يستخدم الناقد العراقي مفهوم بول ريكور عن "الهوية السردية" ليتناول عبره عملين عراقيين بارزين عن مدينة البصرة هما "بصرياثا" لمحمد خضير، و"المقامة البصرية العصرية" لمهدي عيسى الصقر، كاشفا عبر التحليل عن العلاقة بين الهوية السردية وجغرافيا المدينة.

الهوية السردية للمدينة

بين محمد خضير ومهدي عيسى الصقر

فاضل ثامر

يحاول نصاً محمد خضير "بصرياثا: صورة مدينة" ( 1993 ) ومهدي عيسى الصقر "المقامة البصرية العصرية: حكاية مدينة" ( 2004 ) إعادة خلق وصياغة مدينة متخيلة ـ ربما تكون يوتوبيا إفتراضية من نوع ما ـ وربما هي مدينة محددة وملموسة مثل مدينة البصرة، من خلال إستخدام مجسات وحبكات ومرويات تهدف الى التغلغل الى الزوايا الخفية والحية أساساً من هذه المدينة الفنطازية وبشكل خاص محاولة الاقتراب من أناسها ورموزها الثقافية والإجتماعية والتاريخية واذا ما كان لكل مؤلف من هذين المؤلفين أدواته وأساليبه ولغاته الخاصة في بناء تضاريس هذه الرقعة الجغرفية ـ المكانية ـ الزمانية، الإ إنهما ـ ربما دون وعي مقصود ـ يعمدان الى خلق ما يسميه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بـ "الهوية السردية" لهذه المدينة ويمكن القول ان دكنز سبق له وان حاول تشكيل مثل هذه الهوية في نهاية رواية " قصة مدينتين " ولكن بطريقة مغايرة.

"والهوية السرديةNarrative Identity" في واقع الأمر جزءً من نظرية سردية واسعة طورها بول ريكور في كتابه الكبير "الزمان والسرد" 1984 ـ 1987 وهي لا تتحقق الا بالتأليف السردي وحده (1) حيث يتشكل الفرد والجماعة معاً في هويتهما من خلال الاستغراق في السرديات والحكايات التي تصير بالنسبة لهما بمثابة تأريخهما الفعلي (2)، وما يهمنا هنا التركيز على وجهة النظر التي ترى ان كل هوية تتعالق بهويات الآخرين بطريقة تؤدي الى توليد قصص ذوات نسق ثانٍ تتشابك وتترابط بدورها مع قصص متعددة، حيث يصبح الزمن الانساني هو الزمن الذي يعيد صياغة الهوية السردية وهو أيضاً زمن قصص حياتنا (او تواريخ حياتنا) مأخوذاً إما على مستوى فردي او على مستوى جماعي بوصفه تاريخ مجتمعنا (3) وهذا الأمر هو الذي دفعنا الى ترحيل مفهوم الهوية السردية من مظهرها الفردي او الجماعي البشري الذي طرحه ريكور الى فضاء الهوية السردية للمدينة من خلال قيام مرويات نصي محمد خضير ومهدي عيسى الصقر بأنسنة humanization هذه المدينة وشخصنتها Personification، وبالتالي الارتقاء بها الى مستوى الذات الفردية التي تبحث عن هويتها من خلال السرد.

يعلن المؤلفان محمد خضير ومهدي عيسى الصقر كلاهما ان الهدف من نصيهما هو تقديم "صورة مدينة" بالنسبة لمحمد خضير أو "حكاية مدينة" بالنسبة لمهدي عيسى الصقر، وكلاهما لا يخفيان حضورهما السردي، بل يعلنان من خلال الدخول في لعبة السرد عن فعل الكتابة السردية الواعية من قبل راوٍ ضمني، ربما هو الذات الثانية للمؤلف او قناعه.

كما ينحو المؤلفان الى اعتماد عملية مزدوجة في التعامل مع هذه المدينة المتخيلة من خلال آليتي "التغريب" "ونزع المألوفية" فالمدنية تبدو لهما بكراً وكانها تكتشف للوهلة الأولى، وهو ما يمنح الرؤية المكانية تجدداً وولادة بكراً، اذ يدخل راوي محمد خضير المدينة بعينيين مندهشتين وكأنهما تكتشفان المدينة للمرة الاولى، كما يكتشف مهدي عيسى الصقر المدينة بعيني الامام الحريري مؤلف مقامات الحريري وبالتاكيد يثير النصان إشكالية اولية تتعلق بالتجنيس الأدبي، فنحن هنا إزاء نصين غير تقليديين تتداخل في فضائيهما "الاجناس الكتابية وغير الكتابية، ويرتفع فيهما الوعي الذاتي بقصدية الكتابة السردية، وهو فضاء يمكن تبريره، او فهم مشروعيته جزئياً من خلال الاندراج ضمن مغامرة السرد النرجسي الذي اصطلح عليه بما وراء السرد او " الميتا ـ سرد (4) metafiction والحساسية الجمالية التي مثلتها اتجاهات "ما بعد الحداثة" Post_ Modernism، فمنذ السطور الأولى لـ " بصرياثا " يتكشف هذا المنحى عندما يقف الراوي الضمني امام المداخل الاربعة لبصرياثا " التي هي بمثابة " عتبات " المدينة المكانية والنصية ليقول في الاستهلال " يروي الرواة عن المدن القديمة أحداثاً وعجائب منطوية، لكني أروي في كتاب ـ بصرياثا ـ عما هو معلوم ومدبر في سطور القدر (5).

وتشكل نصوص "بصرياثا" التسعة ـ التي تبدو للوهلة الأولى متباينة مستقلة نصاً سردياً موحداً من خلال نسيج فسيفسائي يعتمد المجاورة والرؤيا الموحدة والدائرة الموحدة والدائرة المكانية والجغرافية والبشرية والزمنية المشتركة التي تتحرك فيها النصوص والبنيات النصية الصغرى microstructures لتشكل نصاً أكبر macro- structures هو نص " بصرياثا " وهو ما يدفعنا الى الاعتقاد بان هذا النص هو بمثابة الحاضنة الجنينية الأصيلة التي إنبثقت منها لاحقاً تجربة أغنى وأعمق وأكثر تماسكاً هي " كراسة كانون " الصادرة عام 2001 والتي وجدنا فيها نضجاً أكبر لتقنيات اللعبة السردية الميتا ـ سردية.

ويشارك مهدي عيسى الصقر منحى محمد خضير في البحث عن مدخل ملائم لدخول المدينة والتي هي بمثابة العتبة المكانية والنصية للتجربة ذاتها حيث يقول في مستهل عمله: "من اي باب أدخل إليك وأبوابك مشرعة على البحر والسماء (6) ويعلن الراوي في حواره مع الامام الحريري أنه سيكتب مقامة عن البصرة سوف يسميها بـ " المكانة البصرية العصرية " ويختتم المؤلف لعبته السردية بإعلان الراوي الضمني انه هو الذي أنجز كتابة هذا النص السردي: " كنت سعيداً لأني أكملت روايتي الصغيرة عن مدينة البصرة "(7). وهكذا يشرع المؤلفان في نسج هوية سردية خاصة بهذه المدينة المتخيلة اليوتوبيا بمواد وبنيات ولبنات لسانية وسيميائية ودلالية من خلال حركة الزمن، وبتعالق داخلي بين مقومات الوجود والسرد والتجربة، لكن دونما إنفصال عن الواقع المادي والروحي والثقافي المعيش للمدينة وأناسها وتاريخها خلال نسق زمني يمتد أفقياُ وعمودياً.

ويسهم السرد ـ من خلال عملية التحبيك ـ ( أو بناء الحبكة ) emplottment في صياغة هذه الهوية السردية المتميزة بوصفها ذاتاُ مفارقة لذوات أَخر، مكانية أو بشرية ومن الضروري الانتباه الى الجوهر الكلي للنظرية السردية عند بول ريكور عند دراسة الهوية السردية والتي يعتمد فيها على ثلاثة أقانيم أساسية، هي بمثابة ثلاث رافعات للوصول الى تحديد الهوية السردية وهي، الوجود والزمان والسرد. وهو ما يدفعنا الى إضاءة الجوانب الأساسية من نظرية ريكور السردية هذه. وما نود ان نلفت النظر اليه في هذه المرحلة من البحث الأهمية الاستثنائية التي راح يكتسبها السرد في العصر الحديث عندما تحول الى انموذج تفسيري شامل للحياة ذاتها وبذا يتصعد الى مستوى اونطولوجي حاكم دفع بعض المفكرين والنقاد امثال لويس وساندرا هنجمان، الى الحديث عن منعطف او طور سرديNarrativeTurn في الدراسات الإنسانية، لكن الطور السردي هذا ـ خلافاً للنظريات التي تحاول فرض إنموذج تفسيري للسلوك البشري يركز على الخاصية الفاعلة والمحددة ذاتياً للفكر الإنساني، والتي ترى ان السرد يجذر الظواهر الاجتماعية بإحكام بشبكة الاتصالات التي انبثقت عنها (8) وللدلالة على سعة تأثير السرد في العلوم الإنسانية المعاصرة هو الربط بين الفلسفة والسرد والذي دفع جوناثان ري الى القول بأن الفلسفة تماثل السرد وتشبهه (9) مع أن الفلسفة أكثر فروع المعرفة تجريداً، وهي في الظاهر تختلف عن السرد الذي هو شكل عيني ومجسد لتجربة إنسانيته محددة، لكن باحثة مثل ( سوزان ستيفنسن ) تؤكد على شرعية هذه العلاقة من خلال دراستها عن فاعلية السرد بوصفه إنموذجاً او معياراً او موديلاً لدراسة وفحص الظواهر النصية والثقافية والفلسفية في نصوص الفلسفة السياسية لدى ثلاثة مفكرين معاصرين يتبنون تصوراً سردياً عن الفلسفة ويؤمنون أن الفلسفة السياسية تمتلك خاصية سردية أساسية(10)

ومن هنا نجد ان السرد ـ في الدراسات الحديثة التي أطلقتها كشوفات ريكور، قد أصبح إنموذجاً تفسيرياً حاكماً ينافس الوظيفة التي أوكلت للغة في الدراسات السوسيرية والبنيوية، حتى بات بالإمكان الحديث عن إمبراطورية السرد التي تطمح لأن تزيح إمبراطورية العلامة اللغوية (11)، وهكذا أصبح السرد " ركناً أساسياً من أركان أية نظرية في المعرفة " وفي الوقت ذاته تحول الى مصدر اولي من مصادر المعرفة بالذات وبالعالم والنص السردي (12). ويجرؤ المؤرخ والفيلسوف الامريكي " هيدن وايت " في النظر الى التاريخ بوصفه سرداً History asNarrative اذْ يرى ان الاعمال التاريخية بصورة عامة تتخذ شكل السرد بمعنى انها تمثل تجليات متماسكة ومنظمة للأحداث والتطورات من خلال زمن تعاقبي (13) وربما ما يمنح النظرية السردية عند بول ريكور أهمية إضافة الى إجتراح مفهوم " الهوية السردية " قدرتها على تجاوز الكثير من أخفاقات المنهجيات الحديثة كالبنيوية وغيرها من خلال رد الاعتبار الى علاقة النص المسرود ( او المروي ) بالواقع والحياة، والتاكيد على أهمية التجربة الإنسانية والشخصية السردية فضلاً عن الوظيفة الأساسية للزمانية وللحبكة في تشكيل مقومات الهوية السردية.

وبقدر ما يتعلق الأمر بنصي محمد خضير ومهدي عيسى الصقر يمكن القول انهما ينتميان الى آلية صياغة النص السردي والتخييلي وليس الى آلية تشكل النص التاريخي، على الرغم من وقوفهما ـ في الظاهر ـ امام وقائع تاريخية وزمنية محددة، وهو تمييز مهم على المستوى البنيوي طورته دراسات ما بعد ريكور ومنها دراسة ( ماريا فليلا ـ بتيه ) التي تميز بين نمطين من السرد في ثقافتنا: فمن جانب هناك السرود التخييلية التي وأن إبتدأت باحداث واقعية، لكنها تفترق عن الواقع وتغادره وتقدم نفسها بوصفها اعمالاً للخيال السردي تاخذ بنظر الاعتبار كافة الإجراءات والمقتضيات المنهجية ( الميثودولوجية ) في مقابل السرود التاريخية التي تستند الى الوثائق وانماط المواد الحقيقية والتي تنزع لان تكون موضوعية لكن حتى السرود التاريخية لا يمكن لها ان تنقطع كلياً عن مصادر التأليف السردية، لأنها تتوسل بالخيال الإبداعي للمؤرخ وبقدرته على حكي قصة ما. وتخلص ( ماريا بتيه ) الى أن ذلك يقود الى التأكيد بان الكينونة الفردية او الجماعية يمكن تمييزها من خلال فعل التأليف الذي نسميه سرداً، سواء كان ذلك السرد من النوع التخييلي او التاريخي (14)، وهذا هو ما يؤكده باحث حديث عكف على إقامة موازنة نقدية وفلسفية بين منظوري بول ريكور وميرلو بونتي حول الهوية السردية، عندما اشار الى ان ريكور قد عالج الخاصية الزمنية للتجربة بوصفها مرجعاً مشتركاً لكل من التاريخ والتخييل السردي: فكل من زمن التخييل السردي والزمن التاريخي يجدان نفسيهما وقد جرى توسطهما من قبل الوظيفة السردية واذْ يستلزم الزمن التاريخي لونا من التخييل السردي لخدمة مقاصده الخاصة لتمثيل الماضي، فأن الصوت السردي للتخييل السردي هو شبه تاريخي لدرجة ان الأحداث غير الواقعية التي يبسطها إنما تتحول الى حقائق ماضية (15).

وفي ضوء ذلك يمكن القول بثقة ان نصاً " بصرياثا" و"المقامة البصرية" يتحركان ضمن فضاء السرد التخييلي بشكل كلي، مع انهما يتناولان بنيات زمانية ومكانية ذات طابع تاريخي ملموس، فقد خرج هذان النصان من اطار السرد التاريخي التقليدي بفعل آليات تشكل الخطاب الداخلي وتبلور المبنى الحكائي ـ بتعبير الشكلانين الروس لكل منهما وتوسلهما بالسرد الذي توسط بدوره بين الوجود والزمن ضمن ثلاثية ريكور المعروفة:
الوجود والزمن والسرد والتي تجاوز فيها ريكور ـ كما يشير سعيد الغاتمي ثنائية هيدغر الفلسفية الوجود والزمن (16) ويشغل الزمن مكانة خاصة في نصي محمد خضير ومهدي عيسى الصقر، ذلك انهما يتحركان عبر إمتداد زمني وتاريخي أفقياً وعمودياً، وعلى مساحة طبوغرافية ومكانية عريضة، وهو ما يلتقي مع الدور الكبير الذي يفرده ريكور للسرد في بناء الهوية السردية ويشترك النصان في عملية تحويل رمزي للمدينة الى كائن مؤنسن ومشخصن، وهو ما يمنح المدينة هوية سردية ـ هي في الاساس هوية إنسانية من خلال إلتحامها بالزمن، والتي هي في الوقت ذاته وساطة لا يمكن تحاشيها بين الذات والعالم حيث يؤلف السرد هنا الخواص الدائمة لشخصية ما والتي يمكن ان يسميها المرء هويته السردية ببناء نوع من الهوية الديناميكية المتحركة الموجودة في الحبكة التي تخلق هوية الشخصية (17).

وكما نلاحظ يتعالق الزمن والسرد في منظور ريكور بطريقة خلاقة، فالزمن عند ريكور ـ على وفق ما يقوله (كوزيه فين) يمد جذوره في اونطولوجيا مستمدة من تأكيد هيدغر على الزمنية بوصفها الخصائص المحددة للكائنات البشرية، ان اولوية الزمن في علاقته بالوجود يقترن بفهم الوجود بوصفه الكينونة التي تسائل نفسها بنفس القدر الذي تسائل فيه طريقة وجودها (18). وبذا يقرر الزمن أفق أي فهمٍ للوجود، ذلك اننا موجودون داخل الزمن بوصفنا كائنات داخل الزمن مشتتين بين ماضِ يستذكر وحاضر يندثر ومستقبل يحدس، ولاننا محاصرون بالزمن يستحيل علينا والحال هذه ان نقف خارجه، وهنا تتجلى قدرة السرد في الهيمنة على الزمن الذي يبدو طاغيا ومنفلتاً وغير قابل للخضوع واحضانه الى عملية تمثيل او تشخيص ما، ذلك ان السرد يقوم بوظيفة تنظيمية خالقه بوصفه الشكل الذي نستطيع من خلاله قهر لا تشخيصية الزمن والأداة التي نستطيع بها ان نعبر عن الوجه المعيش، الظاهراتي لزمنية الوجود (19) وبذا تصبح الهوية ذاتها وظيفة من وظائف السرد (20).

ومن هنا تصبح الأطروحة المركزية لكتاب ريكور " الزمان والسرد " متمثلة في الخاصية التبادلية بين السردية والزمانية، اذ ان تجربة الزمن الانساني ـ وهو زمن ثالث يقف في مقابل الزمن الكوني والزمن الظاهراني الفينومينولوجي ـ يتبدى لنا من خلال التكوين السردي للخطاب، فالقصص التي تحكى او تقرأ تفصح عن هذا الزمن الثالث وتشكله وتمنحه شكل التجربة الانسانية (21) وهو ما يدفع الى القول بان السرد ينتعش بمثل هذه المقتضيات، فضلاً عن عامل الزمن، واذ يغذي الزمن الكوني السرد، تقوم السردية بتزمين التجربة، وبالتالي موضعته بوصفه الخاصية المركزية للوجود البشري، كما ان أي تشكيل للزمن الانساني هو تمهيد لإعادة تشكيله في ضوء تجربة القارئ (22). وتغنى (ماريا بتيه) التقسيم الثلاثي للزمن الى زمن إنساني وثانِ داخلي وثالث كوني، فالزمن الإنساني هو زمن قصص حياتنا (او تواريخ حياتنا) ماخوذاً إما على مستوى فردي او جماعي بوصفه تاريخ مجتمعاتنا، وبذا فان الزمن الإنساني هو ليس بالزمن الداخلي لكل وعي والذي حاول اوغسطين القبض عليه على الرغم من الصعوبات التي عبر عنها ببلاغة وهو الزمن الذي حاول هوسرل وصفه بمصطلحات بنياته الأساسية في كتابه " الدروس " حول الوعي الداخلي للزمن، وبهذا فان هذا الزمن هو ليس بالزمن الكوني المستند الى الحركة المنتظمة للنجوم، وهو الزمن الذي اعتمد دوما في كل مكان لقياس الزمن من خلال الأيام والأشهر والسنوات، وقبل ان تنجح الساعات بإمكانية تحقيق ذلك بمقاييس الدقائق والثواني وما الى ذلك (23) واذ يميز ريكور الزمن الإنساني عن الزمنين الداخلي والكوني، فإنما ينبغي ان نسترعي انتباهنا لزمن الفعل والمعاناة الإنسانية، اذ فقط من خلال فعل حكيِ قصة ما، او التموضع داخلها، يكتسب هذا الزمن شخصيته، وبهذه الطريقة يتم الاحتفاظ به بعيداً عن النسيان بوصفه مجرد زمن مضى ليس الا (24).

ويلفت (كوزيه فين) الانتباه الى ان الفكرة الكامنة هنا هي ان فعل حكي قصة ما يستطيع تحويل الزمن الطبيعي الى زمن إنساني محدد. ولذا ففي مقاربة ريكور يدمج مصطلح البنية السردية إشكاليتين من إشكاليات الذاتية: ما له علاقة بالهوية وما يتصل بعلاقة التاريخ بالخيال السردي في عملية تشكيل الزمنية، حيث تظل هاتان الإشكاليتان مترابطتين من خلال فكرة ان الزمن والطريقة التي يقاس بهما توفران الأساس المشترك لتمفصلهما المتبادل. (25) وهكذا فمن خلال العلاقة بين السرد والزمن تبدو لنا الهوية السردية في خطابها بوصفها المفهوم الذي يمكننا من التفكير بالوساطة بين الإدراك الظاهراتي ( الفينومينولوجي ) والكوني للزمن، أي الوساطة بين الزمن كما يعاش متجسداً في شكل فعاليات في العالم ومنقوشة فوراًُ في حياة المرويات. (26) ويمكن القول هنا ان هدف ريكور هو اعادة بناء الوساطات اللازمة لغرض ربط قضية السرد بالزمن، وبهذه الطريقة يمكن تأسيس الأطروحة المركزية للعمل، اذ يعود الفضل للسرد في تسجيل وثوقية الزمن الانساني، وبكلمات اخرى تقوم المرويات والسرد بتشفير ما يستحق التذكير وبذا تحفظ ذاكرة ما يستحق التذكر. (27)
ويذهب (كيفن فانهوزر) الى الاعتقاد بان ريكور بتصنيفه السرد شكلاً من أشكال الخيال الإبداعي لا يقتصر على تقديم مادة ادبية فقط، بل يقدم اساساً تحليلياً عميقاً لفكرة كانط التي ما زالت غامضة عن الخيال الابداعي، حيث يجعل ريكور كلاً من الخيال الإبداعي والزمن نفسه اكثر معقولية بأكسائه لحماً ادبياً ودماً لغوياً على الهيكل العظمي المجرد للرسوم التخطيطية عند كانط وبعبارة اخرى يجعل ريكور التحليل الخيالي للزمن اكثر معقولية باظهاره وهو يعمل كانما هو موجود في السرد. فالفعل السردي إظهار لذلك الغامض، اي التخطيطية في لحظة اشتغاله " السرد "، والحبكة التي هي الكون السردي المركزي والتي هي ليست سوى تأليف إبداعي للزمن يستخرج من تشعب التجارب العشوائي كلاماً موحداً (28). وتشير الفقرة الاخيرة الى الأهمية الاستثنائية التي تشغلها عملية التحبيك او بناء الحبكة emplottment بوصفها الكون المركزي وتأليفاً إبداعياً للزمن.

ويربط باحث آخر عملية بناء الحبكة هذه وعملية القراءة من خلال الاشارة الى اقتران هاتين العمليتين الديناميكيتين " بناء الحبكة والقراءة " واللتين يشير لهما بول ريكور بوصفهما دينامية عالم النص، ودينانية عالم القارئ (29) حيث يتحدد من طرف المؤلف والنص دور عملية بناء الحبكة، فبهذه الطريقة يتم ترتيب الأحداث والأفعال التي تمنح معنى الكلية للقصة من خلال البداية والنهاية، ان بناء الحبكة هو ما يجعل قصة ما مفهومة، إن بناء الحبكة، على ما يذهب اليه ريكور الذي يسميه بالذكاء السردي او الإدراك السردي الذي يعني المقدرة على ضم التعارضات والحكايات المتعارضة الخواص للفعل الانساني وربطهما معاً في حبكة متماسكة، موفراً بذلك قراءة متوافقة لحياتنا، فبناء الحبكة والحال هذه هو المكان الذي تصبح فيه الأحداث أقصوصات للمتن القصصي، وهكذا حالما تنهض القصة من عملية بناء الحبكة تنهض الشخصية وتسهم في نقل الحبكة الى الهوية التي تتكشف في سياق تكشف القصة، إن مثل هذه الهوية السردية سوف تعرف فقط على مستوى تلازمي من الناحية الموضوعية امام التوافقات المتعارضة للقصة ذاتها، أي ان الشخصيات ذاتها هي حبكات (30). وهذا الربط بين الحبكة وعملية القراءة ينطلق من فكرة ان تأثير بناء الحبكة لا ينتهي عند النص، بل عند القارئ، ذلك، ان النص يوفر عالماً يمكن إستنباطه من قبل القارئ حيث تصبح البنية السردية مرجعا متفتحاً ومستقبلاً وتتحول عملية الأصغاء او القراءة الى عملية إثارة كائنة تعمل بصورة مباشرة، وبهذه الطريقة يتغلغل عالم النص وعالم النص أحدهما بالآخر، على وفق مقولة (غادامير ) التي يستشهد بها ريكور ونعني بها مقولة " إنصهار الآفاق" fusion of horizons، فالقارى ينتمي الى كل من أفق تجربة العمل تخيلياً وافق فعله بصورة ملموسة، وفي الجانب الآخر من هذه العملية الجدلية يقف جدل القارى حيث يقف النص والقارئ في علاقة تحاوريه وتعاونية.

ومن هنا نجد ان بول ريكور قد إستطاع أن يربط بين الكثير من مفاهيم السردية معيداً الاعتبار الى بعض المقومات التي كانت تتجاهلها او ترفضها بعض الاتجاهات الحداثية كالبنيوية، وبشكل خاص ارتباط المرويات السردية بالحياة والواقع، وأهمية التجربة الانسانية والتركيز على مفهوم الشخصية القصصية الذي أهملته او كادت معظم الاتجاهات السردية واحالته الى مجرد ترسيمه او وظيفة من وظائف السرد " عند بروب مثلاً". ويؤكد ريكور ان كون الحياة ذات صلة بالسرد بات امراً معروفاً دائماً (31). لذا يحاول من خلال نقض مغالطة " ان القصص تروى ولا تعاش، والحياة تعاش ولا تروى " الى التأكيد على الدور الفاعل للسرد داخل الحياة من خلال مقولته " لقد صار بامكاننا في هذه المرحلة من التحليل ان نمسك بالكيفية التي يصطلح فيها السرد والحياة، لان القراءة هي اصلاً طريقة للعيش في عالم العمل الخيالي، وبهذا يمكننا القول ان القصص تروى ولكنها ايضا تعاش على نحو متخيل، كما ان الحياة التي يسميها ريكور بما قبل النص pre-text، هي حياة تروى (32).

ويعد ريكور أن القصص والتواريخ هي من بين وسائل فهم الوجود البارزة، حيث تنفرد السرود والمرويات في إبراز الامكانات الوجودية وإمكانات الفعل الإنساني وطرائق الوجود في الزمن او توجيه الذات نحوه، ويقف ريكور في صف هايدغر في القول بأسبقية الممكن، لكنه، خلافا لهايدغر يدعي ان هذه الإمكانات لا تسقطها وتستوعبها سوى السرود والمرويات. فمن خلال القصص والتواريخ وحدها نحصل على دليل الممكنات الإنسانية، ويذهب كيفن فانهوزر الى القول ان القصص ليست غير واقعية ولا وهمية، بل هي فعلاً وسيلة إستكشاف أنطولوجية لعلاقتنا بالموجودات والوجود (33).

ويلفت ديفيد كار الى ان ريكور يعارض ما يدعوه الميل الى تجريد السرد عن زمنه، وهو أمر مهم ينبغي التوقف عنده لانه يعارض الكثير من المنظورات الحداثية كالبنيوية في التعامل مع النص السردي وعلاقته بالزمن، اذ يرى كار وهو على حق في ذلك الى ان هذا الميل ظاهرًٌ في التقليد البنيوي، بدءاً من بروب،وفي تحليلات فيلسوف من طراز لويس منك ومؤرخ من طراز ( بول فاين )، والتي تفترض ان الزماني مجرد مظهر سطحي في القصة، او مجرد توالِ للأحداث، اما الخواص السردية الحقيقية فتوجد الخواص البنيوية شبه المنطقية مثل وظائف (بروب) وصيغ "منك " التي هي لا زمانية بطبيعتها (34).

ويعلن ريكور وهو يتحدث عن الهوية السردية الى انه قد توصل الى فرضية مؤداها ان تكوين الهوية السردية، سواءً كانت لشخص مفرد أو لجماعة تاريخية، وان الموقع المنشود لهذا الانصهار هو بين السرد والخيال، ويتساءل ريكور بعد ذلك بلاغياً بصورة لا تخلو من جزم: افلا تصير حياة الناس أكثر معقولية، بكثير حين يتم تأويلها في ضوء القصص التي يرويها الناس عنها. الا تصبح قصص الحياة نفسها اكثر معقولية حين يطبق الانسان النماذج السردية او الحبكات المستمدة من التاريخ والخيال؟ (35).

ويشير ريكور الى ان الذات تعجز عن معرفة نفسها مباشرة الا من خلال السرد ومرويات الحياة اليومية: إن إعادة التصوير التي يقوم بها السرد تؤكد هذا الجانب من المعرفة الذاتية التي تتخطى ميدان السرد، أعني ان الذات لا تعرف ذاتها مباشرة، بل بطريقة غير مباشرة فقط، أي من خلال إنعطاف العلامات الثقافية بجميع أنواعها، التي يتم إنتاجها إستناداً الى وساطات رمزية تتيح دائما وأساساً الفعل، ومن ضمن هذه مرويات الحياة اليومية، وتؤكد الوساطة السردية هذه الخاصية الجديرة بالانتباه في المعرفة الذاتية ألا وهي تأويل الذات وإمتلاك القارئ لهوية إحدى الشخصيات الخيالية التي هي صورة من صورها (36).

ويشير كوزيه فين الى هذه العلاقة بين البنية السردية والذات بالقول ان مفهوم ريكور عن البنية السردية يشير الى فكرة الذات بوصفها ذاتاً مروية وبوصفها كينونة مصنوعة من قصص محكية (37). وتشير ماريا فليلا بتيه الى اهمية انشاء علاقة بين فعالية حكاية قصة ما، والطبيعة الزمنية للتجربة الانسانية، مؤكدة انه حيثما توجد قصة ما فان ذلك يعود الفضل فيه الى ان هناك أناساً يعملون، ويعانون، وبكلمات أخرى ان حكي قصة ما يعني ان هناك شخصاً ما يمكن الإشارة اليه عند تساؤلنا:: من فعل ذلك "؟ " من تصرف بهذه الطريقة "؟"و " لمن حدث هذا الأمر؟" وهو ما يقود إلى التأكيد ان الكينونة الفردية او الجماعية يمكن تمييزها من خلال فعل التأليف الذي نسميه سرداً، سواء أكان ذلك السرد من النوع التخييلي ام التاريخي (38).

وتؤكد نظرية ريكور السردية البعد الاجتماعي للتجربة الإنسانية والاجتماعية من خلال الإشارة الى تعالق الهويات أي تعالق الهوية السردية بهويات الآخرين بطريقة تؤدي الى توليد قصة ذات نسق ثانِ تترابط بدورها مع قصص متعددة، وبهذا نصبح جميعاً مرتبطين من خلال القصص المبنية على وفق عملية التحبيك او بناء الحبكة التي تتمثل في الثقافة، وبضمنها أنماط الحياة الطيبة (39).


1.كاظم، نادر " الهوية والسرد ": دراسات في النظرية والنقد الثقافي " نقلاً صحيفة " أخبار الأدب " القاهرة العدد الصادر في 14 / 5 / 2006 باب كتب " انترنيت ".
2. Venn Couze. The Future of Dialogue: Narrative Identity ,the Exchange of memory ,and The Constitution of New Spaces of Belonging. internet. P.ll.
3. Villela-Petit,Maria. Narrative Identity and Ipseity by Paul Ricoeur.(internet). P.12.
4.ثامر، فاضل، ما وراء السرد ونرجسيتة الكتابة السردية " مجلة " الأديب العراقي " الصادرة عن اتحاد الأدباء في العراق، العدد 2 كانون الأول 2005 ص 6.
5. خضير، محمد " بصرياثا: صورة مدينة " منشورات الأمد (ط1 ) بغداد 1993 ص 11.
6. الصقر، مهدي عيسى. " المقامة البصرية العصرية ـ حكاية مدينة "، منشورات دار الشؤون الثقافية، بغداد ( ط1) 2004، ص 5.
7. المصدر السابق ص 223.
8. Stephenson, Susan. Narrative, Identity and Modernity ( iuternet) ,p.2.
9. الغانمي، سعيد " ترجمة وتقديم " " الوجود والزمان والسرد: فلسفة بول ريكور " تحرير ديفيد وورد " المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت 1999 ص 216.
10. Stephenson (ibid) p.
11. ثامر، فاضل " اللغة الثانية: في إشكالية المنهج والنظرية، والمصطلح في الخطاب النقدي العربي الحديث " المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء ـ بيروت 1994 ـ ص 15 ـ 38.
12. الغانمي، سعيد ـ مصدر سابق ص 31 ـ 32.
13. Sutermeister,Paul HaydenWhite or history as narrative,internet,P.l.Grin.com,1,20,2007 14Villela- Petit ,ibid,p.2
15.Ricocur and Merleau - Ponty on Narrative Identity,(internet) _The Writer is not mentioned.p.1
16. الغانمي، سعيد، ص
17. الغانمي، سعيد، مصدر سابق ص 260 ـ 262.
18. Venn,ibid,p.4.
19. Venn, ibid, p.5
20. Rricoeur and Merleau - Ponty, ibid,p2
21. ibid , p.2.
22. ibid, p.3.
23.ibid , p. 1.
24.ibid , p. 1-2.
25. Venn , ibid , p.5
26. ibid , p. 5
27. Vellala _ Petit , ibid , p. 5.
28. الغانمي، سعيد، مصدر سابق ص 69
29. Ricoeur and Merleau - Ponty, ibid , p. 2.
30.ibid , p.4.
31. الغانمي، سعيد، مصدر سابق ص 39.
32. الغانمي، سعيد، مصدر سابق ص 48 ـ 53.
33. المصدر السابق، ص، 81 ـ 84.
34.المصدر السابق ص 223
35. المصدر السابق، ص 251.
36. المصدر السابق، ص 264 ـ 265.
37. enn, ibid,p.4. V
38. Vellela -Petit, ibid , p. 2.
39. Venn , ibid , p. 5