يواصل سعيد يقطين دراسته التي ينشرها في (الكلمة) على حلقات حول التغيرات العميقة التي تنتاب بنية الكتابة بسبب التحولات التي جلبتها التقنيات الرقمية الجديدة، فاتحا آفاقا جديدة أمام النص العربي الجديد.

آفاق جديدة: ترقيم النص العربي

الكلمات المفاتيح: الشفاهية ـ الكتابة ـ الطباعة ـ الرِّقامة.

سعيد يقطين

. تقديم:
بعد أن ميزنا بين النص المرقم والرقمي انتهينا إلى التفريق، بناء عل ذلك، بين النص الإلكتروني والنص الرقمي وخلصنا إلى أن النص العربي الموجود حاليا في الفضاء الشبكي هو، في الأغلب، إلكتروني فقط، وأننا مدعوون إلى الانتقال إلى المرحلة الرقمية. هذا التمييز لا يعني التفضيل بينهما إذ يمكن لكل منهما أن تكون له خصائصه المائزة. وحين نميز بينهما فلتأكيد أننا ما زلنا في مرحلة أولية، وعلينا الانتقال إلى مرحلة أخرى. وفي كل مرحلة ستبدو لنا إمكانية الانتقال إلى غيرها. ولعل الانتقال إلى المرحلة الرقمية في إنتاج النص العربي وتلقيه يستدعي وعيا مغايرا لما هو سائد حاليا لطغيان "الوجدان" ما قبل الرقمي في متخيلنا من جهة، وبسبب غياب ثقافة رقمية عربية، من جهة أخرى. لكن ذلك لا يعني أن علينا انتظار تغير الوجدان وانتتشار الثقافة لتحقيق ذلك الانتقال. علينا، البدء في التفكير وتحسيس المهتمين والمشتغلين بالثقافة العربية بأهمية العمل في هذا الاتجاه بقصد الإسهام في ممارسة هذا التحول الذي ينبغي أن يتأسس على الوعي بضرورة الثقافة الرقمية وأهميتها في التجديد والتطور.

يتحدث الجميع الآن عن كوننا نعيش عصرا رقميا، وأننا ندخل في مرحلة رقمية. لكن هذه المرحلة هي وليدة صيرورة علينا أن نعيد التفكير في مسارها لنصل إلى معاينة علاقة هذه المرحلة بسابقاتها، وما حققناه سابقا، وما يتعين علينا إنجازه لاحقا، لربط اللاحق بالسابق والعمل على استشراف الممكن والمحتمل. لقد مر الإنسان من الشفاهية إلى الكتابة، وبظهور المطبعة إلى الطباعة، ومع المرحلة الرقمية إلى الرِّقامة. فما هي مميزات كل مرحلة من هذه المراحل في مضمار إنتاج النص وتلقيه؟ وما هي إنجازات كل مرحلة لاحقة بنظيرتها السابقة؟ وما هي المتطلبات التي تفرض علينا الانتقال إلى الرقامة انتقالا نستفيد فيه مما تحقق في كل المراحل على نحو مطابق وملائم، يجعل دخولنا العصر الرقمي دخولا طبيعيا وقابلا للتراكم والتحول النوعي؟ ذلك ما سنتبينه في هذه الدراسة بالانطلاق من تغير المراحل في تاريخ النص العربي في علاقته بوسائط تحققه أي من الشفاهية إلى الكتابة فالطباعة والرقامة.

1. من الشفاهية إلى الكتابة:
1.1. الشفاهية:

استدعى الانتقال من الشفاهية إلى الكتابة، في الثقافة العربية، زمانا طويلا، واكبه تحول كبير على مستوى الكتابة وآلياتها. وكان لجمع القرآن الكريم اثره البالغ في إعطاء الكتابة العربية كامل أبعادها. لقد سرع عملية الانتقال من الشفاهية إلى الكتابة وواكبت ذلك عمليات عديدة تتصل برسم الكلمات وتنظيم النص والتأليف بين مختلف مكوناته. في المرحلة الشفاهية يضطلع المتكلم بإنتاج النص، ويقوم الراوي بنقله والانتقال به في الزمان المكان. في هذا الانتقال يتم نقل النص من شفة إلى آذان إلى ذاكرة تظل تحتفظ به وهي تستدعيه في مختلف المناسبات مشكلة بذلك عملية نقل متواصل من جيل إلى جيل. واستدعت ضرورة تحول المجتمع العربي الإسلامي مع التطور إلى الانتباه إلى ضرورة " تقييد " الذاكرة وتدوينها مع ظهور الدولة واتساع رقعتها، فظهر بذلك مفهوم جديد هو الراوي ـ الجامع الذي انتقل من مستوى حمل النص العربي إلى مستوى آخر يتصل بالبحث عنه في مواطنه الأصلية ليضيف إلى رصيده ما عند غيره من جهة، وليدقق مروياته من جهة أخرى.

إن نتاج العمل الذي قام به الراوي ـ الجامع هو ما سيشكل المادة النصية الأساسية للمصنفات الجامعة التي ستبدأ في الظهور مدونة منذ أوائل العصر العباسي، وهي تقدم لنا نصوصا متعددة من فترات زمانية متباعدة من العصر الجاهلي إلى العصر الأموي. لقد أدى هذا التحول إلى تغير وظيفة الراوي، في علاقته بالنص، لأنه صار يعمل على " تنظيم" مكوناته و" تأليف" بعضها مع بعض و"تصنيف "ـها لتصير قابلة لتقدم من خلال الكتاب. إن النص الشفاهي شذري بطبيعته، أو أنه يتشذر مع الزمان لأن الذاكرة الفردية أو الجماعية معرضة للنسيان. وليس النسيان غير الحذف الذي يعتري أجزاء من النص الأول. ويتمثل دور الراوي ـ الجامع في " جمع " شذرات الأجزاء والبنيات، ولمّ بعضها إلى أطراف بعض، وترتيبها لتظهر على شكل " بنية " أو " بنيات " نصية كاملة ومتكاملة. اشتغل الراوي ـ الجامع بذهنية وطريقة الصحابة في جمع القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف. وبعد أن تم جمع المادة النصية بدأت عملية كتابتها وصياغتها في كتب ورسائل ومصنفات تتعدد أنواعها بحسب طبيعة النص ونوعيته، وكيفية تنظيمه وترتيبه.

1. 2. الكتابة:
ولدت الكتابة، باعتبارها عملية تحويل للنص وتقييده باعتماد الخط، الناسخ الذي كان يضطلع بنقل النص من صورته السمعية الشفاهية إلى صورته الخطية الكتابية. ونجم عن تطور عملية النسخ بروز الخطاط الذي جود الخط وعدد من صوره وأشكاله والوراق الذي تفنن في صناعة الكتاب. كما أن مصنفي النصوص والنقاد والكتاب أنفسهم صاروا يهتمون بعلوم الآلة المختلفة التي بدأت في التبلور، مساهمة بذلك في تطوير رؤيات وتصورات إنتاج النص وتحسين أنماط إبداعه. وظهرت مفاهيم تتصل بالصنعة والصناعة والحذق،،، لتحديد أنواع المهارات وترتيب مختلف الاختصاصات التي صار لكل منها أربابها الذين يحذقون فيها ويعملون جاهدين على تطويرها وتجويدها والسعي نحو التميز فيها، جلبا لمنفعة أو تحقيقا لمتعة. فمصنفو النصوص وجامعوها صاروا يتجاوزون تقييد النصوص وتدوينها حسب استحضارها وباتوا يتفننون في ترتيبها وتبويبها ( لعقد الفريد نموذجا). كما أن النقاد صاروا يهتمون بصناعة النص وطريقة بنائه وتوليف عناصره (ابن قتيبة ـ ابن سلام). كما أن الكتاب والشعراء باتوا يولون أهمية خاصة لكتابة إبداعاتهم بكيفية تقوم على التفرد، تجاوزا للصورة التي كانت لدى نظرائهم القدامى (أبو نواس ـ أبو تمام).
من الشفاهة إلى الكتابة تحقق الانتقال من:
ـ السماعي إلى الخطي. ولقد أدى هذا إلى الانتقال من:
ـ البداهة والارتجال إلى الصنعة والصناعة. ونجم عن هذا الانتقال التحول من:
ـ المتكلم إلى الكاتب، ومن:
ـ الراوي إلى الراوي ـ الجامع والناسخ والخطاط والوراق.

1. 3.التدوين:
إن السمة الأساسية التي نختزل من خلالها كل هذه الانتقالات، وما صاحبها من عمليات، تكمن في كلمة واحدة هي: " التدوين " التي تجتمع فيها عمليات عديدة وممارسات متعددة أدت إلى إحداث تحولات جمة على " النص " العربي، تتمثل في بروز اختصاصات ما كان لها لتكون لولا الانتقال الذي تحقق مع الكتابة.

2. من الكتابة إلى الطباعة:
2. 0. إذا كانت الكتابة، في بداية عهدها، تعتمد اليد أداة لتحويل النص من الشفاهي إلى الكتابي، فإن ظهور المطبعة سيجعلنا أمام انتقال هام في عملية إنتاج النص وتلقيه. وسيؤدي هذا إلى بروز أول تمييز بين نمطين من النصوص والكتب تبعا لنوعية الأداة المستخدمة في إنتاجها: المخطوط والمطبوع. لقد نجم، إذن، عن ظهور المطبعة مفهوم جديد هو: " النص المطبوع ". ويتطلب هذا الظهور تعميم الفائدة لتشمل النصوص المخطوطة أيضا ليسهل تداولها وتلقيها وفق أحدث التقنيات التي طرأت مع المطبعة، تماما كما سيحصل مع ظهور الرقامة، وكما حدث مع الكتابة.
مع بروز المطبعة كان للكتاب المخطوط تاريخه الطويل. ويستدعي هذا تحويل المخطوطات العديدة إلى كتب مطبوعة لتيسير تداولها واستعمالها لمحدودية المخطوط كما ونوعا. أوجد تحويل الخطوط إلى المطبوع بروز آليات واختصاصات جديدة، تماما كما حصل في حقبة التدوين. وسنجد أنفسنا، مع تطور عملية الطباعة أمام عمليتين اثنتين: تقنية وعلمية.

2. 1. تقنية:
لقد ولدت الطباعة مفهوم " الراقن " الذي يقوم بطبع النص على الآلة، و"المنضد" الذي يعمل على إخراج الصفحات المرقونة وفق نظام خاص يضمن تسلسلها وترتيبها بصورة تضمن تلقيها بكيفية معقولة. وبتحويل النص المطبوع إلى كتاب، كان يتطلب ذلك أيضا، عمل المخرج الذي يبني النص بناء فضائيا خاصا يراعي توزيع النص على صفحات الكتاب بطريقة مقبولة وملائمة. مع تطور عملية الطباعة، وظهور أجيال في تكنولوجيا صناعة الكتاب والصحيفة وطبعهما، صارت عملية الإخراج ذات أهمية خاصة، لأن البعد الجمالي في تقديم النص صار يحتل موقع خاصا. كما صارت له تقاليد جمالية محددة. وعندما نقارن الآن بين عملية توزيع النص في المخطوط الذي كانت له شروطه الخاصة ومراغماته المحدودة (قلة الورق مثلا ) وبين ما صارت عليه معر النص المطبوع نجد الفرق شاسعا، وذلك لأن لكل منهما سماته الخاصة وشروطه المحددة.

2. 2. علمية:
أما العملية العلمية فتتمثل في الدور الذي كان يقوم به العلماء المختصون في تحويل المخطوط إلى مطبوع. فالمخطوط نص له تاريخ، ويمكن لهذا النص أن توجد منه مخطوطات عدة. لذلك وجبت المقارنة بين المخطوطات، وفك شفرات خطوطها الخاصة، واعتماد الأقدم والأكمل منها، والحرص على تقديم النص الأقرب إلى ما خلفه صاحبه. وإلى جانب ذلك كان لا بد من تنظيم النص لجعله قابلا للقراءة، وذلك بوضع العناوين واستعمال الحواشي والتعليقات ( المناصات المختلفة )، وتشكيل النص وضبطه،،، إلى غير ذلك من العمليات التي لايمكن أن يضطلع بها غير العلماء المختصين لجعل هذا النص متيسرا للقراءة. يكفي، في هذا الإطار، أن نقارن بين مخطوط ( للجاحظ مثلا ) تحول إلى نص مطبوع كما هو، وبين المخطوط نفسه، وقد انبرى له محقق من طراز عبد السلام هارون مثلا، لنعاين الفرق كبيرا بين النصين المطبوعين.

لنقرأ، مثلا، بعضا مما تقوله عائشة عبد الرحمن بصدد تحقيقها رسالة الصاهل والشاحج لأبي العلاء المعري:
ـ "إن (رسالة الصاهل والشاحج) في نصها الصعب، بغريب ألفاظه ونوادر أمثاله ونكته اللغوية والعروضية والبديعية، وأوابد شواهده المرسلَة وأعلامه المذكورة بغير المشهور من الأسماء والكنى والألقاب، وإشارتها إلى أحداث تاريخية من عصرها. الرسالة بهذا كله، لا يمكن أن يُصِح قراءتها وضبطها، إلا الراسخون في علوم العربية والإسلام" ص. 70ـ 71

ـ "ومن الحق، أن أشير هنا إلى مواضع من دقة هذا النص، ومصاعب تحقيقه: كل كلمة من متن الرسالة، احتاجت إلى جهد تحقيق للتثبت من رسمها المقروء، وسلامة ضبطها. لم يغن عن ذلك أن تكون الكلمة مضبوطة في الأصلين أو أحدهما، فطبيعة الكتابة في المخطوطات، تحتمل أكثر من وجه في الرسم والشكل، فضلا عن احتمال سهو الناسخ أو خطئه،،، " ص. 72ـ73.

وتقول مقارنة بين الطبعة المحققة، والطبعات غير المحققة:
ـ "وعسى ألا يغتال هذا النص الذي بذلت له جهد سنين من كهولتي مع التفرغ والانقطاع عن الدنيا والناس، من يشوهونه في طبعة مزورة، على نحو ما شوهت "رسالة الغفران " في طبعتيها المزورتين من " دار صادر " و" دار إحياء التراث العربي " في بيروت، نقلا بجهالة وغفلة وتدليس وتمويه، من نص الغفران في طبعتيه الثالثة والرابعة، بذخائر العرب". ص. 76

جئت بهذا الشاهد لإبراز الفارق الكبير بين النصين المحولين من المخطوط إلى المطبوع، إذ في أحدهما نجد المحاكاة التي هي أقرب إلى النص "غير الحقيقي"، وفي الأخرى العمل العلمي الذي يقوم على "التحقيق" الذي يبذل فيه المحقق الجهد الاستثنائي لتقديم نص يتلاءم مع الطباعة، ويستفيد من إمكاناتها لجعله أقرب إلى النص الذي تركه صاحبه مع تيسير تناوله وتسهيل عملية الاستفادة منه من لدن القراء. برز عن عملية تحويل المخطوط إلى مطبوع نمطان من الكتاب المطبوع هما: التجاري والمحقق. فنقول مثلا عن طبعة بأنها "تجارية"، وعن الأخرى إنها "محققة". في الطبعة المحققة نحن أمام مجهود العلماء المختصين. أما في الطبعة التجارية، فليس هناك، غير العمل التقني الذي يبرز في نقل النص من المخطوط باليد إلى المطبوع بالآلة ( إنها عملية محاكاة فقط، بل إنها محاكاة ناقصة ). إلى جانب الدور الذي يقوم به التقني والعالم المحقق في جعل المخطوط قابلا للقراءة يأتي دور الناشر والموزع اللذين يعملان على جعل الكتاب المطبوع قابلا للتداول وحاضرا في مواطن خاصة بالكتاب من الكشك إلى المكتبة الوطنية مرورا بالمكتبات الخاصة. هكذا نلاحظ أن تحول الكتاب من المخطوط إلى المطبوع أوجد عدة عمليات واختصاصات علمية وتقنية وتسويقية تختلف اختلافا كبيرا عما كان عليه الأمر قبل ظهور المطبعة.

2. 3. التحقيق:
إذا كنا قد استخلصنا، بصدد الحديث عن الانتقال من الشفاهية إلى الكتابة، أن السمة الجامعة هي عملية "التدوين"، سنجد أن السمة الجامعة في الانتقال من المخطوط إلى المطبوع هي عملية "التحقيق" التي تجعل المخطوط قابلا للتلقي على النحو الأمثل. وسنجد العملية نفسها في الانتقال من الطباعة إلى الرقامة، لكن وفق متطلبات جديدة يفترضها واقع الوسيط الجديد (الحاسوب) والشروط الجديدة للإعلام والتواصل (الفضاء الشبكي).

3. من الطباعة إلى الرقامة:
3. 1.
مع ظهور الحاسوب في أواسط الثمانينيات من القرن العشرين، تطورت صناعة الكتاب وإخراجه الفني. ومع ظهور الفضاء الشبكي (الإنترنيت) في أوائل التسعينيات صار الحاسوب الموصول بالفضاء الشبكي أداة وفضاء لإنتاج النص وتلقيه في الوقت نفسه. غير أن الحاسوب، وهذه هي الميزة الأساس التي تميزه عن الالآت القديمة للكتابة التي ابتكرها الإنسان، لا يعمل إلا بناء على برمجيات مدمجة خاصة ( البرمجيات المكتبية مثلا)، وهي التي بواسطتها يتم إنتاج النص وتلقيه. لذلك سنشهد، أولا، مع الحاسوب بروز اختصاص جديد ( البرمجة ) يتحقق من خلال عامل جديد هو "المبرمج " الذي يقوم بإنتاج برمجيات للعمل. ووفق نوع البرنامج يتم تحويل النص المطبوع إلى نص رقمي أو مرقم.

3. 1. النص المرقم:
يتم تحويل النص المطبوع ليصبح قابلا للمعاينة من خلال شاشة الحاسوب باعتماد برامج تناظرية، لأنها تقدم لنا النص المطبوع على الهيئة التي يوجد عليها في صيغته الورقية، مثل برنامج PDF الذي يوظف بعد مسح النص ليقدمه لنا كما هو، ويصبح بذلك قابلا للمعاينة على شاشة الحاسوب أو العمل على إعادة رقن النص من خلال برنامج مكتبي مثل الوورد وجعله قابلا للمعاينة. في النص المرقم، المحول إلى جهاز الحاسوب، نحن أمام صيغة النص كما هو مقدم في الأصل، بدون أي تغيير جوهري يجعله يتلاءم مع طبيعة الجهاز. إنه يشبه إلى حد كبير صيغة الطبعة التجارية للكتاب المخطوط.

3. 2. النص الرقمي:
توجد، إلى جانب البرامج " التناظرية " برامج أخرى " دينامية " تبنى على التفاعل والترابط، وهي البرمجيات التي تتلاءم أكثر مع الحاسوب والفضاء الشبكي لأنها مصممة خصيصا لذلك. تستدعي هذه البرمجيات خبرة خاصة وعميقة لأنها تنهض على إلمام دقيق باللغات البرمجية المتعددة في ترقيم النص وجعله قابلا للتلقي وفق مقتضيات الحاسوب الخاصة ومختلف متطلباته، وهي تختلف عن نظيرتها الشفاهية أو المخطوطة أو المطبوعة. إنها تبنى على عمليات تصميم خاصة تراعي خصوصية الحاسوب وطبيعته الرقمية التي تنهض على أساس الترابط والتفاعل. لقد أدى الانتقال من الطباعة إلى الرقامة ظهور المبرمج الذي يشتغل وفق إحدى اللغات البرمجية الخاصة من جهة، وإلى " الرقام " الذي يضطلع، في الوقت نفسه، برقن النص وتحويله وفق إحدى اللغات البرمجية من صيغته العادية ( المطبوعة مثلا ) إلى صيغة رقمية ( النص الرقمي ). كما ميزنا في عملية طبع النص المخطوط بين الطبعة التجارية التي تعمل على تقديم المخطوط كما هو، وبين الطبعة المحققة التي يبدو فيها جهد العالم المحقق في:
ـ إضافة نصوص جديدة ( الهوامش ـ التعليقات ـ الفهارس الخاصة،،، )
ـ تحقيق النص ( المقارنة بين المخطوطات ).
ـ التقديم للكتاب والتعريف بصاحبه،،،
أي أن هذه النسخة المحققة تصبح مكونة من:
أ. النص الأصلي ( المؤلف )
ب. مناصات المحقق،
فإن النص المرقم يغدو مثل تلك الطبعة التجارية: تقديم النص كما هو، بينما النص الرقمي تضاف إليه مجهودات الرقام ( تماما كالمحقق ) الذي يفترض فيه أن يكون في آن واحد:
أ. تقنيا: ملما بلغات البرمجة المختلفة أو على الأقل بتلك التي يستعملها في عملية ترقيم النص.
ب. عالما: تماما مثل المحقق بطبيعة النص الذي يعمل على ترقيمه.
إذا كان العالم المحقق للنص المخطوط ينتج مناصات ( نصوصا موازية ) تتمثل في الهوامش والتعليقات والفهارس المختلفة التي تيسر عملية تلقي النص المخطوط وقد حول إلى مطبوع، فإن الرقام مطالب، بدوره، بمعرفة كيفيات بناء النص رقميا وتنظيمه وإقامة الروابط بين مختلف مكوناته على النحو الذي يسمح للمتلقي أو المستعمل من أن يستفيد، أقصى درجات الاستفادة، من النص الذي صار رقميا بفضل المجهود ( التقني والعلمي ) الذي قام به.

3. 3. الترقيم:
نسمي العملية التي يقوم به الرقام على النحو الأمثل بعملية "الترقيم" التي نحملها كل إجراءات عملية تحويل أو إنتاج النص الرقمي، ونعتبرها عملية مركبة ومتعددة الاختصاصات، وتأتي، في صيرورة التحول، امتدادا لعملية التدوين والتحقيق.

من التدوين إلى الترقيم مرورا بـالتحقيق، ننتقل عبر مراحل تاريخية طويلة في إنتاج النص وتلقيه. وبالنظر إلى ما تحقق لدينا نحن العرب، في هذه الصيرورة، نجد أنها ما تزال ناقصة لاعتبارات نعدها من خلال ما يلي:
ـ إن المكتبة العربية ما تزال زاخرة بآلاف المخطوطات التي لم تحول بعد إلى النص المطبوع المحقق.
ـ إن المجهودات المنجزة، إلى الآن، في المجال الرقمي العربي ما تزال جنينية، لأن الوعي الرقمي لما يتشكل بعد، عندنا نحن العرب، بالكيفية التي تجعلنا نفكر في آفاقه ومستقبله. وإذا كان الغرب قد سبقنا في مجال تحقيق المخطوط الغربي، فإن عملية الترقيم، ما تزال في بداياتها بالنسبة إليهم، وهناك مجهودات علمية في هذا الصعيد (سنعود للتعريف بهذه المجهودات لاحقا ).
ـ لقد سبقنا المستشرقون إلى عملية تحقيق النص العربي، وصاروا قدوة للمقتدين العرب من العلماء الذين اختصوا في التحقيق. لكن الزمان الآن، غيرالزمان، ولا يمكننا أن ننتظر مستشرقين جددا يرقمون لنا النص العربي ـ كما فعل أسلافهم ـ ونتخذهم قدوة لنا؟ فهذا مستحيل. لذلك علينا التعويل على مجهوداتنا الخاصة، والعمل على ترقيم النص العربي بالاستفادة من مجهوداتنا التي عليها أن تتضاعف في هذا السبيل.
يمكننا تلخيص المسار الذي قطعته الثقافة العربية من التدوين إلى الترقيم المفترض وفق الخطاطة التالية:

4. تركيب:
إن عملية "ترقيم" النص العربي مثل عملية "تحقيق"ـه تستدعي مجهودا علميا وتقنيا في آن. ولما كانت المجهودات المبذولة إلى الآن تقنية فقط، أي إلكترونية، فهي تشبه عملية " طبع " النص العربي تجاريا، تماما كما حصل مع الطباعة الحجرية في بداية عهدها. إننا ما نزال في "العصر الحجري" ما قبل الرقمي. ودخول العلماء مجال الرقامة هو الذي يؤهلنا للانتقال إلى العصر الرقمي. ويمكننا مقارنة علاقة النص العربي بالطباعة والرقامة على النحو التالي الذي يظهر لنا من خلاله الفرق بين النص التجاري والمحقق والمرقم والرقمي لتظهر لنا الصورة واضحة:

يتضح لنا، من خلال هذه الخطاطة، أن العمل التقني هو السائد في تعاملنا " رقميا " مع النص العربي، وعلينا إدراك خصوصية الترقيم وآلياته وضروراته في تحديث الثقافة العربية، وتحديث الدرس الأدبي العربي، وذلك بالانتقال إلى العمل العلمي في عملية الترقيم، وهذا ما سنضطلع به في الدراسة اللاحقة التي نخصصها لعلاقة الترقيم بتطوير البحث الأدبي العربي.