يستخلص محرر (الكلمة) ونحن على أبواب مهرجان آفينيون المسرحي الجديد، دروس المهرجان الماضي لواقعنا العربي، ويتأمل بعض ما شاهده فيه من أعمال قديمة تنبض تحت وقع المعالجات الإخراجية الجديدة برسائلها المعاصرة، وأعمال أخرى جديدة تكشف عن حيوية المسرح الأوروبي المعاصر وولعه بالتجريب.

دروس من مهرجان أفينيون المسرحي

صبري حافظ

عدت إلى لندن قبل أيام من جنوب فرنسا، بعد أن قضيت ثلاثة أسابيع أتابع فيها (مهرجان أفينيون Avignon Theatre Festival ) المسرحي، وهو أهم مهرجان مسرحي في أوروبا بلا نزاع. لا يقترب منه من حيث الحجم والحيوية وتنوع التجاب والأجناس المسرحية إلا (مهرجان إدنبره) في اسكوتلندا، ولكنه يظل أقل منه كثيرا من حيث عدد العروض وعدد الدول المشاركة فيه معا. عدت إلى لندن فوجدتها هي الأخرى مشغولة باحتفال مسرحي كبير آخر، لا يقل صخبا وحيوية عن «مهرجان أفينيون» وهو الألعاب الأولمبية التي تملأ ساحاتها بالمباريات. وتسعى للارتقاء بالمنافسات بين الثقافات والقوميات والشعوب إلى أسس عقلية عادلة [بعد أن عانى العالم طويلا من اختلال الأسس التي تنهض عليها العلاقات بين الثقافات والشعوب عبر علاقات القوة الجائرة التي لاتزال ترسباتها تطل برأسها بين الحين والآخر] وترهف طاقات الجسد الإنساني وقدرة العقل على التحكم فيه. وتطرح على مشاهديها أسئلتها الشيقة حول علاقات القوى الجديدة في العالم، حيث تصدرت الصين الشعبية قائمة الميداليات لأيام، وقبل أن تحلق بها الولايات المتحدة الأمريكية ثم تسبقها، بينما انحدرت روسيا إلى مركز متأخر بعد بريطانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية وغيرها. لكنني كأي عربي، مهما استقطبته الأحداث والنشاطات المحيطة به في الخارج، ومهما شاهد تفوق الآخر في المسارح أو المباريات، لايني يمرر كل ما يدور حوله من خلال مرشح ما يدور في مصر وفي العالم العربي، وما يراد بها وبه، وعبر ما وصلت إليه حال الإنسان والثقافة في عالمنا العربي.

لذلك فإنني حينما جلست للكتابة عن «مهرجان أفينيون» للقارئ العربي، فالصحف مليئة بأحاديث الأولمبياد، وبتفاصيل ما يدور فيه، قفز إلى ذهني سؤال: هل يمكن أن أكتب للقارئ في مصر، ناهيك عن سوريا وفلسطين الآن عن مهرجان مسرحي أوروبي يكشف عن مدى تقدم الآخر ورفاهيته، ونحن غارقون في مباءات العنف والدم والدمار؟ هل هذا وقت الحديث عن الثقافة والناس تلهث وراء ضوء يبدد العتمة التي تسعى جاهدة، على الصعيدين الرمزي والفعلي معا، للإجهاز على كل ضوء وعلى بصيص الأمل الذي ولد إبان الربيع العربي؟ هل هذا وقت الكتابة عن المسرح في زمن يهاجم فيه المتأسلمون والمتأسلفون المنتشون بفتات السلطة، والتي أدارت رؤوسه سمادير نشوتها، كل عمل ثقافي أو فني؟ ويسعون بدأب وغباء إلى إسدال جحافل الظلام على مسيرة التحديث والتنوير العربية يحدوهم وهم العودة إلى فراديس مفقودة، بل لا أمل في أي وجود لها في عالم القرن الحادي والعشرين الذي يشهد كل لحظة على تخلفنا في جميع المجالات، بما في ذلك مجالات القيم الأخلاقية والإنسانية.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\Issue 75\75-01-01.jpg

أفيش مهرجان آفينيون 2012 وهو المهرجان السادس والستين

لكن حالة النشوة الراقية التي كانت تسود أرجاء مدينة أفينيون أثناء المهرجان، والتي كلما لمست جانبا من جوانبها تولدت في نفسي أسئلة المقارنة بين ما يدور هناك وما يدور في مصر، يمكن اعتبارها نوعا من الترياق المضاد لحالة الكآبة التي تسود مصر منذ وضعتها تصاريف ما دار من أحداث ومؤامرات عقب الثورة في قلب أحبولة الاختيار بين خيارين محبطين: بين مرسى وشفيق، بين «الاستبن» كما سماه الشعب المصري بحسه التهكمي، و«الفل» المنتمي قلبا وقالبا للنظام الذي ثار عليه الشعب المصري، وصوت له الكثيرون مخافة زحف ظلام «الجماعة» على ما تبقى من ضوء الثورة الساطع؛ أقول أن حالة النشوة الراقية التي يخلقها الاحتفاء بالإبداع المسرحي الجميل في مختلف تجلياته الحركية والصوتية والفكرية الراقية، تلك النشوة الناجمة عن الوعي بمركزية الإنسان في العالم، وبأنه مدار كل استقصاءاته، والتي تشبه إلى حد ما تلك النشوة الكبرى التي عاشها الشعب المصري أثناء ثورته العظيمة، قبل أن تتنازعها قوى الظلام، هي التي دفعتني لحسم الأمر والكتابة عن هذا المهرجان الكبير. فمن المفيد حينما تسود العتمة وتنقطع الكهرباء، الفعلية والرمزية معا، أن نستشهد بالمثل الصيني الشهير، والصين هي القوى الصاعدة الجديدة التي ستسنم ذروة القرن الحادي والعشرين، بدلا من أن تلعنوا الظلام، أضيئوا شمعة! لذلك علينا أن نرفع مصابيح العقل وأنواره عاليا، حتى ولو كانت مصابيح الآخر وليست مصابيحنا. فقد تبدد شيئا من هذه الظلمة، التي أسدل المتأسلمون والمتأسلفون حجبها على وجوه النساء وعقول الرجال على السواء. فقد تصبح نبراسا يهدهد الأمل في الخلاص، ويحدونا إلى العمل من أجله.

فما يميز أي شعب عن غيره من الشعوب، وأي حالة إنسانية عن غيرها من الحالات، هو الثقافة بمعناها الواسع والعميق. فالثقافة بهذا المعنى العميق هي التي جعلت ثورة المصريين، عندما ثاروا، ثورة نبيلة راقية، هزمت برقيّها وأخذها بكل أسباب الحضارة الحديثة وتقنياتها، الاستبداد والفساد، ودحرت راكبي الإبل (في موقعه الجمل) وعقلياتهم المتصحرة والمتأسلفة. ودفعت أبرز مفكري العالم المعاصرين: من سلافوي جيجيك وألان باديو إلى أنطونيو نيجري وبيري أندرسون للكتابة عنها بتقدير واهتمام. هذه الثقافة التي تراكمت تأثيراتها العقلية والتنويرية منذ مشروع محمد علي التحديثي وحتى مشروع جمال عبدالناصر في الاستقلال الوطني والعدل الاجتماعي، هي ما تتعرض الآن لهجمات شرسة من قوى الظلام، التي توجه لها الآن جل سهامها. بل إن ما تعرضت له هذه الثقافة العقلية النقدية التنويرية التي رادت العقل المصري، والمنطقة العربية من ورائه، لأكثر من قرن من الزمان، والتي تردت في حضيض «حظيرة» نظام مبارك الفاسد القديم، من ضربات مصمية على مد العقود الأربعة الأخيرة، هو أحد الأسباب الرئيسية في تعثر الثورة المصرية العظيمة، ونجاح الثورة المضادة وجحافل الظلام في النيل منها، وتشتيت بوصلتها، والانقضاض عليها لتحقيق مآربهم المناقضة كلية لمسيرتها.

لذلك فإن الحديث عن الثقافة وعما وصلت إليه ثقافة الذين أنجزوا ثورتهم، كالفرنسيين قبلنا، ووصلوا بها إلى بر الأمان، وأخذوا الآن يستمتعون بقطف ثمارها، ليس ترفا، ولكنه أقرب إلى تطبيق المثل الصيني الشهير الذي يقول «بدلا من أن تلعنوا الظلام، أضيئوا شمعة!». وما أشد حاجتنا الآن إلى أن نضيء شمعة وسط تكاثف جحافل الظلام من حولنا. وأن نرى أنفسنا في مرايا الآخرين وبالمقارنة معهم، في عالم يزداد كل يوم ترابطا وتواصلا واقترابا حتى أصبح قرية كونية بحق. وأن نشحذ بالعقل والمقارنة، ضوء التفكير العقلي النقدي وسط تيارات متلاطمة لايجمعها إلا هدف واحد هو الإجهاز على الثورة او تشتيت بوصلتها، من أجل إبقاء مصر في حضيض التبعية والهوان.

فالثقافة بمعناها الشامل والعميق هي نبراس الأمة، وهي ما يرود خطاها، ويرتب لها أولوياتها التي لا سبيل دونها إلى تحقيق استقلال قرارها واستقلال إرادتها. وما هذه الأسئلة التي تتوارد عليّ وأنا بصدد الكتابة عن أمر محمود، مثل مهرجان يقدم أفضل ما في جعبة المسرح الأوروبي من عروض هذا العام، إلا دليلا على أن الثقافة المصرية في أزمة، حيث ينفيها الجدل الدائر من ساحة الاهتمام. فيساهم هذا النفي في تيسير زحف الظلام، وتسهيل تنويم العقل، وتعويق تحقيق الثورة لأهدافها النبيلة في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. لهذا كله أكتب للقراء عن هذا المهرجان، علّ تأمل ما دار فيه يوقظ عقولنا ويرهف وعينا بأولوياتنا الوطنية.

فعندما أكتب عن مهرجان أفينيون المسرحي الذي شاهدت عددا كبيرا من مسرحياته في الشهر الماضي، فإنني لا اتناسى للحظة أنني أكتب عنه لقارئ مصري وعربي يعيش تلك المرحلة الحرجة من التغيرات والتحولات في بلاده، ويعاني من زحف الظلام وضيق الأفق على العقل المصري والثقافة المصرية. وأنني أكتب عن ثقافة، الثقافة الفرنسية، أنجزت ثورتها قبلنا، وحددت عبرها أولوياتها الثقافية والوطنية، وتستمتع الآن بثمار هذه الثورة التي ترسخت مبادئها العقلية في كل مناحي حياتها، علّنا نستلهم شيئا من خبرتها ومن وعيها بأهمية الرباط الوثيق بين أولوياتها الثقافية والوطنية على السواء. فثمة خيط رفيع يربط بين الثقافتين الفرنسية والمصرية، لا ينبع فقط من تلك العلاقة الحوارية الثرية التي بدأت بينهما منذ رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده ومحمد حسين هيكل ومنصور فهمي وطه حسين وتوفيق الحكيم وغيرهم من أعلام التحديث في ثقافتنا العربية وتواصلت لأكثر من قرن، ولكن أيضا من أن تصور الثقافة الفرنسية لنفسها باعتبارها حاضرة الثقافة الأوروبية، وأنها عاصمة (جمهورية الأدب العالمية) كما يقول عنوان كتاب باسكال كازانوفا الشهير، يناظره تصور مضمر في الثقافة المصرية بأنها هي الأخرى حاضرة الثقافة العربية المعاصرة، وعاصمة جمهورية الأدب والفن فيها. لذلك كله من المفيد أن نعرف ما يدور هناك، دون أن ننسى ما يدور هنا وما يراد لثقافتنا الأدبية والفنية فيه.

مهرجان أفينيون .. وإرهاف وعي أوروبا بذواتها المتعددة:
وليس هنا مجال الحديث عن تاريخ مهرجان أفينيون المسرحي الذي كانت دورة هذا العام هي دورته السادسة والستين، والذي انطلقت فكرته عقب الحرب العالمية الثانية عام 1946، وكان صاحبها هو الشاعر الفرنسي الكبير رينيه شار، ابن مدينة أفينيون وقائد المقاومة الفرنسية بمنطقة جنوب فرنسا، إبان مرحلة الاحتلال النازي لها، ولكن المهم هنا هو الاستفادة من درس الاستمرار في المبادرة الثقافية وتنميتها، إلى الحد الذي أصبح معه المهرجان أحد ركائز المنطقة الاقتصادية، لا الثقافية أو الفنية وحدهما. والاستفادة أيضا من الربط بين الأولويات الثقافية والوطنية. فالشاعر الكبير والمقاوم الوطني الكبير صنوان، وحينما فكر رينيه شار في أولوياته الثقافية لمرحلة ما بعد الحرب، ودعا الممثل الفرنسي الأشهر وقتها جان فيلار لتنفيذها، كان يفكر أيضا في أولويات وطنية تدعم استقلال فرنسا، وتبعد عبر الحوار الثقافي الأوروبي الخلاق عنها شبح الحرب في المستقبل.

هكذا انطلق المهرجان من تصور فرنسا الثقافي لنفسها، وعبر أدبائها وفنانيها، بأن عليها أن تلعب دورا رياديا في ازدهار الجانب الإبداعي في الثقافة الأوروبية كلها، وتوفير ساحة واسعة للاحتكاك الفني بين مسرحييها للتنافس في تقديم أفضل ما لديهم من فنون المسرح والفرجة. وقد بدأ المهرجان صغيرا واستمر في النمو والازدهار حتى أصبح الآن مهرجانين متزامنين: أولهما هو المهرجان الرسميAvignon Festival الذي يعرض فيه 50 عملا مسرحيا على مد ثلاثة أسابيع، وفي 30 فضاءا مسرحيا مختلفا، يربو عدد مقاعد أكبرها على الألفي مقعد، والثاني هو المهرجان الهامشي Avignon Festival Off الذي يحتفي بالعروض الصغيرة والأشكال التجريبية الجديدة، ويحيل فضاء المدينة كله بشوارعها ومدارسها وكنائسها وحتى قواربها الراسية في نهر الرون، إلى فضاء مسرحي، يعرض فيه وعلى مد الفترة نفسها أكثر من خمسمئة عرض.

ومع أن المساحة المتاحة لهذا المقال لا تتيح الحديث بالتفصيل عن كل العروض المسرحية الجميلة التي شاهدتها واستمتعت بما تنطوي عليه من قيم مسرحية فكرية وبصرية وحركية راقية، وأهم من هذا كله تعلمت من كل منها شيئا عن المسرح أو عن الثقافة الأوروبية، فإنني ومن باب الحرص على إدارة حوار بين ما شاهدت هناك في أفينيون، وما نعيشه هنا في مصر، سأعرض على القارئ بعض ما قرأته فيما رأيته من عروض من وعي بأولويات الثقافة الوطنية الفرنسية والأوروبية من ورائها. فقد كان في أكثر من مسرحية من المسرحيات التي شاهدتها إدراك لأهمية وحدة الثقافة الأوربية، والحوار بين تجاربها الإبداعية المختلفة. ليس فقط على مستوى حرص المهرجان كل عام على أن يستضيف عروضا من معظم البلاد الأوروبية، تقدم للمشاهد أرقى ما حققه المسرح في كل بلد من تلك البلدان، ولكن أيضا على صعيد العمل المسرحي الواحد. فقد كان هناك عرض انجليزي بديع يقوم على مسرحة رواية الكاتب الروسي الشهير ميخائيل بولجاكوف (السيد ومارجريتا The Master and Margarita). وكان هناك عرض لمخرجة انجليزية معروفة هي كيتي ميتشيل [شهدت الكثير من تجاربها المسرحية المتميزة من قبل] قدمه مسرح مدينة كولونيا الألمانية بعنوان (دوائر المريخ The Rings of Saturn) مأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه للكاتب الألماني المعروف و. ج. سيبولد، كتب فيها رحلته في شمال شرق انجلترا وتأملاته عن الرحيل والحياة. وكان هناك عرض ألماني مدهش قدمه المخرج الألماني توماس أوسترماير مدير أهم مسرح ببرلين، مسرح (الشاوبونه)، لمسرحية هنريك إبسن الشهيرة (عدو الشعب An Enemy of the People). وكان هناك عرض فرنسي مبهر لمسرحية أنطون تشيخوف (النورس The Seagull) أخرجه المخرج الفرنسي آرتور نوزيسييل، وعرض فرنسي آخر قدمته ستيفني برانشفيج والمسرح الوطني في باريس لمسرحية الكاتب الإيطالي الشهير  لويجي بيرانديللو (ست شخصيات تبحث عن مؤلف Six Characters in Search of an Author) وعرض لمسرح بازل السويسري عن مسرحية الكاتب الأيرلندي برنارد شو الشهيرة بعنوان (سيدتي الجميلة: في معمل اللغاتMy Fair Lady:. Un Laboratoire de Langues ).

وسأكتفي بهذه الأمثلة التي تكشف عن الفكرة التي أريد طرحها وهي الوعي الواضح بضرورة أن تقيم الثقافة الأوروبية، برغم تعدد لغاتها حوارها مع منتجاتها الإبداعية المختلفة فيخرج مخرج انجليزي أو فرنسي نصا لكاتب روسي، وتخرج مخرجة انجليزية نصا لكاتب ألماني، أو مخرجة فرنسية نصا لكاتب إيطالي، أو مخرج ألماني نصا لكاتب نرويجي، أو مخرج سويسري نصا لكاتب ايرلندي، وهكذا في وعي مضمر بأن على أوروبا أن تدير حوارا خلاقا بين ثقافاتها حتى تساهم الثقافة في توطيد المشروع الأوروبي المشترك في الوحدة الثقافية، وهي أساس كل وحدة سياسية. ومع كثرة ترددي لأعوام على مهرجان أفينيون، فقد لاحظت أن لهذا الحرص طبيعته الأوروبية الخالصة، وليس الغربية العامة، وأن هذه الطبيعة الأوروبية ذات منحى مستقبلي، أوسع من الحدود الجغرافية للاتحاد الأوروبي الراهن؛ فالثقافة هي التي تستشرف المستقبل وتمهد الطريق إليه. فمتى نفعل الشيء نفسه فيما يتعلق بمسارحنا العربية المختلفة التي يتقوقع كل منها على نفسه، ولا يدير حواره مع الاجنحة الأخرى للثقافة الواحدة، وليس لثقافات ولغات مختلفة كما هو الحال في أوروبا.

فبينما لا يهتم المهرجان كثيرا، وخاصة المهرجان الرسمي، لأن ضخامة المهرجان الهامشي تمكنه من الخروج على النص، بالمسرح الأمريكي ونادرا ما يقدم أيا من أعماله، [وأذكر القارئ هنا بنفور فرنسا الثقافية من كل ما هو أمريكي، وخروجها المبكر من حلف الناتو، ومخاوف ديجول من انضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي، مخافة أن تلعب فيه حسب تعبيره الشهير دور حصان طروادة الأمريكي، ونفور الثقافة الفرنسية والفكر الفرنسي خاصة من اندلاق ساركوزي على أمريكا، والذي كان من عوامل عدم انتخابه لفترة ثانية وفق الفيلسوف الفرنسي المعاصر ألان باديو] فإنه يحرص على أن يقدم حوار أوروبا بمختلف لغاتها، مع الأدب الروسي والمسرح الروسي، مع أن روسيا ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، وإن كانت عضوا في بنية المشاعر الثقافية الأوروبية.

فهل تستطيع ثورتنا أن تتعلم من الثقافة التي انجزت ثورتها قبلنا أهمية أن ندير حوارا خلاقا مع كل إبداعات العقل العربي في سائر أقطار وطننا العربي، ناهيك عن إبداعات العقل الأفريقي في سائر ارجاء القارة التي نعيش فيها، وأن نعي أن الثقافة هي القاعدة الأساسية لأي مشروع سياسي طموح في الاستقلال الوطني والحرية. هذا هو الدرس الأول.

إبسن المعاصر والمسرح كساحة للجدل الخلاق:
دعنا نتوقف قليلا عند واحد من هذه العروض التي أجرت حوارها الخلاق بين مسرحية الكاتب النرويجي العظيم، هنريك إبسن، (عدو الشعب) 1882 والتي قدمها أهم مسرح ألماني، وهو مسرح الشاوبوهن ببرلين Schaubühne Berlin وأخرجها مديره الموهوب توماس أوسترماير، وهو إخراج أضاف للحوار بين نص نرويجي ومخرج ألماني، دور الجمهور الفرنسي في الاستجابة للعمل والتعليق دراميا عليه. وجعلنا ندرك أن العمل المسرحي العظيم لايزال قادرا على إثارة الأسئلة بعد أكثر من قرن وربع على كتابته. وأن قضايا هذه المسرحية الأساسية حول مسؤولية الفرد عن مواجهة المجتمع بالحقيقي، ودور الصحافة في تشويه الوعي وتزييف الوقائع، ودور المجتمع في التواطؤ مع أصحاب القوة والنفوذ فيه ولو على حساب حياة الآخرين وسلامتهم، لاتزال من القضايا التي تثير الجدل والخلاف في عالمنا المعاصر، الذي لايزال في أمس الحاجة إلى الفرد المتسلح بالموقف الأخلاقي الأعلى، والذي يواجه المجتمع بالحقيقة دون أن يأبه بسطوته الانصايعية، ولا بسلطان القوة وجبروتها.

وتوشك مسرحية إبسن أن تكون تجسيدا في القرن التاسع عشر لمقوله الإمام علي بن الخطاب الشهيرة: «لا تستوحشوا طريق الحق لقلة سالكيه». وأن تكون صرخة قوية جديدة في وجه استشراء الفساد في عالم لا يشغله إلا النهم للربح، ولا يعبأ بالقيم الإنسانية أو الأخلاقية. لأنها مسرحية تفكك مدى اعتماد المجتمع على التواطؤ الجمعي، وعلى المصالح الذاتية الضيقة، وضيقه بأي رؤية أخلاقية أو إنسانية قد تتعارض مع تلك المصالح الضيقة. وتطرح الفرد في مواجهة استبداد الجماعة كما هو الحال في كثير من مسرحيات تلك الفترة مثل (أعمدة المجتمع) و(بيت الدمية) و(اشباح) أو (البطة البرية)، وتنتصر للفرد الذي يتمسك بمبادئه. وقد استطاع أوسترماير أن يبرز هذه الجوانب الفكرية في المسرحية من خلال أسلوبه الإخراجي الذي جمع في بين منهجين يبدوان للوهلة الأولى وكأنهما غير متجانسين: وهما منهج العرض الواقعي الذي يهتم بالتفاصيل ويخلق علاقة حميمة فيها قدر كبير من التوهيم وإزالة الحائط الرابع بين المشهد والمشاهد، وبين مسرح التحريض على الجدل والتفكير فيما رآه المشاهد أمامه على المسرح وكيف يربط بينه وبين حياته اليومية الراهنة.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_un_ennemi_du_peuple__thomas_ostermeier_0844_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg         Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_un_ennemi_du_peuple__thomas_ostermeier_0917_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

مشهد من (عدو الشعب) في بيت الطبيب

ولأن لمسرحية إبسن أكثر من ترجمة عربية، فهي أشهر من أن ألخصها هنا، أذكر القارئ بسرعة بحبكتها القوية والبسيطة معا. فهي مسرحية عن (دكتور ستوكمان) طبيب يحظى باحترام المدينة الصغيرة التي يعمل بها، والتي يشغل أخوه منصب عمدتها. وقد استثمرت المدينة بناء على اقتراحه أموالها في مشروع للحمامات العامة (كانت أوروبا لا تعرف الحمامات العامة أو الخاصة حتى القرن التاسع عشر) تستغل فيها ينابيع مياهها المعدنية، فساهم في تحسين صحة المواطنين، وجلب للمدينة الكثير من السواح. وازدهر اقتصاد المدينة بسبب السياحة. ثم يكتشف الطبيب بعد سنوات أن مياه الحمامات ملوثة بسبب نفايات المدبغة المجاورة، وأن الأمر يسبب أمراضا خطيرة للمواطنين والسواح معا، ويقترح علاجا للأمر بإغلاق المدبغة أو إصلاح نظام الصرف في الحمامات حتى يكف المستحمون عن استعمال مياهه الملوثة حفاظا على صحتهم. ويرى أخوه العمدة وأعيان المدينة ألا طاقة مالية لمدينتهم بأي من الحلين لأنهما مكلفان. ولما يتصل بصاحب صحيفة المدينة كي ينشر فيها ما وجده من حقائق، يرفض نشر ذلك بعد تأثير العمدة عليه. ويقترح الطبيب أن يخبر المدينة، ولكن الأعيان يرفضون الاستماع له، ثم يرضخون بعد إلحاحه.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_un_ennemi_du_peuple__thomas_ostermeier_0885_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg            Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_un_ennemi_du_peuple__thomas_ostermeier_1005_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

لكن الغريب أن أهل المدينة، وقد جهزهم مكتب العمدة، والصحيفة الإقليمية التي تفكر نيابة عنهم، لرفض اقتراح الطبيب بإغلاق الحمامات أو حتى إغلاق المدبغة التي يملكها أحد أثريائها وتوظف الكثيرين من سكانها، يقاومون الحقيقة! فقد استمتعوا بسمعة مدينتهم الطيبة، وعوائد السياحة الوفيرة، بعدما أضحت مدينتهم قبلة القصاد. ويتحججون بأن معرفتهم بأخطار المياه ستجعلهم يعزفون عن الحمامات، ولكن لا يمكن غلقها في وجه السياح وما يجلبونه للجميع من أموال. ويصبح الجميع ضد الطبيب بل يصفونه بأنه عدو الشعب، ويرفضون الاستماع إلى الحقيقة المؤلمة التي يواجههم بها. بل ويشنون عليه حملة مسعورة من الشائعات التي تشوه سمعته، وتعزله عن الجميع. لكنه يظل كما يقول إبسن أقوى من المجتمع، لأن أقوى الأفراد هو من يقف وحده في وجه القطيع. هذه هي حبكة المسرحية، التي قدم العرض تطورها بسلاسة. ولكن حينما حان موعد اجتماع المدينة، وبعد أن توصل المجتمعون إلى رفض اقتراح الطبيب وتهجموا جميعا عليه واتهموه بأنه «عدو الشعب» قرر المخرج أن يفتح الجدل على الصالة، وطلب من الجمهور المشاركة فيه.

لكنه قبل أن يفتح الجدل على الصالة قرر، في نوع من التجسيد البصري لعملية غسل الدماغ التي شاهدناها تدور أمام أعيينا في هذا الاجتماع وعبر وسائل الإعلام، وما انطوى عليه الأمر كله من تزييف للحقائق التي يعرف الجمهور كنهها، إشراك كل الممثلين، أو بالأحرى كل أهل المدينة، فنحن هنا بإزاء مسؤولية جمعية أو بإزاء مجتمع يواجه فردا يتمسك بالموقف الأخلاقي الأعلى، أقول قرر إشراك الجميع فيما عدا الطبيب وزوجته، في دهان المشهد باللون الأبيض في نوع من غسيل المشهد، أو ما يعرف بالانجليزية بتعبير  White Washوهو تعبير يدل على ستر الحقائق، والتمويه عليها. كما أتاح للعمدة أن يسرق الميكروفون من أخيه وأن يشوه دوافعه أمامنا، ونحن نعرف أنه تشويه يعتمد على حفنة من الأكاذيب. وقد تعمد المخرج أن يفعل هذا كله أمام المشاهدين، كي يقوموا بدورهم بتفكيك هذا التمويه لو أدركوا دلالاته. أو كي ينالوا دورهم من التورط فيه لو لم يدركوا حقا دلالة ما يدور أمامهم.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_un_ennemi_du_peuple__thomas_ostermeier_1219_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

واستعر الجدل في الصالة، عن مبدأ مواجهة الجمهور بأي حقيقة تتعلق بشؤونهم، في واقع يتم فيه كل يوم التلاعب بكل شيء لصالح المؤسسات المستفيدة، حتى من معاناة الناس ومرضهم. بل إن قرارات الحرب تتم بناء على نشر الأكاذيب المحبوكة، والتدليس على الجمهور الذي سيدفع وحده تكاليفها الباهظة كما شاهدنا في الحرب على العراق مثلا. وقد أدت موضعة المسرحية في لحظتنا الراهنة، لطرح أسئلتها المدببة على عالم يسيطر عليه جشع الرأسمالية المالية، وتهدد الديماجوجية الديموقراطية الحقيقية فيه، وتملأه بأكاذيب الراغبين في فعل أي شيء لحماية مصالحهم اللحظية المحدودة، على حساب الصالح العام وضد كل القيم الأخلاقية والإنسانية. وتحمس المشاهدون للمشاركة في الحوار والجدل وقد تمكن الكثير منهم بربط ما يدور على الخشبة بما يدور في واقعهم المحسوس. وقد فتح هذا الجدل المسرحية على قضايا النفاق الاجتماعي والجبن عن قول الحق، وجهل الجماهير واندفاعاتهم غير العقلانية، وفساد النظام السياسي. وطرح المعركة على الجمهور باعتبارها معركة حضارتنا التي تعاني من الموت الإكلينيكي، وقد أصبح شعارها أنا ومن بعدي الطوفان، ويحتاج إنسانها إلى خوض معركة جديدة من أجل تحقيق الذات والكرامة الإنسانية، وهي المعركة الأساسية التي علينا أن نحاربها، لأن الأزمة بالنسبة له ليست أزمة اقتصادية، وإنما هي آزمة روح وأزمة ضمير وأزمة إنسان فرد عليه أن يتحمل وحده وزر قراراته!

«نورس» تشيخوف الجميل والمتجدد أبدا:
إذا كان هنريك إبسن هو أكثر كتاب المسرح تمثيلا في المسرح العالمي بعد شكسبير، فإن أنطون تشيخوف يعقبه مباشرة من حيث ولع المخرجين بإعادة تقديم أعماله على المسرح، وبث روح معاصرة فيها، بالرغم من قلة مسرحياته. فلهذا الكاتب العظيم أربع مسرحيات كبرى هي (النورس) و(الخال فانيا)  و(الشقيقات الثلاث) و(بستان الكرز). وقد كانت (النورس) التي سبقتها أعمال أقل نجاحا وأهمية هي بداية انتاجه المسرحي الكبير. وقد اختارها هذا العام المخرج الثاني الذي استقدمه المهرجان ليقدم عملا في أكبر فضاءاته المهيبة، ألا وهي ساحة الشرف في القصر البابوي. وهو المخرج الفرنسي آرتور نوزيسييل Arthur Nauzyciel  الذي أصبح من أكثر المخرجين شهرة وعالمية، حيث تكلفه مسارح أمريكية وأوروبية كثيرة بالإخراج لها. ومسرحية تشيخوف أشهر من أن أقدم تلخيصا ضافيا لها، ولها أكثر من ترجمة عربية. وهي من أكثر مسرحيات تشيخوف تعقيدا من حيث كثرة حبكاتها الثانوية، ومن حيث وفرة إحالاتها التناصية إلى (هاملت) شكسبير من ناحية، وإلى أعمال تورجينيف من ناحية أخرى، وإلى استراتيجيات المسرح الرمزي الذي كان سائدا وقتها في روسيا من ناحية ثالثة. تسري فيها ككل مسرحيات تشيخوف ثيمته الأثيرة، وهي قدرة البلادة والأنانية والفظاظة على سحق الرقة والرهافة والتحضر المترفع عن الولوغ في الصغائر. وثيمة الاهتمام بالطبيعة ودورها الجوهري في حياة الإنسان، لا كظهار مشهدي للحدث وإنما كفاعل رئيسي فيه. حيث تتناول هي الأخرى، كالكثير من أعماله، التوتر المستمر بين الريف بجماله البرئ، والمدينة بقسوتها الغليظة.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_la_mouette__arthur_nauzyciel_3931_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

لكن (النورس) أكثر مسرحياته اهتماما بعالم المسرح، وبقضية الحب الخالص النقي والمستحيل معا. ومن أكثرها كشفا عن مدى تعقد الحياة الإنسانية. وتدور المسرحية في الريف الروسي وعلى شاطئ بحيرة من بحيراته الكبيرة. وللمسرحية أربع شخصيات رئيسية: اثنان منها من جيل الشباب السادر في المثالية والبراءة هما قنسطنطين تريبليف وهو كاتب مسرحي شاب مولع  بالتجديد وبموجة المسرح الرمزي، يريد أن يعترف الواقع الأدبي بأعمالها لقيمتها الفنية وليس لأنه ابن ممثلة مشهورة. ونينا زاركينايا، بنت الجيران الجميلة التي يغرم بها قنسطنطين، وتمثل في مسرحياته وتريد أن تصبح هي الأخرى ممثلة مشهورة في العاصمة. وتدور المسرحية في ضيعة «سورين»، خال قنسطنطين، الواقعة على شاطئ البحيرة حيث حياة الريف الرتيبة والمملة، والتي لا تدب فيها الإثارة إلا حينما يجيء الزوج الآخر من الشخصيات الأكبر سنا: وهما إيرينا آركادينا، أخت سورين، وأم قنسطنطين وهي ممثلة مشهورة في موسكو تقوم ببطولات الميلودرامات الرومانسية الكبيرة. وعشيقها الكاتب المعروف بوريس تريجورين، لتمضية أجازتهما في الضيعة. وتتوقع أيرينا وبورس بالطبع أن يكونا محط اهتمام الجميع ولو على حساب من يعيشون في الضيعة، بل يطلبان هذا الاهتمام وكأنه حق لا مماراة فيه.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_la_mouette__arthur_nauzyciel_4078_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg              Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_la_mouette__arthur_nauzyciel_4191_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

وبالرغم من وعي قنسطنطين بأنانية أمه وعشيقها، وبضيق أفق هذا العشيق الذي لا يهتم بمن يعيشون في الضيعة إلا في حدود إمكانية أن يكون أحدهما موضوعا لقصة مرتقبة. ومع أن تصوره عن المسرح، وهو أقرب لتصور تشيخوف نفسه عن مسرحه، مغاير كلية لتلك المسرحيات التجارية الفجة التي تقوم ببطولتها أمه، بل أكثر منها رقيا، فإن الأم وعشيقها لا يعبآن بما يقدمه من مسرح، ولا يكلف بوريس نفسه عناء قراءة قصته المنشورة في نفس المجلة التي نشر فيها هو قصته. بل إنه يبلغ من الفجاجة أن يقرأ قصته هو، دون قراءة قصة كونسطنطين. لكن قنسطنطين لا يستطيع أن ينقل وعيه هذا لحبيبته نينا التي يحرص على أن يؤكد حبه لها، بينما تقع هي في غواية شهرة بوريس الذي يريد أن يستخدمها موضوعا لقصة، ويربط بينها وبين النورس الذي اصطاده لها قنسطنطين، ولكنه أيضا ما أن يعرف أنها مغرمة به حتى يريد أن يعوض عبرها حب الشباب المفقود، كما يقول لأيرينا إذ توبخه لاهتمامه بها. إذ يتحجج بأنه أنفق شبابه في الكتابة، وضيع على نفسه تجربة حب هذه المرحلة. ويغوي نينا كي تلحق به في موسكو فتلحق به كالفراشة التي يجذبها الضوء حتى تحترق، ويلقي بها بعد أن تحمل منه ويجهضها ويعود أدراجه لأحضان أيرينا التي لم يتركها أبدا.  ولم تدمر هذه التجربة نينا فحسب، فقد وقعت في غواية بوريس دون خلاص، بينما استغلها دون أي حب حقيقي، ولكنها تجهز أيضا على علاقتها النقية بقنسطنطين، وتدمر قنسطنطين كذلك وتدفعه للانتحار في نهاية المسرحية. ليفتح رمز النورس المقتول على أكثر من دلالة.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_la_mouette__arthur_nauzyciel_4113_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

هذه باختصار شديد هي حبكة المسرحية التي تثريها حبكات ثانوية متعددة، وتدعمها تقنيات عرض آرتور نوزيسييل البصرية والحركية المبهرة لها. فحينما ندخل فضاء ساحة الشرف المهيب نجد أن هناك عرضا سينمائيا على حائط المسرح الخلفي لشوارع روسية مزدحمة ببشر من القرن الماضي كما تقول لها هيئتهم وطراز ملابسهم. ولمحطة قطار يدخلها قطار بخاري قديم من نفس الفترة ويفرغ على أرصفتها حمولته من البشر العابرين. وفي التوازي مع هذا الشريط القديم، نجد ديكورا مسرحيا بالغ الحداثة يتعمد كسر صرامة خطوط حوائط فضاء القصر الباباوي بزواياه الحادة بتكوينات ذات استدارات ملحوظة. ويدخل علينا ممثل وقد ارتدى قناع النوارس، قم يسقط صريعا، وقد وضع قناع النورس على جسده كأول مشهد في المسرحية التي يبدأ فيها العرض من نهاية المسرحية التشيخوفية وليس من بدايتها، وكأنها يريد أن يجعل الانتحار عقدة ذنب المسرحية المرئية من البداية، وليس كشفها النهائي فحسب. ثم تعقب هذا المشهد رقصة إيقاعية لممثلين في ملابس سوداء، وأقنعة نوارس بيضاء، تنتهي بالتواصل بين كل أثنين، ثم يحلق الجميع حول النورس الميت، ويحملونه جميعا على الخشبة كنعش ويدورون به في المسرح، ثم يوقفونه على الأرض فيشارك معهم في رقصة النوارس التي تستمر لدقائق في محاولة لتجسيد نوع من الانسيابية والطيران الحر للتأكيد على حرية النوارس، وحرية بطل المسرحية المنشودة والمفقودة معا. وهو نوع من الاستهلال التأويلي الإيمائي الصامت الذي يؤطر العرض، في كوريوجرافيا تبلور إيمائيا أزواج العلاقات في المسرحية منن خلال لغة المخرج التأويلية، لغته المضافة للغة النص الذي سيبدأ بعد ذلك في عرض نص تشيخوف علينا. والواقع أن المخرج استخدم عناصر بصرية كثيرة لتدعيم تأويله للنص، بما في ذلك استخدام الأجسام وظلالها لخلق تشكيلات بصرية تنحو بالعرض إلى مزج العناصر الرمزية بالعناصر التعبيرية. كما استخدم فرقة موسيقية تعزف من إحدى نوافذ الجدار الخلفي العملاق الموسيقى المصاحبة للكثير من مشاهد العرض.

 

الذاكرة التاريخية .. والعواقب الوخيمة لفقدانها
إذا كان الدرس الأول الذي استخلصته من مشاهداتي لعدد لا بأس به من مسرحيات مهرجان أفينيون في هذا العام (14 مسرحية)، هو أن المسرح أداة حيوية لتحقيق الحوار الجاد والخلاق بين العناصر الثقافية واللغوية المكونة للاتحاد الأوربي في حاضره وفي مستقبله معا، وتعزيز أواصر العلاقات بين بلدانه، فإن الدرس الثاني لا يقل عنه أهمية، وهو أن على أي ثقافة انجزت ثورتها أن ترهف على الدوام ذاكرتها التاريخية، كي لا تكرر أخطاء الماضي، وكي تستفيد في الحاضر من تجاربه. وأن تدافع على الدوام عن مكاسب هذه الثورة وتحيلها إلى رواسي قيمية ومعنوية أو خطوط حمراء لا يحق لأحد أن يتجاوزها، بالتذكير دوما بالعواقب الوخيمة لتجاوز تلك القيم المهمة، وفي مقدمتها قيم العقل والحرية. فالذاكرة التاريخية الحية هي خير ما يضمن الحفاظ على تلك القيم، ويجذرها في ممارسات المجتمع وبنيته الحية. فعلى العكس من تصور الثقافة العربية الشائع هذه الأيام للماضي باعتباره المثال والنموذج الذي علينا الارتداد إلى فراديسه الوهمية، في نوستالجيا مرضيّة، ومسيرة معكوسة لا تبغي التقدم إلى الأمام بل النكوص للوراء، فإن الثقافة الغربية تتعامل مع الماضي باعتباره أداة لشحذ فهمها للحاضر، من أجل التقدم به صوب المستقبل، وإرهاف فعاليتها فيه.

فعودة فرقة «مسرح المشاركة أو التواطؤ» البريطانية ومخرجها الموهوب سايمون ماكبيرني إلى رواية ميخائيل بولجاكوف الشهيرة (السيد/ المعلم ومارجريتاThe Master and Margarita ) هي عودة من أجل الحاضر، تبعث رسائلها إلى من لا يعي أهمية حرية الفنان ودوره الطليعي والاستشرافي في مجتمعه، وإلى من يقترون على الفنون بدعاوى التقشف التي لاتقل عند أصحاب العرض خطرا عمن ضيقوا على الفن بدعاوى حماية النظام السياسي. لأن الاثنين لا يجلبان لثقافتيهما غير الدمار. وعودة المخرج الفرنسي المرموق آرتور نوزيسييل إلى مسرحية أنطون تشيخوف الشهيرة (النورس) تحذر من الفجاجة الفنية والأخلاقية معا، ومن الاستنامة لدعة التكرار في الفن والمسرح خاصة، وتكشف كيف يتخلق عبرهما الموت، ويقضى على الشباب المترع بالحياة. لكن دعنا نبدأ بمسرحية (السيد ومارجريتا) لأنها تمس عصبا حساسا في العلاقة بين الفنان والسلطة لا نزال نعاني منها في عالمنا العربي حتى اليوم، كما أنها كانت لضيف شرف مهرجان هذا العام، وهو المخرج الانجليزي سايمون ماكبيرني Simon McBurney وهو العقل الفني الخلاق وراء واحد من أبرز المشاريع المسرحية الانجليزية في العقود الثلاثة الأخيرة منذ تأسيسه عام 1983؛ ألا وهي فرقة (مسرح التواطؤ والمشاركة Theatre de Complicite) التي تصر الفرقة في بريطانيا على استخدام اسم فرنسي لها، كنوع من التغريب من ناحية، ولأن لاسمها دلالاته على منهجها المسرحي، من ناحية أخرى. بل إن حرصها على كتابة الاسم بالفرنسية وليس الانجليزية، ينطوي على دين لمسرح أرتو من ناحية، وعلى رغبة في تأكيد أن الخيط الرفيع في المسرح بين المشاركة والتواطؤ لا يمكن تجاهله، لأن المشاركة في العرض تعتمد على قدر من التواطؤ في بعض استراتيجيات التوهيم. والتي تعتمد كثيرا على منهج درامي يطلق العنان لطاقات الممثل الارتجالية والتخيليّة أثناء التدريبات من ناحية، ويسعى لإشراك المشاهد في العمل والتخلي علن سلبيته من ناحية أخرى. كما أنه مسرح يستخدم الكثير من الوسائط البصرية الجديدة بطريقة خلاقة لتجسيد رؤية المخرج للعمل المعروض. وقد دعاه المهرجان ليكون مخرج هذه الدورة، لذلك قدم له ثلاثة عروض مختلفة كانت (السيد/ المعلم ومرجريتا) أهمها ولذلك عرضت في الفضاء الأكبر في المهرجان، وهي ساحة الشرف في القصر البابوي.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\Issue 75\75-01-02.jpg

مشهد للمسرح المنصوب في ساحة الشرف في القصر البابوي والذي يسع لأكثر من ألفي متفرج

وقد اختار سايمون ماكبيرني، وهو مخرج انجليزي، رائعة الكاتب الروسي الروسي الشهير ميخائيل بولجاكوف Mikhail Bulgakov وهو أبرز الكتاب والمسرحيين الروس في عهد ستالين، وأكثرهم معاناة من تجربته في التضييق على حرية المبدعين. وبولجاكوف (1891 – 1940) كاتب روسي أو بالأحرى سوفيتي مشهور، كتب القصة والرواية والمسرحية، واتسمت كتاباته بالسخرية والنزعة التهكمية الحادة. بدأ حياته الأدبية برواية (الحرس الأبيض) عام 1925 التي أثارت له العديد من المشاكل، ليس فقط لتصويره المتعاطف مع الروس البيض المعادين للثورة السوفييتية، ولكن أيضا لخلو عمله من البطل الاشتراكي الإيجابي الذي كان الحزب يفرض وجوده في كل عمل أدبي أو فني. لكنه سرعان مال تلافى أخطاء هذه الرواية الأولى حينما حولها إلى مسرحية بعنوان (أيام العنف الدوّارة) 1926 لاقت نجاحا جماهيرا ونقديا واسعا، وإن كانت قد منعت من العرض بعد ذلك، وخاصة بعد صدور كتابه التهكمي التالي لها (شيطانيات) والذي ينتقد بشكل رمزي الكثير مما كان يدور في المجتمع السوفييتي وقتها. وتلقى الكثير من الإدانات الرسمية والنقد. وكان هذا أيضا هو مصير كتابه التالي (قلب كلب). ومع أن كتاباته قد حظيت بقبول جماهيري واسع إلا أن نزعته النقدية والتهكمية الساخرة أدت مع عام 1930 إلى منعه من النشر والكتابة إبان المرحلة الستالينية.

وحينما طلب الهجرة بسبب منعه من الكتابة وتعرضه للجوع، رفض ستالين شخصيا طلبه، وعينه مستشارا لمسرح الفن في موسكو. فكتب له مسرحيته الشهيرة (موت موليير) التي لم تعرض على المسرح إلا عام 1936 ولسبع ليال فقط منعت بعدها، لأنها تنطوي على نقد مضمر لستالين ونظامه. لكن هذا كله لم يمنع بوجاكوف من مواصلة الكتابة فكتب مسرحيته التي لم يقيض لها الاكتمال (ملاحظات رجل ميت: رواية ممسرحة) وهي مسرحية سيرذاتية إلى حد ما تنطوي على نقد جارح لقسطنطين ستنسلافيسكي، مدير مسرح الفن الشهير، وللعاملين معه في مسرح الفن. لكن أهم نصوصه التي كتبها في ثلاثينات القرن الماضي، (كتب نسختها الأولى عام 1930، ثم أعاد تنقيحها والانتهاء من كتابتها النهائية عام 1936، ولكن نسختها الكاملة لم تنشر إلا عام 1973 وبعد رد الاعتبار متأخرا له) هي روايته الجوجوليه الشهيرة (السيد/ المعلم ومارجاريتا)، والتي يعتبرها الكثيرون واحدة من أهم روائع الأدب الروسي في القرن العشرين.

فهي ملحمة واقعية وخيالية في آن بسبب شعريتها الحساسة وقوتها التهكمية اللاذعة، ورواية فكرية أو بالأحرى فلسفية تطرح استبصاراتها العميقة حول الصراع الأبدي بين الخير والشر، وتنطوي على علاقاتها التناصية الخصبة مع (فاوست) جوته بشكل كبير. رواية مترعة بالنقد الاجتماعي والسياسي، ولكنها في الوقت نفسه مليئة بالشاعرية والسخرية والمفارقات التهكمية والحزن المأساوي الشفيف. يستخدم فيها بولجاكوف تقنية القصة الإطار والقصة داخل القصة، ببراعة شهرزادية ملحوظة. ويتم فيها التجاور والتحاور بين حبكتين: أولاهما تدور في موسكو الثلاثينات وتتسم بألاعيبها التطهيرية التي تتهكم على حياة النخبة الثقافية الغارقة في الفساد ونفاق السلطة. إلى هذه الحبكة تنتمي معظم شخصيات الرواية المعاصرة التي عاشت في ثلاثينيات القرن الماضي إبان سطوة الحكم الستاليني. وتنقسم شخصيات هذه الحبكة إلى قسمين: أولهما شخصيات واقعية تدير حوارها التهكمي مع شخصيات واقعية مستقاة من المرحلة، وثانيهما خيالية تستدعي جوانب كثيرة من عوالم (فاوست) الشيطانية، ثم هناك مجموعة ثالثة من الشخصيات التاريخية.

فهناك السيد/ المعلم المجازي أو المعنوي الذي يشير إليه العنوان، وهو كاتب معروف يوشك أن يشير إلى بولجاكوف نفسه. يكتب رواية عن العلاقة الشائكة والمعقدة بين يسوع الناصري (المسيح) وبيلاطس: الحاكم الروماني لمقاطعة يهودا في فلسطين والذي ترأس عملية صلبه. ومارجريتا هي حبيبه هذا السيد/ الكاتب ومن أشد المؤمنين بموهبته، ولكنها تضطر للزواج من غيره بعد توهمها بوفاته، وتعمل في بلاط الشيطان من أجل استرداده، أو تحريره بعد معرفتها بسجنه في مصحة عقلية. ولها في الوقت نفسه علاقاتها المتشابكة مع عالم السلطة الذي يمثله السيد/ المسخ الفعلي لعالم الكتاب والفنانين، وهو بيرليوز رئيس اتحاد الكتاب، ومعه ليخوديف مدير مسرح المنوعات (وهو شخصية يقال أنها مستقاة من ستنسلافيسكي ورأي بولجاكوف السلبي فيه) يمثلان تناقضات الثقافة الرسمية ونفاقها. وبينهما شاعر شاب موهوب هو إيفان بيزدومني (ويعني اسمه بالروسية الشريد أو من لا مأوى له) يعرف أن السيد هو المبدع الحقيقي، ولكن برليوز هو من بيده سيف السلطة وذهبها. وتشكل حركية العلاقات بين هذه الشخصيات الواقعية/ بطبيعتها الأمثولية الساخرة، محرك الأحداث في الرواية والذي يدور حول استجابات المؤسسة الأدبية/ الفنية/ السياسية لما يشكل عمل الكاتب/ المعلم من أخطار عليها.

أما المجموعة الخيالية أو بالأحرى الشيطانية من الشخصيات، فإنها تقوم بدور المرآة المكبرة الموازية والعاكسة لبعض السمات الداخلية للشخصيات الواقعية، ولخفايا ما يدور في عوالمها الحقيقية، عبر حبكة كوميدية ساخرة. يلعب دور السيد/ المعلم فيها «ولاند» (التجسيد الحي لميستوفوليس/ الشيطان) وهو أستاذ جامعي يزور موسكو ليقدم مع فريقه أحد عروض السحر الأسود، ويزعم أنه سيكشف بعده أسراره، لكنه لا يكشف إلا حقيقة المجتمع الزائف، مجتمع الثقافة والسياسة والمثقفين المبني على الجشع وشهوة السلطة. ومعه معاونه أو قطته الشيطانية الضخمة «بيهومت» التي تتقلب بين الشكل القططي والبشري، بولعه الشديد بعب الفودكا واللعب بالمسدسات. ومساعده البشري «كوروفييف/ فاجوتو» الذي كان رئيسا للجوقة والقادر على القيام بمختلف أشكال السحر وتجسيد الخيال واقعا، و«عزازيل» وهو من أسماء الشيطان التوراتية، ومن أشد أفراد فرقته شراسة وعنفا، ومعهم أيضا حبيبة «ولاند» وعشيقته الجميلة «هيلا» ذات الجرح البادي في الرقبة والذي يشير إلى انتمائها إلى عالم الظلام ومصاصي الدماء.

أما الحبكة الثانية، أو الرواية داخل الرواية، فهي عن روائي يحوّل إلى مصحة عقلية بسبب كتابته قصة عن المسيح يسوع الناصري، وعن المواجهة الشهيرة بينه وبين بيلاطس عن قيمة الإنسان. ولكن في حضور الشيطان وجحيمه ومجموعة معاونيه الذين يتشكل منهم الفريق الثاني من الشخصيات، وهم أيضا ممرضي المصحة. وتجلب هذه الحبكة الثانية معها إلى عالم الرواية مجموعة ثالثة من الشخصيات التاريخية بالطبع. أولها هو السيد بحق، أي السيد المسيح يسوع الناصري، والذي يصفه بيلاطس بالجنون، ويدعوه أحيانا بالفيلسوف المخبول. وله حواري واحد وليس أثني عشر حواريا كما هو الحال في القصة التوراتية. أما بيلاطس حاكم يهودا الروماني فهو أقرب ما يكون إلى محققي محاكم التفتيش، حيث تدير الرواية هنا حوارها التناصي مع مشهد المحقق/ المفتش الكبير في رواية ديستويفسكي العظيمة (الإخوة كرامازوف). وهناك أيضا «إيفرانيوس» رئيس الأمن الروماني في مقاطعة يهودا، و«ليفي ماتفيي» محصل الضرائب في المقاطعة، و«جوزيف كايفا» كاهن المقاطعة والذي يستشعر الخطر من يسوع ودعوته.

وتدير الرواية حوارها الخصب بين الحبكتين: الحبكة الواقعية بمجموعة شخصياتها الإمثولية والشيطانية، والحبكة التاريخية التي تنطوي عليها الرواية التي كتبها «السيد/ الكاتب» وأحيل بسببها للمصحة العقلية. وهما حبكتان تديران حوارهما الخصب بين زمنين: زمن سرمدي ديني لاتزال دروسه فاعلة في الضمير البشري، وزمن واقعي عصري متغير يحتاج إلى المجموعتين الواقعية منها والشيطانية من الشخصيات كي يسبر الكاتب أغواره، ويكشف عما يدور فيه. بصورة يكتسب فيه الحوار بين الزمنين دلالات أوسع إذ يصبح حوارا بين الجحيم والسماء، بين حرية الروح وقيود العالم الفادحة، بين الحب والتحرر، بين الإبداع والسلطة، بين البراءة والشعور بالذنب، بين الشجاعة والخسة والجبن، بين السلطة والإحساس بالمسؤولية وضرورة مواجهتها، بين كل ما دار في الماضي وما يدور ولازال يدور في الحاضر، بما في ذلك الحاضر الأوروبي نفسه. وتتحول جماعات الشخصيات الثلاث في الرواية إلى مرايا تنعكس على صفحة كل مجموعة منها دلالات وإحالات تكشف لنا عن حقيقة المجموعتين الأخريين، كما هو الحال بين القصة الإطار والقصص المروية فيه في النص الشهرزادي العظيم.

فالسيد الذي يشير إليه العنوان، هو كاتب وحيد مستوحش يعاني من القهر الذي عاني منه بولجاكوف إبان الحكم الستاليني، وهو أيضا السيد المسيح الذي ينكره الجميع في عالم تتردى فيه القيم الإنسانية النبيلة. وهو ثالثا، وبالسلب طبعا، السيد الشيطاني المقلوب بتجلياته السياسية والأدبية والفنية المختلفة والتي تتحول فيها السيادة إلى مسخرة وهزأة، تجعلنا ندرك قيمة السيادة التي يمثلها الموقف الأخلاقي الأعلى، والتي يجسدها الكاتب والمسيح معا. ومارجريتا العنوان هي امرأة عاشقة تتسم بالصدق والشجاعة وحيوية القلب، والثورة على فساد الروح، وعلى عالمي السلطة والغوايات الشيطانية معا. وهي شخصية واحدة ومتعددة في آن، تنعكس على مراياها، ومن خلال نقيضاتها المتعددات في العمل، وخاصة «هيلا» مصاصة الدماء الشيطانية. فنحن في هذه الرواية الكبيرة بإزاء متاهة من المشاعر والأفكار قادرة على تجسيد عصر الرعب وتعقيداته، وعلى أن تكون أمثولة قادرة على الكشف عن تحولات الطبيعة الإنسانية معا. لكن أبرز مفارقات الرواية أن «بيرليوز» قوميسار الثقافة يؤمن بأن الكاتب يشكل خطرا عليه، وعلى السلطة الراهنة، أشد من ذلك الذي يشكله يسوع الناصري وحواريه. فالكلمة الحرة، الإبداعية منها والنقدية هي التي تقض مضاجع السلطة في كل عصر.

وقد كان هذا النص هو الذي اختاره (مسرح التواطؤ أو المشاركة) الإنجليزي المشهور، والذي سيحتفل بعيده الثلاثين في العام القادم، وقد سبق لي مشاهدة الكثير من عروضه المتميزة على مد العقدين الماضيين في لندن. وقد سبق لسايمون ماكبيرني أن أخرج أوبرا (قلب كلب) عام 2010 لأوبرا أمستردام، والمأخوذة عن رواية بولجاكوف المعروفة بالاسم نفسه. وتكمن موهبة سايمون ماكبيرني في قدرته على توحيد اساليب العرض الفنية والتقليدية للمسرح من أجل التعبير من خلال العديد من الكلاسيكيات الأدبية والمسرحية عن رؤية بالغة الخصوصية والتفرد من ناحية، وقادرة على التعبير عن روح الفرقة وموقفها من العصر من ناحية أخرى. والواقع أن اختيار تلك الفرقة المسرحية لهذا النص اختيار له دلالة. فهي فرقة تسعى لعبور الحدود أو بالأحرى لتجاهل أي حدود بين الوهم والحقيقة، بين الواقع والخيال، بين المسرح والجمهور. وهي كلها إمكانيات تتيحها هذه الرواية التي سبق أن مسرحتها أكثر من فرقة وقد كان أشهرها فرقة مسرح تاجانكا بموسكو بقيادة مخرجه الكبير يوري ليوبيموف، وأكثر من فرقة في لندن ونيويورك وبولندا ورومانيا وكندا وألمانيا والسويد وغيرها. فهي نص يغري بالكثير من المعالجات الدرامية والسينمائية، التي كان أشهرها فيلم للمخرج البولندي الأشهر أندريه فايدا، لما ينطوي عليه من حوار خصب بين الواقعي والخيالي، ولما يتيحه من إمكانيات بصرية وحركية كبيرة، فكيف قدم ماكبيرني هذا العمل؟

لقد عمد من البداية أن يدخلنا، كجمهور، إلى فضاء ساحة الشرف المهيب بالقصر البابوي إلى مسرح فارغ. خشبة/ مساحة فسيحة مترامية الأطراف خالية، لأنه سيكتب على هذه المساحة الخالية بالضوء والحركة عمله. في جانب منها سرير مستشفى أبيض، ومائدة عليها هي الأخرى مفرش أبيض. ثم يدخل الممثلون، 16 ممثلا، يصطفون أمامنا ثم يجلسون في صف واحد، ثم يتقدم واحد منهم إلى الجمهور ويبدأ الحكي، لتأسيس بعد الجوقة الراوي، قبل أن تبدأ عملية تخليق علاقات التمائل/ التزاوج/ الثنائيات من خلال خلق قرين لكل ممثل أو ممثلة، فهناك مثلا ممثلة تتحدث من إحدى النوافذ العالية في المبنى، بينما صورتها تظل ماثلة أمامنا مجسدة بصريا عبر تقنيات الفيديو الجديدة وكأنها قرين لها. ثم تفرش خريطة موسكو المجسمة على الفضاء كله، وكأنها تدخلنا فيه، ويكتب في أعلى المسرح بالضوء زمن الحدث: موسكو 1936. فتوهمنا بأن الشخصيات تتحرك بالفعل داخل شوارع موسكو القديمة تلك كما يتجلى في الصورة:

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_le_maitre_et_marguerite__mcburney_1019_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

الممثلون داخل خريطة موسكو التي يتغير بها المشهد بتقنيات الضوء الجديدة

هكذا، وبسرعة يدخلنا العرض في عالمه البصري الخلاق، حيث ستلعب تقنيات التجسيد الضوئي الجديدة دورا حيويا في هذا العرض. لا يكتفي المخرج فيه بما سبق أن صوره أو جهزه، ولكنه في نوع من التفكيك البصري والبريختي معا للمشهد الدرامي، وهو يتفتيح أمامنا على الخشبة، يستخدم كاميرات تصور ما يدور أمامنا وتعرضه مكبرا على الحائط الخلفي الشاهق للمسرح، بصورة يستخدم فيها المخرج تداخل الصور وكأنها تقوم بدور القرين المصاحب والمغاير معا للأصل من ناحية وما تتيحه تقنيات التكبير من إبراز لجوانب معينة في الحدث أو الشخصية. ويلعب التزامن المحسوب بدقة دورا بارزا في تحويل التوهيم إلى متعة بصرية حقيقية طوال هذا العرض، فعندما يضرب القائد الحزبي «بيررليوز» رئيس اتحاد الكتاب، يتناثر رذاذ الشراب الذي كان في كأسه الممسك بها في يده أمامنا بصورة مكبرة على الحائط الخلفي للمسرح وهكذا. ويبدأ العرض في سرد الحكاية من داخل المصحة العقلية التي يحتجز فيها السيد/ الكاتب بمشهد يوشك أن يكون طالعا من المسرح الواقعي التقليدي في بساطته ونصاعته:

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_le_maitre_et_marguerite__mcburney_0872_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

لكننا سرعان ما نبارح هذا المشهد الواقعي لننتقل إلى مشاهد وتقنيات أقرب ما تكون إلى مسرح التغريب البريختي وقد اكتسبت بالمهارات البصرية التي تتيحها تقنيات الفيديو أبعادا جديدة. فقد حرص العرض المسرحي الحريص على سرعة الإيقاع وتتابع المشاهد والاسكتشات التي تقدم لنا مختلف أبعاد الحدث، على أن يجسد أمام مشاهديه عمليات التزامن بين الحبكات المختلفة التي تنطوي عليها الرواية الأصلية. دون أن يخل أبدا بمتطلبات علميات التفكيك والتغريب المسرحي. حيث تلعب الجوقة البريختية كما في الصورة التالية دورا تدعمه التقنيات الضوئية الحركية وتثريه. وتدير على الدوام حوارها بين ما يمكن دعوته في هذا العرض المسرحي بالخيط الرفيع بين التجسيد والتجريد، بين التحقق الواقعي للمشهد أمانا وكأننا في مسرح واقعي، والتعليق المستمر عليه سواء عبر تقنيات الفيديو البصرية، أو حتى عبر تقنيات الجوقة البريختية.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_le_maitre_et_marguerite__mcburney_0882_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

وليس من الممكن هنا أن أصحب القارئ العربي معي في قراءة تفصيلية لجماليات العرض المسرحي التي أثرت فهم المشاهد للرواية وأغنت وعيه بما تطرحه من رؤى واستقصاءات، حتى لو لم يقرأها أو يعرف شيئا عن خلفيتها. لأننا بإزاء عمل مسرحي مستقل بالطبع عن العمل الأصلي الذي انبنى عليه. يستخدم تلك الجماليات الجديدة وما يصاحبها من استخدامات للمسرح الإيمائي ولمسرح الدمى والأقنعة في إبراز ما يريد إبرازه من مشاهد أو تعليقات، عبر تكبيرها أو تصويرها المتزامن وعرضها على الحائط الخلفي. وفي التعليق غير المباشر على المشاهد والأحداث، وأهم من هذا كله في تلك الأبعاد المتعددة للشخصية عبر تجسدات قرائنها المختلفة كما فسرت. لأنك تخرج من هذا العرض الذي امتد لأكثر من ثلاث ساعات دون أن تشعر بأي تطويل أو إملال، بل تشعر بالاستمتاع بقدرات الفن المذهلة على أن يثير لدي المشاهد الكثير من الأسئلة، وأن يشبع رغباته الجمالية والفنية في آن. ففي هذا العرض الكثير من اللحظات البصرية التي لا تنسى. فعندما تتهشم رأس «بيرليوز» تحت عجلات الترام، يهشم ممثل بطيخة ضخمة على المسرح فيتناثر الدم على كل الحوائط في نفس لحظة تناثر فتاتها أمامنا على الخشبة. فتشعر بحق وكأن رأسا بشرية قد تهشمت. وحينما يتصدع المبنى في مشاهد القيامة الأخيرة قرب نهاية العرض، نشعر بحق بأن مبنى قصر الباباوات الرهيب يتشقق أمامنا ويتصدع بسبب تلك الحيل الضوئية البارعة. وما يصاحبها من أصوات قعقعات الحجارة التي تتناثر، ضوئيا، على الخشبة بشكل مقنع يشهد لبراعة التوهيم في العملية الإخراجية وتوفيق المخرج فيها.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_le_maitre_et_marguerite__mcburney_0910_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon (1).jpg

سيبالد ودوائر زحل والمزيد من ألاعيب الضوء الخلاقة:
أما عودة المخرجة الانجليزية الموهوبة كيتي ميتشيل للمهرجان هذا العام، فقد تمت هي الأخرى بالاعتماد لا على نص مسرحي تقليدي، وإنما على كتاب من نوع جديد فريد غريب من كتب الكاتب الألماني ونفرد جورج سيبالد W. G. Sebald (1944 – 2001) بعنوان (دوائر زحل The Rings of Saturn) يمزج بين السرد والرحلة. واستخدام هذا الكتاب لإعداد عمل يعد من أكثر أعمال مهرجان هذا العام حفرا في الذاكرة التاريخية، الفردية منها والجمعية على السواء. وأهمية هذه الذاكرة لا في فهم الماضي وتوجيه الحاضر فحسب، وإنما في وقاية الفرد والمجتمع معا من أخطار التردي والتدهور والهوان. وهو نص يعود بنا تقريبا إلى نفس الفترة التي تناولها بولجاكوف، وهي ثلاثينات وأربعينيات القرن الماضي (بين 1933 و 1943) ليس في روسيا وإنما في انجلترا، وعلى وجه التحديد في منطقة سافولك جنوب مدينة نوريتش في شمال شرق بريطانيا، وهي المنطقة التي عاش فيها سيبالد معظم سنوات حياته. وهي في الوقت نفسه من أكثر مناطق بريطانيا تعرضا لنحت البحر، ولاختفاء أقسام منها تحت وقع ارتفاع منسوب المياه في بحر الشمال نتيجة التغيرات المناخية.

ويعد سيبالد أحد أهم الكتاب الألمان في القرن العشرين، ولولا وفاته المبكرة في حادث سيارة عام 2001 لحصل على جائزة نوبل في الآداب، وفق تصريح معروف لسكرتير الأكاديمية السويدية. ومع أهميته البالغة في الأدب الألماني والأدب الأوروبي المعاصر، وكثرة أعماله الأدبية المشهورة بتفردها وجدتها الفنية فلا أظن أن أيا من أعماله قد ترجم للغة العربية. فبالإضافة إلى ثلاث دواوين شعرية، فإن له سبع كتب أخرى أبتكر فيها جنسا أدبيا فريدا يمزج بين السرد والتأمل وأدب الرحلة، مثل (دوائر زحل) و(فيرتيجو) و(أوسترليتز) و(المهاجرون) وغيرها. وتتسم أعماله بتميز بنيتها الأدبية التي تمزح بين السرد والوقائع، أو ما تبدو أنها وقائع وحقائق مجردة. فهو يدخلك في متاهات أقرب ما تكون إلى متاهات الكاتب الأرجنتيني الأشهر خورجي لويس بورخيز، أحد أهم الكتاب عنده، ولكنها تختلف كثيرا عنها بأنها ذات نزعة ألمانية فلسفية وتشاؤمية واضحة. تتسم بالتريث التأملي الذي يرهف دور العقل والتفكير (وكأنه بريخت السرد الروائي)، ويجهز على الإيهام وسهولة التلقي التنويمي الذي ينطوي عليه السرد وقد ولد في هدهدات المهد. وما يعزز هذا البعد التفكيري والتأملي في نصوصه استخدامه لحيلة فنية تجديدية أخرى، حيث يمزج بين الكتابة والصورة الفوتوغرافية بالأبيض والأسود، والتي يستخدمها عادة وكأنها علامة ترقيم فارقة أو قاطعة في النص، وصادمة في بعض الأحيان، لانتفاء علاقتها المباشرة بما سرده قبلها. حيث ينأى بها عن الوظيفة التقليدية للرسم أو الصورة باعتبارها تصويرا توضيحيا للموقف، ويكسبها وظيفة طباقية جديدة، وفق تعبير إدوار سعيد النقدي في هذا المجال ببعده الجدلي، تمارس عبرها دور المفارقة بالتناقض والحوار مع ما يكتب عنه، بل أحيانا والتعارض معه ونقضه.

كما تتسم كتاباته بتفرد لغتها الألمانية حيث يستشهد الكثيرون من دارسيه ومترجميه بتفرد جمله وتراكيبه، وبأن جملة واحدة شهيرة في (أوسترليتز) تمتد لتسع صفحات. لكن ما يهمنا هنا هو أن هذا الكاتب الألماني المهم مشغول بموضوع الذاكرة، وآثار فقدان الذاكرة الجمعية خاصة على المجتمعات. فقد اهتم الكثيرون بعواقب فقدان الذاكرة الوخيمة على الفرد الذي يصاب بحادث أو بصدمة ما، فيفقد ذاكرته وتنقلب حياته رأسا على عقب. أما سيبالد فقد انصب قسم كبير من اهتمامه على عواقب فقدان الذاكرة أو محوها على المجتمع وعلى المكان معا. ولذلك فإن أعماله جديرة بأن نهتم بها لأن الكثير من أدواء مجتمعاتنا العربية الراهنة، ومشاكل ثقافتنا المعاصرة، نابعة من فقدان الذاكرة التاريخية والجمعية معا. وفقدان الذاكرة عنده هو المسؤول عن تحلل المجتمعات، وحتى الأماكن والأشياء، وترديها وتدهورها الأخلاقي والحضاري معا. ولأن سيبالد ابن الجيل الذي فتح عينيه على هزيمة ألمانيا ودمارها في الحرب العالمية الثانية، فإنه مشغول بوطأة هذه الهزيمة وآثارها التدميرية على الفرد والمجتمع معا. لذلك كان طبيعيا أن يكون عنوان أحد أهم كتبه هو (عن التاريخ الطبيعي للدمار)، وأن يسجل فيه تدمير المدن الألمانية الوحشي إبان الحرب العالمية الثانية، وفي كثير من الأحيان دون ضرورة عسكرية لذلك. فإذا كان بروست مشغولا بالبحث عن الزمن الضائع، فإن بإمكاننا القول أن سيبالد مشغول بالبحث عن الأماكن الضائعة، تدميرا أو اندثارا او انطمارا تحت الماء.

أما العرض الذي قدمته كيتي ميتشل لكتابه (دوائر زحل) فقد انبثق هو الآخر من وعي باندثار عدد من الأماكن التي وصفها سيبالد، أو بالأحرى انطمارها تحت الماء او تآكلها بفعل نحت البحر. حيث تنحدر ميتشل من تلك المنطقة الآخذة في التآكل، وربما هذا هو سر شغفها بالماء الذي يعد أحد أهم مفردات لغتها الإخراجية. كما أنها شغوفه أيضا بتحويل الأعمال الأدبية الكبيرة إلى عروض مسرحية شيقة. فقد سبق أن شاهدت عرضها الجميل المأخوذ عن رواية (الأمواج) لفيرجينيا وولف. كما قدمت عرضا آخر عن رائعة ديستويفسكي (الأبله). إذن فالبحث في عرضها هو بحث فعلي عن الأماكن الضائعة، وليس فقط عن الزمن الضائع. بحث استوحى ببراعة روح أعمال سيبالد ونصها معا. فهو عرض مأخوذ عن كتاب يقدم فيه رحلته مشيا في منطقة «سافولك» في شرق انجلترا حيث أمضى قسما كبيرا من حياته فيها أستاذا للأدب والترجمة بجامعة «إيست أنجليا» الشهيرة ببرنامج الكتابة الإبداعية. وهو كتاب له عنوان جانبي هو (حج إنجليزي) كتبه عام 1995.

ويعتمد حسب طريقة سيبالد المعهودة على راوٍ غير مسمى، يوشك أن يكون قرين المؤلف نفسه، يجوب منطقة سافولك ويصف لقارئه ما يصادفه من مشاهد وأماكن وبشر، بعضهم حقيقي مثل مترجم الشعر الألماني الشهير للإنجليزية مايكل هامبرجر، وبعضهم من سكان تلك المنطقة المغمورين، أو المتخيلين. ويمزج هذا السرد بما يفكر فيه الراوي نفسه من أمور تتعلق بالتاريخ والأدب، وببعض كتابات توماس براون. ولكنه يقدم فيه أيضا تاريخ قدوم دودة القز إلى أوروبا عامة وبريطانيا خاصة، بصورة تجعل الكتاب مزيجا من البحث والسرد والتأمل والذكريات المستعادة. ويدير الكتاب جدلا خلاقا وربما تداخلا ضمنيا بين شخصيتي الراوي وهامبرجر. فهما ألمانيان استقرا في بريطانيا وعملا بها في مجال الترجمة والتدريس. ثم سرعان ما يمزج هوية هامبرجر بهوية الشاعر الألماني الشهير، هولدرلين، الذي اشتهر بترجمة أشعاره إلى الانجليزية، بصورة تختلط معها الهويات، وتنداح الشخصيات كل في الأخرى. فالنص يغرقنا في متاهات الاستعادات، استعادة اللحظات والتواريخ وحتى الكلمات. استعادة الراوي لما يتذكر أن هامبرجر قاله، لما يتذكر الأخير أنه سبق أن قاله عن هولدرلين .. إلخ.

ولأن الكتاب يتسم بقدر كبير من السيولة، والمتاهات النصية التي لا تميز بين الوصف والسرد والتأملات فقد اضطرت المخرجة في نوع من البحث عن الأماكن الضائعة، إلى العودة إلى نفس الأماكن التي يتناولها النص بعد أعوام طويلة من رحلته وكتابته عنها، لخلق بعض الرواسي المكانية للعرض، ورصد ما جرى لها من تحولات. وتسجيل بعض ما رأته في شريط فيديو استخدمته في العرض، لأن عوامل تردي الأماكن عند سيبالد لا تنفصل عن عوامل تردي الإنسان، والحضارة والقيم. والواقع أن هذه المخرجة المسرحية الانجليزية قد بلورت بصمتها الإخراجية التي تتسم بخلقها للغة مسرحية فريدة وموازية لغة النص، يمكن دعوتها بلغة تفكيك العمل المسرحي أثناء تركيبه على الخشبة، حيث يصبح التفكيك الوجه المكمل للتركيب والعكس. أي أنها تقدم لنا العمل المسرحي، وآليات تفكيكه معا، من خلال استخدام التصوير اللحظي لما يدور أمامنا، بكاميرات فيديو تعرض في الوقت نفسه على شاشة كبيرة في خلفية المسرح أو أعلاه ما يدور أمام المشاهد على الخشبة. بل إن أسلوبها الإخراجي يعتمد على تقسيم خشبة المسرح أفقيا ورأسيا معا، حيت يظهر التقسيم الرأسي جدليات التجاور بين أحداث تبدو أنها غير مترابطة، أما التقسيم الأفقي، فإنه يخلق قسما علويا يتحول إلى ما يشبه الشاشة التي تعرض علينا بعض أجزاء ما يدور أمامنا من المشهد المسرحي، في أسلوب أقرب إلى أسلوب التكبير أو التمحيص، أو اللقطة القريبة في السينما.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_les_anneaux_de_saturne__katie_mitchell_1376_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

وهذا ما فعلته في هذا العرض، حيث قسمت المسرح أفقيا إلى قسمين شمال المسرح ويمينه، لكل منهما هامش يحتل أقصى المسرح في كل قسم، تخصصه للراوي، فثمة راوي أو راوية في كل هامش، لأن الروي في العرض موزع بين ثلاثة أصوات، أحدهما رجالي والآخرين نسائيين. أما بقية الهامش فإنها تخصص لما يمكن دعوتها بتقنيات المسرح العاري، الذي يتخلص من دعاوى التوهيم، ومن أن ثمة ما يدور وراء الكواليس مما لا يعرفه المشاهد. لأن الهامشين ينطويان عادة على ما كان يدور في أحشاء المسرح وخلف الكواليس، من تقنيات توليد أصوات الطبيعة أو وقع الأقدام على أوراق الخريف في الغابة، أو صحيات الحيوان المختلفة. وهناك تقسيم أفقي آخر إلى مقدمة المسرح وخلفيته. كما قسمته رأسيا إلى قسمين أحدهما علوي للشاشة التي تعرض عليها افلام الفيديو المصورة مسبقا، وصور لحظية تتعمد تكبير جزئيات معينة من المشاهد وعرضها علينا بالتزامن مع عرضها على الخشبة.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_les_anneaux_de_saturne__katie_mitchell_1462_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

وفضلا عن هذا المعمار المسرحي الخاص، تعتمد ميتشل على استخدامات اللون، حيث ارتدى كل الممثلين الملابس السوداء، واتسم المشهد كله بما يمكن دعوته بتنويعات على اللحن الرمادي. كما تستخدم الإيماء، لأن كل ما يدور على الخشبة من تمثيل يتم بشكل إيمائي صامت، بينما يستأثر الرواة الثلاثة بكل ما العرض من كلمات.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_les_anneaux_de_saturne__katie_mitchell_1441_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

وكأن العرض الذي قدمته بالألمانية لمسرح مدينة كولونيا الألمانية حرص على الحفاظ على لغة سيبالد الجميلة، وتقديمها في استقلالها وتوحدها على المسرح. وخلق عبر العرض لغته البصرية والحركية المصاحبة والمغنية لها. وهي لغة تعي أهمية محتوى الشكل في العمل الفني. وتخلق عبر لغة المخرج الموازية جماليات الصمت التي تعد هي الأخرى من الجماليات التي اهتم بها سيبالد في كتابته. حيث يتيح الصمت مساحة واسعة للتأمل، ولاستعادة الوجود في الأماكن التي ما عاد لها وجود في الواقع، والتي تعد اللغة هي مجال استعادتها ومنحها الألق المفقود.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_les_anneaux_de_saturne__katie_mitchell_1422_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

لكنها استلهمت هنا فكر سيبالد ورؤاه في تطوير أسلوبها ذاك، وبلورة بعد صوتي له (حيث قدمت لنا كيفية عمل هزيم الريح على الخشبة، أو رفيف أجنحة الطائر، أو توقيع المشي في الغابة المفروشة بأوراق الخريف الجافة .. إلخ، أو صوت الكتابة على الآلة الكاتبة كنغمة القرار في العرض كله) بصورة تتعمد تعرية بنية الإيهام المسرحي، وتعرية دور الزمن في تدمير أنماط حياة كاملة أمامنا على الخشبة. وكأنها تعي أن محتوى الشكل في أعمال سيبالد لايقل أهمية عن المضمون نفسه. وأنه بدون هذا الشكل المسرحي الجديد، سيغيب عن المشاهد الكثير من عمق تأملات الكاتب وتحذيراته  لنا من فقدان الذاكرة الجمعية والتاريخية معا.

عشرة مليارات وتحذير بالغ التشاؤم:
ولم تكتف كيتي ميتشيل بهذا العرض الجميل في مهرجان هذا العام. ولكن امتد تحذيرها من عواقب تردي الأمكنة إلى عواقب تردي العالم كله لما ينتظره من أخطار بالغة. فقد جاءت إلى المهرجان بمسرحية تحذيرية بعنوان (عشرة مليارات) تؤكد عبرها فاعلية المسرح في أيقاظ الوعي، وإرهاف العقل، ووضع أجندة أولوياته المستقبلية على خريطة الاهتمام. مسرحية تطرح أسئلة خطيرة عن سياسات استخدام الطاقة وهدر المياه، وقطع الغابات والتلوث الخرقاء، وتحذر من المخاطر البيئية الوخيمة التي نحث الخطى نحو كوابيسها كالسائرين نياما، ونحن نقترب بسرعة من حاجز العشرة بلايين على الكرة الأرضية. ويوشك هذا العرض، برغم الإعلان عنه كعرض مسرحي، وقطع تذاكر غالية نسبيا له، أن يكون مجرد محاضرة عادية عما ينتظر عالمنا من مخاطر. فهل نحن بإزاء محاضرة أخطأت طريقها إلى المسرح؟ محاضرة يقدمها بالفعل عالم مختص بعلم البيئة ومستقبل الكرة الأرضية وما عليها من حيوات، يقدم نفسه باسمه الحقيقي ستيفن إيموت  Stephen Emmottويعلن لنا أنه يعمل في معهد الإحصاءات العلمية في جامعة كيمبريدج، ويطرح علينا موضوعه باللغة الانجليزية، لغته ولغة جامعته. وقد حاولت المخرجة ألا تتدخل كثيرا فيها بغير ما اعتاد المحاضرون استخدامه من وسائل توضيحية مثل الخرائط والرسوم البيانية. لأن ستارة المسرح تفتح على باحث في مكتبه أمامه كومبيوتر، يعرض منه علينا بعض الأرقام والرسوم البيانية. ويلقي علينا محاضرة طويلة نسبيا حيث تستغرق ساعة ونصف الساعة. ويبدو أن دور المخرج كان في ضبط الإيقاع والتأكد من أن الملل لا يتسرب إلى نفوس المشاهدين، كي لا يفقدوا اهتمامهم.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_ten_billion__katie_mitchell_0015_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

وتنطلق المحاضرة من حقيقة بسيطة ولكنها صادمة. فقد احتاجت البشرية ومنذ ظهور الإنسان على سطح الأرض إلى مئتي ألف عام كي يصل تعداد البشر على الأرض إلى مليار نسمة. فقبل عشرة آلاف عام لم يكن على سطح الأرض أكثر من مليون نسمة. ولكن هذا العدد وصل عام 1800 أي قبل ما يزيد قليلا عن مئتي عام إلى مليار نسمة. وفي عام 1960 أي منذ نصف قرن، وبعد قرن ونصف من بلوغ حاجز المليار تضاعف العدد إلى ثلاثة مليارات. وفي عام 1980 وصل إلى أربعة مليارات، ومع عام 1990 إلى خمسة مليارات، وفي عام 2000 وصل إلى ستة مليارات والآن وصل تعداد البشرية إلى سبعة مليارات. أي أننا وبعد أن احتجنا كجنس بشري إلى آلاف السنين لنبلغ المليار، نزيد كل عشرة أعوام مليارا من البشر. ويتوقع ستيفين إيموت أن يصل هذا العدد بعد أقل من نصف قرن أي عام 2050 إلى تسعة وربما عشرة مليارات. صحيح أننا استطعنا أن نتطور في الوقت نفسه وأن ننجز عددا من الثورات، من الثورة الزراعية إلى الثورة العلمية والثورة الصحية والثورة الصناعية وغيرها، ولكن وتيرة التقدم لا تتناسب مع وتيرة النمو السكاني ولا مع موارد الكرة الأرضية المتاحة، أو حتى قدرتها على استيعاب عواقب استخداماتنا لتلك الموارد.

 

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_ten_billion__katie_mitchell_0090_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

 

 

 

وقد أصبح واضحا للعالم أن تراكم ما ننتجه من ثاني اكسيد الكربون والميثان وغيرهما من الغازات المسببة للاحتباس الحراري، نتيجة لتطور الزراعة وقطع الغابات والصناعة وتزايد وسائل المواصلات الحارقة للنفط قد أخذت تسبب تغيرات مناخية ملحوظة في كرتنا الأرضية. فقد سجلت الإحصاءات أن السنوات العشر الأخيرة هي الأكثر حرارة منذ بدأ تسجيل الجداول الحرارية. ويخبرنا المحاضر أننا نسمع كلمة المناخ Climate كل يوم. لكن المناخ ليس هو الجو بأي حال من الأحوال ولكنه أهم أنظمة الحياة على وجه الأرض، والذي تتوقف عليه قدرتنا على الحياة على هذا الكوكب. لأنه يتكون من أربعة أنظمة حيوية: هي الهواء الذي نتنفسه، والماء الذي نعيش عليه، والغلاف الجليدي الذي يحمينا، والبيئة الحيوية (بما فيها النبات والحيوان) التي لا حياة لنا بدونها. هذه المكونات أو الأنظمة الأرضية الأربعة التي يتكون منها ما ندعوه بالمناخ بدأت كلها تتأثر بازدياد عددنا وتنامي نشاطاتنا الهدامة. فقد بدأت انبعاثات الغازات التي ننتجها تؤثر على الهواء ونظامه، واستهلاكنا للمياه يؤثر على النظام المائي الذي نعيش عليه فأخذ سطح البحر يرتفع والقشرة الجليدية القطبية ترقّ وتنكمش. كما اخذ طلبنا المتزايد على الأرض للزراعة والطرق والتعدين والسكن يؤثر على البيئة الحيوية المحيطة بنا والتي تعتمد حياتنا كثيرا عليها كاعتمادها على الأنظمة الثلاثة الأخرى. فكلما ازداد عددنا كلما ازدادت حاجتنا إلى المزيد من الطعام والماء والأرض، وكلما تنامت حركتنا بالمواصلات واستهلاك الطاقة.

وقد قدم المحاضر مئات الأرقام والإحصائيات أثناء المحاضرة، وشرح تأثيراتها على كوكبنا الأرضي. ليس فقط ليكشف عن تزايد استهلاكنا لموارد الكرة الأرضية وارتفاع معدلات هذا التزايد بصورة لايمكن معها مواصلة هذا النمط من النمو المدمر لموارد الأرض، وبصورة توشك أن تكون عبثية. فقد أثبت مثلا أننا نستهلك ثلاثة آلاف لتر من الماء كي ننتج ساندويتش هامبرجر واحد، بينما نحتاج إلى تسعة آلاف لتر ماء لإنتاج دجاجة. وأن بريطانيا وحدها تستهلك سنويا خمسة بلايين من تلك السندويتشات، بينما تستهلك أميركا 12 بليون، فتصور مقدار المياه المستهلكة 42 تريليون لتر. ولن أغرق القارئ في عشرات الأمثلة التي طرحها علينا، ولكني المهم أنه ينتهي منها في كل مجال، كما هنا في مجال الماء وحده إلى أنه من المستحيل مواصلة استهلاكنا له بنفس المعدل، مهما حاولنا تحلية مياه البحر. وأن حروب المياه التي كثيرا ما سمعنا عنها سوف تتحقق بالفعل. ويلفت النظر هنا إلى ظاهرة جديدة وهي وجود الجنرالات العسكريين في كل المؤتمرات التي تناقش القضايا المناخية. فقبل نهاية القرن ستختفي بنجلاديش من على الخريطة، كما ستتقلص مساحة دلتا النيل بشكل ملحوظ حيث سيقترب البحر الأبيض المتوسط أكثر من مدينة القاهرة المحروسة.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_ten_billion__katie_mitchell_0090_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

وتنتهي المحاضرة بعرض الحلول المقترحة سواء تلك التي تعتمد على البحث عن مخرج تقني من تلك الورطة التي وضعت البشرية نفسها فيها، أو التي تعتمد على ضرورة تغيير سلوكنا، بما في ذلك سلوكنا في الإنجاب الذي سبقت الصين فيه بسياسة الطفل الواحد العالم. وينتمي للحلول الأولى ما يدعوه بالتفاؤل الروسي المبني على اليقين بقدرة البشرية على التغلب على مشكلاتها والتخلص من ورطاتها. وذلك من خلال الثورة الخضراء، ومصادر الطاقة البديلة غير الملوثة، والهندسة البيولوجية، وتحلية مياه البحر، والهندسة الجيولوجية، بما في ذلك بناء مظلات عملاقة في الجو تعكس حرارة الشمس وغيرها. ويخلص من ذلك إلى أنها حلول باهظة التكلفة وغير مؤكدة، كما أنها تنطوي على خطورتها الضمنية في كثير من الأحيان. ثم يتناول موضوع الحاجة إلى ثورة زراعية حتى تستطيع الأرض أن تغذي عشرة مليارات نسمة. وهي ثورة تحتاج بدورها إلى ثورة علمية وإلى نوع جديد من العلوم لا تتيحه لنا المعلومات المتوفرة لدينا حتى الآن. ويخلص بعد هذا كله إلى التفاؤل الروسي لا طائل من ورائه، وأن الحل الوحيد المتاح هو تغيير سلوكنا. ضرورة أن نستهلك أقل من الماء والطاقة والغذاء والمواصلات. وأهم من هذا كله ألا ننتج أطفالا بنفس المعدل، لأنه لو استمر معدل ازدياد السكان الراهن فسوف تصل البشرية إلى 28 مليار مع نهاية هذا القرن، وهو رقم كارثي بكل المعايير. لأنه سيؤدي إلى اختفاء 27% من كل موارد الكوكب وما عليه من حياة. وينتهي بتحذير واضح بأننا في حالة طوارئ غير مسبوقة ولابد من حل جذري لتجنب الكارثة المحيقة.

وبعد أن انتهت المحاضرة بكل ما تضمنته من طوفان من المعلومات المبنية بشكل درامي دون شك، يظل السؤال الذي بدأنا به هذا العرض يناوشني: هل هذه مجرد محاضرة أخطأت طريقها إلى المسرح؟ أم أن هناك ما يستحق وضعها على المسرح؟ وبقيت أقلب هذا السؤال في رأسي حتى اهتديت إلى أننا بالفعل بإزاء نوع آخر من مسرح ما بعد الدراما المغاير. وهو مسرح يدخل المشاهد في قلب أكبر دراما ممكنة، وهي الدراما الإنسانية ومصير الجنس البشري والكرة الأرضية معا. ولكنه يفعل ذلك من خلال سعيه لتحقيق نوع من التماهي بين المشاهدين، والمحاضر الذي توشك محاضرته أن تتحول أيضا إلى عرض لما يعانيه من حيرة إزاء ما يجمعه ويكتشفه من معرفة بأحوال العالم المناخية، وما يعانيه من عجز في الوصول إلى مخرج ملائم من تلك الحيرة. فمأساة المحاضر، أم تراه خطأه التراجيدي، هو أنه يؤمن حقا بصحة معلوماته، ولكنه يدرك في الوقت نفسه عجزها عن تقديم حل مرضٍ لتلك الورطة التي وضعت الإنسانية نفسها فيها، ورطة الإيمان بالتقدم والتطور المستمرين دون الوعي بآثار تلك المسيرة وعواقبها الوخيمة على الطبيعة والإنسان معا. إن المسرح وحده هو الذي نقل تلك المحاضرة من مجال المحاضرات الجافة إلى عالم الدراما الإنسانية والكونية التي تستلزم منا التأمل والتفكير. والتي تؤكد لنا أن الصمت أو اللامبالاة إزاء ما يدور لم يعد ممكنا! لأن الخطر يهددنا جميعا.

 

حضور السياسة والربيع العربي في آفينيون
لا يكتمل أي تناول لمهرجان آفينيون في السنوات الأخيرة دون التعرف على حضور السياسة والربيع العربي فيه. فلا مسرح في حقيقة الأمر دون سياسة. سواء أطفت على السطح أم ظلت مضمرة في قاع العمل. ومهما أمعن المسرح في التجريب، تظل السياسة من شواغله الأساسية. لأنه يدرك ألا حياة  للمسرح كفن جماهيري مركّب دون توفر مناخ من الاستقرار والحرية. والواقع أن فكرة المهرجان نفسها انطلقت من رغبة مؤسسه، رينيه شار الطالع من بوتقة المقاومة الفرنسية للاحتلال النازي لبلاده، في أن يدرأ عوادي السياسة الغبية والعدوانية عن بلاده بقوة الثقافة وسطوة الإبداع. لذلك حرص على مد مسيرته الطويلة على الاهتمام بالسياسة والحوار العقلي بين الثقافات.

وقد احتفى مهرجان العام الماضي بالثورتين المصرية والتونسية، واستقدم مسرحية تونسية بشرت بثورة تونس، هي (يحيى يعيش) لجليلة بكّار وفاضل الجعايبي. كما عقد ندوة عن الربيع العربي، فيما يعرف بمسرح الأفكار، شاركت فيها جليلة بكار مع جيل كيبيل المتخصص في الشرق الأوسط عامة، ومصر خاصة. وها هو يواصل الاهتمام به هذا العام من خلال مسرحية أخرى استقدمها هذه المرة من بيروت، وندوة في مسرح الأفكار تحدث فيها عنه ألآن بادييو، وهو من أبرز الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين، وأنتونيو نيجري وهو من أشهر المفكرين الإيطاليين.

ويكشف حديث المفكرين الأوربيين المرموقين عن الربيع العربي عامة، والثورة المصرية خاصة عن أهمية هذه الثورة على الصعيد الإنساني، وكيفية بلورتها للموقع الأخلاقي الأعلى، وطرحها لأسئلة جوهرية عن علاقات القوى المختلّة في العالم، وعن بنية عالم اليوم الذي يعاني من جشع النيوليبرالية ورأسماليتها المتوحشة. وكيف أن عمق الرسالة التي انطوت عليها هذه الثورة المصرية النبيلة هي أننا بإزاء عالم يعاني من أمراض بنيوية خبيثة، ناتجة عن شره العولمة للربح وتطبيق قوانين القرن التاسع عشر بنزعتها الاستعمارية القديمة وشرهها لفتح أسواق جديدة، على عالم القرن الحادي والعشرين الذي تغير جذريا عن العالم الذي نتجت عنه قوانين السوق الحر القديمة. وهذا هو سر تلقف رسالتها بسرعة في «وول ستريت» وإسبانيا واليونان، بل وحتى بريطانيا وغيرها من بقاع العالم التي تلقت رسالتها الجوهرية.

والواقع أنني كلما استمعت إلى حديث المفكرين الأوروبيين أو قرأت كتاباتهم، وهي كثيرة، عن الثورة المصرية، كلما أدركت أنه لابد أن نعرف قدر هذه الثورة، وأن نحافظ عليها ونحرص على تحقيق أهدافها الإنسانية النبيلة في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية. إذ يبدو أننا لا ندرك قيمتها ولا نقدرها حق قدرها. فبينما يهتم بها العالم، ويدرك كم استطاعت احتلال الموقع الأخلاقي الأعلى، وأعادت لشعارات إنسانية مثل الكرامة والعدالة الاجتماعية قيمتها، بعد أن أهالت عليها مقولات نهاية التاريخ وصراع الحضارات أتربة النسيان، ويكتب عنها كبار مفكري الغرب في أوروبا وأمريكا بتقدير كبير، نقوم نحن بتشويهها والاعتداء عليها، وعرقلة مسيرتها صوب تحقيق أهدافها، من أجل غايات صغيرة ومخططات سياسية ضيقة الأفق. كما نبدد ما وفرته لنا من فرصة ذهبية لاسترداد استقلال مصر الذي فرط فيه نظام التردي والتبعية والهوان، واستعادة مكانتها الجديرة بها بين الأمم العربية منها والأفريقية. وإذا ما كان للتحالف الغبي بين العسكر والإخوان من خطيئة كبرى تبرر الزراية بهما معا، فهي أنهما معا فرطا في تلك الفرصة الذهبية التي وفرتها الثورة لاسترداد استقلال مصر، واستعادة إرادتها المرهونة لدي المخطط الصهيوأمريكي في المنطقة، لتصبح سيدة قرارها من جديد. لكن تلك قضية أخرى كما يقولون.

ومع أن مهرجان أفينيون مهرجان مسرحي يحتفي بأحدث التجارب المسرحية، فإنه اهتم بأن يقدم، احتفاء منه بالربيع العربي هذا العام، تجربة لبنانية شيقة بعنوان (اسطوانة قديمة وبضع ثوان33 Tours et Quelques Secondes) للينا سانح ورابح مروّة، تنهض على حدث حقيقي، ولكنها تمسرحه بطريقة تحيله إلى التجسيد الدرامي لفرصة الربيع اللبناني الضائعة أو الموءودة. ويجسد العمل الفقد أو الضياع على المسرح من خلال التأكيد على الغياب فيه، غياب البطل، وغياب الحدث في الوقت نفسه، وبقاء المعنى. وهو التجسيد الدرامي للمسرح الجديد الذي كان البطل الغائب مولعا به. فنحن نتعرف بسرعة أثناء العمل على بعض صور لمسرحه الذي ينتمي لمسرح ما بعد الدراما، أو مسرح الواقعة الفنية الساكنة. وهو تقريبا المنهج الذي استخدمه العرض الحالي في طرح قضيته علينا. لأننا فيه بإزاء مسرح خال، غرفة مكتب مخرج مسرحي انتحر للتو، على طريقة محمد البوعزيزي علّ انتحاره يفجر الغضب الكظيم الذي يعاني منه اللبنانيون. لكن كل ما أدى إليه انتحاره هو مظاهرة يتيمة في حديقة الصنايع ببيروت يوم 18 أكتوبر 2011، وشلال من الجدل والكلام الذي يسعى لبلورة العلاقة بين غياب المسرح وحضور المعنى. فالعمل مأخوذ عن واقعة حقيقية، هي واقعة انتحار شاب علّ انتحاره يدفع شعبه للتحرج والخروج من وهاد الركود والتخلف والقهر. وقد تكررت في أكثر من بلد عربي على غرار انتحار محمد البوعزيزي. ولكن لينا سانح ورابح مروّة يحيلان هذه الواقعة الحقيقية إلى عمل فني شيق.

Description: 33 Rounds and Few Seconds © Christophe Raynaud de Lage / Festival d'Avignon

 

وتبدأ المسرحية في غرفة المخرج المنتحر عقب انتحاره في 30 سبتمبر 2011، غرفة فارغة تماما إلا من الأثاث البسيط كما يظهر في الصورة. أهم ما بها من أثاث هو المكتب الذي ترك عليه الكومبيوتر والتليفون المحمول، كما ترك اسطوانة قديمة على الجرامافون، لاتزال تدور وقت بداية المسرحية، وتليفونه الأرضي المفتوح على مسجلة المكالمات، وعليها نغمة القرار في المسرحية، وهي صوت المنتحر، واسمه لمرارة المفارقة ضياء يموت. وهي يقول «ضياء يموت، اترك رسالة، باحكيكم بعدين». بينما تتوالى المكالمات، ويترك كل متكلم رسالة. وهناك أيضا تليفونه المحمول الذي يتلقى عليه الكثير من الرسائل النصية SMS والتي تنعكس من على شاشة التليفون مكبّرة على الحائط، حتى يستطيع المشاهدون قراءتها، ثم جهاز التليفزيون الذي يبدأ به العرض مغلقا، ولكنه سرعان ما يعرض علينا بعض ما دار فيه من برامج التليفزيون التي تناقش الحدث، وتعلق عليه. وأخيرا صفحته على «الفيس بوك» حيت عدد أصدقائه عليها 3543، يكتبون بأربعة لغات: الفرنسية والعربية والانجليزية والعامية اللبنانية المكتوبة بالحروف اللاتينية الهجينة التي انتشرت مع رسائل المحمول النصية و«الفيس بوك». وتتوالى تعليقاتهم بأسمائهم عنه وعما يمثله انتحاره بالنسبة للبنان وللبنانيين. ومن توالي عشرات الأسماء على الشاشات، ندرك أننا بإزاء كل ألوان الطيف اللبناني، بمسيحيه وأرمنه ودروزه وبمسلميه سنة وشيعة.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_33_tours_et_quelques_secondes__lina_saneh_et_rabih_mroue_1326_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg

ولا تنسى المسرحية أن تنسج حبكتها الدرامية الشيقة من خلال نوع من التضافر بين نغمة القرار التي تشكلها رسالة المنتحر على مسجلة المكالمات التليفونية «ضياء يموت .. باحكيكم بعدين» ومكالمات متكررة على المسجلة ورسائل نصية على التليفون المحمول من صديقته أو ربما حبيبته الفلسطينية التي رتبت معه قدومها لبيروت من بلد أوروبي، وأنها تعاني مشاكل الحصول على التأشيرة، بل وأنها وصلت لبنان بلا تأشيرة فمنعوها من الدخول، ولا تفيد صرخاتها له بأن يهب لنجدتها في موقفها العصيب ذاك، حيث أنهم يريدون إعادتها من حيث أتت. لكن البلد الأوروبي الذي أتت منه يرفض عودتها له، فقد انتهت إقامتها به. ومن خلال الجدل المستمر بين كل تلك الخطابات المختلفة، وقد أحالتها المسرحية إلى جزء فاعل في عملية تغييب الإنسان من خلال مراكمة الحديث عنه، أو طمره تحت ركام من المكرور والتافه، تضعنا المسرحية في قلب الجدل الحقيقي/ العقيم الذي أودى بالربيع العربي إلى مأزق مماثل لذلك الذي وجدت حبيبته الفلسطينية نفسها فيه بعد انتحاره. وتقدم في الوقت نفسه نوعا من مسرح الغياب القادر على أن يطرح على مشاهده الكثير من القضايا الحافلة بالمعاني والدلالات.

Description: C:\Users\Prof Sabry Hafez\Desktop\My Recent Files\Avignon Photos 2012\w_33_tours_et_quelques_secondes__lina_saneh_et_rabih_mroue_1364_(c)_christophe_raynaud_de_lage__festival_davignon.jpg