يقدم الباحث الفلسطيني في هذه الدراسة لتجليات المرأة اليهودية في ثلاثية سميح القاسم الروائية/ السيرذاتية نوعا من التصنيف الأدبي لمختلف مواقف المرأة اليهودية من العربي الفلسطيني، ولما ينطوي عليه هذا التصنيف من تنميط دلالي لنوعية الشخصيات ولتعدد المواقف بين يهودية إنسانية وصهيونية تتسم بالغل وضيق الأفق.

المرأة اليهوديّة في روايات سميح القاسم

نبيه القاسم

شغلت المرأة دورا مهمّا في مراحل الصراع العربي الفلسطيني الإسرائيلي، فقد وقفت إلى جانب الرجل، وآزرته في البيت والحقل وحَمْل هموم الحياة المتعدّدة والمتتالية، وعندما استدعت الحاجة كانت تبيع "ذهَباتها"- مَصاغ عرسها - ليشتري بندقيّة، وتخرج لتُقاتل معه بكلّ قوّة وجرأة وثَبات.

هذا الكلام صحيح بالنسبة للمرأة الفلسطينيّة، كما هو بالنسبة للمرأة اليهوديّة. وكان من نتائج هذا الصّراع المستمرّ أنْ تعمّقت العداوةُ بين الشّعبين، ووصلت إلى الصّدام المسلح والمواجهة الشديدة التي تمخّضت عن طرد وتَهجير معظم أبناء الشعب العربي الفلسطيني وإقامة دولة إسرائيل. ووجد الإنسان العربي، الباقي في وطنه، أنّه أصبح ابنَ أقليّة غير مرغوب فيه، يُواجَه بالكراهيّة والعدائيّة والرّفض، ومُهدّدا في لقمة عيشه ومكان عمله وملكية أرضه، ولا يعرف من أبناء الشعب اليهودي إلّا ذوي الوجوه القاسية مثل: الشرطي وموظف ضريبة الدّخل والحاكم العسكري.

الرّفض والشكّ والخوف حكموا مواقفَ اليهود من العرب في البلاد، وحدّدوا العلاقة بينهما، وظلّ اليهوديّ على موقفه الرّافض، وحتّى الكاره للعربيّ، ويؤمن أنّ الله أعطاه هذه البلاد، والعربيّ ليس إلّا دَخيلا مَرفوضا. هذا الواقع الجديد الذي فرضَ الحياةَ المشتركة والتّعايش القَسريّ دفع بالكثيرين من المفكرين والمثقفين إلى الاجتهاد والتفكير في تَحْديد الحلّ لهذا الوضع الاستثنائي الغريب. وقد عبّر بطلُ رواية "ملعقة سمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" عن هذا الوضع بصراحة، مُحدّدا رؤيتَه للحلّ الممكن "على أيّة حال فها نحن هنا. لا أستطيعُ نفيَه من واقعي ولا يستطيعُ نفيي من واقعه. إذا، فعلينا أنْ نتدبّرَ أمرَنا. علينا تكوينَ صيغة ما لتَعايش ما" (ملعقة سم صغيرة ص30)

هذا الواقع الجديد لا بُدّ أن يؤدّي إلى انهيار الحواجز وتَزايد محاولات التّعارف والتّقارب والتّعاون والسّعي لإيجاد خطوط التّماس لتجاوزها إلى ما بعدها من علاقات وروابط وعمَل مشترك. وكما في الحياة اليوميّة، شغلت قضيّةُ العلاقة بين الشعبين الإنسان العاديّ، هكذا شغلت فكرَ واهتمامَ الإنسان المتعلّم والمثقّف والمبدع. وكما اجتهد المبدعُ اليهودي في أنْ يصوّرَ هذه العلاقة، مثله فعَل المبدع العربي.

معظم الروايات والقصص التي صدرت حتى أواسط السبعينات من القرن العشرين بالعبرية، وكتبها مبدعون يهود، وتناولت العلاقة بين الشعبين العربي واليهودي، صوّرت العربي، على الغالب، مخلوقا مرفوضا، لا يؤتَمنُ جانبُه، غدّارا، غشّاشا، جبانا، كسولا، غير مُتقن لعمله، مُرائيا، مُخادعا. بينما التي صدرت بالعربية في نفس السنوات، وكتبها مبدعون عرب، قدّمت العربي على صورتين مختلفتين: الانسان الضعيف المطارَد الفاقد لحقوقه غير الضامن لحياته ومستقبله، وبالمقابل العربي المتحدّي لشظف الحياة وظلم الحاكم، والواثق بانتصاره وتحقيق حلمه وبناء مستقبله الذي يريد.

اهتمّ المبدع العربي أنْ يصوّرَ الواقعَ البائس للإنسان العربي، ومدى ظلم وقسوة الحاكم ورجاله، والصّلف والتّعالي في التعامل مع العربي. ولم يلتفت إلى الجانب الفكري الأيديولوجي في الصراع والمواجهة بين الشعبين. وكانت روايةُ سميح القاسم "إلى الجحيم أيّها الليلَك " (1977) هي المواجهة الفكرية الأولى التي عرضَ فيها وجهتَي النظر للصّراع بين الشعبين لكلّ من اليهود والعرب. وتابع ذلك في "الصورة الأخيرة في الألبوم" (1980) وبعدها في "ملعقة سمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" (2011).

اختراق الجانب المعيش اليومي للإنسان تفرضه الحياة والمصالح المتبادلة والحاجات الضروريّة، لكنّ الصّعوبة والصّلابة تظلّ في الجانب الفكري الأيديولوجي، حيث تؤكّد الأيديولوجية الصهيونيّة حقّ اليهودي الكامل واللاقابل للنّقاش في امتلاك فلسطين، وبالمقابل تؤكّد الأيديولوجية العربية للعرب ومنظمة التحرير الفلسطينيّة أنّ فلسطين أرضٌ عربيّة وشعبَها العربي الفلسطيني هو صاحبُها الشّرعي الوحيد. انتصارُ الحركة الصهيونية عام 1948 وإقامةُ دولة إسرائيل، وبالمقابل هزيمة الجيوش العربية وطَرد وتَهجير معظم الشعب العربي الفلسطيني حسَمَ الصّراع لصالح فكر الحركة الصهيونية والشعب اليهودي ولكنه لم يُنْهه، وظلّت المواجهاتُ والحروبُ هي التي تُحَدّدُ العلاقات بينهما.

سميح القاسم في رواياته الثلاث السيرذاتية واجَهَ هذا التّحدّي الفكري، بطرح وجهتَي النظر المتناقضتين بكلّ الحدّة، وجَعلَ شخصيّاته تتناقشُ وتتحاورُ وتتنافرُ وتتلاقى. "كل يوم تقريبا نلتقي (كُنّا نلتقي) في "كسيت" منذ ساعات الغروب الأولى، نتحاور ونتناحر، في السياسة غالبا إن لم يكن دائما، نحتدّ، نصرخ، نتشاتم، ترتجف المقاعد والموائد، تشرئب الأعناق الفضوليّة التي يطوّقها الملل كحزام الكلب، ربطات عنق من الملل، نظّارات من الملل، صَلعات من الملل، وشَعر طويل من الملل، وماكسي وميني وشوارب ولحى من الملل.. خواء، الكل خواء، خواء ينظر إليك ببرود صاعق، يتدخّل بعضُ الأصدقاء في الوقت المناسب، وتُقرّ الأطرافُ المعنيّة اتّفاقيّة وقف إطلاق الكلمات الجارحة" (إلى الجحيم أيّها ص53). الليلك وقد تمّ اختراق حاجز الرّفض في الجانب اليهودي من خلال التعاون والتّلاقي بين قوى اليسار في الشعبين ، وخاصّة مَن انتسبوا إلى الحزب الشيوعي أو المقرّبين منهم. ولأنّه يُدرك صعوبة الحوار والنقاش ومجرّد التلاقي، اختار أنْ تكونَ المرأة وسيلتَه لكَسْر هذه المواقف المتصلّبة. فالمرأة منذ وُجدَت وستبقى تتميّز عن الرجل وتفضُله برقّتها وحساسيّتها وعواطفها وإنسانيّتها وتفهمها للآخر، واندفاعها لمدّ يد العَوْن ومُساعدة المحتاج الضعيف، وتقدير مواقفه، والاستماع إلى شكواه، والتّعاطف معه.

واختيار المرأة لتكون الوسيلة الأسهل للتّواصل مع الآخر، والنافذة المشَرّعة لاحتضان الغريب، كانت جسرَ التّواصل بين الشعوب وتقاربها وتعاونها، وقد تكون سببَ التّنافر والعداء والحروب، منذ بداية الحياة البشرية. وقد قالت العرب: "كونْ نْسيب ولا تكون ابنْ عمّ" للتدليل على أهميّة العلاقة التي تخلقها المرأة بوَصْلها بين أهلها وزوجها وأهل زوجها. ولو عدنا إلى بداية انفتاحنا على الحضارة الغربية والفكر الغربي في العصر الحديث لوَجَدْنا أنّ للمرأة كان القسط الكبير في هذا الانفتاح والتبادل الثقافي والحضاري. وقد صوّر مبدعونا الأوائل الذين سافروا طلبا للمعرفة والعلم هذه العلاقات الحميمة التي كانت لهم في الغرب وأمريكا. ولو عدنا للروايات السيرذاتية التي كتبها بعض مبدعينا مثل يحيى حقي "قنديل أم هاشم" وتوفيق الحكيم "عصفور من الشرق" وطه حسين "أديب" وسهيل إدريس "الحي اللاتيني" والطيّب صالح "موسم الهجرة إلى الشّمال" وعبد الرحمن منيف "قصّة حبّ مجوسيّة" لوَقَفنا على أهميّة دور المرأة وخصوصيّتها في هذا التواصل المبارك ما بين الشعوب المختلفة.

هذا صحيح أيضا في العلاقات بين أبناء الشعبين العربي الفلسطيني واليهودي في البلاد. فكم من قصّة حبّ كانت، وكم من زواج تَمّ بين شاب عربي وفتاة يهوديّة وبالعكس على مَدار التاريخ الطويل وفي العقود التي سبقت نكبة الشعب الفلسطيني عام 1948. وكان من الطبيعي أن يستمرّ هذا التواصل بعد النكبة، وأن تكون المرأة هي جسر التواصل، رغم حالة العداء والكراهيّة والاقتتال، بين الشعبين. فانفتاحُ المجتمع اليهودي، خاصّة بكل ما يتعلّق بالمرأة وحريّتها الذّاتيّة، مُقابل تَحكّم العادات والتقاليد في المجتمع العربي، دفعت بالشاب العربي إلى التقرّب من الفتاة اليهوديّة ونَسج قصص الحبّ والعلاقات حتى الزواج نتيجة لوَعْي الفتاة اليهوديّة، بحُكم وجودها في مجتمع منفتح اجتماعيّا وعلميّا وثقافيّا، مجتمع عاش في أوروبا أو أمريكا ونَقل الحضارةَ الغربية معه بمجيئه إلى البلاد، وكوّنَ مجتمعا غربيّا حضاريّا منفتحا على الغير.

السنوات القليلة التي تلت عام النكبة وإقامة دولة إسرائيل وطرد وتشريد وتهجير معظم أبناء الشعب الفلسطيني خلقت حالات من الكراهيّة والعداء والشكّ والبُعد بين أبناء الشعبين في البلاد، لكن حاجات الحياة اليومية والمشاركة المفروضة بحكم الواقع الجديد استدعت تجاوز الكثير من العَوائق وخَلق نوع من التّقارب والتّعاون، ليس بين أبناء الشعبين العاديين فقط، خاصّة في المدن المشتركة ومواقع السَّكَن القريبة من بعضها، وإنما في العلاقات بين أبناء الطبقات الأخرى المثقفة والمتعلّمة. ولم يعد غريبا أن نسمع عن علاقة حميمة بين فتاة يهوديّة وشابّ عربي. يستغرب الكثيرون من المثقفين العرب قصصَ الحبّ العنيفة التي ربطت شاعرَينا المرحومين راشد حسين ومحمود درويش وشاعرنا سميح القاسم بفتيات يهوديّات، حتى أنّ الكثيرين يردّدون بحماس مع مارسيل خليفة قصيدة محمود درويش "بين ريتا وعيوني بندقيّة" ولا تُمحى مَلامح الاستغراب، ويظلّ التساؤل يعذّبهم: كيف؟ ولماذا؟ ولا يجدون الجوابَ ولن يجدوه.

فراشد حسين الذي عاش معظم أيّام شبابه في البلاد في مدينة تل أبيب بحُكم عمله في صحافة حزب "مبام" العربية: "المرصاد" ومجلة "الفجر" كانت علاقاته الأكثر مع المجتمع اليهودي اليساري المنفتح على العرب . وكان من الطبيعي أن يقيم العلاقات المختلفة. وقد اشتهرت قصة حبّه مع "آنAnn" الفتاة اليهوديّة الأمريكيّة، زوج أحد ضباط الجيش الإسرائيلي، وتعذّب راشد بحبّه لهذه الامرأة المتزوّجة. وبعد أن اختلفت Ann مع زوجها وتركته، غادرت البلاد إلى الولايات المتحدة. وفي شهر كانون الثاني عام 1966 وصل راشد حسين إلى نيويورك ومن ثمّ إلى كولومبوس أوهايو ليلقى Annحيث كانت تدرس في جامعة أوهايو. وأصابته حالة من العصبيّة والانهيار بسبب نتائج حرب حزيران 1967، وانهيار الجيوش العربية أمام الجيش الإسرائيلي، واحتلال كامل الوطن الفلسطيني وأجزاء من مصر وسوريا . وكانت Ann» المرأة التي رافقته محنته وخفّفت عنه وقع صدمة الهزيمة، وفي 21 أكتوبر 1967عقد قرانه على . Ann وعندما ضاقت به الولايات المتحدة قرّر عام 1972 تركها للبحث له عن سَكن في وطن عربي. لكن Ann رفضت السفر معه. هكذا بدأ الخلاف والتّباعد بينهما حتى انفصلا في نيسان 1972 فعانى راشد من أزمة نفسية شديدة كان من الصعب التغلّب عليها رافقته حتى يومه الأخير مساء يوم الثلاثاء 1 شباط 1977 حيث وُجد ميّتا في غرفته الواقعة في جزيرة مانهاتن – نيويورك، "قصة حب وزواج راشد حسين وAnn وردت بتفاصيلها في كتاب الدكتور حسني محمود "راشد حسين الشاعر من الرومانسيّة إلى الواقعيّة". الوكالة العربية للتوزيع والنشر. الزرقاء الأردن 1984ص63-82.)

أما قصة حبّ محمود درويش لـ"ريتا" التي خلّدها بثلاث قصائد من روائع قصائد الحبّ في الشعر العربي، فتعود لسنوات الستينات الأولى من القرن العشرين، حيث كان محمود درويش وسميح القاسم يسكنان في مدينة حيفا بحكم عملهما في صحافة الحزب الشيوعي. وكان من المفروض عَرض المادّة المعَدّة للنشر على الرّقابة العسكريّة. ولكَوْن سميح ومحمود شابَّين في مُقتبل العمر كانا يأخذان المادّة إلى مكاتب الرّقابة العسكريّة لعرضها والموافقة عليها للنشر. في هذه المكاتب كانت تعمل مُجنّدات شابات في عمر الورد، وكان من الطبيعي أن تتولّد المعرفة والصداقة بين كل من سميح ومحمود وهذه الجندية الجميلة أو تلك، ممّا كان يُتيح للعديد من المواد أن تُنْشَر دون تَشدّد الرقابة، الأمر الذي كان يُغيظ المسؤولين في الرّقابة العسكريّة، وفي كثير من الحالات يكون العقاب نَقل الجنديّة المسؤولة من مكان عملها وترحيلها، ممّا يُسَبّبُ الحزن للشاعرين الشابين ويشحذهما للاستعداد للقاء الجنديّة الجديدة وبداية قصة جديدة.

وكانت "ريتا" واسمها الحقيقي "إيريت" هذه الجنديّة الحسناء الجميلة التي تعرّف عليها محمود في مكاتب الرقابة العسكريّة، وأحبّها وعاش معها أجمل قصّة حبّ، وخلّدها بثلاث قصائد يُردّد اسمَها ملايين العرب مع الفنان مارسيل خليفة وهم يُردّدون "بين ريتا وعيوني بندقيّة". وكما أحبّ "ريتا – إيريت" وكتب فيها أجمل الكلمات، أحبّ محمود فتاة يهوديّة أخرى، عضوة في الحزب الشيوعي الإسرائيلي اسمها "تمار" كانت كتلة من الأنوثة والحُسْن.

أمّا سميح القاسم فقد كتب قصص حبّه للعديد من الفتيات اليهوديات مثل روتي ونوريت في رواياته السيرذاتية وفي الكثير من قصائده المختلفة، فتيات أحبَبْنه بصدق، وعاش معهن أجمل قصص الحب وأسعد الأيام. وعندما كتب رواياته التي هي سيرة ذاتية من عدة أجزاء اختار بطلة رواياته بدقّة وذكاء لتكون مركز الحَدَث وتطوّراته، فتاة عرَفَها وعايَشها، فتاة متعلّمة مثقّفة لها مكانَتُها وتأثيرُها في الوسط الذي تعيش فيه وتنتمي إليه. فتاة ترفضُ التّقوقعَ في ذاتها، منفتحة على الآخر، ترغب في التعرّف عليه وسماع آرائه، وتُناقشه وتُحاول التوصّل إلى التّفاهم على عكس مواقف الرجل المتصلّب الرافض الكاره الذي يرفض كلّ إمْكانيّة للتّفاهم والتّواصل. ورغم الكثير من المشترك بين بطلات روايات سميح القاسم إلّا أنّه اهتم أن يأتي بنماذج متمايزة، ويقتصر على العدد القليل.

إيلانة في رواية "إلى الجحيم أيّها الليلك" طالبة جامعية تدرس في كلية طبّ الأسنان، تعرّف عليها الشاعر في مقهى كاسيت في تل أبيب.

روت زوجة جنرال ومسؤول أمني كبير.

روتي في رواية "الصورة الأخيرة في الألبوم" طالبة في جامعة تل أبيب والدها ضابط كبير في الجيش مهمته ملاحقة الفدائيين الفلسطينيين وقتلهم.

وفي رواية "ملعقة سم صغيرة ثلاث مرّات يوميا" نتعرّف على:

نوريت طالبة تدرس في الجامعة، مثقفة فنانة والدها قتل في معسكر الإبادة في أوشفيتس على يد الألمان، ووالدتها طبيبة.

مريام والدة نوريت طبيبة تحب ابنتها نوريت وتعمل على حمايتها.

ليئة امرأة جميلة في الأربعين من العمر.

السيدة بيركوفتش أرملة عجوز فقدت زوجها في حرب 1948 وهاجر ابنها الوحيد وبناتها الثلاث إلى أمريكا وظلت وحيدة.

إيلانة في "إلى الجحيم أيّها الليلك".
 طالبة جامعيّة سنة أولى في كليّة طب الأسنان، جميلة جدا تشدّ اهتمامَ كلّ الحضور، ممتلئة حيويّة ومَرَحا. كانت وصديقها أوري أنجح ثنائي في المدينة، يجتمعان مع شلّة من الأصدقاء كل مساء في مقهى كسيت في تل أبيب يتحدثون ويضحكون ويتبادلون النكات والمداعبات اللطيفة. لكن كل شيء تغيّر بعد حرب حزيران 1967، فقد عاد الجميع من ساحات الحرب، ليلتقوا من جديد في مقهى "كسيت" إلّا أوري، فقد قُتل في الحرب. وخيّم الحزن والصمت والوجوم على الجميع، ولم تعُد إيلانة تلك الوردة المتفتّحة الباسمة، فجلّلها الحزنُ وصدمتها الفاجعة ولم تُصدّق بأنّ أوري قُتل ولن تراه ثانية.كانت تأتي كلّ مساء في السابعة تماما لتبحث عن أوري، وتعود أدراجَها صامتة حزينة. ظهور إيلانة كلّ مساء في الوقت المحدّد، وتبادلها البسمة السّاحرة مع النادل، ثم انصرافها بهدوء شدّ انتباه بطل الليلك "سميح"، وجعله يحسد النادل ويطلب منه أن يؤمّن له لقاء مع إيلانة، وبالفعل يتمّ اللقاء، ولكن إيلانة تظل بالنسبة لسميح الحلمَ العَصيّ على الإمساك به. ترفض كلّ المحاولات والإغراءات وتتشبّث بحبيبها أوري.

إيلانة المتشبّثة بحبيبها أوري أدركت أخيرا أنّ الذي قتل أوري هو وزير دفاعها وليس سميح، وأنّ التفاهم والتعايش مع سميح وأبناء شعبه ممكن، ووجودها يسمح بوجود "دنيا"، والبلاد تتّسع للجميع. فعندما أوقف أوري التاكسي التي كانت تُقلّ سميح وحسَن من تل أبيب إلى حيفا وطلب من سميح أن ينزل من السيارة بعد أن تعرّف عليه قصْدَ قَتله، كانت إيلانة هي التي دافعت عن سميح وطالبت أوري بإطلاق سراحه. «أنا في طرف من الكرة الأرضيّة. إيلانة وأوري وحاجز الشرطة في طرف آخر. خندقان في أشدّ حالات المُجابهة والمسابقة نحو الحَسم. العالم يتحرّك. الكرة الأرضيّة بما فيها وعليها .. الكواكب السيّارة بما فيها وعليها.. الكون كلّه يتحرّك..  يبدو أنّ إيلانة هي الأخرى تتحرّك.. وشيء ما يتحرّك داخل عقلها وروحها.. فجأة التفتت أيلانة نحو أوري بحدّة واضحة، ثمّ شَحنَت وجهَها سمة من اللين وهي تُحاور صديقَها وشريكها أوري:

- أوري.. دع هذا الشاب يذهب. لم يكن هو الذي قتلك..  الذي قتلك هو وزيرُ دفاعنا، والذي قتلك هو .. رصاصتُك! نَكّس رشّاشَك يا أوري وأخل سبيلَ هذا الشاب. إنّه يبحث عن حبيبته دنيا التي فقدها بلا ذنب وبلا منطق. ما ذنبه هو؟ وما ذنب دنياه؟ ليس من حقّنا أنْ نُحَمّلَ الآخرين تَبَعات جريمة لم يرتكبوها.. ليس الآخرون هم الجحيم بالضرورة.. قد نكون نحن جحيمَ أنفسنا! دَعْه ينطلق في سبيله.

وعندما أصرّ أوري قائلا:

- إنّ لقاءه بدنيا يَعني فرافقَنا نحن، فهل هذا ما تُريدين؟

ردّت إيلانة :

لماذا لا نفكّر في وسيلة تجمعهما دون أنْ تُفرّقنا؟

وتصدّى أوري بعنف:

- إنّ هذا الرشّاش يُجيدُ التفكيرَ أكثر منك..  إنّك لا تُدركين أبعادَ لسانك وهواجسك!

سقط جهاز الووكي توكي من يدي إيلانة وهي تتحدّى أوري:

- ويْلٌ لنا ما دُمنا نترك للفولاذ القاتل أن يُفكّر من أجلنا..  إنني خائفة يا أوري، ولن أُخفي عنك مخاوفي.. يُخيّلُ إليّ أنّ لقاءنا لن يستتبّ، ولن يدوم ما لم يلتق هذا الشاب بحبيبته دنيا.»(إلى الجحيم أيّها الليلك ص100-101).

إيلانة رغم حبّها لأوري، وحزنها بسبب قتله في الحرب، ورغم كونها جنديّة في الجيش وجزءً من الآلة القتالية إلّا أنّها بحسّها الإنساني الأنثوي رفضت القتلَ والظلم، واقتنعت بإمكانيّة التّعايش مع الغير، ولم تُخْف موقفَها، ودافعت عنه، وحَذّرت من مَغبّة التّعامي عن الواقع.

لكنها ظلّت، نتيجة للتربية والجوّ العدائي، حَذرَةً في تعاملها مع العربي (سميح)، واقتصرت في حديثها معه على اللازم من الكلام ورفضت التّوسّع.

- ماذا تشربين؟

- أشربُ حليبا باردا، إذا كان طازجا، ما عدا الحليب، كلّ شيء يُزعج قرحتي.

واعتَقدَ أنّه وجَد الثّغرة في كلامها ليَجرّها نحوه، حيث أنّه مثلها يُعاني من قرحته

- أترين؟ إنّ بيننا شبها كبيرا. أنا أيضا أحمل قرحة، غير أنّني أعترفُ بأنّ قرحتك أجمل بكثير.

وكانت ذكيّة وحاسمَة في صَدّه بقولها:

- أوري جميل جدّا.

ولم يستسلم

- هل تُمارسين نشاطا معيّنا، أو مجرّد هواية معيّنة؟

فأجابته مذكّرة إيّاه بحبيبها أوري

- هو جميل جدّا.

واعتقد أنّ النجاح سيكون في كلام الشعر والأدب فقال:

- أحبّ أن تتعرّفي على شيء من قصائدي. لعلّ صديقنا العزيز أخبرك بأنّني أكتبُ الشّعرَ.

فصدّته بجوابها الحادّ

- لم تطلب لي بعد كأسا من الحليب البارد، إذا كان طازجا.

ولمّا حاول استغلال حبّها لأوري بادّعائه رؤيته ومحادثته قالت:

- تستطيع أن تراه. لكنّك لن تعرفَ أيّ إنسان هو. حتى تعرف الإنسان ينبغي أن تعيشَه. أنتَ لم تعش أوري ولا وزير الدّفاع عاشه. أنا وحدي عشتُ أوري وأنا وحدي أعرفه. (إلى الجحيم أيّها الليلك ص63-64)

 القطيعة التي حدثت بين بطل الليلك وإيلانه نتيجة لاستحالة اللقاء، وعدم توافق الزمن بينهما. فالسابعة مساء عند إيلانه غيرها عند بطل الليلك. وهذا يدل على نقص في مركبّات اللقاء الكامل ليتمّ التوافق وتوفّر إمكانيّات العيش المشترك بوئام وتفاهم. فغياب أوري حبيب إيلانه وغياب دنيا حبيبة بطل الليلك يمنع اكتمال اللقاء ويمنع توفّر كل متطلباته، فيبقى الانقطاع والبُعْد والشّك والخوف وعدم الثقة واحتمال وقوع الخلافات والمصادمات والمواجهات، وحتى سقوط الجرحى والقتلى من الطّرفين. لهذا كانت إيلانة حادّة وصادقة في حَسم موقفها من محاولات بطل الليلك التقرّب منها والتأثير على عواطفها ساعة التقاها في مقهى كاسيت في تل أبيب، وكذلك في مواجهتها لأوري بالحقيقة عندما اعترض طريق بطل الليلك قَصْد مَنْعه من مُتابعة السّفر ورغبته في قتله.(إلى الجحم أيّها الليلك ص 101-102) وكانت بالتأكيد صادقة في موقفها المتفهّم للعربي، ورغبتها الصادقة في انهاء النزاع والعيش معا.

روت
ومثل إيلانه كانت روت صديقة بطل الليلك التي خاطرت بنَقله في سيّارتها الخصوصيّة من حيفا إلى تل أبيب ليلتقي المثقفين ويُلقي الشعر ويُحاور ويشرح مواقفَه متحدّية بذلك قوانين الحاكم العسكري المتشدّدة رغم كونها زوجة وزير الدّفاع، لكنها كانت امرأة مثقفة، لها رؤيتُها المغايرة، مستقلّة الرأي، قويّة الشخصيّة، وصاحبة موقف سياسي مُغاير بالنسبة لقضيّة النزاع الفلسطيني الإسرائيلي.

السيّدتان من تل أبيب

على النقيض من إيلانة الرافضة لأيّ علاقة مع بطل الليلك رغم تفهمها لقضيته ومواقفه، واستعدادها للعيش معه، نلتقي بسيّدتين يهوديتين ليس للسياسة والخلاف القومي أيّ أثر على رغبتهما في إقامة علاقة حميمة مع بطل الليلك العربي:

الأولى التي حدّدت له علاقتها به بقولها: "تُريد أنْ تعيش؟ إذن يجب أنْ تنام في منزلي" (إلى الجحيم أيّها الليلك ص23) ويعترف أنّ ما ربطه بهذه المرأة "كالوريات قليلة وأن قُوته كفاف يومه كان الآصرة الوحيدة بينه وبينها" (إلى الجحيم أيّها الليلك ص23) والتي كما يصفها هبطت على المدينة من مكان لا يعرفه أحد. البعض يقول إنّها جاءت بصورة سرّيّة كأنهّا بضاعة مُهرّبة، وإنّها جاءت بثروة طائلة موروثة، والبعض زعم أنها هبطت على أرضنا من كوكب آخر بعيد. ويعترف أنّه كان مضطرا للتقيّد بشروطها، وكما قال: "كنتُ بحاجة إلى الخبز ولم تبخل عليّ القحبة العجوز بفتات من ثروتها الطائلة." (إلى الجحيم أيّها الليلك ص23)، وقد رضي أن يعيش مصلوبا على هذه الخطيئة الدّامية لأنّه كان يرى "أنّ حقّه الطبيعي في كسرة خبز وَضيعة تُمَكّنَه من مواصلة التّنفس والحلم" (إلى الجحيم أيّها الليلك ص23)

الثانية تعرّف عليها في بيت المرأة الأولى أثناء الاحتفال بعيد ميلادها، سيّدة مرموقة وناضجة وجميلة وقويّة الشخصيّة ولها ابنة وولدان وزوج حقير يُسرع نحو لقب مليونير. وقد التقاها في مناسبات عديدة، وها هو يلتقيها اليوم. فجأة تقفُ على الرّصيف المقابل وتنتظر الشّارة الضوئيّة الخضراء، ويعترضها داعيا إيّاها لشرب القهوة معا في منزله. وكان اللقاء الذي انتظره وأراده. (إلى الجحيم أيّها الليلك 23-28)

روتي بطلة رواية (الصورة الأخيرة في الألبوم):
اختلفت روتي في "الصورة الأخيرة في الألبوم"عن إيلانة في "إلى الجحيم أيّها الليلك" بأنّها لم تكتفِ بالمعارضة وطرح موقفها المغاير ومُحاولة أقناع الرّجل بمواقفها الصّائبة، وإنّما اختارت تجاهل رجلها (والدها في الرواية) وقرّرت العمل دون استئذان أحد. فقد سارعت لتعود إلى المطعم الذي يعمل فيه أمير الشاب العربي، لتستوضح حقيقة ما تفوّه به من كلام جارح في وجه والدها الجنرال الكبير، وحقيقة حَمْله للقب الماجستر في العلوم السياسية من الجامعة وهو العامل البسيط في المطعم. فكونها طالبة في جامعة تل أبيب يدفعها للتحقّق من الكلام وألّا تستبق النتائج، وعندما سألها صديق أمير في المطعم عمّا تُريده منه متوجّسا من رغبتها في الانتقام لإهانته والدها قالت له بطيبة وهدوء:

- اسمع، إنّه إنسان جامعيّ وأنا طالبة جامعيّة. يجب أنْ نكون أسمى من الشّارع قليلا. أريد مُصالحتَه.

وعندما حضر أمير وسألها عن هدف زيارتها للمطعم ثانية قالت بهدوء:

- اسمي روتي.. أنا طالبة جامعيّة مثلك، أدرسُ الآداب هنا في تل أبيب .. لستُ ضالعة في شوون السياسة. لكنني تضايقتُ جدّا ممّا حدث أمس، وأريدُ تنقيةَ الجوّ.

فردّ بسرعة: ما حدث أمس يا آنسة ليس مسألة سياسيّة. بل مسألة اجتماعيّة إنسانيّة.مسألة سلوك وأخلاق ليس أكثر.

فأجابته بعُمق ورَويّة:

- أأنتَ تقول ذلك؟ بل هي مسألة سياسيّة قبل كلّ شيء. أنا التي لا أفهمُ في السياسة ألاحظُ هذه الحقيقة وأنتَ لا تُلاحظها؟ لعلّكَ تتجاهلها. إنّكَ تُواصلُ اللعبة ولن نتوصّلُ بذلك إلى شيء. قلتُ إنّني إريدُ تنقية الجوّ وأنا أعي أنّ هذا الجوّ الذي يحتاج إلى تنقية قائم بين ضابط يهودي هو والدي وبين شاب عربي، أنتَ. ليست المسألة مسألة خلاف عَرضي بين مواطنين ألا توافقني في ذلك؟

وشرحت الهدف من زيارتها :

- الحقيقة أنّني لم أفكّرُ في أكثر من مقابلة إنسانيّة بين إنسانين متحضّرين. (الصورة الأخيرة في الألبوم ص36-39)

وخلال شربهما القهوة معا، صارحته روتي أنّها لم تُصدّق كلّ ما سمعت منه، لأنّها سمعت وقرأت الكثير عن حياة العرب الجيّدة في البلاد مقارنة مع عرب الدول المجاورة، ولهذا تُريده أنْ يصدقَها القول. واجتهد أمير في جوابه لإقناعها بخطأ ما تقول، وأنّ الواقع غير ما سمعت، وأنّ الإعلام الرسمي يُزيّف الحقائق.

وتعدّدت اللقاءات بين روتي وأمير وبدأت بوادرُ قصّة حبّ تتكوّن. وكانت مفاجأة أمير بطلب روتي منه أنْ يأخذها لزيارة أسرته وبلدته. وبالفعل تمّت الزيارة وتعرّفت روتي على واقع حياة العربي في بلدته وقريته، وعادت إلي بيتها في تل أبيب تحملُ الهموم كلّها وتُحاول استيعابَ الحقائق بكلّ قسوتها. وأخذت روتي تبتعد عن صديقها يورم، واتّفقت وإيّاه على إنْهاء العلاقة بينهما، وصارحت والديها بالحقيقة ولكنّها أخفَت عن والديها ما تحمله من مَيْل وحُبّ تجاه أمير. ثمّ كانت نهاية القصة بمَقتل علي شقيق أمير بعد فشله في الحياة وإقدامه على تَرْك البلاد، أثناء محاولته قطع الحدود في طريقه لإحدى الدول العربية، قُتل على يد أفراد الفرقة العسكريّة التي يقودها والد روتي. وتُصاب روتي بالصدمة عندما ترى صورة علي في الصحيفة، وتنهار أعصابها وتفقد توازنها فيدخلونها إلى المستشفى.  وتكون النهاية التراجيديّة العنيفة بنَزْعها لصورتها من بطاقة هويّتها ووضعها في ألبوم والدها الذي يجمع فيه صوَرَ الفدائيين الفلسطينيين الذين يقتلهم على الحدود وهي تقول له بكل الألم والاتّهام:

- لتكن.. هذه.. الصورة.. الأخيرة.. في الألبوم! (الصورة الأخيرة في الألبوم ص98).

تُمثّل روتي مرحلة متطوّرة في موقف اليهودي من العربي في البلاد، ورغم أنّ هذا التطوّر بدا فقط من قبل المرأة اليهوديّة بينما الرّجل ظلّ على موقفه العدائي الرّافض لكل علاقة مع العربي، إلّا أنّه تطوّر مهم ويؤكّد على إمكانيّة اختراق قلاع الكراهيّة التي بناها وحصّنها أبناء الشعب اليهوديّ. إيلانة بطلة (إلى الجحيم أيّها الليلك) في موقفها الحذر المتّزن كانت واعية للمرحلة الدقيقة من الصراع العربي الإسرائيلي، فألزَمَت نفسَها أن تُحافظ على مسافة ما بينها وبين العربي، ورفضت كلّ محاولات بطل "الليلك" للتقرّب منها والدنوّ من عالمها الخاصّ رغم اعترافها بحقّه في الحياة الكريمة ونَيْل الحقوق المتساوية، وإيمانها بإمكانيّة الحياة المشتركة بين الشعبين، وأنّه لا يُمكن لأحدهما أن يعيش على حساب الآخر وإلغائه. روتي بطلة "الصورة الأخيرة في الألبوم" كانت أكثر جرأة ومُخاطرة وإصْرارا على معرفة الحقائق من مصدرها. لقد فوجئت وصُدمت ممّا سمعته من أمير، وممّا شهدته من تصرّف والدها الاستعلائي القاسي معه، وفي الوقت نفسه شدّها إلى معرفة الحقيقة أنْ وَجَدت أمامها شابا متعلّما يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسيّة يعمل نادلا في مطعم بدل أن يعمل في الجامعة أو في وزارة من الوزارات الحكوميّة، شابا متعلّما جريئا لا يخاف والدها الجنرال الكبير، قاتل العشرات من الفدائيين الفلسطينيين. تَجاوُزُ روتي لكلّ مراحل التردّد والحذر والخوف التي اعترضت إيلانه، جعلها لا تُرهق نفسَها في مناقشة والدها الجنرال الذي اعتاد على القتل، ويتفاخر به، وينال بسببه الأوسمة والتقدّم في درجات الارتقاء، فهي متأكّدة من عبَثيّة مثل هذه النّقاشات وما يمكن أنْ تُقيّدها وتُكبّلها في قيود من الممنوعات والمحذورات والمستحيلات. روتي كانت حاسمة وشجاعة في اتّخاذ مواقفها وقراراتها ومستعجلة في الوصول إلى الحقائق، وكشف زيف الوهم الكبير الذي عيّشوها فيه سنوات طويلة، لكنها صُدمَت في النهاية ولم تستطع مواجهة الواقع المعيش أكثر. فقد أدركت أنّ واقعَ العداء والكراهيّة أكبر منْ أنْ تتحمّله، وأنّ كلّ محاولاتها ذهبت هباء، فوحدَها التي ترى الحقيقة وتَعيها وتريد تحقيقها بينما كلّ مَن يُحيط بها في البيت والشارع وحتى الجامعة يرفض أفكارَها ويستغربُ أعمالَها ويستنكرها ويرفضها، وقد يُعاقبها عليها. ولهذا ليس أمامها إلّا الانسحاب من بين هؤلاء، وتَرك الحياة التي تمقتُها وترفضها لهم، لعلّها تجدُ راحتَها في عالم الأموات حيث الرّاحة الأبديّة. لكنّها، حتى في لحظة الموت أعلنت موقفها الرّافض لتصرّف والدها وإدانتها لكل ما يعمل، وذلك بانتزاعها لصورتها من بطاقة هويّتها ووضعها في ألبوم والدها الذي يجمع فيه صور الفدائيين الفلسطينيين الذين يقتلهم.

تَعدّد وتَنوّع النساء في (ملعقة سُمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا):
يرصد الشاعر سميح القاسم في سيرذاتيّته الثالثة "ملعقة سمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" بداية تهدّم حواجز الكراهيّة والفصل والانقطاع والرّفض والتنكّر ما بين الشعبين العربي واليهودي. وكان في "إلى الجحيم أيّها الليلك" قد لمس الخَدش الذي تركته إيلانة بمحاولتها إيجاد لغة تفاهم، ولو بنَزْر قليل، بين الخصمين اللدودين بطل الليلك وصديقها أوري، بينما نراه في "الصورة الأخيرة في الألبوم" يشهد الانشطار الكبير الذي صنعته روتي في حاجز الكراهية والحقد، وتحدّت الكل بعلاقتها الحميمة والعميقة مع أمير الشاب العربي، متفهمة لمواقفه، ومتعاطفة معه في كل قضاياه، ومُضحيّة بنفسها في سبيل نُصرة موقفها الملتزم جانب الحق العربي الفلسطيني ضدّ ظلم أبناء الشعب اليهودي للعربي، المتجسّد في قَتْل والدها وأفراد كتيبته العسكرية للفدائيين الفلسطينيين وعلي شقيق أمير صديقها وأثيرها. ويكون الرّصد البانورامي للهَدم الجذري والمتواصل والمتعاظم لحواجز الحقد والكراهيّة والقطيعة التي بناها أبناء الشعب اليهودي تجاه العربي في "ملعقة سم صغيرة ثلاث مرّات يوميّا".

تتعدّد الشخصيات اليهوديّة الذكوريّة والأنثويّة التي تتخلّص من كراهيّتها للعربي، وتكون على استعداد للتعاون والعيش معه والقبول به شريكا في صنع المستقبل المشترك. "أدْرَكَ جيراني العرب واليهود في شارع "المتنبي" الحيفاوي، أنّني أبادلهم مَودّة بمَودّة واحتراما باحترام. وحتى حين يُعبّر جيراني اليهود في الشقّة الأولى من الدور الثاني في العمارة التي أسكنها، عن شيء من الرّيبة إزائي، وإزاء بعض ضيوفي، فهم يفعلون ذلك بميزان دقيق من الحيطة والحذر، وبقدر ملحوظ من الرّقيّ والتماسك. ثمّ إنّ بعضَهم لم يتردّدوا في محاولة التقرّبَ منّي، والتودّد إليّ، ربّما في سَعْي بريء منهم لاكتشاف المَزيد من هويّتي، ولإدراك هذا الكائن الطّارئ على بيــئتهم، وربّما لاتّخاذ موقف منّي، مُدعَم بالشّواهد والأدلّة واالبراهين الرّاسخة" (ملعقة سم صغيرة ص 5-6) وأصبحت شخصيّة الشرطي الذي يأتي ليعتقل الشاب العربي مرفوضة ومُدانة من قبل اليهودي أيضا، وكذلك شخصيّة اليهودي الذي يرفض العيش أو العمل مع العربي. وأصبحت الحوارات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي يُشارك فيها عرب ويهود اعتيادية. (ملعقة سم صغيرة ص12-15)، وأخذت تتكوّن علاقات وصداقات وحتى قصص حب بين أبناء الشعبين.

ولو وقفنا عند الشخصيّات النسائيّة في "ملعقة سمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" لوجدناها إيجابيّة في معظمها، وقابلة للمشاركة والتعاون، وحتى العيش المشترك، وإنْ كان بدرجات متفاوتة. فالسيّدة ليئة مثلا، الأربعينيّة المُعتدلة القامة، والمكتنزة بعض الشيء، والجميلة بعينيها الشهلاوين القلقتين وشعرها الأجعَد والناعم في آن. قرعت بابي في الدور الثالث، ذات صباح، لتسألني عمّا إذا كانت الريح قد حملت إلى شرفتي (في الدور الثالث!) ، قطعة من غسيلها المنشور على شرفتها (في الدور الثاني!). ويُتابع واصفا تطوّر علاقته بليئة التي جاءته بحجة مكشوفة للتقرّب منه. "لم أجد، طبعا، قطعة غسيلها الليلي على شرفتي، لكنها قبلت بلطف دعوتي الجريئة لها لتشرب فنجان قهوة في شقّتي الغريبة عليها. قالت بشيء من الإرتباك:

- أنا أحبّ قهوتكم التركيّة، برائحة الهال الطيّبة.

قلت: القهوة عربيّة الأصل سيّدتي.

وطالت الجلسة بينهما، وتحدّثا في أمور مختلفة، القهوة كانت مَدخلا لحديث متشعّب، في السياسة والاقتصاد والمجتمع والفن. وكانت جلسة التعارف هذه موفّقة، وكانت تمهيدا جيّدا للقاءات أخرى خارج حدود القهوة والحرب والسلام. ويصف مغادرتها لغرفته: شكرتني السيّدة ليئة على حُسن الضيافة، بلطف وبأنوثة ممتعة، وحين غادرتني هابطة الدّرج إلى شقّتها، فقد تركت بين راحتيّ نعومة أصابعها المُشبعة بالشهوة الساخنة. (ملعقة سم صغيرة ص5-7). وكرّرت السيّدة "ليئة" سؤالها المثير عمّا إذا كانت ريح الليل قد حملت قطعة غسيلها، من شرفتها في الدور الثاني، إلي شرفتي في الدور الثالث. كرّرت هذا السؤال المثير والجميل والمُغري أكثر من مرّة.. وفي كل مرّة كانت تودّعني بشغف، غير مكترثة بقطعة غسيلها المفقودة، ولم يدُر بخلدي أبدا أنْ ألفتَ نظرَها إلى إمكانيّة سقوط قطعة غسيلها إلى الشرفة الموازية في الدور الأول. لستُ من الحُمق بحيث أرتكبُ خطيئة كهذه" (ملعقة سم صغيرة ص25)

علاقة ليئة بمأمون عبد الرحمن تطوّرت لتتجاوز مودّة وصداقة الجيران وأبناء الحي الواحد لتتفاعل وتتجاذب، وتلتقي في لقاءات عشق وحب ومُضاجعة كسرت كلّ الحواجز ومَحت كلّ الفَوارق. لكن هذه العلاقة انتهت بعد اعتقال مأمون عبد الرحمن وسجنه، وبعد عودته لغرفته لم تُهنّئه السيدة ليئة بسلامة العودة، ولم تسأله عن قطعة غسيلها الضائعة، حتى أنّها لم تردّ على تحيّة الصباح، وقطعت كل علاقة به لربما بتأثير من رجال الشرطة والمخابرات. (ملعقة سم صغيرة ص29)

بيركوفيتش الأرملة العجوز - الإنسانة الرّائعة
تنوّعت الشخصيّات النسائيّة اليهوديّة اللاتي تعرّفنا عليهنّ في روايات سميح القاسم الثلاث، وكلّ منهنّ تمتلك ميزة مختلفة عن الأخرى، تمثّل شريحة ما في المجتمع الإسرائيلي. وتشير إلى تَغيّر في عقليّة وتوجّه اليهوديّ نحو العربي. فليئة التي تقرّبت من مأمون عبد الرحمن بطل "ملعقة سم صغيرة" ليس تفهّما لقضيّته، وتعاطفا مع مواقفه، وإنّما رغبة في الفوز به كمُشبع لرغبتها الجنسية ليس أكثر. كانت هي المبادرة للتقرّب منه واللقاء به، ولكنها سرعان ما تركته عندما اعتقلته الشرطة وحُكم عليه بالسجن بتهمة التحريض والعداء للدولة، وفي هذا تلتقي بمواقف وتصرّفات المرأتين اليهوديّتين اللتين عرّفنا بطل "إلى الجحيم أيّها الليلك" عليهما، وانحصرت علاقته بهما في العلاقة الجنسية فقط.

ونلتقي في "ملعقة سمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" بشخصيّة مميّزة بمشاعرها الإنسانيّة وصدق مواقفها، هي السيّدة بيركوفيتش الأرملة العجوز، التي فقدت زوجَها في حرب 1948، وبقيت وحيدة بعد هجرة أولادها إلى أمريكا. هذه المرأة العجوز التي تدبّ على عصا البامبوك في خروجها إلى الدكان وعودتها إلى بيتها كانت صريحة وواضحة من البداية مع مأمون عبد الرحمن بقولها:

- اسمع يا بنيّ. اتصلوا بي وحذّروني من تأجير الشّقّة لعربيّ، لكنني وبّخْتُهم. كنتُ قد عرفتُ مَن أنتَ وما عملك. وامتدحَكَ أمامي عوديد..  بالمناسبة فقد أصبح مُخرجا مُعتمَدا في المسرح..  إلى جانب عمله الأصلي كممثل. وتابعت بمنتهى الصراحة:

-قلتُ لهم: ماذا تُريدون من هؤلاء العرب بعد كلّ ما فعلناه بهم؟ ألَمْ نأخذ أرضَهم بقوّة السلاح؟ ألم نطرد الآلاف منهم خارجَ البلاد؟ والآن تُريدونني ألّا أؤجّر شقّة في داري لصحفيّ محترم منهم. ما معنى هذا التصرّف؟ ألا يُذكّرنا ببعض مُعاناتنا نحن في أوروبا؟

واستمرّت بكلامها الصادق الخارج من القلب النظيف البريء:

أنا فقدتُ زوجي في الحرب معهم، لكنني لا أستطيع قضاء حياتي أو ما تبقى منها، في اتّهامهم ولومهم.. إنّها الحرب وويلاتها. فقدنا أَحبّة لنا، وهم أيضا فقدوا أحبّة لهم، هذا كلّ ما في الأمر. كفّوا عن شرّ هذه الثرثرة العنصريّة. أنا يهمّني سلوك الإنسان، قبل قوميّته ودينه ولونه ولغته.. يهمّني سلوكه، وهذا المستأجر يبدو لي مناسبا جدّا. دعوني وشأني. (ملعقة سم صغيرة ص57-58)

وتتجلّى إنسانيّة السيّدة بيركوفيتش في المشهد الإنساني حين عاد بطل ملعقة سم صغيرة مأمون عبد الرحمن من رحلته إلى موسكو وفوجئ بالسيّدة بيركوفيتش تجلس في الكافيتيريا وتشرب الكابوتشينو عندما قالت له:

- أنا لا أنام جيّدا منذ ليلتين. منذ جاءت تلك الشّابّة التي اسمها نادية. أعتقد أنّها عربيّة. كانت شديدة التوتّر وهي تسأل عنك.. وحين قلتُ لها إنّك ما زلتَ مسافرا فقد بكت. بكت بحرقة وهي تقول أنّها ستنتحر. ستنتحر إنْ هي لم تنجح في ترتيب أمورها معك.. ثم انصرفت غاضبة دون أنْ تضيفَ شيئا. وقَلقتُ يا مأمون. قلقتُ جدّا عليك وعليها. ما قصّة تلك الفتاة المُهدّدة بالانتحار؟ لم أرها عندك من قبل. ولا أظنّ أنّها صديقة حميمة لديك. ما حكايتها يا ابني؟ لقد أخافتني. أخافتني كثيرا. وبعد أن شرح لها قصّة نادية وهدّأ روعها قالت له:

- هيّا إلى المنزل. سأعطيك مفتاح شقّتك. وبعد أنْ ترتاح تذهب إلى تلك الفتاة لتُطَيّب خاطرها. لا أريدُ لأحَد أنْ ينتحرَ. أنتم شبّان هذا العصر لا تُطاقون. حقّا لا تُطاقون. (ملعقة سم صغيرة ص71-74)

وهي التي تصدّت لرجال الشرطة عندما جاءوا لاعتقاله:

- كفّوا عن مُضايقة هذا الإنسان. لم يفعل شيئا سيّئا. إذا أجرمَ فحاكموه. أمّا أنْ تُصادروا حرّيتَه بهذه السّهولة وفي أيّ وقت تشاؤون، فتلك مسألة لا يجوز السّكوت عنها. إنّها إهانة لي أنا أيضا. ولكلّ النّاس الذين يُريدون الحياة بسلام وأمْن. (ملعقة سم صغيرة ص 82)

هذه الشخصيّة الإنسانيّة تمثّل الجوانب الطيّبة البريئة العفَويّة في الإنسان، وتؤكّد أن الصّفات الخيّرة توجد لدى الكثير من الناس في كل الشعوب. وهي تعطينا صورة صادقة عن هذه الشريحة الطيّبة من الشعب اليهودي التي ترفض استمراريّة حالة الحرب والعداء بين الشعبين، وتصبو إلى حياة تَعاون وتَفاهم وحياة مشتركة.

الدكتورة مريام
نوريت صديقة مأمون عبد الرحمن بطل "ملعقة سم صغيرة" هي التي تروي قصّة أمّها الدكتورة مريام:

- أمّي تظلّ عُرضة لنوبات عصبيّة حادّة، منذ فقدت زوجها. أبي. في معسكر الإبادة أوشفتس. هربت بي إلى هُنا في العام 1944،كنتُ في السنة الأولى من عمري ولا أعي شيئا. رفضت أمّي الزواج بعد رحيل والدي. وأصرّت على الانتقام من موته بحياتها لأجلي أنا. هي مولعة بالموسيقى الكلاسيكيّة. أصدقائي وصديقاتي موضع ريبة عندها. دائما. لا تكفّ عن القلق والمساءلة. وتصرّ على أنني لو تزوّجتُ، ذات يوم، فلن أغادر منزلها، وسأكون مضطرة للسكنى معها، أنا وزوجي وما يُتاح لنا من ذرية. إنّها تحرمني مشاهدة الأفلام التي تُعرَض في أوقات متأخّرة من الليل، وتحرمني السّهرات الصّاخبة التي أحبّ. لقد حزنت أمّي كثيرا في حياتها. حزنت من أجل أبي، ومن أجل أقربائها وأصدقائها المفقودين، ومن أجلي ومن أجل عهد حياتنا الأوّل في بولنده. ما زالت أمّي تحبّ بولنده، ما زالت تحنّ إلى مدنها وأريافها ولغتها وفولكلورها وثقافتها. إنّها في الحقيقة بولنديّة مُبعدة قسرا عن وطنها، أكثر منها إسرائيليّة. هي من ضحايا النازيّة الذين لم تُدمّر الكراهيّة نفوسَهم، فهي لا تكره أحدا، ولا تُحبّ أحدا، كأنّما تلاشت في روحها مَعاني الحبّ والكراهيّة، وكأنّما حَيّدَت المأساة كثيرا من أحاسيسها. فهي لا تكرهكم أنتم العرب.. لم أسمع منها سوى بعض الشكاوى ممّا يُسمّيه الإعلام مُمارساتكم الإرهابيّة، حين أطلق أحد المسؤولين اتّهامات لكم نعتكم فيها بالنازيّين، فقد غضبت أمّي صارخة:

- لا. لا تقُل مثل هذا الكلام، نحن والفلسطينيون ضحايا النّازيّة. لا لا أريدُ الاستماع إلى مثل هذا الهراء، ولا أقبل تحويل محرقتنا الرّهيبة إلى مَزاد عَلَني أو مُناقصة سريّة في الأمور السياسيّة.

وهي لم تُبد كثيرا من الدّهشة حين أخبرتها بأنّني مدعوّة إلى الغداء مع صحفيّ عربيّ معروف. وقالت إنّها لم تُقابل صحفيّا عربيا في حياتها، ولم تعرف من العرب سوى الجنائني الذي اشتغل في حديقتنا. ولم تعترض حين اقترحتُ عليها دعوتك إلى بيتنا، للتعارف على فنجان قهوة. (ملعقة سم صغيرة ص86-90). كان اللقاء الأوّل بين مأمون عبد الرحمن والدكتورة مريام والدة نوريت بعد عودته من باريس وحديثه مع نوريت وإخبارها بالإرهاق الذي يشعر به، حيث فاجأته نوريت بالزيارة مصطحبة أمّها معها لمعالجته، وكانت نتيجة الفحص مُطَمْئنة وقد قامت الدكتورة مريام بدعوة مأمون لزيارتهم بقولها:

- بعد غد تُكمل نوريت عامها الرابع والعشرين. وتكون قد أنهت كل وظائفها للحصول على اللقب الأوّل في موضوع التاريخ والشرق الأوسط.. وهي تستحقّ حفلة عائليّة حميميّة جيّدة. سنكون ثلاثتنا فحسب، أنت ونوريت وأنا. سنحتفل ونتحدّث. سأستمع إليك فقد شوّقتني نوريت إلى آرائك. بعد احتفالنا الخاص تستطيعان متابعة الاحتفال مع أصدقائكما حيث تشاءان. المهم أوّلا هو الاحتفال عندي في البيت. سنلتقي في الساعة السابعة مساء. (ملعقة سم صغيرة ص111-112)

وكان اللقاء في السابعة مساء في بيت والدة نوريت كما أرادت، اللقاء الذي كشف المأساة التي تعيشها الدكتورة مريام، والتناقضات والاضطرابات النفسية التي تضغط عليها نتيجة لما عانته في حياتها، من مقتل زوجها على يد النازيّين في معسكر أوشفيتس، وفقدانها لأقاربها، وهرَبها وحيدة مع ابنتها نوريت، علّها تجد الأمان في هذه البلاد. وقرّرت أن تعيش من أجل ابنتها، فرفضت عروض الزواج، وكرّست حياتها لرعاية ابنتها الصغيرة . لكنها لم تشعر بالرّاحة والأمان، وظلّت تشعر بالغربة، وتحنّ إلى وطنها بولندة الذي عاشت فيه مع زوجها، وتشتاق لكل المواقع التي عرفتها. وأكثر ما كان يُقلقها خوفها على ابنتها الصغيرة التي آلت على نفسها ألّا تتركها وألّا تسمحَ لأحد أنْ يأخذها منها، وحتى لو تزوّجت ستُبقيها مقيمة معها وترعاها وأولادها. (ملعقة سم صغيرة ص88)

نوريت كانت في استقبال مأمون عبد الرحمن عندما وصل في السابعة مساء إلى بيت الدكتورة مريام. كان استقبالها له حميميّا دافئا عاطفيّا مشحونا بكل مشاعر الحبّ. دَلفا يدا بيد إلى غرفة الصالون، ثم كان الجلوس إلى المائدة. الدكتورة مريام على رأس الطاولة، إلى يمينها نوريت، ومأمون على يسارها. وبعد أن قال مأمون كلمته التي شكر فيها الدكتورة مريام على دعوتها، وهنّأ نوريت بعيد ميلادها، وشربوا معا نخب هذا اليوم الجميل، واستعدّوا لتَقسيم الكعكة، فطنت مريام إلى أنّها نسيت السكين في المطبخ، وقامت لإحضارها. استغلت نوريت الفرصة لتمسك بأصابع مأمون وتُقبّلها بوَجْد وبنَهم، ولتُفلتها بمجرّد احساسها بعودة والدتها من المطبخ. (ملعقة سم صغيرة ص117) ويصف مأمون المشهد المثير غير المعقول الذي حدث، وكشف عن المأساة الحقيقيّة لوالدة نوريت:

- فجأة نشَبَت نوريت واقفة، مادّة ذراعَيْها، كأنّما لتحضنني، وهي تصرخ: أمّي ماذا تفعلين؟ لا يا أمّي.. لا!

-كانت الدكتورة مريام مُمْسكة بالسكين الكبيرة بكلتا يديها المرفوعتين فوق رأسها، وتهمّ بطعني وهي ترتجف بشكل هستيريّ.

خاطبتُها بحَذَر، باسطا كفيّ نحوها:

- إهدإي يا دكتورة مريام. إهدإي رجاء، سأفعل ما تُريدين. سأُغادر بيتك! إنْ كان حضوري يُزعجك. فقط. إهدإي يا سيّدتي، وكل شيء سيكون على ما يُرام.. نحن نحتفل بعيد ميلاد نوريت، ابنتك وحبيبتك نوريت.. نحتفل بعيد ميلادها.. ولا مبرّر لغضبك، حسنا إهدإي. أعطيني السّكين. وسينتهي كل شيء على خير.

تجمّدت الدكتورة مريام في مكانها، وراحت تنقل نظرات عينيها الجاحظتين، بيني وبين نوريت المنتحبة بذعر ويأس، جاثية على ركبتيها بين يدي والدتها التّعيسة.. ثمّ جأرت السيّدة مريام ببكاء ليس كالبكاء.. سقطت السكين من بين يديها.. انحنت لتضم ابنتَها نوريت بيمناها، وأشارت إليّ بأنْ أقترب.. لم أتردّد. دنوتُ منها بشيء من الحذر، طبعا، لكنّها ضمّت جسدي المتوتّر إليها، وأجهشت ببكاء جنونيّ متلجلج الصوت.. بلّلت دموعُها ياقة قميصي وشَعْر نوريت، ثمّ انهارت بين أيدينا مثل جثّة منطفئة، فحملناها إلى سريرها، وهرعت نوريت إلى التلفون لاستدعاء طبيب العائلة. (ملعقة سم صغيرة ص811-119)، وكانت نهاية الدكتورة مريام دخولها إلى مستشفى الأمراض النّفسيّة.

نوريت
ابنة الدكتورة مريام، والدها قُتل على يد النازيين في معسكر الإبادة أوشفتس وهي لا تزال طفلة، وبالكاد تَذكُر صورة وجهه. هربت بها أمها من بولندة بعد فقدانها لزوجها وأقاربها، وأقامت في البلاد.

نوريت طالبة تدرس في جامعة تل أبيب، وتعيش مع أمّها التي تُعاملها بصَرامة، وتُراقب حركاتها وعلاقاتها، وتخاف أن يأتي اليوم الذي تفقدها فيه، هي التي كرّست كلّ حياتها لابنتها، ورفضت الزواج والابتعاد عنها، وكانت تعلن دائما بأن نوريت إذا تزوجت ستُقيم وزوجها معها وتعتني بأولادهم كما اعتنت بنوريت. تعرّف مأمون بطل "ملعقة سمّ صغيرة.." على نوريت بعد زيارتها له وعوديد صديق الإثنين. بعد أيّام اتصلت به نوريت لتطمئن عليه وتقول:

- أرى أنّ عوديد يُحبّك ويحترمك كثيرا. حدّثني عنك بإعجاب. ونقل إليّ انطباعك عنّي. وشجّعني على الاتّصال بك. قال إنّني سأكون رابحة إذا توطّدت علاقتنا، فما رأيك في رهانه هذا؟

وأجابها مأمون بفرح واضح:

- أعتقد أنّ الرّبح، إذا كان هناك من مربَح، سيكون في اتّجاهين. وأرى أنْ نُناقشَ هذه الأحجية على وجبة غداء. (ملعقة سم صغيرة ص84)

واجتمعا على وجبة الغداء. وحاولت أنْ تمنعه من التدخين عندما أخرج علبة السجائر وأراد اشعال القدّاحة:

 - التدخين يضرّ بصحّتك يا مأمون، وهو يضرّ بصحّة مَن يُجاورونك بأثر ما يُسمّى التدخين السّلْبي .. اقلع عن التّدخين قبل فوات الأوان. جرّب الرّياضة والتجوال في البرّيّة، سآخذك اليوم في رحلة وعريّة على جبل الكرمل. كنتُ طفلة يوم أخذتني أمّي إلى رحلة بريّة على جبل الكرمل. (ملعقة سم صغيرة 85).

 وكان اللقاء الجميل الحميمي يوم اتصلت به نوريت ودعاها لتأتي إليه في غرفته ليذهبا معا لمشاهدة مسرحية جديدة لعوديد. وقبل الساعة الحادية عشرة ليلا بقليل كانوا قد فرغوا من مشاهدة المسرحيّة والنقاش حولها. ولبّى الجميع دعوة زوجة عوديد لاستكمال السهرة في "بيانوبار"حيث يستضيفون عازف بيانو إيطاليّا سيُقدّم عرضا خاصّا. ولأن والدة نوريت ترفض بقاءها خارج البيت بعد منتصف الليل، فقد قامت إيلانة، زوجة عوديد، بالتحدّث مع الدكتورة مريام وإخبارها بأنّ نوريت ستكون ضيفتها هذه الليلة. ونجحت وَساطةُ إيلانة. وفرَك عوديد كفّيْه، علامة على الرّضا، لكنّ مأمون كان أكثر فرحا وسارع ليستبق عوديد بقوله:

- لا يا عوديد، لا داعي لأن يسيلَ لعابُك. نوريت ضيفتي أنا هذه الليلة- من بعد إذن إيلانة- طبعا.

وابتسمت إيلانة وفهمت ما يرمي إليه فقالت:

- حقّا يا مأمون، ستكون نوريت ضيفتك هذه الليلة- إذا كانت هي راغبة في ذلك، ولا شكّ لديّ في أنّها راغبة- أمّا صاحبك هذا فلا يُؤتمن جانبُه. إذا كيف أسمح لشابّة جميلة مثل نوريت بأنْ تبيت في منزلي؟ كيف أئتمن الفأرَ على الجبنة؟ قد يظنني صاحبُك هذا غبيّة أو ساذجة، لكنّه مخطئ تماما، فأنا لا أسمحُ باللعب بأعواد الكبريت المشتعلة، في جوار صفائح البنزين! (ملعقة سم صغيرة ص94-96)

وكانت السهرة في "بيانو بار" جميلة جدا، رقص فيها مأمون مع نوريت رقصة التانغو الحالمة والمفعمة بالشهوة. (ملعقة سم صغيرة ص98)

عند مدخل العمارة التي يسكنها مأمون وَدّعا عوديد وإيلانة، ودَلفا إلى غرفته بخفّة وسرعة حتى لا يوقظا السيدة بيركوفيتش. وكانت ليلة ليلاء شهدت رقصة الفالس والحبّ والأحلام والشوق والشّبَق والجنس على إيقاع الموسيقى. وفي هذَيان الشّهوة وطقوس الجسد، ارتفع أنين البينوني الرّائع في حزنه المدهش في صدق إبداعه .. وتداخلت في المشهد رائحةُ الشّمع الذائب، مع الجسَدَين العاريَين الممتلئين بنعمة الله وجمال الشّهوة المباركة. لكنّ الفرحة لم تكتمل، قرع جرسُ الباب وتلت رنّة الجرس خبطة على الباب بقبضة اليد وصوت يقول:

- الشرطة افتح الباب.

وهكذا سيق مأمون ونوريت إلى مركز الشرطة للتحقيق المستفزّ وتعييرها بصداقة العرب. (ملعقة سم صغيرة ص 98-102)

وكانت زيارة نوريت الأخيرة إلى مأمون يوم عاد من رحلته إلى باريس، حيث زارته وأمّها الدكتورة مريام لمعاينته بعد أن أخبرها أنه متوعك صحيّا، وفي هذه الزيارة دعته الدكتورة مريام لحضور الاحتفال بيوم ميلاد نوريت الرابع والعشرين. وحضر مأمون في الموعد المحدّد، واستقبلته نوريت بفَرح غامر، ودخلا يدا بيد ليجلسا حول المائدة المُعدّة للاحتفال. وقال كلمة أثنى فيها على الدكتورة مريام وعبّر عن سعادته وفرحته بالتعرّف على هذه الأسرة الكريمة وخَتَمها بكلمات:

- واسمحا لي الآن بأنْ أشربَ نَخبا مزدوجا. نخب الأميرة نوريت في عيدها المُبارك، ونخب السيّدة الدكتورة مريام، منبع هذه البهجة الإنسانيّة الرّائعة!

وتبادلوا الأنخاب مناوبة .. وأنشدوا هابي بيرث دي تو يو.

وجاء دور الكعكة، ونهضت الدكتورة مريام لإحضار السكين من المطبخ، لكن فجأة. نشبَت نوريت واقفة، مادّة ذراعيها، كأنّما لتحضن مأمون وهي تصرخ:

- أمّي! ماذا تفعلين؟ لا أمّي .. لا!

التفتَ مأمون إلى الوراء، بحركة سريعة زحزحَ الكرسيّ الثقيل الذي كان يجلسُ عليه، ليجدَ نفسَه في مواجهة المَشهد الرّهيب الذي لن ينساه ما عاش. كانت الدكتورة مريام ممسكة بالسّكين الكبيرة بكلتا يديها المرفوعتين فوق رأسها، وتهمّ بطعن مأمون وهي ترتجف بشكل هستيريّ.

واجتهد مأمون في تهدئتها باسطا كفّيه نحوها:

- إهدأي يا دكتورة مريام. إهدأي رجاء. سأفعل ما تُريدين. سأغادر بيتك، إنْ كان حضوري يُزعجك. فقط، إهدأي يا سيّدتي، وكلّ شيء سيكون على ما يُرام. (ملعقة سم صغيرة ص118)

وبينما كان مأمون يُتابع خطوات الدكتورة مريام ودبيبها بين الممرضتين الممسكتين بذراعيها برفق إلى غرفتها في مستشفى الأمراض النفسيّة أحسّ بثقل جسد نوريت على ساعدَيه، وكيف كادت تنهار بين يديه. فقال لها برفق وحبّ :

-  يجب أنْ تكوني قويّة، إنّها بحاجة إليك الآن أكثر من أيّ وقت مضى.. وأنا بحاجة لأن تكوني قويّة. لا تنسي أنني معك وإلى جانبك يا نوريت. نحن في مركب واحد، وما يُصيبك يصيبني. (ملعقة سم صغيرة ص120-121)

وتوطّدت علاقة مأمون بنوريت أكثر، وداوَما على زيارة والدتها في المستشفى، وتابعت نوريت طريقها النضالي المواجه لكل مظاهر التعصّب والعنصرية بين أبناء الشعب اليهودي، وكانت تُواجه الكثيرين بكلماتها الواضحة القويّة دفاعا عن حقّ العربي في الحياة الكريمة ونَيْل حقوقه كاملة. وكانت المفاجأة الكبرى في اليوم الثالث لاعتقال مأمون عندما اقترب منه أحد السّجّانين قائلا بصَرامة:

- مأمون رخمن، تعال معي. أنت مطلوب لدى مدير السجن.

وما كاد يدخل إلى غرفة مكتب مدير السجن حتى بادره أحدهم بتجهّم جليّ للعيان:

- هل تعرف شابّة يهوديّة اسمها نوريت نفتالي؟

واستمر التحقيق مع مأمون حول علاقته بنوريت بعض الوقت حتى فاجأه المحقق بقوله:

- صديقتك هذه، ورفيقتك في التنظيم السّرّيّ، رصدت رتلا من الدّبابات المتدرّبة، جنوبي حيفا، على المشاركة في عَرض عيد الاستقلال. وحين واتتها الفرصة، عبّأت سيّارتها بصفائح البنزين، وانطلقت بسرعة جنونيّة نحو رتل الدّبّابات، حتى اصطدمت بواحدة منها وحوّلتها إلى كتلة من نار. احترقت الدبّابة، واحترقت سيّارة صديقتك. واحترقت صديقتك أيضا.

وتابع المحقق بحقد واضح:

- هذا ما فعَلتْهُ بها أفكارُك الشّرّيرة ومخطّطاتك الجهنّميّة. لقد نجوتَ منّا عدّة مرّات في السّابق، أمّا اليوم، فلا نجاةَ لك، أنتَ جَنّدتَها. وأنتَ ورّطتها. وأنتَ قتلتَها!

للحظات شلّت جسد مأمون ضربة الصاعقة. وعَقَد لسانَه الذّهول. ولم يتمالك نفسَه وقال مُتحدّيا المحقّق:

- أنا لا أصدّق. لا أصدّق كلمة ممّا تقول عن نوريت. لا. لا أصدّق. وأنا لستُ إرهابيّا. ونوريت ليست إرهابيّة. نحن ضحايا الإرهاب. أنتم قتلتم نوريت صديقتي وحبيبتي المسكينة، وتستطيعون قتلي الآن.

وبتحدّ وصوت أعلى سألَ المحقّقَ:

- لماذا قتلتم نوريت؟ نوريت فكّرت وحلمت. هذه هي خطيئتها الوحيدة.. نوريت حلمت وأحبّت. هذه هي جريمتها في قاموس عدالتكم.. فافعلوا برمادها ما تشاؤون. وافعلوا برمادي ما تشاؤون. ليكن لكم ذلك. إنّما إلى حين فحسب. ألم تسمعوا بعنقاء الرّماد العربيّة؟ ستنطلق من رمادي عنقاء جديدة.. وستكون معي وإلى جانبي عنقاء أخرى من رماد حبيبتي نوريت.. نوريت الإنسانة الإنسانة التي حوّلتم حياتها إلى جحيم، وحكمتم بإعدامها يوم حكمتم بإعدام روحي وجسدي وانتمائي. (ملعقة سم صغيرة ص132-137)

أيّة فتيات هنّ فتيات روايات سميح القاسم؟

نستطيع توزيع هذه الشخصيّات النسائيّة على أربع مجموعات تُمثّل كلّ منها قطاعا واسعا من النساء، لعب دورا مهمّا في التغييرات والتحوّلات التي طرأت على علاقة الشعب اليهودي في البلاد مع الشعب العربي.

المجموعة الأولى المتمثلة في شخصية السيّدتين من تل أبيب في "إلى الجحيم أيّها الليلك" المصَوّرة لقطاع واسع من عامّة الناس البسطاء البعيدين عن الهموم والمشاغل السياسية، والملتفتين فقط إلى حياتهم اليوميّة، والرّاغبين في اقتناص كل لحظة للبهجة والمتعة والفرح. فمثل هؤلاء لا يهمّهم ما دين وقوميّة مُسبّب الفرح والبَهجة والسعادة؟ وإنّما تهمّهم البَهجة والسعادة والفرح ونسيان كل مشاغل الحياة. مثل هذه المجموعات الواسعة البسيطة الراغبة في الحياة هي التي ساهمت في كَسْر حواجز الفصل وأسوار العداء ما بين الشعبين، وعملت على التّلاقي والتّعاون والعمل المشترك ونَسْج قصص الحبّ، وحتى الزواج الفعلي.

المجموعة الثانية التي تنتمي إليها ليئة في رواية "ملعقة سمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا". وليئة كالمجموعة التي تمثلها قريبة جدا من المجموعة السابقة التي تُمثّلها السيّدتان من تل أبيب، لكنها تختلف عنها في عدائيّتها للعرب وتأثّرها بالتحريض ضدّهم، واتّخاذ القرار الحاسم بسرعة ودون تفكير. وينتمي أفراد هذه المجموعة في أغلبيّتم لليهود الشرقيين الذين قدموا من الدول العربية، والمغرب حصرا، الذين نجحت آلاتُ التّحريض ضدّ العرب والعداء لهم أنْ تجدَ لها تقبّلا عندهم بسب خلفيّتم الماضيّة والجَهل الذي سيطر عليهم، ورغبتهم في التّشَبّه والذّوبان في اليهود الأشكناز الغربيين، والإثبات لهم أنّهم أكثر إخلاصا وحبّا للدولة العبرية، وأكثر عداءا وكراهيّة لأعدائها. مع رغبة دَفينة في التخلّص من الشعور بالنقص والذنب، حملوه معهم من ماضيهم وانتمائهم لبلاد عربية وإسلاميّة تُعادي دولتهم إسرائيل.

هذا الشعور بالذنب والنقص لم يظهر عند المجموعات التي تمثّلها السيّدتان من تل أبيب في "إلى الجحيم أيّها الليلك" بسبب كونهم من الأشكناز الأرقى، الآتين من البلاد الأوروبيّة وأميركا، فهم أكثر علما وثقافة واعتدادا. لهذا وجدنا ليئة التي فرضت نفسها على مأمون عبد الرحمن في "ملعقة سم صغيرة" وضاجعته برغبتها الحرّة، تُسارع لقطع كلّ علاقة معه بمجرّد أن رأت الشرطة تعتقله وتتّهمه بالعداء للدولة، بينما السيدتان من تل أبيب في "إلى الجحيم أيّها الليلك" لم تسألا ولم تهتما بانتمائه الديني والقومي ومارستا معه الحبّ بشغف ورغبة وفرح.

المجموعة الثالثة وتتوزّع على شرائحَ تُمثّلها كلّ من السيّدة روت والسيدة بيركوفيتش والدكتورة مريام. أفراد هذه المجموعة من اليهود الأشكناز الغربيين الذين عاشوا في أوروبا، وتركوها إلى فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية والجرائم التي ارتكبها الألمان بحقّ الشعب اليهودي. هذه المجموعة التي أتت إلى البلاد للإقامة فيها، وبعضها حارب ضدّ العرب عام 1948 ولكنه كان يؤمن بإمكانية التعايش بين الشعبين، وأنّ للعربي الحقّ في العَيش بكرامة وحريّة ومساواة.

السيّدة روت زوجة وزير الدفاع، تُمثّل النموذج المثقف الواعي، فرغم كونها زوجة وزير الحرب الأكثر شهرة في حروب إسرائيل ضد العرب، إلّا أنّها كانت تختلف معه في الرؤية السياسية، وتُؤمن بإمكانيّة الحياة بين الشعبين، ولهذا كانت على علاقة حسَنة مع تيّار اليسار اليهودي المقرّب من العرب، وبعلاقة وطيدة مع الشاعر سميح القاسم وغيره. وهي ليست وحيدة في موقفها هذا، وسلوكها المخالف لزوجها، فقد عرفنا الكثير من الزوجات والأولاد الذين وقفوا موقفا مغايرا ورافضا لموقف الأهل، مثل زوجة إيهود أولمرت رئيس حكومة إسرائيل التي كانت منتسبة إلى حزب "ميرتس" اليساري.

الدكتورة مريام تُمثّل الشريحةَ التي أنْكوَتْ بالمأساة التي عاشها ويعيشها أبناء الشعب اليهودي الذين ذاقوا الأمرّين من الحكم النازي، وفقَدوا العديدَ من أفراد أسرهم في الحروب ومُعسكرات الإبادة التي أقامها النازيون، وهربوا إلى فلسطين ظنّا منهم أنّهم سيجدون الأمان والرّاحة والحياة الأبديّة. ولكنهم وجدوا شعبا عليهم مُحاربته لاحتلال أرضه وإقامة دولتهم على حساب تدمير وطن هذا الشعب وتهجيره وطرده ورَمْيه على أطراف دُوَل الجوار. هذه الشريحة لم تحمل الكراهيّة للعرب حتى ولو واجهتم في ساحة القتال، وكانت على استعداد للتعايش وقبول الآخر. لكن مأساة هذه الشريحة أنّها لم تنس ما مرّ بها من خوف وقَتْل وتدمير وإبادة على يد النازيين، فعاشت في رُعْب وقلق وعدم ثقة، وخوف من المجهول، وشك في كل غريب، وخوف على سلامة كلّ فرد من أبناء الأسرة. تعيش ماضيها المُرعب وترفض تشبيه أيّ جريمة حدثت بالجريمة التي اقترفها النازيون ضدّهم. فما فعله النازيون لا يُقارَن، ولا شبيه له، وأيّ محاولة من قريب أو بعيد مرفوضة. فلا نكبة الهنود الحمر، ولا نكبة الأرمن، ولا نكبة الفلسطينيين شبيهة بنكبة الشعب اليهودي. ولهذا غضبت الدكتورة مريام وثارت عندما سمعت أحد المسؤولين الإسرائيليين يُطلق اتّهامات للعرب ويتّهمهم فيها بالنازيين وصرخت:

- لا. لا تقُل مثل هذا الكلام، نحن والفلسطينيون ضحايا النازيّة. لا.. لا أريد الاستماع إلى مثل هذا الهراء، ولا أقبل تحويل محرقتنا الرّهيبة إلى مَزاد علَنيّ أو مُناقصة سريّة في الأمور السياسيّة.

مأساة هذه الشريحة أنّها تعيش ماضيها، وتخاف مستقبلها، وتشكّ في حاضرها، وترتجف من كلّ طارئ قد يحدث لها. حريصة على إبقاء مسافة مُحدّدة من كل واحد، وليست على استعداد للتّفريط بأيّ شيء لها، وتكون على استعداد لارتكاب جريمة إذا ما شعرت بالخطر المهدّد استقرارَها وأمْنَ وهدوءَ حياتها. لهذا لم نستغرب سلوك الدكتوره مريام عندما حاولت قتل مأمون عبد الرحمن في "ملعقة سمّ صغيرة" لأنّها أحسّت أنه سيسرق منها ابنتَها التي تُحبّ، والتي بقيت لها من كل أفراد أسرتها رغم تأكيدها بصورة دائمة بأنّها لن تسمح لأحد أنْ يأخذها منها، وحتى لو تزوّجت ستُبقيها تُقيم وزوجها عندها في البيت. فمحاولة قتلها مأمون حبيب ابنتها نوريت لم تكن لكونه عربيا، بل لأنه الذي سيأخذ منها ابنتها وحيدتها نوريت.

السيّدة بيركوفتش التي سكن عندها بطل رواية "ملعقة سُمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" هي النموذج الجميل الإنساني الرائع لهذه المجموعة المثقفة الواعية من الشعب اليهودي، فهي رغم محاربتها للعرب عام 1948 إلّا أنها تتحلّى بالمشاعر الإنسانيّة وتتعامل مع العرب باحترام وترى من حقّهم العيش بحريّة وكرامة ومساواة، وتتصدّى للظلم الذي يلحق بهم، وتُواجه الحاكمَ الظالم ليرفعَ نيرَه عنهم، "قلتُ لهم: ماذا تُريدون من هؤلاء العرب بعد كل ما فعلناه بهم؟ ألمْ نأخذ أرضَهم بقوّة السّلاح؟ ألمْ نطرد الآلاف منهم خارج البلاد؟ ما معنى هذا التصرّف؟ ألا يُذَكّرنا ببعض مُعاناتنا نحن في أوروبا؟" (ملعقة سم صغيرة ص 57). ما يهمّها هو سلوك الإنسان، قبل قوميّته ودينه ولونه ولغته.

المجموعة الرّابعة وهي الممثلة للجيل الشاب من فتيات الشعب اليهودي الذي له المستقبل، ويعمل لصُنعه، لكنه يُواجه الحاضر وذكرى الماضي، ويُحاول التخلّص من كلّ المعوّقات ليُجَمّلَ حاضرَه ويصنعَ مستقبلَه الأفضل. الجيل الذي رسم لنا خارطة التّحوّلات في سلوكيّات الشعب اليهودي تجاه العرب في هذه البلاد. الجيل الذي حمَل عذابات وذنوب الآباء والأجداد، وساهم في الحروبات التي أعلنتها حكوماتُه على مَدار العشرات من السنين، قتل فيها الكثيرين وفقد من بين أفراده الكثيرين. عاش حالات الترقّب والخوف والقلق والأمل والرّغبات والأحلام البعيدة المنال ببيت صغير هادئ يحويه وزوجتَه وأولادَه بأمان وسعادة كما أرادت إيلانة بطلة "إلى الجحيم أيّها الليلك ". جيل آمن بمُسَلّمات كثيرة لقّنوه إيّاها، وعندما اهتز يقينُه، وشكّ فيها، صرّح بما يفكّر وبما يشعر، جيل واجَه الآباءَ وتحدّاهم في يقينهم ومُسلّماتهم، ورفض وواجَه وتحدّى، وعندما كان يشعرُ بفشله واستحالة تغيير القائم، اختار الانسحابَ من الساحة وإيثار الموت على الحياة مع مشاعر الذنب وثقَل هذه الذنوب غير المغفورة. جيل لم يكتف بالجَدَل والحوار والتّشكيك والمُواجهة وتفضيل الموت على الحياة، كما فعلت روتي في نهاية "الصورة الأخيرة في الألبوم". جيل لم يَعُد يقبل بالهزيمة والرّضوخ لمقولات الآباء وتقبّل مسلّماتهم التي تمحو له كلّ بارقة أمل بمستقبل جميل، وغَد تُشرق فيه الشمسُ الدّافئةُ المنعشة المحمّلةُ بالوعود الصادقة القريبة التّحقيق. جيل فشل في تَغيير الواقع وتبديل قناعات الآباء الوهميّة التي لا مكان لها في واقع اليوم، وتحرمُه من إمكانيّة الحياة الجميلة التي يحلمُ بها ويسعى لتحقيقها. جيل يَقْلبُ الموازين، ويُدمّرُ الواقعَ، ويحرقُ كلّ ما هو قائم، ولتكن عليه وعلى غيره تَبَعاتُ ما يفعل. هذا الجيل الذي تمثّله نوريت التي لم تجد ما تفعله وقد فقدت أسرتَها وبيتَها ووالدَها ووالدتَها وحبيبَها، غيرَ المواجهة بكلّ حدّتها للظالم المُستمرّ في غيّه وظلمه وغَطرسته، وغير التدمير للجميع بدون رحمة وتفكير ومُراجعة حسابات كما فعلت نوريت في آخر رواية "ملعقة سمّ صغيرة ثلاث مرّات يوميّا" حيث عبّأت سيّارتها بصفائح البنزين، وانطلقت بسرعة جنونيّة نحو رتل الدّبّابات المحتفلة باستعراض القوّة في يوم الاستقلال للشعب اليهودي، حتّى اصطدمت بواحدة منها وحوّلتها إلى كتلة من نار.

إيلانة وروتي ونوريت ثلاث طالبات في عمر الورد، يدرسن في الجامة، ويحْلُمنَ بمستقبل فرح. لا يعرفنَ الكراهيّة والحقد. الإنسان في نظرهن مَنْ يَحملُ المشاعرَ الإنسانيّة، ويُطبّقها في واقع حياته اليومي. ليس الانتماء المذهبي أو الدينيّ أو القومي هو الذي يُحَدّدُ ويُؤطّرُ الانسان، بل سلوكيّاته وعلاقاته وأفكاره. كلّ واحدة من الثلاث جسّدت مرحلة مهمّة في تطوّر العلاقات بين أبناء الشعبين العربي واليهودي في هذه البلاد.

إيلانة مثّلت جيل الستينات من الفتيات اليهوديّات اللاتي أردن كسرَ الحاجز وتجاوز الموانعَ في العلاقات ما بين الشعبين اليهودي والعربي، ولكن بطريقة الحوار والجَدَل والاقناع بَعيدا عن التّصدّي بقوّة لموقف الرّجل المتعنّت الكاره الحاقد، ورغم أنّها فشلت في رَدْع حبيبَها أوري عن المواجهة مع بطل "إلى الجحيم أيّها الليلك" إلّا أنّها نجحت في خلخلة مفاهيمه وقناعاته، وعرقلت محاولاته في التصدّي والمَنْع، وساهمت في كسْر أوّل لَبنَة في جدار الكراهيّة والحقد والعداء بين الشعبين بإصرارها على امكانيّة العيش المشترك، وأنّ لقاء بطل الليلك بحبيبته "دنيا" مُمكن مع لقاء أوري بإيلانه، ويجب التفكير في وسيلة تجمع بين الجميع. وصارحته بكلامها الواضح:

- ويْل لنا ما دُمْنا نترك للفولاذ القاتل أنْ يُفكّرَ من أجلنا.. يُخيّل إليّ أنّ لقاءنا لن يستتبَّ، ولن يدومَ ما لم يلتق هذا الشابّ بحبيبته دنيا. (إلى الجحيم أيّها الليلك ص101)

روتي كانت خطوة متقدّمة في نَسْج العلاقات بين الشعبين من خلال علاقتها العاطفيّة والفكرية مع أمير الشاب العربي. فهي لم تكتف بالجَدل والحوار ومحاولة التّفهم والاقناع، ولا بتَبَنّي آراء ومواقف الأهل الأُحاديّ الموقف، وإنّما اختارت الطريق الأصعب والصحيح بأنْ قرّرت أنْ تصل إلى الحقيقة بنفسها، فعادت إلى المقهى حيث يعمل أمير لتستمع إلى قصته، ولم تكتف بما يمكن أن يكون والدها الجنرال الكبير قد حاول حَشْوَ رأسها به من أفكار وقصص وأكاذيب. كذلك لم تأخذ كلام أمير كحقائق نهائيّة، ولكنها قرّرت السفرَ معه إلى بلدته العربية لتقف على الحقائق وتتخذ المواقف السليمة.

روتي رفضت عمليّات قتل الشباب الفلسطينيين التي يقوم بها والدُها الجنرال لأنّها ترى في الإنسان قيمة مقدّسة لا يجوز لأحد أن يضع حدّا لها. وبعد تعرّفها على أمير وزيارته في بيت ذويه قي القرية والتعرّف على أفراد أسرته، أدركت مدى الظلم الذي يحيق بالعربيّ، لكنها جبُنَت عن مفاتحة والدها بالأمر، ومحاولة ثَنْيه عن عمليّات القتل التي يُنفّذها ضدّ الفدائيين الفلسطينيين لأنّها أدركت استحالة نجاحها في التأثير عليه. وفي هذه الدوّامة من الأفكار والمواقف والواقع الظالم وعجزها عن المواجهة والإقناع، اختارت المواجهة الصامته الحادّة بأن انتزعت صورتها من بطاقة هويّتها، وثبّتتها في آخر ألبوم والدها الذي يجمع فيه صور الفدائيين الفلسطينيين الذين يقتلهم، وفارقت الحياة لعلّها تكون آخر الشهداء.

هذه النهاية التراجيديّة التي اختارتها روتي، أرادت بها أن تُسْمع صوتَها ضدّ ما يجري من قتل، وظلم وتَصرخ عاليا:

- كفى للقتل. كفى للكراهيّة والحقد. لن ينجو من تأثيراتها أحد.

وأرادت أن تكون القربانَ الأخير على مَذبح الحبّ والتّعاون والحياة المشتركة.

روتي الفتاة الجامعيّة التي اهتدت إلى طريق السعادة والحياة الأجمل كانت بموتها صرخة بنات جيلها في وجه الرجل المتعنّت الذي يرفض كل تنازل واعتراف بحق الآخر لتقول له:

- كفاكم قتلا. وكفاكم حقدا. وتعالوا لنبني مستقبلا مشتركا واحدا للجميع.

وإذا كانت إيلانة في "إلى الجحيم أيّها الليلك" قد اكتفت بمخالفة حبيبها أوري في مواقفه من العرب، وحاولت اقناعه بأهميّة أن يعيش الشعبان بمَحبّة وتعاون وحياة مشتركة، وأنقذت الشاب العربي من الموت والاعتقال، لكنها في الوقت ذاته وافقت على لقاء الشاب العربي مرّة واحدة، ورفضت أيّة علاقة معه. وإذا كانت روتي في "الصورة الأخيرة في الألبوم" قد خطت خطوات كبيرة في سبيل التعرّف على العربي وحياته الحقيقيّة في البلاد، وبحثت بنفسها عن الحقيقة، ورفضت مقولات الآباء وقصصهم عن العربي، ووصلت إلى قناعة بزيف كلام والدها، وتبَنّت آراء ومواقف أمير صديقها العربي إلى حدّ المخاطرة بعلاقتها مع والدها، ومن ثم اختيار الموت على الحياة بعد يأسها من إمكانيّة الحياة معا. فإنّ نوريت في "ملعقة سمّ صغيرة ثلاث مرات يوميا" خرجت على طاعة الكل، وتحدّتهم، واختارت دربَ المواجهة والتّحدّي، إذا كان في تقبّلها السريع لصداقة العربي، والمُبادرة في الاتّصال به وتلبية دعوته، والقبول بالمبيت عنده ومُضاجعته، ومن ثم الارتباط به في قصّة حبّ عنيف ومسيرة حياة عاصفة، متحدّية موقفَ والدتها التي تحرص عليها حرصا شديدا وترفض التفريط بها أو القبول بالابتعاد عنها، وتحدّتْ موقف المجتمع الرّافض لمثل هذه العلاقة ما بين الفتاة اليهوديّة والشابّ العربي، ومتحدّية كلّ الأجهزة الأمنيّة التي حاولت جاهدة الفصلَ بينها وبين حبيبها، وحتى محاولات التّوقيف والتّحقيقات المهينة لها لم تنجح في إبعادها عن حبيبها العربي. نوريت التي أحبّت الشاب العربي مأمون عبد الرحمن، وتبنّت قضيّتَه السياسية والوطنيّة والاجتماعيّة، ودافعت عنه، وواجهت كلّ مَن عَيّرها أو لامَها أو هاجمَها، حتى أنّها في النهاية اتّخذت قرارَها الخطير بالقيام بعمليّة استشهادية ضدّ الجُنود، أبناء جلدتها، في يوم الاحتفال بيوم الاستقلال، إيمانا منها أنّها باستشهادها تنتقم لنفسها ولأمّها ولحبيبها وللحقيقة والمبادئ التي تؤمن بها. تنتقم من الذين حرموها الحياة الهادئة السّعيدة، وحرموا أمّها الطّمأنينيّة التي بحثت عنها في البلاد ولم تجدها. وحرموا حبيبَها الفرح والأملَ، وسدّوا أمامه كلّ الطّرق والمنافذ. لقد اختارت الموت لأنّهم لم يُبقوا أمامها أيّ أمل في غد جميل، لم يبقوا أمامها غيرَ اختيار الموت.

موت روتي واستشهاد نوريت كان الضريبة الغالية التي دفعتها المرأة اليهوديّة المثقفة، الواعية، الرّافضة مواقف التعنّت والكراهية والحقد ورفض الآخر التي تمسّك بها معظم الشباب اليهودي، موتهما لم يكن لانكسار قصّة الحبّ التي عاشتها كلّ منهما مع حبيبها العربي، وإنّما لتصدّيهما لجدران الحقد والكراهيّة ورغبتهما في بناء واقع جديد يعيش فيه الجميع بحبّ وتعاون لبناء مستقبل جميل.

كان بإمكانهما التمتّع بحياتهما وحبّهما بعيدا عن الهموم والتّصادم مع الغير، ولكنّ ثقافتهما ووعيهما لدورهما في بناء المستقبل لشعبهما ووطنهما دفعهما لتكونا الحربة المتحديّة الراغبة في تغيير الواقع وصنع المستقبل البديل والأجمل. لم تقبلا التفرّد بالحياة الهانئة السعيدة وتجاهل ما يحيطهما من كراهية وعداوة وقتال كما فعلت السيّدتان من تل أبيب. ولم ترضيا التعاطف والميل وتقديم المساعدة القليلة وسط الخوف والحذر من انكشاف ما تقوم به الواحدة كما فعلت روت. ولم تكتف الواحدة بالتعاطف الانساني والتصدّي الكلامي للغير وتقديم المساعدة اللازمة كما فعلت السيدة بيركوفيتش، وإنّما اختارت المواجهة الحادّة والصدام. لقد آمنت كل منهما بدورها وبما منوط بها لخدمة شعبها وترسيخ قيَم الحب والعطاء بين أبناء الشعبين اللذين فرض عليهما أن يعيشا في وطن واحد، وكان عليهما أن تدفعا الثمن الغالي.

لقد ساهمت كلّ واحدة من الفتيات اليهوديّات اللاتي تعرّفنا عليهن في روايات سميح القاسم (كل من موقعها) في جَسْر العلاقة بين أبناء الشعبين العربي واليهودي في البلاد. وكان لهنّ الدّور الرياديّ في انفتاح المجتمع اليهودي وتقبّل الآخر إلى حَدّ كبير.