وراحا يهبطان في الغدير وقد اخترقا المياه بسهولة وبيسر كغواصين اجتازا أعماق المحيطات، متدربين على السباحة الماهرة وكانا يتنفسان بعمق لا شيء يعوقهما في الهبوط وبدا تنفسهما أشبه بالقرقرة التي تصدرها زجاجة النرجيلة بشخير متقطع لإنسان طاعن في السن يعلو ثم يهبط بإيقاع رتيب. إيقاع ينبثق من عمق الصمت ومن هناك ومن وسط الظلام، كان يأتي مسترسلاً، مطمئناً. لا شيء يعترضهما.. العمق وحده يحدد إيقاع النغمة.

.. فبدت الجمل الموسـيقية قصـيرة، متقطعة صـادرة من آلة (الفيولا) وكان الصوت يأتي من وتر القرار ينمّ عن حشرجة مكتومة لا تلبث أن تختفي ثم تعاود ظهورها كتوسلات إنسان مساق إلى مصير مجهول، المجهول الذي ينكشف له رويداً، رويدا من خلال غمامة سوداء صبغت الحيز بلون رصاصي داكن، فبانت الكتل متفرقة في المياه لا شيء يسندها من الوقوع وهي تنزل متعرجة بحركة لولبية، في وسط شفاف، يمثل الحاجز الوهمي للكتل السابحة وبدت العتاقة جزءاً من تكوينها الداخلي، تلك العتاقة الحلمية المخبأة في مجاهيل النفس، تتكشف عائمة بحركة انسيابية: «كنت أنظر بإمعان كأني اكتشف الأشياء تواً.. حقائب سفر مفتوحة، متباينة الأحجام، ظهرت أشياؤها طافية معها: ملابس رجالية مهترئة.. نظّارات بإطارات متنوعة.. أسلحة حديدية مختلفة الأنصال: سيوف، قامات عثمانية خناجر، سواطير، صولجانات.. أسلحة نارية: مسدسات، بنادق قديمة مقابضها من خشب (الموجَنة) المزخرف.. علب فضية لامعة حفرت عليها أشكال هندسية ورسومات تعود إلى أزمان غابرة.. أحزمة جلدية ملتوية ذوات إبزيم حديدي.. مسبحات ذات ألوان عديدة خرزها من كهرمان وياقوت وزمرد تعطي تموجات آتية من عمق الظلام.. أحذية قديمة ذوات جلد أحمر من الطراز (اليماني).. عكازات من خشب الصاج لها مقابض عاجية، تنتهي برؤوس أفاع.. سجاجيد حريرية كشميرية الصنع مفروشة على حائط مائي.. قوارير زجاجية ملونة.. أوان خزفية مزخرفة.. جدران مطلية بالسيراميك ظهرت من خلالها شهرزاد خاضعة ذليلة أمام شهريار الملك.. ثم جلس أبو نؤاس يحمل كأسه المترعة أمام راقصة شرقية تؤدي رقصتها بانتظام بينما جلست إلى جانبه جارة تنقر على أوتار عود شرقي.. وثمة قناع إنساني يظهر ويختفي من بين الأشياء يحدق بي بنظرة ثابتة، نافذة، خارقة، يمتلك عينين كأني اعرف سرهما إلى أي كائن تعود..يتراقص القناع ويصبح نقطة عائمة في فضاء مائي قاتم».

.. وألتفت اليد العنكبوتية على خصر التمثال وهي تجره نحو الأسفل، وأحس إن الدنيا تهبط به وسط متحف مائي، وكان لا يعي ماذا يحدث والزمن يسير برويّة مع النزول. ومن بعيد كان يتراءى له بصـيص من نـور خافت ينبعث من عمق الظلام متناهياً في الصغر، وهو بوضعه الشاقولي رأسه إلى الأسفل وقدماه إلى الأعلى يحركهما كسباح أتقن فن العوم، يهبط متلاشياً.. أحس بثقل العنكبوت المتدلي أسفله وهو يسحبه في المياه وكان بينهما صمت مريع تقطعه قرقرة النرجيلة المنبعثة من قفصه الصدري.. كل شيء يسير باستسلام وبإذعان شخص فقد القدرة على الإحـساس بجسده متلاشياً وزنه كريشة تسحبها قوى خفية نحــو الأعماق.

.. ولمّا انتبهتُ إلى نفسي وتأكدت أنني في هبوط مستمر انكشف الحيز الرصاصي أكثر وضوحاً من السابق، يتمظهر أمام عينيّ بلطخات طيفية، حتى إن ضربات الفرشاة جاءت عشوائية وهي خليط من الأبيض والأسود والبنفسجي والأحمر والأخضر مكونة مزيجاً ذات تموجات لولبية تقترب شيئاً فشيئاً من المزيج الطيني الرائب، بحيث أن البقع البيض التي اندمجت مع البقع السود أعطت ذلك البصيص المنبعث من العمق مختلطاً مع الأصفر الباهت مختفياً وراء البنفسجي الداكن محيلاً الفضـاء إلى الرمادي الفاتح تارة ثم الرصاصي الداكن حيناً آخر، لكن التقوسات التي أحدثتها شعيرات الفرشاة كانت تشكل كتلاً وهمية طافيـة في المكان، الكتل هي ما جذبتني فاستحالت أمام ناظري إلى أقنعة مشـوهة: كتلة تحمل عيناً واحدة فقط.. كتلة تبرز منها عينان بدون أنف و فم.. كتلة تتراقص فيها عين واحدة وفم مفتوح.. كتلة انبثقت منها عين واحدة ولحية متدلية فقط... ولمّا كانت عملية الهبوط مسـتمرة أحـس التمثال إن الدنيا كانت تنزل معه، مسـترسـلة بأناة. فظهرت الرؤوس سابحة تنزل لا على التعيين من أمامه وقد تشكّلت لها في الحال مجسات طويلة تتحرك مع تموجات الماء فاستحالت إلى أخطبوطات عملاقة والشيء الذي لاح له أكثر أن هذه الإخطبوطات كانت تحمل أقنعة بشرية مشوهة تخرج ألسنتها الطويلة المتدلية باستمرار كأنها ألسنة كلاب مسعورة تريد نهشه، ولكن الرأس العنكبوتي كان يسحبه بعيداً عن دائرة الخطر وظهرت له الوجوه قديمة أزلية كان قد شاهد قسماً منها في ألبوم خاص للصور الفوتوغرافية وقسماً قد كوّنها في عقله الباطن، ظهرت الآن أمامه بوضوح تام.. أراد أن يتكلم لم يسـتطع، أراد أن يتحرك لم يستطع، بقي ينزل مع الدنيا الهابطة. فاجتاز ممرات مائية وأنفاقاً أرضية ومغارات عديدة، وجد نفسه في مكان ما... وحينما مدّ رأسه كانت جدران الغرفة متداعية منبعجة وقد أنخسف السقف وظهرت جذوعه السود منحنية وقد سقط جص السقف على الأرضية مما أدى إلى تكوّن طبقة كثيفة من الغبار حطت على الأشياء المتناثرة وقد لاحت له تلك الخُزانة العتيقة التي أكل عليها الدهر وشرب مركونة في مكانها كأنَّ الله عندما خلق الكون حدد موضع الخُزانة في هذا الركن الأزلي فارتسمت في عقله عندما كان يقفز وهو يحاول الوصول إلى (الروازين) ليكتشف الأشياء الموضوعة هناك وكان الاكتـشاف هو عملية انطباع الرؤية كما رآها أو كما تصورها أول مرة، هي بداية للمعرفة التي حفرت في نفسه أنفاقاً للذاكرة، وكان التيقن عملية ملازمة لمراحل عمره.

... فارتجّ الفضاء عن مشهد الرؤيا المنطبعة في خياله أشبه بانبثاق الشيء من العدم واضحة كما الشمس في السماء.. كانت نهاوند متمددة على حصيرة عتيقة متهرئة أكلتها السنون العجاف متلفعة بعباءتها وقد خرج وجهها مجعداً ومبقعاً ببقع داكنة، البقع التي تخثر فيها الدم واستحال إلى ما يشبه النمش الذي طغى على بشرتها التي انبعجت في الوجنتين ولأن الفم يخلو من الأسنان تماماً، الأمر الذي أدى إلى بروز فكين صغيرين مما جعل الشفتين ضامرتين وقد طمستا أسفل الفم، كانت تنظر إلى الأمام دائماً بعينين مطفأتين كأنهما زران أسودان يتراقصان داخل مقلتين غائرتين... ولمّا دنوت من قناع المومياء الشبحي وحدقت بعينيّ التائهتين في تقاطيعه، بانت عظام الجمجمة بارزة وتأكدت إن أمي قد جعلت لي رأساً وقدمين كأنَّها صنو الله.. هذه المرأة لابد أنها ستفجر كلامها وسيختلط مع الغبار المتراكم ومع خُزانة أشيائها العتيقة الحميمة البالية. جلست على الأرض وجعلت يدي تحت قحف رأسها الخفيف وعندما نطقت كان كلامها يأتيني من بعيد غائراً كما الأيام، تائهاً كما الماضي، فتعرفت على نغمات صوتها المتقطع.. أنسحب قوس الكمان يؤدي ترنيماته المتقطعة كتلك الآتية من عمق زجاجة النرجيلة، ليتحول إلى حشرجة إنسان مخنوق، تسحبه قوى خفية كأني بـ(خمط – تبال) يسحب روح أمي رويداً، رويدا وعند وصوله إلى رأسها المتوج بعينيها المطفأتين يقف قليلاً ليتركه في هوة مظلمة لا قرار لـــــها، عميقة بعمـق الله، فنطقـت بذلك الخفـوت المائت: (شهـ- ا – ب... و – ل – دي..)، كنت أنظر أليها ولم أصدق المشـهد إن هذا القناع البشري سينطفئ.. وتكلمـت بنبرة اليأس الذي اجتاحني فجأة: (أمي.. العزيزة..).

.. سقط قحف جمجمتها أمامي متدحرجاً آتياً من قلب الحجر.

- 3 -

.. المشهد الآن أصبح أكثر عتمة، ضائعاً في وسط ضبابي، تمتزج الأشياء فيه مع الكتل المبعثرة مما تعطي إيحاءً بأنه غارق في القدم، ولكن على الرغم من قتامته، أستحكم الرسام أفكاره المشتتة وراح يدقق في تفاصيل الرؤيا.. فانسابت من الجدران ألوان قاتمة حولت المشهد إلى (سَرَب) كأنه الفلك يغور في باطن الأرض، وكانت عملية التكوين هي لحظة إيقاف الزمن.. فتوقف الزمن واخترقتُ اللوحة ومن هناك أوحى لي المشهد ما يلي:

«كانت الشمس تنشر أشعتها الصباحية على الأشجار المكتظة في باحـة البسـتان، فانبثق (الأزرق) يوحي لي ثمة ضـحية لشخص ما.. هي المسارات الفكرية التي جعلت الرؤيا مشتتة ضائعة، لكنها تلتمّ وتلتقي في بؤرة معينـة شـبحية عائمـة في الظـلال.. تقـدم (الأخضر) محتجاً، منزوياً في زاوية ما، فاقع اللون، مغدوراً، وكان وحيداً وأعزل.. قد جُرد من ملابسه، يناشد الكون بتوسلات وتضرعات وابتهالات وتعاويذ وتمتمات. كان الإله هو الشاهد الوحيد على ذلك بان الأشـياء سـوف تتكون في الزمان والمكان المحدد لها .. تراجع (الأزرق) طائعاً مستسلماً يقدم نفسه قرباناً، وهكذا دوّن في سجلات العالم السفلي على أن العملية سوف تتكون من جرّاء نفسها.. مما حدا بالإلهة (إريش – كيكال) أن تستعين بأعوانها من شياطين (الجالا).. وقفت في قصر العدالة، ثم ضربت فخذها وأخرجت من فمها ناراً كالصاعقة حملت شياطينها إلى باحة البستان، وهم يحملون في أيديهم سواطير معقوفة وسكاكين حادة النصل للقبض على الضحية وذبحها..بدا (الأحمر) يمثل الشـيطان (تيعو) بخطمه الخنزيري حاملاً ساطوره الناري، وقد خرج تواً من قلـب الجحيم وهو يصـرخ بصـيحات متقطعة، متضـخّمة تصـدرها آلـة (الكونتراباص) بالنغمات المتفق عليها.. وثمة كتلة سوداء تحمل عينين جاحظتين، والشيء الذي لاح لي، بذلك اليقين الذي دخل اللوحة.. هي إنها كتلة إنسانية مطروحة وسط بركة من الدم القاني.. فتحول المشهد أمامي إلى الرمادي الفاتح كأنَّ الأشياء كانت غاطسة في وسط مائي شفاف، هذا يعني إن ضربات الفرشاة كانت متقنة في أماكن معينة من اللوحة، فانبعثت كتل سود لا أعرف سرها تسبح في تموجات لولبية نازلة في هبوط دنيوي قاتم تسحبها بعيداً نحو القاع.. لكن ليس هناك قاع ولا مأوى، شيء يتشكّل من جرّاء ذاته.. مخبأ كامن في عمق اللوحة يعطي نكهة الموت.. والمشهد على العموم يبدو غارقاً في الضباب ذا لون رصاصي داكن، الكتل السود المبعثرة تنمو من الداخل وتشكل مساراً متجهاً نحو الماضي بظلال فاقعة اللون تتجمع في بؤرة معينة، توحي إن ثمة رأساً يبرز من خلال كتلة ضبابية باهتة اللون، شيء ما قد حدث في هذا المكان.. أشبه بأفاع ملتوية قد لُفت على بعضها بعضاً لفاً متقناً إلى جذع نخلة متيبسة مقطوعة الرأس.. لكن (الأحمر) الذي تشكل في العمق لوث المكان على شـكل بقع نقية متناثرة.. كأنّي بالدم قد تشرب خلال مسامات التربة، لا رجعة فيما حصل، يبدو لي إن المكان مهجور يرتسم في ذاكرة قلقة، شبحية تنطبع في عمق الزمن.

بينما (الأخضر الفاتح) يبرز وحيداً، ينمو بشكل عمودي إلى الأعلى. أصبح الأمر جلياً بالنسبة لي إن ثمة نبتة صغيرة تنبثق من وسـط البقع الحمر النقية، تتحدى الزمن في النمو، تواجه رياحاً عاتية، تحاول اقتلاعها، أراها.. الآن قد شاخت بفعل المقاومة التي أبدتها خلال السنين الماضية.. أنه شيء ما تقبع روحه في هذا المكان.. شامخاً أكلته السنون العجاف».

- 4 -

بدا الحجر الذي وضعته أمامي يأخذ أشكالاً غريبة.. انسابت منه أخاديد محفورة تتلوى بحركة لولبية، تبرز إلى الأمام، تنبثق من التبعثر الكتلي، تنبع من عمق الجدارية المطروحة.. برزت أصابع اليد اليسرى ساكنة وبان الذراع متسلقاً العتمة يبحث في قيامة الإله عن أشياء كونية كدستها السنون الغابرة.. صحائف من الطين ومن أحجار الكون الباسطة أفقها تدوّن في أديم الأرض الأشلاء التي تبعثرت في التراب.. الأشلاء التي امتزجت مع ملح الأرض وبانت ثمارها يانعة، إنها بذور العقل البشري التي حولت الأفكار إلى طرق للتسلق والصعود.. إنها يد البشر.. يد العامل الماهر.. هي علامـة من علامات الذهن، إنه صـراع داخلي يمور في جحيم دنيوي.

.. المشـهد بأجمعه تحول أمامي إلى مخطط أولي لناسك متعبد، قائد مدبّر، فيلسـوف مثابر، إنها يد القوى الهادرة وهي تفكر صـابرة، مجاهدة على اقتحام الزمن.. اقتحام الصمت نفسه.. فبرزت أيادٍ عديدة ترتفع مرة واحدة بكفوفها التي تقرنت بشرتها وأصبحت بلون التراب.

.. وعندما حولت عينيّ نحو الطرف الآخر، انكشفت اليد اليمنى ملتوية قدرية برزت سلامياتها إلى الأمام، أضحت متشنجة الحركة وهي تريد إمساك الهواء لترجّه، تريد أن تحدث شرخاً في جدار الصمت، والنظرة وحدها تحدد إيقاع الفكرة التي تنمو باتجاه الرؤيا.

.. وفي غمرة الاشتياق الرؤيوي ظهرت الأجساد عارمة تكافح عن مصيرها وكانوا كما تبينتهم هياكل صغيرة سابحة في فضاء جداري والعتمة التي لاحت لي كونت قسمات الرجال القاسية.. أنهم بذور اسطوات المستقبل بشفاههم المتيبسة والمتشققة وبعيونهم الجاحظة الدعّج، كانت تبرز إلى الأمام كأنّها أشباح تجمعت وسكنت الجدار فجأة. ثم راحت عيناي تقتنصان زخرفة الحفر الممتدة إلى الأسفل وهي تجسد الرؤيا العالقة في دماغي.

.. وحينما وقف المايســترو ســالم على بُعدٍ وهو ينظر علق قائلاً: «هذه الخطوط التي أراها الآن أكثر تجسيداً، تمتد بتقوسات نغمية جعلت ذراع التمثال متيناً خشناً ذا عضلات عامل يعترك الحياة يقاوم، يصارع، يتحدى، إنسان العصر الذي يحمل على كاهله الصبر والسلوان.. العينان كبيرتان تخترقان الأفق، تمتدان في الزمن، آتيتان من مجاهيل العتمة، إنها الإنسانية تسير بتموجات لولبية.. إنه القدر، القدر الذي يطرق الأبواب ينادي بحكمته في الشوارع، يعطي صوته للقادمين».

.. فانتفضت الأقواس معلنة ذلك الصخب الوحشي الهادر عن رنة وترية كمانية، وهو يدق الصخور ويحطم جدار الصمت.. فهبت الجموع كأنها الزوبعـة وهي تكتسـح الطرق..عراة مشعثي الرؤوس، رافعين أكفهم العملاقة، يركضـون صوب طريق الأضرحة، فتأكدت إن الثيران المجنحة الواقفة عند بوّابة الدخول، حاملة نبالها تقاوم السيل العرم وهو يسيل كاسحاً الطرق.. برز (البعلزبول) من وراء الحجب أكثر واقعية بخطمه الخنزيري لابساً درعه الحديدي، حاملاً بيده اليمنى صولجانه المعقوف إلى الأعلى تتبعه شرذمة من قطيع (الجالا) بجماجم سود صُبت بسبيكة من البرونز تخرج ألسنتها الحمر وهي تلعق الأخضر واليابس. فهاج الكون دفعة واحدة، وفي أثرها سقطت الأجساد العارية متحولة إلى أشلاء مبعثرة، بذور تمتزج مع التراب بدمائها الطرية، الطازجة، الحارة.

وعندما رفع المايسترو يده إلى أنفه وهو يحاول أن يُثبت إطار نظّارته سأل النحات قائلاً: «الانطباع أو الفكرة تكوين داخلي، ينبع من عمق الجدارية.. إنه الرؤيا المختفيـة وراء الحجب، كيف استعنت بذلك..؟»

ركز النحات عينيه في قلب الجدارية ثم قال: «أبداً.. لم تكن هناك حجب، إنه الواقع الذي يتشكل من الأجزاء المتناثرة».

لكن المايسترو وقف في منتصف الورشة وهو يحاول أن يركز تركيزاً عميقاً في بؤرة معينة من الجدارية بزاوية نظر واحدة مركبة من تجميع الأبعاد الأخرى فاستدرك قائلاً: «لكن لعبتك مثيرة، إنه لغز محير.. يهدد بإفشاء سر ما، أرى فيها لحظة افتتان روحي مهيمن.. بالتحديد أرى فيها نوعاً من نزوة فكرية تحدد الشـكل الإيقـاعي، إننا نحاور الآن شكلاً.. إني أرى الأشلاء بارزة من هنا وهناك من خلال تجاويف حجرية، التجاويف والانتفاخات أخذت الحيز المكاني وشكلت الفضاء الكوني للجدارية.. بدت لي كما لو إنها عبارة عن فقاعات حجرية، مصقولة بأناة، إن الفكرة تبدو في الهبوط التدريجي لتكوين المزاغل الظلماء..إيقاع الخطوط المحفورة تأخذ شكلاً آخر أقرب إلى الرأس المقطــــــوع، لكننا نستطيع أن نحدد نقطة الانطلاق.. إنها العين الناظرة، البارزة التي جعلتها في مركز الجدارية وقد برزت منها أشعة كونية تمتد في مسارات لا نهائية تدخل في عمق الجدارية وتأخذ مكانها في الداخل».

.. وعندما ادلهمت السماء وانتشرت السُحب أشتاًتاً أشتاتا.. خرج التمثال من قلب الحجر طاعناً في السن، يتصدى، يقــــاوم، يصرخ، لكن المايسترو أستدرك قائلاً: «نعم.. في قفص الأسر كتموا أنفاسك، وحاصروك ورموك في الجُب المظلم وبعـد فترة.. الفترة التي امتدت طويلاً خلال عشر سنين، كنت تنبض بالأنين وبالتوجع.. تنبض باليأس، ولكني ماذا أرى الآن.. إن التصميم أصبح أكثر قدرة على تكوين الرؤيا».

رفع شهاب / النحات رأسه المطرق إلى الأرض وقال: «كانوا دائماً يحاولون أن يجعلوا من الموت المحطة التي ترتسم أمامي، لكني استطعت أن أتجاوز سر الغموض، الغموض الذي صنعوه كي أموت ولم أعرف من الحياة سوى علامات تبرز في أحلام منسية، مبتورة تزعق في داخلي، وها.. هي السنون التي مرت جعلت جسدي يتآكل. وبقيت وحيداً، لا أستطيع الوقوف على قدمي».

سأل المايسترو مرة أخرى: «ولكن كيف تحملت الألم في داخل هذا الجُب المزدان بالعناكب الصفر وبجدرانه الترابية المنخورة، بحيث استحال جسمك إلى هيكل شبحي ترابي اللون؟»

«نعم كنت كومة من العظام أفكر في إن الأرض هي الأم الرحوم، تحيطني وتخبؤني في داخلها، وفي هذا التجويف المظلم كان هناك مطر أسود.. مطر من مسحوق ناعم يتكدس فوق رأسي وجسمي، غطى وجهي ولحيتي الطويلة وأنا اقعي في مكان ما وفي زاوية ما لا أعرف جهتها، أزحف على أربع وأتبول وعندما تراكم الزمن كنت أشمّ رائحتي.. الرائحة الداخلية للجسد».

ثم راح شـهاب / النحات يزعق عالياً وهـو يلطم صدره بقبضة يده.. فدنا منه صديقه المايسترو وهو يربت على كتفه برفق ليواسيه محاولاً أن يقدم له سيكارة: «نعم لقد شاهدوك هناك في داخل هذا الجُب الذي يشبه زريبة البهائم، وعندما علقوك بحبال القنبْ الخشنة وأنت تتأرجح، ضربوك بشدة لأنهم سمعوك تغني.. (وطني يا وطـــــني، ياحقيبة سفري، وموطئ قدمي)، اشتقت إليك يا مَنْ أخذت منك الأيام سريعاً.. كنت تنزوي بعيداً عن عيون جلاديك، لكن الاخطبوطات تمتدّ إليك تمتص دمك وتحيلك هيكلاً عظمياً، نعم.. نعم لقد غارت عيناك وانخسفت وجنتاك وسقطت معظم أسنانك وبدا وجهك تشوبه زرقة الموت، يبست شفتاك وتشققت، كنت تحس إن رأسك غدا كتلة كبيرة لا تستطيع حملها.. وأنت تذوب، تذوب كي تتلاشى.. وفي صباح شتائي قارس اجتمعت فيه كل الملائكة لتشاهد لعبة القدر هذه.. وهناك أمام الجميع، بدا جذعك طويلاً يمتدّ شامخاً إلى السماء وقد استطالت رقبتك وأنت تغمض عينيك الدعّجاوين،.. كان رأسك يطفو فوق ذلك السائل اللزج القوام ذي الرائحة النتنة ولمّا أخرجوك من فوهة البالوعة، سـحبوك بالحبال القنبْ الخشنة نفسـها إلى مركز الدائرة هناك، ورأينا جسـمك يسـتقبل ضربات الكرباج بتأنيِ المتمرد القنوع».

 

الطُلِّســم

«وقد ذكر هرمس قال: أني < لمـاّ > أردت استخراج علم العلل الحقيقية وكيفيتها، وقعت على سَـرَب مملوء ظلمة ورياحا، فلم أبصر فيه شيئاً لظلمته، ولم يضيء لي فيه سراجاً لكثرة رياحه. فأتاني آتٍ في منامي بأحسـن صورة فقال لي: خذ نوراً فضعه في زجاجة تقيه من الأرياح وتنير لك، وادخل إلى السَرَب واحفر وسطه واستخرج منه تمثالاً بالطلسم معمولاً، فأنك إذا استخرجت ذلك التمثال ذهب رياح السَرَب وأضاء لك، ثم احتفر في أربعة أركانه، واستخرج علم سرائر الخليقة وعلل الطبيعة وبدء الأشـــياء وكيفيتها قلت له: ومَنْ أنت ؟ قال: طباعك التام. فان أردت أن تراني فادعني بأســــــــمي».

                من كتاب الأسطماخس لأرسطاطاليس

- 1 -

هل أنت مستعد لأن تسمع ما أقول .. إذن عليك أن تعي أنني استطعت أخيراً أن أتخيل الأشياء التي ابتكرتها.. نعم هي حينما تعبر (الطارمة) التي تصل غرفتنا بفناء الخان بذلك السلّم المتداعي .. كنت أراها بوضوح وأنا أحمرّ خجلاً وتنزلق النظرات إلى الأسفل ثم تمتد في اتجاهات لا حدود لها.. كنت أحمل كدس الكتب تحت ذراعي وأنا أهرول صاعداً ذلك السلّم، وعلى حين غرة كان ينتابني شعور لان أكون بالمرصاد.. ربما هي أراها الآن فجأة ثم أدخل دوامة من الترصد على أن اكتشف.. والاكتشاف يأتي واسـمع صياحا ًمن الداخل، ويأتي الصـوت صـافياً إلى دماغي (فخرية).. ثم الأحمر الشفاف والمخرم بالورد الأحمر النقي يتراءى من خلف عباءة سوداء. وكانت المصادفة أو الترصد هو ما أعنيه، وأنكفئ لابداً في مكاني كأن الزمن قد توقف فجأة، وهأنذا الآن رحت أتشبث باليقين الذي يكمن وراء سر المعرفة الذي نبع من تلك العينين الواسعتين الحمراوين.. ومن خلف المنعطف كنت أترقب اقتناص اللحظة، في الوقت الذي كانت فيه السماء قد أنزلت أثقالها دفعة واحدة مما أدى بالمطر أن ينزل مدراراً، فاصطبغت الجدران باللون الرمادي وتلطخ سروالي بالوحل حتى الركبتين، وفي(سوق الــﭼاﭼين ) احتميت تحت الشرفات التي تشكلت داخل اللوحة وهي تطلّ بشناشيلها على المنعطف بينما الخطوط المتداخلة التي لونتها ضربات الفرشاة شكلت الأقواس الخشبية وقد برزت من تحتها جذوع النخيل التي هيأت هي الأخرى شرفات الأراسي.. كانت الخطوط تسترسل رفيعة حادة أكثر صرامة في دقتها فبدت اللوحة نوعاً من أســاليب الفن التقليدي والذي ظلّ سائداً لفترة طويلة في تاريخ الفن، بحيث إن الأشكال الهندسية اندمجت وظهرت مقاطعها الزخرفية للعيان، مخرمة بالزجاج الأحمر والأزرق وبتقليد حرفي ظهرت مقاطع الجذوع بارزة أمام مستوى النظر، ففاحت من خلالها رائحة شتاء قارس، والمطر أخذ مساراً ملتوياً ثم نزل من تحت الجذوع على جانبي الطريق كصنابير ماء انفتحت جميعها دفعة واحدة فكوّنت الأجزاء الآتية: الشناشــيل، الجذوع، الطريق، بائع الفجل، الأطفال، راكب الدراجة، العربات المارة، برك الوحل، فخرية وأغنية (صوت السهارى).. كشيء ظل مداه راسخاً، فأنطبع الشكل أولاً في مخيلتي ودخل خزين الذاكرة وبالدقة ذاتها عرفـت في وقت ما إنه يمكن أن يُستخرج عند استعادة لحظة الترقـب، اللحظـة التي يأخذ فيها الدماغ نسخته الأصلية للأشياء.. إلاّ أن ذراعي المرأة الممتدين باتجاهي ترسمان لي علامة مناداة مع التواء الرقبة بشيء من الغنج الأنثوي، فتوقفت صورة الذراعين بحركتهما في الهواء، حينذاك سجل الدماغ لحظة زمن واحدة مشحونة بهواجـس صبي تعلم كيف ينظر إلى الأشياء هكذا اتجهت نظراتي نحو أصـابع اليدين وهي تتحرك وحدها إلى الأعلى والأسفل – إشـارة للمناداة، والمرأة تريد اقتناص الصبي الذي وقف قبالتها ساكناً بلا حراك، مجرد إنه ينظر، فارتسمت العينان الحمراوان، الباهرتان أمامه والذي يتدفق منهما بريق شبق أمومي يحرق براءة الشعور النائم في أعصاب صبي تعلم تواً كيف يمكنه دراسـة الأشكال. ثم أمسـكت بقلم الفحم، المسكة التي تعلمتها رويداً، رويدا وبالطريقة الجانبية لوضع ورقة الرسم ومن خلالها اكتشـفت الحركة المتقطعة للخطــــوط، وقلم الفحم يهتز مضطرباً أمامي، فقال لي المعــــلم: «أنظر.. الخط نفسه عصبي وحساس وهو في طريقه إلى النهاية».

وبدت لي النهايات أشـبه بالتلاشي، والنقاط كانت تتراقص في فضاء الورقة، فعرفت إن الغريزة جزء من تكوينه الداخلي، ثم أتضح إن الخط منكـسر في أماكن متفرقة، تناثر على شكل نقط تسبح في الفضــاء، تعطي إيقاعاً صامتاً يوحي بالحركة، لا يلبث ان يدخل جسم التصميم مرة أخرى، وفي نقطة المركز تجمعت الفوضى وانبثق شيء ما لامعاً في الأفق يوحي للناظر ثمة باب خشب غائر في عمق الجدار تعفن خشبه وظهر كالحاً أكلته السنون.. حينها عرفت إن الرائحة تنبع من العتاقة الحميمة للغز الأشـياء، كانت تحدد لي الـهدف، وكان الخوف كالترقب الذاتي نحو المعرفة.. هاهو الضباب يرتسم أمامي ودائماً ما يخفي وراءه غريزتي.. فأمتد الخط الراقص يرسم سلّماً، وهو سـلّم غير نظامي تظهر فيه البلاطات متكـسرة عند أطرافها.. فكـانت هي.. هي تشكل العمق السرمدي فيما يأتي.. وكنت دائماً انظر إلى القفل الصدئ المتدلي من عروته الوثقى وهو يحكم مصراعي الباب بإحكام.. الإحساس، الغريزة، التقدم، المجابهة، فقلت في وقتها: «لماذا يبقى هذا الباب مقفلاً دائماً وهو في داخل هذه الغرفة؟»، فقالت أمي: «نعم.. ياولدي هذه صومعة الــﭼالغـﭼـي»، وكنت أقف هناك وأنا أرفع رأسي محدقاً في القفل الصدئ وهو يتدلى من سنارة الباب.. وأنا أتذكره الآن.. لأنه يوحي لي ثمة سر كامن ينبع من هناك.

وأنت الآن يا صديقي سالم تود أن تسألني عن سر الأشياء التي كنت أبحث عنها. وعن ذلك اليقين بان الأمور كانت تجري على وفـق ما حدثتك عنها، وأنت تريد أن تعرف النقطـة التي بدأت منها.. نعم لك ذلك. في البدء عندما جاءنا كان طويل القامة يحمل رأساً كبيراً يتدلى شعره الكثيف على ياقة معطفه المطري، يمسك دائماً بين أصابعه سيكارة، بينما كان يمنع على المعلم أن يدخن أمام طلبته .. عندئذ ارتســـم الباب، ذلك الباب الموارب في زاوية المدرسة والمقفل منذ أمدٍ لا أعرف كنهه، كانت عملية الاكتشاف بالنسبة لي هي سر المعرفة المتنامية في الانقضاض على الشيء، وانفتحت الحجرة أخيراً وبذلك الإحساس الذي نحمله في دخائلنا اصطدمنا في بداية الأمر برائحة العفونة وهي تنبعث من الداخل.. ومن داخل حجرة المرسم رأينا الأشياء قد تعفنت ومن جرّاء ذلك تصاعدت الرطوبة زاحفة نحو الجدران مما أدى إلى تكوين طبقـة طافية كأني بها ملتصــقة على السـطح، انتفخت في أجزاء كثيرة منها، فكونت خرائط لا منتهية تمتدّ وتلتوي لتشـكل أشكالاً تجريدية لا معنى لها.. ثم كان لغز الأشكال وهي تتجمع في مكان معين لتكوّن نقطة عائمة في فضاء العقل.. فوقع نظري على التقوسات السائرة بتعرجاتها على جدران المرسم، وقتذاك شممت رائحة العفونة، ورأيت الغبار قد ترك طبقة كثيفة على الأشياء: محامل خشبية متكسرة، كراس دائرية تجلس على ثلاثة أرجل، قسم منها تلطخ بفوضى الألوان.. علب معدنية تيبّست في قاعها مادة الأصباغ.. قوارير خزفية ملونة تكـسرت رؤوسـها.. منضدة كبيرة تراكمت عليها قطع(الطباشير) الملونة، علب كارتونيـة مختلفـة الحجـوم، تبعثرت منـها أقـلام (الباستيل) الملونة .. أنابيب أصباغ الزيت المختلفة انبعجت بإلتواءات عديدة نتيجة ضغط الأصابع عليها.. فشاهدته وهو يقف متباعد الساقين كأنه اكتشف المكــان تواً، عندئذ قال المعلم بشيء من التأني: «بالنسبة لي لن أرسم لكم نموذجاً على لوحة السبورة.. عليكم أن ترسموا هذه الأشياء. اختباركم يبدأ من هنا، كل واحد يختار لنفسه موضوعاً من بين هذه الفوضى».

ثم أخذ لغز الأشـكال يتجمع في نقطـة معينة ترتسم في فضاء العقل.. النقطة التي جعلتني أنظر بإمعان متزايد إلى الأصابع المتحركة، وكان سر ما يجذبني نحوها، أريد اكتشافه، فتقدمت ببطء وبذلك التأني المحسوب.. لأن رائحة الغريزة تتكون كما تتكون الفكرة في الدماغ.. هكذا كانت رائحة الجسد فشممتها، رائحة الغريزة التي لا يخطئها العقل ولا المنطق، مجرد إني شاهدت ذراعي المرأة الممتدين في الهواء، أخذت الفكـرة تنمو منطلقة من نواة المركز، جامحة.. فتلقفت رأسي أولاً ثم بعدها أحسست ما يشبه القبلة الدافئة الأنثوية وهي تنطبع على وجنتي، ثمة أنفاس حارة لفحت وجهي.. الأصابع جذبت رأسي بالكامل ووضـعته على الصدر فوراً، أغمضت عيني وشممت رائحة حليب أمومي طازج ينبعث من داخل الصدر، عندئذ توسد رأسي كرتين إسفنجيتين محصورتين داخل فستان مخرم بالورد الأحمر النقي.. ولمّا رفعت رأسي شاهدت عينيـها الواسـعتين تفتحان أمامـي فوهـة ســوداء كأنـي بـها (فتحة الموت) القابعة في نهاية العمر.. الآن عرفت إن عينيّ قد سجلتا لحظـة زمن غائرة مشحونة بهواجس شبق صبياني كان قد ضاع في قلب اللوحة.

- 2 -

(الكونتراباص) .. هو الآن يعلن عن صوته الذي راح يتمطى ويتثاءب وحيداً، منفرداً ولمّا انبثقت الأضواء الحمر في قلب القبة المعلقة وســط المسرح ظهر وجه المايسترو تحتها يتصـبب عرقاً أحمر، حاد المزاج، بينما كانت أكتافه ترتفع وتهبط مع اهتزاز النغمات .. أجابته الأوتار الكمانية مسترسلة بإيقاعها الرتيب. ولاحت له الأقواس وهي تهبط هبوطها الحاد بثباتها المتقن، تمشي على أوتارها مشياً هادئاً، خافتاً خفوت أنفاس البشر النائمين، والدنيا تنزل نزولاً غائراً تفتح جرحاً عميقاً في الزمن.

بقي شهاب / النحات وحيداً يستمع إلى الموسيقى وهي تتلاشى إلى درجة الصفر، عندما عبرته بتلك الرقة الهائمة سكت كون المسرح وأحس في داخله صوت الصمت ينبع من عمق الزمن، يمتد ويمتد ويغـور عميقاً ويتوحد مع نفسه..وبدأ شيء كالخوف يتصدر النغمة التي فتحت أمامه (الفوهة المظلمة) الشرهة – واسعاً آتياً من الداخل.

.. فانتصب وجهها الشبحي المائل إلى زرقة الأموات، منطبعاً على جمجمة فارغة تتراقص في العتمة..كانت قد خلعت ملابسها متمددة، فبان جسدها الطري أكثر رخاوة، يتلوى كسمكة أُخرجت تواً من وسط المياه متأوهة بآهات طفلة ساذجة.. مدّ يده وشرب كأسـه المترعة دفعة واحدة وهو يختلس النظر أليها بين الحين والآخر، قالت له: «لقد افتقدتك منذ زمن بعيد.. لماذا لا تأتي..؟ منذ ذلك الزمن وأنا أهيئ لك مكاناً هنا.. لا تبالي، تعال واجلس إلى جانبي وضع رأسك على صدري وسأغني لك كل الأغنيات التي تحبها».

وحينما أراد أن يتعرف على مكامن المشهد تبيّن إن العتمة قد أطبقت على المكان، فبدا جسـدها شبحياً، شفافاً يتراقص في الفراغ.. وأنفتح المشهد واسعاً أمامه، وعندما نطقت كان صوتها أشبه بالهمهمات البعيدة..صوت لا يسمع منه شيء كاتم كصوت الموت نفسه يصدر من فوهة (الكلارينيت) السوداء، يتجشأ مأخوذاً وسط قاعة العزف..فقالت له : «لقد تعودنا هنا في مملكة العالم الأسفل على الظلام دائماً.. هذا هو ديدننا، لذلك كيّفنا أعيننا على رؤية الأشياء بسهولة.. لماذا لا تقترب؟ هل أنت خائف؟»

«كنـت أبحث عنـكِ.. نزلت إلى هنا كي أراكِ وأتحدث معكِ..!»

«هل أرسلوك إلى هنا كي تتحدث معي فقط؟»

«نعم.. هذا كل ما في الأمر».

«هل تركت (نهاوند) وجئت تلبي رغباتي؟»

«مَنْ أمي!»

«نعم.. أمك كانت بارعة الجمال ذات عينين واسعتين.. كانت بعينيها تجذب الرجال، فجذبت بسحرهما الــﭼالغـﭼـي إليها».

«لقد ماتت أمي».

«ياللتعيسة المسكينة ظلت تُشعل جمراتها حتى انطفأت، ولكن لا بأس.. سأهيئ لها مكاناً مناسباً ومريحاً بالقرب مني، كي ترتاح به عند مجيئها إلى هنا إذن هكذا كتب الله لنا مصيراً واحداً».

«لقد عانيت كثيرأ في النزول إليكِ من أجل أن أعرف الحقيقة منك!»

«لا يمكن هذا ياحبيبي، أنت تعرف إن الحقيقة مختبئة في قلب أمك المسكينة، هي كاتمة الأسرار».

«لقد أرسلوني إليكِ وقالوا لي إنك تعرفين جزءاً من تلك الأسرار».

«هو الذي أراد ذلك..! وعندما بات ليلته تلك معي حتى الفجر.. قال لي أريد نهاوند.. أريدها أن تكون محطتي الأخيرة، هي سلواي ومناي، ثم وقعت أمك في شباكه، عرفت ذلك من عينيها.»

فتحول جسدها في الحال إلى شيء وهمي غائم، غير ساكن في مكانه.. يذوب في العتمة.. بقيت الجمجمة وحدها صاعدة، هابطة مع نغمات صوت الكمان ثم قالت: «هل تسمع شيئاً يقترب نحونا!»

«لا.. لم أسمع شيئاً».

«إذن أنا وحدي أسمع هسيس أقدام ثقيلة تتقدم نحونا.. أهرب من هنا.. أختفي في مكان ما.. إنها أقدام أبــــــي، هذا موعـد زيارته لي، إذا ما رآك هنا سـوف يقتلك في الحال».

«مَنْ .. خضير الولهان!»

أخذت الجمجمة تتراقص وحدها.. ثم شيئاً فشيئاً فقدت ملامحها.. حاول جاهداً أن يثبّت المشهد أمامه لكنه أحس إن شفتيه أخذتا تتحركان ثم نطقتا، فجأة.. كأنّ الصـوت قد خرج من آلة (الشيللو) وهو يصيح: «فخرية.. فخرية.. أرجوك.. توقفي قليلاً.»

لكن الجمجمة اختفت من أمامه فجأة.. وبقى النحات وحده يستمع إلى موسيقى المايسترو.

.. اقتربت النغمات من درجة الصفر ثم بدأت تتصاعد بألحان سماوية تمتص الظلمة كاشفة عمق المسرح، حينما بدأ السلّم يرتجّ متصاعداً.

- 3 -

كما تريد يا صديقي ومن أية نقطة تشاء أستطيع مواصلة الحديث.. أنفتح الحجر عن (فوهة مظلمة) تبدى خلالها ضباب كثيف مسح الأشياء من حولي وجعلها معتمة وكنت لا أفقه ماذا يحدث، رحت متوغلاً داخل (سَرَب) أنفتح كالهوة يهبط بي نحو الأسفل، فتحول المشهد إلى عتمة ضبابية، لم أدرك ماذا سيخرج الآن أمامي.. كنت أنظر بإمعان إلى التمثال المصنوع من كتلة الحجر وأنا أدقق وأحاول أن أثبت انزلاق الذاكرة، لكن الرؤيا تحاول اكتناه الأشياء التي أكدت سلامتها فجعلتني أركز في التفاصيل مبتدئاً من كتلة الرأس المنتصبة والتي أخذت مكانها في عمق (السَرَب)، كأنها خلاصة إنسانية انسابت متشنجة حينما خرجت روحها.. ظلت الكتلة ترتسـم أمامي مادة جذورها في التربة، وراحت عيناي تتشبثان أكثر تريدان اكتشاف المعرفة من أماكنها،إذن ما تزال الذاكرة مستمرة تؤدي غرضها الآن.. فبدا سطح الكتلة يمتد إلى أقصى حدود الرؤيا مكوناً لذاته قبساً من نور يتدفق نحوي، فانبجس رأس الرجل القشعم فارداً جناحيه، كأني به معلق في فضـاء كوني، يتشكل وسط الضباب، وأمسى الزمن متوقفاً، ساحباً معه سنين العمر الخائبة، لم أفقه من الدنيا شيئاً سوى إن اللحظة التي صيرتني الآن جعلتني استقبل ما يأتيني فجاءني الصوت صافياً من الأعماق يدور مع حركة رياح الجناحين، فاهتز فضاء السَرَب، كأن صاعقة تدور في فلكه، مولدة قهقهة رعدية فانقلبت دهشة الخوف إلى اطمئنان داخلي حينما سمعت صوتاً إنسانياً متجشئاً يخرج من أعماق السَرَب وهو يقول: «إذا أردت أن تبحث عن الحقيقة وكيفيتها، عليك ان تتوغل إلى أعماق هذا السَرَب».

.. فانقطع الصوت وغابت الأشياء وامتد الزمن لكني استطعت أن أتكلم وأنا أحرك ساقيّ في الفراغ، فقلت له: «مَنْ أنت؟»

فجاءني صوته الدافئ يخرج من باطن الصمت:

«أنا روحك التي تسكن الحجر، فإذا أردت أن تراني، عليك أن تحفـر في جهاته الأربع حتى يظهر لك الطلسم المضاد، فإذا ظهر تتكشف لك قُرب / إيل، درّة سابحة في ندى الصباح، معلقة بين الســــــماء والأرض».

.. فابتدأت الحفر من الجهة العليا على يسار زاوية الحجر.. كانت ضربات المطرقة تنزل بالدقة التي أردتها على أزميلي، حينها ظهر الشكل بارزاً أمامي تنساب منه خطوط متعرجة.. سقط الرأس فاتحاً فمه عن زعيق إنساني غائر في القدم يقدم اعتراضه متدحرجاً آخذاً مكانه وسط الحجر.. الدقات هي الأخرى كانت تتزايد متصاعدة.. ولمّا خفت إيقاع النقر على آلـة (السنطور) أخذ الــﭼالغـﭼـي مكانه في عمق (ﭼفرة الزورخانة) وظهر أمام الجميع بصدره المشعر الأسمر مفتولاً، بارزاً عضلاته إلى الأمام بينما ظهرت عضلات الزندين أكثر بروزاً كأنها فأرتان كبيرتان محصورتان داخل كيس رقيق من الجلد، تنطان عند تحريك الذراعين ثم تتقلصان، لامّتين نفسيهما فتبدوان للرائي منتفختين بحجم قبضـة اليد تحت رمانتي الكتفين،

فبدا سطح الجدارية عبارة عن خلاصة إنسانية محفورة، تمظهرت على شكل أشلاء بارزة.. الجذع ممدداً، مطروحاً أو منكفئاً، الذراعان امتدتا إلى جهة اليمين واليسار وبدتا متشنجتين كأنهما تهددان البشرية، بينما القدمان كانتا راسختين في الأرض.

.. ثم اكتشـفت إن فكرة الأوحد المنسابة معالمها مرتسمة بوضوح، فكونت ما كان غائباً عن وعي، ساعياً وراء ترانيم الصمت التي تنساب الآن كانسياب نقرات السنطور من داخل (ﭼفرة الزورخانة) أججت براكين العقل المتداعي.. فشكلت الأشلاء المبعثرة شبيهة بتلك الخطوط الكرافيكية السـود، الفاحمة المتغيرة في (البورتريهات) التي رسمتها مؤخراً عن الرأس.

.. وعندما تحركت قدماي بذلك التأني وأنا أحاول أن استكشف هذا العمق الغائر في داخل السَرَب.. اجتاحتني زوبعة آتية من العمق، شديدة السرعة وهي تتقدم نحوي بصفيرها الحاد.. كان القبو ينفتح عن سلالم تتوغل في الداخل فتاهت عليّ معالم الرؤيا وأرتجف قلبي وحاولت الرجوع من حيث أتيت.. لكن الرأس سقط فجأة متدحرجاً وهو يقودني في الداخل.. وكانت الظلمة حائلة بيني وبين المكان وبعد حين من اجترار الخيبة، انبثق وعلى حين غرة نور خافت لا أعرف جهته يمتدّ وينشر نوره نحو الداخل يكشف عن ممرات وأنفاق مرعبة، وكان نداء الصفير يأتيني واضحاً يستدعيني في التقدم.

.. فانكشف المكان عن كون مظلم غائر في أعماق الأرض تدور فيه رياح وأرواح وأصـوات زعيـق كأنه معلـق في فراغ لا قرار له..هناك تراءى لي إن شــيئاً ما تكوّن من ذاته.

.. فانتصب جذع النخلة وهو يحمل الرأس المقطوع، بدا شامخاً وهو يتسع ويكبر.. بدأت الأوركسترا تطلق هياجاً ثعلبياً صــاخباً. بحيث إن النغمات كانت تتقدم بسرعة مذهلـــــة، فانفتحت الأفواه السود عن حمم متفجرة وبدأت الطبول تُعلن عن ضرباتها الكاسحة بأن النذير قادم..ومن منتصف قبة المسرح كان (الكونتراباص)، يطلق صوته الحـاد، يأتي من الأعماق ليدخل به فلكاً كأنه الدوامة يدور بزوبعة، دوراناً غير متناهٍ.. ومن منتصف قبة البهو الإلهي جاءني الصوت صافياً ينبع من عمق الحجر، يحدد لي الهدف: «أنا قربائيل.. المثلث بالحكمة، مَنْ أراد أن يدخل قُرب / إيل فليقرأ هذا الحجر الراسخ.. تتكشف له علم سرائر الخليقة وعلل الطبيعة وبدء الأشياء وكيفيتها».

عندها تحرك الــﭼالغـﭼـي متململاً داخل جوف القبو وهو يعلن عن تمرده، نازلاً بكل عنفوانه الفحولي مقتحماً (ﭼفرة الزورخانة)، وراح يؤدي تمارينه الحركية وهو يهتز مع إيقاع نقرات الطبلة.

.. أخذت الفكرة تتكون لدي شيئاً فشيئاً داخل الحجر بينما كان السلم يهتزّ نازلاً نزولاً إيقاعياً يتحد مع ضربات الطبلة.. فاخلولق الوحيد مستوحداً داخل فوهة الآتون المظلمة محدقاً في أعلى فتحة من قبة البهو الإلهي.. فانسابت خطوط الضوء منها تقتحم الجوف المظلم كاشفة لي عن سر ما قابع في قعر الحجر.

- 4 -

في زمن ما أعني ذلك الزمن الذي أخذ يسجل محطاته.. كانت نظراتي تنزلق إلى الأسفل رسمت أمامها الأقدام بجزمها المتهرئة وهي تهبط هبوطها المتدرج، بينما جوف البهو ينكشف بتلك الدهشة المفاجئة، والدنيا أخذت تنزل غائرة في عمق الدهر.. فانتابني إحساس غريب، رحت اكتشف الأشياء تواً بذلك التمهل العارف بسرها، وعندما اتجهت النظرات إلى الأمام توقف الزمن وسجل الدماغ أشياءه السرية القابعة هناك.

..كانت القبة تمتدّ إلى الأعلى.. وفي الوسط طالما اتجهت نظراتي أليها، وهي تفتح كوتها الضيقة نحو السماء..سقط منها عمود الشمس باهراً فارشاً مساحته الضوئية وسط (ﭼفرة الزورخانة) وقتئذ أخذ (المرشد) مكانه على دكته المخصـصة أمام المشــاهدين وهو يتلاعب بأصـابعه المتراقصـة على غشــاء الطبلة، فجاءت نقراته خفيفة، متلاحقة، حركت الشجون النائمة في سبات عميق.. عندها أخذ الرجال أماكنهم جالسين على الدكات المرتفعة الواحدة فوق الأخرى والممتـدة بشـكل دوائر كبيرة متراكبة على بعضـها، منتهيـة بدائرة (الﭼفرة) التي احتلت الوسط.

.. في (صالون الــﭼالغـﭼـي) أطلق أحد نقاد الفن التشكيلي مقولته متبرماً من لوحات المعرض: «هنا نشاهد عاملاً مشتركاً للوحات المعرض.. هو اختفاء الحقيقة.. شيء ضائع وسط هذا الركام الهائل من الفوضى لكن في بعض الأحيان تبدو العاطفة متوهجة.. البروتريهات تشير إلى قلق صاحبها، إنه بحث دائم وراء الأشياء.. الوجوه مختفية وراء تقاسيم من الخطوط وسطوح تتناغم فيها الألوان بتولدات موشورية، كتل هائلة ممتدة في الفضـاء.. كأنني بسطح اللوحة يتحول إلى أستعراض وحشي، نوع من طقوس بدنية..ينبثق الشيء بإيهامات كابوسية توحي لنا برعـب مذهل وراء هذا الضباب.. ليس هناك حقيقة ثابتة أمام أنظـــــارنا، المظهر الخارجي عبارة عن كتل وهمية عابرة وزائلة، إذن ماذا تبقى لنا أن ننظر أليه..؟ على المرء دائماً أن يستقصي الحقيقة وان يتقدم مخترقاً قماشة اللوحة..الرسام يقدم تضحيات لحساب المؤثرات الجميلة للمنظـور وهي مؤثرات تتداخل تداخلاً غير ملحـوظ.. المهم يجب على المرء أن يبحث عن الحقيقة..أين الحقيقة إذاً..؟ ثمة شيء زائل في طريقه إلى الموت، أو أنه ميت منذ أمد بعيد..في لحظات معينـة تبرز لي الضحية مضرجة بدمائها.»

وقف الزائرون حائرين في (صالون الــﭼالغـﭼـي) وهم يتطلعون إلى اللوحات المعروضة فيه، وثمة تقولات وشائعات قد أطلقت بين الحين والآخر يرددها بعض من زوار المعرض بان ثمة أحمق وراء هذه التصاميم.. أما أغلب الداخلين إلى الصالون يدورون دورة واحدة ويخرجون من الباب الرئيس وقلة منهم كان يسجل في دفتر الاسـتقبال كلمات مضببة وغامضة تعبّر عن استيائهم من هذا المعرض.. كنت منزوياً في ركني وأنا أراقـب الداخلـين والخارجين.. فوقع نظري على أحدهم فجلب انتباهي غير العادي، كان يتقدم إلى الأمام متخطياً لوحتين أو ثلاث ثم لا يلبث أن يتراجع مبتدئاً من الأولى، وعندما أنهى دورته التي استغرقت زهاء الساعة تقريباً، رجع إلى منتصف الطريق محدقاً في لوحة (الزورخانة)، عند خروجه من المعرض سجل في دفتر الاستقبال ملحوظته الآتية: «اعتقد إن على المرء أن ينظر جيداً.. ثمة نزعات نفسية واضطراب عصبي والإيمان المتردد قد ظهرا جلياً أمامي.. أنا لا أرى في ذلك علاقة على إن عمل الرسام اعتباطي، كما إنني لا أستطيع أن استنتج من ذلك إن عذاباته الداخلية بلا جدوى.... بل أرى العكس فارتباكه يجعلني أعتقد إن هناك شيئاً في مغامرته، شيئاً طاغياً يجثم على صدر الرسام.. إنها الحقيقة ولكن كيف يمكننا أن ندخلها إلى إدراكنا.. التشويش الظاهر في عمق اللوحة يجعل الرسام في بحـث دائم عن أشـلاء ممزقة، يبـدو للرائي إن ثمة ضـحية قدمت قرباناً للقـدر.. وهـذا شـيء صـعب أن يحققـه المرء من المشـاهدة الأولى للوحـة الزورخانة».

- 5 -

انطلقت مجموعة (الفيولات)، بالجملة الموسيقية المتفق عليها والتي ابتدأت بها الأوركسترا اللحن الأساس، وعلى أثر ذلك، انبثقت من قلب القبة أضواء أرجوانية خاطفة تتناوب مع الضوء الأزرق. كانت كالآتي:

عندما يتصاعد السلّم مرتجاً إلى الأعلى يُعلن إن الضوء الأحمر سوف يكتسح الطرق ويحطم الأشياء من حوله، إنه القدر المختبئ وراء النغمة، وعندما تهبط الأوتار دفعة واحدة يكون الاستسلام النغمة التي يعُلن عنها الضوء الأزرق، فتنطبع القناعة هادئة، حزينة، تجرّ خيباتها المنهزمة.

إلاّ إن نغمة وحيدة من بين تلك الأنغام ترجلت منفردة وراحت تسير بتموجات هارمونية أججت المشاعر النائمة في سبات عميـــق، جعلت شـهاب / النحات يحدق بعمق في وجه الحجر الموضوع أمامه.. فارتجّ السلّم هابطاً عن مشهد يفتح (بوّابة الهبوط) في قلب الحجـر، خـرج منها طـيف هيولى متأرجحاً مع ذبذبات آلة (الكمان)، وحينما اشتدت مجموعة الوتريات دفعة واحدة، انفردت آلة (الفيولا) محولة الطيف إلى هيكل إنساني... فتوقف الزمن، وراح يحدق ملياً في قسمات الوجه.. فتأكد له: إن الأخاديد كانت متقنة الحفر شكلت له قناعاً إنسانياً كان يرافقه طيلة حياته، مبتدئاً عند قوس الحاجبين اللذين ظلّلا عينين غائرتين، حفرت تحتهما أخاديد جلدية تعطي إيقاع السنين الهابطة في قعر الماضي.. راح شبح الهيكل الإنساني يتذبذب في الفضاء ثم حط قبالة الكورة. قفز شهاب / النحات من مكانه، بينما لحظة الاكتشاف جعلته يصيح مندهشاً: «هذا أنت.. يقيناً إنك المايسترو ســالم، هذه قسماتك. إذن لقد لبيـت الدعوة، ها.. أنت الآن تحضـر إلى هنا لتــزورني، حسناً.. حسناً يا صديقي، ماذا تريد أكثر من ذلك..؟ سأجعل الاطمئنان وسيلة التواصل بيننا.. حينما كانت الحياة تجري مطمئنة خرج الصبي إلى قلب السوق ليكتشف الأشياء وهو لا يشعر بقيمة الدقائق والساعات، إذ كانت تسير معه بأناة وصبر وببطء شديد، كانت تعتريه الدهشة كلما توغل داخل السوق. وكما كان في المدرسة الابتدائية عندما يحثه المعلم على النظر إلى التخطيطات المرسـومة بين دفتي كتاب التاريخ، كان ينظر بإمعان التلميذ، عندما يكون الانبهار هو الاكتشاف الحقيقي للأشياء».

قام المايسترو من مكانه متقدماً نحو الأريكة التي يجلس عليها النحات واضعاً بضع مكعبات من الثلج في كأسه الموضوع أمامه وصبّ فوقه مزيجاً من زجاجة انتصبت فوق المائدة وقال له: «لكن المشهد الذي رأيته في اللوحة مشـــهد تجريدي، إنك لم توضح الأشياء على ما هي عليها من أمورها الطبيعية، ما مرد ذلك ألأنك تجريدي تحاول جهد إمكانك أن تجرد الأشـياء من خصوصيتها الواقعية، ولكن عليك أن تعي إنك في الواقع وليس في السماء، حاول أن تتقمص الأشياء، أو أن تقف عندها، وعليك أيضاً أن لا تتغيّب فالتغيّب ليس في صالحك، إنه يعمي الذهن ويبعدك عن النمنمات،.. لمسـاتك عشـوائية، هذا ما أراه واضحاً من ضربات الفرشاة، تحاول أن تلمّ الكون وتمركزه، فندخل وأياك في نهر الغياب ذي اللون الطيني والذي يتحول شـيئاً فشـيئاً إلى الأسود الفاحم، كيف أميز، كيف أستجيب..؟ ليس هناك منافذ تؤدي إلى الخروج شيء مغلق يتكون في رحم الكون، لا شريك يعينك على الخروج، قابع في قمقم الصمت. وكيف أن نسير مع الفكرة التي تطرحها علينا، كأني بها قناع تجريدي، تدحرج رأسه في وادي البقيع».

رفـع شـهاب / النحات وجهاً فاقع اللون، زائغ العينين، قلق الهيئة، يحاول أن يثبّت انزلاق نظراته في عيني صديقه قائلاً له: «القناع هو أكثر ما يتشـكل أمامي.. قناع نصفه مزيف ونصفه إنسـاني، لكـن عينـي تظـلان شـاخصـتين تنتظـران انفراج (الفوهة المظلمة)، وفي هذه الحالة، الرأس يكوّن ما في الداخل، يبني ويهندس ولكنه يترك الأشـياء ناقصـة الملامح، يعتريها الغموض.. جحود وعقوق، غير راضية بما حولها.. وأنا كما أنا بتلك الروح المثابرة على الاستعادة وبذلك الجَلَد الروحي الطافح في مخيلتي، أجعل بصماتي أكثر مقدرة على تكوين الرؤى الحالمة.. (هنا) بالذات وأنا أتقدم أمدّ يدي وأبحث، اسـتنجادي بنفـسي. والـ(هنا) هو الطريق المتعرج، الطريق الترابي الذي ألقيتَ عليه نظرة فاحصة، والـ(هنا) حينما راحت قدماي تتقدمان، صاعدتين، هابطتين مع إيقاعات الاستكشاف وديدني هو أن أتقمص الأشياء، تراودني الهموم والظنون والمآسي ولكني أتقدم، أسير كما يسير الغرباء وعند الحدود المتاخمة لمدينة قُرب / إيل ومن جهة الشرق تنفتـح الهـوة عن (فوهـة مظلمة) تراها شـاخصـة أمامـك هي (بوّابة الهبوط) التي تنزل بك نحو (أرض اللاعودة).. الفتحة ذاتها هي الاستكشاف الذاتي المستمر، كم طال بي الزمن عندما تراكمت عليّ سنون الاغتراب، تنفتح أمامي الفوهة الآن، ومن جهة بساتين النخيل وأنا أعبر السواقي والمبازل والترع التي تصادفني، يتحول الطريق تدريجياً إلى جهة الشرق، ثم ينفتح المشهد أكثر أتساعاً وتتداعى الأشياء المحيطة بي، وينكشف أديم الأرض ويتراءى الأفق واضحاً من خلال الأدغال وقصب البردي.. هنا يظهر لك جذع النخلة المقطوع الرأس ما يزال شـامخاً في مكانه، يواجه رياح الخريف، وقف على طرفه المقطوع نسر كبير ينظر إليك نظرات شزرة، وهو يحرك رأسه ببطء وبشيء من اللامبالاة.. وعلى بُعد عشرين قدماً منه تتراءى لك (بوابة الهبوط) التي بقيت بعض آثارها شاخصة في المكان تتحدى الزمن».

ردّ المايسترو سـالم قائلاً: «والآن حدثني.. هل أنت متأكد من إن الأشكال التي ابتكرتها كانت قابعة في الطبقة السفلى من الذاكرة؟»

حدق شهاب / النحات في الفراغ وقال كمن يكلم نفسه: «أرجـوك أمهلني دقيقة، كي أسترد أنفاسي.. أتخيل الآن يوماً غائماً، حزيناً، كانت الأمطار تنهمر فيه بغزارة، والمطر يبعـث في نفســي الدهشة ويسحبني إلى جذور الدفء الأولى.. المطر، المطر.. هو ما يثيرني ويفرحني، كأنه مهرجان صـاخب أنبثق على حين غرة، يشق طريقه بانطلاقته الهائمة، ذلك الكرنفال الذي تحتفل به السماء مع الأرض وأنا كعادتي في مثل تلك الليالي أخرج وحيداً أجوب الطرقات مبتـلاً حينـاً ومنـزوياً تحت الشـرفات حيناً آخـر، أراقـب هطول الأمطار برؤية عاشـق أخذته الدهشـة. وبعد أن تتجمع المياه وسط الطريق، أخوض فيها بكل تؤدة بقدمي الرقيقتين، كنت لا أشعر بالبرد كنشوة داخلية راحت تتصـــاعد في نفــسي وأنا أسير فوق الطـين حافياً ... أتخيل إنساناً وحيداً، مستوحداً، مستوحشاً، غريباً و مغترباً، قادماً من بعيد في أرض واسعة مقفرة تفرش مساحتها تحت سماء مدلهمة وهو كعادته يحمي رأسه تحت المظلة، يشق طريقه وسط زوبعة من الرياح والأمطار الشديدين، فيتراءى لي أو هكذا يبـدو أن معطـفه قد أرتفع وراء ظهره بفعل الزوبعة».

مدّ المايسترو يده وشرب كأسه دفعة واحدة، فاحمرت عيناه بفعل الحرارة المتسربة من جوفه.. بينما شهاب / النحات خفض رأسه وهو ينظر إلى يده الموضوعة على ركبته مقلباً أياها بين الحين والآخر فاستدرك قائلاً: «هكذا تفتحت المعالم أمامي دفعة واحدة وظهرت قُرب / إيل من خلال الضباب، مهجورة تعصف فيها الرياح العاتية، بدت كما لو إنها خالية من المارة، هجرها أهلها وتركوها تجابه العواصف وحدها.. وأنا كعادتي أجوب طرقها الملتوية، الطرق التي تؤدي إلى أزقة ضيقة، كأنفاق جوفاء حفرت داخل الأرض، أدخل متوغلاً في أعماقها أبحث عن أبوابها الخشبية، تلك الأبواب التي انخفضت عن مستوى الزقاق بثلاث دكات إلى الأسفل.. ويمتدّ بي الزقاق ويمتد ويلتوي ويتفرع.»

كان المايسترو غارقاً في صمت كئيب يرفع رأسه بين الحين والآخر وهو ينظر إلى الشباك المفتوح وراء ظهر النحات، ظهر الليل من خلاله قطعة سوداء لا حياة فيها.. شهاب / النحات أنزل رأسه إلى الأسفل حاجباً عينيه الحمراوين من رؤية صــــديقه، فسأله المايسترو: «تتكلم عن قُرب / إيل، أخرى مختفية تحت ركام الزمن.. هل سمعت شيئاً مثلاً؟»

«نعم.. هناك فقط عثرت على بعض منها.. شاهدت الطرقات كما هي ولكنها سرعان ما اختفت».

«هل تأكدت جيداً من ذلك؟»

«انبأوني بان طرق الصيد مختلفة ووعرة مثل (طريق الصد ما رد) وإذا ما أراد أحد أن يطأ (قُرب / إيل) عليه أن يتسلح بالمعرفة الكافية.. إنما المهم هو كيفية الدخول، الكيفية هي التي تحدد الشكل النهائي لتقمص الأشياء.»

«ولكني.. أنتظر منك ذلك الشيء الذي كنت تبحث عنه.. هل أنت متأكد من إنك عثرت عليه؟»

«نعم!»

«ولكنك لم تخبرني.»

صـفن شهاب / النحات وهو مطأطئ الرأس ثم مرت فترة صمت ثقيلة بينهما.. وعندما رفع عينيه لينظر في وجه صديقه، خرج منهما بريق أحمر أدمع عينيه، عندئذ قال بشــيء من الأسى: «عثرت على الضياع..! استوقفته ودخلت في متاهاته واستنطقت الأشياء المختفية فيه، ثم استخرجتها وتحققت من إنها حدثت من تلقاء نفسها».

«من تلقاء نفسها؟!»

«هل أنت معي؟»

«نعم .. بالطبع أنا معك!!»

صاح شهاب / النحات من مكانه:

«إذن المسـألة منتهية.. التفاصيل مختفية فـي جوف الزمن، وأنت تعلم إنها لم تعد ثابتة في مكانها إنها تختفي دائماً لتحل محلها أشياء أخرى وهكذا».

إلاّ إن شهاب / النحات نهض من مكانه وأحكم قبضة يده وراح يدق بها صدره بقوة،.. خرج صوته من صدره دفعة واحدة كمن أنبثق من صندوق آلة (الفيولا) يرنّ في هواء الورشة متحشرجاً، باكياً يتلوى كضحية سكنتها شياطين القدر: «كيـف تريدني أن اسـتنطق الحجـر.. هل الحقيقة مختبئة فيه وكـم بقى لي من العمر كي أعرف ذلك..؟ إذا كنت تعلم شـيئاً قل لي؟»

تنحنح المايسترو قليلاً، رافعاً رأسه إلى الأمام فالتقت عيناه في عينيّ صديقه النحات وهو يحاول أن يتمسك بفكرة كان يناقشها مع نفسه كثيراً وهي الفكرة التي يريد طرحها الآن: «حسن.. المشهد يذكرني بقصة القتل التي حدثت في باحة البستان المجاور للورشة.. والجريمة وقعت قبل خمس وأربعين سنة في البدء وحسب المعلومات الواردة إليّ كانوا أربعة أشخاص، هذا ما ورد في التقرير الطبي لكاتب العدل.. حينما هجموا على الضحية اثنان منهما مسكا يديه بقوة أما الثالث امسك قدميه بالقوة نفسها ثم طرحوه على الأرض، أما الرابع وقف عند الرأس وقد أستل من تحت نطاقه مدية ذات نصـل حاد كتلك التي يقطع بها القصابون رؤوس النعاج، وبالسرعة ذاتها انحنى على رأس الضحية وغرس مديته تحت الحنجرة تماماً وراح يحزّ الرقبة حزاً متواصـلاً، كان ثمة صياح مبحـوح يخرج من فم الضـحية، سرعان ما خفت ثم انقطع.. انفصل الرأس بيد الرابع وهو يقطر دماً مدراراً.. ثم سحبوا الجثة وربطوها على جذع نخلة قديمة مقطوعة الرأس، بحبال القنبْ الخشنة التي أحضروها معهم لهذه المهمة.. في صباح اليوم التالي وعند شروق الشمس، خرج الفلاح من عقر داره، الكائن في الطـرف البعيد من البستان للعمل، وبينما هو في طريقه متوغلاً داخل البستان فإذا به يفاجأ بعد فترة قصيرة من تجواله بالمشهد الذي أمامه.. كتم أنفاســه وتقدم بخطواته البطيئة لينظر: كان الرأس قد أستقر على بُعد متر من الجثة المربوطة بالجذع، وسط بركة من الدم القاني.. ولمّا دنا منه أكثر وهو يتفحص الرأس، لاحت له العينان مفتوحتين وهما تنظران إلى الأعلى.. بينما كانت لحيتـه البيضـاء قد تخضبت بالدم والشـيء الذي أكـد عليه الفـلاح، إن الرأس حتى تلك اللحظة ظلَّ محتفظاً (بجراويته) التي لُفت لفاً متقناً».

قفز شهاب / النحات من مكانه، واختضت فرائصه في اللحظة، بعد إن اكتملت أمامه الملامح بوضوح ثم صاح كمن عثر على ضالته: «إنه أبي.. الملاً حنش؟!»

أغمض المايسـترو عينيه.. كأنه اكتشف ما كان مطموراً تحت ركام السنين، أنبثق أمامه الآن يجسد العمق الذي أخذ يقرأه في عيني صديقه الحميم شـهاب، متيقناً من نفسه بان لقاءهما هو المصير المحتوم، الذي يرتسم أمامهما، ذلك المصير الذي يعشش في حنايا روحيهما الظامئين.. طأطأ رأسه وقال بذلك الاستدراك: «نعم .. نعم، أيها العزيز.. هـذه هي الحقيقة السـاطعة، تلوح لكلينا. وعليك أن تعي جيداً لولا ذلك الضياع والبحث المستمر، لما استطعت أن تبتكر المدينة من جديد.. هذا ديدنك.. هو سر بقائك وتشبثك في الحياة واعلم علم اليقين إن هذا الضياع، هو سر سعادتك.. هو مفتاح الدخول إلى (قُرب / إيل).. هو إنك في كل مرة قادر على صياغة ذلك الضـياع، بتشـكيل جـديد تملؤه الرغبة على مواصـلة الحيـاة وفي الوقت نفسـه تمـلؤه الرهبة من سر هذا الوجود».

ولمّا رفع شهاب / النحات رأسه بعينين متوهجتين ببريق أخاذ وهـو يحاول اقتناص لحظة الترقب لينظر في عينيّ صديقه المايسترو.... راح القناع الإنساني يتذبذب في الفضاء، صاعداً، هابطاً مع نغمات (الكمان) الهائجة ثم اختفى في قلب الحجر.

- 6 -

الآن..

نهض شـهاب / النحـات تواً من مكانه متقدماً إلى جهة الحجر وراح ينحت عليه.

 

 أنتهت

إحالات مقتبسة مأخوذة بتصرف من الكتب الآتية:
1 / كتاب (المسؤولية الجزائية في الآداب الآشورية والبابلية) للكاتب جورج بوييه شمّار، ت – سليم الصويص.
2 / كتاب (بدائع الزهور في وقائع الدهور) للكاتب: محمد أبن أحمد بن اياس الحنفي.
3 / كتاب (عقائد ما بعد الموت)، للكاتب: نائل حنون.
4 / كتاب (المقام العراقي)، للكاتب: هاشم محمد رجب.
5 / (الانسانية والوجودية في الفكر العربي) لعبد الرحمن بدوي- دار القلم – بيروت /لبنان / سنة 1982 م.