بعد أن موضع محرر (الكلمة) في العدد الماضي جائزة الكاتب الصيني البديع مو يان في سياقها الراهن، وهي أول نوبل صينية خالصة، وقدم للقارئ تجربته في الواقع الثقافي الصيني، وأقام عددا من التناظرات بينها وبين جائزة نجيب محفوظ وسياقاتها، يسعى في هذا العدد إلى إدخال القارئ إلى قلب عوالمه الروائية الصينية المدهشة.

عوالم مو يان الروائية المدهشة

مو يان والأدب الصيني الجديد (2/3)

صبري حافظ

قبل أن اواصل في هذا العدد(*) تقديم بعض أعمال الكاتب الصيني البديع، مو يان، الذي فاز مؤخرا بجائزة نوبل للآداب للقارئ، أحب أن أعود إلى مسألة مهمة في السياق الثقافي الصيني، وهي تتعلق بتصنيف أحد أكبر أعلامه، وهو لو صن Lu Xun (1881 – 1936)، رائد الأدب الصيني الحديث بإجماع الثقات في التأريخ له، لظاهرة نعرفها جيدا في أدبنا العربي منذ أن كتب أحد أبرز رواده أيضا، محمد حسين هيكل (زينب)، وهي ما يدعوها بظاهرة أدب الموطن المحلي Native-Soil Literature وهو الأدب الذي يكتبه الكتاب الصينيون «الذين يقيمون في العاصمة أو شنغهاي عن مشاعرهم تجاه موطنهم الريفي الأصلي، الذي تركوه خلفهم، سواء أكانت كتابة ذاتية أو موضوعيه. فإن ما يكتبونه هو أدب الموطن المحلي. لأنه أدب لا يكتب عن الواقع، بقدر ما يستدعى واقعا قد لا يكون له أي وجود عند الكتابة عنه. فحينما يستدعي كاتب ابتعد عن موطنه الأصلي، جبرا أو اختيارا، حديقة منزل أبيه، فقد لا يكون لهذه الحديقة أي وجود ساعة الكتابة، وقد تكون اختفت للأبد. ولكن استدعاءها يهدهده ويعزيه، أكثر مما يعبر عن شيء حقيقي موجود.»(2)

وقد ظل هذا التعبير الذي صكه لو صن عام 1935 يطارد كل من يكتب عن الريف الصيني لأمد طويل. حتى أدار كتاب الحداثة الصينية المعاصرين حوارهم التناصي المهم معه، ومع عدد كبير من أعمال لو صن وروءاه الناقدة لنهنهات الحنين الرومانسي للريف البعيد. وقد مر هذا الأمر بمرحلتين أساسيتين: جسدت أولاهما حركة كتاب الحداثة في شنغهاي، وتفجيرهم الحساسية الواقعية التقليدية من الداخل، و طرح تنويعات جديدة عليها تحررها من تلك النهنهات: من الواقعية الغنائية النقدية critical lyricism إلى مفهوم آخر صاغه أحد أبرز كتاب تلك الحداثة وهو شين كونجوين Shen Congwen (1902 – 1988) وهو مفهومه عن الحنين الخيالي imaginary nostalgia، أو الحنين المفجر للخيال بمعنى أدق، والذي يرجع إليه أحد الباحثين الفضل في زرع كل البذور التي نبتت منها كتابات مو يان وسونج زيلاي Song Zelai ولي يونجبنج Li Yongping وغيرهم من كتاب ما يدعوه بحصاد المحلية الجديدة والمختلفة جذريا عن محلية كتابة العودة للموطن المحلي، ونهنهات الحنين الرومانسي السارية فيها.(3) وهي المدرسة التي عرفت فيما بعد، خاصة مع إبداعات عدد من كتاب القصة القصيرة كان على رأسهم مو يان وجيا بنجوا Jia Pingwaa  وزينج وانلونج Zheng Wanlong  وغيرهم، بمدرسة «العودة إلى الجذور»، أي إلى مناطق الريف الصيني المهمشة والمغيبة عن عوالم الأدب، والتعبير عن غرائب الحياة القديمة فيها وأساطيرها وأعرافها وخيالاتها، التي أسست بطريقتها الفريدة لواقعيتها السحرية الخاصة. وقد كتب مو يان الكثير من هذه القصص التي تدور في مقاطعة جاومي Gaomi التي ولد وعاش فيها، وفي عوالم جيش التحرير الشعبي الذي التحق به منذ العشرين من عمره.(4)

«الذرة الصينية» رواية العودة إلى الجذور:
لكن الرواية التي تتجلى فيها ملامح كتابة العودة للجذور، والتي جلبت له الشهرة، وكرست مكانته كواحد من أبرز كتاب جيله هي روايته الثالثة أو الرابعة ربما، فليس ثمة معلومات دقيقة بعد عن كل مؤلفاته، (عشيرة الذرة الحمراء Red Sorghum Clan) عام 1987، وفي بعض ترجمات العنوان (الذرة الحمراء). والذرة الصينية Sorghum، أو الذرة الرفيعة كما ترجمها البعض، هي الزراعة الرئيسية في المحافظة التي جاء منها مو يان، وهي عماد الحياة فيها. ويصف مو يان حقولها في هذه الرواية بأنها «بحر من الدم اللامع المتألق الذي يشكل الروح التقليدية للمنطقة». حيث تستخدم حبوبها الصغيرة والتي تنمو في عناقيد مثل عناقيد العنب أو مثل سباطة البلح، وليس ككيزان الذرة التي نعرفها، في عمل الخبز و«الشعرية» الصينية وهي الغذاء الأساسي، كما تستخدم أيضا في صناعة مشروب كحولي صيني بامتياز، بينما يستخدم النبات نفسه علفا للماشية، لذلك توشك عشيرة هذه الذرة الصينية بامتياز أن تكون استعارة شفيفة للصين نفسها، أو لعالمها الفلاحي، خاصة وأن الرواية تقيم تناظرا بين طول عيدان الذرة الصينية الحمراء وأصالتها واستقامتها، وطول أسلاف الراوي وقوتهم، وتميزها عن الذرة الهجين الوافدة من جزيرة هاينان والتي تشبه أوراقها الخضراء الثعابين السامة. وهذا هو سر نجاحها، واستجابة الكثير من القراء لرؤاها، إذ وجدوا أنفسهم وتواريخهم المنسية فيها. وقد تحولت في العام التالي لصدورها إلى فيلم ناجح، فاز بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي عام 1988.

لكن أحد أهم عناصر نجاح هذه الرواية هو اختلافها الجذري مع روايات الواقعية الاشتراكية التي سادت في زمن ماوتسي تونج. وقدرتها في الوقت نفسه على الكشف عن البنية التحتية للمرحلة الماوية من تاريخ الصين الحديثة، وتعرية كل تناقضاتها بشكل مراوغ. وهي من هذه الناحية رواية إشكالية من حيث موقفها من التاريخ الذي تسعى في الظاهر لإدانته، بينما تحتفي استراتيجيات السرد بصلابته وتغلغل تأثيراته في الثقافة التحتية من ناحية، وفي تكوين الموروث الثقافي المحلي من ناحية أخرى. كما أن ظلال المفهوم الأبوي الكونفشيوسي التقليدية تتحول فيها إلى مصدر الغواية الأخلاقية لعالم مألوف وقادر في الوقت نفسه على طرح بديل أخلاقي لحاضر الصين المتوتر الممزق بين نزعات السوق اللاأخلاقية وسعار النزعة الفردية والكسب السريع والحنين لماضٍ وديع يتناءى بأخلاقياته المثالية، وصراعاته الدموية المضمخة بالشبق والثأر والدمار. وخاصة من خلال تصويره لشخصية الجدة ومغامراتها الجنسية التي تتخلق عبرها البنية التراتبية للمرحلة، والنقد المضمر لها في آن. وإن كان مو يان قد مرر ذلك كله عبر مفارقات التجاور بين التقليدي والحديث، وبين الغرب والشرق والسخرية منهما.(5)

وتتكون الرواية من خمسة أجزاء «نبيذ الذرة الصينية»، و«جنازة الذرة»، و«طريق الكلب»، و«الميت الغريب»، و«الذرة الحمراء». وهي اشبه بالملحمة التاريخية التي تغطي أربعين عاما من تاريخ الصين، وتدون تاريخ عشيرته المنسي، أو تكتب التواريخ التحتية لمنطقته الريفية المتميزة والمهمشة معا، بحكاياتها الشيقة وفولكلورها الثري، وخيالاتها الجامحة. فبقدر ما هي رواية عشيرة ما بأجيالها الثلاثة، فهي في الوقت نفسه رواية مرحلة تاريخية متميزة، ومنطقة فريدة من مناطق هذا البلد الشاسع الذي تتعدد فيه الثقافات والجغرافيات. لأن ما تكتبه الرواية ليس التاريخ الرسمي الذي تخصص المؤرخون الحزبيون في كتابته، حتى جف وصار من المحفوظات الممجوجة، وإنما تاريخ البشر البسطاء المنسي، والمثير للتهكم والسخرية والإعجاب معا من خلال كتابته لقصة ثلاثة أجيال من أسرة ريفية في شمال شرق الصين. لكن قصة هذه الأجيال الثلاثة مكتوبة بشكل تزامني، وليس بأسلوب التتابع التقليدي لرواية الأجيال. لأن الرواية تعتمد معا على تقنيتي الاسترجاع والاستشراف flashbacks and foreshadowing لأن مرتكزها الرئيسي ليس الزمن وإنما الإنسان، فكما تتزامن فيها الأجيال تتجاور فيها البطولات مع النذالات، والفضائل مع الرذائل والصبوات الحسية. لأن هدفها هو أن يبدو أبطاله أشخاصا من لحم ودم، يختلط فيهم الخير بالشر، والحكمة بالسذاجة، والحب بالرغبة في الانتقام، والعنف بالشبق لمتع الحياة. ولكن يظل حبهم للوطن ورغبتهم في تحريره من الاحتلال دافعهم للجلد والحياة. فلمو يان جملة شهيرة، توشك أن تكون مفتاحا لفهم جل الشخصيات التي يكتبها وهي «إن حكمة الإنسان محدودة، ولكن حماقاته لا تعرف الحدود».

وتبدأ الرواية عام 1939، بعد عامين من اندلاع الحرب الصينية اليابانية الثانية (1937 – 1945) وكانت الأولى قد دارت (1894 – 1895). وكان شمال شرق الصين كله، بما فيه محافظته، شاندونج، قد وقع تحت الاحتلال الياباني، وتستمر إلى ما بعد وفاة ماوتسي تونج. تبدأ الرواية في ذروة فترة الاضطرابات التي عاشتها الصين عقب الغزو الياباني، وبدايات الحروب التي لم تنته إلا بالزحف الكبير أو الطويل، وتأسيس الصين الشعبية. ويرويها راوٍ عن المرحلة التي شارك فيها أبوه حينما كان صغيرا، أي الأب دوجوانDouguan ، في حرب التحرير تلك، وانضم وهو في الرابعة عشرة من عمره إلى إحدى عصابات الإغارة على المدن، أو فرق مقاومة اليابانيين، التي تزعمها أبوه الريّس يو زهانآوYu Zhan’ao ، أي الجد، والذي يرسله في مفتتح الرواية كي يجلب الطعام من أمه، الجدة فينجليانGrandma Fenglian ، للفرقة. فأنت لا تعرف حقا الفرق في هذه الرواية الساخرة بين قطاع الطرق وعصابات الإغارة على المدن، وبين فرق مقاومة اليابانيين الوطنية.

ويمتزج هذا كله في الرواية بشتى صور الحياة الحسية: الحياة والموت معا. الحياة بكل لذاتها الصغيرة منها والكبيرة، لأن الطعام والشراب هو أحد أدوات تكوين العالم السردي في هذه الرواية، ومعه الحب والجنس كذلك، لأن قصة الجد مع الجدة تبدأ بالحب حينما وقع الجد في غرامها، مع أنها كانت عروس ابن صاحب مصنع الخمر في المنطقة. وهو الأمر الذي لم يمنع الجد من إقامة علاقة غرامية معها، حيث كان يضاجعها خلسة في حقول الذرة الصينية، قبل التخلص من زوجها، واستمرت علاقته معها خارج إطار الزواج التقليدي بعد موت زوجها، بالصورة التي يعد معها الأب دوجوان، الذي وضع الأب بذرته في حقول الذرة (وللبذرة Zhong/ السلالة/ الأصل/ العرق دلالاتها المتشعبة في الفكر الشعبي الصيني) ابن الحب المشتعل، أو بالتعبير العربي «ابن حرام»، وإن افتقر هذا الأمر إلى الدلالات السلبية الحادة في السياق الصيني. لأن دلالة كونه ابن الحب في حقول الذرة تفوق في الرواية أي دلالة أخرى على مستوى التأويل السردي والارتباط العضوي بالأرض. هذا فضلا عن أن الموت/ الوجه الآخر للحياة هو أحد الخيوط البارزة في نسيج هذه الرواية، سواء أكان الموت قتلا أو جوعا أو حتى نتيجة مهاجمة قطيع من الكلاب الضارية، فهو أحد الألحان الرئيسية في هذه الملحمة ذات الخيوط السردية المتعددة.

ولأن الابن هو الذي يروي الحكاية بعدما كبر، ويبدأها من فترة صبا أبيه الذي وضع الجد بذرته Zhong  في حقول الذرة، فإنه يعرف مستقبل ما يرويه من أحداث، بصورة تمكنه بيسر من الانتقال الحر بين الأزمنة: هبوطا من الحاضر إلى الماضي، وصعودا منه إلى المستقبل في بنية روائية شيقة تستخدم ببراعة ما أود دعوته بتقنيات الاستطرادات السردية التي تتوالد فيها الحكايات بعفوية دون أن يحكمها منطق التتابع السببي. لأن الابن يعرف مآلات كل ما يرويه من حكايات، ولا يطيق الصبر أحيانا على الحكاية حتى تكتمل أو تصل إلى المنعطف الذي يريد أن يحكيه لنا، بل يقفز منها إلى مستقبلها، أو إلى ما أثارته فيما بعد من عواقب. وتتيح له هذه الحرية في الحكي أن يتحرك بيسر في الزمان، منتقلا من الحاضر للماضي، ومن الماضي إلى المستقبل، دون أن يقطع خيط السرد المتدفق في سلاسة. وإن كانت هذه التقنية المراوغة لا تصرف الكاتب عن هدفه الأساسي، وهو كتابة رواية تحكي تاريخ أسرته من ناحية/ وتاريخ منطقته الريفية جوامي في شمال شرق الصين من ناحية ثانية/ وتاريخ الصين نفسها على مد فترة طويلة وحرجة من تاريخها من ناحية ثالثة.(6)

إنها ملحمة تاريخية، تكتب تاريخ الوجع الصيني الفريد مع الاحتلال الياباني أولا، ثم مع السنوات الأولى من الحكم الشيوعي ومعاناة الفلاحين في هذه الفترة، وبدايات تأسيس بيروقراطية الحزب في الريف الصيني. وتطرح تناقضات هذا التاريخ غير المكتوب، وغير المهتم به، بوقائعه التي توازي التاريخ الرسمي وتحيل بشكل مراوغ عليه، وأساطيره العامرة بالجن والأشباح، في مواجهة المتخيل الوطني الرسمي الذي يحيط مسيرة الصين التاريخية بهالة من القداسة والجمود. وتسخر من هذا المتخيل وهي ترويه في مسيرة النضال المضطربة ضد الغزو الياباني والكاشفة عن كل تناقضات الواقع السياسي وقتها. حيث تختلط بطولات المقاومة بنذالات قطاع الطرق، وحكمة المحاربين الأشاوس بسذاجة الفلاحين البسطاء، وشجاعة الفرسان بجبن الخائفين ومكرهم. لكن الرواية تكتب أيضا بعد هذا كله، أثر المعجزة الصينية والتحول إلى اقتصاديات السوق على الريف، وأوجاع التحول من الاقتصاد الاشتراكي الملتزم بالعدالة الاجتماعية، والذي تمتع فيه بيروقراطيو الحزب بالنفوذ والسلطة، إلى اقتصاد السوق الذي يعصف بالضعفاء ومن يتمسكون بالأخلاق والمثاليات، لصالح نهازي الفرص ومن لا خلاق لهم. ويزعزع سلطة البيروقراطية ومندوبي الحزب القديمة، لصالح بنية الفساد القوية الجديدة المدعومة بسطوة المال الجديد وأبهة الفجور والدعارة.

وستظل أبهة الفجور والدعارة من الاستعارات التي يستخدمها مو يان في أكثر من رواية تالية لتجسيد عملية مسخ القيم والأخلاقيات التي نتجت عن التحول السريع، والمدمر أحيانا، نحو اقتصاد السوق. ورؤية المهمشين الذين يقع عليهم وزر هذا التحول ويعانون أوجاعه. فقد تواصلت روايات مو يان، الذي تفرغ كلية للكتابة، وأصبح عضوا بارزا في اتحاد الكتاب، وصار قبل أعوام نائبا لرئيسه، فصدرت روايته (مواويل الثوم The Garlic Ballads) عام 1988. وهي رواية تحكي قصة ثلاث عائلات تشارك في التمردات الفلاحية المناهضة لفساد الإدارة المحلية وتهتك نخبتها. من خلال ثلاث شخصيات أساسية: بطلان يمثلان طريقتين مختلفتين في مقاومة هذا الفساد، والتصدي لتجلياته المختلفة، ولكنهما يدفعان ثمنا باهظا لذلك، وإن استطاعا البقاء دون الانتصار. فإن الشخصية الثالثة وهي بطلة الرواية الأساسية التي تتطلع للحصول على حريتها الجنسية ضد قهر الأب والأخ وضربهما المستمر لها، ينتهي بها الأمر إلى الانتحار. وقد قدمت هذه الرواية بوادر ما تسميه بوني ماكدوجل في مقال لها عن الرواية الصينية المعاصرة،(7) بالكرنفالية التهويلية  Carnivalistic Grotesqueوهو تنويع صيني اشتقته من مصطلح ميخائيل باختين الأصلي عن الكرنفالية، لترصد به تلك الغرائبية التي تتحقق من خلال الإسراف في السخرية والهزء في السرد، مع السامي والمقنن في الكتابة التي تلجأ إلى وضع أبيات من الشعر الكلاسيكي الصيني الراقي في مفتتح الفصول، بينما تكتب في متنها عن المنحط من السلوكيات الحسية المفرطة والأجساد الممزقة والحشرات والفضلات وأوجاع الهوان، التي يقع عبؤها على عاتق الفلاحين من ممارسات السلطات المحلية أو نتيجة للعنف الموجه ضد الذات. وهذا كله في تعارض واضح مع الاتساق والنظافة التي تتسم بها نصوص الواقعية الاشتراكية السابقة عليه في الأدب الصيني. وفي محاولة لتخليق صياغات سردية جديدة قادرة على استيعاب تهاويل الواقع وتناقضاته وغرائبياته.

الهروب إلى التاريخ وقضية الهوية المعقدة:
ولكن سرعان ما وقعت أحد أكبر مظاهرات الغضب الصينية والتي استمرت لأيام وبلغت ذروتها في الرابع من يونيو 1989 والمعروفة باسم أحداث ميدان تيانانمين. فبدأ بعدها مو يان الهروب إلى التاريخ، فنشر عام 1990 قصته «الخطاب المقدس Divine Discourse» التي تتناول العادات الغريبة لأحد كبار ملاك الأرض قبل ثورة 1949، وممارساته السيريالية في الريف الصيني، في نوع من الكتابة التي يتهرب فيها من مواجهة توترات ما بعد أحداث تيانانمين من ناحية، ويؤسس لقواعد سرد وتلقٍ جديدة يدرب القارئ فيها على تلقي شفراتها السردية. وهو الأمر الذي ذكرني بما فعله نجيب محفوظ في مرحلة الستينيات الناصرية من ناحية، وسيرياليات «تحت المظلة» وما بعد النكسة من ناحية أخرى. ثم نشر عام 1993 قصة «الشفاء The Cure» التي تدور في أربعينيات القرن الماضي أيضا، وتتناول الاختفاءات الكثيرة والمريبة والتي كانت تنتشر أخبارها في كل أرجاء الصين، والإشاعات التي تتردد بعدها عن قتل المختفين واستخدام أعضائهم في عمليات نقل الأعضاء التي انتشرت في التسعينيات. ولأن هذه القصة تقيم تناصاتها مع قصة شهيرة للو صين بعنوان «الدواءYao » من أجل توسيع آفاق أو مستويات القراءة فيها. فيمكن قراءتها على أنها تتناول مرحلة القهر والاعدامات التي انتشرت في ثمانينيات القرن الماضي.

وقد كانت رواية (أرض الخمرLe Pays de Alcool ) أو (جمهورية النبيذ The Republic of Wine) حسب الترجمة الانجليزية للعنوان عام 1992، هي الرواية الأولى له بعد أحداث ميدان تيانانمين الشهيرة عام 1989، وقد صادرتها السلطات، فنشرها في تايوان. حيث صُرّح وقتها للكتاب المقيمين في الصين بنشر كتبهم في الخارج في تلك الفترة، وإن لم يتم رفع الحظر عن مؤلفات الكتاب الصينيين في المنفى. وسوف نعود لهذه الرواية بشيء من التفصيل بعد قليل. ثم نشر بعدها (أثداء كبيرة وأرداف ثقيلة  Big Breasts & Wide Hips) عام 1995، والتي حصل عليها في العام التالي 1996 على جائزة «الكتاب الكبرى»، ولكنها صودرت هي الأخرى لأنه تجاوز فيها كتابة تاريخ المنسيين والمهمشين إلى تناول شيء من التاريخ الرسمي وإشكاليات الهوية. حيث يغطي السرد فيها مرحلة طويلة من تاريخ الصين تمتد لما يقرب من تسعين عاما، من السنوات الأخيرة لأسرة كينج (انتهت عام 1911 وأخرج بيرتولوتشي فيلما جميلا عن إمبراطورها الأخير) وتستمر إلى ما بعد موت ماوتسي تونج، والإصلاحات الاقتصادية في تسعينيات القرن الماضي. من خلال امرأة، شانجوان لو شي Shangguan Lu Shi، هي بطلة الرواية المركزية ومركز السرد فيها تسعى لإنجاب ولد، ولكنها تنجب ثماني بنات متتابعات قبل أن يجيئها الولد الوحيد في نهاية المطاف، شانجوان شوكسي Shangguan Shouxi، من حداد محلي، لاحظ دلالات مهنته على الزواج القلق بين الريف وبذور الصناعة الوليدة.

وهي رواية تقدم من خلال شخصية هذه المرأة الجبارة، التي تنجب أبناءها خارج مؤسسة الزواج، وتعاني من العنف، رؤية امرأة فريدة لتاريخ لا يقل عنفا وفرادة عن حياتها اليومية، بصورة توشك معه أن تكون استعارة شفيفة للصين ذاتها وخيباتها المستمرة في إنجاب الولد/ أقرأ النظام/ الذي تشتهي إنجابه. كما أنها رواية تطرح المرأة مرتين (من خلال هذه المرأة/ الأم/ الأرض/ الوطن مرة، ومن خلال كنتها زوجة هذا الابن المشتهى التي ستنجب راوي النص الخلاسي أخرى) كموقع للعنف الجسدي، حيث يحمل جسدها جراح التواريخ ومشاكل المجتمع الأبوي الصنين المعقدة، وكمؤسسة لنظام أموي في مواجهة النظام الصيني الأبوي بامتياز. وهو ما أدى إلى مصادرة الرواية في الصين، لسببين: أولهما أنها تخلت عن الانطلاق من المصادرة التقليدية بأن كل ما فعله الحزب الشيوعي الصيني خير وكل ما قام به الكومنتانج، الذي انهزم في الحرب الأهلية وفر زعيمه لفرموزا (تايوان) شر. كما أنها اعتبرت رواية مغرقة في الحسية وتنتهك المحرم الجنسي، بسبب عرامة تلك المرأة القوية وحسيتها، وهو الأمر الذي ستواصله كنتها وإن بدوافع مغايرة، ليس أقلها عقد النظام الأبوي وعنفه المستمر ضد المرأة. فطبعت في هونج كونج وترجمت لأكثر من لغة، وقدمت ما يمكن دعوته على صعيد التأويل لعوالمه السردية الجانب الآخر من قضايا التاريخ والجنوسة والذي يكمل ما طرحته روايته (الذرة الصينية الحمراء).

وقد أثارت هذه الرواية الكثير من ردود الفعل بالرغم من فوزها بتلك الجائزة الكبيرة، وقيمتها مئة ألف يوان أي أكثر من 16 ألف دولار، بدءا من عنوانها ذاته، الذي اعتبره المحكمون في الجائزة عاميا وغير موفق ويستهدف استقطاب القارئ بشكل تجاري، ولكن مو يان رد عليهم بمقال يشرح فيه كيف أنه استقاه من المعيار الجمالي الذي تجسده أمه وتعجب به نساء بلدته من ناحية، ومن تمثال صخري قديم وجميل في منطقته لامرأة تجسد المرأة/ الأم/ الأرض من ناحية أخرى. لأن هدف هذه الرواية الاساسي كان الاحتفاء بالأم وبالأرض معا. وبالفعل نجد أن المرأة / الأم هي مركز السرد في هذه الرواية، وأن قضية المرأة في مجتمع أبوي له خصوصياته الثقافية كالصين، كجسد وجنوسة هي قضيتها الأساسية. حيث تجد «شانجوان لو شي» نفسها هي المسؤولة عن أسرتها الكبيرة بعد أن يجهز جيش الغزو الياباني في إحدى مجازره على زوجها وحماها وجل رجال القرية في الثلاثينيات. وتعصف المجزرة بعقل حماتها، فتجد المرأة الشابة وقتها نفسها هي عائل هذه الأسرة الكبيرة وحاميها وأمها/ الأرض معا. وتصبح في مستوى من مستويات التأويل السردي نموذجا للنظام الأمومي Matriarchy وللأم/ الأرض التي تجسد المعاناة والجلد والتفاني والتضحية والغيرية، ولكنها تجسد في الوقت نفسه الخصب والنماء والاحتفاء بالحياة والشبق للذتها وعرامتها وتذكرنا بالجدة في (الذرة الصينية الحمراء).

موقع الراوي وإشكاليات الأنا والآخر:
وتشترك هذه الرواية مع (الذرة الصينية) في موقع الراوي الإشكالي فيها، لأن راويها يشعر هو الآخر بأنه غير جدير بتاريخ أسرته المجيد الذي يرويه. فراوي هذه الرواية الطويلة بضمير المتكلم أحيانا، وضمير الغائب أخرى، هو الحفيد أيضا، ولكنه هذه المرة هو الابن غير الشرعي لولدها الوحيد، شانجوان شوكسي، وهو على العكس من كثير من أبناء الأم بالمصاهرة، ابن خلاسي هجين: أشقر بعيون زرق يطرح وجوده ذاته أحد أكثر إشكاليات الرواية/ والصين معها تعقيدا، وهي إشكالية الهوية الأبوية الصينية النقية، والعلاقة المعقدة مع الغرب في آن. صحيح أن الأم/ الأرض/ شانجوان لو شي قد أصبح لها عبر أزواج بناتها الثمانية أبناء/ أصهار كثيرون، تسجل عبرهم الرواية تاريخ الصين الحافل بالعنف والدمار، وصراعات ابناء الأسرة الواحدة ضد بعضهم البعض: من الاحتلال الياباني الذي تعاون معه زوج ابنتها الأولى، إلى المقاومة الشعبية الوطنية له، والتي انخرط فيها زوج الابنة الثانية، فقتل بدوره زوج الأولى الخائن، المتعامل مع الاحتلال الياباني. بينما اسر اليابانيون خطيب البنت الثالثة، وبقي في اليابان أعواما بعد هروبه ممن الأسر، حتى عاد، ليثبت فحولته في جسد البنت الأولى التي خان زوجها الصين ولقي حتفه جزاء ذلك، وكان على جسدها أن يكون الأرض التي ترد لمن أسره اليابانيون رجولته وثقته في ذكورته/ رديف صينيته. وصولا إلى الحرب الأهلية التي اعقبت هزيمة اليابان، وانضم فيها زوج الخامسة إلى الحزب الشيوعي، وحارب مع ماوتسي تونج في زحفه الطويل ضد الجيش الوطني، بقيادة شنج كايتشيك المتحالف وقتها مع الأمريكان، فقتل الصهر الوطني الذي قتل من قبل المتعامل مع الاحتلال الياباني، وهكذا في دائرة من العنف الدموي داخل الأسرة الواحدة. وهي الأسرة التي تحيطها الأم/ الأرض/ الصين بحبها لهم جميعا، برغم شقاق البنات وصراعاتهن، بعدما انحازت كل منهن بالطبع لخيارات زوجها.

لكن يظل للحفيد الذكر الوحيد، الذي جاء من ابنها الذكر الوحيد، والمرشح لحمل اسم شانجوان وتخليده عبر الزمن دلالات رمزية. فقد تزوج ابنها الوحيد شانجوان شوكسي من امرأة صينية جميلة ذات اثداء باذخة هي لو زوانر  Lu Xuaner ولكنه أخفق في الانجاب منها لسنوات ثلاث. فطاردتها الأم والزوج بتهمة العقم والإخفاق في تزويد الأسرة بالذكر الذي يخلد اسمها ويحفظه من الضياع. فحاولت عمتها مساعدتها بتحليل أثبت أن الزوج هو العقيم، لكنها لم تستطع مواجهة أسرته بالحقيقة، فقررت أن تنجب له الأبن الذي يريد بمضاجعة رجال آخرين من القرية، بدءا بخالها ومرورا بجزار للكلاب، وببلطجي، وبحرفي شاب وحتى براهب القرية. غير أن القدر واصل عناده لها، إذ كانت تنجب له، وكأنها تكرر قصة الأم، البنات الواحدة تلو الأخرى، حتى بلغ عددهن سبع بنات. فاستمر اضطهاده لها وضربه إياها، حتى دفعها القهر مرة إلى الذهاب للكنيسة والارتماء في أحضان مبشر سويدي بها، فحملت في توأمين: ولد وبنت، لكن لسخرية المفارقة ومرارتها، نجد أن الولد الذي جاء أخيرا ليواصل استمرار السلالة الأبوية الصينية التي يبحث عنها الزوج وأمه معا، جاء خلاسيا أشقر وبعيون زرق. ليطرح إشكالية الهوية وعلاقة الصين المعقدة بالغرب، ويهدد النظام الأبوي الصيني نفسه، ويبرز عدم قدرته على تخصيب المرأة/ الأم/ الصين لإنجاب الابن/ الصين.

لأن الذي وضع بذرة Zhong هذا الابن، على العكس مما جرى في (الذرة الصينية الحمراء) هو الغرب الذي تتوق إليه الصين، وترتمي في أحضانه ابنتها المضطهدة الجميلة، وتستهجن بل ترفض علاقتها به في الوقت نفسه. ومع أننا نعرف قرب نهاية الرواية، أن كل بنات لو زوانر غير شرعيات، مثلهن في ذلك مثل زوجها نفسه، إلا أن مظهرهن الصيني جعلهن شرعيات بالضرورة. ولكن مجيء الذكر أخيرا، وهو الحدث الذي اختارت الرواية أن تبدأ سردها به، وأن تجعل ولادته متعثرة صعبة، وأن تقيم بينها وبين ولادة حمار الأسرة لبغل هجين، توازيا دالا في بداية الرواية. ويزداد الأمر إشكالية حينما تربط الرواية بين ميلاد الحفيد الهجين، وبمساعدة طبيب ياباني لمرارة المفارقة، وقتل اليابانيين للأب والجد معا وكل ذكور العائلة، بل القرية، عقب الميلاد. كي يصبح هو الذكر الوحيد الباقي في العائلة. بينما يترك اليابانيون القس السويدي حيا، لأنه أجنبي. لكن حياته لن تستمر طويلا، وإنما ستنتهي في يوم بالغ الدلالة أيضا، وهو يوم التسمية، أي اليوم المئة بعد ميلاد الطفل في الطقوس الصينية. لأن جماعة من المقاومين/ قطاع الطريق الصينيين سوف تهاجم الكنيسة وتجهز عليه وتغتصب الأم/الأرض وقد ذهبت إليه يوم تسمية التوأمين، أي في موعد طقس التسمية، والتي كان القس مزمعا أن يحيله إلى طقس تعميد لابنه.

لكن مقتله بعد أن اطلق المقاومون النار على ساقيه، فصعد إلى برج الكنيسة وألقى بنفسه منه منتحرا، لا يحدث إلا بعد، وربما من أجل، تعميد ابنه بالدم على طريقته، وكتابه اسمه بدمه على جدران البرج قبل أن يلقي بنفسه منه، وتسميته لكل من التوأمين بأسماء صينية خالصه. إذ دعا الابن جينتونج أي الولد الذهبي Jintong (Golden Boy)، كما سمى البنت يونوYunü ، وهي الأسماء التي ستمنحها الجدة لكل منهما على كل حال، والتي سيكشف السرد أن لها لمرارة المفارقة الساخرة دلالات تناقضية على مصائرهما. لأن هذا الولد الخلاسي، جينتونج، لن يكون ولدا ذهبيا أبدا، وسيصبح أحد أكثر الشخصيات ثراءً وتعقيدا في عالم مو يان، وأكثرها عرضة للتأويلات المتناقضة. فقد جعله النص شخصية إشكالية بامتياز، وقدم من خلاله واحدا من أثرى النماذج الأدبية لهذا النمط الإنساني: الابن غير الشرعي، وهو من موضوعات الأدب الشيقة منذ هوميروس وصولا إلى ديستويفسكي مرورا بشكسبير وتشوسر وستندال.(8)

لكن مو يان لا يكتفي في هذا العمل بأن يجعل الابن، ذكر العشيرة، لا شرعيا فحسب، ولكنه يجعله خلاسيا كذلك ناتجا عن هذا اللقاء المعقد بين الصين والغرب. ولذلك فإنه على العكس من الابن غير الشرعي في النماذج الأدبية الشهيرة له، لا يتمتع بأي قدرات متميزة، بل لا يتمتع حتى بأبسط القدرات الطبيعية، إذ حرمه مو يان من أبسط الأمور، من أن يكون إنسانا سويا، وكأنه لا يريد أن ينتج مشروع التزاوج بين الصين والغرب أي شيء يهدد مفهوم الذكورة الأبوية الصينية. إذ لا يريد ذكره الخلاسي جينتونج على المستوى الرمزي الدلالي الاستعاري أن يشب عن الطوق، ويأبى الفطام، ويعاني من هواس أو وسواس التشبث بالثدي مصدر الطعام/ الحياة/ اللذة معا. فيعيش على الرضاعة، دون أن يدخل جسده أي طعام حقيقي حتى الثامنة عشرة من عمره. وكأن النص الأيديولوجي يؤجل نضجه، أو يمنعه من أن يصبح رجل العائلة، لأن بذرته ليست صينية. وهو الأمر الذي سيستمر حينما يحرمه النص أيضا من النضج الجنسي، ويجعل علاقاته بالمرأة أكثر إشكالية. سواء أتعلق الأمر بتلك الفتاة الروسية، ناتاشا، التي يراسلها بعدما تعلم الروسية، ثم يقع في غرامها حينما ترسل له صورتها الكاشفة عن ثدييها الثقيلين، أو بالمشرفة الشيوعية التي تنتحر لإخفاقها في غوايته والتي تؤدي بها للانتحار وبه إلى السجن لخمسة عشر عاما، فلا يخرج منه إلا بعد أن تجاوز الأربعين.

والواقع أن هذه الشخصية بالذات، ومعها الرواية بأكملها، تحتاج لدراسة مستقلة لا مجال لها هنا. حيث تمتزج فيها سياسات الهوية بإشكاليات الأنا والآخر، وآليات اخصاء الذات، بالهوس بغواية الأثداء الأنثوية ودلالاتها، وقضايا الأسلاف والأخلاف. وعدم القدرة على الفطام، بالعجز عن إقامة علاقة جنسية أو عاطفية سليمة. خاصة إذا ما درست بالتفاعل والتناظر مع شخصية هان دنجشان Han Dingshan خطيب البنت الثالثة الذي اسره اليابانيون، وبقي في الأسر أعواما كان همه الأساسي فيها هو الحفاظ على أعضائه الجنسية من الأذى، ثم هرب وغطى عورته ببلوزه نسائية يابانية حماية لأعضائه الذكرية، والرعب من عقدة الإخصاء، والتي تمتد لتصبح رمزا لإخصاء الصين، أو الإجهاز علي صينيتها نفسها. فهناك ارتباط قوي في الرواية بين الفحولة/ الرجولة والحفاظ على الحس الوطني. لذلك فإن هان لم يسترد رجولته إلا بعد البرهان على فحولته، مع البنت الكبرى، وليس مع الثالثة التي كان خطيبا لها. فسياسات الهوية في الرواية لا تنفصل عن سياسات الفحولة الجنسية فيها، ولا عن عملية الصراع المعقدة بين الأنا والآخر، الآخر الغربي أساسا، والاخر الياباني من بعده، والتي لا تقل في الأدب الصيني الحديث إشكالية عن مثيلتها في أدبنا العربي الحديث.(9)

مساخر المعلم «شيفو» مرثية ساخرة لزمن يتناءى:
بعد هذه الرواية جاءت روايته المهمة (مساخر شيفو Shifu, You’ll Do Anything for a Laugh) 1999 (ومساخر المعلم شيفو) هي أفضل ترجمة للعنوان الصيني بعد قراءتي لدراسة ألكسندر هونج الشيقة عنها، وعن مفهوم الكلمة المفتاحية في عنوانها youmo  والتي يصعب ترجمتها بالتهكم أو السخرية الانجليزية، ولذلك لجأ مترجم مويان إلى الانجليزية إلى هذا الحل التفسيري لها، ستفعل أي شيء لتثير الضحك، بينما الكلمة العربية مسخرة أو مساخر تغطي ما قال هونج إن الكلمة الصينية تعنيه، ولا تغطيه كلمات التهكم أو السخرية الانجليزية. فأقل ما توصف به توابع الخصخصة هو المسخرة. والرواية تحكي عن مسخرة أو مساخر نعرفها حقا في مصر ونعيشها كل يوم، في زمن الكذب والفساد والخصخصة. بل توشك في بعد من أبعادها أن تكون رواية عن أوجاع التحول من نظام القطاع العام، كما كان الحال في مصر حتى بداية الانفتاح الساداتي المشؤوم، إلى نظام الخصخصة وثراء القلة على حساب السواد الأعظم من البشر. لأنها تسجل لنا وبشكل تهكمي، أو تراجيكوميدي، يمزج بين خيط الدراما الاجتماعية الواقعية بأبعادها النفسية، وبين كوميديا المواقف العبثية التي تهتم بالتأمل والتعليق المستمر على الأحداث. تسجل الرواية آلام ضحايا التحول الصيني السريع من الاقتصاد الاشتراكي الرحيم، إلى اقتصاد السوق الرجيم. وما جره هذا التحول من متغيرات أخلاقية ونفسية على ضحاياه.

إذ يجد بطلها دنج شيكوDing Shikou  نفسه بعد عمر من التفاني الدؤوب في العمل حتى أصبح «شيفو»، أي معلما ورئيس وردية من العمال، عاطلا فجأة عن العمل دون ذنب أو جريرة. فقد استغنى عنه مصنعه قبل سنوات قليلة من بلوغه سن التقاعد، وهو في منتصف الخمسينيات من عمره، لأن المصنع يتحول لآليات السوق الجديدة. وسوف ينتج من أجل التصدير مراحيض آلية سابقة التجهيز من النوع الذي يستأدي من يستخدمها الثمن مقدما. ويجد البطل نفسه فجأة في هذا العمر الذي لا يستطيع معه بداية حياة جديدة، أو التأقلم مع المتغيرات المدوخة للتحول الاقتصادي، وسط عالم عبثي غريب. عالم اقتصاديات السوق القاسية، والاستغناء عن العمال من خلال التأكيد المستمر على احترام حقوقهم، وتقدير تضحياتهم. حيث يؤكد له الجميع، من مدير المصنع إلى نائب العمدة ومسؤول الحزب، وعبر خطب تجلب الدموع إلى عينيه، أنه «شيفو» مثالي ولن يستغني المصنع عنه أبدا. حتى ولو لم يبق فيه إلا عامل واحد فسيكون هو هذا العامل. ومع ذلك يحال للتقاعد المبكر، وهو لا يستطيع أن يستوعب منطق السوق الجديد، ولا التمييز بين من يكذب عليه، ومن يصدقه القول.

ويتأرجح دنج، في لحظته الجديدة التي انسحبت فيها الأرض الصلبة من تحت قدميه، بين الماضي الذي يبدو الآن مثاليا ونائيا، والحاضر الذي يحكمه منطق ثقافي مغاير، لا يستوعبه إلا صبيه الشاب لو زياوهوLü Xiaohu  الذي يقدر ما تعلمه منه من حرفية وعلم، ولكنه يسخر من كل شيء حوله، ويدعوه هو الآخر للاستهانة بما يحدث له. ولا يستطيع تصديق افتراضاته الأخلاقية الطالعة من عالم آخر موغل في القدم والمثالية، ولا علاقة له بمنطق العالم الجديد، أو المنطق المقلوب إذا ما أردنا الدقة في التعبير. فهو ابن عالم السوق والنمو الاقتصادي السريع، وبحث كل صيني يتوسم في نفسه القدرة والذكاء عن فرص للثراء السريع بأي شكل من الأشكال. ومن خلال إراقة «لو زياوهو» المستمرة لماء التهكم البارد على الموقف، يتجنب النص الوقوع في شراك الميلودراما أو السينتمنتالية الرخيصة.

وتتحول مأساة دنج إلى نوع من التراجيكوميدي المثير للتأمل والتفكير حول صدام عالمين ومنطقين أخلاقيين: منطق احترام العهود والضمير الأخلاقي والقيم الإنسانية القديمة من ناحية، وما تفرضه من حق العمل، وحق التقاعد الكريم، وحق الراحة؛ وذرائعية السوق ومتطلباته التي لا خلاق لها إلا الربح، ومضاعفة التصدير، حتى لو كان ما يصدرونه هو مراحيض سابقة التجهيز تستأدي من يستخدمها من أجل حاجة إنسانية أساسية الثمن مقدما. إن إنتاج المصنع للمراحيض سابقة التجهيز، بدلا من أدوات بناء البيوت القديمة، يكشف أيضا بطريقته الرمزية عن التدهور الأخلاقي لهذا التحول. فبدلا من انتاج مواد رخيصة لبناء البيوت التي توفر للإنسان البسيط حاجته الأساسية للمأوى، ها هو اقتصاد السوق يحول حاجة أساسية أخرى، هي التبول أو التبرز إلى وسيلة للإثراء السريع.

ولا تكتفي الرواية بهذه الاستعارة، ولكنها تربط، كما فعلت رواية (عشيرة الذرة الحمراء) بين هذا التحول والدعارة الفعلية والاستعارية معا. لأن الرواية وقد تدفع بطلها دنج المحاصر بواقع البطالة الأليم، بعد ان انفض مولد الخطب العصماء التي لا معنى لها، ووجد نفسه في الشارع بلا وظيفة بعد خصخصة المصنع، وتحوله لهذا النشاط المرحاضي الجديد، إلى مأزق مأساوي. وتكشف لنا عن كيف تتدهور حياته، وتراجع مستوى معيشته على المستويات الاقتصادية منها والاجتماعية، بصورة لم يعد فيها أمامه إلا أن ينخرط في نشاط جديد يدر عليه المال بأي حال حتى يدفع عن نفسه غائلة الجوع والهوان. فبعد أن عثر على هيكل أتوبيس قديم في الغابة، يجد أنه لو حوله إلى عش غرام يؤجره بالساعة، فإنه سيحل بذلك مشاكله الاقتصادية.

لكنه يشعر بالخجل من الأمر الذي لا يناسب كرامته كما يقول. غير أن صبيه القديم «لو» يزينه له، قائلا: ماذا بقي لعامل استغنى عنه مصنعه ليخجل منه؟! وهل ثمة كرامة لعاطل أو محتاج! ويبدأ دنج في تحديث هيكل الأتوبيس القديم وتجهيزه، ثم تأجيره للعشاق، أو لممارسة الدعارة لا فرق. ولكن مقاومته الداخلية للواقع الذي وجد نفسه فيه هي التي تهيء له أن اثنان ممن أجره لهما ماتا فيه، ويبلغ الشرطة التي ما أن تزور المكان حتى لا تجد أثرا لهما. فيفسر الأمر بأن روحاهما قد طارتا من المكان دون دفع الأجرة. أو أن ما رآه كان شبحيهما وليس جثتيهما كما توهم. لكن معرفة الشرطة بالأمر، وتدخلها فيه، ما تلبث أن تجر عليه متاعب من نوع جديد أقرب إلى استئداء الأتاوات العينية منها والمادية. وتتعقد الحبكة بصورة تمتزج فيها الخيالات بالوقائع، وتتفاقم المساخر والتعليقات. حتى يصبح معها عالم الخيالات والظلال أكثر واقعية من عالم الوقائع.

يقول لويجي بيرانديللو «يهتم الفنان عادة بالجسم، بينما يهتم الفنان الساخر بالجسم والظل معا، وفي بعض الأحيان يكون اهتمامه بالظل أكثر من الجسم، حيث يلاحظ كل تحولات الظل وتبدلاته، وكيف يتمدد كثيرا هنا أو ينبعج قليلا هناك. وكأنه يسخر من الجسم، الذي لا يأبه عادة بالظل ولا بتغير احجامه.» وهذا ما يقوم به مو يان، حيث يكشف لنا بطريقته المراوغة في التعامل مع تحولات الظلال عن مصدر الضوء الذي تتخلق نتيجة له. فما تجسده الرواية من تحولات اجتماعية واقتصادية وأخلاقية في حياة دنج، وتعامل صبيه «لو» معها بهذا الشكل التهكمي هي مجموعة الظلال التي تدفعنا للتفكير في مصدر الضوء الذي أدى إلى تكوينها السيريالي العجيب. دون أن تلجأ إلى أي من المبالغات الميلودرامية عن ضحايا التحولات السياسية، أو أوجاع التخلي عن الأخلاق والمبادئ الإنسانية، أو حتى المعارضة المباشرة للنظام الذي أنتج هذه المآسي. وإنما من خلال التهكم الشفيف الذي يكتفي بأن يعرض علينا ظلال تلك الأحداث وهي تتطاول أو تنبعج، ويترك لنا أمر التفكير فيها، والتعرف على طبيعة الضوء، أو الظلمة التي انتجتها.

 

ولازال في عوالم مو يان الروائية المدهشة الكثير مما يضيء فهمنا للصين ولأنفسنا وللعالم من حولنا في آن، سأواصل تناوله مع القارئ في العدد القادم.