يختلف الاستشراق الروسي في توجهاته ومصادراته عن الاستشراق الغربي الاستعماري الذي درسه إدوار سعيد في كتابه الشهير. هنا يقدم محمد النعماني تتبعا لتطور هذا الاستشراق ودوافعه المعرفية المختلفة.

سانت بيترسبورج: الشرق والاستشراق

كراتشكوفسكي والطنطاوي والجوزي

محمد النعماني

كانت مدينة سانت بطرسبورغ في روسيا الاتحاديه علي مدي تاريخها ولا تزال نموذجا رائعا للثقافة الوطنية والعالمية، وهي حسب تقييم الأمم المتحدة تحتل المرتبة الثامنة بين مدن العالم الأكثر جاذبية. حيث ان أحياءها التاريخية القديمة الواقعة في وسط المدينة والقصور والحدائق في ضواحيها أدرجتها منظمة اليونسكو ضمن قائمة آثار التراث العالمي. لقد بنيت سانت بطرسبورغ علي شاطئ نهر (نيفا) مع مراعاة أحدث خصائص الفن المعماري الأوروبي، وتتسم بالتجانس العجيب والأصالة الحقيقية. وقد مرت ثلاثمئة سنة علي تأسيس مدينة سانت بطرسبورغ. وأخذت هذه المدينة خلال ثلاثة قرون من تطورها السريع تتسم بجمال فريد وانسجام لا مثيل له. إن مدينة سانت بطرسبورغ مركز للمنطقة الشمالية الغربية لروسيا الاتحادية والتي تشغل حوالي 10 بالمئة من مساحة روسيا كلها، كما يبلغ عدد سكانها نسبة مماثلة من اجمالي سكان روسيا الاتحادية. وتضم هذه المنطقة احدي عشرة وحدة إدارية حسب التقسيم الإداري لروسيا وجميعها تتبوأ في السنوات الأخيرة مكانة عالية من حيث المؤشرات الاقتصادية. ومن بين تلك الوحدات الإدارية يعود الدور الأساسي إلي مدينة سانت بطرسبورغ وهي من أكبر المدن ليس في روسيا فحسب بل وفي القارة الأوروبية كلها. وتشهد هذه المدينة حاليا تطورا سريعا في مجالات الصناعة والبيزنس والعلوم والثقافة والتعليم والمرافق الأساسية والمواصلات والخدمات المصرفية والإعلامية والسياحة. كما تتركز فيها طاقات صناعية ضخمة ومراكز كبيرة لتأهيل الخبراء والمتخصصين، وخطوط نقل برية وبحرية وجوية.

. وهي مدينة الاختراعات الجديدة والتكنولوجيا المتقدمة. وتحتل مكانه مرموقة في علم الاستشراق وتعد مركزا هاما لكل الباحثين واساتذة الجامعات المتهمين بدراسه علم الاستشراق ودراسات الشرق المدونة. وفيها العديد من المخطوطات الهامة. حيت يعود تاريخ معهد الاستشراق في سانت بطرسبورغ مع تأسيس المتحف الآسيوي في أكاديميه العلوم الامبراطوريه في العام 1818، ويعد معهد الاستشراق في سانت بطرسبورغ وما فيه من مخطوطات من الاكثر عددا في خزائن روسيا، وواحدة من ثلاث اثمن مجموعات في العالم. وتضم مئه الف مخطوطة وكتاب قديم مطبوع بخمس وستين لغه شرقية حية وميتة، ويبلغ عدد محتويات الخرانة العربيه في معهد الاستشراق حوالي خمسه الاف مجلد وثلاثه الاف مقتطف مدون تعكس كل تاريخ تطور الكتابه العربيه. وتتضمن الآثار الهامة للثقافتين العربية: الاسلاميه والمسيحية. وتشمل المجموعة العربيه مخطوطات القرآن الكريم والانجيل (الكتاب المقدس) وكتب الحديث الشريف، ومؤلفات في الشريعة والعقيدة والفلسفة الاسلامية، ونتاجات فنية واعمال في التاريخ والجغرافيه، والطب، وغيرها من العلوم.

وعلي الرغم من ان هناك العديد من الدراسات والابحاث المتنوعة للعديد من الباحثين والمستشرقين، حول علم الاستشراق بشكل عام، الا ان هناك وجهات نظر متعددة حول ذلك. ويمكن لنا القول ان هناك مدارس متعددة في علم الاستشراق تتميز كل واحده منهما بوجهات نظر متعددة تؤكد لنا ان مؤرخي علم الاستشراق اختلفوا في الكثير من القضايا المتعلقة بعلم الاستشراق. ويمكن القول بأن علم الاستشراق الروسي يتميز بالعديد من القضايا التي لا شك بانها هي اليوم مثار نقاش وبحث علمي واسع للعديد من المهتمين والباحثين بعلم الاستشراق.. ويري مؤرخو علم الاستشراق الروسي أن الاستعراب الأكاديمي في روسيا القيصرية لم يتكون في مدرسة مستقلة إلا في منتصف القرن التاسع عشر، بعد تشكيل كليات ومعاهد لتعليم العلوم الشرقية في مُدن سانت ـ بطرسبورغ وموسكو وقازان، ومع نهاية القرن ومطلع القرن العشرين أنجب الإستعراب الروسي كوكبة من العلماء والمدرسين، الذين شغلوا مكاناً مرموقاً بين مستعربي أوروبا. وبفضل هؤلاء العلماء، الذين وضعوا اللبنات الأولي في صرح الاستعراب، نهضت مدرسة الاستعراب الروسية وصارت تضاهي مثيلاتها في بلدان أوروبا.

إلي هؤلاء العلماء المستعربين ينتسب العلامة بولديريف (1780-1842)، والأكاديمي كريستيان فرين(1782-1851) مدير المتحف الآسيوي، والأديب والعلامة يوليان سينكوفسكي(1800ـ 1858) رئيس قسم اللغة العربية وآدابها في جامعة بطرسبورغ، والعلامة ميرزا محمد علي كاظم بيك (1802 ـ 1870) أول عميد لكلية اللغات الشرقية،والأستاذ فولكوف (ت : 1846) مدرس مادة اللغة العربية وآدابها في جامعة بطرسبورغ، والأستاذ موخلينسكي (1808ـ1877) والأُستاذ فلاديمير غيرغاس (1835ـ1887) والأكاديمي فيكتور روزين (1849ـ1908) والمؤرخ فاسيلي بارتولد (1869 ـ 1930) صاحب مؤلفات قيمة في تاريخ العرب والإسلام في القرون الوسطي والصلات التاريخية بين دولة الخلافة العربية ـ الإسلامية وروسيا القديمة ومؤسس مجلة (العالم الإسلامي). وكرس المستشرق والكاتب الأوكراني أغافانغل كريمسكي (1871 ـ 1942)، الضليع في الدراسات السلافيانية وعلوم الشرق وتاريخ الأديان وعلم اللغات، حياته للعمل في مجال التدريس والبحث العلمي منذ بداية القرن العشرين، وتابع عمله بنجاح في العصر السوفيتي في جامعة كييف وساهم بشكل كبير في تطوير علم الاستعراب الروسي والسوفيتي مُخلفا ًبحوثاً قيمة في تأريخ العرب والإسلام والأدب العربي القديم والحديث ومنها تاريخ العرب والأدب العربي (1911 ـ 1912)).

وأسدي المستشرق إغناطيوس كراتشكوفسكي (1883 ـ 1951)، مؤسس مدرسة الاستعراب السوفييتي، قسطاً عظيماً في الاستعراب العالمي بما ترك من أبحاث ودراسات علمية رائدة في مجال الأدب العربي القديم والحديث وتحقيق وترجمة المخطوطات العربية والإسلامية وتدريس علوم اللغة العربية وآدابها والقرآن الكريم وترجمة معانيه إلي اللغة الروسية، وإشرافه علي تنظيم وإدارة عشرات المؤتمرات والجمعيات والحلقات والدوريات العلمية الروسية والدولية. والجدير بالذكر أن الأكاديمي كراتشكوفسكي كان عضو شرف في المجامع العلمية في سورية وإيران وبريطانيا وغيرها. هذا وترك العلامة كراتشكوفسكي تراثا غنيا ضم (450) دراسةً ومقالاً في مختلف حقول علم الاستشراق. وإليه يعود الفضل في تعريف روسيا والغرب بالأدب العربي الحديث. ولاحقاً واصل المستعربون السوفييت رسالة الرواد الأوائل بنجاح شامل.

وكان للعلماء والمدرسين العرب في معاهد الاستشراق والجامعات الروسية شأن كبير في إعداد أجيال المستعربين الروس في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين : كالعلامة المصري الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810ـ1861) أستاذ مادة اللغة العربية وتاريخ العرب في جامعة بطرسبورغ. والدمشقي مرقص(1846-1911)، والأُستاذ قلزي (1819ـ1912)، والأُستاذ فضل الله صروف (1826 ـ1903)، والأُستاذ عطايا (1852ـ1924) والعلامة الفلسطيني بندلي الجوزي (1871ـ1942) أستاذ مادة اللغة العربية في جامعتي قازان و باكو وصاحب عشرات الدراسات التاريخية والأبحاث العلمية في مجال الآداب العربية، والبروفسورة الفلسطينية كلثوم عودة فاسيليفا (1892ـ1965) أستاذة مادة اللغة العربية في جامعة لينينغراد والأكاديمية الدبلوماسية في موسكو ومؤلفة كتب تعليم اللغة العربية وتاريخ الأدب العربي، وغيرهم الكثير.

كرسي اللغة العربية
في روسيا القيصرية جري تدريس اللغات الشرقية وآدابها استناداً إلي لائحة النظام الداخلي العام للجامعات الروسية التي أقرت في الخامس من تشرين الثاني عام (1804). وبعد إعادة بناء الجهاز الإداري والأكاديمي في جامعة موسكو وتأسيس جامعتي قازان وخاركوف، تم استحداث كراسي اللغات الشرقية في أقسام علوم اللغات. وآنذاك كان يقصد باللغات الشرقية، في روسيا كما هو في أوروبا، لغات الإنجيل ولغات الشرق الإسلامي. ويذكر أن أول مدرسة روسية لإعداد المعلمين تأسست في عهد القيصر ألكسندر الأول في مدينة بطرسبورغ عام (1803)، وفي السنة التالية رقيت إلي معهد التربية ثم تحول في (23/12/1816) إلي معهد التربية المركزي وفي الثامن من شباط عام (1819) رُقي المعهد إلي جامعة بطرسبورغ بمفهومها الحديث والتي تواصل رسالتها التربوية والتعليمية كواحدة من أهم الجامعات الروسية والعالمية. في هذا المعهد أنشئ كرسيان للغات الشرقية هما: كرسي اللغة العربية وكرسي اللغة الفارسية. وللشروع في تدريس هاتين المادتين دعت وزارة المعارف الروسية المستشرقين الفرنسيين ديمانش (ت: 1839) وشارموا (1793ـ1868) وفي نهاية آذار (1818) بدءا التدريس. وكلاهما كان يحمل لقب بروفيسور علي الرغم من أنهما لم ينشرا أي دراسة تستحق الذكر...! ولغرض مساعدة المستشرقين الفرنسيين في توجيه الدروس العملية لطلاب اللغتين العربية والفارسية عين الأستاذ ميرزا توتشيباتشيف مدرساً، وكان الأستاذ ميرزا ذا معارف علمية عالية.
ويُعد عام (1818) في تاريخ الاستشراق الروسي عاماً هاماً،إذ بدأ في نهاية آذار تدريس اللغتين العربية والفارسية في معهد التربية المركزي، وفي الحادي عشر من تشرين الثاني قررت إدارة أكاديمية العلوم الروسية إنشاء قسم خاص بالأوسمة والمسكوكات والمخطوطات والكتب الشرقية. وعينت المستشرق كريستيان فرين (روسي النشأة ألماني الأصل) خازناً لهذا القسم الجديد. وهكذا جري في عام (1818) تأسيس مركزين أكاديميين في مدينة بطرسبورغ قاما بدور كبير في تطوير علم الاستشراق الروسي: المركز الأول في معهد التربية المركزي، والذي شكل نواة كلية اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ (تأسست عام: 1855).

والمركز الثاني المتحف الآسيوي التابع لأكاديمية العلوم الروسية (تأسس عام 1818)، وهو أول مؤسسة أكاديمية للبحوث والدراسات الشرقية في روسيا. وبعد مضي عامين علي إعادة تأسيس جامعة بطرسبورغ وتحديداً في عام (1819) أنشأت ثلاثة أقسام جديدة في كلية التاريخ والآداب هي:
1- قسم التاريخ،
2- قسم الآداب،
3- قسم العلوم الشرقية.

وفي القسم الثالث درس الأستاذ الفرنسي ديمانش مادة اللغة العربية، ودرس الأستاذ الفرنسي شارموا مادة اللغة الفارسية. وأدار الدروس التطبيقية في هاتين المادتين المدرس ميرزا توتشيباتشيف. وإثر استقالة كل من الأستاذين ديمانش وشارموا من جامعة بطرسبورغ عام (1821) كلف المدرس توتشيباتشيف بمهمة تدريس مادتي اللغة العربية واللغة الفارسية، بعد أن رقي إلي درجة أستاذ مساعد، وحينذاك ترأس كرسي علوم اللغة العربية وآدابها في جامعة بطرسبورغ. وفي عام (1822) دعت جامعة بطرسبورغ المستشرق الشاب يوليان سينكوفسكي (1800ـ1858) للتدريس في الجامعة، وبدأ في (18 آب /أغسطس 1822) تدريس مادتي اللغة العربية واللغة التركية، علي الرغم من أن تدريس مادة اللغة التركية أدخل، رسمياً، في الجامعات الروسية عام (1835). وتميزت محاضرات البروفيسور سينكوفسكي بالمعارف العلمية الغنية والمعلومات الواسعة الضرورية. واجتهد في إطلاع طلابه علي مصادر المعرفة الحية، هذا ما يؤكده طلابه ورواد مجالسه العلمية والأدبية ومنهم العالمان غريغوريف وسافيليف. وبعد فترة وجيزة من عمله في تدريس اللغات الشرقية بدأت اهتمامات العلامة يوليان سينكوفسكي بعلوم الاستشراق تتراجع مسجلة ميلاً واضحاً نحو النشاطات الأدبية والثقافية، الأمر الذي دفعه عام (1834) إلي إصدار مجلة(مكتبة المطالعة) وتدريجياً تفرغ للعمل في المجلة وانقطع عن التدريس وآنذاك فقدت الجامعة أستاذاً قديراً وكسبت المحافل الأدبية الروسية أديباً وناقداً فذاً...وفي عام (1827) كلف المستعرب فولكوف (تخرج في قسم اللغة العربية وآدابها بجامعة سانت ـ بطرسبورغ عام 1823، وعمل مساعدا للبروفسور يوليان سينكوفسكي منذ عام 1824 العلامة، لاحقاً، في المتحف الآسيوي) بتدريس مادة اللغة العربية وآدابها لطلاب السنة الأولي في الجامعة.

مراكز الاستشراق
جدير بالذكر أن وزارة الخارجية الروسية أنشأت يوم 29 أيار/ مايو عام 1833، قسماً لتعليم اللغات الشرقية في الدائرة الآسيوية التابعة للوزارة. وجري في هذا القسم تدريس اللغات: العربية والفارسية والتركية. وهكذا ومع نهاية عشرينات القرن التاسع عشر أصبح عدد مراكز الاستشراق في مدينة بطرسبورغ وحدها أربعة وهي:
1. قسم علوم اللغات الشرقية في جامعة سانت ـ بطرسبورج.
2. المتحف الآسيوي التابع لأكاديمية العلوم الروسية.
3. قسم تعليم اللغات الشرقية التابع للدائرة الآسيوية في وزارة الخارجية الروسية.
4. قسم المخطوطات الشرقية في المكتبة الإمبراطورية الروسية.

وعاماً بعد عام ساهمت هذه المؤسسات في إرساء تقاليد دراسة علوم لغات وتاريخ وأديان وثقافة شعوب الشرق. وخلقت ظروفاً مؤاتية لنمو وتطورٍ عاصفٍ في حقول علم الاستشراق في بطرسبورغ وروسيا عموماً. الأمر الذي حث العلماء ـ المستعربين: فرين وشارموا وسينكوفسكي علي توزيع مذكرة مشتركة في عام (1829) طالبوا فيها الجهات المعنية افتتاح صفوف دراسية خاصة بعلوم اللغات الشرقية وآدابها. وفي وقت لاحق فرضت اللائحة الجديدة لميثاق الجامعات الروسية ـ أقرت عام (1835) ـ علي أقسام التاريخ والآداب وكليات الفلسفة في الجامعات والمعاهد إدخال تدريس اللغات الشرقية في مناهجها الدراسية وخصوصا العربية والتركية والفارسية والتترية والمنغولية. وعلي الرغم من أن اللائحة المذكورة نصت علي تدريس اللغة المنغولية إلا أن تدريس هذه المادة لم يتم إلا بعد عشرين عاماً. ومن الملائم أن نذكر أنه حتي ثلاثينات القرن التاسع عشر كانت اللغات الشرقية تدرس في الجامعات والمعاهد الروسية التالية: جامعة بطرسبورغ، جامعة قازان، معهد لازاريف للغات الشرقية في موسكو (تأسس عام 1815)، المعهد الشرقي في أوديسا. وفيما يخص جامعة بطرسبورغ واستناداً إلي ميثاق الجامعات الروسية المُقر عام (1835)، أنشئ قسم العلوم الشرقية في كلية الفلسفة وضم خمسة كراس هي:

وفي عام (1848) أعلن مسؤول دائرة التعليم، أيضاً، في مذكرة وزعها في بطرسبورغ؛ بأنه لا جدوي من بقاء أقسام علوم اللغات الشرقية علي ما هي عليه، لهذا يقتضي الواجب إما النهوض بها وتطويرها أو إغلاقها. واقترح حصر تدريس علوم اللغات الشرقية في جامعة قازان. وفي هذه المذكرة عدد مسؤول دائرة التعليم نواقص الاستشراق الجامعي وطرح الحلول التي رآها مناسبة. وأصر علي أن يقتصر تدريس علوم اللغات الشرقية علي جامعة قازان. هذه المقترحات لم تحظ بموافقة وزير المعارف الذي أصدر تعليمات تقضي بالمحافظة علي كراسي اللغات الشرقية في جامعة سانت ـ بطرسبورغ والجامعات الروسية، معللاً ذلك بحاجة الحكومة وأجهزتها إلي مترجمين ومبعوثين إلي أقاليم ما وراء القوقاز لجمع الضرائب والمحاصيل. وللنهوض بمؤسسات الاستشراق الروسي ظهر في تشرين الثاني عام (1851) ـ بعد أن سجل الاستشراق في جامعة قازان تراجعاً ملموسا ـ مشروع جديد يدعو إلي توحيد كراسي علوم اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ وجامعة قازان والمعهد الشرقي في أوديسا وقسم تعليم اللغات الشرقية التابع للدائرة الآسيوية بوزارة الخارجية الروسية، في مؤسسة تعليمية، اقترح المشروع تسميتها (المعهد الآسيوي في بطرسبورغ) غير أن هذا المشروع واجه معارضة قوية من المسؤولين الكبار في وزارة الخارجية الروسية، الأمر الذي دفع السلطات المعنية إلي إبداله بفكرة استحداث كلية للغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ. وفعلاً وفي الثاني والعشرين من تشرين الأول عام (1854) أصدرت الحكومة الروسية مرسوماً قضي بتحويل قسم اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ إلي كلية للغات الشرقية. وكان هدف المرسوم: دراسة اللغات الشرقية وفق منهج سليم. وحصر تدريسها في جامعة بطرسبورغ التي وضعت الحكومة الروسية تحت تصرفها مصادر مالية و كفاءات بشرية كبيرة للنهوض بهذا الحقل الهام والواسع من حقول العلم والمعرفة. في الواقع لم يجر اختيار جامعة بطرسبورغ لتكون مركزاً لدراسة علوم اللغات الشرقية مصادفة، بل جاء لأسباب عديدة نذكر منها:

1. توافر الأساتذة والمدرسين والباحثين في علوم اللغات الشرقية.
2. وفرة المصادر العلمية والدينية والثقافية والمناهج التعليمية في مكتبات ومتاحف ومعاهد مدينة سانت ـ بطرسبورغ.
3. سهولة الاتصال بين وزارة المعارف الروسية وأجهزتها الإدارية والتربوية في بطرسبورغ.
وفور تأسيس كلية اللغات الشرقية في جامعة سانت ـ بطرسبورغ انضمت إليها أقسام علوم اللغات التالية:

1. اللغة العربية.
2. اللغة الفارسية.
3. اللغة التركية - التترية.
4. اللغة المنغولية - الكلميكية.
5. اللغة الصينية.
6. اللغة العبرية.
7. اللغة الجورجية.
8. اللغة الأرمنية.
9. اللغة المنشورية

وبعد إعادة تشكيل مؤسسة الاستشراق في جامعة سانت - بطرسبورغ تم جمع هذه الكراسي التسعة في خمسة أقسام تشكلت منها كلية اللغات الشرقية وهي:

1. قسم اللغات العربية والفارسية والتركية والتترية.
2. قسم اللغات المنغولية - الكلميكية - التترية.
3. قسم اللغتين الصينية - المنشورية
4. قسم اللغتين العبرية- العربية.
5. قسم اللغتين الأرمنية- الجورجية.

ومن الأهمية الإشارة هنا إلي البند الرابع من مرسوم الحكومة الروسية الصادر في تشرين أول عام (1854) الذي نص علي إلغاء تدريس علوم اللغات الشرقية في جامعة قازان والمعهد الشرقي في أوديسا، محافظاً، في الوقت ذاته، علي تدريس مادة اللغة التترية في جامعة قازان. وبعد أقل من عام علي صدور مرسوم الحكومة الروسية، أعلاه، تم افتتاح كلية اللغات الشرقية في جامعة سانت ـ بطرسبورغ في السابع والعشرين من شهر آب (اغسطس) عام (1855). وفي غضون ذلك تم تعين العلامة كاظم بيك (بطريرك الاستشراق الروسي) عميداً للكلية وشغل هذا المنصب حتي عام (1858). وفي حفل افتتاح الكلية عام (1855) حدد البروفيسور كاظم بيك رسالة الكلية علي النحو التالي: رسالة كليتنا ذات طبيعة تطبيقية صرفة مرتبطة بالحياة اليومية، وهي: إعداد كوادر شابة للعمل في دوائر وزارة الخارجية الروسية المعتمدة في بلدان الشرق، وأساتذة ومدرسين في لغات وتاريخ الشرق.

رسالة الكلية
ساهم انشاء كلية اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ وانضمام الأقسام الشرقية في جامعة قازان ومعهد أوديسا اليها وتوظيف الخبرات والمعارف العلمية الرفيعة عند أساتذة ومدرسي الكلية، في الارتقاء بتدريس لغات، وآداب وتاريخ وجغرافيا، وثقافة شعوب الشرق، وزيادة حيوية وفاعلية علم الاستشراق الروسي، الذي كان له، دون منازع، الأثر العظيم في تطوير الاستشراق الجامعي والبحثي، ووضعه علي أعقاب مرحلة جديدة خلقت ظروفاً مواتية لنمو عاصفٍ في مجال ترجمة المؤلفات العربية الكلاسيكية، وتحقيق المخطوطات العربية والاسلامية والتوسع في دراسة الموروث الحضاري العربي والاسلامي وتعاظم الاهتمام في تدريس اللغات الشرقية وآدابها، وتاريخ وثقافة شعوب الشرق في الجامعات والمعاهد الروسية، وايفاد البعثات العلمية والدبلوماسية والارساليات الدينية الي بلدان الشرق ومراكز الاستشراق في دول أوروبا الغربية. وفور انشاء كلية اللغات الشرقية تشكلت الهيئة التدريسية من خيرة المستشرقين الروس والأجانب الذين درسوا علوم اللغات الشرقية، وتاريخ وجغرافيا، وأديان بلدان الشرق ومنهم: كاظم بيك درس علوم اللغة الفارسية وآدابها، والشيخ محمد عياد الطنطاوي ونافروفسكي درسا علوم اللغة العربية وآدابها، وتاريخ العرب والاسلام، وموخلينسكي درس علوم اللغة التركية وآدابها، وتاريخ وجغرافيا السلطنة العثمانية، وبوبوف (كان وقتذاك رئيس جامعة سانت ـ بطرسبورغ)، درس علوم اللغة المنغولية وآدابها ،وتاريخ المغول منذ عهد جنكيز خان حتي منتصف القرن التاسع عشر، وبيريزين درس تاريخ الأتراك ،وغولستونسكي درس علوم اللغة الكلميكية وآدابها وفاسيليف درس علوم اللغتين الصينية والمنشورية وآدابهما، وخفولسون درس علوم اللغة العبرية وآدابها، وبيروف درس علوم اللغة الأرمنية وآدابها، وتشوبينوف درس علوم اللغة الجورجية وآدابها، وبوداغوف درس علوم اللغة الأذرية وآدابها، وكوسوفيتش درس تاريخ الأدب السنسكريتي (نعت يطلق علي لغة البراهمة المقدسة السنسكريتية وعلي الكتب الصادرة فيها، وهي احدي اللغات الهندو ـ أوروبية، كتبت فيها معظم كتب الهند الدينية والأدبية).

اضافة الي هذه المواد تضمن برنامج كلية اللغات الشرقية الدراسي مواد اضافية الزامية تدرس في عموم الجامعة منها: مادة الدين لطلبة السنة الأولي، اللغة الروسية لطلبة السنة الأولي والثانية، تاريخ روسيا، تاريخ التشريعات الروسية، اللغة الفرنسية. وفي عام (1858) استحدث قسم سادس هو قسم اللغتين السنسكريتية ـ الفارسية، درس هاتين اللغتين دورن وكوسوفيتش. وتجدر الاشارة الي أن اللائحة الجديدة للنظام الداخلي للجامعة، أُقرت في عام (1863)، تضمنت تدريس هاتين اللغتين. وبعد اجراء اصلاحات علي مؤسسة الاستشراق الروسية نهاية الستينات جري تدريس علوم الشرق انسجاماً مع روح مشروع المستشرق كييرا عام (1733)، ومشروع سيرغي أوفاروف (1786 ـ 1855)، رئيس أكاديمية العلوم الروسية اللذين طالبا بانشاء أكاديمية للعلوم الشرقية، ومشروع المستشرقين فرين ـ شارموا ـ سينكوفسكي عام (1829) الذي تضمن استحداث فصل دراسي خاص بعلوم اللغات الشرقية. عن هذه الاصلاحات كتب عميد كلية اللغات الشرقية البروفيسور غريغوريف يقول: ان الاصلاحات التي شملت الاستشراق الجامعي في روسيا لا مثيل لها في الجامعات الأوروبية. . . وهذا ما كان يجب أن يكون.

اهتمام أكبر بالموروث العربي والاسلامي
وهكذا وبفضل تشكل مدرسة الاستشراق الروسية ازداد الاهتمام بالحضارة العربية والاسلامية ازدياداً مطرداً. ويري الباحثون الروس أن المضمون الأساسي للأدب العربي يتحدد في تجسيده أصالة الحياة الاجتماعية والروحية للشعب العربي ومصيره التاريخي. لذا فليس من قبيل الصدفة أن تتجلي من قرن لآخر وبقدر متزايد دوماً المزايا الفنية الرفيعة للأثر الشعبي العربي (ألف ليلة وليلة) الذي صدرت له أول ترجمة من الفرنسية الي الروسية عام (1796)، وأعرب الكاتب الروسي نيكولاي تشيرنيشيفسكي (1828 ـ 1889) في كتابه قصة القصص عن اعجابه الشديد بهذا الأثر، وقال أنه صادف في الأدب العالمي نتاجات أردأ منها (الحكايات)، ولكنه لم يصادف ما هو أفضل منها مطلقاً.

وشهد النصف الأول من القرن التاسع عشر حركة ترجمة نشطة لعدد كبير من المؤلفات العربية الأدبية والتاريخية والدينية. ففي عام (1833) صدرت ترجمة سيرة عنترة للكاتب يوليان سينكوفسكي، الذي كان ينشر باسم مستعار هو البارون برامبيوس . واعتباراً من عام (1840) أخذت المجلة الأدبية (سيفيرنايا بتشيلا) ـ نحلة الشمال ـ التي أصدرها الكاتب سينكوفسكي، تعرف قراءها بانتظام علي أفضل نتاجات الأدب العربي. وفي عام (1863) ترجمت معلقة امرئ القيس الي اللغة الروسية، وقد تأثر بها لاحقا الأديب الروسي المعروف ايفان بونين، الذي نظم قصيدة بعنوان امرؤ القيس، ولهُ قصائد من وحي الآثار العربية والاسلامية منها: (مُحمد في المنفي) و(علامات هادية) و(زينب). وفي عام (1889) صدرت ترجمة (كليلة ودمنة). ويمكن اعتبار النصف الأول من القرن التاسع عشر، في تاريخ العلم الروسي، عصر تشكل الاستعراب الرسمي في روسيا والانفتاح علي النتاجات الفكرية العربية والاسلامية، وازدياد اهتمام المستعربين الروس بالمرحلة الكلاسيكية للغة العربية، وآدابها وتاريخ المجتمع العربي. وشهدت هذه المرحلة نشاطاً ملحوظاً تميز بجمع المخطوطات والكتب العربية النادرة من مصادر مختلفة. وقامت القنصليات والارساليات الروسية في الشرق الأدني بدور كبير في اقتناء الآثار العربية والاسلامية المدونة من بلدان الشرق الاسلامي والتي تشكل اليوم ثروة غنية في روسيا. وفي الربع الأخير من القرن التاسع عشر زاد الاهتمام في روسيا بلغة وتاريخ وثقافة العرب، الأمر الذي انعكس علي صفحات الصحف والمجلات والدوريات الروسية، اذ نشرت مقالات وتحقيقات عن مصر والعراق وسورية وفلسطين وبلدان المغرب العربي.

في نهاية القرن التاسع عشر أوردت الدوريات والتقارير الدبلوماسية والدينية الروسية معلومات كثيرة عن تعاظم سيل الحجاج الروس الذين أموا الأراضي المقدسة في المشرق العربي، وبروز تبادل تجاري نشيط بين روسيا والبلدان العربية اذ بدأت سفن شركة الملاحة والتجارة الروسية، التي تأسست عام (1857)، تتردد بانتظام علي الموانئ العربية. وساهم انشاء الجمعية الامبراطورية الأرثوذكسية في الأرض المقدسة في 21 أيار/ مايو 1882 باشراف الرحالة الروسي فاسيلي خيتروفو، مؤلف عشرات البحوث والدراسات التاريخية عن فلسطين والشرق الأوسط، في تعضيد التقارب الروحي بين الروس والعرب. إذ كان لها الفضل في بناء شبكة من المدارس في فلسطين وسورية ولبنان ظلت تتسع باطراد حتي بلغ عددها (114) مدرسة تضم (15) ألف طالب وطالبة عام 1914. وقد اعتمدت هذه المدارس علي أفضل المبادئ التربوية الروسية، وعنها قال المستشرق الروسي كراتشكوفسكي في كتابه الشهير (مع المخطوطات العربية): ومع أن هذه المدارس الصغيرة كانت فقيرة الأثاث الا أن لوجودها مغزي عظيما. فلقد وصلت الي هناك من روسيا وعن طريق مدارس الجمعية الفلسطينية الوصايا العظيمة والأفكار العالية لبيروغوف وأوسبينسكي. وكثيراً ما كانت المبادئ التربوية للمدارس الروسية في فلسطين وسورية أعلي مما لدي المؤسسات التبشيرية المختلفة لغرب أوروبا وأمريكا علي الرغم من جودة تجهيز هذه المؤسسات.

كما وسجل الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة، الذي تعلم في مدارس الجمعية وواصل دراسته الجامعية (1905 ـ 1911) في مدينة بتروغراد / بطرسبورغ ومدينة بلتافا في أوكرانيا (زارها كاتب المقال عام 1989 بمناسبة احتفال المستشرقين السوفييت بمرور مئة عام علي ميلاد الأديب ميخائيل نعيمة) انطباعاته عن المدرسة الروسية الجديدة في بلدته (بسكنتا) يقول: ما كان لنا نحن الصغار أن نعرف من أين جاءتنا تلك النعمة وكيف. وكل ما عرفناه أن (المسكوب) قوم أشداء وكرماء يحكمهم قيصر تهتز لكلمته جميع ملوك الأرض. وانهم يقطنون بلاداً شاسعة وباردة في الشمال. وانهم روم مثلنا، ولذلك يعطفون علينا ويحرصون علي الدفاع عنا وعن ديننا ... أما دولتنا العلية فكانت قد بلغت من الهرم والتفكك حد الانحلال وان الدول الغربية، تحت ستار الدين راحت تتسابق الي بسط نفوذها في أجزاء تلك الدولة المتداعية، فكان لنا فيض من المدارس الفرنسية والانكليزية والألمانية والايطالية والروسية وغيرها في فلسطين ولبنان ـ أما ذلك كله فكنا غافلين عنه، وغير شاعرين بوجوده.

وتشير المصادر الي أن المؤرخ الروسي خيتروفو زار فلسطين في بداية الثمانينات من القرن التاسع عشر، وقام بجمع مصادر قيمة من الكتب عن فلسطين، ورثتها الجمعية بعد وفاته، وقبل تأسيس الجمعية بعام واحد أصدر خيتروفو العدد الأول من (المجموعة الفلسطينية) ـ حتي عام (1917) صدر (90) عددا من المجموعة ـ ومن بين الرحالة والعلماء والأدباء الذين أشرفوا علي نشاطات الجمعية فيليبوف، كوتوزوف، أوليانتسكي، بونوماريوف. وبلغ عدد أعضاء الجمعية في نهاية القرن التاسع عشر حوالي خمسة آلاف شخص ـ وآنذاك انصب اهتمام علماء الجمعية الروسية ـ الفلسطينية علي دراسة تاريخ العلاقات الاقتصادية والثقافية والدبلوماسية بين روسيا والشرق الأدني منذ العصور القديمة، وقد خلف الرحالة والحجاج والفنانون والمستشرقون الروس دراسات ومذكرات ذات قيمة حضارية رفيعة عن الشرق العربي والبلدان المجاورة.

المسألة الشرقية
لا شك أن الاستشراق الروسي، نهاية القرن التاسع عشر، شأنه شأن الأوروبي عموماً، نما وترعرع بفعل الأحداث التي ألمت بالشرق الاسلامي وخصوصاً (المسألة الشرقية) التي كانت احدي المشاكل العظمي في السياسة الأوروبية آنذاك. كما أدت موجة مناهضة الاستعمار الي تغيير في النظرة الشاملة تجاه الشرق العربي وقضاياه العادلة. وطرح تزايد اهتمام روسيا بهذه المنطقة وتعاظم نفوذها في بعض الولايات العثمانية أمام الاستعراب الروسي مهام جديدة، وأخذت نخبة من العلماء والرحالة والدبلوماسيين تعالج التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للعالم العربي، وفي الوقت نفسه ازدادت الاتصالات مع العلماء والأدباء والمترجمين من أبناء البلاد العربية والاسلامية وكان لهذه النخبة مكانة هامة في تطوير مؤسسات علم الاستعراب الروسي ومنهم العلماء والمدرسون: قلزي وصروف والخشاب والشيخ الطنطاوي وبندلي الجوزي وعطايا وغيرهم الكثير. وكان من نتائج هذه التطورات اعادة تنظيم الاستعراب الجامعي في بطرسبورغ، بعد أن تم اقرار اللائحة الجديدة للنظام الداخلي للجامعات الروسية عام 1884. وآنذاك تم التركيز علي تطوير وتعزيز اتجاه البحث العلمي في عمل كلية اللغات الشرقية ورفد الكلية بالاختصاصيين ذوي التأهيل العلمي العالي للنهوض بالمهام الجديدة. وبرز من بين هؤلاء العلماء فاسيليف ومينايف وغالسنوفسكي وبانكانوف وغيرغاس وروزن (1849 ـ 1908) مؤسس مدرسة الاستشراق الروسي قبيل ثورة أكتوبر 1917.

كما ركز البرنامج التعليمي في كلية اللغات الشرقية بجامعة بطرسبورغ علي تدريس المواد التالية: اللغات الشرقية، الآداب الشرقية، تاريخ بلدان الشرق، وشملت المادة الأخيرة تاريخ شعوب آسيا الوسطي والصين وبلاد فارس وتركيا ومصر. وجري تدريس هذه المواد بطريقة اتسمت بالتناسق والانسجام بين الأهداف العلمية ـ البحثية والتطبيقية. لأن مصالح روسيا كانت دائماً علي ارتباط وثيق بالشرق والشرق بالنسبة للمستشرقين الروس، في رأي البروفيسور مينايف، لا يمكن أن يقتصر علي ذلك الشرق المطروح في الكتب. واعترافاً بدور الاستشراق الروسي في تطوير علم الاستشراق الأوروبي عقد في مدينة سانت ـ بطرسبورغ.
مع تخوم القرن العشرين برزت مواضيع جديدة احتلت موقع الصدارة في دراسات وبحوث المستشرقين الروس وهي: دراسة الشرق علي ضوء المكتشفات الأثرية الحديثة في أراضي روسيا وبلدان الشرق (وكان من بين ممثلي هذا العلم ماير وأربيلي مدير متحف الأرميتاج لاحقاً) ودراسة الاتجاهات الجديدة في الآداب الشرقية، وفي هذا الحقل نشر العلماء سميرنوف، فيسيلوفسكي... عشرات الأبحاث، ويعتبر العلامة كراتشكوفسكي أول عالم أوروبي يكتب عن الأدب العربي الحديث، حيث وضع عام (1909) دراسة بعنوان (الرواية التاريخية في الأدب العربي المعاصر، وصف فيها آثار أبرز ممثلي الاتجاهات الأدبية الحديثة: جرجي زيدان وجميل الزهاوي وأمين الريحاني ومحمد تيمور. كما أعار المستشرق كراتشكوفسكي اهتماماً بالغاً لمبادئ ومناهج دراسة الأدب العربي. ويعود الفضل في دراسة تاريخ الثقافة العربية في العصر الوسيط الي المؤرخ المعروف بارتولد، اذ أدخل حيز التداول العلمي مادة علمية كبيرة من المصادر العربية والفارسية والتركية ووضع بدايات الدراسات الأساسية لمسائل التطور الاجتماعي والسياسي في الشرق الأوسط في العصور الوسطي. وترك العلامة الأوكراني كريمسكي أبحاثاً وتحقيقات هامة في تاريخ وثقافة ولغات الشعوب السامية، وأنجز دراسات منوعة في تاريخ الأدب العربي وعلوم اللغة العربية.

ويري المؤرخ الأكاديمي بارتولد (1869 ـ 1930) أن دراسة الشرق في روسيا، حتي بداية القرن العشرين، حققت من الانجازات الكبيرة ما فاق انجازات علم الاستشراق الغربي في هذه الفترة. ورغم هذه الانجازات لوحظ قلة اهتمام المستشرقين الروس بالقضايا والأحداث التي ألمت بالشرق نهاية القرن التاسع عشر وتاريخ واتجاهات الحركات الوطنية في الشرق عموماً. وقد فتحت الحرب العالمية الأولي وما تبعها من أحداث عاصفة في روسيا، مرحلة جديدة في التعامل مع العالم العربي، ويشير المؤرخ المستعرب نيكولاي دياكوف الي أن الحماس الثوري بعد الحرب قد حدد بوضوح اتجاه الحركة التحررية في البلدان العربية، ودفعها نحو الاقتراب من روسيا السوفييتية علي أساس العداء للاستعمار. فحكومة روسيا الجديدة قد تخلت علانية عن التزامها مع حلفائها في مسألة تقسيم تركيا الآسيوية لدرجة أنها نشرت الوثائق الدبلوماسية السرية لاتفاقية سايكس ـ بيكو (ايار/ مايو 1916) التي نصت علي خلق مناطق نفوذ في ممتلكات (الباب العالي) العربية.
وهكذا وبعد انتهاء الحرب بدأ عهد جديد في تاريخ الاستشراق الروسي بعامة والاستعراب بخاصة. وكانت المراكز الرئيسية لدراسة اللغة العربية والأدب العربي قبل ثورة أكتوبر عام (1917) في مدن بتروغراد وموسكو وقازان. أما في العصر السوفييتي فأصبحت اللغة العربية ـ كما يذكر المستعرب غريغوري شرباتوف ـ تدرس أيضاً في المعـاهد العليا المنشأة في الجمهوريات غير الروسية.

مكتبة كلية الدراسات الشرقية
تعد مكتبة كلية الدراسات الشرقية في جامعة سانت ـ بطرسبورغ من أقدم مكتبات الاستشراق في روسيا ورابطة الدول المستقلة. وفيها تحفظ كنوز ثمينة من مخطوطات وعاديات ومؤلفات نادرة في علوم الشرق باللغات الشرقية والأوروبية تغطي عصوراً تاريخية مختلفة، وتشغل المؤلفات العربية ـ الاسلامية حيزاً كبيراً في خزائن المكتبة. والي عام (1819) يعود تاريخ تأسيس هذه المكتبة، وآنذاك وبمناسبة افتتاح المكتبة المركزية لجامعة سانت ـ بطرسبورغ أهديت الي الجامعة مجموعة مخطوطات باللغات العربية والفارسية والتركية والتترية وكتب عن علم الاستشراق من خزائن دار التحف تأسس سنة (1714)، والمتحف الآسيوي تأسس سنة (1818) التابعين لأكاديمية العلوم الروسية. وقد شكلت هذه المجموعة نواة القسم الشرقي في المكتبة المركزية للجامعة. ويوماً بعد يوم أخذت مجموعات القسم تزداد من خلال هبات وهدايا المؤسسات والأفراد، وفي وقت لاحق، وخصوصاً بعد تأسيس كلية اللغات الشرقية عام (1854)، شرعت ادارة المكتبة في شراء واقتناء المخطوطات والكتب والمؤلفات الثمينة بشكل منتظم ومتواصل، هذا وقد أشرف علي هذه المشتريات نخبة من علماء الاستشراق والدبلوماسيين والتجار الروس.

مخطوطات و كتب نادرة
ومن الملائم أن نذكر أن مجموعة المخطوطات والكتب النادرة التي جلبت بتعليمات من وزارة المعارف، من جامعة قازان ومعهد أوديسا، هي من أكبر وأغني المجموعات التي اقتناها القسم الشرقي في مكتبة الجامعة. ولأجل استيعاب هذه المخطوطات والكتب الثمينة شكلت لجنة خاصة ضمت مستشرقين معروفين منهم: كاظم بيك و موخلينسكي و بوبوف وخازن المكتبة بيوش. ومن نتائج أعمال هذه اللجنة أن اقتني القسم الشرقي مخطوطات نادرة باللغات العربية والفارسية والتركية اضافة الي عدد من المناهج التعليمية. وفي هذا السياق نذكر أن القسم الشرقي منح في عام (1871) تشكيلة ثمينة من المؤلفات الشرقية عددها (178) مخطوطة من مجموعة البروفيسور كاظم بيك، وكذلك مجموعة العلامة المصري الشيخ محمد عياد الطنطاوي التي أهداها الي القسم وهي لا تقل أهمية عن مجموعة البروفيسور كاظم بيك. . ويمكن أن نلاحظ أن عدد المخطوطات في القسم الشرقي قد بلغ عام (1888) عدة آلاف منها مخطوطات باللغة الفارسية أهدتها عام (1886) اللجنة التحضيرية للمؤتمر الدولي الثالث للمستشرقين، عقد في مدينة بطرسبورغ، اضافة الي مجموعات أهداها مستشرقون منهم: ليريخ، فيسيلوفسكي، جوكوفسكي. . وبقدر ما تطور علم الاستشراق في جامعة سانت ـ بطرسبورغ ازدادت فائدة وأهمية مجموعات القسم الشرقي التي شكلت أحد مناهل الاستشراق في بطرسبورغ. ولتوصيف نمو هذه المجموعات الغنية نشير الي أن القسم اقتني، بين عامي (1888ـ 1917)، حوالي (273) مخطوطة باللغات العربية والفارسية والتركية والتترية منها تسع مخطوطات أهداها عام (1911) المستشرق الشاب اغناطيوس كراتشكوفسكي، جلبها من سورية ومصر ... الي جانب ذلك تظهر أهمية وغني المجموعات الشرقية التي تلقاها القسم من علماء ومدرسي كلية اللغات الشرقية منهم: سيمونوف، كوفاليفسكي، كوكومتسوف، روماسكيفتش، ميلير، مينايف.

كما اشترت مكتبة الجامعة مخطوطات نادرة باللغة الأمهرية من المستشرق لاريونوف. وتنقل المصادر أن أرملة المستشرق فيكتور روزين (1849 ـ 1908) أهدت عام (1910) القسم الشرقي كل ما حوته المكتبة الشخصية للعلامة فيكتور روزين، من مؤلفات نادرة باللغات الشرقية والأوروبية. بالاضافة الي لغات وآداب وثقافات بلدان الشرق الأدني اهتم علماء وباحثو القسم الشرقي بالموروث الحضاري لشعوب الشرق الأقصي وجنوب آسيا. وتشهد سجلات مكتبة جامعة بطرسبوغ بأن القسم الشرقي تلقي مجموعة كبيرة ونفيسة من المخطوطات وكتب نادرة باللغات الصينية والمنشورية والمنغولية والكورية واليابانية والتبتية. أشرف علي تصنيفها وفهرستها نخبة من المستشرقين مثل: بيجورون، بوبوف، زخاروف، ألكسندرييف ... أما تصنيف ودراسة المؤلفات الشرقية في القسم من مخطوطات وعاديات وكتب ودوريات فقد بدأ بشكل منظم مع تأسيس كلية اللغات الشرقية عام (1854). والمعروف أن أول فهرسة لمخطوطات القسم الشرقي باللغات العربية والفارسية والتركيةـ التترية وضعه الباحث زاليمان خازن القسم (1875 ـ 1890) بالتعاون مع المستشرق الأكاديمي روزين.

نقوش ومؤلفات اسلامية
وبعد الحرب العالمية الأولي ازدادت مقتنيات خزائن المكتبة. ففي عام (1917) تسلم القسم الشرقي هدية القنصل أوسبينسكي التي حوت مخطوطات وكتبا ونقوشا باللغات الصينية والمنشورية، كما اقتنت المكتبة عام (1919) من البروفيسور سميرنوف مجموعة مؤلفات اسلامية طبعت في روسيا. كذلك حصلت المكتبة علي كتب ونقوش باللغة اليابانية من مكتبة مدرّس اللغات الشرقية كورونو. ووصلت مجموعة كبيرة من المخطوطات باللغات العربية والفارسية والعبرية من متحف الثورة وغيرها من المؤسسات. وبين عامي (1917ـ 1919) اقتني القسم الشرقي مجموعة كتب باللغات الأرمنية والجورجية ذات أهمية كبيرة بالنسبة للأخصائيين والمؤلفات في بلاد القوقاز. وحتي بداية الستينات وصل عدد الكتب والمخطوطات باللغات العربية والفارسية والتركية والتترية والأذرية والطاجيكية والأوزبكية والتركمانية والقرغيزية والصينية والمنشورية والمنغولية والكلميكية والتبتية والكورية واليابانية وكذلك باللغات الهندية:
السنسكريتية، البالية، التاميلية، الهندية، البنجابية عددها (50) ألف مخطوطة ونقش والباقي (135) ألف كتاب ومنشور ومجلة مكتوبة بأكثر من سبعين لغة. كل هذه المؤلفات تناولت جوانب مختلفة من تاريخ بلدان الشرق (غير السوفييتي) منذ العصور القديمة حتي بداية القرن العشرين. شملت هذه المؤلفات العلوم التالية: اللغات، الآداب، الفلسفة، الجغرافية، الاثنوغرافيا، الاقتصاد، الطب، الفلك، التقنية وغيرها.

وفي منتصف خمسينات القرن العشرين شرعت مكتبة كلية الدراسات الشرقية في شراء المكتبات الشخصية للمستشرقين الروس وبعض المناهج والكتب التعليمية في علوم الشرق. ففي عام (1955) اقتنت مكتبة كلية الدراسات الشرقية مكتبة المستشرق سميكالوف، الغنية بمصادرها في علوم وآداب الصين، وكذلك أهدي المستشرق روماسكيفيتش مكتبة كلية الدراسات الشرقية كتبا ومؤلفات قيمة من مكتبته الشخصية شملت علوم وآداب اللغة الفارسية وتاريخ وثقافة ايران.

تبادل المطبوعات مع العراق ومصر
ومع بداية عام (1950) شرعت مكتبة الكلية في تبادل الكتب والمطبوعات الدورية مع عدد كبير من مكتبات ومتاحف الاتحاد السوفييتي وكذلك مع مكتبات بعض بلدان الشرق. وحصلت المكتبة الشرقية علي مؤلفات مطبوعة من الصين ومنغوليا والهند واندونيسيا وفيتنام والعراق ومصر وأفغانستان وايران، وأثيوبيا واليابان وغيرها من الدول.. وخلال السنوات اللاحقة أغنت المكتبة مجموعاتها الشرقية بالأدبيات التي وصلت من الجمعية السوفييتية للعلاقات الثقافية مع البلدان الأجنبية. هذه المجموعات الجديدة شملت مناهج علمية لتعليم اللغات والآداب الشرقية، وساهمت الدول العربية وخصوصاً العراق ومصر في ارسال مؤلفات باللغات العربية والسريانية كما تلقت المكتبة من أثيوبيا أدبيات باللغة الأمهرية. وبين عامي (1955 ـ 1959) وصلت المكتبة هدايا ثمينة باللغات الهندية والبنغالية والبنجابية من رئيس قسم الآداب الهندية في كلية الدراسات الشرقية الدكتور نوفيكوف، وكذلك من الدكتور بالين، والأستاذ بيتشينكو، كذلك مؤلفات باللغة العربية من الدكتور بولغاكوف وكان آنذاك يعمل في مصر... واليوم تحوي خزانة المؤلفات العربية في مكتبة كلية الدراسات الشرقية مخطوطات عربية قيمة ونادرة يربو عددها علي الألف وحدة ذات أهمية متميزة، والكثير منها لا مثيل له في باقي مكتبات روسيا ورابطة الدول المستقلة.

تعتبر اليوم مدينة سانت بطرسبورغ مركزا معترفا به للتعليم والتطور العلمي والابداع الفني. ان القدرات الاقتصادية الكامنة في المدينة عظيمة، ومما يبعث علي التفاؤل أن اقتصاد سانت بطرسبورغ يتطور بوتائر عالية ويقطن في المنطقة الشمالية الغربية لروسيا 20 مليون نسمة مما يؤمن قدرتها الاستهلاكية الضخمة. أضف الي ذلك موقعها الجغرافي الممتاز ووجود شبكة متطورة من وسائل النقل والاتصال ومجموعة واسعة من الصناعات المتقدمة وتوفر قوي عاملة رخيصة وعددا كبيرا من الجامعات والمعاهد لتأهيل المهندسين والفنيين.