يتناول الباحث المغربي المرموق هنا مفهومين أساسيين من المفاهيم التي بلورها جوته في وقت مبكر، وهما مفهوم الأدب العالمي والذي خرجت من عباءته الكثير من مدارس الأدب المقارن، ومفهوم الترجمة وأدوارها المختلفة في تعزيز الحوار بين الثقافات، وفي إغناء النصوص والمعاني التي ينطوى عليها النص المترجم.

غوته: قضايا الترجمة والأدب العالمي

حسـن بحـراوي

تمرّس غوته Goethe بكل الأجناس الأدبية والشعرية المعروفة في عصره، فكتب الشعر والمسرح والرواية، إلى جانب المذكرات والرسائل بل حتى الأبحاث العلمية. أما الكتابة النقدية والتأملية فلم تكن بارزة في إنتاجه. وفيما يخص الترجمة، فقد نقل غوته العديد من نصوص ديدرو وفولتير وأوربيد وراسين وكورناي والكثير من الأشعار عن الإيطالية والإنجليزية والإسبانية واليونانية.. وإذا كانت ترجماته لا تطاول تلك التي أنجزها كبار المترجمين من أمثال فوس وهولدرلين أو شليغل، فإنها تكشف عن الجهد المتواصل الذي بدله غوته لإطلاع القراء الألمان على الآداب الأجنبية معتمدا في ذلك على معرفته للعديد من اللغات وعلى حسّه الإبداعي والشعري في المقام الأول.

كما عاش غوته كذلك تجربة الترجمة المعاكسة من خلال ما تُرجم له من أعماله الشخصية إلى اللغات الأجنبية التي كان يُشرف بنفسه على بعض طبعاتها. وقد أتاح له كل ذلك الإدلاء بالعديد من التأملات حول الترجمة تمتاز بغناها وتنوّعها. وبالرغم من أنه لم يعمل على جمعها في إطار "نظرية" متكاملة فإنها تتوفر مع ذلك على ما يكفي من الانسجام والتماسك المستمد من رؤيته الإنسانية والاجتماعية والثقافية. (1)

وكانت هذه الرؤية تقوم لديه على الاعتراف بأهمية التفاعل والتشارك والتبادل المفترض أن يقوم بين الثقافات العالمية، وتنهض فيها الترجمة بدور المحرك الأساسي الذي يؤدي من جهة إلى الانفتاح على آداب الشعوب والأمم المختلفة في تعددها وتنوّعها، ومن جهة أخرى إلى تشكيل هويّته الثقافية الخاصة ووعي علاقته بالآخر المختلف. ومعلوم أن هذه الفكرة تستند عنده إلى مبدأ تاريخي قام باستخلاصه والدعوة إليه، هو مفهوم الأدب العالمي أو الكوني Weltliteratur الذي يمثّل برأيه اختلاطا وتفاعلا بين الآداب الوطنية وتبادلا للتأثير معها على أن مفهوم الأدب العالمي هذا لا يلغي الأدب الوطني أو يحلّ محله، وإنما يشير إلى تلك الضرورة التي تحمل الآداب المعاصرة على التعايش النشيط والواعي في فضاء من التفاعل والاعتراف المتبادل. ويمثل المترجم حجر الزاوية في تخليق هذا الأدب عندما يعمل كوسيط بين مختلف اللغات والثقافات ليغْنيها ويغتني بها.( 2)

ومع اعترافه بتواضع، بل بعجز الترجمة عن النهوض بهذه المهمة، فإن غوته يرى بأنها من أكثر الأنشطة جوهرية وأحقّها بالاعتبار في سوق التبادلات العالمية والكونية. حتى أنه يسوّي بين مهمة المترجم ومهمة النبي:"يقول القرآن بأن الله يبعث لكل أمة نبيا يتحدث لغتها، كذلك كل مترجم هو بمثابة نبي في أمته". وبالنسبة إليه، فقد كانت اللغة الألمانية مؤهلة أكثر من غيرها لتكون "سوقا" لتبادل وترويج هذا الأدب العالمي وذلك لأنها برأيه كانت لغة للترجمة بامتياز لأنه من خلالها أمكن للقراء أن يقرؤوا أفضل المؤلفات الأجنبية (يونانية .. لاتينية .. إيطالية وإسبانية) مترجمة إلى الألمانية بطريقة بالغة الجودة تُغني عن إهدار الوقت في التعلّم الصعب للّغات الأجنبية. ويعلّق بيرمان على هذا الموقف قائلا بأنه، إذا كانت الألمانية قد نجحت بفضل جهود مترجميها في استضافة المؤلفات الأجنبية وإسماع صوتها بأفضل ما يكون، فإن ذلك لا يجعلها حتما هي "اللغة المختارة" لتخليق ما أسماه ب"الأدب العالمي". فعلى خلاف ما اعتقده غوته ومواطنوه من مثل شلايرماخر وهمبولت ونوفاليس، فإن هذا الأدب العالمي يبشّر بعصر الترجمة المتبادلة بين مختلف الشعوب حيث اللغات تتعلّم عن بعضها كيف تعيش تجربة الترجمة وتفيد منها. وقد عاش غوته فترة ما بين 1820 و 1830 ليشهد كيف انتقل الأدب الألماني، ومنه أدبه هو نفسه، إلى الفرنسية والإنجليزية .. إلخ (3)

وعلى مستوى أعمّ، وربما أكثر تجريدا أي اقترابا من روح التأمل النظري، يقترح علينا غوته في مؤلفه المتحفي "الديوان الغربي الشرقي" تحقيبا من ثلاث مراحل أو لحظات طبعت تاريخ الترجمة في العالم (4(:

- المرحلة الأولى وكانت تُظهر لنا النص الأجنبي كما نفهمه نحن، ولذلك لم تكن تجد أفضل من الترجمة النثرية البسيطة.

- المرحلة الثانية وقد تميزت بحرص المترجمين على التكيّف مع أوفاق النص الأجنبي، ولكن من غير الذهاب بعيدا في تملّك روحه الأجنبية بل الاكتفاء بنقله إلى ذهنيتنا الخاصة. وهو يسمى هذه المرحلة بالمحاكاتية parodistique، وهي التي عمل فيها الفرنسيون على ترجمة الأعمال الشعرية الأجنبية، وتميزت لديهم بتكييف ليس فقط اللغات الأجنبية ولكن أيضا المشاعر والأفكار بل الأشياء أيضا. فقد كان من المفروض  لديهم بأي ثمن أن يجدوا للفاكهة الأجنبية معادلا أو مقابلا محليا مما يقرب هذا النوع من طريقة "الجميلات الخائنات".

- ولكن، وبما أن سنّة التحول لا تُديم الأمور على حالها، فقد انتقلنا إلى مرحلة ثالثة وهي التي يمكن وصفها بالمرحلة العليا أو الأخيرة، وهي التي تقتضي أن تجعل من الترجمة مطابقة للأصل، بل أن تحلّ محله، وهنا نلامس نوعا من الترجمة الحرفية. وقد صادف هذا الشكل الأخير من الترجمة مقاومة كبيرة، وسببُ ذلك أن المترجم الذي يتعقّب الأصل عن قرب ينتهي بالتفريط في أصالة أمّته.

ويرى غوته أن هذه الأشكال الثلاثة من الترجمة يمكنها أن تتعايش ضمن أدب ما، إما مجتمعة أو متناوبة أو بالتعاقب العكسي. وبالنسبة إليه، فإن الشكل الثالث من الترجمة، أي تلك التي تسعى إلى التطابق مع الأصل، من شأنها أن تمكّننا من فهم أفضل للأصل عندما تقودنا إلى النص الأوّلي أو البدئي. إن غوته يقدم أنواعه الثلاثة باعتبارها أشكالا "تاريخية" للترجمة مرتبطة بالعلاقة مع الأجنبي. وهو يشير في إحدى رسائله إلى أنه ليس علينا في الترجمة أن ندخل في صراع مباشر مع اللغة الأجنبية، وإذا ما اصطدمنا باستحالة الترجمة فعلينا أن نحترم تمنّع اللغة الأجنبية. لأن هذا يكون علامة على قيمة وأصالة كلّ لغة، أي دليلا على طابعها الأجنبي واختلافها. ومن هنا تنسيبُه لعملية الترجمة الذي مصدره نزعة غوته الإنسانية المشهود له بها. فإذا ما تعذر على المترجم أداء قصيدة شعرية أجنبية بإيقاعها وقافيتها، فإنه من حقّه أن يترجمها نثرا شريطة أن يحافظ لها على ما يسميه "مضمونها الخالص المكتمل". (5)

إن مفهوم "المضمون الخالص المكتمل" عند غوته يغطي مجموعة الخصائص التي يتوفر عليها الأصل، أي "عمقه وحميميّته ومعناه واتجاهه"، وباختصار كل ما لا يؤثر فيه تعاقب الأزمنة ولا الظروف الخارجية مهما كانت. ومن هنا نستخلص الطبيعة النسبية للترجمة المرتبطة باختلاف اللغات والثقافات. كما أن الترجمة بهذا المعنى، تساعدنا على إغناء ثقافتنا ولغتنا الخاصة عن طريق تطعيمها بما هو مختلف ومعارض في الثقافة الأجنبية لتصبح العلاقة مع الآخر علاقة تعايش ممكن وعلاقة معاصرة قائمة على التبادل والتفاعل. (6) ومن هذه الزاوية، وبتدخلٍ فاعلٍ من غوته بكامل سلطته الرمزية، أمكننا أن نشهد تغيّرا انقلابيا في العلاقة مع الأجنبي: فبينما كانت العلاقة مع الآخر على عهد "الجميلات الخائنات" تتميز بالرفض والتجاهل، وفي أحسن الأحوال بالإلحاق أو المحاكاة، سنجدها في ألمانيا الكلاسيكية والرومانتيكية قد أصبحت اعترافا بالآخر واستمدادا منه.

ولمّا كانت الثقافة الإغريقية تمثل لدى غوته قمّة "التعبير المباشر عن الطبيعة"، فإنه ظل يعتبرها من أكثر الثقافات إنسانية واكتمالا. وهو لذلك يدعونا إلى اتخاذها نموذجا لأنها تشكل قمة التناغم الإنساني وتجمع بين التاريخية والمعاصرة التي تجعلها تعيش على الدوام في الحاضر. وفي هذا السياق، يأخذ غوته على الرومانتيكيين الألمان كونهم ترجموا كلّ شيء لقدماء الكتاب عن الإيطالية والإسبانية والإنجليزية والهندية مستبعدين من دائرة اهتمامهم زمرة معاصريهم من الأمم الأخرى، ويأخذ عليهم كونهم عاشوا في فضاء ماضوي، وفضّلوا التعامل مع المؤلفين الأموات مديرين ظهرهم للكتاب الأحياء. (7) وهناك أخيرا، فكرة هامة عبّر عنها غوته بصدد ترجمة الشعر، وذلك عندما قُدمت له الترجمة اللاتينية لقصيدته "هيرمان ودوروتي" حيث كتب التعليق التالي:
«مرّت سنوات ولم أُعِد قراءة هذه القصيدة المحبوبة من الجميع. الآن أنا أتأملها كما لو في المرآة .. تلك التي نعرف من التجربة أنها تمارس علينا قوة سحرية .. ففيها أرى شعوري وقصيدتي وهي في نفس الوقت متطابقة مع الأصل ومختلفة عنه، لكونها صُبّت في لغة أكثر نضوجا (من الألمانية). وأكتشفُ أن اللاتينية تميل إلى مفهمة وتغيير ما ظلّ (في الألمانية) محتجبا بطريقة بريئة.»(8) كما يضيف بأن قصيدته بدت له أكثر نبلا، أي كما لو أنها قد عادت إلى الأصل من حيث شكلها. وهو نفس الشعور الذي ساوره عند قراءته لترجمة نيرفال لفاوست إلى اللغة الفرنسية، تلك الترجمة التي أثارت الكثير من النقاش في أوساط منظري الترجمة. ومعنى ذلك أن الترجمة الجيدة بوسعها أن تنعش وتحيي العمل المترجم. ومن هنا نستخلص أن المترجم لا يعمل فقط لصالح لغته الوطنية، بل يتعدّى ذلك لتقديم خدمة للّغة التي يترجم عنها.(
9)

وعلى هذا النحو، فإن النص المترجم  قد يصبح ذا مقروئية أعلى من تلك التي كانت له في لغته الأم، وهنا يتجاوز معنى الترجمة كونها مجرد وساطة بين الأعمال الأجنبية واللغات المستقبلة لصالح قراء يجهلون لغة الأصل، لتتحوّل إلى تجربة وإلى إنتاج مكتمل موجّه ليكون مقروءا من طرف الجميع، أي بمن فيهم أولئك الذين كُتبت لهم أصلا.(10) وربما كان المثال الأشهر لهذه الحالة هو تلك الترجمات التي قام بها غوته نفسه لشكسبير، والتي يشهد الراسخون في الميدان بأنه بواسطتها أصبح شكسبير عالميا، بل أُعيد اكتشافه في وطنه الأصلي وأصبح رمزا لعموم الناطقين بالإنجليزية. لقد كان لغوته فضل اكتشاف مفهوم للترجمة بوصفها انعكاسا على مرآة، لغوية وثقافية، تعيد النص إلى جذوره وتجنّبه "الملل الذي يتهدّده"، وبالتالي تحققُ له فرصة أن يعيش حياة أخرى تُغنيه وتضاعف من إمكانية تلقّيه وتقبّله في لغات أخرى غير لغته الأصلية.

ومن وجهة براغماتية، يمكن القول بأن غوته جاء ليعلن بأن للترجمة مهمات خطيرة تتعدى النقل المباشر لأعمال الآخرين لتحقق ثلاث غايات متكاملة هي على التوالي:
1- التعريف بالبلدان الأجنبية وفقا للمعايير الحديثة.

2- استعمال النقل والإضافة لإيصال معنى ما وبيان طريقة تفكير مؤلف ما.

3- إقامة تطابق كامل بين النص الأصلي والترجمة عن طريق ابتداع طريقة جديدة تحافظ على خصوصية وروح الأصل بإعطائه شكلا جديدا.(
11)

لقد أتاحت لغوته عبقريتُه وإشعاع تفكيره أن يزيد من ترسيخ دور الترجمة، ويوسع من أفقها لتغادر موقعها المتواضع كعامل تخاطب واتصال، وتتحول إلى عنصر فعال في تلاقح اللغات والثقافات، ووسيلة لتقريب الأفكار والاتجاهات بما يضمن أكبر قدر ممكن من التفاهم والتعايش..وكل ذلك في انسجام تام مع رؤيته الكونية للفكر والثقافة.

 

أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس. الرباط. المغرب

 

هوامش:

1 Berman.Antoine: L'épreuve de l'étranger.Culture et traduction dans l’Allmagne romantique, Paris.Gallimard.1984.pp62-63.

2 Ibid.pp89-92.     [1]

3Ibid.pp93-94.

4  Berman.op;cit.pp95-98.

5Goethe Johann Wolfgang:Le divan occidental-oriental.trad. Lichtenerger. Paris.Aubier- Montaigne.1963.

.pp430-433.

6Ibid.pp99-101.

7 Ibid.pp102-103.

8 Ibid.p106.

9 Ibid.p107.

10Ibid.p108.

11Redouane.Joèlle:

- La traduction: science et philosophie de la  traduction.O.P.U.Alger.1985 .

نيومارك. بيتر: اتجاهات الترجمة.جوانب من نظرية الترجمة.ترجمة إسماعيل صيني.دار المريخ1986.