ينسج القاص العراقي حكاية نصه متأرجحا بين الشك واليقين بمخيلة جنود يستعدون تفاصيل حياة عابرة في معسكر وأحداث عن معاناة الجنود من الكبت الاجتماعي والجنسي والحياتي ووقوعهم تحت قبضة الحياة العسكرية الصارمة التي تحيل الحياة إلى ما يشبه كابوس ثقيل يمر ببطء شديد.

الحارس الجليدي

لؤي عبد الإله

ما زال الشك يراودنا، كلما التقينا، بحقيقة ما جرى في تلك الليلة، وعندما يسترجع أحدنا بعض أحداثها، يكتنف جلستنا الصمت والوجوم، فتلتصق أعيننا بذرفة الباب، متوقعين تململه في أي لحظة، ليظهر لنا جاسم سالما معافى.

كانت أحاديثنا تدور، غالبا، حول المعسكر الذي قضينا فيه خدمتنا الإجبارية؛ هناك تعرَّفنا إلى بعض؛ وهناك اقتسمنا معا صنوف الإذلال والمهانة على أيدي ضباطه وعرفائه. لكن انقضاء فترة طويلة على تلك التجربة القاسية، والانغماس في الحياة المدنية الرخية، خفف من آثارها في نفوسنا إلى درجة أصبحت فيه موضوعا للتندر والسخرية، وأصبح جلادونا المرعبون مخلوقات مضحكة بلهاء. هكذا كنا نقوم بالانتقام منهم، بطريقتنا الخاصة، بعد أعوام عديدة على تخلصنا من جبروتهم.

وكم ظلت تلك التفاصيل تتبدل في ذاكرتنا، مما جعل بعضنا مصراً على وجود شجرة التوت الواقعة قرب السجن، مقابل أولئك الذين ما انفكوا ينكرون وجود أي شجرة فوق أرض المعسكر كله. إلاّ أننا جميعا كنا متفقين على شيء واحد: في تلك الليلة الصقيعية، كنا معا في السجن، نراقب من قضبانه الغليظة جاسم وهو يؤدي نوبة حراسته.

كان البرد يحفر طرقاته عبر عظامنا في تلك الليلة بدون هوادة، تتغلغل الريح عبر جدار السجن المغطى بقضبان متصالبة، لتعبث بنا وبأغطيتنا كيفما تشاء، ولتجبر كلا منا على الالتحام بالآخرين. على رغم ذلك كنا من وقت إلى آخر نزيح الأغطية عن وجوهنا لنتابع جاسم وظله بشغف في حركتهما البندولية الرتيبة.

ولم يكن لزاما على جاسم أن يقوم بواجب الحراسة، في تلك الليلة المشئومة لو أنه قبِل بالبقاء معنا، متحملاً قراد السجن وبراغيثه أسبوعا واحدا، متقبلاً بأريحية جز شعره، بدلا من رفع سبّابته للعريف جمعة موافقا على عرضه بالإفراج عمَّن يشارك في أداء بعض المهام الطارئة.

لا بدّ أن العريف، كان مستيقظا أثناء ذلك، يتابع جاسم من نافذة حجرته المضاءة، حتى وقوع الحادثة، يسكنه خوف من قدوم الضابط المسؤول، إلى موقع السجن إن هو سمح للآخر بالمضي إلى داخل الثكنة أو إعادته إلينا. ولا أحد يستطيع إقصاء الاحتمال في مراقبة ذلك الضابط لجاسم من غرفته المطلة على المعسكر، ولعل المسافة الفاصلة بينهما كانت تتيح مشاهدة ذلك الحارس المثالي؛ كرة تتحرك بانتظام مثير للدهشة بين طرفي ساحة التدريب الفسيحة.

عبر النافذة بدا لنا وجه جاسم من دون أي تبديل؛ الصرامة نفسها، والحزن نفسه، وكأن الأشياء عنده لا تختلف: أن يكون مع حسناء؛ في بار دافئ؛ أو في حفرة باردة. أهم شيء لديه أن يكون معنا، وأن نجنِّبه اتخاذ أي قرار، إذ ليس عليه سوى تنفيذ ما نقرره بحماسة وجرأة غريبتين. لذلك جاءت موافقته على تركنا في السجن، والمضي لتأدية نوبة حراسة، أمرا عسيرا على الفهم أو التقبل.

برّر بعضنا، بعد مرور زمن على وقوع الحادثة، سبب ذلك التحول المباغت في سلوك جاسم إلى مرض النظافة الذي ظل مرافقا له طوال فترة الخدمة العسكرية، إذ ما أن يقدَّم له الطعام حتى يمضي في تنظيف ملعقته وصحنه بحرص كبير، بمنديل أعدَّه خصيصا لهذا الغرض، ولا يرضى  باحتساء أي شراب، قبل القيام بتنظيف كأسه، تنظيفا مبالغاً فيه، فما بالك أن يوضع في سجن مكتظ بالنزلاء والقمل والأوساخ.

لكن أولئك الذين راقبوه طويلا أثناء نوبة حراسته لهم آراء مختلفة. زعم أحدهم أنه كان يشاهد شخصا آخر، مختلفا عمن كنا نعرفه. ولكأن موافقة جاسم على مغادرة السجن بدوننا قد زرعت فيه روحا مناقضة لروحه: تحت سماء موشحة بحمرة كابية، ووسط عويل رياح قطبية، اندفع صديقنا في تأدية واجبه، مغلفا بمشاعر عزلة مطلقة، غير آبه بصفحة الجليد التي بدأت تغطي أرض المعسكر الندية.

وكم يبدو سبب سوقنا إلى السجن غير قابل للتصديق عند ربطه بتلك الحادثة. فقد اعتاد الكثير من الجنود على التسلل إلى قرية قريبة من المعسكر لقضاء الليل مع نساء الغجر، والعودة فجرا إلى ثكناتهم. لكن احتمال الوقوع بيد إحدى دوريات الانضباط العسكري كان قائما دائما، وهذا ما يجعل المغامرة أكثر إثارة. رافقنا في المرة الأولى أحد الجنود المقيمين قرب القرية، وفي المرة الثانية تسللنا من دون دليل، فكنا صيداً سهلاً لإحدى تلك الدوريات الليلية.

هل تسرب النوم إلينا أخيرا، أم أن التحول الذي طرأ على السماء قد خلق في نفوسنا هذا الوهم؟ كانت قاعة السجن على حالها حيث بقع الضوء المتسرب إليها من الخارج تكشف عن كتل من الأغطية موزعة بفوضى فوق أرضيتها، وينبعث من تحتها همس وشخير.

اقتربنا بتردد صوب جدار القضبان الفاصل بيننا وبين المعسكر. كان لون السماء النحاسي قد اختفى، وحل محله بياض منطفئ، موشح باللون الرمادي. وفي طرف الكون الأبعد، خفَّت العتمة قليلاً، موشية بقرب انبلاج الفجر. كم بدا لنا المشهد شبيها بشريط سينمائي، يدور حول كوكب منبوذ مغلف بطبقات هائلة من الغيم.

ها نحن، وللمرة الأولى في حياتنا، نشاهد ثلجا: ثلجا على هيئة صفائح شاقولية وأفقية، منتشرة في كل مكان. وما سمح لنا بالتملي في الرؤية، توقف الريح عن الحركة، وكأنها هي الأخرى قد جمدت، وتحولت إلى جليد لا مرئي. كانت أطراف شجرة التوت ساكنة بجلال، مغروزة في أحشاء الفضاء المتكلسة، تنطلق منها في الفينة والأخرى بضعة غربان، فتحلق قليلا حول الشجرة، ثم تستقر فوقها بعد أن تنفض عنها نثار الصقيع.

لا بدّ أن لوثة قد أصابت حواسنا، عند مشاهدتنا جاسم وسط ذلك العالم، جعلتنا عاجزين عن التعرف إليه أو مناداته. فكأنه في خطواته المنتظمة بين طرفي الساحة كائن ينتمي إلى مملكة هذياننا وكوابيسنا، لا صلة بحقيقة واقعنا. كانت بندقيته مشرعة نحو السماء، ينتصب فوقها خيط جليدي رفيع معلق في الفراغ، في وقت ظلت فردتا جزمته تضربان الأرض بقوة فترجِّع الجدران صدى إيقاعهما، لتعمق إحساسنا بحضوره الوهمي. وحينما بدأت سرعة حركته تتضاءل ومساره يقصر تدريجا، راح كل منا يتنبأ في ذهنه بموقع توقف ذلك الرقّاص عن الحركة.

فجأة، وقرب الشجرة الوحيدة انطلقت صرخة مجلجلة، لكن الجليد كتمها بأصابعه القاسية، ثم حوَّلها في الفضاء إلى كتلة ثلجية، مشعشعة بنثار أضواء المصابيح البعيدة.

ستمر سنوات قبل تسرب الشك إلينا بحقيقة وجود السجن، وسنوات أخرى للشك بوجود ذلك المعسكر، ولا بدّ أن اليوم الذي سنبدأ فيه بالاختلاف حول حقيقة صديقنا الجليدي غير بعيد جدا.