يقدم الناقد المصري هنا قراءة معرفية شيقة لديوان الشاعر المغربي المرموق تموضعها في سياقات ثقافية وفكرية وفلسفية تكتب معرفتها في غيمته، بينما تستقرئ حجره، وتكشف عن مستويات متعددة في النص الشعري من ناحية، وعن قدرة النقد على أن يكون كتابة خلاقة على الكتابة من ناحية أخرى.

غيم وحجر

كتابة في الغيمة وقراءة في الحجر

حسن حلمي

أبدأ بتحوير التبرؤ الذي يدسه الشاعر في الصفحة الثانية من المجموعة،[1]يدسه خلسة وبأحرف صغيرة كتلك التي تُدَس عادة في العقود من قبيل قولهم: إن لم تحضر في وقت السفر لا تُقبل منك شكاية. قد تعتبر طائفة الخلقيين مثل هذا التبرؤ ــ الذي تقابله اللفظة الإفرنجية disclaimer ــ تنصلا بينا من المسؤولية. أما أنا فأحور ذلك التبرؤ وأثبته هنا، وبأحرف كبيرة: جميع أسماء الأشخاص والأمكنة والإشارات الضمنية من صنع الخيال. ولا يمكن أن يكون أي اشتباه مرجعي من قبيل الصدفة. كل شعرة، كما يقول Hopkins، محسوبة.[2]

أدعوكم الآن إلى أن تتصوروا رجلا يحب المسيح حبا ملتبسا. لا لأن الجسد يتهيأ خبزا وخمرا، لكن، لأن طلحة يجالس الزبير. يستيقظ صاحبنا ذات ضحى، ويذكر نفسه بأنه لا يتطير من غراب Poe ولا من قبر Baudelaire[3]، بل يرى فيهما فألا حسنا. يفرك جفنين أرهقهما خُمار القرون، ثم يفتح نافذته ويطل ليواجه مشهدا ذا علاقة غامضة بالقيامة: يشاهد صخرة عظيمة تُنزَّلُ من سماء شبه غائمة، كما تُنزَّلُ الدساتير في وقتنا الراهن. الصخرة هائلة ـ تكاد تكون جبلا أو جزءا من جبل، يتبين فيها الرائي، إن هو أمعن النظر في قمتها، قلعةً عتيقة، لعلها قلعة Edinburgh (سيتضح فيما بعد أنها قلعة من قلاع الـ Pyrenees لكن التخمين كان يراد منه، فيما يبدو، إرضاءُ الملكة).

قد يعترض المعترضون الحريصون على الضبط والتدقيق، وذاك دأبهم، بأن ثمة فرقا بين الصخر والحجر، لكنَّ الاعتراض مردود لأن المادة والجوهر واحد ـ والمستهجَن حقا أن يتم الخلط بين العاقل وغير العاقل. ولعل هذا الخلط هو ما تجنبه Descartes حين ميز في ذلاقة لاتينيته المحببة بين Res extensa و Res cogitans[4]. وقد يقول المكلَّخون من الأعراب: لا ينبئك عن غيومك غير أحجارك، ولا عن جنونك غير أشجانك، لكن الوجد يذبل الورد، والسرد يحرِّم الكيد، إي ومن أحل الصيد! فلا تهتم بالتوضيح المسجوع أو بالاعتراض المتحذلق. وتأمل في هذه الحجرة أو الصخرة الهائلة النازلة، المتنزِّلة، التي يمتد تنزُّلُها بين أطراف الأبدية. ولتتذكر ما قاله الحكيم: إن الشاعر الصانع، كغيره من الفانين، ’’يقيم على الأرض، تحت السماء، أمام الآلهة‘‘[5]. وتذكر أنه يعيش بين أفراد عشيرته، وأنه يحاول أبدا أن يُجوِّد أدواته. ولا تنس، رغم أن الحكيم لم يذكر ذلك، أن أغلب أفراد عشيرته ليس بالضرورة شاعرا ولا صانعا. بل يستحيل ـ كما أكد الجاحظ ــ أن يكون من نسلهم شاعر أو صانع.

فاجلس على لِبدتك الخضراء فوق حصيرك المتآكل، اجلس متربعا كي تحاكي تربيع الحكيم، وواصل تأمل الحجر المتنزل من غموض سماء شبه غائمة. قد يبدو لك أحيانا أنه ضرس عظيم ــ والأحجام كما تدرك نسبية ــ ضرسٌ اقتُلع للتو من لِـثَـة عظيمة لا سبيل إلى إدراك مداها. وبوسعك آنئذ أن تتذكر ذلك المتمرد الوالوني الذي يعارض الهوى والشباب في شرفة مانيه[6] بتغميق الأخضر وذبول الزهور وشؤم التوابيت، ويعارض لوحة ’’مدام رِكاميـيه‘‘ لداﭬيد بجعل التابوت يتكئ على الأريكة[7] كي يتبين الفرقُ بين القوة والفعل. ذلك المارق الذي يخرج عن معجم العرف فيسمي الشمعة سقفا، والكأس عاصفة، والقبعة ثلجا، والبيضة طلحا[8]، والمطرقة صحراء، وفردة الحذاء قمرا. ذلك الممرور الذي يشعل النار في البيضة وفي المفتاح، ويجعل الشمعة الدامعة تنتصب خافقة في العش بين ثلاث بيضات، ويجعل العريانة ذات الملامح الخنيفرية تكتشف في جسدها وفي جانب من الوجه، تكتشف عنزةَ الخشب، ذلك المجنون الذي يُسعفُ ميلَ برج ﭘـيزا بريشة من وزن الريشة، ويُصر بكل صفاقة على أن الغليون ليس غليونا، لا لشيء إلا لكي يثبت خيانةَ الصورة وخداع البصر، أو يؤكدَ ’’المفارقة المبتذلة التي ينطوى عليها التمثيل باعتباره تقليدا‘‘[9]. على أنه يدرك أن الكمال بالضرورة ناقص: فما إن نخلق الوهمَ حتى نتقبل العبثَ لأننا نراه ملائما. ولعل هذا هو ما فعله تيورينج حين تصور أن الآلات وحدها مؤهلة لأن تتذوق سونيتة أنشأتْها آلة.[10]

تنطلق الغيمة مثقلة من مدار العوسج (لا من مدار اللؤلؤة) ثم تمضي لتحجب النهر وتحجب من يقتحمُه. فهل تنوي أن تطمِسه وتطمسهم، أو هي غيمة رءوم تروم حمايتهم؟ منطلقها العوسج. والعوسج إكليل شوك يتوج رأس المسيح الذي يحبه صاحبنا حبا ملتبسا. وحُق له، فلعله آنس آلامه في أشجان Annabelle Lee،[11] وفي بحة Dietrich وهي تشدو ’’Lilly Marlene‘‘[12]. فمصدر الريح المهلكةِ غيمةٌ غذتْها غيرةُ الملائكة. الوله إذن مفضوح. لاسبيل إلى حجبه لأن الشراكةَ شراكةٌ في سفر طارئ، ولأن المواويلَ مرتجلة، ولا تملك أن تكون إلا مرتجلة: فهي تأتي من باب الغيم، لا من باب الحجر. وليس غيرَ غريم اليرابيع من يظن عكسَ ذلك. الغيم مرتبط بالسماء والحجر مقترن بالأرض. يقول هايدجر معلقا على هلدرلن:’’الأرض والسماء ــ هذه عبارة تدل على علاقة، علاقة يعبر عنها حرف العطف. غير أن العبارة لا تحدد العلاقة ولا تبين كيف صارت كذلك، ولا توضح هل هي أوجدت نفسها أو أنها أتت من مصدر بعيد. ولو تأكد أنها من مصدر بعيد، فسيكون عليها أن تنتسب إلى علاقة أغنى، علاقةٍ لابد للأرض والسماء نفسيهما أن تستمدا منها وجهتيهما.‘‘[13] الحجر مقترن بالأرض والغيم مقترن بالسماء. في أساطير الأولين أن ميدوزا كانت مسخا أرضيا (Chthonic monster)، أي أنها نشأت في أعماق الأرض، في العالم السفلي. والواقع أنها كانت فائقة الجمال، ولم يستطع ﭘـوسيدون، إله البحر، أن يقاوم فتنتها فاغتصبها في معبد أثينا التي صبتْ غضبَها على الـمُغتصَبة، فمسختها كائنا مرعبا بشعا، وأحالت شعرها أفاعي، وقضتْ أن يتحول كلُّ ما تقع عليه عينها حجرا. فيا للحجر! وفي أساطير الأولين أن زيوس غضب من إكسيون الذي كان قد أكرمه وأجلسه في المأدبة إلى مائدة الآلهة، ولكن إكسيون أثبت أنه لئيم زنيم حين حاول أن يغوي زوجة الإله. فكان عقابه أن تصيده زيوس بأن بعث له الغيمة نفلي(Nephele) في هيئة هيرا. ضاجع إكسيون الغيمة فكان نسله قناطير (Centaurs)، أي كائنات شبقةً نصفها إنساني ونصفها حيواني[14]. فيا للغيمة المغتصَبة! من يلوم المطرَ إذا جعل باطنَ الأحجار الشاحبة مشرقا. ومن يلوم النوَر إذا ولج الزيتونَ فكان زيتا؟[15] الحجر مقترن بالأرض والغيم مقترن بالسماء. فهل يستطيع الشاعر توجيههما؟ تنطلق الغيمة مثقلة. تحجب النهر وتحجب من يقتحمه. ينظر ييتس إلى الغيوم حول الشمس الأفلة، فيراها جلالاً يغمض عينها المحترقة[16]. وقبله بقرون ناجى هنري ﭬـوجن ربَّه على لسان العاصفة: ’’مولاي، لُفَّني إذن في الغيوم الدامعة،؟/ ودعْ ذهني، تحت تلك الأكفان،/ يزفر في هبَّات متلاحقة.‘‘[17] والغيمة، عند هلدرلن، ’’تنشئ قصائد مترعة بالبهجة، وتغطي الوادي المتثائب.‘‘ وعنده أن الغيوم ’’تلال السماء‘‘ وأنها تمضي حالمة في طريقها بين القمم، وغايتُها اقتحام المباهج. وعنده أن ’’الغيوم الفضية‘‘ شبيهةٌ بالزهور المتفتحة. وعنده أن الرب يرسل على البلاد الأمطار الناعمة، ويرسل عليها الغيوم المتأملة.

إذن،

إذن،

إذن، للرجل أن يتوقف عند العوسج. وله أن يلعب بالغيمة والحجر، كما يلعب سحرة مصر بالبيضة والحجر. وله أن يردد شعار المتمرد الوالوني المجنون: ’’لا للّوحة! نعم للصورة!‘‘ فالكلب في الليل حارس، وفي النهار ناعس، واللوحة يؤطرها الخشب (Res extensa) أما الصورة فتحيل مباشرة على الخيال (imago)، ولذلك سُنِّدت الخُشبُ: لأنها تتمدد ولا تتصور. فلتكن كلمة ’’إذن‘‘ ـ بما تنطوي عليه من قوة استنتاجية وقوة اقتراحية ـ مدخلا من مداخل الوهم، ولتكن السوائلُ مداخلَه الأخرى. وما دام الوهم بالوهم يذكر، فإن الطين حين يستكين الماءُ يتلعثم، و المدى يغالط العين. فهل يمتثل الرجل لأمر الرفيق ونهيه فيستبقي الكأس بين الأصابع جمرةً صامتة، ويصدعَ الآن بالسكرة البكر ولا يؤجلها إلى الليل؟ ومن يضمن له إن امتثل واستُدرِجَ إلى حافة الجرف ألا يباغته شبحُ هاملت، أو تباغته أشجارُ ماكبث؟ وأيا كان الأمر، فإن عليه أن يمضي في دربه ويرحل كما يرحل البدو: ’’نجم بعيد،/ وذئب يَشُمُّ الخطى‘‘. النجم علامة. والخُطوة علامة. والخَطو يقرب من النخل، والنخل يقرب من المنازل. وللمنازل في القلوب منازل، لأجلهن يهبط القمر، و في فيء أفنيتها يستريح المتنبي والمعري، ولذكرها يغضب الشريف الرضي. فيا للمنازل! رامياتٌ وهن نوافر، خاتلاتٌ وهن غوافل. وهيهات أن يُرضى الشريفُ بعد غضبته!

وحتى إن تغلب الحجر على الغيم، وأضحى الظاعن عاجزا عن أن يسترد من المنازل إلا سورا قديما ونوافذ وأجراسا، فإنه لا يخطئ مهواه. ومهواه مكان فيه يهوي: هاوية يتنزل فيه أبدا تنزلَ صخرة سلف ذكرها دون أن يبلغ قرارا. الآن يدرك أن الانفصال ربيب الاتصال، الآن يتعرف على الفجوة وعلى الجسر وينكرهما معا في نفس الآن. الآن يتأرجح بين ازدواجية الهوى ووحدة الجوهر. ومهواه مكان فيه يهوى وهو النوتي المترحل الذي يدخن الآن فاخر السجائر، ويدخن الجزر البعيدة. ليت Stevenson كان قد صادفه[18]! مهواه الأول نافذة أُلقيت على سبيل الرمز فوق عشب انتظاره، كما يُلقى تحت العشب فخٌّ لاصطياد الفريسة. ومهواه الثاني نافذة لَعوب تنتضي أثوابَها دون أن تدرك لماذا انفتحت، وكيف، ومتى تنغلق؟ الآن يدرك أن الرحيل آزفٌ وأن عليه أن يختصر الهديل ويختزل البحة في الهديل.

فإذا بلغ قهوة الغجر، نبهته قهقهة شمس السكارى إلى أن المزاج الذي تتقلب فيه القصيدة صار، رغم غفلة صاحب الحان، رائقا فتشاكل الأمر، ونشأ لديه إحساس محـبِـط بإفلاس علم الجمال، وآيته أن الترجمان المحلف، وأغلب الظن أنه الاسخريوطي، يهوذا. الخيانة، في عرف الغجر مُروق، مروق عن المروق، ولذلك كان لابد أن تمرق الخوْذة، وقد يتبعها الدرع، ثم البيارق. ولذات السبب كان لا بد أن يسترد الوقتُ خوْذته المارقة، ويكونَ للمارقين غرفُهم الخاصة بهم. فهاهو يهوذا يختزل أقوال الشهود لدى صياح الديكة: فيا لهذا الاحتضار المؤلم في هذه الحديقة المعزولة! كان ذلك في الجمعة الحزينة طبعا لا في سبت جزولة. هناك ترجم يهوذا شهادات الشهود إلى قطع فضية: وشاهد الكل الخائن عند المعصرة وهو يقبل الشهيد كي يدل عليه، وشاهد الكل ذلك الذي كان حيا يعاني سكراتِ الموت، وشاهدوا أنفسهم، وهم الذين كانوا أحياءً يحتضرون في جزع واضح. فما عاد في وسع صاحبنا، ومزاج القصيدة قد راق حتى صار زجاجا، سوى أن يقذف كلابَ الحراسة والقططَ العاقرات بحجارة المنفى، لأن غيوم المنفى لم تكن في المتناول. فلو كان الغيم عهنا منفوشا، ولو كان البحر مدادا، والغيمة منشفة، لما اتخذ الحوت سبيله إلى البحر سربا. ولو قُذف الكُركي[19] بتلك الحجارة لطار هناك، ولصار هنا مجثَمه. لكن البحر مرآة، والزورق المهجور على الشاطئ يلحس الأكف. وكان الأولى أن تلحس الموجةُ إثر الموجة كاحلَ الزورق.

فلندع الوقت، إذن، يسترد درعَه المطيعَ وخوْذتَه المارقة. ولنتابع صاحبنا وهو يمارس تمارينه على رماد الجليد: حيث الصورة لقافلة الذاكرة وهي تقود هودج الحرف. لا مانع من أن تتوقف القافلة قليلا فتطل غامزةً من الهودج عبلةُ أو تُماضِرُ أو لميسُ. لكن الشاعر يدرك أن عيد الكتابة جزرٌ وأن رؤيا المباسم مد. فمن يمنعه الآن من أن يدعي أنه مَلِكُ الحروف؟ ومن يمنع الحروف من إعلان ولائها وعبوديتها لملكوت الشعر؟ عبثا يردد أن كل ما قيل في حفنة الماء قبل السفر مبهم كالحجر. فبهمة الحجر متأصلة في كونه مصمتا أصم صامتا، ولعله لذلك يستدرج المثَّالَ الأعشى إلى النحت. على أن صمت الحجر ينطوي على التمثال. فقد أُثِـر عن ميخائيل أنجلو أن الفنان الماهرليس لديه’’ أي تصور (concetto) غير كامن في كتلة من رخام، لكنّ اليد التي تمتثل للبديهة (intelletto) هي وحدها القادرة على تحقيق التصور.‘‘[20] ورغم أن هذا الفنان الماهر قد صاغ حكمته في هذه الرباعية بلغة الغيم، فتحققت القوافي كأنها حُفرتْ بالإزميل، فإنه كان يدرك أن عقل جوﭘيتر لا يغني عن مطرقة ﭬولكانوس. وما قاله الفنان هنا عن الرخام يصدق على الغيم فبوسع العين، إنْ تمتثلْ للمخيلة، أن تحققَ فيه ما تشاء من تصورات، كما سنرى لاحقا عند الحديث عن هاملت. الغيم ماء مؤجل. لكن مهما قيل في حفنة الماء قبل الأكل أو بعدَه، فإن الحفنة لن تتأتى إلا أن يكف الماء عن السيولة ويصير يابسا. وحين تتنازع الصفات يكون البقاء للشعر لا للمُلك، وهكذا يكون اكتمال البيت: ’’في حانة بين أغمات والقاهرة/ وَسَنٌ سوف يُعشب/ أو ذاكرة.‘‘ لكن قبل اكتمال البيت، لا بد من أن يحشُد الآبقين تحت بيرقهم، متجاهلا حُكمَ المعري بأن العبد لن يأبِق من مُلك ربه. ولا بد أن يحشُد أيضا المارقين من مروقهم، ويحشد الظاعنين من أرقهم. ولابد له من أن يلعب دست شطرنج، يُقذَف فيه الوزيرُ بالحجارة، وتُنفى فيه البيادق، ليموت الملك. وسواء عليه أأفلح أم لم يفلح في العثور على بيضة الرخ، فإن البيت لا محالة مكتمل هناك في حانة بين أغماتَ والقاهرة، والمعتمدُ، بالشعر لا بالملك، ضامنُ اكتماله.

وإذا كان للانتظار عشبه الخاص به، كما سلف، فما المانع من أن يكون للنسيان عشبه؟ وماذا عساه يكون سوى صورة سَلبية لعشب الذاكرة؟ إن المصور كما نعلم لينقع شريطه السالب في ماء ’’نيموزينه ‘‘ كي يجلوه للعين ثم يعيدُه للذاكرة. لا بأس إذن من أن يرى صاحبُنا قطارات نقل الجند تقتحم القصيدة، كأن القصيدة لا ترضى إلا مغصوبة مغتصبة. أما غرناطة، غرناطة لا أغمات، فبوسعها أن تفتتح النشيد بمقطع من نوبة العشاق: فكثيرا ما انتاب العشاقَ ما انتابهم، وطالما تقطعوا تحت نوافذ المعبد يرتلون أشعارهم، ترهقهم نكهة التين المجفف. وهم إن جازفوا الآن لن يَخْسَروا شيئا، فما رهنوا شيئا غير وعثائهم. أليس موعدهم حلولَ الشيب قبل الأوان؟

وقبل أن يأنيَ أوانُ اكتمال القصيدة لا بد من التفكير في حسن التخلص كما يُمليه عمودُ الشعر. ولهذا نجد الشاعر، وهو صانع أيضا، يكلف نفسه ما يلزم وما لا يلزم ليصوغ ’’بيت التخلص‘‘، مناديا ذلك العجاج المعتق، متباهيا كما تتباهى إحدى القبائل بأنهمُ مَنْ صَبَغ الحُمر، وكما يتباهى المصريون بأنهم مَنْ دهَنَ (أي صبغ) الهواء: ’’نحن كشطنا المرايا./ ونحن اقترحنا الروي،/ وبيت التخلص‘‘. لكنَّ صاحبنا سرعان ما يدرك أن الحجر لا يغني عن الغيم، وأن أدوات الصناعة وآلاتها، مهما بُذل من جهد في صقل المرايا، لا تنتج وحدها لمحات الشعر الوامضة: ’’لم يكن في لحاء القصائد غيرُ الصراصير،/ أو غيرُ جمر بردْ.‘‘. بوسع صاحبنا أن يتناول الآن حفنة من ذلك العجاج المعتق، لكن الريب بدأ يتسلل إلى نفسه حين رأى الزهر ينقلب هيولى، فأدرك أن لا ترياق سوى الهباءِ المملح وتساءل: ’’فهل صارت الحدقات القصار مرايا؟ وهل صار هذا العجاج المعتقُ/ خمر القَعَدْ؟‘‘ إن صح ارتيابه ولم يجد القعدُ غيرَ العجاج المعتق خمرا، كانت الغلبة للحجر لا للغيم. ولا بأس من إلا شار ة إلى أن ’’القعد‘‘، والكلمة هنا اسمُ جمع يشير إلى الشراة الذين يُحكِّمون ولا يحاربون، إلى القعدِ من الخوارج، ويشير، علاوة على ذلك، إلى الذين لا ديوان لهم. إن صح ارتياب صاحبنا وصارت الحدقات مرايا عمياء تعكس ولا ترى، فإن الغلبة، مرة أخرى، للحجر لا للغيم. وتستدعي صورة الحدقات لوحةَ ’’المرآة الزائفة‘‘[21] للمتمرد الوالوني المجنون. ففي اللوحة المذكورة حدَقة واسعة تنعكس فيها الغيوم، كأنها تنعكس في مرآة مصقولة. غيوم في عيون: تعكسها ولا تراها. ومن شاء أن يؤمن بالصدفة فليفعل! فرميةُ النرد، كما يقول ملارميه، لا تلغي الصدفة، ولا تمنع الزهر. إن عمى العين عن الرؤيا، ونضوب الخمر والشعر لدى القعد، يمثلان مأزقا فنيا وأخلاقيا يفضي حتما إلى جنون يبلغ ذروته في نهاية هذه الرعوية: ’’صار العقل خاتم فضة/ في أُصبع المجنون.‘‘ هتكٌ شائنٌ لعِرض العقل: فعلٌ فاضحٌ وإن لم يُرتكَب في الطريق العام. وفي الرعوية أن الرعاة تمردوا على شيوخهم، وبايعوا الشاعر الصانع. ثم وهبوه هذه الأداة البدائية التي يستعملها الإسكافي عادة أو نساجُو بيوت الشَّعَر، فاستعمل صاحبنا الأداة ليصنع من حروف اللِّين أوتارا، ورايات، ومنسوجات غيرَها. ويبدو أن الحروف طاوعته: التفَّ الحرف بالحرف ليُحبَك نسيجُ النص، وفي نسيج النص أصبح المفعولُ نائبا عن الفاعل والصمتُ نائبا عن واو العطف. عندئذ، يحتار الصانعُ النساجُ الخطاطُ ويطرح حيرتَه في سؤالين: ’’أكان اللوح مبتلا؟ / وكان الخط مصقولا؟‘‘ لا حاجة به إلى الرد، فالبلل أكثرُ دنوا إلى الغيم، واللوحُ أكثرُ دنوا إلى الحجر. وبين اللوح والبلل يحتال الصلصال منزلة بين المنزلتين. ولولا ذلك لما تحققت أشراطُ المسيد، ولولا ذلك لما انساب الخط، ولولا ذلك لما زلت شفاه المقرئ وزلت معها نقطة الإعجام. وإذ تسقط نقط الإعجام، تصير كل الحروف مهملة، ويكثر التصحيف واللحن، ويتتابع الزلل. لا غرو، إذن، في أن تصير الحاجةُ ماسةً إلى ’’تعبير الرؤيا‘‘، وهو عنوان يحيل على أجواء ابن سيرين، و تعطير الأنام، والبدر المنير، وبوسع من أراد التحيين أن يحيل على الشيخ زيكمونت.[22]

في الرؤيا أنه كان يتمنى، وحين حرك الكأس مرارا، خالف أمرا سابقا بأن يستبقي الكأسَ بين الأصابع جمرةً صامتة، فحلق الطير مبتعدا عن الزهر وتكسرت الأمنيات. وفي الرؤيا أن شخصا جاءه على ظهر غمامة ورواه بالمدد. لكن اليقين ينعدم أثناء رواية الرؤيا: فهو ليس واثقا أكان هو ذاتَ الشخص الذي رُوي بالمدد أم الشخصَ الذي جاء على ظهر الغمامة. ومهما يكن الأمر، فإن هذه الرؤيا تستدعي لوحةً أخرى للمتمرد الوالوني المجنون عنوانها ’’العندليب‘‘[23]. في اللوحة قطار يخترق حقلا، كما اخترقت القصائدَ من قبل قطاراتُ نقل الجنود. تظهر على البعد في الحقل بنايةٌ وبرج. سكةُ الذهاب الفارغةُ توازي سكةَ الإياب. وفي السماء غيمةٌ بتول، يمتطيها شخص وقورٌ ذو لحية في لون الغيمة، قريب الشبه من القديسين الأوائل، ولعله شبيهُ سقراط كما يتصوره العامة، أو لعله طيفُ شيشرون منهمكا في الخطابة. قد يتداخل الطيف في الذاكرة بشبح زرادشت وهو يصدع من خلل الغيم: هاأنذا: قطرةٌ من الغيمة ثقيلة. أُبشِّر بالبرق.[24] وقد يوغل الطيف في برزخ الأختام السبعة، فيتمثل ثمة متنبئا مترعا بروح النبوءة شاردا بين الماضي والآتي كأنه غيمة مثقلة، يتوق إلى أن يقترن بالأبدية فينجب منها ذرية لايرى أهلا لها أيَّ امرأة.[25] ولو جنحت الذكرى نحو ذلك النمساوي الذي كان يؤمن بالليل، لَمَـثُلَ كالبرق في الظلام ذلك التساءول: ’’أي مصير لإله لاغيمة له تحميه؟‘‘[26] ولو عاد البصر، بعد الزيغ والشرود، إلى اللوحةلرأى الدخانَ المنبعث من القطار قافيةً عمودية رمادية تناسبُ الغيمة، ولرأى لونَ أسفل الغيمة يندمج منسابا في خلفية السماء. هو الشخصُ الذي تجلى، إذن، على ظهر الغمامة: يرتل أو يخطب، أو يعظ، أو يحمل البشارة. يصلي قبل أن يسرق.[27] ومن شاء أن يؤمن بالصدفة، فليفعل!

ما أحوج جموع الرمادة إلى غيمة أو بشارة! ففي عام الرمادة، اسودت الأرض قحطا، وعلا الناسَ شحوبُ الرماد. وفيه سأل السؤَّالُ ولم يُعطَوا فقطعوا السؤال. وفي عام الرمادة، والعهدة على ابن كثير، اسودَّ لونُ عمرَ وتغير جسمه حتى كاد يُخشى عليه من الضُّعف. هاهو الفتيل المتبقَى يفتض ختم الرماد ويحملق في أوجه الهالكين. وفي مواجهة هذه المسغبة الماحقة، لا يرى الشاعر الصانع سوى خِيَارين: ’’فإما بَريْنا قرونَ الأيائل بالحجر الصلد؛/ وإما برينا الحجارةَ حتى تلينا‘‘. أو لم يقدّ الوالوني المجنونُ ريشةَ الكتابة العظيمةَ من حجر ثم نصبها في الرمل فبدت نافورة هائلة وسط الصخور والحجارة في مواجهة البحر والغيوم؟[28] والراجح أن الشاعر الصانع غريب عالق في هذه المسغبة، ويبدو أنه خطاط بغدادي يحاول أن يصنع من قرون الأيائل أقلاما، ومن ثم حنين قلبه إلى الكرخ، حنين يؤججه شدو عاذلات يذكرنه، نكاية، بمعاناته في عام الرمادة. حجر ولا غيم. حجر صلد لا يلين، وغيم غائب. فهل يملك صاحبنا أن لا يأرق لهذا الجفاف والعقم والقحط والشحوب؟ أليس معذورا إن هو رأى الأرقَ صنوا لعانة شمس الخريف؟

عبر هذا الأرق البذيء تفضي قصيدة ’’عام الرمادة‘‘ إلى ’’قبر الشاعر المجهول‘‘ حيث يحقق صاحبنا نقلة نوعية يبدو أنه يستوحي فيها قصيدتي ملارميه اللتين سبقت الإشارة إليهما عن ﭘـو وعن بودلير. المقبوران في تَيْنكَ القصيدتين شاعران معلومان، أما المقبور هنا فشاعر مجهول. وبقافية الشيح والريح (غصن شيح؟/ أم نورس يضع غصنا/ فوق قبر الريح) ينقل صاحبنا الصياغة من عالم الحساب البسيط إلى عوالم التفاضل والتكامل والجذور الصماء. لن يفيد الشاعر هنا أن يفوض الأمر للخيميائي. فقد يوافق الخيميائي على أن يضع قدميه معا في فردة واحدة، وقد يقبل أن لايتدخل في شؤون الزئبق، لكنْ سيظل على الشاعر أن يستخلصَ من الحجر شهدةً يستخرجُها من بطون الغيم/ الغيب، أوينشئَ منها شاهدةً يضعها على قبر هذا الذي قدر عليه أن يظل، رغم الشهدة والشاهدة، شاعرا مجهولا[29]، وعلى الرقيم سيُخلِّف النورسُ الطائرُ جرحا أزليا محايثا، أو ربما خلَّف النورسُ الشاعرُ تعويذةً خالية من علامات الترقيم.[30] ولو تصورنا أن النورس طار بعد أن وضع الغصنَ على قبر الريح، لتصورناه طائرَ صحو يتخلله الغيم، كما في لوحة ’’الوعد‘‘[31] للوالوني الممرور: طيفٌ طائر هائل من صفاء لازوردي تتخلله غيمات يحلق على الشاطئ محاذيا لزبد الموج. لكن، هل نستطيع أن نعرف أطار عكس الريح أم في وجهته؟ ستواجهنا حتما مشكلة الجذور الصماء إن نحن حاولنا الإجابة عن هذا السؤال؟ فلنكفَّ إذن عن المحاولة، ولنتأمل هذا المربع قبل أن يحين موعد لقائنا بأوفيليا. يتشكل المربع على التوالي من أضلاع الوقت والجرح والعري والغبار. ولنبدأ بالوقت. الوقت ترويض لهيولى الزمن بإخضاعه إلى مقاييس نفرضها عليه. وهكذا يصبح الزمن، إذ يُروَّض، مجرد وقت يسهل حتى على حيوان وديع نسبيا مثل الأيل أن يهزمه وينكل به تنكيلا شنيعا يبلغ عنفه حد البذاءة. أما الجرح فظاهره الجرح وواقعه الفتق: فتقٌ ’’أبدى عورةَ الأيام‘‘، فتقٌ رَوَّع الطير، وشابتْ له أصداغُ الخيل. ولذلك نجد صاحبنا يستغيث استغاثة جديرة بنيتشه في لحظات انهياره: ’’يا نسغ الجنون المر! خِطْه إن استطعت؛/ وخِطْ ثقوبا تستضيء بظُلمة القنديل.‘‘ وبمساعدة ظُلمة القنديل هذه يمكننا أن نتلصص، من عورة الأيام، على العري، وهو الضلع المجاور، دون أن ننسى أن الأيام التي كُشفتْ هنا عورتُها ليست سوى وحدات توقيت نروض بها الزمن، ودون أن ننسى أن العري هنا ’’صفة أنطولوجية‘‘ للقصيدة[32]، وأن القصيدة بنت عم الغاية وبنت خالة الاقتصاد[33]، كما تمت الإشارة إلى ذلك في بوح هامس على هامش المتن.

يغيب العنف المتفشي في الضلعين الآنف ذكرهما عن قصيدة ’’العري‘‘، ففيها يصير الشاعر الصانع فارسا هادئا مهيبا، يحرص على أن يكون في كامل هندامه: يرتدي ربطة العنق والبنطلون وهو يجرب السرج على الفرس التمثال. قد ينطبق عليه قول العامة: ’’هَـنّيء على أصالة المُهرة منْ تراه يمتطي اليراع‘‘، ولكن العين لن تخطئ تشابه الأجواء السوريالية التي يثيرها المشهد مع الأجواء السائدة في بعض لوحات المتمرد الوالوني المجنون. على أن غياب العنف لا يعني إقصاء البذاءة عن هذه القصيدة، كما يشهد بذلك هذا القفل البذيء المختلَس: ’’... تكوم في مستهل الكلام،/ وعض على شفتيه؛/ وأغفى؛/ ونام.‘‘ فهل رأى الفارس هنا ما يسوؤه؟ لعل هذا القفل المُثقِّفَ طعنٌ في قدراته وفي عنفوانه.

نأتي الآن إلى ’’الغبار‘‘، الضلع الرابع للمربع، حيث يعود العنف إلى الظهور بعد احتجاب مؤقت في ضلع العري. يثير الغبار هنا الانتباه باعتباره طاغية، سفاحا يضرب كالحجاج عنقَ الطريق ويعلقُ رأسَه في ساحة البرج. وقبل أن ينفذ الإعدام في الطريق، نرى الغبار يمارس عليه كلَّ ما يحلو له من شناعات، كأن يدس كلتا يديه تحت إبطه ثم يدسهما بعد ذلك في شخير الأيائل. حتى الحفيفُ لا يسلم من انتهاكات الطاغية ونزقه ونزواته: فما إن يتقوس ظهر الحفيف حتى يمتطيه. الوقت مهزوم والفتق هازم، العري ممحوق والغبار ماحق. هكذا تتربع الدائرة على مشارف اوفيليا.

اوفيليا معشوقة الماء الكتوم. تخفي سرها حتى على الأُسقف. سرها غصة أغرقتها. ترى ماذا يكون سرها؟ عنف المحبوب، أم قصوره؟ الهدايا الثمينة تصير بخسة بافتضاح قسوة الواهب. هكذا عاتبت المحبوب. لكن المحبوب العنين العنيف، أمعن في القسوة وحشرها في دعاة التمييز الإيجابي، تلك اللواتي يتخلين عن وجوهٍ وهبها إياهن الخالق، ويتقنعن بوجوه العلم، تلك اللواتي يبررن فجورهن بجهلهن. يهينها، ويهين جنسها. يعنفها ويحيلها على الدير، الدير، الدير. تنجدل السوريالية بالغنائية في ’’أوفيليا‘‘ فيتسم النسيج بشعرية متميزة. تنجرف المعشوقة على صفحة عاشقها، وتصير الريح مشطا يمشط سائب شعرها، وهذي سوالفها تحاكي المساءاتِ في انهمارها. بدت للشاعر الصانع في انجرافها، بل في انجرافه، أيقونة من محار، فاحتار في أمرها متسائلا هل هي امرأة أو عروس من عرائس الأساطير؟ وانجرف في غنائية متلبسة زاعما أن المحار يبث الشكوى وأن الفراشات المتطايرة فوق النهر يقرأن شكاوى المحار. ما كان لهذه المسحة الغنائية أن تتأتى لو لم يعتمد الشاعر على لغة الغيم، تلك اللغة المتسمة بالخفة والرهافة والتحول، وكلها سمات غائبة في لغة الحجر. إن لغة الغيم، مثلا، هي التي تمكن هاملت الشاعر الماكر من أن يربك حسابات ﭘـولونيوس العقلاني المتحذلق حين يجبره على أن يرى الغيمة جملا، فحملا، فحوتا مغرقا في حوتانيته.[34] ولو استعرنا من البلاغة التراثية لكانت لغة الغيم مقترنة بما ’’تمثله الظنون‘‘, في مقابل اقتران لغة الحجر بما ’’تناله العيون‘‘. ولغة الغيم لدى شكسبير هي التي تمكن من الإحساس بأن أوفيليا غيمة بيضاء وديعة، وأن هاملت غيمة داكنة غامضة. يتمادى الشاعر في مزاعمه واستيهاماته فتتجلى له أوفيليا، حسب ما تمثله ظنونه، في صورة إلسا مورانتي. هاهي تتجه نحو الشاطئ في أوان الغَبوق، محفوفة بالوصيفات، حاملة في يدها تحقيقا عن تهريب الهيروين. لا شك أن الإيطالي السوابي،[35] ذلك الذي كان مولعا بأن يفرك علل النفس حتى تفوح روائحها كان سيفتتن بموكبها. وإلسا كما يعرف المهتمون أيقونة روما. امرأة من أهل تم ورم. أديبة متأنقة، وزوجة أديب كان وقتها من مشاهير النجوم. عاشت حياتها بالطول والعرض والارتفاع، ولم تفقد حروف الجمال حتى بعد أن بلغت من الكبر عتيا. شيء ما في عينيها يوحي بأنها كانت تستمد الإلهام من قطتها الأليفة. فأي شيء يمكن أن يجمعها بالفتاة الإسكندناﭬية الوديعة؟ لكن استيهامات الهيروين المهرب تجعل بحر إيجة جوزة هند، وتجعل الدردنيل رمادا على الجرح! جغرافيا مكثفةٌ يتعانق فيها السوريالي بالغنائي. لا غرو إذن في أن ينهي صاحبنا قصيدته بمرثية صاخبة يلتحق فيها شيللر، أو بيتهوفن، أوهما معا، بالجوقة الصادحة بأنشودة الفرح. وعندي أن المرثية تبتدئ عند ’’مربط خيل الرعاة‘‘ ولا تنتهي عند ’’حوافر المدى‘‘. فالشجيرات يرتلن جناز إلسا، وبالتبعية، جناز أوفيليا، حيث يكون الأعمى التطيلي حاضرا بأشعاره، وتحمل الفراشات جثمان إلسا، وينفُخ النيلوفر في الماء، وترقص الدلافين الوسنى على نغمات الأرغن العتيق. وليس في هذا الجناز الصاخب ما يذكر بعوالم المتمرد الوالوني المجنون سوى صور سوريالية من قبيل التماثيل التي تحس بالجروح في ركبها النازفة. وهذه الصورة بالذات تذكر بلوحته ’’الذاكرة‘‘[36] حيث يوضع تمثال الرأس النازفِ صُدغُه على حافة النافذة وبجانبه ورقةُ يُتْمٍ خضراء، وبجانب الورقة كرةٌ معدنية سماَّها الفنانُ في لوحة أخرى ’’صوت الريح‘‘، وفي الخلفية جزء من الستارة والباقي انفتاحٌ يشرف على بياض الغيوم وعلى زرقة السماء والبحر. بوسع من يحب التزحلق على مرتفعات التداعي أن يأنس نسغا غامضا يصل خُضرةَ الورقة المقطوفة بحمرة الدم النازف، وبمعدنية الكرة، نسغا يجعل أسودَ الستارةِ يُعمِّد هذه الألوان، بينما يباركها بياضُ الغيم، وتحتفي بها زرقةُ السماء وزرقةُ البحر. وها أوفيليا! وهذي سوالفها! تنجرف بالتداعي، وهي الحُمرةُ النازفة، والخُضرةُ المقطوفة، والمعدنُ المعمَّد، والغيمةُ المبَارِكة المبَارَكة. الفن، كما يزعم الوالوني، يبعث السر الذي لن يكون للعالم وجود بدونه. لا يمكنني بالطبع أن أدعي بأن للوالوني لوحةً بعنوان ’’أوفيليا‘‘، لأن هذا ادعاء لا أستطيع أن أثبته. ولكني أزعم أن المصير المأسوي لوالدة الفنان المنتحرة كان شبيها بمصير أوفيليا.

سبق التلميح إلى أن المعتمد هو ضامن الاكتمال، وأنه يضمَنه بالشعر لا بالسلطان: يضمنه لأنه شاعر لا ملك. ولعل هذا ما أدركه الملك الشاعر هنري في نهاية ’’ابتسامة في أسفل السلم‘‘ حين أدرك وهو في حانة جانبية أن الشعر والسكر أبقى من الملك فخلع التاج ووضعه على رأس الزبون. فباعتباره شاعرا لا ملكا، تعاطف مع أمومة النهر التي لا تكشف عن بواطنها وإنما تعكس ما على جانبيها من بنايات ونواقيس وسفن راسية. وهكذا يُولِّد الشاعر، لا الملك، صورا عجائبية مثيرة: صورا لجوارب تتراقص على نغمات الجاز، وقبعات قديمة تداعب الأسطوانة، صورا تحيل على الأجواء السائدة في بعض لوحات الوالوني الممرور.[37] هكذا يُولِّد الابتسامةَ من غمزة (وغموض الغمزة هنا في أن منشأها قد يكون من البصر وقد يكون من اللمس)، يُولِّد البسمةَ من غمزة تمثل أخْفَتَ نغمةٍ في قرار السلم، ثم يطورها نحو ضحك صاخب معربد: ضحكِ الجواري الغمازات يهيئن الملكة لاستقبال العاشق. ففي الوقت الذي تضع فيه خياناتُ الملكة قرنا على هامة الملك، يضع الملك التاجَ على رأس الزبون، ويجعل الشِّعر والخطابة (وهما فنان تتجذر أمجادُهما في رسططاليس) ذريعةً للتلصص على العري، على عري ظاهرُه الجرح وباطنه الفتق، ممهدا بذلك، كتعليق على المشهد، لمآل الغمزة الخافتة إلى الضحك الصاخب المعربد. ولكي يكون الشاعر حاسما في موضوع الشعر والمُلك، يشهر هذا القفلَ الأندلسي الغنائي المؤثر (’’قفل أول‘‘)، وهو، كما نرى لا كما نسمع، قفلٌ يهجع فيه الرباب، ويتأوه الإبريق، ويصير المرفأ زورقا وتصير الريح مجدافا. وفي غمرة هذا المشهد الملهَم يفتح ثربانطيس المخمور عينيه للحظة، ويومئ إيماءة غامضة، ثم يعود ليَغرقَ في نشوة الغيبوبة، فيكون القفل بذلك توشيحا مكثفا لا أثر فيه للبرولة. ولا بأس أن تتلو القفل، بعد هذا، ’’رسوم مائية‘‘ تقترب من البصر بابتعادها عن السمع. ماذا على الشاعر الآن، وقد أخطأ في الإملاء (أي فقد سلطة الملك كما كان قد فقدها هنري، وقبله المعتمد، وقبلهما امرؤ القيس، فوظيفة المَلك وعمله يقومان أساسا على أن يمليَ ويأمرَ فيطاع)، ماذا عليه لو انتقل من الكتابة إلى الرسم؟ ماذا عليه لو رسم فوق آنية مقدسة؟ أليس ملاحا يمتطي زورقَ الرؤيا فتداهمه فرسانُ الأرق؟ وماذا عليه لو اغتر بالأفق الفخ، الأفقِ المصيدة، الأفقِ القصيدة، حيث الرؤى غيوم والغيوم رؤى، فأحس أنه يدور حول الأرض في ومضة؟ إحساس يذكر حقا برؤيا بليك، وهو للتذكير شاعر ورسام: ’’لكي ترى العالم في ذرة رمل/ والسماواتِ في زهرة برية/ اعتقلْ اللانهايةَ في راحة اليد / واعتقلْ الأبديةَ في لحظة.‘‘[38] ما على الشاعر طبعا من حرج إن هو استبدل بالكتابة الرسم: وهو الذي تعرض لحملة تشهير ظالمة، وأٌجبر على أن يطَّوَّفَ على الأقسام ولوحتُه على ظهرة، لا لشيء إلا لأن معلمة الرسم الشاردةَ رأت اللوحة مقلوبة.[39] وما على العجوز في القصيدة الموالية (’’ليس للنشر‘‘) إلا أن تحذو حذو الشاعر الصانع فتنحاز للرسم. عجوز من حفيدات بلقيس، فيما يبدو، مولعة بالهدهد والزنابق. فهي تبدأ يومها كل صباح بأن ترسم فوق مُلاءتها هدهدا وزنابق، وفي المساء تمحو، كما كانت تفعل ﭘنلوﭘه، كلَّ ما رسمته طوال اليوم. وإذ تلجأ للمدفأة اتقاءً لما يأتي به المساء من برد تسبِقها طيورُ المِلل وزهورُ النِّحَل: ’’هدهدٌ خارجيٌّ، / وزنبقةٌ صابئَة.‘‘

تشكل قصيدة ’’أنكيدو‘‘ نشازا في سياق غنائية المجموعة، وهي بذلك أبعدُ ما تكون عن الغيم وأقربُ ما تكون إلى الحجر. فهل يبررها الحنين الميزوﭘوتومي إلى ملحمة تُعد، لسَبقها، أم َّالملاحم؟ أو أن للشاعر الصانع فيها مآرب أخرى يعسر إدراك أهميتها؟ أيا كان الأمر، فإن في انهيار أنكيدو المأسوي ــ وهو البطل الذي كان يعدو إلى ميلاده كأنه يعدو إلى حتفه ــ وفي انهيار التربة من خلفه نبوءةً سبقت بأكثر من عَقد ما تنبأت به هذه القصيدة من انهيار حلم ميزوﭘوتومي معاصر.

كان لا بد من العودة ــ بعد هذا الشرود الملحمي الوجيز ــ إلى جادة الغنائية المعتصِرة رحيقَها من الصراع بين الغيم والحجر. تتمثل العودة في قصيدة ’’العبور‘‘ وفي القصائد الثلاث التي تليها. وتشكل هذه القصائد جسرا للعبور نحو ’’الكأس والمظلة‘‘ التي يمكن اعتبارها مفتاحا للمجموعة. فبعد الانزلاق إلى شظف الملحمة، يسترد الشاعر في ’’عبور‘‘ ثراءَ غنائية مكثفة تحقق معجزة انبعاث الفينق من رماده. فإثر العبور إلى الضفة الأخرى، أفقدت النشوة ُ الشاعرَ صوابه فأحرق شراعه، كما أحرق أحد أسلافه من قبل سفائنَه، فكانت النتيجة أن أصيب الورق العاشق بالعمى. لاباس أن نتذكر هنا أن الورق متأصل في الشجر، وأن الشجر، رغم كونه أدنى من الغيم، أسمى من الحجر. بعد هذا العمى المحمول على الورق، من السهل أن يتفهم المرء أن يتحول النجمُ في السماء فحما، والعشبُ في المراعي صدى، لكنَّ الشاعرَ يبدو مبهورا، عاجزا عن أن يستوعب المعجز في هذه التحولات: ’’أيها النايُ الذي قُدَّ من الصخر/ كما قُدَّتْ من الأصل ذراعي! كيف صار الفحم نجما؟/ وغدا الغيم/ شراعي‘‘ هكذا يناجي الشاعر نايا قُدَّ من صخر مستفهما عن نجم خبا فصار فحماً، ثم انبعث الفحم بعد ذلك كالفينق وصار نجما. أما في ’’العين والبحيرة‘‘ فإن البحيرة، وهي حتما مختلفة عن طبريا المتنبي، تتقبل برواقية واضحة مصيرها: ’’فليحدثْ/ ــ إذن ــ/ ما سوف يحدث‘‘. والبحيرة هنا إنما تتقبل المآل الحتمي لأنها أدركتْ أن التناظر منعدم بين ذاكرة الحجر وذاكرة الغيم، رغم التناظر المزعوم بين جفن الهر الجائع وجفن الخيل المسرعة. ولعل إدراكها هذا متأت من الإحساس بأن قفاها حجر وبأن الزبد عند شطآنها غيم.

وفي قصيدة ’’زرقة ماكرة‘‘ نجد أول إشارة مباشرة في هذه المجموعة إلى رسام شهير. ويقر الشاعر الصانع هنا أكثر من مرة بأن نواياه فتكت به، وأنه ’’رهن القوس بالكأس والنَّوْل بالدائرة‘‘، وهكذا فقد كل شيء سوى الوميض وكثير من الترهات الفصيحة. فإذا كانت نية المدخن في الغليون، أو في النارجيلة، فإنَّ نوايا صاحبنا أجبرته على الانتظام مع سُحُبٍ واقفات في طوابير طويلة أمام متاجر بيع الخمور الرديئة. ولعل نواياه أغوته فأخذ جرعة إلهام زائدةً من Cézanne الذي لم يجرؤ Matisse ولا حتى Picasso على التنكر لأبوته، والذي لاحظ Merleau-Ponty أن ’’ثمة علاقة بين مزاجه الفصامي وأعماله الفنية التي تشي بإحساس ميتافزيقي بالمرض، يتجلى في اختزال العالم في مظاهر جامدة، وفي إبطال القيم التعبيرية‘‘[40]. وشخَّص مرلوﭘـونتي نوايا سيزان في أنه كان يريد أن يحس بما يرسُمه لا أن يفكر فيه، وأنه كان يريد أن يجعل البصر ممتزجا باللمس. ويبدو أن الشاعر هنا وقع فريسة لنوايا مماثلة:

... فتكتْ بي نواياي،

وانتابني شبق السحب النافرة.

فمن رهن القوس بالكأس؟

والنَّوْلَ بالدائرة؟

ومن جرَّ سيزانَ نحو ينابيع صمتي؟

أفي زوارق الفجر يأتي؟

وفي زرقة البذلة المستعارة

تصعد رائحة التبغ

والجزر البكر،

والقدم الحائرة؟

ورغم إدعاء الشاعر بأن سيزان، في هذه المرحلة التي تربط الانطباعية بما بعدها، منجذب نحو ينابيع صمته، ورغم معايرته إياه في نهاية القصيدة بالعادات الماكرة. فإن هذه الإشارة المباشرة إلى سيزان مجرد حيلة ماكرة يهدف الشاعر منها إلى أن يصرف الانتباه عن المؤثر الأساسي والفعلي في بناء هذه المجموعة وفي أجوائها.

والواقع أن ’’الكأس والمظله‘‘ هي القصيدة الوحيدة التي نجد فيها إشارة مواربةً إلى أن صاحبنا استوعب التجربة الفنية للوالوني المجنون وتمثلها وأعاد إنتاجها شعريا في مجموعة ’’غيمة أو حجر‘‘. فعالم الشاعر وعالم الفنان، كما تبين فيما تقدم، يتجاوران، ويتدخلان، ويتقاطعان في حوار متميز بين اللوحة والقصيدة. كان بوسع الشاعر أن يعنون القصيدة بنفس عنوان اللوحة، أي ’’عطلة هيجل‘‘[41]، لكنه لا يفعل، بل يدس الإشارة إلى عنوان اللوحة في سؤال يظل مطروحا في طيات القصيدة: ’’هل يستوفز السفَرُ المعلقُ كأسَ هيجل؟ أو مظلتَه الـمُعارَةَ؟ ‘‘ وقبل مواجهة هذا السؤال، لا بأس من الإشارة إلى أن قصيدة ’’الكأس والمظلة‘‘ تبدأ بعودة الغيم. فهل في ذلك تلميح إلى عودة الشعر، على وزن عودة الوعي؟ وعودة الغيم في بداية القصيدة تتخذ هيئتها في سلسلة من صور متلاحقة قد تخدش اتزان ورزانة معظم العقلانيين: فالغيم هنا يعود على هيئة منقار في ’’قهقة الصديق، وفي سديم يصهل العنَّاب فيه فتصهلُ الفُرشاة‘‘. هكذا تعج هذه الصور المركبة بالصاهل والشاحج لتعلن في صَخَب واضح أن عودةَ الغيم بعد الجفاف، والشعر بعد النضوب، عودةٌ سوريالية. أما الفرشاة الصاهلة هنا فقرينة واضحة على أن القصيدة من سلالة اللوحة. ولمواجهة السؤال المدسوس عن موضوع اللوحة، أي المظلةُ السوداءُ بمقبضها الملتبس والكأسُ الشفافةُ فوقها على خلفية قرمزية، لا بد من افتراض مجيء مخلص ’’يرتب هذه الفوضى‘‘، و ’’ينبِس باحتمالات مطهمة، وبحر قرمزي‘‘. فإذا كانت الخلفية في اللوحة بحرا قرمزيا، فإن الاحتمالات بطبيعتها ’’مطهمة‘‘ لأنها قد تحيل على السمنة والنحافة معا، كما يتضح لمن يتصفح قاموس لسان العرب. وعلى ذكر القاموس فإن صاحب المحيط يشرح الفعل الوارد في السؤال على هذا النحو: ’’... واسْتَوْفَزَ في قِعْدَتِهِ: انْتَصَبَ فيها غير مُطْمئِنٍّ، أو وضَعَ رُكْبَتَيْهِ، ورَفَعَ ألْيَتَيْه، أو اسْتَقَلَّ على رِجْلَيْهِ، ولَمَّا يَسْتَوِ قائماً، وقد تَهَيَّأَ للوُثوب.‘‘ لا غضاضة، في سياق هذه الفوضى، من استعارة هذه الإضاءة المعجمية لوصف وضع الكأس فوق المظلة: فليس من الصعب تصور الكأس مستوفزة في وضعها الحالي، فالسفر المؤجل يستوفزها[42]، أي يتوقع منها أن تتخذ هذا الوضع الذي يصفه صاحب المحيط، أي أن تتهيأ للوثوب. وعلى ذكر الاستعارة، فإن صفة ’’الـمُعارة‘‘ المرتبطة هنا بالمظلة تذكر باستعمال كلمة ’’المستعارة‘‘ لوصف البذلة في قصيدة ’’زرقةٌ ماكرة‘‘، حيث نصادف بذلة الفنان الزرقاء باعتبارها إحدى الاستعارات المعبرة عن الزرقة الماكرة. هكذا يستعير الفنان تأملات الفيلسوف معدلة لتسمية اللوحة، ويستعير الشاعر اللوحة مؤولة لبناء القصيدة، ويكون الأمر، في سياق هذه الفوضى، من قبيل إقحام الاستعارة في الاستعارة. ولو ابتعدنا عن الاستعارات وعدنا إلى اللوحة، لأدركنا أن الكأس والمظلة مندمجان في كيان واحد. غير أن اندماجهما في اللوحة لا يلغي اختلافهما في الوظيفة: فالمظلة تصد الماء بينما الكأس تجتذبه لتحتويه. على أن هذا الاختلاف نسبي. فلو كان حتميا ــ كما كان يشرح الرفاق ــ أن يأتي مخلص عبقري ويقلب الوضع، لَعادت الأمور إلى نصابها: فالمظلة آنئذ ستحتضن الماء بينما تلفظه الكأس ــ وبذلك يتحول الفائض إلى قيمة مضافة تعيد إلى الجدل وضعَه الاعتباري، فتتحقق بذلك الحكامة الجيدة. أعتذر على هذه التداعيات الغوغائية، ولكنها في الحقيقة مستلهمة من تعليق الفنان نفسه في إحدى رسائله على هذه اللوحة:

آخر لوحاتي نشأت عن هذا السؤال: كيف تَعرِضُ كأسَ ماء في لوحة لا بطريقة تجعلها فاترة، أو اعتباطية، أو ناشئة عن نزوة، أو رديئة، بل بطريقة، واسمحي لي باستعمال الكلمة، عبقرية؟ (فلا داعي للتواضع الزائف). ابتدأتُ برسم كؤوس ماء عديدة، وكنت دائما أضع علامة خطية على الكأس. وبعد المحاولة المائة أو الخمسين بعد المائة، امتد الخط ليتخذ في النهاية شكل مظلة. ثم وضعت المظلة بعد ذلك في الكأس، وأخيرا تحت الكأس. وكان هذا هو الجواب الصحيح عن السؤال الذي بدأتُ به: كيف ترسم كأسَ ماء بطريقة عبقرية. ثم خطر لي بعد ذلك أن هيجل (عبقرية أخرى) كان سيستجيب لهذا الشيء الذي يؤدي وظيفيتين متعارضتين: ألا يَسمَح للماء بالمرور (بصده) وأن يَسمَح له بالمرور (ليحتويه). وأظن أن هيجل كان سيكون مسرورا، أو مستمتعا (كأنه في عطلة)، ولهذا أسمي اللوحة ’’عطلة هيجل‘‘.

قد يكون الفنان هنا محقا في التخلي عن التواضع الزائف، ولكنه يبدو مسرفا في حسن ظنه بهيجل. ومهما يكن الأمر فإن وضع الكأس هنا فوق المظلة يبدو آمنا وذلك لاتساع رقعة المظلة، فالكأس والمظلة في حالة تماس خفيف، ويذكر هذا بحالة مشابهة حقق فيه الفنان التوازن بوضع مائدة محجبة على تفاحة خضراء هائلة في لوحة ’’أنماط جميلة من الواقع‘‘.[43] ويبدو أن الوضع مشابه للحالين في لوحة ’’غضب الآلهة‘‘[44] حيث رُسِمَ حصانٌ جامحٌ غيرُ مسرج يستحثه فارسٌ فوق سقف سيارة كبيرة عتيقة. والعامل المشترك بين الحالات الثلاث هو وضعها على صيغة كسر حسابي بسطهُ أصغر من مقامه، ويبدو أن هذه الصيغة تحقق التوازن بحيث يظل المرسوم في البسط ثابتا فوق المرسوم في المقام.

لنعد بعد هذا الاستطراد الشارد إلى قصيدة ’’الكأس والمظلة‘‘. الراجح أن الكأس هنا أبولونية لا ديونوزوسية، لأنها حسب المرجعية شفافة: مليئة بالماء لا بالغيم. ولذلك فإن السؤال المتعلق بوضعها الحرج لا يمكن الإجابةُ عنه إجابة مباشرة، بل من خلال افتراضات ديونوزسية. فإذا كان الافتراض هو أن ’’الأديمَ الدائري‘‘، أي سطحَ المظلة، (ويمكن تمديد الدلالة إلى سطح الكوكب)، ليس سوى ’’محطة للعابرين‘‘، فإن السفر لا يمكن أن يكون ’’معلقا‘‘ إلى الأبد، كما يمكن أن يُفهم من الاستفهام الإنكاري: ’’فمن رأى الأسفار تفترش المقاعد كالنساء العاطلات؟‘‘ وإذا كانت المفاوز، أي سطح المظلة، التي تبدو ممتدة دون نهاية، مجردَ برعم مر لن يثمر غير المرارة، وكان القذى، أي الكأس، مجردَ ألبوم في هذا البحر الممتد، أي المظلة، فإنَّ كلَّ افتراضاتنا حول الوضع والعلاقة لا يمكن إلا أن تكون عبثا، من قبيل قرع الأجراس في الورق الصقيل، أو في الموانئ الخالية. وفي مواجهة مثل هذا العبث، وعلى شفا ’’هوة الرؤيا‘‘، لا بأس من أن تكون القصيدة سمكة، وأن تصعد الأدراجُ الخطى، ويهبط الكرسي في صفارة الإنذار. والواقع أن القصيدة لا تحيل على لوحة واحدة بل تستلهم، فيما يبدو، عوالم الفنان الوالوني، وذلك بالتلميح إلى لوحات غيرها. فالعين التي لا ترف، والعين التي لا تشف غيومها، واللتان نشأتا عن فقس بيضة السلمون في صحنين مختلفين، ولعل ذلك أثناء تأدية طقس يرمي إلى إرضاء الشيطان، تحيلان معا على العين العملاقة المفتوحة العاكسة للغيوم التي يتسمر سواد الإنسان في وسطها في تحد واضح لما يُحيط به من زرقةِ السماء وبياضِ الغيوم في لوحة ’’المرآة الزائفة‘‘.[45] أما صورة الفكرة ’’التي حطت على صُدغ الأريكة‘‘ فتمثل في القصيدة معادلا تجريديا للطخة الدم التي حطت بجانب عين الفتاة، قريبا من صُدغها في لوحة الذكرى[46]؛ بينما يحيل الإنقلاب الذي توحي به الأدرج التي تتسلق الخطى على التحول الغرائبي في لوحة ’’النموذج الأحمر‘‘[47] حيث ينقلب الحذاء الموضوع على الأرض، قرب السياج الخشبي، قدمين مبتورتين. و يمثل هذا التحولُ الغرائبي المستوحى، فيما يبدو، من تراث مسخ الكائنات، موضوعَ لوحة/ لوعة ’’الفلسفة في الخدر‘‘[48] حيث يستغل الرداءُ الأنثويُّ لحظةَ انفراده على المشجب في الدولاب ليستعرضَ نهدين وازنين، فتكون استجابةُ الحذاء الأنثوي الموضوع أمامه على الرف أن يستعرض أنوثته منقلبا بدوره قدمين واعدتين، فكأنه يقول متحديا، كما سبق أن فعل فقيه جليل: ونحن أيضا لدينا ما نعرض! هكذا تنقلب الكائنات وتتحول، فكل ما نراه، يقول الفنان، ’’يخفي ما لا نراه. ونحن لا نكف عن الرغبة في أن نرى ما هو مخفي بما نراه.‘‘

وتحقيقا لمثل هذه الرغبة، لا مفر من اعتبار لوحة ’’فن المحادثة‘‘[49] مختفية وراء قصيدة ’’أساورَ حجرية‘‘. وكما انتهت القصيدة السابقة بوضع سلسلة من الافتراضات، تبتدئ هذه القصيدة بدورها بِحَثِّ الشاعر على قبول هذين الافتراضين: ’’أيها الشاعر! / هبْ ما يلي غلطةَ شاقول؛ / وهبْ هذي التعاويذَ بنايات.‘‘ واضح أن الفرْضية الأولى متصلة بالبناء، فالشاقول ميزان يستعمله البناء لقياس استقامة الجدار، والفرضية الثانية أيضا متصلة بالبناء لأننا هنا أمام بناياتٍ لَبناتُها التعاويذ. ولا حاجة إلى التذكير بأن مفهومي البناء والوزن أساسيان بالنسبة للشاعر. والمترتب عن الافتراضين، في صيغة استفهام إنكاري، هو أن الشاعر لن يغتر إذا أعتم سور، أي إذا صار البناء غير مرئي، وهو الذي أخفاه أصلا بدسه عمدا في خلفية العنوان. هكذا يصبح البناء الخفي، أي النص الغائب، بناءً من مواد مرتبطة بالغيم لا بالحجر: ’’[أيها الشاعر] نصُّك الغائب: ثلجٌ،/ ورذاذٌ،/ وبَرَدْ. ‘‘ ولو راجعنا لوحة ’’فن المحادثة‘‘، لوجدنا أمامنا جدارا هائلا من الجرانيت يكاد يحجُب السماء الغائمة في خلفية اللوحة.[50] الحجر، إذن، يحاول أن يحجُب الغيم. لكن لبنات الجدار حروف، ويبدو أنها تحاول أن تمثل عبارة ’’فن المحادثة‘‘؛ وهي، كما سلف، عنوانُ اللوحة. اللوحة إذن تُسمِّي نفسَها، تروج لنفسها، تثير الانتباه إلى كينونتها. وهكذا ينتصب البناء ظاهرا، لا خفيا، حاضرا، لا غائبا، ينتصب جداراً من حجارة يحاول أن يخفي غيومَ الأفق فلا يفلح. فمن يدس، إذن، ماذا في ماذا وأين؟ الشاعر أم الفنان؟ النص أم الجدار؟ في خلفية العنوان أم على خلفية اللوحة؟

أيا كان الأمر فإن الحوار بين اللوحة والقصيدة هنا حوار غني يقوم على المشترك بينهما و، أيضا، على الطبيعة المميزة لكل منهما: فبوسع المتأمل أن يَتسمَّعَ في هذا الحوار أصداءً ترتبط بالمنزع الديونوزوسي للقصيدة، في مقابل المنزع الأﭘولوني للوحة: فثمة سكر مقابل الصحو، وموسيقى مقابل التشكيل، وفوضى مقابل الضبط، وإسراف مقابل الاعتدال، وغيم مقابل الصفاء. فلا عجب في أن نجد التمثال، وهو ثمرة التشكيل، مرهقا من أثر الشرب، وأن نسمع في صوته، وهو الصامت المصمت، قلقَ الآجر ممزوجا بأسرار الجسد. ولئن كان الآجر من أقارب الحجر فإن الغيم من أسرار الجسد. وإذا قدر لنص الشاعر أن يأفُل، فإن أضواء المنارات ستستدرجه إلى حيث يقابل الهاجسَ الأحدبَ وهو يمضي في نفس اتجاه الشاقول. حينئذ سيجلس، كما فعل أحد الشعراء الأسلاف، بين أشجار السنديان، تحت غيمات سيبدو له أن لكل غيمة منها سكينتها الخاصة بها، وستنهال عليه رؤى الأرواح المنعمة.[51] حينئذ ستلفُّ الخدعُ البصريةُ الفنانَ فيرى ساق بلقيسَ منعكسة في لٌجَّة النهاوند. وسيسر لدهشة زوار المتحف. وحينئذ سيشمر الشاعر في فن المنادمة، سيكون متطرفا، متماديا، فيطرح في مقلب النفايات بلاغة مقتضى الحال، ولن يأخذ الحكمةَ من أفواه الأطفال ولامن أفواه المجانين، بل من قرقعة الأقفال الديونيزوسية في غابات كانت فيما مضى جزءا من ممالك أﭘولو. وبذلك سيكون قد رهن الأسلوب الملحمي، وقايض الرعوي بالتعليمي، لأن ذلك سيكون أفضل من إعادة اختراع عجلة ﭬــرجيل، ولن تخطئه العينُ وهو يدور في عكس اتجاه دوران العجلة، مترنما بتعاويذه بنايات، بنايات.

وهل قصيدة ’’برج البطريق‘‘ إلا بنايةٌ من هذه البنايات؟ البرج عال والقصيدة، مقارنةً بسابقتها، مطولة. والواقع أن ما كان في النص السابق فنَّ المحادثة، قد صار هنا فنَّ المنادمة. هكذا يصدع الشاعر بسكرته البكر ويصدح بسكرته الثيب، صبوحا وغبوقا، متنقلا بين حانة دمشقية وحانة قرطبية، إلى أن يبلغ بفن المنادمة ذروته الدرامية في مشهد حانة Gilda. وهكذا يُمضي الليلَ في استحضار أشباح الشعراء الأسلاف: فينصب كمينا لقافلة الجن كي يتصيد شيطان بشارٍ، ذلك الكفيف الذي كان ’’يسهب في وصف ردف الخليفة‘‘. يتذكر صديقا كان يعود سكران فيرسم ’’أشرعة وزوارق من ورق، ثم يرحل فيها.‘‘ رسامٌ يُؤي الأحلامَ غيوما وصورا واستعارات ثم يأوي إليها، عملا بقول ذلك الشاعر المجهول الراقد في ذلك القبر المجهول: ’’إذا لم تستطع أن تحرك الريح، إذن حرك الشراع.‘‘. هاهو الشاعر يتخيل الآن صديقه شاردا في مكان ما، منتحلا، كعادته، شخصية المتنبي. وإذ تستدرجه الذاكرة إلى أيام المدرسة يستحضر بركة البحتري، ويخاطب الشاعر مناكفا: ’’يا أيها البحتري! أما زلت حيث تركتُكَ؟‘‘ ويستحضرُ الشاعرُ بعد ذلك شبح ابن زيدون ويتوقع منه ’’أن يستهل أسماره بهجاء الوزارة؛ ثم يشبِّهَ فاكهةً مُرةً بربيع التجلي‘‘. وفي حانة بقرطبة يُهديه صاحبُ الحانة مفتاحَ المدينة الأثريَّ ويوشحه بذيل الثور، ثم ينشده من مطلع قصيدة لعلي بن أمية: ’’يا ريحُ! ما تصنعين بالدمنِ؟ ‘‘[52] فيُجيزُ الشاعرُ الثملُ مفتخرا: ’’كسرنا جرارا على صلعة الزمنِ‘‘. وحين تُطلب الخمر، فإنها تطلب مقترنة بالشعر: ’’صهباءَ من عهد نوح، لها في اللسان/ مذاقُ شماريخِ نجدٍ، وتوحي بشعر صريع الغواني.‘‘ ويستحضر الشاعر مأساة ابن زريقٍ البغدادي، ويتصور رؤاه عرايا حسانا يسبحن فيُلهمن محزونا شتيتَ الشمل أبياتا مجموعة الشمل: ’’تعرين للعوم في نهر ورغةَ، فاتّقد الماء؛ والتمَّ شملُ الأعاريضِ والأضربِ البُهمِ.‘‘ وللقارئ أن يتصور رحلة ابن زريق من بغداد إلى الأندلس، وانهيار حلمه، وله أن يتصور مروره المحتمل بتازة أو تاونات. وحين يتوغل أحدُ ندامى الشاعر، ولعله متيمُ سعادَ الموجوعُ ببينها، في عتاقة الصهباء وفيافي الجاهلية، يستحضر شبحَ امرئ القيس، فتنشق الكأسُ وتشبُّ الجراح: ’’لمنْ طللٌ لاح بيني وبينكِ/ فانشقَّت الكأس/ وافترَّ جُرحُ الفؤاد؟ ‘‘[53] ويستحضر القارئ كأسا هائلة في لوحة ’’العصب العاري‘‘[54]، وُضعتْ في الفيافي في مواجهة جبال الأفق، كأسا تُركتْ هناك وحيدة، لكنها لم تنشق، ظلت صامدة لأن بياضَ الغيمةِ العظيمةِ التي غشيتها وصلتها بزرقة السماء، فحفِظتها من كل شق. هكذا ظلت هناك، وحيدة، صامدة، شاهدة على لوعة العصب العاري وآلامه. إن استحضار الشاعر لأسلافه هنا يذكر بهايـﭘيريون في وضع مماثل. فكما يرتمي في النهر أيل جريح، كان هايـﭙريرون كثيرا ما يرتمي في دوامة اللذات، ويسبح كي يبعد الأحلام الهائجة المجيدة، أحلامَ الصيت والعظمة، لكنه كثيرا ما كان يحس بعبث مساعيه. وحين يجبره قلبه المهتاج، في منتصف الليل، على النزول إلى الحديقة، كان يحس بالهواء وبضوء القمر يهدئان خواطره، وكانت الغيمات الفضية تمضي فوقه منطلقة في سكينة، ويسمع من بعيد صوت البحر الخافتَ، فيحس بالأشباح العظيمة تداعب فؤاده، فيقول في نفسه: وداعا أيتها الأرواح السماوية، وداعا أيها الأموات الأماجد! ليتني ألتحق بكم. ليتني أنضو عني كلَّ ما خلعه علي عصري، وأمضي إلى ملكوت الأشباح الطليقة! لكني أتباطأ هنا في أغلالي وــ بفرح مريرــ أنتزع القدح البئيس الذي يقدم لي لأروي ظمئي.[55] ولعل الشاعر حين يستحضر أسلافه هنا أنما يفي بما كان قد وعد به حين آل على نفسه، باعتباره حفارا هاويا محترفا، أن يُحدثَ في قشرة العدم ثقبا أو جرحا أو علامة.[56] وأثناء استحضار أشباح كل هؤلاء الشعراء من أعماق جرار التراث، لم يكن ثمة من حَـرَجٍ في استحضار شبح باختين، رغم أنه لم يكن شاعرا بالمعنى الضيق، فالذريعة مقبولة: وضعُ أكاليلِ وردٍ على قبر لينين. ومادام الموتى يُذكِّرون بالموتى، فلا بأس من التمييز بين موت الشاعر وموت السلطان، وآية التمييز هنا ارتباكُ ولادة إذ فاجأها حاجب القصر ’’تقرأ نعي ابن زيدون في صفحة الوفيات بخط صغير، ونعيَ أبيها بماء الذهب.‘‘ ورغم البون الشاسع بين النعيين، فإن الشعر، كما أسلفنا، يظل أبقى من الملك. لكنَّ التوجس من نضوب الشعر يظل قائما ويتردد باستمرار خلال هذه القصيدة، بل يمكن القول إنه هاجس سائد في جل قصائد المجموعة. وهكذا نجد الشاعر يلتقط الخيط، بعد سماع عاشق سعادَ وهو يبكي على الأطلال، فينشئ بدوره مخاطبا سعادَ: ’’هكذا ياسعادُ!/ حجرا/ حجرا/ أنزلُ البئر.‘‘ حجراً قال، ولم يقل غيمةً. ولعل في ذلك تلميحا إلى أن الحجر ثقيل لأنه بعيد عن جوهر الشعر، أما الغيمة التي تضاهي خفتُها خفةَ الوجود المستعصيةَ على التصور فتمثل روح التجربة الشعرية في سموها وتساميها. وهي لا تسقط كما يسقط الحجر بل تهطِل غيثا يعيد للأرض الحياة بعد مواتها. الشاعر إذن لا يسقط إلا حين يفقد إحساسَه، وتنضُب شاعريتُه فيغدو حجرا، أي حين يكف عن أن يكون شاعرا. ولهذا فإن الشاعر الحق يجب أن يظل أبدا عند برج الأب القائد، على حافة الهاوية حيث ’’تَسترِدُّ الهتافاتُ برزخَها؛ والنواعيرُ يرتِقن ذاكرةَ الماءِ/ بالضجة المفتراةِ/ وذاكرةَ اللُّغمِ/ بالأغنية.‘‘ والهاوية، في معجم الشاعر، مرادفة للروح، كما هو وارد في اعتراف هامس على هامش المتن: ’’[حين] أستشعر رغبة في أن أفاجئ نفسي: أنزل الأدراج إلى جرن أسميه الهاوية كما أسميه الروح. وأشرع في التلصص على ذلك الآخر الذي يقبع في أعماقي، رغما عني أو بتواطؤ مكتوم معه.‘‘[57] غير أن الشاعر في قصيدة ’’برج البطريق‘‘ يحاول أن يدرأ بالشبهات جنونَه فيدون تفاصيل أحلامه على أسافل الشجر، متعللا بأصل يرتبط بما سماه بالعري الأنطولوجي في سياق آخر: ’’فأصل الخطيئة أن القصيدة/ لم تدنُ من شفة الرب حين اشتهاها؛/ وحين اشتهتْه نفاها/ وأغلق باب النقاش.‘‘ تمنعٌ وامتناعٌ يقابلان بالحسم والجبروت. وهرطقةٌ تُشبِّهُ النقع بالنقع، والفجر بالمطرقة. وقصيدةٌ تؤبد الخطيئة غاية واقتصادا. ولعل تمنعً القصيدة وامتناعَها هو ما يجعل الشاعر يتشهى لو يصبح البرج قافية، ويجعله يأمر الحروف بأن تتسلق ’’هذي المدينةَ (والمقصود هذه القصيدة) بيتا فبيتا‘‘. ولعل تمنعَ القصيدة وامتناعَها هو ما يجعله يتظاهر بالشرود ليتلصص على الملابس الداخلية لمفردة مشتهاة، ويجعله يحاول أن يخمن ما تخفيه ’’كف المقامر باللغة البكر‘‘. إن هذا التمنع والامتناع هو بالتأكيد ما يجعل الشاعر، وهو رب القصيد، محبطا مغتاظا يشتم القصيدة الممتنعة المتمنعة: ’’تبا لهذي القصيدة: مطلعُها قمرٌ زئبقي، وصوتُ شخير المغاراتِ إيقاعُها.‘‘ لكنَّ قصيد ة امرئ القيس تُبعث ثانية من غياهب القرون، تغنيها هذه المرة سعادُ لا عاشقُها، وثانية تنشق الكأس ويفترُّ جُرح الفؤاد. لكن الشاعر هذه المرة لا يهتم بسقوطه في البئر، حجرا، حجرا، بل يتأمل في تلازم الصعود والهبوط: ’’هكذا؛ يا سعاد!/ حيثما/ تصعد الهاوياتُ/ سيهبط نجم الرعاة / كما يهبط القنفذ الحجريُّ/ إلى النهر‘‘. وفي صعود الهاويات، إن صح الترادف، صعود للأرواح يحايثه أفول نجم الرعاة. فمن هم الرعاة؟ رعاة الشعر والشعراء؟ ربما. المهم أن هبوطهم يُشبَّه هنا بهبوط القنفذ إلى النهر، لا إلى البئر. والمهم أيضا أنه قنفذ حجري، وليس قنفذا مجبولا من غيم. لكنَّ هبوط القنفذ إلى النهر مقترن بكتابة اليرقات للشعر على حَبَب الماء، وفي هذا ما فيه من تلميح متفائل إلى بقاء الشعر. لكن الحَبب فقاعاتٌ آيلةٌ للزوال، ولا شك في أن هذا يمثل للشاعر تهديدا قائما بنضوب الشعر. وهكذا نجده يحس في آخر القصيدة أنه سيفقد كل شيء إن نضب الشعر: فلن يبقى هناك سوى قنفذ من حجر، يلتف حول الشجر، ويتربص به ويضايقه. لعله ينضب الآن نابضا، ويشحب ببطء فاقدا لون الرمان، مكتسبا بالتدريج لون الشمع، ماضيا نحو الـ(لا)نهاية، ولعل الكرز ينزف لأجله، كما تصور تسيلان.[58] ولهذا فإنه لا يجد إلا الاستغاثةَ بدمه وسيلةً يضع بها حدا لقصده، واقتصاده، وقصيدته.



هوامش

[1]   محمد بنطلحة، غيمة أو حجر، (الدار البيضاء، 1995).

 [2]  Gerald Manly Hopkins, “The Leaden Echo and Golden Echo”

[3]   أنشأ ملارميه قبرا لكل من إدجار آلن ﭘـو وشارل بودلير. ومما ورد في قصيدته عن ﭘـو: أن عصره رُوِّع لأنه لم يدرك أن انتصار الفناء كان في صوته العجيب.

(!Son siècle épouvanté de n’avoir pas connu / Que la mort triomphait dans cette voix étrange). ويقول في قصيدته عن بودلير:

أي إكليل ذاو في مدن لا ليل لها يستطيع أن يبارك كهذا الذي أُلقي هنا عبثا على شاهدة بودلير:

(Quel feuillage séché dans les cités sans soir

Votif  pourra bénir comme elle se rasseoir

Contre le marbre vainement de Baudelaire) .

[4]    René Descartes, Œuvres philosophiques, Volume 4, (Paris, 1835), p. 200.

[5]    . Martin Heidegger, Poetry, Language, Thought, (New York, 1971), trans. by Albert Hofstadter,  p. 148

[6]     Manet’s Balcony ، 1950.

[7]  Madame Récamier by David     ،1951.

    [8]   Acacia.

[9]         The ground of the image, translated by Jeff Fort (New York, 2005), p. 8.  Jean-Luc Nancy,

[10]  "A sonnet written by a machine will be better appreciated by another machine."                        

Andrew Hodges, Alan Turing: The Enigma, (New York, 1983), p. 420.

[11]        قصيدة شهيرة لإدجار آلن ﭘـو.

[12]      أغنية شهيرة لمارلين ديتتريش.

[13]   .Martin Heidegger,  Elucidations of Hӧlderlin’s Poetry, trans. by Keith Hoeller, (New York, 2000),  p. 182

                وفي سياق الحديث عن القرب (nearness) باعتباره ’’تشيءَ الشيء‘‘ (the thinging of the thing) ولعله يقصد تمكينه أو تحقيقه، يقول:

الأرض حاملة البناء، تغذي بثمارها، ترعى النبات والحيوان بمائها وصخرها.

حين نقول الأرض، فإننا نكون قد فكرنا، بالتفكير فيها، في العناصر الثلاثة الأخرى، وذلك بالتفكير في الكل البسيط الذي يضم الأربعة.

السماء درب الشمس، ومسلك القمر، بريق النجوم، فصول السنة، ضوء النهار وغسقه، ظلام الليل وومضه، اعتدال الجو وقسوته، الغيوم العابرة وعمق الفضاء الأزرقُ.

حين نقول السماء، فإننا نكون قد فكرنا، بالتفكير فيها، في العناصر الثلاثة الأخرى، وذلك بالتفكير في الكل البسيط الذي يضم الأربعة.

الآلهة رسل الألوهية المومئة. من سلطان الآلهة الخفي يتجلى الرب باعتباره ماهو، وهذا يزيله من أي مقارنة مع الكائنات الموجودة.

حين نتكلم عن الآلهة ، فإننا نكون قد فكرنا، بالتفكير فيها، في العناصر الثلاثة الأخرى، وذلك بالتفكير في الكل البسيط الذي يضم الأربعة.

Poetry, Language, Thought, trans. by Albert Hofstadter (New York, 2001), p. 176-77.

[14]    في رواية أخرى أن  Nephelae (جمع  Nephele) حوريات غيم يصعدن من نهر اوقيانوس المحيط بالأرض إلى السماء حاملات الماء في أباريق يسكبنه منها على الأرض مطرا. ونصادفهن جوقة في مسرحية الغيمات لأريسطوفانيس، وفي مسرحية ﭘـروميثيوس مغلولا لإسخيليوس حيث يفاجئ ظهورهن في المشهد بروميثيوس الذي كان لصيق الصخرة مغلولا، عقابا على خيانته الألهة وانحيازه للبشر، فيتساءل: ’’أي همس هذا؟ وأي عطر مجنح يغشاني، ومن أين أقبل؟ بشريٌّ هو أم إلهي، أم هو منهما مزيج؟ ... أيا كان، فهو يُروعني؟’’ لكن حوريات الغيم يهدئن روعَه شاديات:’’لا تقلق! فجوقتنا جاءتْ هذا الجُرف كي تتودد إليك. متنافسات على جناح السرعة سافرنا إليك بعد أن حظينا بإذن مولانا.‘‘

Prometheus Bound, in  Aeschylus, Vol. I, translated by Herbert Weir Smyth, (New York, 1922), p.  227.

وتعليقا على غيمات أريسطوفانيس، يرى هيجل أن الغيمات تمثل ’’التصورات الخالصة عن القيم ‘‘ في الفلسفة.

H. S. Harris, Hegel's Ladder,   Vol. 2. (Indianapolis and Cambridge, 1997), p. 636.

[15]  هذا ماتصوره جيمس مريل فكان الإشراق باطنيا وكان النور زيتا:

"Light into the olive entered / And was oil. Rain made the huge pale stones / shine from within."

 James Merrill, Selected Poems, (New York, 2008), p.24.

[16]    هاهي الغيوم حول الشمس الآفلة / جلال يغمض عينها الحارقة

These are the clouds about the fallen sun,

The majesty that shuts his burning eye

W. B. Yeats, The Green Helmet and Other Poems, (London, 1912), p. 12.

[17]                      "Lord, then round me with weeping clouds, / And let my mind /

In quick blasts sigh beneath those shrouds."                                                        

The Poetical Works of Henry Vaughan, (Boston, 1871), p. 92.  

[18]   الإشارة إلى Robert Louis Stevenson.

[19]    يُورد صاحبُ القاموس المحيط هذه الوصفة الطبية الطريفة: دِماغُهُ [الكُركي] ومَرارَتُهُ مَخْلوطانِ بِدُهْنِ زَنْبَقٍ سَعوطاً للكَثيرِ النِّسْيانِ عَجيبٌ، ورُبَّمَا لا يَنْسَى شيئاً بعدَهُ، ومَرارَتُهُ بماءِ السِّلْقِ سَعوطاً ثلاثَةَ أيامٍ تُبْرِئُ من اللَّقْوَةِ ألبَتَّةَ، ومَرارَتُهُ تَنْفَعُ الجَرَبَ والبَرَصَ طِلاءً.

[20]       Robert J. Clements, Michelangelo's Theory of Art, (New York, 1961), p. 16.

 

Non ha I'ottimo artista alcun concetto,

Ch' un marmo solo in se non circonscriua

Col suo souerckio, et solo à quello arriua

La man, che ubbidisce all' intelletto

ولعل ييتس كان يستحضر هذا حين نسب إلى ميخائيل أنجلو عقلا قادرا على اختراق الغيوم فبوسع العين أن ترى في الرخام أيضا غيوما :

A mind … that can pierce the clouds ("An Acre of Green Grass")

[21]   The False Mirror، 1928.

 [22]  تفسير الأحلام لإبن سيرين، وتعطير الأنام في تفسير الأحلام لعبد الغني النابلسي، والبدر المنير في علم التعبير للشهاب العابر، و The Interpretation of dreams لسيجموند فرويد.

  [23]   The Nightingale, 1962.

[24]         Behold, I am a herald of the lightning and a heavy drop from the cloud.

Friedrich Nietzsche, Thus Spoke Zarathustra, trans. Adrian Del Caro, (Cambridge, 2006), p. 9.

[25]   المصدر السابق، ص. 184. يرى الشراح أن نتشه هنا إنما يعارض قيامة المسيح في الإصحاح السابع من ’’رؤيا يوحنا اللاهوتي‘‘ : هوذا ! آت في موكب الغيمات / ستراه كل العيون / ستراه حتى عيون من طعنوه/ وكل شعوب الأرض ستحزن حدادا عليه.

’’   [26] was wäre ein Gott ohne die Wolke, die ihn schont…?‘‘. مأثور عن رلكه. في رسالة مؤرخة بـ 23 سبتمير 1911 موجهة إلى ماري فون تاكسيس أُنت تور ن.

[27]    محمد بنطلحة، الجسر والهاوية: سيرة شعرية، (الدار البيضاء، 2009)، ص. 48.

[28]    Souvenir of a Journey  ، 1955.

[29]    محمد بنطلحة، الجسر والهاوية: سيرة شعرية، ص. 58.

[30]    المصدر السابق، ص. 30.

 [31]    The Promise، 1950.

  [32]   الجسر والهاوية: سيرة شعرية، ص. 23.

[33]     المصدر السابق، ص. 15.

[34]     هاملت، الفصل الثالث، المشهد الثاني. استعمل شكسبير كلمة ’’ weasel‘‘ وحولناها هنا حملا لأن لغة الغيم تُجيز ذلك، ولأن الصياغة لا تحتمل ’’ابن عُرس‘‘.

[35]  الإشارة هنا إلى Italo Svevo .

[36]    Memory ، 1948.

[37]     في مقدمة ترجمته لمقالات ميشيل فوكو عن ماجريت، يوضح James Harkness أن Giorgio de Chirico  كان له الأثر الأكبر في تحديد المسار الفني لماجريت. ويرى هاركنس أن أسلوب شيريكو يتسم بالبرود والتعسف البصري الذي امتدحه لوتريامون واعتبر جماله نابعا من الجمع العبثي بين آلة الخياطة والمظلة فوق طاولة الجراحة.

Michel Foucault, This is not a Pipe, translated by James Harkness, (Berkeley and  Los Angeles, 1983),  p. 2-3.

[38]   William Blake, “Auguries of innocence” .

[39]      الجسر والهاوية: سيرة شعرية، ص. 43.

[40]       Maurice Merleau-Ponty, The Merleau-Ponty reader, (Evanston, Illinois, 2007), p. 80.

[41]    Hegel’s Holiday ، 1958.

[42]    قد يعترض معترض بأن الشاعر يعامل الفعل ’’يستوفز‘‘ معاملة الفعل المتعدي، والحال أنه فعل لازم. وليس على هذا الاعتراض من رد سوى أن تعدية اللازم قدتكون من جوازات الشاعر في لغة الغيم.

 [43]   Fine Realities، 1964.

[44]    The Wrath of the Gods، 1960.

[45]    The False Mirror، 1928.

 [46]   Memory، 1948. في نسخة 1945 من نفس اللوحة نلاحظ وجود كأس ماء على يمين الرأس وتفاحة على يسارها. أما لطخة الدم فموجودة عند العين اليمنى من كلتا النسختين.

[47]    The Red Model, 1935  .

[48]    Philosophy in the Boudoir, 1947 . يقدم الموضوع نفسه بجرأة تقترب من الخلاعة في لوحة ’’الفلسفة في غرفة النوم‘‘ (Philosophy in the Bedroom, 1966) .

 [49]   1950 The Art of Conversation,  . مما ورد في تعليق ميشيل فوكو على هذه اللوحة أن بوسعنا أن نـتيبن’’في مشهد يمثل حرب العمالقة، أو بداية العالم، شخصين قميئين يتحادثان بكلام غير مسموع، بهمس سرعان ما يتشربة صمتُ الحجارة، يتشربه صمتُ جدار تشرف لبناتُه الضخمة على الأبكمين الثرثارين. وتشكل اللبناتُ التي كانت مكومةً بغير نظام مجموعةً من الأحرف يسهل أن يتبين منها المشاهد كلمةَ  REVE (حلم) ولو أمعن النظر لأكمل الكلمة لتصير TREVE (هدنة) أو CREVE (فرجة)، فكأنَّ سلطةَ تنظيم فوضى الحجارة قد خُولت لهذه الكلمات الوهمية الهشة؛ وكأنَّ بوسع الأشياء، وراء ثرثرة الرجلين المتحفزة والمفقودة ، مع ذلك، فورا ، بوسعها أن تشكل، في صمتها ونومها، كلمةً ــــ كلمةً دائمةً لن يستطيع أحد محوها. غير أن هذه الكلمةَ ترمز الآن إلى أشد الصور زوالا. لكن ليس هذا كل الأمر: لأن الرجلين، المجبرين في النهاية على الصمت، يتحادثان مع دلالة الأشياء في الحلم، لا في اليقظة، ويسمحان لنفسيهما بأن يتأثرا بالكلمات الملحة المبهمة الآتية من مكان آخر.‘‘

Michel Foucault, This is not a Pipe, (Berkeley and  Los Angeles, 1983),  p.  37.

[50]  الواقع أن الجدار الممثَّل في اللوحة من الضخامة بحيث ينطبق عليه هذا التوضيح الذي يقدمه دريدا، معتمدا على كانط، بصدد مفهوم ’’الهائل‘‘ :  الهائل (kolossalisch) مجرد تمثيل لمفهوم يبلغ من العظمة حدا يعسر معه تمثيله، أي أنه يقترب من المذهل (ungeheuer)، أي من مفهوم يجمع، بالقياس إلى الهائل، بين الضخامة والبشاعة وإثارة الرهبة؛ فالغاية من تمثيل المفهوم يزداد تحقيقها صعوبة لأن الموضوع يكاد يكون أعظمَ من ملكة الإدراك لدينا. أقول الإدراك لا للفهم. فالإدراك أطولُ نفسا من الفهم رغم كونه محددا بالقدرة على المضي نحو المطلق ...

Jacques Derrida, The Truth in Painting, trans. by Geoff Bennington and Ian McLeod, (Chicago, 1987), p. 143.

وهكذا فإن الجدار، ويفترض أنه مشيد من حجر، يحاول أن يمضي نحو المطلق ليحجب الغيوم فيكاد يحقق غايته، لكنه يقصر عنها، وهو كما نبه فوكو في تعليقه على اللوحة يقزم الشخصين القميئين اللذين يواجهانه، يقزم هذين الأبكمين المنبثقين من حلم والوالجين في حلم، فيكاد يختزلهما في العدم. وإذا كانت الغاية من الجدار هو تمثيل ’’فن المحاددثة‘‘ لإثبات إمكان التواصل، فإنه قد حققها: لأن حجارته تكاد تثبتها، وتكاد تنفيها. لكن الشاعر، على أي حال،  يرفع الحرج عن الحجر بأن يجعل التعاويذ لبنات.

[51]     الإشارة هنا إلى هذه الأبيات:

Jetzt aber siz’ ich unter Wolken (deren

Ein jedes eine Ruh’ hat eigen) unter

Wohleingerichteten Eichen, auf

Der Heide des Rehs, und fremd

Erscheinen und gestorben mir

Der Seeligen Geister.

 (لكني أجلس الآن تحت غيمات / (لكل غيمة سكينتها)، وسط / السنديانات المنتظمة،/ في مرعى الأيائل، وأرى تلك الأرواح المنعَّمة/ أراها بعيدةً، هالكةً/ أراها في منتهى الغرابة.) والأبيات لهلدرلن من قصيدة’’Lebensalter‘‘ (أطوار العمر).

 [52]    مطلع القصيدة: ’’يا ريح ما تصنعين بالدمن / كم لكِ من محوِ منظر حسنِ‘‘.

  [53]   الإشارة إلى قصيدة منسوبة لامرئ القيس مطلعها:’’لمنْ طللٌ بينَ الجُدَيَّةِ والجبلْ / محَلٌّ قديمُ العهدِ طالتْ به الطُّوَلْ‘‘، ديوان امرئ القيس، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، (القاهرة، 1990)، ص. 466-469.

   [54]  The Raw Nerve، 1960.

  [55]  بتصرف عن رواية هلدرلين: Hyperion oder Der Eremit in Griechenland  .

   [56]  الجسر والهاوية: سيرة شعرية، ص. 62.  نشر هذا الكتاب سنة 2009 بينما نشرت المجوعة أول مرة سنة 1990. لكن الاعتراض على مخالفة التعاقب الزمني  في الربط بينهما هنا مردود لأن الجوهر في الأصل واحد.

 [57]   المصدر السابق، ص. 12.

[58]  الإشارة هنا إلى قصيدة ’’ Die Kirsche blutet für ihn ‘‘ لـــ Paul Celan.