يرى الناقد المصري أن هذا الديوان يكشف أن الشعرِ طريقة وحيدة لا بديل عنها للعب مع العالم، ليعود قابلاً للتعايش، وللكشف عما يخفيه عنا منذُ القِدَم. كل شيء لدى الشاعر قابل لأن يصير رحماً للاعب المغوي المسمى بالشعر، بلا أي مواءامات ولا أي تأطيرات جاهزة سوى الضرورات الفنية، المتغيرة مع كل وعيٍ يبلغهُ نصه.

تحتَ رَجَّةِ الحنين: عندما تجوسُ الشِعريةُ في العالم

قراءة في ديوان «رَفَّةُ شَبحٍ في الظهيرةِ» لمؤمن سمير

محـمد عــزت

هناك مسافةٌ افتراضيةٌ بين مجردِ الطموح في جانب والإمكانية مع الإخلاص والاجتهاد في الجانب الآخر، حيث إذا زادت هذه المسافة قَلَّ إنتاج المبدع كَمِّياً، وكذا نوعياً بالأساس، وهو أمرٌ يقترب من المنطق، وإن قلَّت فإنك تستطيع أن تضمه لباقتك الخاصة، المنيرة، من المبدعين، الذين تحكم عن طريق تجاربهم على الواقع الأدبي سلباً وإيجاباً – لأنك لابد وأن تستبعد غير الجادين كل فترة – وتصل إلى نتائجك وأحكامك وبالأحرى تستمتع، بتلمس لَبِنات مشاريعهم المتميزة والقلقة بالضرورة . من هذا الصنف الثاني الشاعر مؤمن سمير، الذي أصدر قبل ديواننا هذا تسعة دواوين تلمح فيها بوضوحٍ تام حرصه على الوصول إلى ما يميزه ويخصه بالذات، بنفس دأبه في الخروج على أي منجزٍ شخصيٍ يبلغه وأي مرتقى يرتقيه .

إنه لا يستقر طويلاً في أي أرض ويعتبر أن الوصول والغاية، هو الموت في الحقيقة .. وإذا طمحتَ لأن تضع تجربته في جملة مفيدة، واحدة جامعة مانعة، وهو أمر مرهق في حد ذاته فعلاً وغير علمي ولامنهجي لكنه منتشر عندنا للأسف، كأن تردد في جلساتكَ الخاصة أنه من شعراء التسعينات المغرمين بالتفاصيل اليومية ونفي الأيدولوجيا والسرديات الكبرى الخ أو من المغرمين باللغة وألعابها وتشكيلاتها الخ أو أن نصه ينحو نحو التجريب والذهنية الخ أو أن الفكر والفلسفة يشدان النص للتثاقف والجفاف .. إلى آخر أكليشهاتنا المعلبة – فإنك قد تكون قد أرحت نفسك جمالياً ونصيا ً، لكن  بالوهم .. لأنه يقترف نصاً قلقاً يصل به – سواء عبر الرؤية أو عن طريق بناء الجمل وصياغة المجازات الكلية والجزئية وتشكيل العالم الشعري الخ .. وكذلك (عبر) كل الصياغات والمقترحات الشعرية السابقة التي يمر بها ولاينتمي لأَيِّها، في آن – إلى تأكيد منحى يشوفُ في الشعرِ طريقةً وحيدةً لا بديل عنها للعب مع العالم، ليعود قابلاً للتعايش، وللكشف عما يخفيه عنا منذُ القِدَم  .. ويستخدم كل مافي طريقه الفكري والمعنوي والكتابي، فوق ما ذكرناه من أنماطٍ فنية قبلاً – للكشف عن الشعر المخبوء، بدايةً من اللعب مع المطلق ومساءلته والتمشية معه وفيه – كذا – فلسفياً بل وشعبياً  وفنياً بالطبع، وليس انتهاءً باللاوعي وطبقاته والأحلام والهواجس وتاريخ الذات المستتر/ الحقيقي وتاريخ الآخر أياً كان .. كل شئ عنده قابل لأن يصير رحماً للاعب المغوي المسمى بالشعر، بلا أي مواءامات ولا أي تأطيرات جاهزة ... اللهم إلا الضرورات الفنية، المتغيرة مع كل وعيٍ يبلغهُ نصه ..

ثم إذا ولجنا إلى عالم ديواننا هذا فإننا نرصد بداءةً أن العنوان مُحَمَّلٌ بالإيحاءاتِ المُرَكَّبة، كعادة الشاعر، حيث تخبرنا هذه العتبة أن الحالة الشعرية القادمة في الديوان ستكون ( تحت حالةِ ) تألمِ وعذاب هذا الشبح / البطل / الشبيه، أو حتى  النقيض .. ساعةَ ينهشه النور بكَّلاباتِهِ الساخنةِ .. تَرِفُّ عيونُ الشبح من وطأة النور القاسي  ويرتعش الكيان، وفي ( أثناء ) الرعشةِ تلك – بالذات وعلى سبيل التعيين – تنفجر منه قصائد هي إلى الاعتراف أو الصراخ أو حتى حكمة الألم المفاجئة القابلة للنقضِ الدائمِ، أقرب ..

إن حالة الحنين التي قد تمر بنا بين الحين والآخر لتحزننا أو تفرحنا أو لتهدهد مشاعرنا بالأحرى .. هذه الحالة عندما اقتنصت الشاعر زلزلت المتماسك من حوله وضغطت على  ( الجُوَّاني )، البعيد المستقر، فانفجرت الذكريات واقتنصت وعيه تماما ًفانفصل عن الماحول وأعاد رسم ماكان بعيداً وغائراً .. الشاعر هنا مستسلم لسطوتها وجبروتها، إنه تحت هذه الرَجَّة، مقعيٌ، يرضى بدور    ( المَعْبَر ) لخروج ما كان أسيراً ومخبوءاً – أو مستقراً ؟ – في الأغوار البعيدةِ .. ينزاح الحنين هنا في شبكة وعينا من موقعه الرومانسي القديم الحالم إلى موقع الافتراس والسطوة القاهرة ووضع البطل الدرامي بإزاء حالة الاستسلام الكامل والتلاشي، عالقٌ في هذه الحياة الملتبسة مع عذابه الدائم الذي يغير كل ساعةٍ وجهاً: الذكرى.

إن عالمه الآمن هو الجُحر أوغرفته البعيدة، الوحيدة المتوحدة، فإذا خرج مضطراً – تحت تأثير هذه الحالة الجبارة من الحنين للحياة، الحياة بكليَّاتها وكل ما تعنيه من تفاصيل حية وساخنة، وكذلك مجرد التصورات عن الحياة – فإنه يرتعش ويقاوم كل مايعاين باعتباره مؤامرة ويلوذ بذكرياته التي هرب منها – والتي عذبته، قديماً ودائماً ً، لكنه قد ألف مداخل ومخارج قسوتها واعتاد حتى على روائح آلامه وطعومها، لهذا يكون البطل في مأزق التأرجح بين ما يعلمه ويرعبه وبين ما يجهله ويرعبه أيضاً وهنا يكمن الالتباس والخوف الذي يصل للقهر والقتل، من الآخر ومن الذات .... كأنه شبحٌ ينصهر إذا عاين النور.. تصدمه الشمس فيرف بعيونه من الوهج ومن الانكشاف الفاضح للضعف ليبدأ رثائه لذاته، تلكَ التي تم اقتناصها، قديماً وحالياً ودائماً

وعندما نتجاوز هذه العتبةِ الأوَّلِيةِ وندلف إلى عالم وشوارع وبيوت الديوان نجد أنه يحدد تاريخ كتابة النصوص في ديسمبر ولكنه ليس ديسمبر المعتاد، المؤقت، إنه ديسمبر الممتد، الكبير الجارح، وهو ما يوحي بأن الحالة المسيطرة عليه في هذه السنوات، جميعها، كانت أقرب إلى تجليات ديسمبر وامتداداته في الداخل والخارج، من الوحدة والخوف والشكِّ إلى البرودة القاسية ورعشةِ الأفكار والمشاعر ومذاق النهايات .

ولكي يُمَهِّد ويشير لنا على أن هذه التجربة تنتمي إلى جل تجاربه السابقة والتي يكون كل كتاب فيها وحدة واحدة وإن تنوعت المداخل والمخارج، بالإضافة لكونها كذلك تمتح من فضاء واحد هو خياله الجامح الباحث عن الشعرية في أنهارِ أخرى – فإنه يُكمل بثالث العتبات، بعد العنوان وتنويه سنوات الكتابة، بالمقتبس الذي صَدَّرَ به النصوص، فيكتمل الحوار الذي بدأ مع العنوان، حيث أنه وإذ يُلَوِّحُ من بعيد بشكه وعدم يقينه فيما ينهال عليه من المحسوسات، يربط بين انفجارة الحنين وانثيال الذكريات وبين ظنه دائماً بأن الأمر ينطوي على خدعة كبرى من خداعات اللاوعي الفسيح، الغامض، الذي لم يعهده أحدٌ واضحاً وطيباً من قبل، إنه دائماً يخبئ ويخاتل ويرمي بإشارات .. فيكون النهار/ النور/ الكشف، إذن .. ماهو إلا تورية وتمويه وخداع دائم وطول الوقت .. وقاسٍ وقاتل أيضاً، كالمعتاد .

ينقسم الديوان إلى أربعة دوال أو علامات كبيرة تنضوي تحتها النصوص أو الإشارات أو الدوال الصغيرة مما يكوِّن في النهاية العالم الذي يمور داخلياً في الذات لكنه بهروبه أو خروجه مع هذه الذات، يكون قد سحبنا بمكره لنندمج ونشارك في اللعبة التي قد نمارسها ولا نعي .

 

في العلامة الأولى " يحيكُ الظِلالَ وأرتديها " تحتفظ الذات لنفسها بمسافة مع الذكريات التي تدل عليها الفوتوغرافيا بتثبيتها الزمن عند لحظاتٍ بعينها، لكنها تسمح بانطلاق التجليات .. إن البطل ما يزال خائفاً ومرعوباً – وسيظل  – لذا يوهم نفسه، كي يتنفس بحرية على الأقل، أنه لم يسقط نهائياً في حفرة الذكريات، إنه يمارس الخداع أيضاً، ولو بخداع ذاته، مع أنه، بلعبته تلك، يكون قد مارس وبدون وعي، أول أسس اللعبة، المفروضة والقَدرية . هذه المجموعة من القصائد القصيرة، المصاغة بأقل قدر من الكلمات – وهو ما يتناسب مع حالة التحسس والارتعاش المرتبطة بالذكرى واكتشاف ماكان وكأنه الاكتشاف الأول، بما يمهد بعد ذلك لقرار الخروج، ليكون وكأنه الخروج الأول من الرحم/ الجحر/ الأمان، إلى العالم/ الزحام/ المجهول .. وكأنه يقدم للذات ما يملك أولاً ثم للعالم ولكن بشك كبير في تقبل هذا العالم/ الآخر وموافقته على التواصل الذي يسمح بصنع حياة وذكريات جديدة .. تمتحُ القصائد من احتمالين : أن هذه المشاهد هي حديث الفوتوغرافيا – الحنين بمعنى أوسع – في طورها أو موقعها الشعري أو أنها انعكاسات تلك اللحظات الزمنية البليغة على نفسية البطل .. أي أنها حديثه هو، وتشكيلاته هو وخيالاته هو، فيستلم من الفوتوغرافيا فكرة خلق زمن جديد ليبني صوراً قد تتناقض مع الزمن الأول .. بما يعني أن الفوتوغرافيا هنا قد لا تكون علامة على ما جرى ولكنها تَصَوُّرٌ لما كان من المفترض أن يجري .. واللعبة الشعرية تكمن في أن هذين الاحتمالين يتضامان معاً ولا يمكن فصلهما، فحديث الصور هو حديث حيوات البطل ورؤيته، التي ما هي إلا تفاعله مع الفوتوغرافيا وتحويلها إلى دراما، أي أن البلاغة هي بلاغة المشهد ورسمه وبلاغة التعبير عنه واختراعه ونقضه طول الوقتِ بالجمل الملتبسة، معاً . تسيطر الوحدة والفقد والاغتراب على هذا الدال الكبير، لتتفاعل معاً وتنصهر في أتون التفاصيل : "لا أريد شيئاً كثيراً/ لا عدة أشباحٍ/ ألحق بهم بلعتي النور/ ولا أن يمنحني الرجل المتجهم مراياهُ لنصفِ عمرٍ "إنه، برفضه الظاهري للتواصل، إنما يضمر شكواه وألمه من فشله في تحقيق الاندماج ومن سوء التفاهم الدائم . هو يشك في نوايا الآخرين إزاءه : "بالرغم من أنني أحسه يبالغ حقاً/ قُدَّام حوائطِهِ والمدفأةِ/ لم أحرمه متعته الصغيرة : أن أحيكَ الظلالَ/ كلما فات الخشبيون " الآخر، القريب، مريبٌ بالضرورة، وعبارة عن ظلٍ أو علامةٍ على آخر خفي، وكلما كان هذا الآخر بعيداً عن التصور القريب، تكون الهوة أوسع، مجرد كائن خشبي لا مشاعر عنده ولا نقاط تماس قابلة لصنع أي حياة مع ذلك القابع خلف ستارة النافذة، يراقب ويتلصص على اللحظات الحقيقية " كانت رائعة جداً وعاقلة/ عندما أخفت رسم السِكِّين تحت الوسادة "  أو  " كانت تتمناه بشدة/ ذاكَ المنقوشَ عليهِ/ بعدد سنين العمر "  أو " هو قاتلٌ لا جدال في ذلك/ لكنه سيندمُ، كزورقهِ وأوراقهِ/ لأنه لم يستمع إلىَّ  " .. لكن هل يمكن لنا أن نعتبر المتلصص أو المراقب الحذر الذي يبني بدائل درامية داخله عوضاً عن التواصل  المفقود، غير مشارك ؟ إلى أي مدى هو غير متورط ؟ لقد خلق من الجمادات والسكون حياةً مَوَّارة، له دور فيها بالقطع، دور يتراوح بين الفعل وصنع ردود أفعال، وبين قبول أن يكون طيفاً يكشف ويفضح ويخرب العلاقات المستقرة ليستمتع هو برسم زوايا جديدة، وجديرة، للنظر : " الشيطان العظيم،/ لماذا تقف بعيداً/  ولا تجرب ارتعاش اليدينِ/ الجميل الجميل ؟ " .

في الدال الكبير الثاني المسمى " أجوسُ في صدقي المؤجل، بابتهاجٍ حقيقيّْ " يكمل هذا الدور ولكن بتورط أكبر وبسرد يحمل قدراً واضحاً من الحميمية والبوح والهتك وليس الكشف فقط : " في ليالٍ مثلَ هذهِ، أنا أكشف الأمور/ أرمي عليها من لُهاثي وعَظْمي، فيتقشر الزمن وتعود مجلوةً/ أنا العَرَّافُ الشريف، لا أخفي شيئاً عن أحد "    إن هذا المقطع يحمل بيان الشعرية وطريقة لعبها وأبوابها الماكرة في الولوج إلى كل ما هو مخفي، فبتصدير البراءة نتمكن من التسلل والدخول ثم يبتسم المراقب، الدائم، الذي لا يفلت شيئاً .. ذلك الذي يكمل فراغات القصص ويملأ الحكايات باقتراحاته التي لا تنفذ، إنه الراوي العليم بكل الخلجات، كما تصرح باسمه الشعرية، كعنوان لأحد النصوص، لكنه في لحظاتٍ يغادر موقعه فيكون راوياً مشاركاً : " عندما أكدت له أنها مغلوبةٌ من عندِ وحشِ الجزيرةِ/ غافلتُنِي/ وغمزتُ" فبما أنه يعلم فهو الذي يملك توقيت التورط وماهيته، ليكمل القنص، ولكن ليس في سكة الخيال وإنما واقعياً هذه المرة، أو هكذا تومئ لنا الشعرية : "بعد أسبوعٍ/ واعدتُ خطواتي القتيلةِ كلها/ لأنساها" إن الزمن عندما يطول بالمتلصص فإنه يميل    حال خروجه – إلى الاستعراض، إلى تحويل الانفجاريات المكتومة إلى لحظات درامية يحسها الجميع وقد يحملونها معهم وهم عائدون إلى بيوتهم . تظهر تقنيات السرد أكثر ما تظهر في هذا الجزء، فيمكن أن تمسك بحادثة أو قصة لها امتداد خَطِّي – بداية أو وأحداث ونهاية .. الخ –  وتتفاعل مع الانتقالات المفاجئة للأمام وللوراء والتي تتم عبر الزمن بأنواعه .. الخ – وتجد المشهدية والديالوج والبصرية السينمائية والتبئير .. الخ وتتقابل مع راوٍ يغير موقعه كل مرحلة .. الخ وتظل تدور مع الفجوات في النص لتكملها وهكذا .. ومن نافلة القول التركيز على أني أقصد هنا (السرد الشعري) بمعنى أن هذا النص الشعري يمكن أن نطبق عليه آليات علم السرد ولكن من زاوية أنه شعر مكتملٌ بداءةً (ينبني من الصور والأخيلة والمجازات وإيقاع ظاهر أو خافت أو خفي .. الخ) ولكنه جاء في بنية سردية وأهاب سردي، وليس بالقطع، سرداً في مبنى ومعنى شعري، ولا أزيد .. إن البوح، الذي يصل إلى درجة الهذيان في بعض الأحيان – هو انفجارة الوعي وصرخته من الكبت الطويل وسنوات الخوف وطبقاته وامتداداتها في الروح .. هو صرخة الطائر المذبوح، سواء قبل خروج الروح بمسافة تسمح بالاعتراف أو في مرحلة الحلقوم الأخيرة صاحبة القدر الأكبر من السواد .

وفي ثالث العلامات الكبيرة " صباحُ القسوة يا رجل المطر " يرجع البطل إلى وحدته ولكن وقد حمل على معطفه الكثير من نقاط المطر أو التجربة والتشارك ولو كانَ ذهنياً، لهذا تميل أغلب نصوص هذا الجزء للتجريد واستكناه خبرة التأمل والحكمة المتولدة من مراقبة النار في المدفأة :" شمعةُ ظِلِّي تحوطُ الخوفَ/ وتغفو عندكِ/ إنها الأخيرةُ/  في الطائر الأخرس " ولكنَّ هذا يأتي بعد أن رسَمَ في نص" الطقوس " ما جرى له في رحلته المتخيلة والحقيقية في الآن ذاته، وتراوحه بين العودة الآمنة لحضن الذات وبين تكرار الاشتباك غير مأمون العواقب مع العالم : "هما خيارانِ/ أن أفوتَ في العينِ/ فأهوِي في دفءِ القسوةِ/ أو أن أعودَ أدراجي مبكراً/ قبل التورطِ  " .

ويبدو أن الذات الحائرة الخائفة، صاحبة الأشباح، الغريبة لأنها تعلم أكثر، تحسم أمورها وتعود في كل مرة. ترجع رغم الآلام، للوحدة والشياطين المرعبة والصديقة، ولها هي بالذات : " النوم: قريبُ ديسمبر/ الضيق الضيق " .

ويأتي الجزء الأخير في هذا النص –  المتصل الحلقات، المتشظي أيضاً –  والتي أسمته الذات الشاعرة  " كأنني " بكل ما يحمله هذا العنوان من قيم البوح والشك في نفس الوقت، ليكون خاتمة المطاف، فيروي عن نفسه ويفضح ذاته، لكن مع ملاحظة أنه قد يحكي بالأساس لذاته وليس لأي كيانٍ آخر، فيبدأ من صباحه الأول ويمر بأسلافه والرفاق والبنات والمقهى وذلك من خلال ديسمبر، الفضاء والسماء السوداء : ( وكلما يَنُطُّ الشتاءُ / يغمِض ردائَهُ تحتَهُ  ليقولوا " كانَ خفيفاً زمنئذٍ/ فسَابَ نظرةً/ وحفرتَينِ") إنه الاطمئنان الذي يسبق العواصف ويمهد لها ولو بخوفه، و ينتظرها لاستعادة ما كان، بعد تهيئة الجو النفسي، الملتبس . إنه يعيد رسم الدائرة ليترك فرجةً لها كي تخرج وتتناسل وتتكرر مرة أخرى ولو في زمن آخر ومع أشباح آخرين وفي حيوات ثانية .. و لهذا تقسم الشعرية القصائد في هذا الجزء تحت مسمى " فصل " بما يوحي بالارتباط والتسلسل وأن النصوص تكمل بعضها ولا تنفصل وتخرج من معين واحد .. إن الجزء الأخير هو فضاء الأجزاء السابقة، هو الأصل الذي جاءت تنويعاته وتجريدياته فيما سبق من نصوص، وبطبيعة الدائرة ومطاطيتها تستطيع أن تغير مواقع البدء والختام دائماً .  إنه البيت الذي خرجت أشباحه وظلاله لتشتبك مع العالم   أو بالأحرى تقتنص منه ما يساعدها على اللعب وإعادة الخلق . إن البطل هو الشبح / شبيه الإنسان / أصله وحقيقته .. الذي يقبع لتستعمره الذكرى، تلك التي يأتي هو بأدواتها : الفوتوغرافيا، المحسوسات، الأماكن والروائح الخ .. صاغراً، مرتعشاً .. ثم ينفتحَ الوعي ليمارس رسم ما كان بأكبر قدر من البوح والاجتراح وتغيير الملامح والصياغات، إنه الصدق الذي كان مؤجلاً دائماً . ثم تأتي المغامرة المحفوفة بالمخاطر والهلاوس المرتقبة .. والتي هي الخروج –  سواءً الواقعي أو على مستوى التخييل –  والاندماج والتواصل الفعلي مع العالم .. لنصل في نهاية هذه الرحلة إلى عودتهِ ليقبع مرة أخرى مع ذاته أو في ذاته وحولها، باعتبارها أقنوم الأمان، الملتبس ولكن الممسوك، معوضاً أي تواصل مع الآخر– أي آخر–  بإيهامنا – والذات – بحنين وذكريات قد تكون حدثت أو لا تكون .. لتكتمل الدائرة طارحة الشك طول الوقت، وهو الذي يسمح دائماً بإعادة النظر من أي نقطةٍ على سطح الدائرة، وهو ما يُثبت ما ألمحنا إليه في البداية وهو كون كل ديوان في تجربة الشاعر وحدة واحدة رغم تفريعاتها المختلفة، وخروجاتها الدائبة على إطاراتها

وقبل أن ننهي تحاورنا مع الديوان نشير لخِصِّيصتَيْنِ فَنِّيَّتيْنِ بازغتَيْنِ عند المبدع وهما أولاً : الصياغة الخاصة، المُركَّبة التي تفتح أبواباً شتى للتأويلات .. فعندما يقول النص جملةً من مثل " يحيكُ الظِلالَ وأرتديها " .. فإننا نكون بإزاء عدة احتمالات : أن يكون الفاعل الذي بلا مرجعية هنا، للفعل الأول (حياكة الظلال) هو المطلق، وفاعل الفعل الثاني (ارتدائها) هو بطل النص .. وفي هذه الحالة نكون بإزاء علاقةٍ طرفيْها غير متكافئيْنِ، المطلق هو الفاعل الأصلي والشخص هو صاحب رد الفعل .. وكذلك والحالة بهذه الكيفية – يندمج الدالان " هو "، و" الشبح  " الماثل في لا وعي النص، والذي يلعب النص مع تماثلاته مع البطل، بدءاً من عنوانه الأول – ويصير الشبح مجرد تجلٍ للشخص، أو العكس سواءً بسواء .. وتصير العلاقة الأساسية بين طرفين أولهما مطلق، متعالٍ، وغامض، وبمنطق النص : جبار وقاسٍ .. بينما الكِفَّة الثانية، التي تتكون من كائن جديد عبارة عن إنسان وشبح معاً – هي الأضعف، المنسحقة، الخائفة والمرتعشة طول الوقت.

والاحتمال الثاني أن العلاقة قائمة بين طرفين أحدهما، وفاعل الفعل الأول، هو الشبح .. وفي هذه الحالة يعلو الشبح ليحمل كل الصفات العلوية المطلقة، المرعبة .. ويرزح الطرف الثاني تحت صفات الضآلة والانسحاق .. بالرغم من أن هذا الشبح يمكن أن يكون نتاج كوابيس البطل الشخصية وعذاباته، يعني شبحه الشخصي أو شبيهه أو قرينه أو حتى نقيضه وضده .. كما يمكن أن يكون شبحاً (خام) يخص راحلين أو لايخص الخ

ولا ننسى دال (الظِلال)، المكتنز هو الآخر بالاحتمالات، هل يرتبط بالبطل أم بالشبح أم بهما معاً : كمساوٍ لهما    أو نظير أو حتى نقيض ؟ أو أنه بالأساس لا ينبت ولا يتخلق إلا في وعي المطلق ؟ .. وهكذا نلعب مع إشعاعات الفن واحتمالاته المتتالية ولا نتعب ..

وثاني الإلماعات، والتي نقدمها مع سابقتها كإشارات غير وافية، لتمايزات الكتابة : دمج العجائبي مع التفاصيل وسبكمهما في سبيكة واحدة،  لتخليق نص لا نتوءات بين أجزاءه وخلاياه .. فتجمع الكتابة بين مالا يُظَنُّ  أنه يصح فيه الجمع وتخلق منطقها من المصدرين معاً : الأسطورة والتفاصيل، رغم إمكانية اقتناص الشعر من أيهما، وهو السائد في هذا الجيل ... ولنتأمل هذه المقاطع" في كل مرة ٍ/ لا نسرقُ إلا المروجَ / والحيطانَ الخَوَّافَةَ/ من عصا الراعي / في كل مرة ٍ.. " .وكذا " في الحفرةِ بَرقٌ / يُغافِلٌ الذبائحَ / والجبلَ / وجِلْدَ الراعي ../ ويقتنصُ هِزَّتَكِ " .أو " الشجرةُ /جمعت الشرايينَ / وخاطت الحريقَ في ذيلِهِ/ كي لا يحزنَ ثانيةً أو يغوصَ ../ وكلما تقابلا / لاحظت كلامَ الساحراتِ / وأخذتهُ في شهقتِها .." .في المقطع الأول تصاغ الأسطورة بألفاظ وسرد يقترب من التداولية ويؤكدها بعبارة ( في كل مرة ) الدالة على الديمومة والتكرار .. وفي الثاني يُدخِل المخاطبَة في المشهد بكل انسيابيةٍ لتنزل الأسطورة من سماءها بهدوءٍ ومكر .. أما المقطع الثالث فهو الأوضح على السبك المحكم وعلى السرد الذي ينجدل من الأسطورة ويحكي لصديقٍ معاصر، في الآن نفسه ..مؤمن سمير، هنا، ينجح كعادته –  رغم أن النصوص أقدم في زمن الكتابة من أعماله التي صدرت من قبل 

في صنع قصائد تتخلق من وعي مديني منفتح، بعيد

عن أي رومانسية غابرة، ويفلح في صنع مسرح واضح الأركان وحياة من لحم ودم، وخيالٍ أيضاً .. تستطيع أن تناورها بإيجابية لأنها بمكرها الفني الجميل، تسيب لك المداخل والمفاتيح، عبر لغةٍ مُحمَّلةٍ وحسَّاسة لأقصى درجة، تتوسل بالسرد كما تصنع مجازاتها الماكرة المدهشة، تراوحُ بين الواقعي والأسطوري العجائبي بمهارةٍ ودَرَبَةٍ وتترك إشارات وجمل وحالات وحيوات في البداية لا تكتمل إلا في النهاية، وإحالات تحتاج متلقياً واعياً ومشاركاً في إنتاج النص . وكما ألمحتُ قبلاً، إن تأكدَّتَ أن المبدع صاحب مشروع، يعمل له وعليه، فصاحِبْه وأنصت له، أو معه لَمَّا يدلكَ على دبيب ماتحت السطوح، أو يتساءل معك أو يومئ لك أوفيك ... كي لا تُحرم من اللعب الخالق والبَهجات .....