تثير الكاتبة الهندية المرموقة أرونداتي روي التي حصلت روايتها "إله الأشياء الصغيرة"على جائزة بوكر زوبعة من الاهتمام بسبب آرائها الجريئة ونشاطها ضد العولمة والإمبريالية والتسلح النووي، ويترجم الناقد الأردني فخري صالح (للكلمة) مقابلة طويلة معها.

أرونداتي روي: أنا مهتمة بفيزياء التاريخ

ترجمة وتقديم: فخري صالح

ديفيد بارساميان

رغم أن شهرتها تعود إلى حصولها على جائزة البوكر البريطانية للرواية عن روايتها اليتيمة "إله الأشياء الصغيرة" (1997) إلا أن الكاتبة الهندية أرونداتي روي معروفة في الهند والعالم لكونها تنشط ضد العولمة والإمبريالية وبناء السدود الضخمة في الهند، وكذلك ضد التسلح النووي وأخطار القنبلة النووية التي تتباهى كل من الهند وباكستان بامتلاكها. وقد كتبت روي عددا من الكتب، التي لاقت رواجا كبيرا في العالم الناطق بالإنجليزية، وكذلك في بلدها الهند، وكلها تدور حول السياسات الكونية والعولمة المتوحشة، والحرب على الإرهاب، وعودة الاستعمار الأمريكي لينتشر على الأقدام في بعض المستعمرات الغربية العتيقة. في تلك الكتب التي تجمع بين صيغة التضامن، مع من لا يملكون القوة، والتحليل الذكي والخلاق، تعمل الروائية الهندية الشابة (مواليد 1961) على سرد وقائع محددة ومتابعتها بالتحليل وضرب الأمثلة. ينطبق هذا التوصيف على كتبها:"نهاية الخيال" The End of Imagination (1998) و"ثمن العيش" The Cost of Living (1999) و"علم جبر العدالة اللانهائية" Algebra of Infinite Justice (2001) و"سياسات القوة" Power Politics (2001) و"حديث الحرب" War Talk (2003). وقد أصدرت مؤخرا كتابا جديدا عن دار نشر فلامينغو البريطانية في عنوان"دليل القارئ العادي إلى الإمبراطورية" The Ordinary Person's Guide to Empire (2004)، وهو يجمع عددا من مقالاتها التي نشرتها خلال السنوات الثلاث الأخيرة. كما أصدر الصحفي والناشط والإذاعي الأمريكي ديفيد بارساميان حوارا مطولا معها على شكل كتاب يتناول فيه عددا من القضايا التي تهتم بها روي، ووضع له عنوانا شديد الإيحاء "دفتر الشيكات وصاروخ كروز" The Chequebook and the Cruise-Missile، وقد نشرته دار هاربر بيرينيال البريطانية كذلك في نهاية عام (2004).

في هذين الكتابين اللذين يكمل أحدهما الآخر، موضوعا وفكرا والتزاما بالقضايا التي تنشط أرونداتي روي للدفاع عنها في الهند والعالم، يقع القارئ على لحمة تفكير الكاتبة الهندية الشابة ورؤيتها لقضايا العولمة والرأسمالية المتأخرة والإمبريالية الجديدة التي تعود إلى استخدام الآليات التي استخدمها الاستعمار الأوروبي القديم. وما يلفت الانتباه في هذين الكتابين، اللذين يقدمان قراءة نثرية مباشرة لموضوع روايتها "إله الأشياء الصغيرة" التي تحكي عن البنية الاجتماعية المعقدة للهند المعاصرة، هو الحس الإنساني العالي الذي يغلف كتابة روي وكذلك حوارها البارع الشديد الذكاء مع محاورها ديفيد بارساميان الذي سبق أن أصدر عددا من الحوارات المطولة مع نعوم تشومسكي وإدوارد سعيد.

يدور كتاب روي "دليل القارئ العادي إلى الإمبراطورية" حول مشكلات اللحظة الراهنة والاندفاعة الأمريكية إلى قلب العالم القديم، حول عودة الاستعمار ومواجهة الإمبراطورية وصناعة أمريكا لنوع من الديموقراطية القشرية التي يمكن تسويقها على طريقة (اشتر ديموقراطية وأحصل على أخرى كهدية). ومن هنا تبدو المقالات التي يضمها هذا الكتاب الصغير الحجم (157 صفحة من القطع الصغير) حادة، قاطعة، لامعة الذكاء، وقادرة على قول الكثير بكلمات قليلة؛ ما يجعل أرونداتي روي أقرب إلى نعوم تشومسكي الذي تتحدث الكاتبة الهندية، في مقالة عنه ضمها الكتاب، عن وحدته ومثاله النادر في زمان العولمة وموت الحقيقة. وما يجمع روي بتشومسكي ليس الالتزام الأخلاقي الذي يحمله الاثنان تجاه قضايا المستضعفين في الأرض، بتعبير فرانز فانون، بل تركيز عملهما على بنية السلطة وأشكال اشتغالها، على ما تسميه روي: فيزياء السلطة، وجنون عظمتها، وقسوتها التي لا حدود لها. من هنا يبدو تذكيرها بعلاقة إعلان السلطات البريطانية انتداب فلسطين، في 11 أيلول 1922 بأحداث 11 أيلول 2001، تأويلا للعلاقة المحتقنة بين العرب والغرب منذ وعد بلفور 1917 بمنح اليهود حق إقامة دولتهم على أرض فلسطين، وقول ونستون تشرتشل عام 1937 "إن كون الكلب قد أقام في البيت لفترة طويلة لا يمنحه الحق في هذا البيت" في تعليق على الثورة الفلسطينية عام 1936.

من تحليلها لأمثولة التاريخ بدءا من فلسطين، وما جرى لأهلها بسبب الاستعمار الأوروبي في العقد الثاني من القرن الماضي، وصولا لأحداث أيلول الرهيبة عام 2001 في كل من نيويورك وواشنطن، تركز أرونداتي روي على الأخطار التي تهب على البشرية جمعاء بسبب ديموقراطية السوق، وتحول المبادئ الديموقراطية الغربية إلى سلعة تسوق لأغراض الغزو والسيطرة وافتتاح أسواق جديدة للشركات المتعددة الجنسية. وهي ترى أن على الأمريكيين أن يقرؤوا ما يكتبه تشومسكي لكي يتعرفوا على الوجه البشع الذي يقيم خلف كلمة "الحرية" الجميلة المشعة التي تروج لها المؤسسات الأمريكية السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة. تكتب روي:
"في حديثه عن هجمات 11 أيلول في نيويورك وواشنطن، أطلق الرئيس جورج دبليو بوش على أعداء الولايات المتحدة وصف "أعداء الحرية". ويضيف: "يتساءل الأمريكيون لماذا يكرهوننا؟" ويجيب: "لأنهم يكرهون الحرية، حريتنا الدينية، حرية التعبير لدينا، حريتنا في الإدلاء بأصواتنا وانتخاب ممثلينا، وحريتنا في الاختلاف."

لكن إذا أراد شعب الولايات المتحدة إجابة واقعية للسؤال (أي إجابة تختلف عن تلك الواردة في "دليل الأغبياء لمناهضة الأمريكان": يكرهوننا لأنهم يحسدوننا، لأنهم يكرهون حريتنا، لأنهم فاشلون، لأننا أخيار وهم أشرار) أقول: اقرؤوا تشومسكي. اقرؤوا ما كتبه تشومسكي عن تدخل أمريكا العسكري في الهند الصينية، وأمريكا اللاتينية، والعراق، والبوسنة، ويوغوسلافيا السابقة، وأفغانستان والشرق الأوسط. لو أن الناس العاديين في الولايات المتحدة قرؤوا تشومسكي، ربما كانت الأسئلة اتخذت صيغا أخرى، ربما أصبحت على النحو التالي: "لماذا لا يكرهوننا أكثر؟" ، أو: "أليس من الغريب أن أحداث 11 أيلول لم تقع قبل هذا التاريخ بكثير؟" (دليل القارئ العادي إلى الإمبراطورية، ص: 48 ــ 49)

من هنا يبدو تشومسكي، وكذلك روي ومحاورها ديفيد بارساميان، شهودا على الإمبراطورية الجديدة، كما كان جوزيف كونراد في "قلب الظلام" شاهدا على الإمبراطوريات الإمبريالية الآفلة. وفي هذه البؤرة بالذات يلتحم عالم أرونداتي السردي بكتاباتها السجالية والمنافحة عن الفقراء والضعفاء وشهداء الإمبراطورية. في "إله الأشياء الصغيرة" تذكر روي برواية " قلب الظلام " وتكثر من الإشارة إليها وإلى بطلها كيرتز الذي تقيم أرونداتي بينه وبين إحدى شخصياتها (الإنجليزي صاحب "بيت التاريخ ") علاقة شبه على مدار فصول الرواية، محاولة، من خلال ذلك، أن تذكر القارئ بطبيعة المهمة المعقدة للرحلة التي قام بها كيرتز إلى قلب الظلام في أقاصي إفريقيا؛ إن مهمة كيرتز في رواية جوزيف كونراد تشبه مهمة ذلك الرجل الإنجليزي الذي انتحر تاركا "بيت التاريخ"، أو بالأحرى "بيت الأشباح"، ليكون شاهدا على اللقاء المستحيل بين الطبقات في الهند بسبب ألاعيب السياسة ورغبة السلطة في استخدام نظام الطبقات للوصول إلى صناديق الانتخابات. لعل الاستنتاج السابق أن يكون مقيما في قلب الحوار الطويل الذي يجريه مع روي ديفيد بارساميان مركزا على نشأتها في ولاية كيرالا الهندية، التي يدين عدد كبير من سكانها بالمسيحية ويعود نسبهم إلى الطائفة السريانية القادمة من بلاد الشام، وطابع السيرة الشخصية في روايتها "إله الأشياء الصغيرة"، ومشاركتها الدائمة في التظاهرات ضد إقامة السدود الضخمة التي تتسبب في نزوح ملايين السكان الفقراء من بيئاتهم التي اعتادوا عليها لمئات السنوات، وكذلك تحليلها لما تسميه "فيزياء التاريخ".


مقاطع مطولة من الحوار:
ديفيد بارساميان: حدثيني عن كيرالا حيث ترعرعت. إنها مكان متفرد في الهند لأسباب كثيرة، فهي متعددة الأديان، نسبة الأمية فيها منخفضة، وهي تخلو نسبيا من أشكال العنف الطائفي الذي ينتشر مثل الطاعون في أجزاء أخرى من الهند.
أرونداتي روي: كيرالا هي المكان الذي تتلاقى فيه الأديان العظيمة، المسيحية والهندوسية والإسلام، والماركسية [ تضحك ]. إنها تحتك ببعضها بعضا وتتحول وتصير شيئا جديدا. من الناحية السياسية فإن كيرالا تفور وتغلي، وهذا قد يعني، من بين ما يعنيه، وجود نوع من الصدام بين الماركسيين والجناح اليميني لحزب راشتريا سوايامسيفاك سانغ الهندي القومي* أو بين الأحزاب الشيوعية المختلفة، رغم أن هذا الصراع متحرر نسبيا من عمليات القتل التي تجري على خلفية طائفية في ولايات مثل بيهار أو أوتار براديش (1). عندما قدمت لأول مرة إلى شمال الهند شعرت وكأنني أعيش في عصر آخر. ومع ذلك، فإن كيرالا مجتمع معقد لأنها تقدمية وتسود فيها عقلية ضيقة الأفق في الوقت نفسه. وحتى بين المسيحيين السوريين ــ الذين يعدون الأقدم وينتمون إلى الديانة المسيحية الأرثوذكسية ـ تجد بعض التعقيدات الخاصة بالبعد الاجتماعي الطائفي. خذ على سبيل المثال الأحزاب الشيوعية وستجد أن قادتها من الطبقات الاجتماعية العليا، وهم عندما يخوضون المعركة الانتخابية يختارون مرشحيهم بعناية فائقة بحيث يمثل هؤلاء المرشحون الطبقة الاجتماعية السائدة التي تتطابق مع "رصيد أصواتهم الانتخابية" ـ وهذا مثال لكيفية عمل الشيوعية على تسخير النظام الطبقي الاجتماعي التقليدي في الحصول على السلطة في الديموقراطية "التمثيلية".

بلى، إن كيرالا معروفة بانخفاض نسبة الأمية فيها، لكن نوعية التعليم نفسه مروعة. إن جامعة كيرالا هي من بين أردأ الجامعات في الهند. لكنني لا أظن أن شيئا مثل مشروع تطوير وادي نارمادا يمكن أن يحدث بسهولة في كيرالا(2)، فهذا النوع من الظلم الجماعي ــ إجلاء مئات الآلاف من الناس ــ من الصعب حدوثه في مكان مثل كيرالا. من ناحية ثانية فإن أول شيء فعله إي. إم. إس نامبوديريباد، عندما تسلم السلطة كرئيس لأول حكومة شيوعية ديموقراطية منتخبة في العالم، هو الطلب من شركة بيرلا، وهي مجموعة اقتصادية ضخمة، أن تقيم مصنعا ضخما للرايون** في كاليكوت (3). في السنوات الثلاثين الأخيرة عمل المصنع المذكور على تعرية غابات شجر البامبو، وسمم نهر تشالييار، ولوث الجو. هناك حالات إصابة كثيرة بالسرطان بين السكان المحليين، وكذلك بين عمال المصنع. إن المصنع هو أضخم معامل كيرالا، وهناك ثلاثة عشر اتحاد عمال في كيرالا. لكن المصنع بحجة توظيف ثلاثة آلاف عامل دمر حياة مئات الآلاف الذين يعتاشون على المصادر الطبيعية للمنطقة، وهم صيادون وعمال يعتمدون على المتاجرة بشجر البامبو، وحجّارون. (وهؤلاء لا يتمتعون بصفة العمال في قاموس الشيوعيين). الحكومة والمحكمة لم يحركا ساكنا بهذا الشأن. لكن المصنع أقفل أخيرا أبوابه من تلقاء نفسه لأنه استهلك المواد الخام جميعها التي كانت موجودة، وأراد أن ينتقل إلى منطقة أخرى. لأن كيرالا ممزقة بحرب ضروس بين السياسات، فلا أحد يبدو منسجما مع الآخر فيها. هناك مئات من الحركات، ولذلك فإن كل شيء يبقى متجمدا في نوع من الموت التخشبي على الصعيد السياسي.

ديفيد بارساميان: ما هو وضع النساء بعامة في كيرالا؟ هل هو مختلف عن وضع بقية النساء في الهند واضعين في الحسبان مستويات التعليم المتقدمة؟
أرونداتي روي: أعرف أن الناس يقولون إن الولادات انخفض عددها بسبب انتشار التعليم في كيرالا (4). لربما يكون ذلك صحيحا. لكن ما عليك إلا أن تشاهد صناعة السينما في مالايالام لتشعر بالغثيان نتيجة المعاملة التي تلقاها النساء، ونتيجة تصرف النساء كذلك. في طفولتي كل فيلم شاهدته كانت البطلة فيه تتعرض للاغتصاب، وعندما وصلت سن الخامسة عشرة أصبحت مقتنعة أنه ما من امرأة إلا وتعرضت للاغتصاب. كل ما في الأمر أن الواحدة منا كانت تقف بالدور لكي تغتصب. تلك كانت حالة الذعر التي غرست في قلوب الفتيات الصغيرات. أمي شخصية معروفة في كيرالا لأنها ربحت عام 1986دعوى قضائية عامة. لقد قدمت اعتراضا على قانون الميراث المسيحي السوري الذي يقول إن المرأة يمكن أن ترث ربع أملاك والدها أو خمسة آلاف روبية، أيهما أقل. وحكمت محكمة العدل العليا في حالتها بإعطاء النساء حصة مساوية للرجل في ميراث أبيه، وبتطبيق هذا الحكم بأثر رجعي حتى عام 1956. لكن لم تذهب امرأة واحدة إلى المحكمة للحصول على حقها. كل واحدة منهن كانت تقول: "ليس بالإمكان الحصول على ذلك الحق بأثر رجعي حتى عام 1956، لأن المحاكم سوف تكتظ بالمدعين." في الحقيقة لم يحدث شيء من ذلك أبدا. الكنائس تعترف بالطبقات كما هي. إنهم يعلمون الآباء كيف يحرمون بناتهم من الميراث. إنه نوع غريب من الاضطهاد ما يحدث هناك. إن النساء اللواتي ينتمين إلى كيرالا يعملن في أنحاء الهند كلها وفي العالم بأسره، وعدد لا يحصى من راهبات العالم وممرضاته من كيرالا. إنهن يرسلن الأموال التي يجنينها جميعها إلى عائلاتهن؛ والممرضات اللواتي يتقاضين مبالغ كبيرة من المال نسبيا، يتزوجن فيدفعن المهور، لكنهن ينتهين إلى أسوأ نوع من علاقات الخضوع لأزواجهن.
ترعرعي في قرية صغيرة في كيرالا كان بمثابة كابوس بالنسبة لي. كل ما أردت فعله هو الهرب، السفر بعيدا، أن لا أتزوج واحدا من قريتي. لا أقصد بالطبع أن الرجال كانوا يقفون بالدور لطلب يدي [ تضحك ]. كنت أسوأ ما يمكن أن تكونه الفتاة: نحيلة، سوداء، وماكرة. لا جمال، لا مهر أستطيع تقديمه، لا شيء لا شيء إطلاقا.

ديفيد بارساميان: أمك ماري تجاوزت حدود المسموح.
أرونداتي روي: لقد تزوجت هندوسيا بنغاليا، لكن ما هو أسوأ أنها قامت بتطليقه، وهو ما عنى أن كلا منهما وافق في النهاية على أن الحب والزواج خارج الطائفة هو أمر فظيع.


ديفيد بارساميان: كيف كان شعورك وأنت تكبرين في غياب والدك عنك وعن البيت؟
أرونداتي روي: في كيرالا يمتلك كل شخص ما يدعى "ثارافاد"، أي بيت الأجداد. فإذا لم يكن لديك أب فأنت لا تملك "ثارافاد". أنت شخص بلا عنوان. لقد ترعرعت في إيمينيم، وهي القرية التي تقع فيها أحداث روايتي "إله الأشياء الصغيرة"5". لكن بالقياس إلى المسار الذي اتخذته الأحداث فإن من السهل بالنسبة لي أن أشكر الله أنني لم أمر بالشروط ذاتها التي تمر بها الفتاة الهندية المنتمية إلى الطبقة المتوسطة. لم يكن هناك أب في حياتي، لا حضور لهذا الرجل "الذي يعتني" بنا ويضرب أمنا ويهينها من حين لآخر. لست ابنة طائفة اجتماعية، لا دين لي، لا أحد يراقبني ويعد علي سكناتي. كان واضحا بالنسبة لي منذ البداية، وكما أفهمني الجميع حولي، أنني لن أتلقى الرعاية التي استحقها الأطفال الآخرون. أي شيء كان يمكن أن يحدث لي. كان الموت واحدا من هذه الأشياء الممكنة. لكن لأن ذلك لم يحدث فقد أتيحت لي الفرصة لأشهد ما يحدث الآن. لست ريفية، لا أنتمي إلى المدينة، ولست "تقليدية" تماما كما أنني "لا أنتمي إلى الحداثة" بكل مشاعري. لقد نشأت في القرية. رأيت الهند الريفية على حقيقتها، لكنني أخذت قسطي من التعليم. إن الأمر يشبه كما لو كنت تتربع على قمة قاع كومة من الركام ــ دون أن تتصف بقلة الإدراك والمحدودية الذهنية التي لدى المضطهدين أو يكون لديك الإحساس بالرخاوة والدلال الذي لدى ميسوري الحال. إن عدد الفتيات الهنديات اللواتي تقول لهن أمهاتهن: "بغض النظر عما يؤول إليه حالكن فلا تتزوجن. ولا تنمن في فراش رجل حتى تكن مستقلات اقتصاديا" لا بد أن يكون قليلا. كانت النصيحة مقنعة ــ رغم أنني لم استمع إليها [ تضحك ]. عندما أرى العرائس وهن يرتدين ثياب العرس ويحضرن أنفسهن للتضحية أصاب بطفح جلدي. أجد أن الواحدة منهن تشبه الغولة، وأن ذلك الأمر كله الذي يحدث في الهند مخيف ومفزع ــ أن أرى ذلك الكائن المُزوّق، المثقل بالحلى والجواهر برغبته، يدخل مبتهجا حياة الخضوع والعبودية الدائمة.

ديفيد بارساميان: أنت قريبة جدا من أمك هذه الأيام؟
أرونداتي روي: لقد تركت البيت وكنت وقتها في السادسة عشرة من عمري. حدث ذلك لأسباب كثيرة، ولم أر أمي طوال سنوات عديدة. مثلنا نحن الاثنتين مثل الأمهات والبنات جميعا ولذلك فعلاقتنا ببعضنا البعض معقدة ــ لكن ذلك لا يعود إلى اختلاف الرؤية السياسية لدى كل منا. تشبه أمي امرأة ضلت طريقها خارج واحد من أفلام فلليني. لكن أن أكون تربيت في كنف امرأة لم تفكر أن تكون رسالتها في الحياة البحث عن شريك تربط نفسها به شيء رائع بالفعل. أمي تدير مدرسة في بلدة كوتّايام، وهي ناجحة في عملها، والناس يسجلون أبناءهم في المدرسة حتى قبل أن يولدوا. لكن أبناء البلدة لا يعرفون تماما كيف يتعاملون معها. أو يتعاملون معي. إن مشكلتنا نحن الاثنتين أننا امرأتان غير تقليديتين. على الأقل يمكن أن نكون غير سعيدتين، لكننا لسنا كذلك. ذلك ما يقلق الناس: أن تكون لديك تلك الخيارات وتكون سعيدا ـ مثل ساحرتين.
مدرسة أمي لا تدار بطريقة تقليدية. لقد بدأت بخمسة أو ستة من الطلبة عندما كنت في الرابعة أو الخامسة من عمري. استطاعت أمي إقناع النادي الروتاري في كوتايام بتأجير مدخل بنايته أثناء النهار. في الصباح كان بمقدرونا وضع طاولات في المدخل وتعلم القراءة والكتابة. وفي الليل كان الرجال يلتقون ويدخنون ويرمون أعقاب سجائرهم ويتركون كؤوس شايهم وزجاجات الويسكي التي شربوها في المكان. الرجال المنتمون إلى الطبقة الوسطى في الهند معتادون على ترك قمامتهم للآخرين كي ينظفوها. في الصباح كنا ننظف تلك القمامة ونحول المكان إلى مدرسة. اعتدت أن أصف تلك المدرسة بأنها مدرسة على عجلات تدفع وتطوى. يعرف الناس أن العلم الذي يتلقونه في مدرسة أمي نادر ولا يقدر بثمن. ومع ذلك فإنهم يبدون غير مرتاحين لأنها لا تخضع للقواعد والتعليمات التي يفرضها المجتمع.

الآن أصبح الوضع أكثر تعقيدا بعدما حدث لي منذ نشرت "إله الأشياء الصغيرة". كنت الأولى التي تتخرج من مدرستها. إنها تملك طريقتها في إثبات نفسها ـ يشبه الأمر كتابة سيناريو فيلم يحوز علامة ب. المعاناة، والإيمان، والعمل الشاق، ثم تتلقى ثوابك أو عقابك. لا تتخيل أن شيئا مثل ذلك يمكن أن يحدث: الطريقة التي كنا نعامل وفقا لها في تلك البلدة، الوضع الذي كانت عليه الأشياء عندما كنت طفلة بالمقارنة مع الوضع الآن. حتى روايتي لا يعرف الناس كيف يتعاملون معها. إنهم يرغبون في احتضاني والقول "هذه ابنتنا"، ومع هذا فهم غير راغبين بالتفكير فيما تقوله الرواية، أي في مجتمعهم والوحشية والقسوة اللتين ينطوي عليهما هذا المجتمع. إنهم يبحثون عن طرق يصفّون بها الأجزاء التي لا يرغبون في رؤيتها. إنهم يقولون إن موضوع الكتاب هو الأطفال، أو شيء من هذا القبيل.


ديفيد بارساميان: رفعت ضدك قضية جزائية في كيرالا لأن أحدهم ادعى أن "إله الأشياء الصغيرة" هو كتاب فاحش.
أرونداتي روي: اتهمت بأنني أخرب الأخلاقيات العامة [تضحك]. كما لو أن أخلاقيات المجتمع كانت طاهرة حتى ظهرت. استدعيت إلى محكمة كوتشين قبل عام أو اثنين، وقد تقدمت بطلب لكي تلغى القضية قائلة إنها لعدد من الأسباب باطلة قانونيا. كان محاميا الطرفين مستعدين لتقديم حججهما، لكن القاضي قال: "لا أريد أن أنظر هذه القضية. كلما جئت لأنظر فيها فإن صدري يؤلمني" [تضحك]. لقد أجل النظر في القضية ولكنها لا تزال معلقة لم يبت فيها.


ديفيد بارساميان: منذ كتبت روايتك أنجزت عددا من المقالات المميزة. كيف انتقلت من كتابة الرواية وعالم الخيال إلى الكتابة عن أشياء ملموسة محددة، مثل الجسور والنزوح السكاني في وادي نارمادا، والعولمة، وشركة إنرون؟
أرونداتي روي: يبدو الأمر وكأنه عملية تحول بالنسبة للآخرين فقط. عندما كنت في سنتي الرابعة في كلية هندسة العمارة عرفت أنني لن استمر في ممارسة المهنة لأن ذلك سيعني أنني سأكون جزءا من سلسلة من عمليات الاستغلال القبيحة. وأنا لا أستطيع أن أفعل ذلك. كنت مهتمة بموضوع التمدين وتخطيط المدن، أي كيف تصبح المدن ما هي عليه وكيف تؤثر على ساكنيها. كنت أمارس هذا النوع من العمل منذ كان عمري واحدا وعشرين عاما. لكن الأمر يبدو وكأنه انتقال من عالم إلى آخر بالنسبة للآخرين الذين عرفوني بعد "إله الأشياء الصغيرة". لقد كتبت مقالات سياسية قبل أن أكتب الرواية. كتبت ثلاث مقالات: "خدعة الاغتصاب الهندية العظيمة" (في جزئين)، و"سيدة شيدي لين الشريرة"، وتدور المقالة الأخيرة حول كيفية تناول فيلم "ملكة قطاع الطرق" قضية بولان ديفي وفيما إذا كان من حق أي شخص أن يعيد تمثيل عملية اغتصاب امرأة موجودة بيننا دون أن يحصل على موافقتها (6).

أنا شخصيا لا أرى فرقا كبيرا بين "إله الأشياء الصغيرة" وكتاباتي غير القصصية. إنني في الحقيقة أشدد على الدوام بأن الرواية هي من بين الأشياء الأكثر واقعية، فعالم اليوم الذي يسود فيه التخصص شديد البشاعة، والمتخصصون والخبراء ينتهون إلى تدمير الروابط بين الأشياء، وعزلها عن بعضها، بل إنهم يرفعون حواجز بينها مانعين الأشخاص العاديين من فهم ما يحدث. إنني أحاول أن أفعل العكس: أن أوجد روابط، أن أصل بين النقاط، أن أحكي عن السياسة وكأني أروي قصة، أن أحقق التواصل وأجعل الأشياء تبدو حقيقية. أحاول أن أوجد رابطا بين الرجل وابنه بحيث نعرف عن القرية التي عاشا فيها قبل أن يغمرها الفيضان، ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد والبنك الدولي. إن "إله الأشياء الصغيرة" كتاب يربط الأشياء الصغيرة للغاية بالأشياء الكبيرة الهائلة. يحدث ذلك بغض النظر عن كون ما أصوره عنكبوتا صغيرا يحبو على سطح الماء في بركة صغيرة، أو طبيعة ضوء القمر المنعكس على وجه النهر، أو التاريخ والسياسة اللذين يقتحمان على الناس حياتهم، وبيوتهم، وغرف نومهم، وفراشهم، وأدق تفاصيل حياتهم الخاصة ــ الآباء والأطفال، والأحفاد..إلخ. إذا فقدت هذه الروابط فإن كل شيء يصبح مجرد ضجيج، بلا معنى، خطة لمواصلة المهنة وانتظار الارتقاء في الوظيفة. إنك لا تعالج أعراض المرض، لا تقول: "ها هنا بقعة ظهرت على الجلد، سأكتب لك بعض الكورتيزون"، بل تسأل: " ما الذي تسبب بهذه البقعة؟ كيف ظهرت؟ ماذا يعني وجودها على الجلد؟ بماذا تفكر اليوم؟ هل أنت سعيد؟ لماذا قام جسمك بإنتاج مثل هذه البقعة؟" ليس بإمكانك أن تكون مجرد خبير في الأمراض الجلدية. عليك أن تفهم كيف يتفاعل جسم الإنسان وعقله.

ديفيد بارساميان: تكلمت عن عملية استعمار المعرفة والتحكم بها مثل طائفة اجتماعية براهمية تقوم ببناء الأسوار حول نفسها. كيف تتصورين أن تكون العلاقة بين المعرفة والقوة والسياسة؟
أرونداتي روي: في طول العالم وعرضه يناضل الناس اليوم من أجل الحصول على حقهم في الوصول إلى المعلومة لأن المؤسسات التي تتحكم في العالم اليوم ــ منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، والبنك الدولي ــ تعمل بسرية تامة. إن العقود التي توقعها الحكومات مع الشركات المتعددة الجنسية، وهي عقود تؤثر على حياة الناس تأثيرا عميقا، هي وثائق سرية. فعلى سبيل المثال، أظن أن العقد الذي وقعته شركة إنرون، مؤسسة الطاقة الضخمة التي تتخذ من هيوستن مركزا لها، وحكومة مهاراشترا ينبغي أن يكون عقدا مشهرا يعرف عنه الناس جميعا. إنه أضخم عقد وقعته الحكومة الهندية، وهو يعطي لتلك الشركة الحق في الاستثمار بما يزيد عن 60 بالمائة من ميزانية تطوير الريف الهندي كله (7). فلماذا يظل هذا العقد وثيقة سرية؟ أي نوع من الحكومات هذه التي توقع على عقد ينص بأن مبانيها وممتلكاتها العامة هي مجرد ملحقات وضمانات إضافية؟ إن الحكومة تملك كل شيء، بدءا من المصادر الطبيعية أو الراشترابي بهافان وصولا إلى المقر الرئاسي في نيو دلهي، بالنيابة عن الناس الذين تمثلهم، وهي لذلك لا تستطيع أن ترهن هذه الأملاك. ينبغي أن يصبح هذا العقد وثيقة معروفة للناس. ذلك مظهر من مظاهر العلاقة بين المعرفة والقوة. لكن هناك مظهر آخر أكثر خفاء وخطورة، فليس الأمر مجرد مصادفة أن يكون حوالي أربعمائة مليون هندي أميين، وعندما أقول "أميين" لا أقصد أن نوعية التعليم السائد تتعلق بمعرفة القراءة والكتابة. إن التعليم يجعل الناس أحيانا يطفون مبتعدين عن الأشياء التي ينبغي أن يعرفوها، بل إنه قد يساهم في حجب الرؤية عنهم. إن نوعية الجهل التي يرزح تحتها حملة شهادة الدكتوراه لا تصدق. عندما أصدرت محكمة العدل العليا حكمها بخصوص قضية وادي نارمادا في تشرين أول عام 2000 كتبت تحليلا للحكم (8)، ثم ذهبت إلى الوادي. كان الناس قد بدأوا إضرابهم. كانوا غاضبين تماما، وقد قاموا بتمزيق نسخة من الحكم ودفنها. كان هناك اجتماع علني تكلم فيه أناس من طبقة الأديفاسي والمزارعين. أحد الأصدقاء قال: "أليس من المدهش أنه ليس هناك نقطة من النقاط التي أثرتها لم يتكلم عنها الناس بالتعقيد نفسه الذي انطوى عليه تحليلك؟" قلت: "لا، نحن الأشخاص الذين علينا أن نعبر عما نعتقده، أما هؤلاء فهذه حياتهم."

لقد غير حكم المحكمة حياتهم. ليست المسألة تمرينا ثقافيا، ليست بحثا. يمكنك هنا أن ترى المسافة التي قطعها الأشخاص المتعلمون، الذين أصبحوا متخصصين وخبراء، مبتعدين عما يحصل في الواقع. سوف تدرك أن كل ما يقولونه عن موضوع "التطوير" هو مجرد خطة خبيثة. المشكلة الكبرى هو أن ما يقولونه في تقارير مشروعاتهم وما يحدث على أرض الواقع شيئان مختلفان تماما. لقد أتقنوا فن جعل ذلك طبيعيا على الورق، لكن ليس لذلك علاقة بما يحدث على الأرض. أصبحت المسافة بين من يملكون القوة ومن لا يملكونها، بين من يتخذون القرار ومن يعانون نتيجة هذا القرار، هائلة جدا. إنها رحلة محفوفة بالمخاطر بالنسبة للفقراء ــ إنها شَرَكٌ مليء بالأكاذيب والقسوة والظلم. إن الموظفين البيروقراطيين، الجالسين في واشنطن أو جنيف في مكاتب البنك الدولي أو منظمة التجارة العالمية، لديهم السلطة ليقرروا مصير الملايين.

ليست قراراتهم وحدها ما نسعى إلى الاعتراض عليه، بل حقيقة أن لديهم القوة لاتخاذ تلك القرارات. لا أحد انتخبهم، لا أحد خولهم بالتحكم في حياتنا. وحتى لو كان بإمكانهم اتخاذ تلك القرارات فذلك غير مقبول سياسيا. أولئك الرجال، ببزاتهم الأنيقة، يلقون الخطابات على فلاحي الهند والبلدان الفقيرة الأخرى، مؤكدين أنهم يُسرقون لصالحهم، كما كانوا من قبل مستعمرين من أجل مصلحتهم. فما الفرق بين اليوم والبارحة؟ ما الذي تغير؟ كلما كان القرار المتخذ صادرا من مناطق أبعد جغرافيا كان باستطاعتك أن تتخيل عمق الظلم والإجحاف الذي ينطوي عليه ذلك القرار. هذه هي القضية الأساسية. لا تكمن سلطة البنك الدولي في المال الذي يملكه فقط، بل في قدرته على مراكمة المعرفة والتلاعب بها. إنه يوظف أشخاصا من حملة الدكتوراه أكثر من أية جامعة في العالم. إنه يمول دراسات تناسب أغراضه، ثم إنه يقوم بنشر تلك الدراسات منتجا نوعا معينا من رؤية العالم تستند كما يفترض إلى وقائع محايدة. لكنها ليست في الحقيقة كذلك. فكيف تتعامل مع هذا الوضع؟ ما هو الفرق بين ما يفعله البنك الدولي وما يفعله الفيشوا هندو باريشاد*** وحزب بهاراتيا جاناتا اللذين يعيدان كتابة كتب التاريخ ويقولان لنا: ها نحن نقدم لكم النسخة الهندوسية من التاريخ؟"9" إن نسخة البنك الدولي من التطور تشبه تلك النسخة من التاريخ.

ديفيد بارساميان: يتضمن مشروع وادي نارمادا بناء حوالي ثلاثة آلاف سد كبير ومتوسط على ضفتي نهر نارمادا وفروعه. وهو يغطي ثلاث ولايات هندية: ماهاراشترا، وغوجارات، وماديا براديش. وقد نشأت ضد هذا المشروع حركة مقاومة ضد ما اعتبر بالأساس مشروعا خاصا بالبنك الدولي، لكن البنك الدولي انسحب الآن وواصلت الحكومة الهندية المشروع. أخبريني عن نارمادا باتشاو أندولان****، أو ما يسمى حركة إنقاذ نارمادا.

أرونداتي روي: الشيء اللافت في حركة إنقاذ نارمادا هو أنها تمثل مقطعا عرضيا من الهند. إنها تتألف من أناس من طبقة الأديفاسي، ومن كبار المزارعين في الطبقات الاجتماعية العليا، من طبقة الداليت المنبوذة في الهند، وكذلك من الطبقة المتوسطة التي تعيش في المدن. وهي بذلك تخلق روابط بين أبناء المدن وأبناء الريف، بين المزارعين وصيادي السمك والكتاب والرسامين والمحامين. وهذا ما يمنحها هذا القدر من القوة الاستثنائية. عندما يقول مؤيدو بناء السدود في الهند: "تعلمون أن الطبقة الوسطى تعادي التطور والتحديث، وهي تستغل المزارعين الأميين والأديفاسي"، يشعرني ذلك بالغضب لأن مشروع تطوير وادي نارمادا هو حلم فكرت به الطبقة الهندية الوسطى، وصممه مهندسو هذه الطبقة من أبناء المدن. ومن ثمّ فأنت لا تتوقع أن يأتي النقد من أبناء الريف أو من الأديفاسي. إن هؤلاء يحاولون أن يسحبوا الشرعية عن اشتراك الطبقة المتوسطة في الحركة متسائلين: "كيف يمكن لأبناء هذه الطبقة أن يتكلموا بالنيابة عن أولئك الناس؟" لكن لا أحد هنا يتكلم بالنيابة عن أحد. إن النقد الذي يوجه لمشاركة أبناء الطبقة الوسطى المناهضين لمشروع السد هو محاولة لعزل الأديفاسي، والمزارعين، ومن ثمّ الانقضاض عليهم وتحطيمهم. ومع ذلك فإن الوثائق المتصلة بسياسة الحكومة ليست مكتوبة بالهندية والبيلالية*****، ومحكمة العدل العليا الهندية لا تتخذ من هاتين اللغتين لغة رسمية لها.

حركة إنقاذ نارمادا مثال مدهش على حركة المقاومة التي يمد فيها الناس أيديهم متجاوزين الطبقات والفئات الاجتماعية. إنها أكبر حركة مقاومة في الهند، وأروعها، وأعظمها منذ الصراع من أجل الاستقلال الذي تكلل بالنجاح في أربعينات القرن الماضي. هناك بالطبع حركات مقاومة أخرى في الهند، وإنها لمعجزة حقيقية أن تكون موجودة، لكنني أتخوف على مستقبلها. عندما تسافر من الهند إلى الغرب فإنك تدرك أن التصور الغربي لـ"التطور والتحديث" ينطوي على فقر في الخيال، فهو ترويض للبرية، وللروح الإنسانية. ويشكل هذا عدم قدرة على تخيل أن هناك طرقا أخرى للعيش. ففي الهند لا زالت الفوضوية والبرية العذراء موجودة (رغم كونهما تحت المطرقة). ومع ذلك كيف يمكن لك أن تقنع هنديا مقدسا Naga Sadhu ــ الذي يعتقد أن مهمته المقدسة أن يقف عاريا على رجل واحدة مدة عشرين عاما أو أن يسحب سيارة بقضيبه ــ أن باستطاعته العيش دون كوكا كولا؟ إنها مهمة شاقة وعسيرة.

ديفيد بارساميان: إيسثا، إحدى شخصيات روايتك، يمشي "على ضفة النهر التي تطلع منها رائحة الخراء والمبيدات الحشرية التي اشتريت بقروض البنك الدولي (10).
أرونداتي روي: عندما قابلت لأول مرة ناشطين في حركة إنقاذ نارمادا قالوا لي: "لقد عرفنا أنك لا بد ستكونين ضد بناء السدود الضخمة والبنك الدولي بعد أن قرأنا إله الأشياء الصغيرة". لم أفكر بذلك النوع من القراءة من قبل [تضحك]. في الهند يبدو موضوع استخدام المبيدات الحشرية أمرا لا يصدق. إن الثورة الخضراء، واستخدام الري عن طريق القنوات، والآبار الجوفية، والمبيدات الحشرية والسماد الكيماوي، تسببت جميعها بمشكلات معقدة. لقد انخفضت الإنتاجية في مناطق مثل أندرا براديش حيث أجبر المزارعون على ترك زراعاتهم التقليدية وزراعة المحاصيل بهدف بيعها بسرعة. وقد تسبب هذا التوجه بعكس ما هدف إليه عندما بدأنا نستورد المحاصيل الزراعية كما أملت علينا منظمة التجارة العالمية. مئات من المزارعين في البنجاب وأندرا براديش ينتحرون لتراكم الديون. إن عليهم أن يصرفوا الكثير من المال ثمنا للمبيدات الحشرية والسماد الكيماوي، فالحشرات أصبحت تقاوم المبيدات. كما أن على المزارعين أن يوظفوا رؤوس أموال ضخمة لتطلع بعض المحاصيل من هذه الأرض الميتة. وهم ينتهون إلى قتل أنفسهم بشرب المبيدات الحشرية.
إن تدخلنا المغرور في النظام البيئي الذي قد لا نفهمه يمكن أن يكون مدمرا. في شمال شرق الهند بدأت بعض الولايات بتصدير أرجل الضفادع إلى فرنسا، وأصبح لديها الكثير من العملة الصعبة. لكن بعد أن اختفت تلك الضفادع بدأت الحشرات التي كانت تتغذى عليها بتدمير المحاصيل. وهكذا قامت تلك الولايات بشراء المبيدات الحشرية (بقروض البنك الدولي) وهو ما يكلفها الآن أكثر مما تجنيه من تصدير أرجل الضفادع. أظن أن الناس في تنزانيا كانوا يطلقون النار على فرس النهر لأنه كان يدوس على المحاصيل ويخربها. لكن عندما اختفت أفراس النهر لم تعد الأسماك موجودة. وقد اكتشفوا فيما بعد أن الأسماك استعملت فضلات فرس النهر لكي تفقس فيها بيوضها. عندما لا يحترم الإنسان شيئا لا يفهمه فسوف يحصد نتائج لا تستطيع أن تتنبأ بها. إن الفكرة الغربية التي تقول إن عليك أن تفهم كل شيء قد تقود أيضا إلى نتائج مدمرة. فلم إذاً لا نرضى بعدم فهم بعض الأشياء؟ ليس في ذلك خطأ، بل إنه لجميل أحيانا أن لا نفهم شيئا ما؛ أن نحترم ونقدس أسرار الأرض.

كان هناك جبل معين في الهملايا لم يتسلقه أحد، وقد حاول بعض متسلقي الجبال الوصول إلى قمته. ولدي صديق قاد حملة لكي نترك قمة واحدة لا يتسلقها أحد. ثمة قدر من التواضع في ذلك. لا أقصد بالطبع تبني موقف متطرف والقول بأن العلم سيئ. لكن ينبغي أن يكون هناك بعض التوازن بين الفضول والفضيلة، التواضع وترك الأمور تسير على هواها. أقصد هل من الضروري أن نثقب كل شيء وننخسه ونتدخل به ونفهمه؟

ديفيد بارساميان: يقول المدافعون عن مشروع وادي نارمادا إنه سيجلب الماء للعطشى والمحاصيل للأرض الظمأى في ثلاث ولايات. ما الخطأ في ذلك؟
أرونداتي روي: لقد كتبت عن هذا كثيرا في مقالتي "الخير العام العظيم"11". إنهم يقولون إن سد ساردار ساروفار سوف يحمل الماء لكوتش وسواراشترا، وإلى مناطق غوجارات التي ضربها الزلزال في شهر كانون ثاني عام 2001. لديهم في تلك المنطقة جفاف مدمر. لكن إذا راجعت خطط الحكومة فسوف تدرك أنه لا إمكانية لوصول الماء إلى تلك المناطق، حتى ولو كان كل ما يقولونه صحيحا. إنهم على سبيل المثال يفترضون أن نسبة الري سوف تصل إلى 60 في المائة، لكن ليس هناك مشروع ري في الهند زادت نسبته عن 35 في المائة. بلى إن كوتش وسواراشترا تقع في نهاية نظام القنوات الضخم الذي يعدونه، لكن المناطق الغنية وذات السلطة السياسية تقع في بداية فروع هذه القنوات، وسوف تأخذ هذه المناطق معظم الماء. لقد جرى إعطاء الرخص لبناء مصانع السكر قبل أن يبدأ بناء السد، رغم أنه حسب خطة المشروع لا يسمح بزراعة السكر. هناك أيضا فنادق ذات خمس نجوم ونواد للغولف بنيت بمحاذاة المشروع.

لكن حتى ولو لم يحدث ذلك كله حسب خطة حكومة غوجارات، فإن سد ساردار ساروفار سوف يروي 1.2 بالمائة من المساحة القابلة للزراعة في كوتش و9 بالمائة من تلك المساحة في سواراشترا. ونحن نتناسى هنا فعالية نظام الري، ومصانع السكر، وأن الأنهار القريبة من كوتش وسواراشترا تقع عليها جسور، وأن الماء يؤخذ إلى وسط غوجارات. في الحقيقة أنه عندما حكمت محكمة العدل العليا في قضية السد وأقامت حكومة حزب بهاراتيا جاناتا في غوجارات احتفالا ضخما للإعلان عن البدء في بناء السد قاطعت كوتش وسواراشترا الاحتفال. قالوا: "إنكم تستخدموننا لسرقة 85 في المائة من ميزانية مياه غوجارات ــ ولا تتركون في الوقت نفسه أي شيء لاستخدامات الماء المحلية أو لحل المشكلة التي تنشأ عن ذلك."

هذا أولا. الأمر الثاني أنهم لا يسألون: "لماذا يضرب الجفاف كوتش وسواراشترا؟" السبب يعود إلى كون الحكومة قامت، ضمن حملة منظمة، بقطع كل الأشجار الحرجية في الغابات. لقد استهلكوا المياه الجوفية دون تمييز ولذلك فثمة تسرب لمياه البحر على الشواطئ. هناك مصانع ضخمة تعمل على تسميم المياه الجوفية الباقية. لكن حكومة غوجارات لن تفعل شيئا أبدا للسيطرة على هذا الوضع. إذا كانوا راغبين في إيصال الماء من نارمادا إلى كوتش لإلقاء تصريح سياسي فإن بمقدورهم فعل ذلك، لكنه سيظل مجرد حركة مسرحية ــ في سيرك سياسي غير ناجح ــ مثل أخذ النبيذ الأحمر أو الشامبانيا إلى كوتش. نارمادا بعيد جدا عن كوتش وسواراشترا، بحيث يبدو الأمر نكتة مضحكة للغاية أن نأخذ الماء عبر غوجارات على امتداد تلك المسافة الهائلة كلها. بدلا من دفع تلك المبالغ على سد ساردار ساروفار يمكنك تمويل خطط لاستثمار المياه في كل قرية من قرى غوجارات.

ديفيد بارساميان: مضى على مقابلتنا الأخيرة تسعة عشر شهرا. هل يمكن أن تخبريني عن الجديد في القضية المرفوعة ضدك في محكمة ولاية كيرالا بخصوص روايتك "إله الأشياء الصغيرة". كان الإدعاء يقول بأنك "تخربين الأخلاقيات العامة (12). ما الذي حصل منذ ذلك الوقت في القضية؟
أرونداتي روي: حسنا، لم يحصل جديد في القضية. إنها لا تزال تنتظر في المحكمة، لكن المحامي يقول كل ستة أشهر تقريبا: "سوف يكون هناك جلسة استماع، هل بإمكانك الحضور؟" هذه طريقة من الطرق التي تتحكم فيها الدولة بالناس. عليك أن تدفع للمحامي، أو أن ترفع ضدك قضية جنائية في المحكمة، لكنك لا تعرف ما الذي يحصل معك. لا تتعلق المسألة بكونك ستحاكم في النهاية ويصدر ضدك حكم أو لا يصدر، بل بالإزعاج والمضايقة. إنهم يرغبون في أن يظل الوضع معلقا فوق رأسك دون أن تعرف ما الذي سيحصل فيما بعد.

ديفيد بارساميان: منذ فترة قصيرة تم الحكم عليك بتهمة تحقير المحكمة من قبل محكمة العدل العليا الهندية، ومن الواضح أن ذلك تم على خلفية نقدك لسماح المحكمة بالاستمرار في أعمال البناء في مشروع سد وادي نارمادا. كان يمكن أن يحكموا عليك بالسجن لستة أشهر، لكنهم اكتفوا بسجنك يوما واحدا ودفع غرامة صغيرة.
أرونداتي روي: إنها المكارثية ــ تحذير الناس بأن انتقاد المحكمة قد يهددك مهنيا. عليك أن توكل محامين، تمثل أمام المحكمة، وفي النهاية قد لا تحاكم. من يستطيع أن يغامر في مثل هذا الوضع؟

ديفيد بارساميان: أخبريني بخصوص فيلم أردانا سيث DAM\AGE (13).
أرونداتي روي: عندما يطلب مني الناس صناعة أفلام عني فإني أرفض. لكن طلب عمل الفيلم الذي ذكرت جاء بعد الجلسة الأخيرة التي عقدتها محكمة العدل العليا لمحاكمتي، أي في اللحظة التي أيقنت فيها أنهم سيحكمون علي بطريقة أو أخرى. لم أكن أعلم المدة التي سيحكمون بها علي. كنت منزعجة للغاية، وفكرت بأنني إذا كنت سأقضي وقتا، طال أو قصر، في السجن فعليّ أن أعبر عن وجهة نظري وأوصلها للعالم. في الهند تخاف الصحافة من المحكمة، لذلك لم تشر الصحف إلى القضية. ما نشر من أخبار كان من نوع صحافة الإثارة الرخيصة. ومع هذا ما الذي يعنيه تحقير المحكمة؟ ما الذي يفهمه عامة الناس بخصوص هذا القانون؟ لم يتم نقاش أي شيء من هذا القبيل. لذلك وافقت على عمل الفيلم ببساطة لأنني كنت متوترة، ورغبت أن يعرف الناس ما يدور حوله النقاش.

ديفيد بارساميان: في واحد من أكثر مقاطع الفيلم إثارة تتحدثين عن شخص يدعى بهايجي بهاي، هل لك أن تحدثينا عنه؟
أرونداتي روي: بهايجي بهاي مزارع من غوجارات، من قرية صغيرة تدعى أوندافا. عندما قابلته أول مرة قلت لنفسي: "أنا أعرف هذا الرجل، لقد رأيته في مكان ما." لكنني لم أقابله من قبل. ثم تذكرت أن صديقا لي أنتج فيلما عن سنوات نارمادا كان قد أجرى حديثا مع بهايجي بهاي. كان قد خسر حوالي سبعة عشر هكتارا من مجموع أرضه التي تبلغ مساحتها تسعة عشر هكتارا بسبب أعمال الري في قناة غوجارات. ولكونه خسر هذه الأرض في أعمال القناة، حيث انطمرت تلك الأرض تحت منطقة تخزين الماء، لم يعامل بوصفه متضررا من المشروع، ولم يتم تعويضه لهذا السبب. أصبح الرجل فقيرا جدا، ولا أتذكر كم قضى من السنوات يروي قصته للغرباء. كنت واحدة من الغرباء الذين روى لهم قصته أملا في أن يتدخل شخص ما يوما ويصحح هذا الظلم الكبير الذي أصابه.

ديفيد بارساميان: تبدو النساء مشاركات رئيسيات في النضال ضد مشروع وادي نارمادا. لم تظنين أن النساء منخرطات بقوة في هذا العمل؟
أرونداتي روي: النساء في الحقيقة منخرطات بقوة في الكثير من النضالات في الهند، خصوصا في موضوع وادي نارمادا. فيما يتعلق بسد ماهيشوار والقرى الغارقة بسببه فإن نساء الوادي يشاركن بفعالية في حركة الاحتجاج. النساء يتأثرن أكثر من الرجال بحالات الاقتلاع من المكان. أما بين شعب الأديفاسي فإن المسألة لا تتعلق بكون الرجال يملكون الأرض فيما لا تملك النساء. عندما تهجير الأديفاسي من أرض أجدادهم دفعت الحكومة مبالغ قليلة جدا كتعويضات للرجال. النساء أصبحن مغلوبات على أمرهن تماما، وكثيرات منهن يعرضن أنفسهن للعمالة اليومية في مواقع البناء، ويجري استغلالهن بصورة فظيعة. تدرك النساء أنه عندما يتم تهجيرهن فإنهن يصبحن أكثر ضعفا، وهن يفهمن ذلك بفطرتهن، وفي أعماقهن، أكثر من الرجال.

ديفيد بارساميان: كتبت في آخر مقالة لك "أقبل شهر أيلول" أن الموضوع الذين تتحدثين عنه على الدوام هو العلاقة بين حيازة السلطة وعدم حيازتها. كتبت أيضا عن "فيزياء السلطة."14" ما يثير اهتمامي هو استعمال تعبير "الفيزياء"، وقد استعملت من قبل تعبيرا رياضيا في مقالة أخرى "علم الجبر الخاص بالعدل اللانهائي." ما الذي تعنينه بالضبط بذلك؟
أرونداتي روي: تتسبب السلطة غير المقيدة بظلم مفرط كالذي تحدثنا عنه هنا. في النهاية هذا يقود إلى تخريب بنيوي. إنني مهتمة بفيزياء التاريخ، فنحن نعرف على صعيد التاريخ أن كل إمبراطورية تتجاوز نفسها ثم تتفجر من داخلها، ثم تصعد واحدة أخرى لتأخذ مكانها.

ديفيد بارساميان: لكن هل ترين أن ذلك الظلم المفرط مقيم في أساس السلطة نفسها؟ هل تتحدثين عن شيء محتوم لا سبيل إلى التخلص منه؟
أرونداتي روي: قد يكون تعبير "محتوم" هنا جبريا. أظن أن السلطة غير المقيدة تنطوي على بعض أنماطها السلوكية، على حمضها النووي الخاص بها. عندما تصغي إلى جورج بوش وهو يتحدث تشعر بأنه لا يمتلك منظورا خاصا لأنه يتصرف وفق حافز مجنون يهيمن على ملك مخبول. إنه لا يسمع الهمهمات في جناح الخدم. إنه لا يسمع حديث الرعايا في العالم. إنه يورط نفسه في وضع بعينه ولا يمتلك القدرة على التراجع. ومع ذلك، فكما أنه أمر محتوم تلك الرحلة التي يندفع فيها الأقوياء فإن المنخرطين في المقاومة لا يستطيعون التراجع هم أيضا. وإذا كانت السلطة تمتلك فيزياءها الخاصة فإن أولئك الأشخاص الذين يعارضون السلطة لهم فيزياؤهم كذلك. أحيانا أفكر بأن العالم مقسوم بين من يقيمون علاقة مريحة مع السلطة وأولئك الذين يمتلكون معارضة طبيعية لتلك السلطة.

ديفيد بارساميان: أمضيت مؤخرا أسبوعين في الولايات المتحدة. تكلمت في نيويورك وسانتا في، ثم توجهت في رحلة إلى أجزاء من نيو مكسيكو. ما تظنين حول ارتفاع مستوى المعيشة غير العادي الذي يتمتع به الناس في أمريكا، والثمن الذي يجب أن يدفعه العالم النامي لتحافظ أمريكا على مستوى العيش الذي وصلته؟
أرونداتي روي: لا يعني ما قلته أنني لم أقم برحلة إلى أمريكا أو بلد غربي من قبل. لكنني لم أعش هنا، ولا أظن أنني أستطيع أن أفعل. لم أتعود على أبواب تنفتح من تلقاء نفسها بمجرد وقوفك أمامها، أو النظر إلى المتاجر التي تتكدس فيها البضائع. لكن وأنا هنا لا أشعر بالضرورة أن علي القول: "آه، انظروا كثرة ما يملكون، وقلة ما نملك"، لأنني ببساطة أظن أن الأمريكان أنفسهم يدفعون ثمنا باهظا لذلك.

ديفيد بارساميان: بأي معنى؟
أرونداتي روي: من حيث الفراغ العاطفي الذي يشعرون به. عندما تجلس لتشاهد فيلم مايكل مور "بولينغ من أجل كولومباين" يداهمك فجأة شعور أن هذه بلاد يعتمد اقتصادها على عدم الشعور بالأمان، على الخوف، والتهديد، وعلى حماية ما تملكه ــ الغسالة وآلة تنظيف الصحون الأوتوماتيكية، والمكنسة الكهربائية ــ من هجوم قتلة بحجم حبات البندورة أو نساء شريرات يلبسن الساري أو أي نوع آخر من الكائنات الغريبة (15). إنها ثقافة تحت الحصار. كل شخص يتقدم في عمله يدوس على أخيه، أو أخته، أو أمه، أو صديقه. إنه وضع محزن، وشعور بالوحدة فظيع، وثمن كبير يدفعه المرء من أجل الراحة. أظن أن الناس هنا قد يكونون أسعد في حياتهم لو أنهم تركوا أكتافهم تتهدل وقالوا: "أنا في الحقيقة لا أحتاج هذا. لا أحتاج إلى الحصول على منصب أعلى. ليس ضروريا أن أفوز في مباراة البيسبول. ليس مهما أن أكون الأول في الصف. لا أحتاج أن أكون أغنى رجل في البلدة." هناك قدر كبير من السعادة يسببه الحب والرفقة، وحتى الخسارة.

ديفيد بارساميان: تكتبين في مقالتك "أقبل أيلول" أن إدارة بوش تقوم "باستغلال حزن الناس بصورة كلبية" بعد أحداث 11 أيلول "لشن حرب أخرى ــ هذه المرة على العراق"16". أنت تتكلمين كثيرا عن العراق وفلسطين، لماذا؟  أرونداتي روي: ولم لا؟

ديفيد بارساميان: لكنك تعرفين أن أمورا مثل هذه لا يرغب معظم الأميركيين سماعها. ليس هناك الكثير من التعاطف مع الفلسطينيين أو مع العراقيين في الولايات المتحدة.
أرونداتي روي: لكن الكاتب لا يسعى إلى الحصول على أصوات الناخبين. لست معنية هنا برواية قصص يحب الناس سماعها. لا أرغب في دخول مسابقة للحصول على الشعبية بين الناس. إنني أقول ما علي قوله، ونتائج ذلك تكون في بعض الحالات رائعة، وفي حالات أخرى لا تكون مرضية. لكنني لا أرغب في قول ما يريد الناس سماعه.

ديفيد بارساميان: دعينا نتحدث قليلا عن وسائل الإعلام في الولايات المتحدة. تكتبين قائلة: "شكرا لـ"الإعلام الحر" في أمريكا لأن معظم الأمريكان يعرفون القليل" عن سياسة الحكومة الأميركية الخارجية (17).
أرونداتي روي: بلى، إن أمريكا مكان معزول بصورة تدعو إلى الاستغراب. عندما تأتي إلى هنا أنت الذي تعيش بعيدا عنها، فإنك تصدم للعزلة التي يعيشها هذا البلد. يبدو البشر هنا مرتبكين، مستغربين مما يفكر به الآخرون، وذلك بسبب العزلة وانسداد الآفاق من حولهم. قبل أن آتي إلى هنا أتذكر أنه دار بخاطري أنني عندما أكتب عن السدود والقنابل الذرية في الهند فإنني أعلم تمام العلم أن النخب في الهند لا ترغب في معرفة أي شيء عن السدود. لا يرغبون في معرفة عدد الأشخاص الذين هجروا من ديارهم بسبب السدود، كم من الفظاعات ارتكب لتأمين مكيفات الهواء والكهرباء لراحتهم. يحدث ذلك لأن امتيازات النخبة لا تتضمن العيش الرغيد فقط بل العيش الرغيد بضمير مرتاح. أشعر أن الوضع هنا يشبه الوضع هناك، فربما يكون الناس هنا غير راغبين في معرفة أي شيء عن العراق، أو أمريكا اللاتينية، أو فلسطين، أو تيمور الشرقية، أو فيتنام، أو أي شيء بحيث يعيشون هذه الحياة السعيدة في ضواحي المدن. لكنني أعيد التفكير بذلك. فلنفترض أنك تعمل سمكريا في ميلووكي، أو كهربائيا في دنفر. إنك تذهب للعمل ثم تعود للبيت بعد أن تكون أنهكت. إنك تقرأ صحيفتك وتشاهد السي. إن. إن أو فوكس نيوز، ثم تذهب للنوم. إنك لا تعلم ما تفعله الحكومة الأميركية. والناس العاديون متعبون للقيام بهذا الجهد ومعرفة ما تخطط له الحكومة. إنهم من ثمّ يعيشون في هذه الفقاعة الصغيرة التي تتألف من كثير من الإعلانات والقليل جدا من المعلومات.

ديفيد بارساميان: تحدثت مؤخرا إلى عدد من الطلبة في نيو مكسيكو، ونصحتهم أن يسافروا إلى بلاد أخرى غير الولايات المتحدة، وأن يلصقوا آذانهم بالحائط ويستمعوا إلى الهمس الذي يدور من حولهم. ما الذي كان يدور في ذهنك عندما وجهت لهم تلك النصيحة؟
أرونداتي روي: عندما تعيش في الولايات المتحدة، وكل هذه الضجة التي يصدرها السوق الحر من حولك، ضجة القوة العسكرية الضخمة، ضجة كونك تعيش في قلب الإمبراطورية، فمن الصعب عليك سماع همس بقية العالم من حولك. لكنني على يقين بأن كثيرين من مواطني الولايات المتحدة يرغبون في سماع ذلك. لا أظن أنهم جميعا متواطئون مع فكرة الإمبراطورية. وهؤلاء غير المتواطئين يرغبون في سماع قصص أخرى من العالم، سماع أصوات أخرى، أشخاص آخرين.

ديفيد بارساميان: بلى، أنت تقولين على الدوام إن من الصعب على المرء أن يكون مواطنا في إمبراطورية. كتبت أيضا عن 11 أيلول. قلت أيضا إن "الإرهابيين يجب أن يحاسبوا". لكنك تسألين أيضا: "هل الحرب هي السبيل الأفضل لتعقبهم؟ هل إشعال النار في كومة القش يساعدك على العثور على الإبرة؟ (18)
أرونداتي روي: عبر الاستعانة بخطاب حكومة الولايات المتحدة عن الحرب ضد الإرهاب، قرر السياسيون في العالم كله أن هذه الوسيلة هي الأفضل من أجل تصفية حسابات قديمة. إن الجميع يستعيرون هذا النوع من الخطاب، بغض النظر إن كان هؤلاء الحكومة الروسية في مطاردتها للشيشان، أو إرييل شارون في حربه ضد الفلسطينيين، أو الحكومة الهندية في مشروعها الفاشي ضد المسلمين، خصوصا في كشمير. إنهم جميعا يوسعون أفواههم لتحيط بكلمات جورج بوش. بعد الهجوم الإرهابي على البرلمان الهندي في 13 كانون أول 2001، وضعت الحكومة الهندية اللوم على باكستان (دون أن يكون هناك أي دليل على ذلك) وحركت جميع جنودها نحو الحدود مع باكستان. لقد أصبحت الحرب الآن ردا مشروعا على هجمات الإرهابيين. الآن في أكثر شهور الصيف حرارة، في أقسى شهور الشتاء بردا لدينا مليون جندي مسلح على أهبة الاستعداد ليواجهوا بعضهم بعضا على الحدود بين الهند وباكستان. الهند وباكستان تهددان بعضها بالسلاح النووي. من ثمّ فإن بمقدور الإرهاب الآن إشعال الحرب. إن أصابع الإرهابيين الآن موضوعة على أزرار الأسلحة النووية. إنهم بمثابة رؤساء دول، وقد عزز هذا فعالية الإرهاب وصورته الرومانسية.
رد فعل الولايات المتحدة على 11 أيلول منح الإرهاب مكانة رفيعة. لقد أعطاه دفعا هائلا، وجعله يظهر بوصفه الوسيلة الفعالة الوحيدة لكي يسمع صوت مرتكبيه. وبمرور الوقت سوف يقضى على أية حركة تدعو إلى المقاومة اللاعنفية، سوف تتجاهل تلك الحركة وتنسى. لكن إذا كنت إرهابيا فسوف تكون هناك فرصة كبيرة للتفاوض معك، لكي تظهر على الشاشات، لتحظى بكل الاهتمام الذي لم تحلم به أبدا.

ديفيد بارساميان: تعرفين التعبير القديم :"الجمال في عين الرائي". قد يكون "الإرهابي" يتخذ المكانة نفسها. أفكر مثلا بإسحق شامير ومناحيم بغين اللذين اعتبرهما البريطانيون في فترة الانتداب إرهابيين، والآن يعدان بطلين وطنيين في إسرائيل. نيلسون مانديلا كان أيضا يعد إرهابيا في وقت من الأوقات.
أرونداتي روي: عام 1987 عندما رغبت الأمم المتحدة بإصدار قرار بخصوص الإرهاب الدولي كانت الدولتان الوحيدتان اللتان عارضتا القرار هما إسرائيل والولايات المتحدة، لأنهما في ذلك الوقت لم ترغبا في الاعتراف بالمؤتمر الوطني الإفريقي والنضال الفلسطيني من أجل التحرر وتقرير المصير (19).

ديفيد بارساميان: منذ أحداث 11 أيلول، فإن الأشخاص الذين يظهرون بصورة منتظمة مثيرة للملل على شاشات التلفزيون، وخصوصا في الولايات المتحدة، يستخدمون كلمات ونستون تشيرتشل. إنه يحظى بإعجاب شديد لشجاعته، وهو لذلك مثال يحتذى لاستقامته وسداد رأيه. في "أقبل أيلول" توردين اقتباسا شديد الغرابة من ونستون تشيرتشل لم نسمع به من قبل. هل لك أن تذكريه لنا؟
أرونداتي روي: كان يتكلم عن النضال الفلسطيني، وقال ما يلي: "لا أومن أن كون الكلب قد أقام في البيت لفترة طويلة يمنحه الحق في هذا البيت، لأنه ببساطة أقام فترة طويلة فيه. لا أومن أنه أرتكب أي خطأ بحق الهنود الحمر في أمريكا، أو بحق السود في أستراليا، لأنهم ببساطة قد استبدلوا بعرق أقوى وأرقى. (20)

ديفيد بارساميان: قال ذلك عام 1937، أليس كذلك؟
أرونداتي روي: نعم.


ديفيد بارساميان: تنهين مقالتك بقولك: "الحرب هي السلام"، وتتساءلين: "هل تخلينا عن حقنا في الحلم؟ ألا زال ممكنا بالنسبة لنا إعادة تخيل الجمال؟"21"
أرونداتي روي: كتبت هذا الكلام في لحظة يأس. لكن علينا ككائنات بشرية أن لا نكف عن ذلك السعي. علينا أن لا نكف أبدا، بغض النظر عما يقوله أو يفعله بوش، أو تشيرتشل، أو موسوليني، أو هتلر، أو أي شخص آخر. لا نستطيع تجاهل مسعانا الشخصي للسعادة والجمال واللطف والرقة. بالطبع فإن من حقنا أن نشعر باليأس أحيانا، إذ سنتجرد من بشريتنا إن لم نفعل. لكن دعنا لا نستسلم أبدا لذلك اليأس.


*Rashtriya Swayamsevak Sangh (RSS): تعني هذه العبارة حرفيا جماعة مساعدة النفس الهندية، وهي جماعة ثقافية هندوسية يمينية معادية للمسلمين وتعتنق أيديولوجية تدعو إلى تعضيد "الهوية الهندية" وإيجاد دولة هندوسية، وهو الأمر الذي ينادي به أيضا حزب بهاراتيا جاناتا وعدد آخر من الأحزاب الطائفية الهندية.
1. أنظر: نيرمال غوش، "القتل في الهند على أساس طبقي يضع حكم القانون على المحك"، في: The Straits Times (Singapore), August 10, 2001, p.13.  2. هناك ثلاثون سدا ضخما، والعديد من السدود الأصغر حجما، يجري إنشاؤها في وادي نهر نارمادا لإنتاج الطاقة بالاستفادة من تدفق المياه.
أنظر: Arundhati Roy, Power Politics, 2nd ed. (Cambridge: South End Press, 2001), p. 39.
** حرير يصنع من السيليولوز.
3. تسلم الحزب الشيوعي السلطة في كيرالا عام 1957.
4. أنظر: "The Reproduction Function," The Economist, January 8, 1977, p.72.
5. أرونداتي روي، إله الأشياء الصغيرة، وقد ظهرت الطبعة الأولى عن دار راندوم هاوس في نيويورك عام 1997.
6. نشرت المقالات الثلاث بين عامي 1993 و1994 في مجلة صنداي الهندية التي توقفت عن الصدور.
7. أنظر: Abhay Mehta, Power Play: A Study of of the Enron Project (Hyderabad, India: Orient Longman, 2000, p. 3.
8. أنظر: Roy, "Power Politics: The Reincarnation of Rumpelstiltskin," in Power Politics, 2nd ed., pp. 35-86، وهي نسخة منقحة للمقالة التي نشرت سابقا في مجلة أوتلوك الهندية، بتاريخ 27 تشرين ثاني، 2000. أنظر أيضا: Roy, The Cost of Living.
*** Vishwa Hindu Parishad (VHP) هو الجناح اليميني للتجمع الهندوسي، والذي يشكل جزءا مما يسمى سانغ باريفار sang Parivar وهو تجمع لمنظمات سياسية ثقافية تضم حزب بهاراتيا جاناتا والراشتريا سوايامسيفاك سانغ والباجرانغ دال.
9. أنظر: "India: Historians Flay Bid to Communalise History," The Hindu (India), November 7, 2001
**** Narmada Bachao Andolan (NBA) هي حركة نشأت على خلفية مشروع نارمادا تدعو إلى إنقاذ وادي نارمادا.
***** Bhilali لغة يستخدمها السكان الأصليون في وسط الهند.
10. أنظر: Roy, The God of Small Things, p.14 .
11. أنظر: Roy, "The Greater Common Good," in The Cost of Living.
12. أنظر: Simon Holden, "Booker Winner Faces Morality Case in India," Press Association Limited, October 15, 1997.
13. Ardhana Seth, "DAM/AGE: A Film with Arundhati Roy," 50 minutes (Brooklyn, New York: First Run/ Icarus Films, 2003). Originally produced for BBC 4, London, and aired April 2002.
14. أنظر: Roy, " Come September," in Wat Talk, p. 46.
15. Michael Moore, "Bowling for Columbine" (New York:
Metro-Goldwyn-Myer, 2003).
16. Roy, War Talk, p. 52.
17. Roy, War Talk, p. 49.
18. Roy, Power Politics, p. 138.
19. مقتبسة من: Noam Chomsky, Hegemony or Survival: Americas' Quest for Global Dominance (New York: Metropolitan, 2003), p. 190.
20. مقتبسة في الافتتاحية: "Scurrying Toward Bethlehem," New Left Review 10, 2nd series (July/August 2001), p. 9, n. 5.
21. Roy, Power Politics, 2nd ed., p. 145.