تكشف الباحثة الجزائرية في هذه المقالة عن أثر هزيمة 1967 على الواقع السياسي والثقافي العربي، وتتناول بعض تأثيراتها على الرواية العربية التي كتبت بعدها، وتأثرت بصدمتها، فعادت إلى التراث تنقل عنه أو تستوحيه، في نوع من انكفاء الرواية على تراثها يناظر انكفاء الذات المهزومة على نفسها، تلوك جراحها.

الرواية العربية ونكسة حزيران1967

شهرة بلغول

كثيرا ما تلقي الأحداث السياسية و التاريخية بظلالها على الفنون عامة، وعلى الأدب بصفة خاصة، ولا نجد مثالا أدلّ على ذلك أبلغ من ظهور التيارات الأدبية كالكلاسيكية والرومانسية والواقعية، والفكرية كالوجودية والعبثية وارتباطها بأحداث سياسية مرّت بها أوروبا خلال القرون الماضية. وإذا ما عدنا إلى العالم العربي، فإن أهم حدث مرّ به وظلت تبعاته مؤثرة في مختلف المجالات قد تمثل في الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين بموجب وعد بلفور الشهير.

الهزيمة والواقع السياسي العربي:
لقد مرّ الصراع العربي الإسرائيلي بمراحل عديدة- إذا لم نقل هزائم- كانت أولها نكبة 1948 والتي سيطرت فيها إسرائيل على فلسطين وعملت على تهجير أهلها حتى صاروا لاجئين في الدول العربية المجاورة. لكن هذا الواقع لم يؤخذ بكل أبعاده ولم يع الإنسان العربي وطأته إلاّ بعد الهزيمة الساحقة التي منيت بها الجيوش العربية إثر حرب حزيران 1967 و التي يطلق عليها حرب "الأيام الستة"، ويصطلح العرب على تسميتها بالنكسة – لعله تطيرا من اسم الهزيمة-.

أرى أنه من غير المعقول أن نصف هول ما جرى وما تبعه من نتائج لازلنا نلمس أثرها ونتجرع مرارتها في واقعنا الحالي بمجرد كونها نكسة، إضافة إلى أننا لابد أن نسمي الأشياء بمسمياتها، إذ لا فائدة من تجاهل ما حدث ومحاولة تغليفه بمسميات عديدة تسعى في الكثير من الأحيان إلى التبرير والإيهام بما يرضي عروبتنا المهزومة. كما أنّ مصطلح "النكسة" يوحي دلالة بأن الفترة التي سبقتها كانت مرحلة نهضة شاملة و لم تكن الهزيمة إلا حدثا طارئا، والواقع أنني أرى عدم تطابق هذا التصور مع حالة الأمة العربية آنذاك ذلك أن الفترة السابقة للهزيمة- وعلى الرغم من النقاط البيضاء التي ميّزتها- كانت تتغذى وتنمو في سياق غير طبيعي، فالأنظمة العربية في تلك الفترة قد اكتسبت شرعيتها عبر ممارسة القمع والتسلط العسكري، فأغلبها إذا لم نقل كلّها قامت عن طريق الانقلابات العسكرية، وعملت على فرض سلطانها بالقوة مما أدّى إلى غياب الديمقراطية واتشار سياسات القمع ومصادرة الحقوق والحريات، فآذن تراكم مثل هذه الأوضاع بقرب وقوع الانفجار فكانت هزيمة 1967 نتيجة حتمية لما كان سائدا من أوضاع.

لقد أضافت هزيمة حزيران إلى الصراع العربي الإسرائيلي بطريقة مباشرة وجذرية أبعادا متعددة على الصعيد الاجتماعي وعلى المستويين العربي والدولي، فعلى الصعيد الاجتماعي كشفت عن فساد البنية الاجتماعية العربية التي تسأثر فيها السلطة بمختلف الامتيازات وفي المقابل ترزح الشعوب تحت وطأة الفقر لتتجرع كأس البؤس والحرمان ممّا ساهم في تضليلها وتغييبها عن ساحة هذا الصراع.

أمّا على الصعيد السياسي فقد أماطت اللثام عن فساد الأنظمة العربية التي غلب عليها الطابع العسكري –المخابراتي- والتي عملت على قمع الشعوب وإحاطتها بجو من الخوف الذي يستدعي خضوعها،ممّا أدى إلى انعدام التواصل الإيجابي بين الحكّام والرعية.

ينبغي في هذا المقام أن نشير إلى أنّ فترة الستينات قد اتسمت بسمات خاصة إذ "كانت ذلك العقد من السنوات التي شهدت آمالا عظيمة وإخفاقات فاجعة، إنجازات وإحباطات وطنية، أمجادا وآمالا وتغييرات عميقة المدى في العلاقات الاجتماعية لعلّها غير مسبوقة في التاريخ الحديث للمنطقة العربية من نحو التأميمات الكبيرة (...) وشخصية عبد الناصر الباهرة، وهو ما أكسب مصر والوطن العربي مكانة عالية. ومع ذلك أو على الأرجح بسبب من ذلك فإنّ سلطة النظام في مصر أصبحت مطلقة ولا منازع لها تقريبا، بل أصبحت نموذجا يحتذى في معظم البلاد العربية، وكان غياب المعارضة المشروعة، غيابا تاما ومفروضا من علِ، يتساوق مع خنق الديمقراطية"(1).

أمّا على الصعيد الدولي فقد كشفت الهزيمة عن أن أهداف الاستيطان التوسعية لم تعد محدودة في الاستيلاء على فلسطين وحدها، وإنّما امتدت لتهدد مصير الأمة العربية برمتها، كما أنّ طابع الحركة الصهيونية الاستعمارية قد جعل قضية كفاح الشعب العربي قضية كفاح ضد الامبريالية العالمية بما في ذلك الصهيونية التي تمثل أخطر أشكالها، فأصبحت بذلك مسيرة الثورة العربية جزءا من المسيرة التي ينظمها ثوّار البلدان النامية في سبيل التحرر. ولعل السبب الذي أدى إلى هزيمة شديدة الوطأة كهذه هو أن العرب ولغاية أيام الحرب كانوا يعيشون في جو من البطولة المتوهمة و الاعتداد المبالغ فيه بقدراتهم، وفي الوقت الذي كان فيه العالم بأسره ينتظر الهزيمة لاكتمال أسبابها، بات العرب مطمئنين في جو من اللهو واللامبالاة لعدم تقديرهم الصحيح لحجم عدوهم.

تداعيات الهزيمة على الفكر والأدب:
لم تكن هزيمة حزيران هزيمة عسكرية فحسب وإنّما مثّلت إفلاسا للبنى الثقافية والفكرية التي كانت سائدة قبلها، وخيبة مسّت جميع الأصعدة، فكان لزاما على المثقف العربي أن يقف وقفة طويلة لإعادة قراءة تفاصيل هذا الواقع و البحث عن تفسيرات مقنعة لما حدث. يعتبر الخامس من حزيران منعرجا خطيرا في مسار الفكر العربي إذ" تراجع فكر وبدأ فكر آخر يتململ، سقطت أوراق طبقة حاكمة برمتها، وبدأت طلائع طبقة جديدة بالتحرك والأدب بدوره تخلخل مناخه العام مع الخلخلة التي أحدثتها الهزيمة البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعسكرية."(2). لذلك كانت الهزيمة شديدة الوطأة على وجدان الأديب العربي فكان من المستحيل على الأشكال الأدبية أن تسير في شكل أفقي، متّبعة النمط السابق نفسه، بل كان لزاما عليها أن تتأثر بما حصل.

الرواية العربية وهزيمة حزيران 1967:
إذا كانت الرواية تمثل مرآة للفكر الإنساني المعاصر في شكّه وعبثه وشقائه، على حد تعبير عبد الملك مرتاض(3)، فإنّ الرواية العربية قد نجحت في نقل تفاصيل الحياة العربية بكل وقائعها، وتفاعلت بشكل عفوي مع هذا الحدث الذي هدّم سلّم القيم وحطّم الآمال وعمّق الآلام ونكأ جراحا قديمة. وفي هذا الصدد يرى عبد الرحمان منيف أنّ سنة 1967 قد مثّلت حدثا بارزا في تاريخ الثقافة العربية إذ يقول "وإذا كان من غريب المصادفات أن تبدأ الرواية العربية عام1867 فإن السنة التي تماثلها بعد قرن من الزمن، تصبح شديدة الأهمية والتأثير، لأن هزيمة حزيران 1967 فجّرت الوجود العربي وزعزعت اليقين الذي كان سائدا خلال عقود سابقة، ولذلك فإن السنة الأخيرة (1967) تعتبر بمثابة ولادة جديدة للرواية العربية"(4).

فقد كشفت الدراسة التي أجراها شكري عزيز ماضي عن تزايد الإنتاج الروائي العربي بعد الهزيمة بشكل ملحوظ (5)، كما سجّْل تزايد للإنتاج الروائي في مختلف الدول العربية كالشام، مصر، العراق...كون الهزيمة قد مسّت كيان الأمّة العربية بأسرها.

وهنا يمكن أن نخلص إلى ملاحظة أساسية تعد ملمحا بارزا يتمثل في تراجع الدور المركزي الذي لعبته مصر منذ بداية عصر النهضة، ممّا أدّى إلى تغيير خارطة الرواية العربية وامتلائها برموز وأسماء وثقافات البلدان المجاورة كسوريا، العراق، فلسطين، بعد أن احتكرت مصر الذاكرة الثقافية العربية على مدى عقود من الزمن. لقد انصب اهتمام الرواية العربية بعد الهزيمة على البحث عن الأسباب التي أدّت إليها، بدل البحث عن سبل للخروج منها وتجاوزها، مما أحدث تحولا في طبيعة الخطاب العربي، وهذا ما عبّر عنه نصر حامد أبو زيد بقوله: "إنّ تحولا أصاب الخطاب العربي الذي انتقل من أن يكون خطاب نهضة، وتحوّل ليكون خطاب أزمة، وبدلا من البحث عن كيفيات النهوض وآلياته عكف الخطاب العربي على تحليل أسباب الهزيمة محاولا الوصول إلى مخرج منها."(6).

إذن فقد عبّر الخطاب العربي في تلك الفترة عن حالة من العجز والضياع الفكري، وعن إفلاس موجة الواقعية والوجودية التي سادت حقبة الخمسينات والستينات، مما أدّى إلى ضبابية في الرؤيا، وهذا ما عبر عنه فيصل درّاج بقوله" إنّ الملتبس في أزمنة الانحدار يحاصر الحاضر ويهزمه"(7)، لذا فإن روايات هذه المرحلة كانت عاجزة عن استيعاب تفاصيل الواقع الكارثية وبالتالي لم تستطع الإلمام بمختلف السياقات التي قادت إلى هذه النهاية المأساوية.

كيف عالج الروائيون أسباب الهزيمة:
إذا كانت الروايات العربية قد اشتركت في معالجة حدث واحد، والمتمثل في الهزيمة، فإنّ طريقة المعالجة قد اختلفت من كاتب إلى آخر، كل حسب مرجعيته وأيديولوجيته، فمنهم من رّها إلى أسباب عسكرية وسياسية كفساد الأنظمة العربية وأجهزتها العسكرية، فقدّم صورة للجيوش العربية في ساحات القتال وما أذيع آنذاك من شعارات كاذبة تبشّْر بالانتصار، ممّا أدّى إلى تضليل الشعوب العربية وإشاعة جو من الخديعة العامة، ومن تلك الروايات نذكر رواية "فارس مدينة القنطرة" لعبد السلام العجيلي والتي عالج فيها الهزيمة بطريقة غير مباشرة موهما القارئ بأنّ الأحداث تجري في فترة تاريخية سابقة وبالتحديد أثناء التواجد الإسلامي في إسبانيا (الأندلس)، إذ يصرح في مقدمة الرواية" أنه قد حصل على المادة الأولية من مجلد أهدته له أسرة إسبانية وأن جهده لا يتعدى كتابة العنوان وسد بعض الثغرات"(8) في محاولة منه للتنصّل من المسؤولية التي يمكن تحمله السلطة السياسية تبعاتها.

كما ذهبت روايات أخرى إلى اعتبار الهزيمة نابعة بالدرجة الأولى من داخل الكيان العربي وليست ناجمة عن الصدام الخارجي الذي كان مجرد اختبار أخير كشف عن القدرات الحقيقية لهذه الأمة التي صنعت لنفسها منظومة من الأساطير وتوارثتها على مر العصور إلى أن جاء اليوم الذي تحطمت فيه فانسدل الستار عن الفساد الذي كان يعشش خلف أسوارها. وجّه البعض الآخر سهامه على منظومة العادات والتقاليد التي كانت سببا في تضليل الشعوب وتغييب وعيها مقارنة بالشعوب الأخرى، وتمثل روايتا "عودة الطائر إلى البحر" لحليم بركات و"أنت منذ اليوم" لتيسير سبول خير مثال على ذلك، فقد عكستا صورة المثقف العربي العاجز عن التغيير والذي يتصارع بداخله شعوران: انتماؤه للعالم الشرقي من جهة وانتماؤه للثقافة الغربية من جهة أخرى فيجد نفسه عاجزا عن تقديم شيء لوطنه بسبب الغربة والقمع (أنت منذ اليوم) وبسبب افتقاد المؤسسات الحديثة المنظمة (عودة الطائر إلى البحر). يمكن أن نهتدي إلى أن الروايتين قد لامستا الهزيمة من الخارج فعجزتا عن تقديم رؤية شاملة واقتراح حلول للخروج من هذا الواقع المتأزم فرسمتا طريق الخلاص لبطليهما عن طريق اللجوء إلى الجنس.

كما حاولت روايات أخرى رصد حالة الإنسان العربي في ظل الهزيمة و الذي كان غارقا في جو من العجز والضياع وفقدان الوعي والبحث اليائس عن الهوية المفقودة وقد تجلى ذلك في قصتي ادوار الخرّاط "في الشوارع" و"جرح مفتوح" (9). يمكن أن نخلص إلى فكرة مفادها أن هزيمة 1967 قد مثلت منعرجا حاسما في مسار الفكر العربي حيث أحدثت تحولا جذريا في نوعية الخطاب الذي تحوّل من طابعه النهضوي المتفائل إلى خطاب يسوده الشك و التساؤل عن سر الأزمة، فكانت جل الروايات التي صدرت في هذه المرحلة تسعى لطرح الأسئلة بدلا من اقتراح الحلول، وانصب اهتمام الروائيين على قراءة واقع الهزيمة من خلال ربطه بالمسار الحضاري الطويل للأمّة، أمّا عن طبيعة استجابتها لهذا الحدث فقد كانت انفعالية عاطفية في مجملها بسبب هول الصدمة التي كانت بمثابة الصاعقة التي نزلت من السماء.

تحولات الرواية العربية بعد هزيمة حزيران:
استعانت الرواية العربية في هذه الفترة بالعديد من التقنيات الجديدة التي لم تكن معهودة في الرواية الكلاسيكية، فبعد أن خضعت طيلة العقود الماضية لسيطرة الشكل الغربي محاولة إخضاع مضامينها له، أخذت اليوم في البحث عن هويتها من خلال الرغبة في خلق شكل روائي جديد لا ينسلخ عن انتمائه الثقافي والتراثي، وفي الوقت ذاته يستثمر كل التقنيات التي تكفل له مواكبة حركة التجديد التي شهدتها الرواية على المستوى العالمي (الرواية الجديدة)، مما أدّى إلى انهيار الشكل الروائي المعهود، فتأرجح بناؤه الفني في سبيل شكل روائي جديد.

إنّ أوّل ما يمكن ملاحظته على أغلب الروايات الصادرة بعد الهزيمة هو البعد عن المباشرة وغلبة أسلوب التعتيم والغموض، إذ لم تعد الرواية تكشف عن محتواها منذ تصفح صفحاتها الأولى بل أضحت تدور في متاهات مختلفة تستوجب من متلقيها تجهيز ترسانة معرفية متعددة المشارب تمكنه من فك شفراتها وولوج عوالمها واقتحام حصونها، ولعل من أسباب ذلك وجود عوائق كثيرة تحول دون نشر تلك النصوص في البلدان العربية، أولها مشكل الرقابة التي تمارس على الإبداع، ما يعرض أصحاب الكلمة الجريئة لمختلف أشكال القمع.

وحري بنا أن نورد ما جاء من إشارة إلى هذا الموضوع في حديث جان فونتان الذي أعلن أن من بين الروائيين الأربعة عشر الذين أجرى معهم مقابلات لإجراء دراسات حول الرواية المصرية كان عشرة منهم قد قضوا فترات في المعتقلات لأسباب سياسية، ومن بينهم :ادوار الخرّاط، صنع الله إبراهيم، نوال السعداوي، عبدالحكيم قاسم(10). كما مثّل توظيف التراث ملمحا بارزا في تلك المرحلة، إذ أدرك المثقف العربي أن الهزيمة لا تنحصر في بعدها العسكري فحسب، وإنما هي هزيمة حضارية تهدد الحضور التاريخي للذات العربية ومخزونها الثقافي الذي تشكل عبر العصور، فأصبحت العودة إلى الأصول ضرورية لا من أجل تقديسها والقبوع فيها بل قصد مساءلة الذات من خلال مساءلة الماضي.

لذلك فإن استلهام التراث لم يتوقف عند شكل واحد بل جاء التعامل مع الموروث بكل أبعاده، فهذا جمال الغيطاني يعمل على بعث الشخصيات التاريخية كشخصية الحسين في كتاب التجليات، وشخصية الزيني بركات في الرواية التي تحمل اسمه وغيرها.

إضافة إلى توظيف الحكاية الشعبية خاصة المستوحاة من ألف ليلة وليلة والتي وجد فيها الروائي مادة خصبة لاستثمارها بشكل يتماشى مع المعطيات الراهنة، ومثال ذلك قصص السندباد (البحث عن الكنز) التي نجد روائيا مثل إيميل حبيبي يأخذ إطارها العام ليحملها دلالات تتعلّق بمآسي الشعب الفلسطيني، ليقدم لنا صورة عن تلك العجوز الفلسطينية التي عادت لتبحث عن كنزها الذي خبّأته في جدار بيتها حين هجّْرت منه منذ ثلاثة وعشرين سنة لتفاجأ بأن بيتها صار ملكا لامرأة يهودية، فتعود خائبة تجر أذيال الخيبة (رواية الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل).

أمّا عن الأشكال التراثية التي احتوتها الرواية فقد تمثلت في توسل الأساليب التقليدية للسرد العربي كفن المقامة ونجد ذلك تحديدا في رواية "الوقائع الغريبة" لإميل حبيبي، وأسلوب الوثائق التاريخية في مثل رواية" الزيني بركات" التي انطلق فيها من نص ابن إياس المعروف بـ"بدائع الزهور في وقائع الدهور" ليعمد إلى تقسيم الرواية إلى مجموعة من السرادقات*. وإذا كان الروائي قد عاد إلى التراث العربي الإسلامي بمختلف رموزه في محاولة لإثبات الهوية التي زعزعت الهزيمة بنيانها وكادت أن تقوّْض أركانها، فإنه لم يركن عند حدود تراثه القومي فحسب بل نجده قد انفتح على الإرث الإنساني بصفة عامة والمتمثل في الأسطورة.

تجدر بنا الإشارة في هذا المقام إلى أن هذا لا يعني أن الرواية العربية في المرحلة السابقة لم تشهد هذا التوجه بدليل أننا نجد في أعمال توفيق الحكيم ما ينحو هذا النحو، كتوظيف أسطورة الموت والانبعاث الفرعونية( إيزيس وأوزوريس) في رواية "عودة الروح" في محاولة لكتابة واقع مصر في مطلع القرن الماضي من خلال نمذجة شخصياته. إلاّ أن هذا التوجه إلى توظيف الأسطورة قد بات ملمحا بارزا في الفترة التي تلت الهزيمة، أمّا مسوغاته ودوافعه الفنية فقد خضعت لمستويات متعددة، فالبعض يسعى من خلال تضمينها إلى "إحداث تواز بين العالم القديم والعالم الجديد للسيطرة على تلك الصورة العريضة من العقم والفوضى التي تكون تاريخنا المعاصر"(11).

ويرجع السبب الآخر الكامن وراء توسل هذه التقنية إلى توظيفها كقناع لتمرير خطابات تفضح السلطة السياسية أو تدينها، فيعمد الروائي إلى إحاطة عالمه الروائي بالغموض والتعتيم حتى لا يتخذ سلاحا ضدّه. يتحصل لدينا أن الروائي قذ استلهم الميثولوجيا من مختلف الحضارات، إذ نجد الأسطورة البابلية في رواية "ليس ثمة أمل لجلجامش" للكاتب العراقي خضير عبد الأمير، التي يقدم فيها بطله "خليل" في مقام "جلجامش" الذي يبحث عن سر وجوده، لكن رحلته تبوء بالفشل وتنتهي كما انتهت نظيرتها إلى الخيبة والاستسلام والخضوع. كما استفاد حليم بركات في روايته "عودة الطائر إلى البحر" من أسطورة الطائر الهولندي الذي يتحتّم عليه الإبحار عشوائيا في بحار الخوف والجهل، ولن يرفع عنه غضب الآلهة حتى يجد من يخلصه، فالطائر يرمز إلى البلاد العربية التي لن ترفع عنها لعنة الآلهة – الدول الغربية- لأنها لم تجد من يخلص لها حتى الموت. وتنطوي هذه الصورة على إدانة فاضحة لحكام العرب الذين قادوا مجتمعاتهم إلى هزيمة نكراء نتيجة قصورهم عن إدراك التحولات الطارئة في العالم الذي يحيط بهم، وعجزهم عن فهم عظم المسؤولية الملقاة على كاهلهم.

لقد عمد الروائيون إلى نقل ذلك الاضطراب والتزعزع إلى مستوى البناء الفني لعالمهم الروائي، حيث تشظّى الشكل وتخلخلت بنية الزمن وتفككت أنسجة السرد وبهتت الشخصية جراء حالتي الاضطراب والضياع التي قادتها إلى الانكفاء داخل عالمها من أجل البحث عن الزمن المفقود والهوية المسلوبة ويتجلى ذلك في استخدام تقنيتي التداعي( تيار الوعي) والاستذكار. ويضاف إلى هذا كله ظاهرة لافتة للانتباه ألا وهي انفتاح الرواية العربية على الأجناس الأدبية الأخرى و الإفادة من تقنيات المسرح والسينما وغيرهما، ومن تجليات ذلك توشيح النصوص الروائية بمقاطع شعرية مختلفة تبدو منفصلة ظاهريا عن المتن الروائي لكنها في حقيقتها تعد مفتاحا أساسيا للولوج إليه، ويظهر ذلك جليا في أعمال إميل حبيبي "سداسية الأيام الستة" و"الوقائع الغريبة".

 ختاما يمكن القول إن مثل هذا التوجه يجرنا للحديث عن ظاهرة التجريب في الرواية العربية،والبحث عن أشكال جديدة تجعلها تمتلك خصوصية تميزها عن نظيرتها الغربية وتمنحها هويتها المستقلة و تدل على انضوائها ضمن سياق سوسيو ثقافي متميز.

الهوامش الإحالات :

1. ادوار الخرّاط: القصة والحداثة، مركز الحضارة العربية، طَ1، القاهرة،2002.ص12،13.

2- شكري عزيز ماضي: انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط1،بيروت،1978.ص24،25.

3- عبد المالك مرتاض: في نظرية الرواية بحث في تقنيات السرد، عالم المعرفة، الكويت، العدد1998،240.ص58.

4- عبد الرحمان منيف: الكاتب والمنفى، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،ط3،بيروت،2001.ص44،45.

5- شكري عزيز ماضي: انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية.ص27.

6- رزان محمود ابراهيم: خطاب النهضة والتقدم في الرواية العربية المعاصرة، دار الشروق للنشر والتوزيع،ط1،الأردن،2003.ص53.

7- المرجع نفسه.ص53.

8- شكري عزيز ماضي: انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية.ص48.

9- Shimon Ballas :La littérature arabe et le conflit au proche- Orient (1948-1973), Edition thropos,Paris,1980.p177.

10- روجر آلن: الرواية العربية مقدمة تاريخية ونقدية، ترجمة: حصة إبراهيم منيف، المجلس الأعلى للثقافة،1997. ص178،179.

*- السرادقات :ج.مفرده سرادق :طريقة في تقسيم المادة اعتمدها ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" وقد سار الغيطاني على النهج ذاته في تقسيمه لرواية "الزيني بركات".

11- شكري عزيز ماضي : انعكاس هزيمة حزيران على الرواية العربية.ص179.