في دراسة ضافية يسلط الباحث الضوء على موضوع الهجرة. يقارب رحلة المهاجرين من الوطن إلى البقاع الأوربية، ويتناول مشاكل التربية والتعليم ومفارقات الاندماج والمعيقات التي تقف في دربه، كما ويتعرض لحيثيات سفريات المهاجرين في العطلة الصيفية وعبور اسبانيا لزيارة الأهل في المغرب.

مشاكل المهاجرين المغاربة بأوربا

فريد أمعضشو

يتوهَّم كثير من شُبّاننا في المغرب حين يرَوْن أبناء مهاجرينا في أوربا، وفي غيرها من المهاجر، خلال عطلة الصيف، التي تتوافد فيها جالياتنا بالخارج على أرض الوطن لزيارة الأهل، ولقاء الأصحاب والأحبّة، وهم يقودون سيارات سوداء مُكتراة لأجَل معلوم، بمقابل مالي، ويسرِّحون شعورهم تسريحات غريبة، ويأتون بسلوكات غير مألوفة بينهم، أنهم يعيشون هناك في "الفردوْس" عيشة خالية تماماً من المشاكل والإكراهات. الأمر الذي يؤثر فيهم أيَّما تأثير؛ فتراهم يقلدونهم في المظاهر، ولا يكفون عن الحلم بالهجرة واللَّحاق بتلك الأراضي التي أتوا منها بأي طريق؛ إذ يجدُّ بعضهم في البحث عن بنت من بنات مهاجرينا للاقتران بها، مقابل صداق باهظ وتكلفة عُرسٍ مكلفة، ابتغاءَ الوصول إلى أوربا، وتحقيق حلمهم في العيش هناك. ويُغامر كثير من شبابنا بحياتهم لتحقيق هذا الهدف نفسه؛ فيركبون "قوارب الموت"، ويُلقون بأنفسهم في مَراكبَ لا يُضمن لهم فيها أي نجاح! فمنهم من ينجو، ويحصل على عمل في البلد الذي يقصده، ويتمكن من الحصول على أوراق الإقامة فيه. ومنهم مَن يجد في انتظاره حرس السواحل المكلفين بحراسة شواطئ الجنوب الأوربي؛ فيلْقون عليهم القبض، ويُعيدونهم، خائبين، إلى أوطانهم. ومنهم مَنْ يُلاقي حتفه في عرض البحر الأبيض المتوسط! ويُنفق هؤلاء الشبّان، الذين يُقبلون على ركوب مغامرة الهجرة السرية، أموالاً في سبيل ذلك، تذهب إلى جيوب أشخاص (مافيا) ينشطون في مجال تهريب البشر إلى القارة الأوربية، من إفريقيا بالدرجة الأولى، وذلك في إطار عصابات تنتظم في شبكات يبدأ عملها بالبحث عن الراغبين في الهجرة إلى أوربا، وإغرائهم بمزايا العيش هناك، وتجميعهم تمهيداً لشَحْنهم في مراكب بسيطة، وإرسالهم في رِحْلاتٍ يُغامرون فيها بأنفسهم، حتى إذا بلغوا الضفة الجنوبية لأوربا سالمين وجدوا في استقبالهم مَنْ يوجّههم إلى حيث يقصدون، وأحياناً كثيرةً لا يجدونهم! وعليه، فإن تلك المافيا تتوزع خلاياها في دول الإرسال والعبور والاستقبال جميعاً. وتشير بعض الإحصائيات إلى أن هذه الهجرة تدرّ على تلك المافيا أكثر من 12 مليار يورو سنوياً عبرَ العالم كله.

إن الصورة التي يظهر عليها أبناء مهاجرينا هي، في واقع الأمر، بمثابة شجرةٍ تُخفي وراءها غابة ممتدة من المشاكل التي يعيشونها، ويعيشها مهاجرونا عموماً، في الأقطار الأوربية كلها. وحين تحكي لشبابنا ممَّنْ لم يهاجروا هذه الوضعية المُزرية التي يعيشها إخوانهم المهاجرون على امتداد السنة، لا يصدّقونك في الغالب! ولكن بمجرد ما تطأ أقدامُهم أوربا، إنْ أتيحت لهم الفرصة بطريقة قانونية أو بطريقة غير شرعية، يُدْركون الحقيقة المُرَّة، وزيْف المَظاهر التي انخدعوا بها، ويتمنّون لو أنهم بقوا في وطنهم الأم دون أن يخسروا الأموال التي قدّموها مُقابلاً لتهجيرهم، ودون أن يُعانوا في سبيل ذلك كثيراً!!

مما لا شك فيه أن الإنسان حين يفارق وطنه للعيش في بلاد أخرى يعاني عدة مشاكل. يقول الباحث المغربي المختار مطيع: "إن المواطن الذي يغادر وطنه وأهله وأسرته وأصدقاءه ووَسَطه الذي نشأ فيه، في اتجاه بلدٍ أجنبي عنه، يتعرض لهزّاتٍ نفسية وتفككات اجتماعية. فهناك سيُقاسي العُزلة؛ لأن المجتمع الذي سيُؤويه مجتمع مادي. والمهاجر الذي لا يعرف لغة البلد الذي سيُقيم فيه سيُواجِه مشاكل عديدة نتيجة هذا العامل، تُضاف إلى ذلك عواملُ أخرى عِرْقية وثقافية وحضارية ودينية."(1) ويجرُّنا هذا الكلامُ إلى الحديث عن أحد أبرز المشاكل التي يعانيها المهاجر المغربي في ديار المهجر الأوربي، وهي "قضية الاندماج والانعزال".

تعرِّف منظمة الهجرة الدّولية (IOM) الاندماج (Intégration) بأنه "كل ما يتعلق بعملية ذات اتجاهين للتكيُّف المتبادَل بين المهاجرين والمجتمعات المستقبِلة"(2). أو هو عملية انخراط المهاجر في مجتمع الدولة المُستقبِلة انخراطاً يُشْعره بأنه جزء منه، يتمتع بحقوق وتقع عليه واجبات، كما هو الشأن بالنسبة إلى مُواطِني تلك الدولة الأصليين تماماً. ولكن هذا الاندماج في المجتمعات الأوربية يَطرح عدة مشاكل للمهاجرين العرب والمسلمين، ومنهم مهاجرونا هناك، ولاسيما في بعض تلك المجتمعات التي تتشدَّد مع المهاجرين عموماً، وتسنّ قوانين في اتجاه تحقيق اندماجهم التام داخل نسيجها الاجتماعي والثقافي!

وينقسم الاندماح إلى عدة أنواع؛ منها الاندماج اللغويُّ، ويقتضي التمكُّن من لغة بلد الاستقبال قراءة وكتابة وتداولاً، ويعد المدخلَ الأساس لتحقيق أشكال الاندماج الأخرى. إذ "إن معرفة تلك اللغة هي أحد الشروط الحاسمة للاندماج المِهْني والاجتماعي. فكلما تمكن الإنسان أكثر من لغة البلد الذي يعيش فيه بشكل مُسْتديم، زادت فرصته للاندماج في وقت معقول. لذلك، فإنه من مصلحة المهاجرين، بل أيضاً من مصلحة الدولة المهاجَر إليها نفسها، أن يتم اكتساب اللغة تحدُّثاً وكتابة طبقاً لمعايير جودة موحّدة، وأهداف تعليمية محددة"(3). ويُقصد بالاندماج المهني الانخراط، بإيجابية، في سوق الشغل، بعد التمكن، طبعاً، من لغة البلد المستقبِل، ولن يكون ذلك إلا عبر التكوين والتدريب والتأهيل في معاهد خاصة مُنشَأة لهذا الغرض. ويخدم هذا الاندماج مصلحة الطرفين معاً؛ إذ يُيسِّر مأمورية المهاجر في الحصول على فرصة عملٍ، والقيام به على أتمّ وجْهٍ في جوٍّ من التفاهم بينه وبين المشغِّل، الذي لا يجد، تَبعاً لذلك، أدنى صعوبة في التواصل مع الأجَراء المهاجِرين لديه. ويراد بالاندماج الاجتماعي انخراط المهاجر في الحياة العامة ببلد الاستقبال الأوربي، والانفتاح على ثقافته، وتمثُل عاداته التي لا تتنافى وتقاليدَ بلده الأصلي، وذلك على نحْوٍ لا يُشعره بأنه مغترب عن ذلك المجتمع، منعزل عنه، بل يجعله يحسّ بأنه عُضو، كامل العضوية، داخل بنية المجتمع المستقبِل(4). وتبذل بعض البلدان الأوربية جهداً واضحاً في سبيل تحقيق هذا المَرْمى؛ على نحْو ما نرى في بلجيكا التي تتوفر حكومتها على قطاع وزاري يُعنى بقضية اندماج المهاجرين الأجانب، ويعمل على تسهيل انخراطهم في مجتمعها. كما سبق لها أن أطلقت عدة مبادرات في السياق نفسِه، منها مبادرة "كلنا واحد" للدعوة إلى انصهار جميع سكان بلجيكا، مواطنين أصليين وأجانب وافدين، في بُوتَقة مجتمع واحد، ودفع أيّ إحساس بوجود ميْز عنصري بين مكوِّنات ذلك المجتمع. وقد حققت هذه البادرة الحكومية نتائج إيجابية جدا انعكست آثارها على التنمية الاقتصادية ببلجيكا، وعلى تقوية نسيجها الاجتماعي، وعلى تلميع صورتها خارجياً، ولاسيما لدى دول العالم ثالثية. وتم، قبل أزيد من عام، افتتاح مركز ثقافي كبير ببروكسيل، أنجز بشراكة بين الوزارة المغربية المكلفة بالجالية والحكومة المحلية الفلامانية، أطلق عليه اسم "داركم"، يهدف إلى الإسهام الفاعل في تحقيق التلاقح الثقافي بين المغرب وبلجيكا، والحدّ من مخاطر خطاب الكراهية والعنصرية السائد في عدد من بلاد المهجر ضد المهاجرين عموماً، والمساعدة على اندماج المغاربة في تلك البلدان، وتصحيح جملة من التصورات الخاطئة عنهم لدى الإنسان الأوربي؛ حسبما صرّح به محمد عامر؛ الوزير المكلف بالجالية المغربية المُقيمة بالخارج، خلال حفل افتتاح المركز المذكور، الذي وصفه بالحدث "التاريخي"(5).

وإذا انتقلنا إلى جارتها هولندا نجد الأمرَ مختلِفاً!(6) فهي تنادي بأنْ يندمج المهاجرون الأجانب، وعددُهم فيها ينيف عن المليون نسمة أكثرُهم من الأتراك، في مجتمعها اندماجاً كاملاً، ويتمثلون ثقافتها تمثلاً مُطلقاً ليصيروا بمثابة مواطنين داخلها؛ يحملون جنسيتها، ويستفيدون من كل الامتيازات التي تخوّلها لهم. ولكن هذه الإجراءات الرامية إلى ضرْب هُويات أولئك المهاجرين لم تَجدِ التجاوُب المرجوّ لدى أغلب أولئك الأجانب، ومنهم المهاجرون المغاربة الذين يقدّر عددهم بالمهجر الهولندي بحوالي 400 ألف نسمة تقريباً. فمع تصاعُد أحزاب اليمين المتطرف بهولندا، المعروفة بعدائها للمهاجرين عامة، وتعاظُم الإكراهات التي يطرحونها على اقتصادها، لاسيما في الآونة الأخيرة التي شهدت رُكوداً اقتصادياً كبيراً، صعّدت السلطات الهولندية من تشديد الخِناق على العمالة الأجنبية، وسعت، بإلْحاحٍ، إلى دفْعهم في اتجاه الاندماج في مجتمعها، داعيةً إلى قطْع صلاتهم بأوطانهم الأصلية! الأمرُ الذي أثار حفيظة أولئك المهاجرين، ولاسيما المغاربة منهم الذين عبّروا، بمناسبة ودون مناسبة، عن رفضهم لتلك الدعوة، مؤكدين، في الوقت عينِه، تشبُّثهم العميق بهويتهم وبثوابتهم وبوطنهم الأم، معبِّرين عن استعدادهم التام لخوْض مختلِف أشكال الاحتجاج والنضال المشروع في سبيل ذلك، ولترْك الأراضي المنخفظة إنْ اقتضى الأمر ذلك، بدلَ التخلي عن أصلهم ومقدّساتهم وبلدهم الحبيب. ذلك بأن الهجرة إلى تلك البلاد، التي أمْلتها ظروف اقتصادية واجتماعية، ليس معناها التخلي عن وطنهم أو التفريط في هويتهم، بقدْر ما هي طريق لتوفير لقمة العيش، وتحسين شروط حياتهم وحياة أسرهم. ولكن هولندا لا تتوانى في التضييق على المهاجرين المغاربة في اتجاه الدفع بهم إلى الاندماج في مجتمعها وقطع علاقاتهم بوطنهم الأم، عن طريق عددٍ من السلوكيات والإجراءات المُجْحفة؛ منها العمل في اتجاه تخييرهم بين الاحتفاظ بمواطَنتهم المغربية أو التجنس بالجنسية الهولندية،  دون السماح لهم بحمْل جنسية مزدوجة؛ كما في عددٍ من بلدان أوربا. ومنها مطالبتهم ببيْع ممتلكاتهم العقارية وغيرها في المغرب لاستثمار مقابلاتها المالية في الأراضي المنخفظة. أضِفْ إلى ذلك دعوة بعض الساسة الهولنديين سلطات بلدهم إلى تشديد الرقابة على تحويلات المهاجرين المغاربة المالية إلى وطنهم منعاً – حسب زعمهم – من الوصول إلى جماعات متطرِّفة إرهابية تستغلها للتخطيط لشنّ هجمات على مصالح الغرب في أي مكان، ومن استنزاف مقدّراتهم الاقتصادية. وذلك في تناقض صارخ مع حق المِلكية الشخصية الذي تكْفلُه المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، والتي صادقت عليها هولندا "الديمقراطية". فقد نصّت المادة 17 من الميثاق الحقوقي الأممي على أنه "يحق لأيّ شخص أن تكون له ممتلكاتٌ، ولا يحق انتزاعها منه إلا بموجب القانون". وقد بلغ الأمر بالحكومة الهولندية حدَّ اتهام المغرب بالتدخل في شؤون مهاجريه الساكنين فوق أراضيها، وعرقلته اندماجَهم في بلدها الذي لم يدّخرْ جهدا، كما سبق أن أكد وزيرها في الهجرة، في تحسين ظروف حياة أولئك المهاجرين بهولندا بإقامة أحياء سكنية ملائمة لهم مزوَّدة بمختلف الخِدْمات الاجتماعية والترفيهية، وتوفير فرص العمل لهم، وتمتيعهم بالتعويض عن البطالة والتغطية الصحية ونحو ذلك؛ الأمر الذي يجب أن يجعل، حسب الوزير نفسه، ولاءَهم لهولندا لا للمغرب! ولكن هذا المسؤول لم يَدْرِ بأن المواطن المغربي "الحُرّ" الأبيَّ لا يبيع أصله، ولا يفرّط في هويته، ولا يتنازل عن ثوابته بمجرد حصوله على تلك الامتيازات، بل إن حبَّه لوطنه لا يعْدله أي شيء آخر مهما كان! وأمام هذه الإكراهات، كان لا بد للسطات المغربية من أنْ تتحرك، من خلال إجراءات وقوانين، للوقوف إلى جانب مواطنيها في هولندا، وفي العالم كله. بحيث أكدت أن اندماج أبنائها في وطن أجنبي آخر لا يقطع صلتهم بوطنهم الأم، ولا يُسقط عنهم جنسيتهم الأصلية. وكان من أهم تلك الإجراءات التي باشَرَها مصادقة برلمانه، في فبراير 2007، على مشروع قانون الجنسية الجديد الذي تضْمن بنودُه للطفل المولود من مغربي أو مغربية، في ديار المهجر، حَمْل الجنسية المغربية، حتى وإنْ كان ثمرة زواج مختلط بين أم مغربية وأب هولندي، أو أجنبي بصفة عامة(7). فهذه الجنسية، مع القانون الجديد، لم تعُدْ مرتبطةً بقاعدة النسب فحسبُ، كما كان في نص قانون الجنسية السابق، بل بالنسَب والبُنوّة دون تفضيل أي معيار على الآخر. وعليه، صار للمرأة المغربية حقُّ نقل جنسيتها الأصلية إلى أبنائها سواء أكانوا ثمرة زواج عادي (أي من مواطن مغربي) أم ثمرة زواج مُختلط (أي من غير مغربي). وأعطى القانونُ نفسُه لأولئك الأبناء الحق في الاحتفاظ بجنسيتهم تلك أو التخلي عنها، شريطة أن يتقدموا بتصريح في الموضوع لوزير العدل المغربي، لدى بلوغهم سنّ الرشد القانوني(8).

وخلافاً لأغلبية المسؤولين الهولنديين الدّاعين إلى اندماج المهاجرين المغاربة في نسيج مجتمعهم عبر التعليم والعمل والزواج ونحْو ذلك من القنوات، ثمة بعض السّاسة العنصريين، أمثال خيرت فيلدرس، الذين يُعارضون هذا الاندماج بالنظر إلى العبْء الثقيل الذي يشكله على خزينة دولتهم؛ بحيث يروْن أن ذلك يكلِّف هذه الأخيرة، كلَّ سنة، أزيد من سبعة ملايين يورو. ويدْعون – نتيجة لذلك – إلى طرْدهم وإرْجاعهم إلى وطنهم الأصلي، لاسيما في ظل الأزمة التي تعيشها هولندا على مدى السنوات الأخيرة. وقد أجْمعت العديد من فعّاليات الجالية المغربية بهولندا على أن مثل هذه الدعوات والظروف المتردّية خلقت توتراً بين شباب المهاجرين المغاربة وسلطات بلد الاستقبال، أثر سلباً على تيْسير صيْرورة اندماجهم الفاعل فيه. بل إن استطلاعاً للرأي أظهر، مؤخراً، أن 37 % من أولئك الشبان ذوي الكفاءات المهنية يفكرون، بجِدٍّ، في مغادرة هولندا، ويعبرون عن امتعاضهم من الضغوط الممارَسَة عليهم باستمرار(9).

إن الاندماج المطلوب، هنا، هو أنْ ينخرط مهاجرونا في مجتمعهم الجديد بهولندا، ويَشعروا بأن لهم، هناك، حقوقاً، وعليهم التزامات؛ مثلما هو الشأن تماماً بالنسبة إلى أبناء هولندا الأصليين، ويُقبلوا على المشاركة، بإيجابية، في مختلف مناحي حياتها، بما في ذلك دخول غمار السياسة، والترشُّح لتقلد مناصب عليا في هرم السلطة، لاسيما وأن القانون الهولندي يتيح للأجانب حق التصويت والترشح للمجالس المحلية. ولا ريب في أن وجود المغاربة في مراكز صُنع القرار هناك سينعكس إيجاباً على تمتين الروابط الثنائية بين هولندا والمغاربة، وسيخدم مصالح الجالية المغربية هناك. ولنا نماذج عدة لمهاجرين مغاربة اندمجوا اندماجاً ناجحاً في المجتمع الهولندي، مهنم أحمد بوطالب؛ ابنُ الريف المغربي الذي كان وزيراً سابقاً في الحكومة الهولندية، ويتولى حالياً منصب عُمدة بلدية روتردام، وهو يتردّد باستمرار على بلده لقضاء عطلته السنوية بين أحضان عائلته بالريف وعلى سواحله الجميلة. ومنهم توفيق ديبي النائب بالبرلمان الهولندي عن حزب الخُضر، وأمينة بوزاكز العُضْوُ في البرلمان الأوربي، والمنخرطة في حزب العمل الهولندي(10).

وإذا كان أهم مشكل واجه المهاجرين المغاربة بأوربا، من الجيل الأول، يكمن في اللغة والاندماج، فإن أجيالهم اللاحقة تعيش هناك مشاكل أخرى أخْطَر تتصل، أساساً، بالهوية والانتماء. فهذه الهوية صارت، اليوم، مهدَّدَة، لاسيما بعد إقدام كثير من شباب المهاجرين على التجنُّس بجنسيات دول الاستقبال، وعلى اتخاذ قرار الاستقرار النهائي هناك، وتخصيصهم كلَّ جهودهم وثرواتهم المحصَّلة لخدمة تلك الدول. وقد استشعرت الحكومة المغربية خطورة هذا الوضع، فبادرت بإطلاق عدة مبادرات تستهدف تعزيز انتماء مهاجريها إلى وطنهم الأم، وبلوَرة شراكات حقيقية مع كفاءاتنا العليا بالخارج في أفق الاستفادة من خبراتها لتحقيق التنمية الشاملة ببلدنا. وكان من أبرز هذه المبادرت إطلاق برنامج "فينكوم" الرامي إلى البحْث عن الكفاءات المغربية المهاجرة، وربْط جُسور التواصل معها، وإشراكها في المشاريع التنموية الوطنية. وتسْهم الملتقيات التي ينظمها مغاربة العالم، في عواصمَ دولية، في ترسيخ مبدإ حفاظ المهاجرين المغاربة على هويتهم الوطنية، والدفاع عن قضايا بلدهم، وتمتين الأواصر بينهم وبين هذا الأخير. وقد احتضنت آخرَها مدينة إسطنبول، وكان شعارُه "مغاربة العالم والمغرب الجديد".

إن المهاجر المغربي بأوربا، وبغيرها من المَهاجر، مُطالَبٌ اليوم أكثر من أي وقت مضى بأنْ يندمج اندماجاً واعياً في مجتمعه الجديد؛ اندماجاً يخوّل له التمتّع بحقوق وتحمُّل مسؤوليات، دون التفريط في هويته وخصوصياته، ودون قطْع صلته بوطنه الأم. وهو بذلك يُفيد نفسَه وأسرته، ويفيد المجتمع الذي يعيش بين أحضانه، ويفيد بلده الأصلي كذلك. وإذا لم يفعل ذلك، فإنه سيَحكم على نفسه بالعيش غريباً في مَهجره، وعلى هامشه فقط، وبذلك يُحرَم من عدة امتيازات دون ريبٍ. وقد لاحظْنا أعداداً من مهاجرينا بأوربا يعيشون هذا الاغتراب وهذه العزلة، لتقوقعهم وعدم انفتاحهم على مجتمعهم الأوربي. وتزيد حِدَّة هذه الغربة لَمّا تكون مُضاعفة لدى بعضهم؛ ذلك بأنهم يشعرون بـ"الحُگرة" في بلدان الاستقبال، ويتعرضون أحياناً إلى أشكال من المَيْز العنصري والتهميش والإقصاء لعدة اعتبارات؛ مثلما حدث سابقاً في كثير من بلدان أوربا الغربية، كهولندا وفرنسا وإسبانيا؛ مما يضطرُّهم إلى التجمُّع في أحياء خاصة بهم، وإقامة أسواق تكون فضاءات تجارية يرتادونها، والتوجه إلى مقاهٍ يديرها أبناء جلدتهم، يلتقون فيها لقضاء أوقاتهم على كراسيها يتبادَلون أطراف الحديث، ويخوضون في كل المواضيع التي تشغلهم وتهمُّهم في العمل والمدارس والإدارات وغيرها... وحين يزورون بلدهم الأم تجد عديدين منهم يحسّون بالغربة نفسها، ولاسيما حين يُنعتون بأوصاف تُشعرهم بالنقص؛ من قبيل "أصحابْ الخارِجْ"، و"المْفَشْحينْ" (ومعناها، بالدارجة المغربية، المُدَلَّلون)، فلا تراهم يخالطون، أحياناً، إخوانهم من المقيمين بالمغرب، ويكتفون بمصاحَبَة مهاجرين آخرين، ويقضون مجتمعين عطلتهم، ليَحزموا أمتعتهم عائدين إلى بلد الغربة الحقة مرة أخرى! ومما يعمّق إحساسهم ذاك في وطنهم ما قد يُعامَلون به من قبل بعض الإدارات وحرَس الحدود، وما قد يُصادفونه، لدى توجُّههم إلى إدارةٍ لقضاء أغراضهم، من عراقيل ومن بُطْءٍ في تفعيل المساطر الإدارية ونحوها.

ومن الثابت أن مشاكل الاندماج والانعزال وما يتصل بهما لا يكتوي بلظاها الآباء فقط، بل تمَسّ مكونات أسرة المهاجر المغربي كلها ذكوراً وإناثاً، كباراً وصغاراً.

إن المرأة المغربية بدأت تفِدُ على أوربا، منذ السبعينيات، في إطار "التجمع العائلي"، للالتحاق بزوجها الذي سبق إلى الهجرة مع بدايات الستينيات، ولكنها شرعت تهاجر وحدَها إلى أوربا للعمل أو للدراسة منذ الثمانينيات، قبل أن تعرف ما يسمى "الهجرة المَوْسمية" للاشتغال في حقول إسبانيا مثلاً، والهجرة السرية خلال أواخر القرن العشرين وبداية القرن الجاري. ولكن أوربا، الآن، صارت تَفرض مزيداً من القيود في مجال الهجرة، وتعقد مأمورية دخول الأجانب أراضيَها، بمَنْ فيهم النساء؛ مثلما نجد في اتفاقية شِنْگنْ التي وقعت عليها دول الاتحاد الأوربي في يونيو 1990، وفي معاهدة ماستريخت عام 1991، التي جاءت بعدة إجراءات رامية إلى الحدّ من تدفق العمالة الأجنبية على أراضيها، أو إلى تقنينها وضبْطها على الأقل، وكان من نتائج ذلك عَمْدها إلى فرض الكوطة (Quota) على الأجانب، واللجوء إلى اختيار أكثرهم كفاءةً وفعّالية. إن المرأة المغربية تعاني عدة مشاكل في بلدان الاستقبال الأوربية بسبب اختلاف تقاليدها وهويتها عن تلك البلدان؛ الأمر الذي لا يُعِينُها على الاندماج الكامل فيها، ويدفع بها إلى حياة العزلة والعيش على حافّة مجتمعاتها الجديدة، وبسبب أمّيتها – في الغالب – وعدم تمكنها من لغة البلد المُستقبل؛ مما يُعرقل اندماجها فيه مهنياً واجتماعياً. وإذا كان هذا الأمر ينسحب على المرأة المغربية المهاجرة إلى أوربا في السبعينيات، فإن الوضع سيعرف تغيُّراً ملحوظاً فيما بعدُ، ولاسيما في العقدين الماضييْن؛ بحيث عرفت أعدادُ المهاجرات المغربيات إلى هناك تزايدا واضحاً، وصِرْن أكثر تحرراً وانفتاحاً واندماجاً في المجتمعات الأوربية التي يَقصدْنَها، وأكثر تمكُّناً من لغاتها وانخراطاً في أسواق الشغل بها. فإذا أخذنا، على سبيل المثال، بلجيكا فسنجد أن نسبة المغربيات بها تقارب نسبة الرجال؛ إذ تقدَّر بنحو 46 %. كما يتمتَّعْن هناك بحقوق كثيرة، بل إن حكومات بلدان الاستقبال تبدو أكثر تحيُّزاً إلى صفّهنّ، فتوفر لهن جميع أسباب الحرية والاستقلال عن آبائهن والاستفادة من الخدمات الصحية ومن راتب عن العطالة ونحو ذلك. ولكن المُؤسف أن كثيراً من بنات مهاجرينا هناك استغْلَلْنَ تلك الحُرية استغلالاً خاطئاً؛ فقرّرْنَ العيش كما يحلو لهنّ متحرِّراتٍ من تقاليد بلدهن الأصيلة، ومُنساقاتٍ وراء مظاهر الحضارة الأوربية الخادعة، فكانت نتائج ذلك قاسية كما هو معروف لدى الجميع. والواقعُ أن المُهاجِرَة المغربية بأوربا تعاني مشاكلَ عدة. فعلاوة على مشاكل الاندماج والتوزُّع بين الانخراط في مجتمعها الأوربي الجديد والتمسُّك بأصالتها وهويتها وانتمائها، تعاني مشاكل أخرى؛ منها إجبارُها - احتراماً للتقاليد – على الزواج من شخص قد لا تريده، وغالباً ما يكون من أبناء عائلتها بالمغرب، والذي يكون قصْد أبويْها إنقاذه من براثن البطالة في بلده، وتهجيره إلى أوربا للعمل، علاوة على تكوين أسرة مستقرة مع ابنتهما طبعاً. ولكن مثل هذا الزواج حين لا يُكتب له الاستمرار، يطرح عدداً من المشاكل من الناحية القانونية، ويترك آثاراً قاسية على الأسرة وعلى الأبناء؛ بحيث تتفكك الأسرة المكوَّنة، ويعيش الأبناء محرومين من عطْف الأب أو الأم أو هما معاً في حالة ما إذا قرّر الأبوان التخلي عن فِلْذة كبدهما ليُدفَع بها إلى دار الأيتام! ويكونون، أحياناً، معرَّضين إلى الانحراف، وتعاطي المخدّرات، ودخول عالم الجريمة. وإذا كانت المرأة المغربية قد انتقلت إلى أوربا في إطار علاقة زواج، وحدث طلاق قبل حصولها على أوراق الإقامة وأسبابها، فإنها قد تكون عُرضة للطرد من بلد الاستقبال.

وقد يكون الشُّبّان، مراهقين ومراهقات، أكثر فئات المهاجرين المغاربة بأوربا تعرُّضاً إلى مشاكل الهجرة، وتأثراً بانعكاساتها وإكراهاتها. فهم يعيشون صراعاً داخلياً بين التشبُّث بتقاليد وطنهم التي تربّوا عليها داخل أسرهم، واحترام مقوّمات هويتهم وثوابت بلدهم الراسخة، وبين الانفتاح على المجتمع الأوربي المُحتضِن لهم لغوياً واجتماعياً ومهنياً وثقافياً، والذوبان في أنموذجه الحضاري! وقد صوّر لنا الباحث المغربي سعيد العمراني هذا التناقض الذي يجده الشباب المغاربة بالمهجر الأوربي، من أبناء الجيلين الثاني والثالث، شاخصاً أمامهم بقوله: "إن التناقض بين تربية الآباء وما يتعلمونه في المدارس والشوارع يشكّل أمَّ المُشكلات بالنسبة للأجيال الجديدة. ففي المنازل كلُّ شيءٍ مصمَّمٌ على الطريقة المغربية التقليدية من ديكور إلى فصْلٍ بين الذكور والإناث، وسيادة سلطة الأب ثم الذكور. أما في المدارس فإن قوانين البلد هي المتحكمة، بكل ما تحمله من ضوابط وأدوار تربوية وزَجْرية، تصل أحياناً إلى منْع حمل "الفُولارَة"، أو الحجاب، في المدارس والوظائف العمومية بالنسبة

للفتيات المتحجِّبات مثلاً، كما يصل إلى حدِّ تطبيق "العقوبة المزدوجة" على الشباب من أصل مغربي"(11). ونلحظ الأمر نفسَه في صفوف أطفال المهاجرين المغاربة بأوربا، الذين يحرص آباؤهم على تلقينهم مقومات شخصيتهم الحضارية، وغرْس قيم دينهم السَّمْحة المُؤمنة بالتسامح والتعايش والحوار، وتنشئتهم تنشئةً تؤهِّلهم للانخراط، لاحقاً، في مجتمعاتهم الجديدة انخراطاً إيجابياً، ودون الإحساس بأي مركَّب نقص. ولكنهم حين يقصدون مدارس الأوربيين للتعلم يصطدمون ببرامجَ تتنافى، أحياناً، مع كل تلك الأصول التي تربّوا عليها؛ برامج غير مشجعة على الاندماج، وتحْوي بين طيّاتها عدداً من الأحكام المغلوطة عن الإنسان العربي والمسلم، وعن الإنسان غير الأوربي عموماً، والتي تصرّ على تمريرها إلى المتعلمين، من منطلَق إحساس الأوربي بتسيُّده العالمَ، وبكونه قائدَ الكرة الأرضية كلها إلى جانب دول الغرب الأخرى، على حين أن باقي العالم يدخل في نطاق "الهامش" الذي يلزم أن يَتبع "المركز"! وتعد هذه النظرة، وتلك الطريقة في التربية، من العوامل التي تُصعِّب مأمورية تكيُّف أبناء المهاجرين المغاربة مع خصوصية النظام التعليمي في البلدان المُحْتضِنة. ويجد هؤلاء الأطفالُ، كذلك، صعوباتٍ، أحياناً، في تعلم لغات هذه البلدان، والتحكم فيها استيعاباً وتواصلاً، ولاسيما في بعض الدول الأوربية؛ كبلجيكا، مثلاً، التي تنقسم إلى شطرين كبيرين: الفلاندر ولغتهم الفلامانية، والولونيون ولغتهم الفرنسية. ويستقر أغلبُ مهاجرينا هناك في الشطر الأول القريب من هولندا (66%)، لكونه يحتضن أكبرَ التجمُّعات الصناعية في بلجيكا. وكان قد لوحِظت صعوباتٌ فيما يتعلق بتعلم الأطفال المغاربة من الجيلين الثاني والثالث اللغة الفلامانية، وباندماجهم في النظام التعليمي البلجيكي. وهذه الخلاصة اللافتة سجلتها دراسة ميدانية أشرف عليها، مؤخراً، معهد متخصصٌ في قضايا الهجرة وشؤونها، بإدارة خبير بلجيكي، وبالتعاون مع بلدية أنتويربن ومع مراكز بحْثية أخرى من بلجيكا والمغرب وتركيا. وقد انطلقت تلك الدراسة من عيِّنة من أبناء المهاجرين المغاربة، المنحدرين من الريف المغربي خصوصاً، والمتراوحة أعمارُهم ما بين 8 و15 سنة، ولسانُ آبائهم الأصليُّ المتداوَل بين أفراد أسرهم في بيوتهم هو الأمازيغية الريفية. وامتدت الدراسة على مرحلتين؛ أولاهما من 1999 إلى 2002، والثانية من 2002 إلى 2004(12).

وفي المدارس الأوربية، يمكن أن تتعرّض شخصية الطفل المغربي المهاجر للاهتزاز، ويتأثر بحملات التنصير النشيطة التي تقودها جهاتٌ مجهّزة بأحدث تقنيات التأثير والوسائط المختلفة ذات المفعول الخطير على عقيدة أبناء مهاجرينا وهويتهم، إذا لم يكونوا ممنَّعين، بما يكفي، من ذلك، وإذا لم يَنتبه إليهم آباؤهم فيبادروا بتوجيههم وإبطال مفعول تلك "السُّموم" التي تنفثها جماعات التنصير المسنودة من قبل منظمات تنشط في هذا المجال على الصعيد العالمي. كما أن هذه الجهات تستغلّ، في كثير من الأحايين، "دور الإيواء"، التي تُقيمُها عددٌ من دول الاستقبال لاحتضان المهاجرين الأحْداث الذين يَفِدون عليها، من أجل تنصيرهم بكل الوسائل المُتاحة لهم؛ بما في ذلك الإغراء والتحايُل. ولا يقتصر أمْر الأنشطة الدعائية التنصيرية ضد المسلمين، في المهجر الغربي، على تلك الجهات، بل "ابْتُلي الإسلام ببعض المارقين الذين شكلوا فرقاً ضالّة تَدَّعي الانتساب إلى الإسلام ظاهراً، ولكنها – في العمق – تستبْطن له الحقد والعداء الشديديْن؛ مثل الفرقة البهائية التي ترتبط بعلاقات مع اليهود والصهاينة"(13). ولحماية أبناء مهاجرينا من خطر هذا التنصير، يلزم "تلقيحهم" بلقاح المناعة الذي من شأنه أن يقيَهم من ذلك، وغرْس قيم الأصالة والإسلام السمْحة وحبّ الوطن والانفتاح الواعي في نفوسهم، والعمل على تجنيبهم السقوطَ في مهاوي التطرف والمغالاة والانحراف بمختلِف أشكاله. وهذا العملُ مَنوط بجمعيات المجتمع المَدَني التابعة للجالية المغربية بأوربا، وبالمراكز الثقافية الإسلامية المنتشِرة في عددٍ من المُدُن الأوربية، وبالمساجد والمُرشدين الدينيين الذين تنتدبهم وزارة الأوقاف المغربية لتأطير أولئك الأطفال، وعموم مهاجرينا بأوربا، وتوعيتهم وتربيتهم على أصول التربية الإسلامية القائمة على الاعتدال، والتنشئة المتوازنة، والتسامح، وحب الآخر، والتفاعل الإيجابي معه، والتشبُّث بالهُوية والخصوصيات المغربية.

وثمة مشاكلُ أخرى كثيرة تمسّ الطفولة المغربية بأوربا(14)؛ منها تلك الناتجة عن الزواج الفاشل، ولاسيما بالأجانب، وعلى رأسها مُشكلا الحضانة وإثبات النّسب. ومنها تلك التي يطرحها موضوع الأمهات العازبات من أصول مغربية في الدّيار الأوربية، وعلى الخصوص كفالة الأطفال المُتخلّى عنهم. ومنها تلك التي ترتبط بهجرة الأطفال المغاربة إلى أوربا بطريقة غير شرعية؛ ذلك بأن رُكوب قوارب الموت في حوض المتوسط لم يعدْ ظاهرة مقصورة على الذكور البالغين، بل يُقْدِم على هذه المغامَرة، أيضاً، الإناث والصغار. وقد اتضح أن الأطفال الذين يبلغون الدولة الأوربية المستهدَفة، بسلام، على متن تلك القوارب يتعرضون إلى عدة مخاطر وإكراهات؛ منها التنصير، والتعنيف، والاستغلال، والحرمان من الحقوق الأساسية والاعتداءات الجنسية أحياناً. الأمرُ الذي أثار ردودَ فعل عدد من المنظمات العاملة في مجال حماية حقوق الإنسان وحرياته. وبخُصوص اللغة العربية؛ الوعاءِ الحامل لشريعة الإسلام، والقناة الناقلة لعديد من الأفكار والقيم والمفاهيم، فالملاحظُ أن إقبال أطفال المغاربة بأوربا على تعلمها ما يزال ضعيفاً، وتظل الدّارِجَة المغربية والأمازيغية أهمّ اللغات التي يتواصَلون بها بين ذويهم داخل بيوتهم، علاوة على لغات دول الاستقبال التي يتزايَد التواصل بها بينهم! الأمرُ الذي يدعو السلطات المغربية إلى الرفع من الدعم المخصّص لتعليم اللغة العربية لأبناء مهاجرينا بالخارج، وإلى الزيادة في عدد المدرِّسين الذين تكلفهم وزارة التربية والتعليم المغربية لهذه الغاية، وإلى تطوير البرامج الموجَّهة لهم لتيسِّر عليهم التحكم في لغة بلدهم الأصلي، واستعمالها وفهم النصوص المكتوبة بها.

وللنهوض بوضعية الطفولة المغربية بالمهجر الأوربي، وبغيره من المهاجر كذلك، ومساعَدة أبناء المهاجرين المغاربة على الاندماج المتوازن في تلك المهاجر كلها، وعلى تكوين شخصياتهم القوية، قُدّمت جملة من المُقترَحات يتخذ بعضها صبغة مطالب عاجلة؛ منها دعوة بلدان الاحتضان إلى تفعيل الاتفاقيات الدَّولية ذات الصلة بحقوق الطفل، والعمل بها؛ مثل "الاتفاقية العالمية لحقوق الطفل" التي صادَق عليها المغرب عام 1993، والاستجابة إلى مختلف متطلَّبات الطفل المغربي، وأطفال المهاجرين عامة، بأوربا تربوياً وتعليمياً ودينياً وثقافياً واجتماعياً عبْر إنشاء مراكز ثقافية، ومدارس عربية وإسلامية، وهيآت تُعنى بقضايا أولئك الأطفال، وعقد شراكات ثنائية أو جماعية بين الدول الإسلامية المصدّرة والدول المستقبِلة للمهاجرين تتوخى إدراج تعليم العربية وغيرها من لغات المهاجرين والثقافة الإسلامية ضمن النظام التربوي المعمول به في دول الاستقبال، وإحْداث قنوات إعلامية (تلفزية وإذاعية) موجّهة بالأساس إلى أبناء المهاجرين بأوربا، ودعْم إنتاج برامج تربوية وثقافية هادفة وأفلام كارتونية مُفيدة لهم، ونحْو ذلك من الإجراءات التي مِنْ شأنها أن تخدُم قضايا الطفل العربي والمسلم في المهجَر(15).

إن تفاقم مشاكل المهاجرين المغاربة بأوربا، وتزايُد المُضايقات والإكراهات ضدّهم، تجعل عديدين منهم يفكرون، بجِدّ، في إمكانية العودة إلى بلدهم الأمّ، وترْك مَهْجَرهم الذي قدّموا خِدْمات جليلة لبناء اقتصاده وقوته التي يتمتع بها الآن. وتجد مهاجري الجيل الأول أكثر إقبالاً على ذلك؛ بحيث يفضل أغلبهم قضاء أيام شيخوختهم في قراهم ومدنهم داخل المغرب، ويكتفون بزيارة البلد الأوربي الذي كان يحتضنهم لتفقد أحوال أبنائهم وأحفادهم المقيمين هناك، ولعيادة الأطباء المعالجين لهم، ولاستخلاص مرتّبات تقاعدهم، ولغير ذلك من الأغراض. وقبل أن نسلط الضياءَ على أنشطة المهاجرين المغاربة العائدين إلى أرض وطنهم، تجدُر الإشارة إلى مشكل آخرَ يلاقونه في طريق العودة، ويشكل تهديداً حقيقياً لسلامتهم؛ وهو اعتراض عناصر متنكّرة في أزياء البوليس والشرطة طريقهم، وإيقافهم عبر طرقات إسبانيا خصوصاً، وحين يمتثلون لأوامرهم سَرْعان ما يتأكدون أن مُوقِفِيهم ليسوا من عناصر الأمن، بل عصابات، وأكثرها من أصول غَجَرية (خيطانوس)، تتفنّن في استخدام وسائل النهب، وابتزاز المهاجرين الذين يَعْبُرون التراب الإسباني، والسطْو على ما بحوزتهم من متاع ومال استغرق تجميعُه عاماً أو أكثر من التوفير. وإذا صدر من المهاجر الموقوف أي مقاومة، فإنه يتعرض إلى التعنيف والضرب، وأحياناً إلى التصفية الجسدية. ويَحكي مهاجرونا ممّن يزورون المغرب سنوياً لقضاء عطلتهم الصيفية بين أحضان عائلاتهم قصصاً واقعية جمّة في هذا الصدد. إذ يحكي أحدهم (ع. س) أنه استوقفتْه على طريق سيار، بإسبانيا، عناصر بدا له أنهم من الشرطة (وللإشارة، فقانون السير يقضي بعدم التوقف لأيٍّ كان في الطريق السيار Autoroute، بل يلزم البوليس أن يعطي مستعمل تلك الطريق الإشارة ليتبعهم إلى أقرب محطة أو باحة استراحة. وهناك يمكنهم إخضاعه إلى التفتيش)، فما كان منه إلا أن امتثل لطلبهم، وتوقف، ولكنه فوجئ بأنه وقع ضحية عصابة إجرامية، من الخيطانوس، لبس أفرادُها زِيَّ الشرطة. وكانت النتيجة أنْ نهبوه ما كان بحوزته من هدايا ذات قيمة ومن أموال، وأخْلوا –من حسن الحظ– سبيله سالماً جسدياً هو وأسرته. ويحكي مهاجر مغربي آخر (ف) أن سيارته تعطلت في إحدى طرق إسبانيا، بسبب ارتفاع حرارة محرِّكها، ولما نزلَ لتفقد الأمر، فوجئ بجزائري يمد له يدَ المساعدة، فارتاح له ووثق به، وعند أول فرصةٍ ضغط بيده، ضغطا قوياً، على يد المغربي، وألصقها بالمحرّك مرتفع الحرارة، وهدّده بمسدّس إنْ لم يُعطِه ما بحوزته من أموال، وكانت النتيجة أن تعرض هذا المهاجر إلى السلب والحرْق(16).

الملاحظ أن كثيراً من مهاجرينا بأوربا العائدين إلى وطنهم متقاعدون أو مُشْرفون على التقاعد أو مصابون بأمراض وعاهات جعلتهم لا يقْوون على الاستمرار في العمل؛ لذا، فإنهم يكتفون، غالباً، بعيش ما تبقى من أيام عمرهم بين عائلاتهم، في راحة وعطالة، مستفيدين من رواتب تقاعدهم ومن تعويضات عن المرض ونحْوها. ولكنّا نجد بعضهم يتجه نحو الاستثمار في بلده الأم، واستغلال ما جمّعه من ثروة لإقامة بعض المشاريع. إلا أن هذه الاستثمارات تظل ضعيفة، ونتائجها محدودة، ومردُّ ذلك، في نظر عبد الحميد جماهري، إلى الحالة الصحية للمهاجر الذي يكون غالباً متقدمَ السّنّ، وضعْف الوسائل التي يتوفر عليها، والمشاكل الإدارية التي تصادفه في أثناء إقامة مشروعه(17).

وقد أثبت بحثٌ أنجزه، عام 2003، مركزُ الدراسات والأبحاث الديمُغرافية، التابع للمندوبية السامية للتخطيط، عن المهاجرين العائدين إلى الوطن المنحدرين من جهتي الدار البيضاء الكبرى وسوس ماسّة درعة، أن أغلبهم ذكور (98 %)، أمّيون (61.3%)، قادمون من المهجر الأوربي (72%)، بالغون من العُمر الستين سنة فأكثر (72.5%)(18). وبيّنت دراسة أخرى قامت بها مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين بالخارج أن ما بين 80 % و 90 % من استثمارات هؤلاء العائدين للاستقرار بأرض الوطن تُنجز في الجهة التي ينتسب إليها المهاجر؛ مما يؤكد قوة العلاقة بينه وبين مسقط رأسه، وأكثر هذه الجهات فقيرة(19). كما أن العقار والبناء هما القطاعان اللذان يَستأثران بمُجمل نشاط المهاجرين الاستثماري، إلى جانب التجارة والخدمات؛ الأمر الذي يؤكد أن أكثر مهاجرينا العائدين يستثمرون رؤوس أموالهم في القطاع الثالث. وتشغّل مشاريع هؤلاء المهاجرين عدداً قليلاً من اليد العاملة النشيطة على العموم؛ بحيث أثبتت دراسة أنجزتها المندوبية السامية للتخطيط، مؤخراً، أن ما يقارب 90% من تلك المشاريع لا يتجاوز عددُ مناصب الشغل التي تخلقها العشرة، وأن 26% منها تخلق منصبَ شغلٍ واحداً فقط!(20) ويلاحَظ في أيامنا هذه توجّه كثير من مهاجرينا إلى المتاجَرَة في المتلاشيات والأجهزة المستعْمَلة في الأسواق الأسبوعية وفي الساحات العمومية، ولاسيما في أثناء زيارتهم بلدهم خلال العطلة الصيفية!

 

الهوامش
(1) المختار مطيع: الهجرة المغربية إلى أوربا (بحْث منشور ضمن مؤلَّف جماعي)، سلسلة "دفاتر مركز الدراسات والأبحاث حول حركات الهجرة المَغاربية"، ع.3، جامعة محمد الأول بوجدة، كلية الحقوق، 1994، ص12، بتصرف.

(2) نقلاً من "دور الإعلام العربي في تفعيل الاندماج"، وهو عنوان المداخلة التي شارك بها الباحث المصري سامي الشريف في ندوة "الهجرة العربية الأفريقية إلى الخارج: مشكلات وحلول"، التي نظمتها "إدارة المُغتربين العرب"، التابعة للأمانة العامّة لجامعة الدول العربية، في نوفمبر 2008، ص3.

(3) هشام عوكل: الجالية العربية في بلجيكا بين الاندماج والغربة، مقال منشور في موقع مجلة "ديوان العرب"، بتاريخ 05/04/2008. (http://www.diwanalarab.com/spip.php?article13471)

(4) للاستزادة فيما يخص قضية الاندماج الثقافي في دول المهجر وإشكالاته وغير ذلك، يمكن الرجوع إلى دراسة حسين الأنصاري "إشكاليات الثقافة العربية في المهجر"، مجلة "الرافد"، إمارة الشارقة، ع.167، يوليوز 2011، ص18-23.

(5) جريدة "أخبار اليوم المغربية"، ع.557، الإثنين 26/09/2011، ص14.

(6) جمال المجايدة: أزمة الاندماج والهوية لدى المغاربة في هولندا...، جريدة "القدس العربي"، لندن، ع.6589، السبت/ الأحد 14/ 15 أغسطس 2010، ص3.

(7) جاء في الفصل السادس من الباب الثاني من "قانون الجنسية المغربية" (وَفق تعديلات 05/04/2007 المُدْخَلة بموجب القانون رقم 62.06): "يُعتبر مغربياً الولد المولود من أبٍ مغربي أو أمّ مغربية".

(8) جريدة "الشرق الأوسط"، لندن، ع.10319، الأربعاء 28/02/2007، ص4.

(9) جمال المجايدة: أزمة الاندماج والهوية لدى المغاربة في هولندا، القدس العربي، ع.6589.

(10) صحيفة "الوَسَط"، البحرين، ع.2134، الخميس 10/07/2008، ص 12. (ع. النبي العكري).

(11) سعيد العمراني: مشكل الهوية والاندماج عند الشباب من أصل مغربي بأوروبا، مقال منشور–رقمياً– في موقع "شبكة دليل الريف"، بتاريخ 05/01/2010. (انظر الرابط: http://dalil-rif.com/home/-indimaje050110)

(12) هشام عوكل: الجالية العربية في بلجيكا بين الاندماج والغربة، م.س.

(13) سامي الشريف: دور الإعلام العربي في تفعيل الاندماج، م.س، ص25-26.

(14) إدريس لكريني: واقع الطفل المغربي في بلاد المهجر، جريدة "العرب الأسبوعي"، لندن، ع.254، من السبت 29/05/2010 إلى الجمعة 04/06/2010، ص29.

(15) نفســه.

(16) يوسف محبوب: محنة المهاجرين المغاربة عبر التراب الإسباني، جريدة "أصداء المهاجرين"، الرباط، ع.14، شتنبر 2007، ص6.

(17) جريدة "الاتحاد الاشتراكي"، الدار البيضاء، ع.8490، السبت/ الأحد 24/ 25 فبراير 2007، ص7.

(18) نفســه.

(19) نفســه.

(20) نفســه.