يرحل بنا الروائي العراقي في بطون التاريخ العربي ناسجا نصه الممتع ومستوحياً حكايته من قصيدة ابن زريق الشهيرة وقصته فيأخذنا إلى العمق من أوضاع البشر في الأندلس وبغداد في تلك الفترة حيث الاضطراب والدسائس السياسية والاجتماعية في بنية مجتمع مؤسس في قيمه وأعرافه على معاداة الوضوح والصدق والحب.

تغريبة ابن زريق البغداديّ الأخيرة (رواية)

سلام عبـّـود

قرطبة

(1)

"إنّا لله وإنّا إليه راجعون"

لغط تناهى إلى مسامعي. فتحتُ عينيّ وأنا أصحو مرتبكاً، مُستفزاً. الفجر لم يطلع بعد. هل وقعت الواقعة؟

الإحساس المسبق، المعتـّق، الذي يسيطر على مشاعري  طغى على غيره من الأحاسيس. كثرة انشغالي، وهو انشغال القرطبيين كافة، بما ستجلبه الساعات المقبلة من أحداث ملك تفكيري حينما تناهت إلى أذنيّ أصوات تتحدث في أروقة الخان.

نهضتُ على عجل وخرجتُ، فوجدتُ بعض نزلاء الخان  يتهامسون  وعلى وجوههم أمارات الحزن.

"إنّا لله وإنّا إليه راجعون !"

تكرّرت العبارة غير مرّة.

اقتربتُ من النزلاء وفكّرت وأنا أطمئن نفسي: " ما يحدث الآن شأن صغير، لا يتعلق بالوضع العام  في قرطبة"؛ وقبل أن أقوم بالسؤال، نطق أحدهم موجها كلامه إليّ:

ــ   لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، مات العراقيّ.

ــ   العراقيّ !

ــ   نعم، وجدوه ميتاً في فراشه.

انقبضت نفسي، ليس حبّا به، فأنا لا أحبّ طريقته الملحاحة والاستفزازيّة في التعامل مع الزبائن، لكنّني أحسست بقوّة الموت الكاسرة، التي تستطيع أن تختطف رجلاً نشيطاً، موفور الصحة كعمران العراقيّ، مساعد صاحبة الخان.

قلت مستفسرا:

ــ   كيف حدث هذا؟

ــ   لا أحد يعرف؛ شيء غامض ومحيّر أن يموت رجل مثله. لكنّ عمران العراقيّ تفقـّده لسبب ما، نجهله، فوجده ميّتاً.

اختلطت الأمور عليّ اختلاطا تاماً.

ــ   عن أيّ عراقيّ تتحدثون؟

ــ   النزيل القادم من أرض السواد، الذي يسمّونه ابن زريق البغداديّ.

ماجت الأرض بي. دوار مفاجئ لفّ بي الأرض لفّاً. وبالكاد تمكنت من تثبيت قدميّ بالأرض المرتجّة تحتي.

ابن زريق !

اندفعتُ من دون وعي إلى الممر الذي يأوي فيه. وجدت باب الغرفة مفتوحاً وجمعاً من الناس يتحلّقون حول سريره. رأيت عمران العراقيّ يتحدث إليهم، وحينما أبصر قدومي قام، ثمّ رفع طرف الشرشف الذي  يغطي السرير، كما لو أنّه يدعوني للاستمتاع بالمشاهدة. رأيت عن بعد وجه ابن زريق متذمّرا، هازئا كعادته، بلحيته الخفيفة المهذبة وتقاطيع وجهه الصارمة، لكنّه رغم ذلك ظلّ يحتفظ بملامح الكبرياء والجمال والتفرد المميزة فيه، التي تكسب سنوات عمره الثلاثين مزيداً من الغموض والمشاكَسة المستفِزّة.

لم أقل شيئاً. احتبست الآهات والكلمات في صدري، ولم أعد أعرف ماذا أفعل أو أقول. فأنا لا أكاد أعرفه. لم أقابله سوى مرّات قليلة في أروقة الخان، ولم أتحدث معه سوى مرّة واحدة، تحاورنا فيها على عجل، ولم أتمكن من معرفة إذا كان راغباً عن الحديث معي شخصيّاً، أم أنّه كان متحفـّظاً لسبب ما، أو أنّ ذلك طبع فيه. تحدّثنا باقتضاب، لكنّ حديثنا القصير ترك أثراً عميقاً، بعيد الغور في نفسي، وربّما خلّف أثراً لا يمحى، حتـّى أنّني فكّرت في أن أعود إلى الحديث معه، في وقت آخر، أكثر ملاءمة. وها هو ينام ميتاً في سريره.

الإحساس بالغربة هو أعظم ما هاجمني في هذه اللحظة.  أن يقطع المرء كلّ تلك المسافات والبحار ليقضي هنا، بعيدا، غريباً، وحيداً.

"إنّا لله وإنّا إليه راجعون !"

ظلّت هذه العبارة تتردّد في الأروقة، فلا يملك أحد منّا سوى هذه العبارة يواجه بها مصيراً غريبا كهذا.

* * *

الحيرةُ والوجومُ والحزنُ سادت المكان وشلّت حركة الجميع وأسرت مشاعرهم، حتـّى مجيء الخانيّة ألفيرة.

بحضور ألفيرة، المفجوعة إلى حدّ لا يقبل الإخفاء، تغيّر وقع الحركة في الخان، ودبّت حركة سريعة  ومحمومة شملت الجميع.

ــ   الموت هو العادة الشائعة الوحيدة، التي لا يمكن للمرء أن يعتاد عليها ويألفها.

نطقت ألفيرة بعيون باكية وهي تحييني، ثم أضافت وهي تسير بهمّة:

ــ   لا بدّ من ترتيب لوازم الدفن في الحال.

مضت ألفيرة  وهي تلقى أوامرها على خدم الخان، من دون أن تحاول إخفاء شدّة حزنها.

من المحتمل أنّها تحبّه ! فكّرت وأنا أراها تختفي في غرفة الميت، وتبعد الخدم من الغرفة، وتبقى وحيدة مع ابن زريق. ربّما كانت لديها آمال فيه. كم استقبلت وكم ودّعَت !

ألفيرة أندلسيّة، تقترب من الخمسين، فيها قدر كبير من بقايا جمال لافت، تدير برقّة وأناقة ونظام صارم خانها الأكثر شهرة في قرطبة كلّها. طباعها الفريدة الآسرة، وشقرتها المميزة، التي قلّما يجد المرء نظيراً لها في هذه الأنحاء، تكسب شخصيتها خصوصية استثنائية، وتمنحها سلطة حقيقيّة على كل من يقترب من محميتها الخاصة. تربطني بها علاقات متعددة. فهي تنتسب إلى العائلة ذاتها التي انحدرت منها أمّ جدّتي في نواحي مجريط، لكنّها ترتبط بالفرع الذي ظل يعتنق النصرانيّة ولم يُسلم.  تربطني بأخيها راميرو تجارة، فهو القيّم على شؤون الحسابات وتصريف الغلّة في مزرعتي وأراضي زوجتي. اعتادت ألفيرة  أن تعاملني بحبّ كأخت كبرى، وفي بعض الأحيان أحسّ أنّها ربّما كانت تهفو إلى ما هو أبعد من الأخوّة، لكنّ شخصيتها القويّة تمنعها من إظهار رغباتها وتكبح نزواتها. هي مصدر ثقة واطمئنان نفسي لعائلتي كلّها ولي بشكل خاص. أما الخان فيعود إلى عائلتها، التي تثق بها ثقة كبيرة، لحكمتها واستقامتها، ولكونها على صلات واسعة بعليّة القوم من آل جهور وبقايا الأمويين وبني عامر وكبار البربر وحتـّى الصقالبة. صلاتها القائمة على التوازن عميقة جدا، يحسب لها كثيرون ألف حساب. معارفها خليط متصارع، متعدد المشارب. تشبه ألفيرة حلقة جامعة توصل أكثر من خيط مقطوع ببعضه. لم تشارك قطّ في رأي سياسيّ محدّد، لكنّها على دراية تفصيليّة تامّة بواقع الأندلس وممالكها، قرطبة على وجه التحديد، كما لو أنـّها تملك خرائط المدينة السريّة كلّها.

أنا أحضر إلى خانها من حين إلى آخر، لسبب أو من دون سبب، وأحظى منها بأفضل غرفة مخصّصة لكبار التجار والمسافرين. فأنا ضيف خاص جدّاً. ربّما يغريني هذا التكريم، الذي تخصّني به ألفيرة أكثر من أيّ شيء آخر، لذلك أجد نفسي دائماً أعرّج عليها وأتصنع حججاً للمبيت عندها، كلّما أحسست بضيق وكدر أو ملال.

في دقائق تمّ كلّ شيء على أحسن وجه، ومن دون عوائق. نُقل ابن زريق للغسل ثم للتكفين، وسار جمع من الناس وراءه  في اتجاه مقبرة الربض.

كان عمران هو القائم بأعمال الدفن.  تصرّف بشهامة عالية، وبدا الحزن عظيماً على محيّاه، ولم تثلم شهامته سوى الحماسة التي أبداها في جمع بعض المساعدة الماليّة على روح الميت من الحاضرين، الغرباء، لسداد لوازم الدفن، كما قال. لم يطلب منّي شيئا. تقدمت منه ووضعت مبلغا في يده فسحبها بخفـّة، مستنكراً، لكنّه أحسّ بإصراري فتقبلها، وهو يقول:

ــ   كرمك سابق، يا أبا سليمان.

بعد الدفن تفرق الناس جميعهم ولم يبق في المقبرة سواي وعمران وبعض خدم الخان.

ألقيت نظرة أخيرة على القبر: كومة من التراب النديّ، يرقد تحتها إنسان عبر البحار والقفار، ثم جاء ليُلحد في حفرة ضيّقة، في أرض غريبة.

ــ   نحن أهل ما دام هو عراقيّ مثلي، نحن أهل والله.

ألقى عمران كلماته وهو ينظر إلى الأرض، كما لو أنّه كان يبعثر كلماته في تراب الشارع أو يخلطها بغبار الطريق.

ــ   ولكنّي لا أرى أحداً من العراقيين سواك. ألا يوجد لديه معارف أو أصدقاء؟ ألا يوجد عراقيون هنا في هذه الناحية؟

ــ   كـُثـُر.

ــ   ولكنّي لا أرى أحداً.

ــ   أما يكفي وجودي !

لم أجب. أحسّ عمران أنّ كلماته الأخيرة تحتاج إلى توضيح، فأضاف:

ــ    وربّ الكعبة، زوجتي مريضة منذ يوم أمس، لكنّني رغم ذلك ظللت ساهراً عند جثة ابن زريق أحنو عليها كما لو كان حيّاً.

سكت، ثمّ عاد يقول:

ــ   أتعرف ماذا يسمّون هذا؟

لم ينتظر جوابا منّي، نظر إليّ بثقة تامّة وقال:

ــ   هذه هي الطيبة العراقيّة، الطيبة العراقيّة الأصيلة والنادرة، الطيبة العراقيّة في أنصع صورها.

ــ   ليس غريبا على أهل السواد ذلك.

أجبت وأنا أحسّ بشيء من التعاطف معه. فرغم عيوبه الشخصيّة العديدة، إلاّ أنّه لم يزل يحتفظ بما هو مشترك مع الآخرين من بني جلدته. ألم يقل ذو القروح: "وكلّ غريب للغريب نسيب ." هل المعاشرة أم المكان والمجاورة هي التي تخلق الروابط بين البشر؟

ــ   نحن رغم اختلاف عقائدنا ومذاهبنا وأماكن ولادتنا، إلاّ أننا ــ  أبناء السواد جميعا ًــ  تربطنا عرى لا تنفصم.

ــ   ولكنّك لم تجبني عن سؤالي: لماذا لا أرى عراقيّا غيرك هنا؟

ــ   لا أعرف ! ربّما... حقيقة لا أعرف.

ــ   لكنّك تقول لي بأنّك تعرف القاصي والداني، كيف لا تعرف سبب هذا الجحود؟

ــ   أنت تسمّيه جحوداً، ربّما لا يسمّيه الآخرون كذلك.

ــ   وماذا يسمّونه؟ رجل في ريعان الشباب، يموت في أرض نائية غريبة ولا يمشي في جنازته أحد من أهل بلده. هذا أمر يحيّرني.

ــ   نعم، يحيّرك، ولكنّه لا يحيّر الآخرين.

ــ   وأنت؟

ــ   أنا هنا معك.

ــ   أعني، ما تفسيرك؟

ــ   لكلّ إنسان أسبابه.

ــ   وما أسبابهم؟

ــ   ربّما مجرد أسباب شخصيّة: أمزجة وأهواء. فبعضهم رأى فيه متكسباً؛ وربّما وجد فيه آخرون شيئاً من الكبر الزائف والتفاخر الكاذب. كما أنّه متجهم، عابس، متطيّر، صعب المعشر.

ــ   ولكن، هذه الأمور لا صلة لها بالموت.

ــ   لكلّ واحد من الناس رأيه.

 ــ   حسن، قل لي: ما رأيك أنت؟

ــ   أراك مهتمّاً جداً به.

ــ   ليس به، فأنا لا أعرفه، لم ألتق به لقاءاً مباشراً سوى مرّة  واحدة، قبل يومين. لكنّني مستثار ومنفعل. ما الذي جعلني وجعل هؤلاء الأغراب نسير خلف نعش رجل لا نعرفه؟

ــ   أنت تحمّل الأمور أكثر ما تحتمل. لو تعرف كم قدمت له من مساعدة، لكنّه رغم ذلك لم يكن ودوداً، ولم يكن سوى متكبر. بيني وبينك كان أقرب ــ   أستغفر الله ــ   إلى أن يكون شحّاذاً، رغم عنجهيته وكبره.

ــ   ألهذا السبب لم يأت أحد؟

ــ   ربّما، وربّما لأنّه... أقول هذا بصراحة مطلقة، ربّما هو رافضي.

صعقني ردّه. سكتّ واحتبست الكلمات في حلقي. أحسّ عمران أنّه ربّما تسرّع في استسهال الإدانة، فأضاف محاولاً إقناعي:

 ــ   لماذا يخفي أصله الكوفيّ ! لماذا يصرّ على تسمية نفسه بالبغداديّ. بغداد شيء والكوفة شيء آخر !

ــ   وماذا في هذا؟

ــ   أنا مثلك أتساءل هذا السؤال ! لو أنّه لا يريد أن يخفي شيئاً لماذا يخفي أصله الكوفيّ إذاً ! يتحدث مثل أهل بغداد، ولكنّ أصله يفضحه، فنبرته وكلماته الكوفيّة لا تُخفى على أحد.

ــ   يا عمران أنت تفترض افتراضات ظالمة. لماذا تعتقد أنّه يخفي لهجته وأصله؟ أنا لم ألمس هذا فيه.

ــ   هذا أمر طبيعيّ، فأنت لا تستطيع التفريق بين لهجات أهل السواد. لكنّ غيرك يستطيع.

ــ   لكنّه لا يخفي أصله الكوفيّ، فقد ذكر هذا أمامي.

ــ   ربّما هو يثق بك أكثر منّي، وهذا أيضاً يثير العجب. كيف يفعل هذا وهو لا يعرفك، بينما يخفي ذلك عنّي وأنا من استقبله وساعده ووقف إلى جانبه؟ لماذا؟

ــ   يا عمران لقد قال بنفسه أمامي إنّه عليّ أبو الحسين، فكيف يخفي مثل هذا الاسم تشيّعه؟

ــ   وقال لي إنّه أبو الحسن، وقال لآخرين إنّه أبو عبد الله؟ فأيّهم هو؟

ــ   أنا لا أعرف شيئاً عنه. لقد أخبرتك بأنّني لم ألتق به سوى بضع دقائق. أنت تذهب بعيداً في تفسيراتك، أنا لا أفهم إلى أي شيء تلمّح، وماذا تقصد !

ــ   يا أبا سليمان لماذا نختصم على أمر مات وشبع موتاً ! أنت سألتني وأنا أجبت عن أسئلتك لا أكثر ولا أقل.

شبع موتاً ! نظرتُ إلى الخلف. لم يزل تراب القبر نديّاً، يتميز عن  تراب القبور القريبة بلونه الحيّ، الداكن.

لمحت ابن زريق غير مرّة في أروقة الخان خلال المرّات الماضية، التي أقمت فيها هنا؛ لكنّني لم أتحدث معه، حتّى مساءاً قبل الأمس.

كان لقائي به غامضاً، مرتبكاً، كما لو أنّه مرتب من قبل قدر أرعن. كنت عائداً من خارج قرطبة. وضعت فرسي في الإسطبل وأنا أشعر بالضيق لأنّ الفرس كان مضطرباً. كنت مضطرباً ومنقبض النفس مثله. طلبت من السائس أن يهدئه فوعدني خيراً. توجهت من فوري إلى ألفيرة، حيث اعتادت أن تجلس في صدر الخان.

ــ   أنا سعيد برؤيتك مجدّداً يا ألفيرة.

قبل أن تردّ على تحيتي وقفت وصافحتني مبتسمة وقالت:

ــ   ذهبتَ إليه !

ــ   كيف عرفتِ؟

ــ   لأنّك جئتَ راكباً فرسك الأصهب.

ــ   أنتِ لا تفوتكِ فائتة يا ألفيرة !

ــ   أنتَ لم تعتد المجيء إليّ على ظهر الأصهب.

ــ   لأنّ الأصهب لا يحبّ زحمة الأسواق وضجيج المدينة.

ــ   ورّبما لأنّه يحبّ المسافات البعيدة.

ــ   هذا صحيح.

ــ   وهل أرغمته على المجيء عندي لكي تخفي شيئاً.

ــ   لا يا ألفيرة، أسأت الظنّ بي. على العكس، لم أشأ الذهاب إلى البيت وإبدال الفرس. حملته قسراً على التوجه إلى هنا.

ــ   الأمر عسير إذاً !

أحسست أنّني لن أفلت من قبضتها مهما حاولت. ألفيرة  خبيرة في نفوس البشر وفي سلوكهم، تقرأ تصرفاتهم من خلال ملابسهم ومن خلال لوازمهم ونبرات صوتهم.

ــ   أنتِ خطيرة يا ألفيرة. ما تقولينه صحيح. أنا استخدم الأصهب كلّما ذهبت إليه؛ لكنّني هذه المرّة قررت أن أتوقف عندك، لأنّني كما قلت لك، لا أستطيع الذهاب إلى البيت منقبض النفس. أنت تعرفين أم سليمان، أنا أفضّل أن لا أكدّر مشاعرها بمشاكلي الخاصة، وأنا أعرف أنّها لا تستطيع أن تفهم دوافعي وأسبابي جيّداً.

ــ   لا تبرّر سبب مجيئك يا أبا سليمان، يكفيني أنّك هنا، قربي. فمرحباً بك !

ــ   أنا لا أبرر يا ألفيرة، لكنّك ظننت أنّني أخفي عنك شيئاً، وأنت تعرفين كلّ شيء، كلّ شيء.

ــ   كان يائساً، أليس كذلك !

ــ   إلى أبعد الحدود. ولكن، لم يكن ذلك ما يقلقه.

ــ   وما الذي يقلقه؟

ــ   هو مهموم لكثرة الواعدين.

ــ   هذا أمر طبيعيّ، الدولة تغدو مثل مزاد علنيّ إبان محنة ضعفها.

ــ   يقول إنّ بعضهم عرض عليه العودة إلى الوزارة، ومنهم من عرض عليه القضاء، ومنهم من عرض عليه ما هو أهم وأكبر من هذا.

ــ   وهذا ما يخيفني.

ــ   كثرة الوعود وضخامتها؟

ــ   كثرة الواعدين تخفي وراءها كثرة الخصومات؛ وضخامة الوعود تعني البحث عن السلطة بأيّ ثمن.

ــ   الوعود الكثيرة تحمل في ثناياها احتمالات كثيرة.

ــ   تحمل أخطاراً كثيرةً. لأنّ الوعد هو وجه الواعد الحسن؛ لكنّ فشل واعد ما يرجح نجاح واعد آخر. ولا يعرف المرء  أيّ وجه سيُظهر من ينجح ومن يفشل !

ــ   صدقتِ، كثرة الوعود تزيد المهالك.

ــ   أيتوقع شيئاً حسنا؟

ــ   يتوقع أسوأ العواقب، ويخشى فتنة كبرى تطيح أساس دولة الخلافة !

ــ   انقلاب الأحوال المفاجئ في هذه المدينة يخيفيني أيضا.

ــ   لهذا نصحني أن أحتاط.

ــ   ولهذا جئت اليّ؟ !

ــ   بصدق ! نعم. فأنا أريد أن أستشيرك في أمر.

ــ   خطير؟

ــ   لا أعرف، ولكنّه حمل ثقيل.

ــ   أنا مصغية.

ــ   سأخبرك به لاحقا.

شيء ما فيّ جعلني أتردد في نطق الكلمة التي أعددت نفسي طويلاً لقولها، والتي جئت إلى هنا لكي أقولها لألفيرة على وجه التحديد. شيء ما قاهر أعاقني؛ لو أنّ الفكرة خرجت من رأسي، لو أنّها خرجت من فمي فلن تعود إلى موضعها البتـّة. استجمعت شجاعتي وقلت: ربما سأذهب إلى المغرب.

ــ   أتهرب من التهلكة بالذهاب إليها .

ــ   نعم، هذا ما أفكّر فيه. هناك أكون أمام خصم واحد. لكنّني هنا أمام خصوم لا عدد لهم، ولا أعرف احتمالات أفعالهم.

ــ   وتريدني أن أقنع أمّ سليمان بهذا؟

ــ   تقريبا.

ــ   هل عجزت؟

ــ   لا، لكنّني أخشى أن تسيء فهمي، أو أن أجرحها حينما أواجهها بهذا الأمر.

ــ   ألن يجرحها ما سأقوله لها. أنا أفضّل لو أنّك فعلت هذا بنفسك.

ــ   من دون شك سأفعل، ولكن قبل هذا أريد منك أن تمهّدي للأمر. تحدّثي عن اضطراب أحوال قرطبة والأندلس وضرورة الابتعاد عنها حتـّى تنقشع السحابة السوداء وتتضح الأمور. تحدّثي عن سفر للترويح عن النفس وللبحث عن مراجع علميّة وأدبيّة، لا أكثر.

ــ   سأفعل، سأتكفل بإقناعها؛ ولكن من يقنعني أنا؟

ــ   أنت لا تحتاجين إلى إقناع يا ألفيرة، لأنّك تعيشين في روحي، ترعينها مثل أخت كبرى.

ــ   أخت كبرى !

ــ   لأنّك كذلك عندي يا ألفيرة، أم أنّك تشكّين في هذا !

ــ   أنا لا أشكّ، ولكنّي أطمع، وربّما أغار أيضا.

ــ   مم تغار الأخت؟

ــ   بعض الأخوات يغرن أكثر من الزوجات.

ــ   لديّ ما يكفيني من الغيرة يا ألفيرة. أمّ سليمان مخزن عامر بالغيرة،ألا يكفي هذا؟

ــ   ولكنّ غيرتي مختلفة.

مثل هذا الحوار العابث كان يحدث بيننا دائماً. لكنّه حوار صادق وصاف إلى حدّ العذريّة. كانت تجيب بنقاء تام، وربّما برغبات خفيّة، مبهمة. لكنّها لم تكن تبخل في عواطفها نحوي، كانت تشملني بكل أنواع العواطف، عواطف الأم والأخت والصديقة، وربّما أيضاً عواطف المُحبّة الغيور، ولكن اليائسة.

نطقت الكلمات وهي تقوم مسرعة، وتتجه نحو الرواق المقابل. رأيت الرجل القادم من أرض السواد، المسمّى ابن زريق يدخل من باب الخان. لمحت ألفيرة مقدمَه فقامت على عجل وأوقفته، وراحت تتبادل معه بعض الكلمات، كما لو أنّها كانت تواسيه أو تقنعه بأمر ما. أخذت تشير إلى قدميه ونعليه المتـّسخين، اللذين كانا كما لو أنّهما غطسا تواً في الوحل. ثمّ لم تلبث أن عادت بصحبته.

أحدث مرآه شعوراً مبهماً، غير مألوف، في نفسي. بدا لي مهموماً إلى حدّ لا يُحتمل، يسير مثل نائم أو ثمل. جرّته ألفيرة  جرّا إلى حيث أجلُس وأجلسته إلى جواري بلطف وعطف بالغ، فراح من فوره يشكو لها بعض همومه الخاصة، في عبارات غامضة، مقتضبة، جارحة: " كأنّي خُصصت بخساسته وحدي"، "كأنّي طعنت في القرآن، أو رميت الكعبة بخرق الحيض، أو عقرت ناقة صالح، أو سلحت في بير زمزم".

ــ   لا عليك يا بغداديّ، لا عليك، ستتدبّر الأمور قريبا، فلا تكن عجولا.

 ظلّت ألفيرة تطمئنه بطريقتها الودودة، الناعمة، وحينما شعرت أنّه لا يستجيب لها قالت له:

ــ   لا تفكّر في أجور المبيت والطعام وما تستلفه من لوازم الخان. لا تفكّر في هذا البتـّة، طالما أنت هنا، عندي. أما ما تملكه من مبلغ فادّخره لحاجاتك الضروريّة. وإذا احتجت شيئاً ستجدني جاهزة دائماً ومسرورة. أنا أعرف أنّ نفسك الأبيّة لن تسمح لك بفعل هذا، لكنّني لا أعرض عليك منحة، أنا أسلّفك وسأسترد ما أقرضك إيّاه بالتمام والكمال يوماً ما أنا أراه قريباً جداً جداً، كما أراكما الآن أنت وتوأمك هذا.

نطقت ذلك وهي تمسك بساعده وتضغط عليها بحنو، وأشارت إليّ برأسها. وكما لو أنّه تنبّه للمرّة الأولى إلى وجودي، رفع رأسه، وصوّب نظره نحوي. بدت لي  عيناه محيّرتين، عسيرتين، غير قابلتين للقراءة. بدتا لي فارغتين تماماً، كما لو أنّهما صفحتان من كتاب جرى مسحهما من كلّ ما كتب فيهما، أو ربّما كانتا مملوءتين تماماً إلى حدّ تداخلت فيهما الكلمات والحروف والمداد والألوان واختلطت.

ــ   هذا نسختك العراقيّة يا أبا سليمان. هذا عليّ أبو الحسين. سبحان الله ! أنتما في السنّ نفسها، وفي المزاج نفسه، وفي الغايات نفسها. هذا نسختك الأندلسيّة يا بن زريق البغداديّ الكوفيّ.

للمرّة الأولى أراه يبتسم. ابتسامته عجيبة، لا تصدّق، تشبه وردة جميلة تنبت على قبر.

قلت مستفسراً، وأنا لا أعرف كيف أبدأ الحديث معه ومن أين:

ــ   هل أنت كوفيّ أم بغداديّ يا أبا الحسين؟

ــ   كوفيّ أو بغداديّ، لا فرق عندي. أنا عراقيّ.

ــ   أراك مهموماً يا صديقي !

ــ   وماذا يجني المرء من قرطبة غير الهمّ.

ــ   وكيف حال دار السلام؟

ــ   ليست بأحسن حال من قرطبة.

ــ   وهل أنت طالب علم؟

ــ   هذه وغيرها.

ردّت ألفيرة بإعجاب:

ــ   هو شاعر وأديب يا أبا سليمان. ستسمع اسمه قريباً يعلو في مجالس الأمراء، وتردّد كلماته القيّان.

ــ   لا أظنّ ذلك يا ألفيرة.

ــ   لا، يجب أن تظنّ وتتأكد من هذا يا بغداديّ، اليأس ليس من شيم العظماء.

ظلّت ألفيرة  تجامله بطريقتها، وتحاول أن تفرّغ بعض شحنات آلامه.

ــ   لا أظن ذلك أيتها الأندلسيّة الطيّبة.

ــ   لماذا لا تظنّ ذلك، أنت مصرّ على أن تغلق على نفسك أبواب الله الواسعة.

ــ   الواسعة ! أين هي الأبواب يا ألفيرة، أين الأبواب؟

نطق وهمّ بالوقوف، لكنّ ألفيرة قالت له:

ــ   لا تنصرف ! ما رأيك لو أنّك رافقتني إلى بيتي، ربما سيحضر عندنا اليوم رجل له مكانة كبيرة في قرطبة ومعه ضيوف كبار من المريّة. إنّها فرصة لك لكي تروّح عن نفسك ولكي تلتقيهم.

أردّت أن أهوّن عليه الأمر فقلت:

ــ   إذا وعدت ألفيرة فإنّها واثقة تماماً من أنّ وعدها سيتحقق لا محالة.

نظر البغداديّ إلى وجهي بأسى، ثم تبادل نظرات غامضة مع ألفيرة، التي طأطأت رأسها؛ لكنّها سرعان ما رفعت رأسها وهي تزيح خصلة شعرها الصفراء من على جبينها وتقول بحماسة:

ــ   ربما ستكون هذه البداية الحقيقيّة يا بغداديّ.

ــ   لا أظنّ يا ألفيرة، لا أظنّ.

 قلت بتعاطف تام ومشاعر صادقة وأنا أراه يدفن نفسه في حفرة الإنكار المطلق:

ــ   لماذا هذا الإصرار على غلق الأبواب يا بغداديّ؟

ــ   أوّلها شؤم وآخرها لؤم.

ــ   أنا لا أكاد أفهم ما تقول.

ــ   هل سمعتَ بشخص اسمه التوحيديّ؟

ــ   لا، من يكون؟

ــ   أبو حيّان التوحيديّ.

ــ   لم أسمع به.

ــ   حينما تسمع أخباره ستعرف قصتي على حقيقتها. استودعكما الله. أنا متعب، ولا بدّ لي أن استريح قليلا وأخلو إلى نفسي.

قام على مهل، وذهب ماشياً بهدوء عجيب، كما لو أنّه سائر نحو قبره.

كان ذلك آخر عهدي به.

 

(2)

حينما وصلنا الخان شرع عمران يلقي الأوامر على خدم الخان، بينما توجهت أنا إلى ألفيرة. وجدتها تجلس في مكانها، ولكن في حال لم أعهدها فيها من قبل. بدت لي ثائرة الأعصاب، تسرف إسرافاً غريباً في إظهار حزنها وثورتها وانفعالها.

ــ   عجيب أمرك يا ألفيرة ! لقد قمت بشؤون الدفن كلّها طوعاً، لكنّك لم تحضري دفنه؟

ــ   أنا لا أحتمل أن يوضع إنسان في باطن الأرض، ثمّ. ..

ــ   ولكنّ الموت حقّ، وهذا مصير كلّ من عليها.

ــ   وهذا ما لا أستطيع تحمّله. رّبما لأنّني أشعر بنوع من الذنب تجاهه.

ــ   ذنب ! كنت عطوفة عليه.

ــ   لا أعرف إذا كنت كذلك، أم أنّني التي قدته إلى هلاكه !

ــ   لا تحمّلي نفسك وزر شيء لم تقترفه يداك يا ألفيرة.

بكت ألفيرة بحرقة وقالت:

ــ   دعنا نترك هذا المكان.

ــ   كما ترغبين، ولكن إلى أين؟

ــ   إليه !

ــ   ما أعجب أحوالك يا ألفيرة ! قبل دقائق كنت تقولين إنّك تكرهين رؤية الناس يقبرون. وها أنت تريدين الذهاب إليه في قبره.

ــ   نعم، أريد هذا، وإذا لم أذهب إليه من فوري ربّما سيحدث لي شيء فظيع.

ــ   أنا لم أرك من قبل مضطربة و...

ــ   مختلّة، قلها ! مختلّة، أليس كذلك؟

ــ   لا، أعني منفعلة وثائرة.

ــ   وتائهة.

ــ   أنت حزينة يا ألفيرة.

ــ   لست حزينة، أنا قتيلة يا حبيبي وأخي، أنا قاتلة وقتيلة.

نطقت كلماتها واستلت رقعة من رفّ موجود إلى جوارها. رفعت رأسها الباكي نحوي ومدّت يدها بالرقعة، ووضعتها بعنف في يدي.

أخذتُ الرقعة ونظرتُ فيها فوجدتُ أبياتا من الشعر مكتوبة بخطّ كوفيّ جميل.

نظرتُ إلى ألفيرة وقلت مستفهما:

ــ   أبيات شعر كالعقيق.

ــ   ليست أبيات شعر، وليست عقيقاً، هذه بعض دماء القتيل. دماء الزمان والمكان والإنسان يا أبا سليمان. دماء ودموع وآمال لم تر البشريّة مثيلاً لها قطّ، ولن تسمع بمثلها البتـّة.

لم أفهم ماذا تعني. ولم أتمكن من استيعاب ما تقوله أو تفعله. بدت مثل شخص فقد رشده وأخذ يهذي.

نظرتُ إلى الرقعة مجدداً لأعرف ما فيها، لكنّ ألفيرة أسرعت وأخذت الرقعة منّي بخشونة لم أعهدها فيها من قبل. كانت مثل حيوان متوحش جريح فقد المقدرة على تحديد الخصم الذي ينوي مهاجمته.

قامت ومشت، من دون أن تلتفت إليّ. مشيت خلفها منقاداً إليها . ذهبت إلى الإسطبل وركبت فرسها وتحركت. عجّلت في ركوب فرسي ولحقت بها. لكنّها لم تعرني التفاتاً، ظلّت تحثّ فرسها على المسير حتّى عبرت القنطرة ثمّ اتجهت خلف النهر صوب مقبرة الربض، ففهمت أنّها تقصده، وأنّها ذاهبة إلى قبره.

دخلنا المقبرة معاً. ترجلَت بخفـّة، لكنّها كادت أن تهوي، فأسرعت وأمسكت بها، فما كان منها إلاّ أن احتضنتني باكية، وهي تقول:

ــ   لقد قتلته، ولن أغفر لنفسي.

وحينما صرنا عند القبر، ناولتني الرقعة وقالت:

ــ   إقرأ بصوت عال.

ــ   لا تؤاخذيني كثيراً لو تلكأت في القراءة، فأنا مرتبك، كما ترين.

  لم تعقــّب على كلامي. أحسست أنّها غير معنيّة بشيء مما أفكّر فيه أو أحسّه. كانت غارقة تماماً في حزنها. فتحتُ الرقعة وشرعتُ أقرأ، وهي تقف أمامي مترنـّحة، يفصل بيننا قبر ابن زريق. كففت عن النظر إليها ، وركـّزت أنظاري في الرقعة، لأنّ ألفيرة لبثت تميل إلى أمام والى وراء، كما لو أنّها توشك أن تهوي على صفحة القبر:

لا تَـعـذَلِـيــه فَــإِنَّ  الــعَـذلَ   يُـولـِـعُـهُ     قَـد ُقلـت حَقّـاً، وَلَكِـن لَيـسَ يَسمَعُه

جــاوَزتِ فِـي نـصحــه حَـداً أضَـرّ بِـــهِ     مِـن حَيـثُ قَـدّرتِ أَنَّ النصح  يَنفَعُـهُ

قَـد كـانَ مُـضطَلَعا  بِالخَطـبِ  يَحمِلُـهُ     فَضُـلـّعَـتْ بِــخُـطُـوبِ البـين  أَضلُـعُـهُ

مـــا آبَ مِــن سَـــفَــرٍ إلاّ وَأَزعَـــجَـــــهُ     عـزم  إلى  سَــفـَـرٍ  بِـالرغــمِ  يُــزمِعُــهُ

كَأَنّـَمــا هُــوَ فِـي حِــــلِّ وَمُــرتـــحــــلٍ      مُــوَكَّـــل بـِــفَـــضـــاءِ الــلــَـهِ  يَذرعــهُ

  استَودِعُ اللَـه،َ فِـي بَغـداد،َ لِـي قَمَـراً      بِالكَـرخِ مِـن فَلَـكِ الأَزرارِ مَطلَــعُــــهُ

وكـــم تـشــفـــّعَ بـي أن لا أفـــارقــــــهُ،      ولـلـــضـروراتِ حــــــال لا تُــشَـفــّعــُهُ

وَكَم تَشبَّثَ بـي يَـومَ الرَحيـلِ ضُحَـىً،     وَأَدمُــعِــي مـُســتَـهــِـلّاتٍ  وَأَدمُــعــُــــهُ

أعطيتُ مُلكـاً فَلَـم أَحسِـن سِياسَـتَـه،ُ     وَكُـــلُّ مَـن لا يُسُـوسُ المُلـكَ يَخلَعُـهُ

وَمَن غداً لابِسـاً ثَـوبَ النَعِيـم    بِـلا      شَـكـرٍ عَــلَيــهِ، فـَعـنهُ الــلَـــهُ يَنـزِعُـــهُ

وَالحِرصُ في المرء وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت     بَغِـيُ،ألا  إِنَّ  بَغـيَ  المَـرءِ  يَـصـرَعُـــهُ

لــو أنــني لـم تــقـع  عيـني عــلى  بــلـد         في سـفــرتـي  هــذه  إلاّ  وأقـــطــعــــــهُ

اعتَضتُ مِن وَجـهِ  خِلّـي بَعـدَ  فِرقَتِـهِ      كَأســاً  تجَــرَّعَ  مِـنـهـا مــا  أَجَـرَّعُـــه

فرغتُ من القراءة. رفعتُ رأسي نحو ألفيرة، فوجدتها تتوسد القبر، كما لو أنّها تعانق شخصاً حيّاً. لا أعرف منذ متى فعلت ذلك. كنت مأخوذاً أكثر منها. نظرت إلى ما حولي فلم أر شيئاً سوى القبور المتلاصقة. لم أعد أقوى على الوقوف. غيمة كثيفة من الأحزان هبطت على فؤادي فأغرقته بقتامتها. أحسست كما لو أنّني فقدت ذاكرتي. ضباب مُخَدِّر أخذ يتكاثف في رأسي. جلست أمام القبر والرقعة أمامي موضوعة عليه، وشرعت أتبارى مع ألفيرة في إظهار حرقة البكاء، وأنا لا أدري على وجه اليقين على من كنت أبكي: على شخص لا أعرفه معرفة أكيدة، أم على مصيره الغريب الغامض، أم على خيباتي الشخصيّة ! كانت فرصة نادرة لإطلاق الأحزان من دون خجل أو حرج.

لا أعرف كم لبثنا منكبّين على وجهينا، نسرف في إطلاق أحزاننا.

فجأة شعرت كما لو أنّ يدا تهزّني. فتحت عينيّ فوجدت القبّار يقف خلفي وهو يقول:

ــ   اعذرني يا سيّدي، لأنّني قطعت عليك غفوتك. فأنت والسيّدة استغرقتما في النوم. هل أنتما متعبان؟ هل أستطيع أن أقدّم لكما خدمة؟

ــ   أين فرسانا؟

ــ   لا تخف ! لقد عنيت بهما، هل تريدان مساعدة؟

فتحت ألفيرة عينيها مذعورة وقالت:

ــ   أين نحن؟

ــ   لا تقلقي يا ألفيرة ! نحن هنا، في المقبرة.

فركت عينيها وعدّلت هيئتها، فبدت شخصاً آخر بلمح البصر. عادت فجأة إلى طبيعتها التي أعهدها فيها:  ودود، حازمة، على الرغم من الإعياء الواضح، الظاهر على صوتها ووجهها.

نظرت إليها  فوجدتها هادئة، ساكنة المشاعر. شدّة تقلّب مزاج  ألفيرة جعلني أظنّ أنّني لم أزل نائماً أحلم، لكنّني تأكدت من حقيقة ما يجري حينما رأيت الريح تداعب الرقعة الموضوعة فوق القبر. كانت أطرافها تتحرك مثل شيء حيّ. مددت يدي بحذر وأخذت الرقعة المرتجفة، وأنا خجل من نفسي لأنّني أغفيت من شدة التعب وفقدت السيطرة على مشاعري.

قلت لكي أسيطر على مشاعري:

ــ   أهذا شِعره؟

ــ   يا ويلي ! هذه روحه يا أبا سليمان، روحه. هذا لا يسمّى شِعراً، هذه روح، روح طاهرة، محبّة، عظيمة، لا تجود الأرض والسماء  بمثلها بعد اليوم، روح سُكبت هنا وخلّفت وراءها جسداً هامداً غريباً مهاناً.

سارت  فتبعتها. أوصلتها إلى بيتها.

قلت لألفيرة لكي أبرر لها ضعفي:

ــ   لم يحدث لي مثل هذا من قبل. صحيح أنّي لم أنم منذ منتصف الليل، لكنّني لم أحسب أن يأخذني النوم بهذا الشكل، لقد ظننت أنّني أحلم.

ــ   وأنا كذلك. واعذرني لو بدر مني شيء مخجل، فقد كنت ثملة بعض الشيء. هذه هي المرّة الأولى في حياتي التي أخرج فيها من البيت وقد احتسيت بعض النبيذ. يحدث لي هذا حينما أشرب على عجل. يبدو أنّني كنت حزينة جداً، أكثر مما أظن.

ــ   فاجأنا موته.

ــ   الموت كالفراق، الموت والفراق سرّ من أسرار الغيب.

ــ   وما سر القصيدة؟

ــ   القصيدة هي ما جعلني أقع في ما وقعت فيه اليوم. قصتها طويلة. وجدها عمران على سرير ابن زريق وهو ميّت.

ــ   كنت تتحدثين عن الموت، وتلومين نفسك، وتتهمينها بقتله !

ــ   أنا لا ألوم نفسي، بل أدينها، فأنا التي بعثته إلى هلاكه. أنا التي أوصلته إلى أبي عبد الرحمن. استمع أبو عبد الرحمن إليه، وأراد إكرامه، كما قيل، لكنّ بعض خاصته أشاروا عليه أن يختبر سماحة المادح وحلمه وصدق إخلاصه ويبلوه، فأعطاه شيئاً قليلاً، تافهاً، لا يُعطى مثله حتـّى لطارق باب مسكين، فانكسرت إليه نفسه، وقال: " إنّا لله وإنّا إليه راجعون ! سلكت البراري والبحار والمهامه والقفار فأعطاني هذا العطاء النزر؟".  وقد رأيته بنفسك يوم أمس الأول. كان عائداً حينذاك من أبي عبد الرحمن وهو في ذروة يأسه وحزنه وانكساره. حينما رأيته في تلك الهيئة انقبض قلبي وهاجمتني الشكوك.

ــ   لاحظت ذلك أيضا، كان موحل القدمين.

ــ   هذا ما أعنيه. وهذا ما أقلقني. قلت له: "لماذا قدماك موحلتان بهذا الشكل؟ أجئت ماشيا من قصر أبي عبد الرحمن إلى الخان؟"، فأجابني: "لا، جئت راكباً، لكنّني عرّجت على الوادي الكبير، وغمست قدميّ فيه، وأنا أحسّ كما لو أنّني أغطسهما في ماء دجلة"  .  فانقبض قلبي ووسوس الشيطان لي حينذاك بأنّه ربّما كان ينوي إلحاق الأذى بنفسه.

ــ   إذاً هم الذين قتلوه.

ــ   وربّما أنا.

ــ   ما ذنبك أنت ! أنت كنت تقدّمين له خدمة حينما قمت بإيصاله إلى شخص كبير المقام يدّعي حبّ الأدب.

ــ   ما يؤرقني أنّني سمعت كلاماً آخر، يختلف عن تلك الرواية في بعض التفاصيل، ولكنّني لم أتمكن من التأكد من عمران، لأنّه لم يفدني بشيء مفهوم لحدّ الآن.

ــ   ماذا سمعتِ؟

ــ   لا أدري كيف أربط بين الأمور، أنا غير واثقة من شيء؛ ربّما أنا لم أزل تحت تأثير الصدمة أو النبيذ، وربّما أنا أهذي حقاً، كما قلت أنت.

ــ   كيف تفسرين الأمر؟

ــ   لقد فتشّت جسده بقعة بقعة لأرى إذا كان مصابا، لكنّه كان سليم الجسد. حتـّى عمران لم يلحظ شيئاً غير طبيعيّ حينما زاره قبل منتصف الليل ورآه يبكي من شدّة الخذلان. سألت عمران أكان يبكي من ألم ما؟ فقال لي: لا، كان حانقاً، يقول: قطعت كل تلك البحار والمفازات لألقى ما يلقاه أشدّ الشحاذين بؤساً. كأني خصصت بخساسته وحدي. قال عمران كان ابن زريق يردّد هذه العبارة، وهو ينتحب مثل ذبيح.

ــ   وماذا يعني هذا؟

ــ   لا أعرف؟ لكننّي أقول لك: أنا الآن قد أوافقك لو قررت السفر إلى عدوة المغرب.

ــ   أتلمّحين إلى أمر ما يا ألفيرة؟

ــ   لا، لو كان عندي ما أريد قوله لما أخفيته عنك، لكنّني لا أرتاح للرجال الذين يتولون قيادة فرق ما يعرف بجيش الخارج، المرتزقة، مهما كانت أخلاقهم فاضلة. لأنّهم محاطون بقوم مغشوشين، عديمي الضمائر، ويتعاملون مع جماعات مجهولة الأصول والخلق والطبائع، فتتأثر أخلاقهم بمن يحيط بهم.

ــ   هل لديك شكوك في...

ــ   لا يا أبا سليمان، قلت لا. لكنّني منقبضة القلب، وربّما أريد أن أخفـّف من ذنوبي عن طريق اختلاق ذرائع وأوهام أخدع بها نفسي.

حديث ألفيرة حيّرني. فهي لا يمكن أن لا تقصد شيئاً. لكنّني رغم جسامة ما تتحدث به شعرت أنّ شكوكها أو خيالاتها لم تعد تعنيني في شيء. كانت روح ابن زريق التي أودعها في رقعة لا قيمة لها، هي التي أسرت لبّي. صورة امرأة آسرة، كاسرة، من بغداد، تجمع بين الجمال والعظمة، تشبه أفلاك السماوات، تتشبث بردائه وهو يبتعد عنها، قائلاً لها: لا تقلقي، سأعود إليك سريعاً، غير مدرك أنّه ذاهب إلى حتفه ! لماذا تركت الجنّة وراءك يا بن زريق؟ لماذا؟

أحسست أنّني مشدود إلى شيء ما، لا أستطيع نسيانه. كنت أحادث ألفيرة وعقلي مشغول بكلمات ابن زريق:

ــ   هل أستطيع الاحتفاظ بالقصيدة؟

ــ   نعم، لك أن تنسخها، ولكن أعد الأصل لي.

أخذت الرقعة، طويتها بعناية وقلت لألفيرة:

ــ   يجب أن أذهب. أنا متعب جداً، وأراك أنت متعبة أيضاً.

ــ   تستطيع المبيت هنا.

ــ   شكراً يا ألفيرة، أريد أن أختلي بنفسي.

ــ   تستطيع أن تختلي بنفسك هنا أيضاً.

ــ   لا أستطيع يا ألفيرة، واسمحي لي بالذهاب.

ــ   إذا كنت مصرّاً على الذهاب؛ ولكن تريّث، لا تغادر قبل أن أعود إلى الخان. سأذهب إلى أم سليمان غداً، وستسمع منّي ما يرضيك.

ــ   إلى اللقاء.

خرجت مسرعا. لم تزل الشمس في قبّة السماء. الفكرة الوحيدة التي سيطرت على عقلي هي أن أذهب فوراً إلى سوق الورّاقين لأجد أفضل خطّاط يستطيع أن ينسخ لي قصيدة ابن زريق، وأن يصنع لي نسخة تضاهيها دقّة وجمالاً.

 

(3)

وضعت الرقعتين، الأصل والصورة، على السرير، ورحت أتأمل انسياب وتشابك حروفهما وكلماتهما. بدتا لي تشبهان أرضا عظيمة الخصوبة تغمرها أنهر من الحبّ والمكابدة، وروافد من ألم البين وألم الدهر. كانت الرقعتان تستلقيان على السرير أمامي مثل كائن حيّ، أكاد أشم عبق كيانه، وألحظ أنفاسه، وألمس دفء مشاعره، وأسمع وجيب قلبه.

هل يمكن لبغداد أن تكون رقيقة وعميقة إلى هذا الحد في آن واحد ! أصيلة ومجددة في آن واحد ! ثائرة ومقيـّدة في آن واحد ! ومن غير بغداد يمكن أن يكون كذلك ! البداية الغزليّة للقصيدة، التي تشبه تأكيداً على الالتزام بعمود الشعر، كانت تمرّداً خفيّاً عليه. أمّا العودة إلى براءة الغزل العذري الأمويّ، وما حفل به من جرأة وحرّيّة عاطفيّة، فتغاير في عمقها الوجوديّ التركيزَ الفرديَّ على العواطف الشخصيّة في شعر الغزل التقليديّ. والرحلة، التي هي من لوازم عمود الشعر، لم تكن ارتحالاً في المكان، بل كانت ارتحالاً وجدانيّاً فريداً. الهجوم  العاطفي الذي افتتح به قصيدته، تبرير تضليليّ أراد به أن يكسب عطف مستمعيه وأن يحوزهم إلى صفـّه في مواجهة مشاعره الأكثر حميميّة، في مواجهة كتلة اللهب العاطفيّ، التي تشبثت بردائه في لحظة الفراق، والتي يدرك في قرارة نفسه أنّه ألحق بها ظلماً قاتلاً. تعدد ضمير القول كان غشّاً عاطفياً. ربّما كان يشجّع نفسه على المضي في لعبة الفراق والمكابدة، في لعبة الترحال العبثيّ والبحث عن الوهم، في رحلة الأخطاء واللعب على الأقدار والمصائر ! والمرأة التي تركها خلفه؟ ما الذي قهره على ذلك؟ لم يظهر بوح غزليّ عن زوجة، في التراث الشعريّ العربيّ كلّه من قبل، على هذه الدرجة من التشخيص والإشهار.

أيّ قمر ذلك الطالع من فلك الأزرار؟ من تكون؟ كيف شكلها؟ وكيف تمضي ليلتها هذه؟ هل أحسّ قلبها حينما توقف نبض حبيبها؟ هل ضاقت أنفاسها بتوقف أنفاسه؟ هل لمست عيناها انطفاءة النور حينما أهيل التراب فوقه؟

من تكون، وكيف تكون؟

لم أنم حتـّى مطلع الفجر، حتـّى اللحظة التي بدأت فيها أفرّق تفريقاً مطلقاً بين الأصل والصورة لفرط ما أطلت النظر فيهما. حاء قرطبة وحاء بغداد، باء قرطبة وباء بغداد؛ عين قرطبة وعين بغداد، شين قرطبة وشين بغداد، قاف قرطبة وقاف بغداد، خط بغداد الكوفيّ وخط قرطبة الكوفيّ. غفوت وأنا أتوسد الحروف، وفي خيالي المضطرب، الخَدِر، يمرّ كلّ حين طيفُ امرأة بغداديّة، تمرق عابرة مثل قدحة زند، وامضة في عتمة روحي.

" أبا سليمان، أبا سليمان !"

سمعتها تردّد اسمي. صوت قادم من بغداد يناديني. أسمعها تدعوني إليها . كلمات تخرج من ومضة الخيال ومن قدحة الحلم إلى الحياة وتناديني، تقول لي: تعال يا أبا سليمان، تعال !

ــ   أبا سليمان، أبا سليمان !

فتحتُ عينيّ مرتبكاً وأنا أحسّ أطراف أصابعها تلمس أجفاني.

كان عمران في مواجهتي. فركت عينيّ وقلت:

ــ   اللّهم اجعله خيراً !

ردّ مبتسماً:

ــ   كما لو أنّك تتعوذ بالله من شرّ شيطان رجيم.

ــ   أنا متعب يا عمران، لماذا لم تدعني أواصل النوم، لم أنم إلاّ عند مطلع الفجر.

جلست على حافـّة السرير فلاحظت أبصار عمران تسقط على الرقعتين وتمعن النظر فيهما.

ــ   لم أرغب في تركك نائماً، لكي لا تلومني فيما بعد.

ــ   ألومك !على ماذا؟

ــ   على ما يحدث الآن في الخان.

ــ   وماذا يحدث الآن؟

نطقت الكلمات بخوف وفكري يذهب بعيداً، إلى ألفيرة وحالتها العجيبة ليلة أمس، سكرها واضطراب مشاعرها ونومها وهي تتوسد القبر.

ــ   جاء يسأل عنه.

ــ   من جاء؟ ويسأل عمّن يا عمران؟ لا تجعلني أستقبل يومي بألغازك العجيبة.

ــ   من غيره، أبو عبد الرحمن !

ــ   وماذا يريد؟

ــ   جاء يسأل عنه، عن ابن زريق.

ــ   ابن زريق ليس في الخان، ابن زريق في مقبرة الربض يا عمران؛ ألم تقولوا له ذلك؟

ــ   لهذا السبب جاء.

لم أستطع الوصول بسرعة إلى ما يفكّر فيه عمران وأنا في هذه الحالة المرتبكة. عمران يسبقني في الأحوال الاعتياديّة بعدد من الدورات واللّفات الافتراضيّة، التي تتطلب منّي جهداً مضاعفاً لكي أصل إلى حقيقتها وفحوى مقاصدها. أمّا الآن وأنا ممزق النفس، مشدود الأعصاب،  موجوع البدن، فلا أقوى على تتبع خيوط وتعرّجات أفكاره ومقاصده.

ــ   أنا متعب يا عمران، قل لي بالضبط ماذا تريد أن تقول.

ــ   هو موجود الآن عند ألفيرة في غرفتها، وحينما طال مكوثه عندها فكّرت في أنّها ربّما تظنّ أنّك لست في الخان، فلم ترسل في طلبك للقائه.

 عشرة أخطاء محتملة تضمنتها جملة عمران القصيرة. عشرة افتراضات كاذبة تخفي تحتها سبباً غامضاً لا يريد أن يبوح به. لا يمكن لألفيرة أن تدعوني لمقابلته وهي تدرك قرفي منه وشدّة احتقاري لوضعه؛ ولا يمكن لها أن تدعوني، لكي لا تشعره بأنّني أقيم عندها وبيتي على مقربة من قرطبة، في ربضها الشمالي، رغم أنّه لا تُخفى عليه مثل هذه الأسرار الصغيرة؛ ولا يمكن لي مغادرة الخان من دون إخبارها والتحدث إليها  كما اتفقنا يوم أمس؛ ولا يمكن أن أكون خرجت من الخان وفرسي مربوط في الحظيرة. ماذا يريد عمران إذاً؟

ــ   لا أريد أن أرى أحداً يا عمران، هل أنت مرتاح الآن !

ــ   كما تحبّ، على أيّة حال لقد أدّيت واجبي نحوك.

ــ   شكراً لك يا عمران، والآن دعني أواصل نومي، وحينما أصحو تستطيع أن تحدثني عن كلّ شيء بالتفصيل.

ــ   وكيف أحدّثك بالتفصيل وهو لم يخرج من غرفة ألفيرة ! وربّما سيخرج منها مباشرة إلى بيته.

ــ   يكون في هذه الحالة قد أراحنا من أفضاله علينا.

ــ   أأنت ناقم عليه وباغض له إلى هذا الحدّ؟

باغض وناقم ! أيقظت كلمات عمران حواسيّ. باغض وناقم ! أحسست برجفة وأنا أتخيل نفسي مقاداً من قبل عسكر أبي عبد الرحمن وأنا أوشك على مغادرة قرطبة. أيّ مصير أرعن سيكون لو أنّه تمكن منّي بهذه البساطة وفي هذه اللحظة الخاطئة، القاتلة !  نهضت بعزم وأنا أشعر بآلام في أنحاء متفرقة من جسدي، وقلت:

ــ   يا عمران، أنت تعرف أنّني سأعرف التفاصيل كلّها من ألفيرة، فلماذا تريد منّي أن أزعجهما بوجودي ! لو كان وجودي ضروريّاً لبعثا في طلبي، أليس كذلك؟

ــ   ربّما تكون على حقّ.

ــ   عليّة القوم وكبارهم يا عمران يستحقـّون منّا أن نعاملهم بشكل خاص يليق بمكانتهم، وأن لا نتطفـّل عليهم بشؤوننا الشخصيّة الصغيرة. يجب أن تكون لهم مكانة خاصّة في نفوسنا.

ــ   صدقت.

نطق الكلمة وهمّ بالذهاب، فعجلّت بالقول:

ــ   أخبر السائس أن يعتني بفرسي جيداً لأنّني سأغادر اليوم.

ــ   لم نشبع من وجودك !

ــ   ستشبع منّي في يوم من الأيّام.

ابتسم وهو يفسّر ويؤوّل كلماتي، التي حرصت أن تحمل أكثر من معنى، لكي يستمتع بها بطريقته الخاصّة، ولكي يظل مشغولاً في تفسير احتمالاتها.

في الطريق إلى موضع الوضوء سمعت جلبة وضوضاء تقترب منّي. غسلت وجهي على عجل وأنا أرى حرّاس أبي عبد الرحمن يتزاحمون في الأروقة، وهم يبعدون الناس الذين أخذوا بالتجمهر، فأدركت أنّ أبا عبد الرحمن في طريقه إلى الخروج. فكّرت في أن أظلّ قابعاً في الداخل، لكنّ تجمهر الناس حول أبي عبد الرحمن أثار فضولي، وأثار انتباهي أنّه كان يتعمد أن يتجمهر الناس، كما لو أنّه كان يقصد حدوث ذلك. وبالفعل صدق ظنّي. فحالما اكتظّ المكان بالناس وقف أبو عبد الرحمن وسطهم مثل خطيب، وراح يتحدث عن فضائله وكرمه وسخائه ودوره في تثبيت أركان الدولة والإسلام على أرض الأندلس. تضاعف قرفي منه وأنا أسمعه يكيل المديح لنفسه. لكنّني أصبت بنوبة حادة من الاستفزاز وأنا أراه ينعطف فجأة من المديح إلى الرثاء. في لحظة واحدة انقلبت سحنته المتكبرة المفاخرة وأخذت تكتسب هيئة المحزونين، المصابين بالفواجع القاتلة. رقّ صوته وأخذت الدموع تسيل من عينيه مدراراً، واخضلّت لحيته بالدمع. أيّ مصانع بارع هذا القاتل الصلف ! بّخـُل يوم أمس فقتل الرجل، ويريد الآن أن يقتله مرة ثانية بسخائه الكاذب !  فكّرت وقد ملأ الغيظ صدري، فخطوت من دون وعي في اتجاه الحشد، وشققت طريقاً لي بينهم.

رفع أبو عبد الرحمن رقعة مماثلة للرقعة التي كُتبت عليها قصيدة ابن زريق وشرع يقرأ:

 لا تــعـذلـيــه فَــإِنَّ الـعَــذل  يـولـِـعُــهُ    قَـد  قـلـتِ حـقّــا،ً وَلـكِـن لَيــسَ   يَـسـمَـعُـهُ

خلعت كلماته قلبي من موضعه. كيف تسنى له أخذ الرقعة وقد تركتها خلفي منذ دقائق حسب ! لكنّني هدأت حالما أدار الرقعة لكي يُري الناس كلمات ابن زريق. كانت نسخة مخطوطة على عجل بخط رخيص ورديء جدّا، هي غير الأصل وغير النسخة التي صنعوها لي يوم أمس. فكّرت في عمران، الذي كان يقف على مبعدة من أبي عبد الرحمن، خلف حراب الحرّاس، وهو ينظر إلى الرقعة بفخر وزهو ويتصنع النواح والبكاء.

قال أبو عبد الرحمن بصوت باك:

ــ   والله لو أنّني كنت أعلم بالغيوب، استغفر الله، لكنت اقتسمت معه ثروتي. وددت لو أن هذا الرجل حيّ وأشاطره نصف ملكي، فهو يستحقه أكثر منّي.

بحركة عاطفية بارعة استل أبو عبد الرحمن صرّة من ثوبه، مثقلة بالقطع النقديّة، وقال بصوت مرتجف:

ــ   هذه خمسة آلاف دينار، لو أنّني أعرف من يستطيع أن يوصلها إلى أهل بيته لمنحته الآن جراية تكفيه مؤونة الذهاب والعودة وجعلته من خاصتي. ولكن، أنتم تعرفون، أنّ أرض السواد بعيدة، ولا نعرف شيئاً عن الرجل أو أهله. ما أتعس حظّه! بل قولوا ما أتعس حظّي!

لم أتمالك نفسي أكثر. أزحت الرمح المنتصب أمام وجهي وتقدمت بهدوء وقلت:

ــ   أنا لها يا أبا عبد الرحمن.

تفاجأت ألفيرة  وهي تسمع كلماتي، حتـّى خلتها تكاد أن تقع من فرط الصدمة؛ لكنّها تماسكت وراحت تتشاور مع أبي عبد الرحمن بودّ، وهي تكبت ابتسامة خفيّة كادت أن تنطلق من بريق عينيها، فما كان من أبي عبد الرحمن إلاّ أن صاح:

ــ   ونعم الرجل ! ومن غير أبي سليمان يكون لها !

نطق كلماته وهو يغادر حالة الانكسار والحزن ويعود إلى وضع التكبّر. نطق الكلمات بتعال وجفاء، فخرجت من فمه مثل الأحجار.

تقدمت نحوه وصافحته فعانقني. شممت رائحة النبيذ تفوح من فمه مخلوطة بالمسك الذي يملأ فمه، والطيب الذي بالغ في رشّه على ثيابه وجسده.

جرّني إلى جواره وقال بصوت سلطويّ:

ــ   أبو سليمان لها. لكنّني لا أريد له أن يذهب إلى مكان مضطرب مثل بغداد، قرطبة في حاجة ماسة إليه والى أمثاله من الرجال، في هذه الأوضاع العصيبة.

فجأة هتف عمران وهو يمسح دموعه:

ــ   صدقت يا أبا عبد الرحمن ! صدقت ! قرطبة أحوج إلى أبي سليمان، وبغداد مضطربة الأحوال. أنا يا سيّدي اسمي عمران وأعمل هنا مساعداً للسيّدة ألفيرة، وهذه الرقعة التي في يدك هديّة منّي إليك أرسلتها بنفسي يوم أمس مع بعض خاصتك. وأنا شخصيّا بحكم وجودي هنا في الخان أعرف الكثير من التجار وطالبي العلم الذين يذهبون إلى بغداد، بعضهم يعرف أحوال البلاد والعباد جيّداً. تستطيع الاعتماد عليّ في هذا الأمر، أستطيع أن أجد لك يا سيّدي من هو جدير بهذه المهمّة.

ــ   هذا إخلاص تكافأ عليه يا رجل. نعم، أنت على حقّ، حالما تجد الرجل المناسب لا  تتأخر هنيهة واحدة في إخباري، وبما أنّك من أوصل هذه الدرّة الثمينة لي، فأنت تعرف طريقي جيداً.

ابتسم واستدار نحو ألفيرة، كما لو أنّه أنجز المهمّة التي جاء من أجلها بنجاح تام، فما كان منّي إلاّ أن هتفت لأسمع الناس جميعا:

ــ   يا أبا عبد الرحمن، أنا ذاهب إلى بيت الله لأداء فريضة الحجّ، وقد حسمت أمري، ولم يتبق على سفري سوى يوم وليلة. وأنا هنا في قرطبة لكي أنهي بعض مصالحي قبل سفري. لذلك لن يكون شاقاً عليّ المسير إلى بغداد في طريق العودة إن شاء الله.

قال بصوت جهوريّ:

ــ   أخشى عليك من اضطراب الأوضاع هناك.

أجبت:

ــ   لا تخش شيئاً أيّها الأمير، لن أمكث هناك كثيراً.

رأيت علامات الدهشة تغزو وجه ألفيرة، لكنّها دهشة مملوءة بالودّ والقلق والحيرة، وحتـّى بالفرح الخفيّ. أمّا وجه أبي عبد الرحمن فقد اربد وغلظ، وأخذ الرجل يتململ في وقفته حائراً لا يعرف ماذا يجيب، وقد أسقط في يده. لكنّ صوت عمران جاء منقذاً:

ــ   ليست الرحلة إلى بغداد سهلة يا سيّدي، لماذا تجشّم نفسك عناء السفر في هذه الظروف المتقلّبة؟ أنا أعرف بعض المسافرين الثقاة، أستطيع أن أحضرهم إليكم متى تشاؤون، هم كثر، ولن يتأخر سفرهم كثيراً.

قررت أن أنتصر بأيّ ثمن، وبأيّة وسيلة. أحسست أنّها معركتي الأخيرة، فلم أمهل أبا عبد الرحمن فرصة للردّ، عجّلت بالقول:

ــ   سواء أخذت مكرمتك إلى أهل ابن زريق أم لم أفعل، سأكون في كلّ الأحوال ببغداد بعد أداء مناسك الحجّ،  بما أنّني سأكون قريباً منها. فبيت الله محجّة المتـّقين، وبغداد محجّة الأدباء والعلماء.

جمدت هيئة أبي عبد الرحمن. تيبّـست ملامحه وأضحى مثل تمثال من حجر.  لكنّه تنبه وهو يسمع همهمات الناس المتجمهرين، فوضع صرّة النقود بيد ألفيرة وقال:

ــ   تصرّفي بها، كما ترين.

نطق كلماته واستدار فتراكض الحرّاس يتزاحمون حوله، ويفتحون الطريق أمامه.

ذهب الناس جميعهم خلف موكبه.  حاول عمران الاقتراب منه، لكنّ الحراس صدّوه بعنف، فوجد نفسه مُبعداً، يقف في مواجهتي.

 

(4)

قال لي عمران وهو يدخل غرفتي:

ــ   لم تخبرنا بأنّك ذاهب إلى الحجّ !

ــ   ألم أفعل ذلك؟ موت هذا الرجل شغل بالنا جميعاً. لكنّني أخبرتك أنّني هنا لغرض ترتيب أعمالي ووضعي العائلي.

لم يقل لي عمران بأنّي لم أخبره بهذا أيضاً، وفضّل، بدلا من ذلك، أن يردّ عليّ موضّحاً:

ــ   أحسب أن موسم الحجّ لم يزل بعيداً !

كيف فاتني هذا ! فكّرت وأردت أن أجيبه بأنّي أعرف هذا جيّداً، لكنّه سبقني وقال:

 ــ   لو أنّ أهل بيتك احتاجوا شيئاً، أنا موجود يا أبا سليمان وفي خدمتهم دائماً وأبداً.

ــ   شكراً لك، أنا أعرف هذا، وألفيرة تعرف هذا أيضاً.

نطقتُ الكلمات وأنا أخشى أن تحضر ألفيرة وتفاجئني هنا بمعية عمران وأنا أكذب مدّعيّاً أنني اتخذت قرار السفر إلى مكة منذ زمن. لكنّني قررت أن أغتنم الفرصة فقلت له:

ــ   أين وضعتم أمتعة ابن زريق؟

ــ   أيّ أمتعة؟ لم تكن لديه سوى خِلق وخرق.

ــ   أريد هذه الخرق، خاصّة تلك التي كان يرتديها ساعة موته.

ــ   ماذا تفعل بها؟ الناس عادة يرمون ثياب الموتى.

ــ   ولكنّي أريدها لحاجة خاصّة.

ــ   سأسأل عنها، وأعدك بإحضارها. أما ما تبقى من أمتعته فهي عندي في البيت، كنت أزمع أن أتصدّق بها على الفقراء. فهو كما يعرف الجميع  مدين لي بأشياء كثيرة، وببعض المال اقترضه منّي.

ــ   سأدفع لك ثمنها.

ــ   لا حاجة إلى ذلك.

ــ   سأدفع لك لا لكي أشتريها منك، ولكن لكي أمكّنك من التصدق بثمنها على الفقراء.

ــ   إذا كان الأمر كذلك، سأعمل على جلبها إليك.

ــ   الآن.

ــ   والخان؟

ــ   لا تهتمّ بهذا، سأتحدث مع ألفيرة في الأمر.

ــ   ولكن، لي شرط !

ــ   لك أن تشرط يا عمران.

ــ   أن لا تخبر ألفيرة، لأنّك تعرف أنّها حسّاسة وربّما يحزنها أنّني أقرضته شيئاً من وراء ظهرها. فأنا أعرف أنّها كانت تلحّ عليه أن يأخذ منها، لكنّه كان يرفض ويصرّ على الاقتراض منّي.

ــ   هذه شهامة منك يا عمران.

ــ   هذا أقل ما يمكن تقديمه، ولا تنس يا أبا سليمان أنّنا مهما اختلفت أهواؤنا وأمزجتنا نظلّ أبناء أرض واحدة، شربنا من النهرين العظيمين ذاتهما.

ــ   هذا أمر تـُحمد عليه.

ــ   أنا لا أبحث عن حمد أو شكر. فأنا هكذا، طباعي  وفطرتي تأمرني أن أكون هكذا، متسامحاً، أُوثر الناس على نفسي.

استرخى عمران على السرير وهو ينظر إلى الرقعتين، اللتين أخذت أطويهما بعناية وبطء، لكي أزيد من متعة التذكـّر لديه وأشحذ مقدرته على البوح والتخيّل. قال مثل راوٍ يروي قصّة:

أنا أوّل من تعرف عليه في قرطبة، وأوّل من كلّمه وأكرمه، منذ أن وطئت قدماه أرض قرطبة. جاءنا عابساً متذمراً، سيئ الهيئة، حتـّى أنّنا جميعاً حسبناه لصّاً أو صعلوكاً. قال إنّه فقد ثروته بسبب غرق المركب الذي أقلّهم من إفريقية، ولم يتبق معه سوى النزر اليسير. استطاع أن يقنع السيّدة ألفيرة بصدق كلامه. تعاطفت معه بقوّة، كعادتها، ولم تكتف بأن تطمئنه، بل طلبت منه أن يستحمّ ويبدل ثيابه ويذهب معي لمشاهد حفل استقبال وتتويج الأمير هشام. قالت له ألفيرة: يا بغدادي هذه فرصة نادرة لا تتكرر في التاريخ كثيراً، اليوم يُنصّب أكبر أخوة الخليفة السابق عبد الرحمن المرتضى.

 ذهبنا معا. كان الناس يحتشدون من كل صوب وفجّ. كانت الألسن والأنفس تلهج بذكر هشام، وكانت ترى فيه خلاص قرطبة وخلاص الأندلس كلّها.

كانت ألفيرة مشغولة بإعداد لوازم  احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة، كما أذكر.

قلت له: يا بن زريق، ما تراه الآن  لن تراه في مكان آخر ولن يتكرر في زمان آخر. من سنراه الآن ليس شخصاً، هو شيء يشبه القدر، يشبه صفحة من كتاب الزمان. لقد تأخر حضوره ثلاث سنوات نكدات، إلى حدّ أنّ الناس فقدوا الأمل من حضوره. ومنذ مقتل أخيه خليفة قرطبة عبد الرحمن المرتضى وقرطبة نهباً للفتن والوساوس، لا أحد يعرف ماذا يخبئ القدر لها وكيف سيدير الناس شؤونهم. الخليفة قتل، وهشام توارى عن الأنظار، فرّ معتصماً في قرية صغيرة، مختفياً. الخصوم من عرب وبربر وصقالبة وأندلسيين وغرباء لا يعرفون ماذا تخبئ اللحظة القادمة، ولا أحد منهم يجرؤ على أخذ السلطة خشية أن يهوي سريعاً على يد خصومه المتربصين ببعضهم. محبو السلطة لا يُحصى عددهم. لقد اتفق الرأي أن الأمور لا تستقيم إلاّ باستخلاف حاكم عربيّ، فاستقر الرأي على هشام. هكذا كانت الحال، لذلك رأينا الناس يتراكضون من كلّ حدب وصوب.

طال انتظارنا. كان ابن زريق مأخوذاً بالمشهد. عرفت في تلك اللحظة أنّني أقف إلى جوار شاعر عظيم. لقد نسي مصيبته وغربته وفقدان متاعه وغدا شخصاً آخر. فخلف غمامة الحزن، التي غطّت ملامحه، رأيت وجهه الرجوليّ الصارم، ولكن الجميل، يشّع بألق الفرح ونشوة السعادة، كما لو أنّ فتنة المكان وأفراح الناس انسكبت في قلبه دفعة واحدة فأحالته إلى مخلوق مختلف. لم أره بعد تلك اللحظات قطّ يعود إلى تلك الهيئة الصافية المفعمة بالأمل والترقـّب.

بعد كلّ تلك النشوة والفرحة، فجأة انهار ابن زريق. خرّ جالساً على الأرض، كما لو أنّ رجليه لم تعودا تحتملانه. هبط جالساً على قارعة الطريق وشرع يهذي.

كنّا في انتظار الموكب، وحينما تعالت الصرخات والهتافات إيذاناً بمقدم هشام، كان ابن زريق قد تخلى عن وقاره وراح يصارع المتزاحمين للوصول إلى أقرب موقع يرى منه الخليفة المنتظر. كان كما لو أنّ روحاً غريبة تملّكته فأحالته إلى واحد من آلاف مؤلّفة، إلى نسخة من جموع تتزاحم، لا يعرفون سوى الصراخ والهتاف المملوء بالرجاء.

وبينا الموكب يقترب إذا بابن زريق ينهار وهو يرى الخليفة يدخل على فرس هزيل، من دون موكب ملكيّ، عليه كسوة رثـّة. تفاجأنا جميعاً بذلك، لكنّ ابن زريق أصيب بمقتل. جلس شارداً وهو يتمتم: أهذا خليفتكم؟ أهذا خليفتكم؟ أوّلها شؤم!

أحسب أنّه كان يتطيّر من أشياء معيّنة.

منذ تلك اللحظة وأنا ألازمه ملازمة تامة.

لا أعرف حقيقة ما رواه لي عمران. لكنّني لا أشك في أن من وصفه كان ابن زريق، الذي تبادلت معه بضع كلمات عابرة واستقرّ في وجداني مثل أثر لا يمحى.

ــ   يا عمران، يتوجب عليّ أن أتركك تذهب لتدبير ما وعدتني به. أما أنا فلدي الكثير لأفعله.

عدا ألفيرة، لا بدّ لي من ترتيب اللقاء براميرو، لاتمام موضوع الأرض والعمال والحسابات والعقارات. ولا بدّ من توديع بعض الأصدقاء وقضاء بعض الاحتياجات التي تخصّ البيت والأهل.   

ــ   سأنتظرك عند ألفيرة  يا عمران.

ــ   هل لي أن أطلب منك شيئاً شخصيّا، لو تكرمت بهذا؟

ــ   أطلب.

ــ   أريد أن تشرّفنا للعشاء في بيتي المتواضع. أريد أن أودّعك وأنا أحسّ أنّني قريب إلى قلبك، وهناك تستطيع أن تستلم أمتعة ابن زريق كلّها كاملة.

ــ   ولكنّك تعلم أنّ وقتي ضيّق، ووقتك أضيق، فأنت لا تعود من عملك إلاّ حينما تحضر ألفيرة، كما أنّ زوجتك مريضة.

ــ   سأتدبر هذا، ولن نأخذ من وقتك الكثير، ما رأيك؟

ــ   اتفقنا.

صافحني بحرارة وهو يقول:

ــ   سأخبر ألفيرة حينما تعود.

ذهب وتركني حائرا. لم  أستطيع معرفة سبب هذا الإصرار على دعوتي. فليس من المنطقي أنّه يريد إخفاء موضوع بيع الملابس عن ألفيرة، لأنّه يعرف أنّني سأقول لها هذا حتما. لكنّني وجدت أن الذهاب قد يفيدني في معرفة أمر أجهله، فهو لا بدّ أن يكون قد ادّخر شيئاً ثميناً يريد أن يختتم به هذه المأساة العجيبة؟ ما هو؟ هذا في علم الغيب !

 

(5)

حينما عادت ألفيرة من زيارة بيتي والتحدث إلى أمّ سليمان، حدّثتها عن دعوة عمران. سكتت وراحت تفكّر، ثمّ قالت:

ــ   لا أعرف ماذا أقول، ربّما يكون الأمر كما فكّرت أنت، ربّما يخفي شيئاً مفيداً يريد مقايضته !

ــ   أترين الأمر هكذا؟

ــ   هذا الاحتمال هو الأرجح، فهو لا يمكن أن يرتكب فعلاً  يؤذيك، لأنّه يحسب لي ألف حساب. الأمر المرجّح أنّه يريد مقايضة سرّ ما. لكنّك فاجأتني بكذبتك العظيمة عن الحجّ.

ــ   ولماذا تعتبرينها كذبة؟

ــ   لا أعرف إذا كان ربّك يقبل منك أداء فريضة نويتها وأنت تسعى إلى تحدّي وكسر شوكة عدوّ شخصيّ؟

ــ   لا تغرقي رأسك الجميل في شؤون الإلهيات يا ألفيرة !

ــ   أنا لا أتحدث عن الإلهيات. لم تكن الفكرة في رأسك يوم أمس. أنت تقلب حياتك رأسا على عقب في لحظة طيش وانفعال يا أبا سليمان.

ــ   حسن، ولكن قولي لي:  هل هناك إمكانية لتغيير الأمر الآن؟

ــ   لا، ولهذا أنا غاضبة، ولهذا أردت محاججتك بالله، لكي أقول لك إنـّك تلعب بالجميع، بنفسك، بمصيرك، وحتـّى بما تؤمن به.

ــ   لا تضخّمي الأمر. هذا الموضوع صاغ شكله من تلقاء نفسه على هذه الهيئة، أما القرار فموجود في داخلي، موجود في أعماق فكري ووجداني. أنت تتحدثين عن شكل حدوث الأشياء ومواقيتها.

ــ   لا تضللني بمنطقك الملتوي يا أبا سليمان، أنا لست ندّا لك.

ــ   أسألك بيسوع المسيح، ألم تفرحي وأنت ترينه ينهار مثل جبل من النفايات؟

ابتسمت. ألفيرة تبتسم من عينيها لا من شفتيها. نظرت إليّ باسمة وقالت:

ــ   هل ظهر هذا على وجهي؟

ــ   ليس للآخرين على أيـّة حال. لكنّني أحسست أنّك كنت موشكة على السقوط من فرط المفاجأة، وأحسست في الوقت عينه كما لو أنّك تسجّلين لي انتصاراً صغيراً جاء بعد انتهاء معركة خاسرة.

ــ   هذا صحيح، على الرغم من أنّني أريد لك الانتصار في معارك نافعة، رابحة.

ــ   هذه ليست بيدي يا ألفيرة، ليست بيد أحدّ منّا.

خضرة عينيّ ألفيرة تشبه سحر الحقول. نظرت إلى غابات عينيها فرأيت طيور الله ترتحل إلى كلّ صوب، بيضاء، محلّقة في أثير سحريّ آسر.

 ــ   اسمعي يا ألفيرة، سأريك أمراً يعجبك.

 استللت الرقعتين وبسطتهما أمامها وقلت:

ــ   أيّهما نسختك؟

دقـّقت النظر في الرقعتين مليّا، ثمّ رفعت رأسها نحوي غاضبة:

ــ   غششتني يا أبا سليمان !

ــ   لم أغششك بعد، خذي الأصل واتركي لي النسخة المغشوشة.

ــ   أنت دائما تعاملني بهذه الطريقة يا أبا سليمان.

ــ   كيف؟

ــ   تضع أمامي نسختين إحداهما أصل والأخرى صورة وتطلب منّي أن أختار؟

ــ   وماذا كنت تختارين؟

ــ   كما تراني الآن، أظلّ معلّقة بين الأصل والصورة. لكنّني سأعرف اليوم، الآن على وجه التحديد، سأمتحن حبيبي لكي أعرف كيف أميز بين الصورة والأصل.

ــ   أما أنا فلا أراك سوى أصل غير قابل للنسخ.

ــ   وأمّ سليمان؟

ــ   أصل الأصول.

ــ   وأقمار بغداد؟

ــ   لا أصل ولا صورة.

ــ   خيال محض، أليس كذلك !

ظلّت ألفيرة تستدرجني. تذكّرت كلماتها في المقبرة: الموت يشبه الفراق. شعرت كما لو أنّها تبتغي قيادتي نحو طريق واحدة لا مخرج منها: أن نكون معاً منفردين، في خلوة المفارقين. إحساس دهمني يقول لي بأنّها تظنّ أنّني لن ألتقيها بعد الآن، أو أنّني سأختفي قبل أن أودّعها، وأنّها ستفقدني إلى الأبد. سارت أمامي إلى غرفتها في الخان وقالت:

ــ   ما هو أصيل لا يُبحث في أروقة الخانات يا عامر.

عامر ! نطقتها بوفاء خاص. حينما جلست أمامي أحسست أنّها في سبيلها إلى  تجريد كلّ شيء من أغلاله، أولها اسمي، الذي أعادته إلى أصله الشخصيّ المباشر: عامر.

ــ   أخشى أن تصرعك الغواية يا عامر !

ــ   أيّة غواية يا ألفيرة؟ الغوايات تحيط بي من كلّ جانب.

ابتسمت بحزن وقالت:

ــ   أنت لديك مهرب من كلّ سؤال، ولكن يجب أن أعرف هل أنت تهرب من الأندلس أم من أمّ سليمان؟

ــ   أنا الآن فقدت المقدرة على فهمك، لماذا هذا السؤال المتأخر جداً جدّا؟

ــ   أخشى أن تكون مدفوعاً بالغيرة أو الطمع الأنانيّ؟

ــ   لكنّك تعرفين أنّني أفكّر في الأمر منذ زمن، وأن...

ــ   هذه الحكاية أقنعنا بها أمّ سليمان يا أبا سليمان.

ــ   وماذا ترين؟

ــ   أراك تسرف في الغيرة.

ــ   الغيرة ! ممن؟ وعلى من؟

ــ   أنت مغرم بها.

ــ   بمن؟

ــ   قمر الكرخ، الخارجة من فلك الأزرار !

ــ   من منّا يسرف في أوهامه يا ألفيرة، من؟ وهل يعشق المرء اسماً مجهولاً، فيهجر بلاده وأهله، ويرتحل عابراً البحار والمفازات، في سبيل العثور على كلمة عابرة في نص لرجل مجهول مات في أرض غريبة؟

ــ   نعم، بكلّ تأكيد، رجل مثلك شغوف بعشق الوهم يفعل. هل تدري لماذا هجر ابن زريق قمراً كان له بالكرخ؟

ــ   نعم، شظف العيش، هو يقول ذلك.

ــ   وشظف العيش لا تُحل مشاكله إلاّ في الأندلس؟

ــ   من دون شك كانت لديه أسبابه الخاصّة.

ــ   لديه أحلامه الخاصّة، لديه خيالاته الخاصّة، لديه أوهامه الخاصّة، لديه جنونه الخاصّ وعبثه الخاصّ يا عامر. لكلّ منّا جنونه الخاصّ. لا أخفيك سراً، أنا نفسي كنت مجنونة به، وكنت أزمع أن أخبره بذلك، لكنّني لم أفعل ذلك لأنّني خشيت أن يفهم مشاعري خطأً، ويعتقد أنني أستغلّ عوزه وحاجته.

ــ   إذاً هو الوهم والخبل، كما تظنين.

ــ   بمعنى من المعاني.

ــ   وأين الغيرة؟

ــ   هذا تأويل لا أكثر. حينما سمعتك تكذب بحماسة أمام أبي عبد الرحمن، مدعيّاً ذهابك للحجّ، أحسست أنّك تريد منافسة ابن زريق على ما كان لديه.

ــ   لم أفعل ذلك لهذا السبب. فعلت ذلك لأنّني أردت أن أفضح زيف هذا الجلف المتصنع، المملوء بالنفاق والتكبر والغطرسة. أردت أن أقول له إنّ الإيذاء أصبح لديه جزءاً من لوازم المتعة. حتـّى في لحظة الموت، التي هو سببها، أضحت حياة البشر موضع مباهاة فارغة، يستمتع عن طريقها  بنبله الزائف، كواهب يصحح مسارات القدر بعطاياه التافهة. أيّة لعبة وسخة يلعبها هؤلاء التافهون الجاحدون، لمجرد أنّهم يحكمون !

ــ   أتحسب أنّك ذاهب إلى الجنّة، لملاقاة الملائكة في بغداد؟

ــ   تلك هي المحنة.

ــ   وهذا هو جنون الغواية الذي تحدثت عنه.

ــ   لا تضعفي عزيمتي يا ألفيرة !

ــ   لا أستطيع أن أضعف عزيمتك حتـّى لو أردتُ، لأنّك حسمت أمرك وأغرقتها في وهم المنطق وفي وهم التبريرات العقليّة والشوارد الخياليّة، ولن تتراجع. إذا لم يكن من أجل خيال امرأة، أو من أجل الغيرة، فقد أصبح الأمر، كما تدّعي، مواجهة مع أولئك الذين يلوثون مسارات القدر بعطائهم الكاذب. أليس كذلك؟

ــ   لا طائل من وراء هذا النقاش يا ألفيرة، دعيني استجمع عواطفي ومشاعري  بطريقة تحفظ لي سفراً هادئاً، خاليّاً من العسر والمشقـّة.

ــ   لا يوجد فراق خال من العسر والمشقـّة يا عامر، وفراق مثل فراقك تختلط فيه الأسباب والدوافع والأوهام والمطامح أقسى أنواع الفراق، لأنّه فراق يشبه. ..

ــ   يشبه الموت !

ــ   لا أعرف، لم أجد الكلمة المناسبة، وربّما لا توجد في رأسي كلمة ما تناسب ما أريد أن أقوله، لكنّني أعني أنّه شيء. .. اعذرني، ربّما أنا لم أزل مرتبكة وقلقة. دعنا من هذا وقل لي كيف ستواجه أمّ سليمان بالأمر.

ــ   سأترك الأمور تجري على طبيعتها.

ــ   حسابك عسير معها، أكثر عسراً مما تظنُّ.

ــ   أنا أعرف هذا ووطّنت نفسي عليه.

ــ   ولكنّك لا تعرف أنّها مثلي تعرف أنّك هنا عندي، أمّا لعبة الفرس الأصهب فلن تنطلي عليها أيضاً.

هل تريد أن أقوم بوداعها نيابة عنك؟

ضحكنا معاً. مدت يدها وأمسكت كفي كما لو أنّها تعينني على تقبّل صدمة الفراق.

ــ   لا مهرب من هذا. هناك أشياء كثيرة في الأندلس يجب أن تودّع يا ألفيرة.

ضغطتْ على كفي، ثمّ راحت أصابعها تحاور كفي بحنان:

ــ   ستكون أندلسي فارغة من دونك يا عامر.

ــ   وستكونين أندلسي الرائعة، التي تعينني على تحمل حرقة النوى والفراق. ستكونين معي، ستختصمين مع أمّ سليمان في خيالي، سأترككما تتنازعان وتغاران وتتشاكسان.

ــ   إذا لم تمسح أقمار الكرخ صورنا، وتجعل منها نسخاً مزورة.

تعانقنا عناق الأخوة حزينين. قبّلتني في جبيني، فآثرت أن أقبلها في خدها وفي ثغرها. نظرتُ في بحر عينيها  الفائضتين بالأسى. كانت شفتاها مبللتين بالدموع.

ــ   لك أن تتخيلي يا ألفيرة، أنّني لم أر دموعك حسب، بل ذقت طعمها أيضاً.

ــ   هذا ما يجعلني أخشى عليك من مصارع الغوايات، فأنت أرقّ من الدمع يا عامر.

ــ   وأنت أجمل ورود الأندلس يا ألفيرة.

في لحظة واحدة قرّرنا، كلّ واحد منّا، من تلقاء ذاته، أن يحسم فوراً هذا الحوار الملتاع، الذي لا يريد أن ينقطع، والذي يريد أن يمتد ويمتد ويمتد من دون نهاية.

قمنا معاً، ووقفنا في مواجهة بعضنا. عصرَت كفي بقوّة، أغمضتُ عينيّ وقبلتها في جبينها واستدرت مسرعاً، لكي لا أنظر إلى وجهها. خطوت خارجاً بعزم، ونشوة نصر طفوليّة تغمرني: أنجزتُ فراقي الأوّل بنجاح.

 

(6)

فراق ألفيرة كان تدريباً عاطفيّاً هامّاً لي، جعلني أقف بيسر أمام أمّ سليمان جاهز العواطف والحجج، عارفاً حتـّى بمعرفتها لبعض أسراري وأكاذيبي. رتّبت أموري كلّها، بما في ذلك عقود ومواثيق الإرث وشؤون إدارة البيوت والمزارع وتنظيم شؤون العمل فيها وحساباتها. اشتريت بعض الهدايا الأندلسيّة خفيفة الوزن وغالية الثمن وعدت إلى البيت. كانت أمّ سليمان في انتظاري.

ــ   السفر إلى الحجّ لا يحتاج إلى وساطة.

 نطقت أمّ سليمان معاتبة، جافة الشفتين. سكتت وراحت تنتظر جواباً منّي،  ولمّا شعرت أنّني لا أريد أن أجيب، لكي لا أجرح مشاعرها، قرّرت هي أن تبادر إلى حرب العواطف. نظرت إليّ بتحدّ وأضافت:

 ــ   نصيحة حجّ من نصرانيّة إلى مسلمة، يا أبا سليمان !

شفتاها المزمومتان أنبأتاني بعسر الفراق، وبما هو أقسى من ذلك.

ــ   وهل أزعجك مجيؤها؟ أنا أعرف أنّك تسعدين بزيارتها وبحبّها لك ولأطفالنا.

ــ   لا تنكأ الجراح يا أبا سليمان ! أنت اعتزمت السفر، لو أخبرتني بأنّك ذاهب لأداء فريضة الحجّ لاقتنعت برأيك ووافقت، فما حاجة هذه أن تأتي لتقنعني؟

ــ   تحدّثت معها عن أمر آخر.

ــ   عن الفتنة المحتملة، باعتبارها عرّافة قرطبة ! كلّ الناس يعرفون أنّ قرطبة مضطربة الأحوال ! ولكن ما يحيّرني هو أن تقنعني بضرورة سفرك وهي تتحدث عن فتنة محتملة، بل أكيدة.

ــ   وهذا ما يهمّنا الآن.

ــ   ولكنّ هذا لا يستقيم مع ذاك. البيت والأطفال والأملاك أحوج إلى الرجل في أيّام الفتنة.

ــ   هذا صحيح، الرجل. ولكن ليس أنا ! هذا بيت القصيد، وهذا ما يقلقني وما لا تريدين الاقتناع به. أما أنتم فأرجو من الله أن لا يمسّكم أذى بسببي.

ــ   أرجو أن أكون واهمة.

ــ   ربّما أخطأتُ حينما تحدثت إليها  عن سفري. على الرغم من أنّني تحدثت عن الحجّ أمام جمع من الناس، وليس إليها  على وجه التحديد، ولم أطلب منها الحديث معك في هذا الأمر.

ــ   ليس هذا ما يزعجني. ما أزعجني هو أنّها جاءت إليّ تتحدث عنك، بينما كنت أنت تجلس في غرفتها.

ــ   في خانها.

ــ   في خانها.

ــ   أأفهم من هذا أنّكِ تغارين من امرأة تعاملني معاملة الأخت؟

ــ   ليس هذا أيضاً ما يشغلني.

ــ   وما الأمر إذاً؟

ــ   ما كان لك أن تغشّني.

ــ   لم يكن غشّاً، ربّما كان خطأً، وربّما يكون للحذر والحيطة أثر في ذلك؛ فكلّما أمعن المرء في حذره وحيطته عظمت مخاوفه وكثرت أخطاؤه.

ــ   نطقتَ ذلك أمام الناس من دون أن تفكّر في أنّ موسم الحجّ لم يزل بعيداً.

ــ   لأنّني لم أستطع القول إنّني سأمكث في البرّ الأفريقي حيناً قبل سفري إلى الحجّ.

ــ   ولكنّك دائماً هكذا، تتصرف على هذا النحو، لا تهمّك سوى انتصاراتك في معاركك الخياليّة ضد أعدائك الوهميين. يخيّل لي أحياناً أنّك تصنع أعداءك بنفسك.

ــ   لا أحد يصنع أعداءه بنفسه أو ينتقيهم انتقاء سوى القتلة. أنا لا أريد أن أحارب أحداً أو أصنع منه عدواً، لكنّي  أملك الحقّ في أن أحفظ رقبتي من سيوف حروبهم وعداواتهم.

ــ   لم تأت بجديد، هذه طريقتك المعتادة في الحرب.

ــ   وليس لدي طريقة أخرى.

ــ   ربّما لم تستطع قول ذلك لهم ! ولكنّني أتحدث عن نفسي، أكنت تخشى مواجهتي بالحقيقة إلى هذا الحدّ؟

ــ   نعم، وهذا دليلي الوحيد على أنّني أقيم لك حبّاً لا أقيمه لمخلوق آخر سواك.

ــ   وتريد أن تقنعني أنّك انشغلت بدفن شاعر عراقيّ مجهول، مات وحيداً، وآلمك موته !

لم أجب، لأنّني أعرف ما لا تعرفه، أعرف أنّني أجد تماسكي كلّما اشتد الحصار حولي، أجد نفسي منسجماً مع ذاتي أعظم انسجام كلّما وجدت سيوف الآخرين تجتمع متـّجهةً صوبي.

ــ   هل تعرف أن الموت...

عجّلتُ في إكمال جملتها، التي سمعتها تتردد على لسان ألفيرة يوم أمس: الموت يشبه الفراق، فقلت:

ــ   يشبه الفراق.

ــ   بل قل: الفراق يشبه الموت.

ــ   والموت؟

ــ   الشيء الوحيد في الوجود الذي لا يشبه شيئاً آخر.

قالت كلماتها بهدوء وسكينة. كما لو أنّ كلمة موت نظـّفت قلبها من ثورته، وأطفأت نيران غيرتها المتأججة. اغتنمتُ حالة السكينة التي حلّت على نفسها وقلت:

ــ   وهل سنظلّ نتحدث عن الموت والدفن والقبور؟

ــ  إذاً دعنا ننهي هذا الأمر بهذه الخلاصة الصادقة والطيّبة، وأرجو أن تمضي سويعاتك المتبقية بهدوء مع أطفالك.

ــ   ومعك يا أمّ سليمان.

ــ   أنا جزء من عديد أطفالك.

ضحكنا معا، احتضنتها وأنا غارق في أسى عميق. فمهما اختلفت مع أمّ سليمان في شؤون الحياة لن أجد مخلوقاً يستطيع أن يرضيني وأن يحتمل انكساراتي وهزائمي أكثر منها. كانت صدراً عامراً بالثقة والمحبة والغيرة القاتلة.

فجراً، في لحظة الوداع، قبّلتها في جبينها ومضيت خطوات. لم أشأ أن أنظر إلى وجهها ولم ألثم شفتيها المخضلتين بالدموع. كانت تريد أن تشعرني بأنّها في أوج بهجتها وهي ترى زوجها ذاهباً لأداء فريضة من فرائض الله، وهو ما أقنعت به الأطفال والأقارب، الذين تحلّقوا حولي يتبارون في إظهار سعادتهم. كنّا، أنا وأمّ سليمان، عاريين أمام بعضنا، لا نستطيع أن نخفي أو أن نعلن ما يعتمل في أعماقنا.

مشيتُ خطوات، وقبل أن أعتلي فرسي ركضت أمّ سليمان نحوي وأمسكت ردائي بقوّة. توقفتُ، التفتّ إلى الخلف وأنا أحسب أنّ أحد الأبناء فعل ذلك. لكنّني واجهت وجهها. كانت ساكنة الملامح، مسحت دموع فرحها الكاذب، ووقفت أمامي عارية الروح، وقفت بكلّ غيرتها القاتلة، بكلّ ما تمتلكه الأنثى من طغيان، وهي تشدّني بقوة من ثيابي:

ــ   أهو فراق؟

لم أجب، وضعتُ كفي على راحتها. قبضتُ عليها بشدّة وبكيت. رأتني أبكي. للمرة الأولى في حياتها ترى دمعة تفرّ من عيني وتسقط أمامها على الأرض. مسحتْ دموعها وهزّتْ رأسها وهي تتمتم بصوت يشبه النشيج:

ــ   إذاً، هو الفراق، يا عامر !

 

بغداد

(1)

لا سماء أوسع من سماء الصحراء، ولا كوكب أقرب إلى الأرض من كواكبها.

 في الصحراء تغدو الحياة عارية عري الأجنّة. جسدٌ رمليّ، لا نهائيّ، يستلقي على وجهه اتقاء لسياط الشمس الباهرة، ثمّ يستدير مساء ليستلقي على ظهره مستقبلا بحر السماوات ودغدغات الضوء القادمة من مصابيحها الأزليّة.

 في الطريق الطويلة، الرتيبة، بين الحجاز وأرض السواد، ظلّ أبو سليمان، عامر المجريطيّ الأندلسيّ، يشغل نفسه ويغالب شدّة شوقه إلى بغداد بالسباحة الحرّة في بحر السماوات الفسيحة، التي تغطي دروب القوافل. وفي ليل الصحراء الكثيف ظلّ القمر الداني، والأفلاك القريبة إلى حدّ اللمس باليدين، مسرحا لخياله الطليق.

هنا، حيث الحدود لا نهائيّة، والمسافات غير قابلة للقياس، لبثت مشاعر أبي سليمان تائهة، لا مستقر لها، تصعد نحو قمر قريب، تسامره، تعابثه، راسمةً  له صورة بشريّة : عينين سوداوين مطرزتين بالكحل، شفتين ناضجتين، وفماً مثل كأس رحيق جاهز للارتشاف. لبثت القافلة تسير على الأرض حاملةً معها العائدين من أرض الحجاز، بينما ظلّ قلب أبي سليمان مشدوداً إلى قمر يحرس القوافل العابرة، ويحرس مشاعره، وعواطفه، وخياله؛ يناجيه، يعيد تشكيله، يعيد خلقه في صور وصور، يهمس إليه ويستمع إلى همساته، يشاغبه، يحاوره، وحتـّى يختصم معه.

ليس عسيراً على المرء أن يكون شاعراً مجنوناً هنا. ولكنّ المجريطيّ، لم يكن في عوز إلى صناعة الشعر أو الجنون. أضحى الشعر نابضاً في قلبه، يضخ دماً في خلاياه مع كلّ كلمة من كلمات ابن زريق، وزاده ترديدها تعلقاً بها، وتعمّقاً في فهم معانيها وخوافيها، ما بطن منها وما ظهر، حتـّى بات يخيّل إليه أنّه هو خالقها، وأنّه وحده من يملك حقّ تفسيرها وتأويلها. أضحى عامر المجريطيّ مفتوناً بعبث الخيال هذا، الذي أسمته ألفيرة خبل الهيام ووهم الهيام، الذي يقود إلى التهلكة.

أن تهلك هنا، لا أكثر من أن تصبح ذرات رمل ناعمة، تخلطها الريح بغيرها من رمال الجسد اللانهائيّ المستلقي تحت عيون الأفلاك المتلألئة في الأعالي.

طعنات الفراق أخذت تختلط بغيرها من المشاعر شيئاً فشيئا، كلّما اقتربت القافلة من أرض السواد. الموت الذي يشبه الفراق، كما قالت ألفيرة، أو الفراق الذي  يشبه الموت، كما قالت أمّ سليمان، أصبح ومضات قادمة من أرض بعيدة نائية، اختلط فيها الشوق للوصول بالترقب والأمل في النجاة من مخاطر الطريق.

حرقة النوى والبين والفراق لم تخبُ. لم تزل  تنبض في قلبه، كما تنبض كلمات ابن زريق، وكما تومض قسمات القمر الطالع في السماء. لوعة البين أو النوى أو الفراق شرعت تعيد نحت فحواها ومعانيها. في وسط هذا التيه العاري تفقد الكلمات اتجاهها، تتجرد من خصوصية وتفرد مسارها، تنزع ملموسية إيحائها، وتغدو شيئاً مشابها لكلّ شيء، تغدو ذرات من رمل. في ليل الصحراء يفكّر المجريطي بالنوى والبين ويسأل نفسه: فراق من وماذا؟

في المسافة الواقعة بين السماء اللانهائيّة والأرض العارية الأبعاد  تكسر الكلماتُ بوصلتها، وتذهب تائهة، مثل ناقة وحيدة تطبع خفافها على رمل تسفوه الرياح. فراق من، والنأي عن من؟ أرض السواد أم أرض الأندلس؟ بغداد أم قرطبة؟ رصافة قرطبة أم كرخ بغداد؟ امرأة كانت لابن زريق أم امرأة ربّما تغدو لأبي سليمان؟

في الصحراء تكون المسافات واحدة، أينما نظرت. في الأتياه الرمليّة لا تقاس المسافات إلاّ حيث توجد، إلاّ حيث تضع قدمك. وحالما ترفع قدمك من الرمال المنزلقة تحت نعلك، تكون مجبرا على أن تجد مركزاً جديداً لوجودك المفترض، المتبدد مثل السّفِيّ. وكلّما وكيفما تحركت، تظل تنظر شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، فلا ترى سوى مركز واحد للمقايسة، ومسافة واحدة تمتد حيث  تنظر، وحيث تكون.

لا فرق هنا بين قمر في كرخ بغداد وقمر في رصافة قرطبة. كلّ المسافات واحدة، والنأي واحد، والبين واحد، وأوهام التهلكة واحدة.

 

(2)

إذا كان الفراق يشبه الموت، ألا يشبه اللقاءُ الحياةَ َ !

ولكن، إذا كان الموت لا شبيه له، كما تقول أمّ سليمان، وإذا كان الموت واحداً، كما تقول ألفيرة، فالولادة لها ملايين الأشكال. وإذا كان الفراق ذا وجه واحد يشبه وجه الموت، فاللقاء متعدد الأوجه، يشبه تعدد أنفاس الحياة.

اللقاء بالمسافات والأبعاد، اللقاء بما يشير إلى الطول والعرض والارتفاع بدأ يظهر شيئاً فشيئا مع الاقتراب من أرض السواد.

لا شيء هنا، في الصحراء، يعرف التسلسل؛ لا شيء ينتقل من حال إلى حال وفق قوانين التدرّج. ولكن ما أن تشم الرواحل خرير الماء الأبديّ، حتـّى تدهمها رجّة اللقاء بالألوان والأشكال، بالشيء وظلاله المتحرّكة. لم يُصِب التغييرُ الظواهرَ الأرضيّة والجويّة والتضاريس وما رافقها من مشاعر وشطحات في العواطف والأخيلة حسب. تغيير مفاجئ وكبير أصاب حركة الأشياء وتغلغل في معانيها ودلالاتها، وشرع يسيطر على لوحة الحياة. طوال الرحلة انشغل بال الجميع بمشاق الطريق والخشية من غارات الصحراء. لكنّ رائحة أرض السواد أحدثت انقلاباً جذريّاً في الأحاسيس، لم يكن في الحسبان. فجأة أعيد ترتيب الحسابات، أعيد تنظيم الحركة، ثمّ أعيد تنظيم العواطف والمشاعر، وحتّى الأخيلة والأوهام.

صدرت الأوامر بالتوقف والانتظار. وبعد انتظار طويل بدأت طوابير من القوافل الصغيرة تّتصل ببعضها، صانعة كتلة عظيمة الامتداد من الرواحل ملأت وجه الأرض. شرعت القوافل تتحد ببعضها مكونة جيشاً عرمرماً لا أوّل له ولا آخر.

ــ   هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن لنا بها حماية القوافل. ففي العامين الماضيين كانت طريق الحجّ مقطوعة بسبب الغارات، ولم تُفتح سوى هذا العام. اتحاد القوافل يرهب المهاجمين ويسهّل أمور الدفاع.

سارت القوافل محروسة بعناية. مسلحون بألسن عديدة يحرسون الحجيج: عرب وكرد وفرس وأتراك وغيرهم.

كلّ شيء تغير. اللغات والمسافات، وشكل المخاوف، وتأويلها. هنا لا تكون الغارات موجّهة من قبل لصوص، هنا يغير عليك لصوص يحملون بيارق كتبت عليها آيات النصر.

ــ   مرحبا بك على أرض السواد يا أبا سليمان !

ــ   شكراً لك يا أبا مهديّ.

منذ أن التقيا أضحى أبو مهديّ جزءا جوهريّا من لوحة التغيير، لا لأنّه أوّل عراقيّ يتّصل به المجريطيّ اتصالاً وثيقاً وهو في طريقه إلى بغداد، ولكن لأنّه أضحى مدخلاً يوحّد مشاعر المجريطيّ ويكثفـّها في بقعة صغيرة محدّدة اسمها بغداد، ثمّ راح يضيّقها أكثر فأكثر لتغدو كرخ بغداد، ثمّ أضحت حواراً داخلياً مكتوماً ومكبوتاً عن كلمات في قصيدة مجهولة المصدر. أبو مهديّ كرخيّ، معلم في مدرسة العلوم ببغداد، ضليع في شؤون الكلام والأدب. حافظ جيد ومستمع فريد. صامت، متقشف، وزاهد إلى حدّ الفقر والإملاق، أضحى جزءاً مباشراً من معالم الطريق. شيخ بقلب شاب. صمته وانشغاله بالقراءة وابتعاده عن الخصومات والمنازعات التافهة، التي يحدثها احتكاك الحجّاج ببعضهم، ورضاه بالقليل، جذب أنظار المجريطيّ إليه؛ ولم يكن المجريطيّ بوجهه الجميل وثيابه الفاخرة وما يحاط به من رعاية بعيداً عن أنظار أبي مهديّ. لكنّ زهد أبي مهدي وعزلته وصمته، وفارق العمر بين شاب في الثلاثين ورجل في الخمسين، جعلتهما يتردّدان في الاقتراب من بعضهما، إلاّ بعسر.

ــ   رفقة الطريق أقوى من رفقة المعاشرة يا أبا سليمان.

ــ   صدقت يا أبا مهديّ، لأنّها تتضمن المعاشرة من جهة، وتظهر من جهة أخرى طريقة تصرف المرء في المواقف المتجددة والمتغيرة. السفر سِفر متغير يواجهك بالجديد وغير المتوقع في كلّ لحظة.

تساءل أبو مهديّ:

ــ   أينّا أكثر حظّا، أنا أم أنت؟

ردّ المجريطيّ:

ــ   يا أبا مهديّ، لكأنّما أرسلك الله لي خصّيصا، لكي ترافقني وتقود خطاي. فأنت تقرّبني من هدفي. أنت بغداديّ، من الكرخ، وأديب ومحدث.

ــ   وأنا أيضاً في شوق إلى معرفة أحوال المسلمين في الأندلس. ولكنّك لم تفصح عن مرادك، ولم تقل لي ما تريده على وجه التحديد.

ــ   أريد أن أعرف كلّ شيء عن بغداد والسواد، كلّ شيء.

ــ   دفعة واحدة؟

ــ   نعم.

ــ   ستضيع أقدامك في طرقاتها يا صديقي لو تعجّلت المسير. طلب العلم يحتاج إلى صبر، وأنت في مقتبل العمر، فما الحاجة إلى العجلة؟

ــ   يا أبا مهديّ أنا لست طالب علم، أنا حاج إلى بيت الله قرّر أن يزور أرض السواد قبل أن يعود إلى بلاده، فلا وقت لدي طويلاً أمضيه، ولا حاجة لي بالتمهل.

ــ   وماذا تريد أن تعرف على وجه التحديد؟

ــ   كلّ شيء، قلت لك كلّ شيء. فضولي عظيم، لا تحّده حدود.

ــ   هل لي أن أعرف مقدار ما تعرفه عنّا، لكي أستطيع أن أفيدك بما يعوزك؟

ــ   هذا يسعدني يا أبا مهديّ.

أجاب المجريطيّ رفيقه الجديد في الرحلة  أبا مهديّ، وهو يتأكد بشكل قاطع أنّ هذا الرجل يستمتع بالإنصات أكثر مما يستمتع بالحديث، وربّما تدفعه طباع الحذر المتوطـّنة في نفسه إلى استطلاع رأي غريب مجهول يلتقيه على أطراف الصحراء في قافلة عظيمة كهذه قبل أن يخوض معه في حديث.

ــ   ما أعرفه يا أبا مهدي هو أنّ أرض السواد لم تزل عاصمة الخلافة، لكنّها تتعرض إلى ضغط ما يجاورها، والى ضغط الفتن في الداخل. تعددت مراكز الدولة الإسلامية: دولة في الأندلس وأخرى في شمال إفريقيّة وثالثة في مصر والشام ورابعة في العراق، لم يعد السواد مركزاً جامعاً كما كان. هذا ما أراه.

ــ   هذا كلام عام، ينطبق على العراق وعلى غير العراق. وماذا عن قرطبة؟

ــ   قرطبة أحوالها مختلفة. ضعفت دولة الخلافة ولكنّها ظلت قائمة صوريّا. الوزراء منذ زمن أبي عامر وأبنائه تحوّلوا إلى ملوك حقيقيين. البربر والعرب والأندلسيون والصقالبة يتناحرون في الجزيرة، والإسبان لهم بالمرصاد. ودولة الخلافة مهددة بالتمزق والانقسام.

ــ   بوصفك هذا لقرطبة تصف الحال في العراق بدقـّة كبيرة.

ــ   أإلى هذا الحد تتشابه الأمور؟

ــ   تتشابه وتختلف.

ــ   وأين تختلف؟

ــ    كلّ شيء متشابه، عدا موضوع الانقسام، فهذا لا يحدث في السواد الآن. ولكنّ الحال تختلف أيضاً في تفصيلات اللوحة، وعلى وجه التحديد في أزمة نظام الحكم، وفي تشابك  خيوط المشاكل السياسيّة والاجتماعيّة. فنحن لا نعتبر المسلم التركيّ أو الفارسيّ أجنبيّاً، بما أننا  نتحدث عن دولة الخلافة ومركزيتها.

ــ   والحال كذلك في قرطبة. العربيّ من إفريقية أو من الشام والبربريّ والأندلسيّ جزء من بناء المجتمع والكيان السياسيّ.

ــ   اللوحة هنا مختلفة في أمر أساسيّ هو أنّ الصراع الداخلي عندنا أخذ يرتدي ثوباً مذهبيّا.

ــ   وحتـّى في الأندلس. الضغط القادم من المغرب يرفع شعارات الخلاف الدينيّ العقائديّ حول الحياة والشريعة وحتـّى طرائق المعيشة وسبل التعبير عنها.

ــ   ولكنّه لم يغدُ مذهبيّا بعد، كما هي الحال في العراق، الذي تسير فيه الأمور في هذا الاتجاه. هنا يوجد تعدّد للسلطة وتعدّد للغطاء التبريريّ الدينيّ في ثوب مذهبيّ. الخليفة ينتمي إلى مؤسسة سياسيّة ودينيّة معيّنة والملك ينتمي إلى مؤسسة أخرى، والولاء الاجتماعيّ منقسم ومتداخل على ضوء ذلك.

ــ   رغم أنّ الخليفة العباسيّ والعلويين أبناء عمّ !

ــ   في مرحلة العدوّ الأمويّ المشترك فقط.

ــ   ما أود معرفته هو من يدير الحياة فعليّاً، ما اسمه وما أصله؟

ــ   قل ما اسمهم وما أصلهم؟ هناك كتل متناحرة تتحالف ضد كتل أخرى، وفيما بينها.  الذي يدير الحياة هو وضع وليس فرداً. هو توازن تاريخيّ بين عوامل عديدة خارجيّة وداخليّة.  أبو كاليجار ( صاحب بلاد فارس) يعمل ضد عمّه أبي الفوارس (صاحب كرمان)، وقد ظلاّ يقتتلان حتـّى موت الثاني؛ وظلّ الخلاف بين جلال الدولة (صاحب البصرة سابقاً، وملك أرض السواد الآن)، وعمّه أبي كاليجار مستعراً، وقد حاول الأخير مراراً أخذ البصرة وواسط، وبايعه الأتراك مرّة على الملك ناقضين عهدهم لجلال الدولة، ثمّ عادوا إلى جلال الدولة حينما اشتدت العامة والعرب والأكراد عليهم. وفي خلفيّة المشهد يجلس الخليفة العباسيّ على عرش أثريّ، يراقب حالة التوازن ويطيل أمدها، لكي لا يُقتطف رأسه سريعاً.

ــ   الحال في مصر لا تختلف عن هذا كثيرا.

ــ   في التفاصيل أيضاً. لكنّ مؤسسة الحكم في العراق معقدّة، لأنّها تملك صفة المركزيّة تاريخيّاً، ومن يسيطر عليها يمنح نفسه شرعيّة التطلع إلى وضع الآخرين تحت مركزيته باسم الولاء للدين، سواء قدم الحاكم من الحجاز أو من فارس أو من الأناضول. الدين هو الأمة.

ــ   وأحوال الأدب والعلم، هل تعقدت؟

ضحك أبو مهديّ:

ــ   اعتاصت عليك الأمور ! قلت لك من الأفضل أن لا تغرق في رمال العراق السياسيّة، دفعة واحدة. تعدد الصراع وتعقيده يجعل من الفكر معقـّداً ومتعدداً أيضاً.

ــ   أيّهما يلد الآخر؟

ــ   يتبادلان الإنجاب، ما هو أب في حين يغدو إبناً في حين آخر.  وفي الحالة الاجتماعيّة يكون التناسل ذاتياّ. لأنّ الكائن الثقافيّ يتناسل ويتبادل التلقيح مع ذاته، باتحاد تام مع المحيط وليس خارجه، كما لو أنّه فيوض تنبع من فيوض.

كلّما اقتربت القافلة من بغداد ازدادت علاقة الرجلين ببعضمها متانة، على الرغم من اختلاف طباعهما، وسنهما، وتناقضهما في المظهر والمخبر. رابط خفيّ أضحى يوحدهما: حبهما المشترك للحقيقة والفضول العظيم إلى معرفة ما خفي وما بطن. ومع اقتراب القافلة من مشارف القادسيّة، أصبحت الأسئلة التي ادّخرها أبو سليمان للّحظة المناسبة تغلي في أعماقه، وتوشك أن تنفجر في كلّ حين. لكنّه ظل يتجلّد ويقول لنفسه: لم تزل الطريق إلى بغداد طويلة. لم تزل أمامهم بضع محطات قبل الوصول، كما أنبأهم قادة القافلة. فقبل ورودهم بغداد ستكون محطة الياسريّة حاسمة؛ هناك يضع أمام أبي مهديّ الأسئلة التي حيّرته ولم يشأ أن يسألها، الأسئلة التي رتّبها في عقله ترتيباً منطقيّاً وفنيّاً، والتي تتجاوز في مراميها ابن زريق نفسه، تتجاوزه كشاعر وإنسان وتذهب بعيداً، إلى وجهتها الحقيقيّة، إلى قمر في الكرخ يناديه.

قمر طالع من فلك الأزرار ! أهي مجرد كلمة عابرة؟ أهي وصف أدبيّ وتشبيه لامرأة بقمر، تشبيه بلا وجه شبه، أم هي اسم حقيقيّ؟  لماذا جعل ابن زريق استعارته مجردة ومرشحة في عين الوقت؟ لماذا جعل الأزرار مثل نجوم تلتمع حول هذا الفلك؟ وإذا كانت اسماً لعلم، لامرأة محدّدة، فهل يحقّ له أن يسأل عنها سؤالاً مباشراً من دون أن يثير ريبة أحد؟ هذه الأسئلة المربكة والمفترسة ادخرها لمحطتهم الأخيرة، حينما ينزلون بالياسريّة ويبيتون ليلتهم هناك استعداداً للتبكير إلى دخول بغداد. بيد أنّ حدثاً مفاجئاً غيّر حسابات المجريطيّ وقلب خططه عاليها سافلها، حدث ذلك على مشارف القادسيّة.

استيقظوا فجراً استعداداً للمسير. أحسّ المجريطيّ كما لو أنّ حدثا عاشه من قبل يتكرر بالصورة ذاتها، من دون أن يعرف طبيعته. إحساس غريب جعله يصغي إلى حركة الركبان والرواحل والى أصوات الناس والدواب. تذكّر اللحظة التي اجتمعت فيها القوافل واتـّحدت في قافلة طويلة اسمها قافلة العراق. ما يراه الآن عكس ذلك تماماً: حركة محمومة ترجّ الأرض، رافقها تبدّل في ترتيب المشهد. أخذت القوافل تنفصل عن بعضها، من دون أن يفهم سبباً لذلك.

ومن بين زحام الحركة رأى المجريطيّ أبا مهديّ قادماً نحوه؛ ترجل وقال:

ــ   حانت لحظة الفراق يا أخي وخِليّ. لم يكن هذا متوقعاً، كنت أظن أننا سنفترق في المحطّة التالية، لكنّنا كما ترى سائرون في طريق أخرى.

ــ   لا أفهم ماذا يحدث.

ــ   الأمر بسيط. القوافل التي اتحدت ستنقسم، وتذهب كلّ واحدة إلى الوجهة التي تقصدها. هنا لم يعد أحد يخشى خطراً كبيراً.

ــ   ولكنّك ذاهب إلى بغداد، كما قلت لي.

ــ   نعم، ولكن لسوء الحظ ستتقدمكم قافلتنا على طريق أخرى، ولا بدّ لي أن أتبع سيرها، فأنا جزء منها.

ــ   أهو فراق؟

ــ   هذا لا يسمونه فراقاً يا أبا سليمان. بعد بضع ليال ستكون معنا في بغداد، وستكون في بيتي، ستكون واحداً منّا. ربّما لا تناسبك حالنا  وعسرنا، لكنّنا لن نرتضي إلاّ أن تكون واحداً منّا طوال إقامتك، وليس مجرد ضيف مكرم، إذا قبلت بنا أهلا.

ــ   لم أكن أتوقع هذا الفراق المباغت.

ــ   ما باليد حيلة. ستأتي إلينا فور وصولك، ستسأل عنّي في مدرسة العلوم، وإذا لم تفعل هذا ستخون الرفقة يا مجريطي  

تعانقا. ركب أبو مهديّ واختفى مسرعا يتبع أثر قافلة راحت تبتعد سائرة وجهة مغايرة.

الفراق العاجل، غير المتوقع، بلبل فكر المجريطيّ وجعله يندم لأنّه استغرق في شؤون السياسة وسخافاتها ولم يصل إلى بغيته. فأبو مهديّ عليم بأحوال الناس، وفوق هذا وذاك هو كرخيّ. كم كان قريبا من وهمه !

لم يكن قريباً من أسباب جنونه يوماً ما في حياته كما كان قبل هنيهة، لكنّه الآن يبتعد مجدداً عن الطريق الموصلة إليها .

اختفى أبو مهديّ كما لو أنّه جاء من العدم وعاد إليه.

 فجأة، وجد المجريطيّ نفسه وحيداً ينظر إلى صفحة مليئة بالألغاز، مجهولة التفاصيل.

 

(3)

توقفت القافلة بالياسريّة. باتوا ليلتهم هنا على أمل أن يدخلوا بغداد مبكرين. الياسريّة استراحة أخيرة اتخذها الناس محطّة للتخلص من تعب الطريق ومشاقّه ولتغيير المشاعر؛ فيها تنقلب الشكوى والأنانيّة والخصومات والتزاحم على المأكل والمشرب والنوم، التي تخلقها مشاق الطريق الطويل في نفوس أفراد القافلة، إلى شعور جماعي بالألفة والتسامح والرفقة الحسنة. هنا يصبح كلّ شيء ماضياً لا يُستحبّ تذكّره. الياسريّة أشبه بمحطّة للمستقبل، لعواطف ما سيأتي، يخالها المرء موقعاً أمامياً للطمأنينة والمسرّة. لذلك أضحت مثل سوق شعبيّ للتبضع وتبادل الهدايا والتذكارات وللترويح عن النفس، استعداداً لدخول مدينة السلام. على مشارف بغداد تغيّر وجه الطبيعة والعمران أيضاً. كما لو أنّ بغداد أجبرت عيونهم على انتزاع عريّ الصحراء، الذي جمدت ملامحه في أحداقهم، وشرعت تمسح عن أجفانهم سفيف الرمل. مزارع وبساتين متصلة تمتد من الياسريّة حتى أسوار بغداد. كثيرون ممن جاؤوا مع القافلة تركوا القافلة وذهبوا بصحبة ذويهم، الذين كانوا ينتظرونهم هنا.

أرض السواد ! للمرّة الأولى يدرك المجريطيّ، حسيّاً، لماذا أطلق القادمون من جزيرة العرب هذا التعبير على أرض العراق الأسفل.

ما أن اجتازوا البساتين حتـّى ظهرت أسوار بغداد. توقفت القافلة عند باب الكوفة، الذي يفصله عن باب خراسان سور يعتليه ثمانية وعشرون برجاً. صدرت الأوامر بالترجل. سار الناس على أقدامهم ولحقت بهم الرواحل والعربات. اجتازوا الخندق ووصلوا حتـّى السور الداخلي فتوقفوا وتجمعوا هنا استعداداً للسير إلى قلب المدينة. لم تكن بغداد تشبه حصون وقلاع المدن الأندلسيّة العالية. بدت بغداد من الداخل مثل قلعة كبيرة منخفضة، محاطة بالأبراج؛ قلعة هائلة منبسطة، تشبه أمّاً حنوناً تحتضن أبناءها، لافّة ذراعيها حولهم بحبّ ومهابة. كانت أمّاً طينيّة أكثر منها قلعةً حربيّةً حصينة.

أحسّ المجريطيّ كما لو أنّها تجرّه إليها ، تأخذه إلى صدرها، وتضمه إليها  بقوّة، حتـّى يكاد يسمع وجيب قلبها ويحسّ حرارة أنفاسها تداعب وجهه. شعور لم يعشه المجريطيّ من قبل قط هزّ أعماقه: مزيج من الرهبة الغامضة وعاصفة من الحبّ العارم تختلطان في كيانه. سورها مدور، و قطرها من باب خراسان إلى باب الكوفة الفا ذراع، ومن باب البصرة إلى باب الشام الفا ذراع ومئتا ذراع، وسمك ارتفاع السور الداخل في السماء خمسة وثلاثون ذراعاً، وعليه أبرجة سمك كل برج منها فوق السور خمسة أذرع، وعلى السور شرف. عرض السور من أسفله نحو عشرين ذراعاً، ثم الفصيل بين السورين وعرضه ستون ذراعاً، ثم السور الأول وهو سور الفصيل ودونه خندق.

 اجتازوا الباب الأول، وكان لكل باب منها بابان، باب دون باب. ساروا في دهليز أزج معقود بالآجر والجص عرضه عشرون ذراعاً وطوله ثلاثون ذراعاً. أفضى بهم الدهليز إلى رحبة مادة إلى الباب الثاني، طولها ستون ذراعاً وعرضها أربعون ذراعاً، ولها في جنبتيها حائطان من الباب الأول إلى الباب الثاني، في صدر هذه الرحبة في طولها الباب الثاني، وعن يمينه وشماله في جنبتي هذه الرحبة بابان إلى الفصيلين، فالأيمن يؤدي إلى فصيل باب الشام والأيسر يؤدي إلى فصيل باب البصرة، ثم يدور من باب البصرة إلى باب الكوفة ويدور الذي انتهى إلى باب الشام إلى باب خراسان. وعلى كل أزج من آزاج هذه الأبواب مجلس له درجة على السور يرتقي إليه منها، على هذا المجلس، فيه بقايا قبّة عظيمة ذاهبة في السماء سمكها خمسون ذراعاً مزخرفة وعلى رأس كل قبة منها تمثال تديره الريح لا يشبه نظائره؛ كانت هذه القبة، كما قيل، مجلس المنصور في زمانه إذا أحب النظر إلى البساتين والضياع.

اجتازوا الرحبة فوجدوا جموعا من الناس بملابس زاهية في انتظارهم. كانت العوائل قادمة لاستقبال أقاربها الحجّاج. كان منظراً بهيجاً، جعل المجريطيّ يبكي فرحاً، وهو يرى الناس يتعانقون بسعادة وهم يستقبلون أحبتهم. منظر اللقاء فتح صفحة جديدة في نفس المجريطيّ نقلته من حال إلى حال. أسوار بغداد جعلته يشعر بقدر من الرهبة الخفيّة وهو يجتازها، كما لو أنّها تغلق مسامات جسدها خلفه، وتأسره إلى أبد الآبدين. لكنّ مرأى الناس أبهجه، فقال في نفسه ساخراً: أولها سعد وآخرها وعد!

نفر قليل من الحجاج انتظروا معه استكمال إجراءات التفتيش عند الباب الداخلي، وحالما فرغوا منها ركبوا رواحلهم وساروا في شارع فسيح، قادهم إلى موقف اكتظّ بالمستقبلين، نزل فيه جلّ من كان في القافلة، عدا المجريطيّ ونفر قليل عادوا أدراجهم إلى محلة يقال لها دار القطن، اتخذتها القافلة موقفاً نهائياً. في هذا الموقع من بغداد قرر المجريطي أن يبيت يومه، في خان مملوك للقيّم على قافلة الحج، على أمل أن يبدأ بعد ذلك رحلة البحث عن قمر الكرخ.

لم يكن الخان الذي توقفت عنده بقايا القافلة يصلح لأن يقارن من حيث الجمال والفخامة والترتيب وحسن الاستقبال بخان ألفيرة، لكنّه كان نظيفاً وهادئاً، جاوره حمّام رجاليّ، منح المجريطيّ فرصة للاستحمام والاستغراق في نوم عميق، لم يفق منه إلاّ عند الغروب. أخبره صاحب الخان أنّه يستطيع قضاء المساء في المسجد الكبير، فهو مجتمع للأدباء والعلماء، تعقد فيه جلسات المناظرة والمحاورة كلّ مساء.

صوت الطبول والأذان قاده إلى مسجد الدارقطني، الذي لم يكن يبعد عن الخان كثيراً. توضأ وصلى ثم جلس في ركن يراقب حركة الناس ويتأمل مظاهرهم ويستطلع هيئاتهم.

بينه والأندلس بحار ومفازات ومهامه. أين هو الآن؟ أهو قريب من شيء ما؟ إلى ماذا هو أقرب الآن؟ هل كان ابن زريق يشعر بما يشعر به هو الآن حينما وطئت قدماه أرض الأندلس؟ ألم يكن تائها مثله ترك عالماً حيّا وذهب باحثاً عن وهم؟

رُزِقـتُ مُلكـاً فَلَـم أَحسِـن سِياسَـتَـهُ        وَكُـلُّ مَـن لا يُسُـوسُ المُلـكَ يَخلَعُـهُ

لكلّ منهما وهمه، ولكلّ منهما شكل ضياعه. "لكلّ منّا وهمه العلني ووهمه الخفيّ"، فكّر عامر المجريطيّ. لكنّه الآن لا يكتفي بالوهم، يريد أن يستولي، وربّما يسرق، بعضا من أوهام غريمه. يخلع ملكه ويسعى للاستيلاء على ملك غيره. أتراه يحسن السياسة أم أنّه مثل ابن زريق أخفق في سياسة عواطفه وحبّه وقدره ! "من يسرق من؟ الأحياء أم الأموات، الباقون أم الراحلون؟ وهي، قمر الكرخ ! أتراها أحسّت بفقد حبيبها؟  وهل تدرك أعماقها الغافلة شيئاً من وجودي المبهم !"

 "وجودي المبهم !" هل هو مبهم حقاّ؟ تساءل المجريطيّ، وهو يدرك أنّ وجوده في هذه اللحظة بات محسوساً من قبل الجميع. كان الجميع مشغولين عنه ظاهريّاً بالحديث، لكنّ الفضول الفطريّ في الإنسان، يرغم البشر على ملاحظة كلّ ما يخالف العادة، وعلى تمييز هيئته الغريبة وملابسه غير المألوفة.

حلقات صغيرة بدأت تنعقد في باحة المسجد.

دخل بضعة رجال مجتمعين فتغيّر نظام الجالسين. اجتمعت أغلب الحلقات في حلقة كبيرة توسطها رجل في مقتبل العمر، في مثل سنّ المجريطيّ وسن ابن زريق، وربّما يصغرهما بعام أو عامين؛ كان يفيض بشراً وحماسة، حتـّى يكاد يصيب جميع من حوله بعدوى حماسته، منقطعة النظير.

مرّ بقربه صاحب الخان، الذي نصحه بالذهاب إلى المسجد حينما أفاق من نومه. سلّم الخانيّ على الجمع، وقبل أن يجلس عاد إلى المجريطيّ وهو يقول:

ــ   لماذا تجلس بعيداً يا أندلسيّ؟

ــ   لم أزل غريباً في هذا المكان !

ــ   أنت في بيت الله، لا غربة ولا غرباء في بيوت الله. كما أنّك الآن في مجلس علم، والعلماء مثل الأنبياء أخوة.

أعجبت المجريطيّ فصاحة الرجل، لكنّه ظلّ متردداً، وفي الوقت عينه كان تواقاً، يدفعه الفضول إلى الاستماع لما يدور من أحاديث، ما انفك الشاب الذي يجلس في واجهة الحلقة يخصّ بها مستمعيه.

قال الخانيّ:

ــ   نحن اليوم نودع الخطيب البغداديّ، أبا بكر، أحمد بن عليّ، لأنّه مسافر يوم غد. إنّها  فرصة نادرة أن ترى شاباً في مثل علمه وحماسته، هذه ليلته الأخيرة ببغداد.

ربّما أحسّ الرجل تردّد المجريطيّ فلم يمهله، توقف عن الكلام وتوجه نحو الحلقة، ثمّ راح يتشاور مع من أسماه بالخطيب البغداديّ، فما كان من هذا سوى أن قطع كلامه، نظر إلى المجريطيّ حيث يجلس، وقال شيئاً لجلاّسه ثمّ تقدم نحوه، عانقه وقال:

ــ   هذا بيتك يا أخي، لا يجوز للمرء أن يشعر بالغربة وهو  في بيته.

جرّه من يده وأجلسه قربه وهو يقول:

ــ   هذا أخ عزيز قادم من الأندلس، من قرطبة الزاهرة.

حيّاه الجميع بحرارة، ثم عادوا يواصلون حديثهم الذي انقطع. قال أحدهم:

ــ   لكنّك يا أبا بكر تكثر من الأسفار، كما لو أنّ السفر بذاته مطلب عندك.

ــ   لم يكن السفر مطلباً ضاراً لبشر يوما. للسفر محاسنه لمن يقوى عليه. ولكنّ أمري مختلف، فأنا طالب علم، والعلم عندي لا يتحقق إلاّ بالسفر.

ــ   مدينة السلام حاضرة الدنيا وموئل العلماء والشيوخ. وأنت ما أن  تنتهي من رحلة حتـّى تبدأ أخرى؟

قال آخر مؤيّداً:

ــ   هذا صحيح يا بغداديّ، فأنت حديث القدوم من رحلة نيسابور، وها أنت تتجه مجدداً إلى أصبهان، كما لو أنّك تهرب منّا؟

ضحك الجميع، فردّ البغداديّ بتوقد وذكاء:

ــ   مذهبي في طلب العلم موزون وممحّص. المقصود بالرحلة في طلب الحديث أمران: أحدهما : تحصيل علوّ الإسناد، وقدم السماع، والثاني : لقاء الحفـّاظ والمذاكرة لهم والاستفادة عنهم؛ فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة، فالاقتصار على ما في البلد أولى.

لاقى جوابه استحساناً ظاهراً، وخلق جوّاً من البهجة أشبه جو الاستقبال الذي عاشه العائدون من الحجّ عند أسوار بغداد، فعادت تتردد في نفس المجريطيّ فكرته المتفائلة: أولها سعد وآخرها وعد ! ظلّ يكررها، كأنّه يقاتل بها رداءة حظّ ابن زريق. قام البغداديّ فقام الجميع، وشرعوا في عناقه وتوديعه، وحينما فرغ من السلام، انفصل عنهم وتوجه إلى صاحب الخان وقال له:

ــ   ستخسر زبونا ثمينا هذه الليلة يا بن النجّار، الأندلسيّ سيكون ضيفي، وسيأتي ابن عمّي أبو حامد ليأخذ أمتعته.

نطق ذلك وهو يشير إلى رجل في مثل سنهما، كان يقف قربه، فرد الخانيّ:

ــ   أتنافسني على ملكي يا أبا بكر؟ وأنت يا سعيد، تركت كراء الحرّاقات وفتحت خاناً؟

ضحكوا فضحك المجريطيّ معهم، لكنّهم لم يتركوا له فرصة للردّ أو الاعتراض أو التفكير. في ثوان معدودات وجد نفسه برفقة البغداديّ وابن عمّه سائرين في اتجاه بيت البغداديّ.

ــ   هذا ابن عمّي وصهري أبو حامد، سعيد. طبعا هو ليس سعيداً جداً، لكنّه رجل طيب وكريم سيقضي حاجاتك، وسأفهمه كيف يخدمك وأنت تواجه سرّة الدنيا في ليلتك الأولى.

"سرّة الدنيا ! نعم سرّة الدنيا !"، فكّر المجريطيّ بإعجاب.

إذا كان اللقاء بأبي مهدي استغرق الإعداد له أكثر من ثلاثة أرباع الرحلة، فإن اللقاء بالبغدادي تمّ في ثوان. حدث كما يحدث العشق. نظرة واحدة منه، التقت عيونهما واتحدت نفوسهما.

 التفت البغداديّ إلى المجريطيّ وهم يدخلون البيت وقال:

ــ   مرحباً بك في بيتك وبين أهلك.

ثمّ قال لابن عمّه:

ــ   يا أبا حامد كما أفهمتك، هذا العزيز أمانة عندك، تقوم بمقامي نحوه طوال غيبتي.

 توقف عن الكلام والتفت إلى المجريطيّ مبتسماً وأضاف: وسأوصي أمّ حامد أن تراقبه جيداً وتسجّل لي حركاته وسكناته !

 ثمّ التفت إلى سعيد قائلا:

ــ   لا تجعله يشعر أنّ بغداد ليست أمّه، هذه مهمّتك الأولى والأخيرة. وقد أتعبتك معي اليوم، تستطيع الذهاب الآن إلى بيتك وسنلتقي غداً عند الفجر في المسجد أو عند الحرّاقات.

ودّعهم سعيد، فعاد البغداديّ يقول:

ــ   مرحباً بك في بيتك وبين أهلك.

ــ   شكراً لك يا بغداديّ، أنت على سفر إذاً؟

ــ   نعم، غداً سأكون في الطريق إلى أصبهان.

ــ   هذا خالٍ من العدل !

ــ   سفري؟

ــ   نعم، سفرك. فلم أقابل أحداً إلاّ واختفى منّي بلمح البصر. هل أنتم متفقون عليّ !

ــ   من نحن يا أندلسيّ؟

ــ   البغاددة يا بغداديّ. قابلت بغداديّاً في المدينة وقضيت معه وقتاً ممتعاً، لكنّه سرعان ما اختفى قبل الوصول إلى مكة، ثم قابلت أخا سفر في قافلة العراق، واختفى منّي على مشارف القادسيّة؛ وها أنت تفعلها.

ــ   أنا على سفر دائم، جئت من نيسابور قريباً، ذهبت إلى هناك لأستمع إلى رواتها وشيوخها وعلمائها، وأنا الآن في طريقي إلى أصبهان.

ــ   ما أتعس حظّي !

ــ   ولكنّي لن أتركك لحظة واحدة حتـّى ساعة سفري، سيجلب أبو حامد  أمتعتك من الخان، وستمكث هنا عندي، وحينما أسافر سندبّر لك سكناً يليق بك، لا تغتم. سيتكفل ابن عمّي بذلك، سيفرحه أن يقدم خدمة لي وأن يكون دليلك في مدينة السلام. قم ولا تتكاسل، فليس لدي سوى سويعات.

توقف فجأة، كأن شعلة حماسته انطفأت فجأة، سكن هنيهة ثم قال ضاحكاً:

ــ   ما أغباني ! ربما تكون متعباً من وعثاء السفر وتريد أن تستريح !

ــ   لا، لقد بتنا  ليلة أمس بالياسريّة، ونمت النهار كلّه، ولم أصح  إلاّ عند أذان العشاء. ولكنّني لا أريد أن أزعجك. أهل بيتك أحوج إليك منّي يا أبا بكر.

ــ   لقد شبعوا منّي، ولا أرى الساعات القليلة المتبقية نافعةً لهم، فقم  لنتناول شيئاً مما أنعمه الله، ولا تماطل أو تخلق الأعذار؛ ولا تنس أنّك تأكل للمرّة الأولى في بيت بغداديّ.

لم ير المجريطيّ صديقاً مثل البغداديّ، ولم يسمع بمثل هذه الصداقة الخالصة، التي تنعقد بين غريبين في لحظات. أهو التمرس بالسفر واعتياد الغربة وما يرافقهما من إحساس بالتعاطف ! أم هو بسبب نشأة البغداديّ العائليّة باعتباره ابناً لإمام مسجد، اعتاد أن يلتقي الجميع في كلّ وقت وحين !

ــ   يا أبا سليمان أرى فيك نفسي، حينما رأيتك جالساً وحدك تنظر إلينا من بعيد، خلتك إيّاي حينما جلست يوماً في مساجد البصرة ونيسابور؛ حينذاك كنت أفكّر من أين أبدأ وكيف أبدأ. وسأفعل الأمر عينه غداً،حينما أكون في اصبهان، على الرغم من أنّني أعرف الطريق هذه المرّة، وفوق هذا وذاك لديّ رسالة توصية من شيخي الجليل. أما أنت فأراك بلا شيخ يوصلك إلى بغيتك.

ــ   سأتركك تخلد إلى النوم فأنت على سفر.

ــ   مشكلتي تكمن في هذا، في النوم والسفر يا أبا سليمان. حينما أكون على سفر يفارقني النوم تماماً ويجفوني، ولا أعرف سبباً لهذا الداء.

ــ   لا أحسبه داء.

ــ   إذاً أنا معافى، فدعنا يا صاحبي نمضي ساعاتنا المقبلات نستمع إلى أخبار الأندلس.

ــ   لقد شلّت فكرة سفرك قواي، وحرمتني من المقدرة على التفكير في أمر محدّد.

ــ   قل لي أولا: كيف حال قرطبة؟

ــ   مضطربة، وربّما على شفير الهاوية.

ــ   هل استعاد الإسبان قوتهم؟

ــ   لا، فقد المسلمون وحدتهم، وراحوا يتطاحنون ويتصارعون على الحكم.

ــ   وماذا عن مشاعر السواد الأعظم من الناس؟

ــ   لا أحد يستطيع أن يرى الخيط الفاصل بين الصديق والعدو، بين الصحيح والخطأ، بين ما يجب وما هو مفترض. الأطماع والضعف والتنافس تقود النفوس وتنخرها. في حين أن المعادلة التي وصل إليها  الخليفة الناصر منذ زمن طويل كانت صائبة: الوحدة على أساس أندلسيّ، كرابطة جديدة لا تقوم على العصبيّة القبليّة والمذهبيّة والدينيّة، رابطة قوامها الولاء للأرض. لكنّ القوم كلّما ضعفوا مالوا إلى العصبيّة ونسوا الوحدة، والأمرّ من هذا أنّهم كلّما كبروا وتمكـّنوا مالوا أيضاً إلى التفرد والأنانيّة. أي أنّهم في كلتا الحالتين هالكون. بعضهم استمرأ التحالف حتـّى مع عدوه وفضّله على التنازل لأخيه عن بعض الحقوق.

ــ   وهل خلت تماماً من أيّ صوت ينير الطريق؟

ــ   لا، لا يمكن لها أن تكون خالية. الوزير ابن حزم وهو في معتكفه يؤمن ويؤكد أن الأرض، ويعني بها الوطن، تشبه الدار والأم والملكية، حينما تسلب ولا ندافع عنها نفقد المقدرة على الدفاع حتـّى عن عرضنا وأمهاتنا، نفقد ذواتنا وهويتنا.

ــ   هذه حالنا أيضا.

ــ   أعرف هذا: البويهيون ضد الخلافة، والعرب من أهل السنّة ضد الشيعة، والأكراد يتقافزون هنا وهناك، والقادة الأتراك يبتزّون هذا وذاك.

ــ   حتـّى أنّهم نقضوا بيعة جلال الدولة ولم يعدلوا عنها إلاّ بعد أن شعروا بخطر العامة، فبايعوه ثانية. وحينما لم يلبّ مطلبهم عادوا وحاصروا قصره وكادوا أن يفتكوا به؛ أخرجوه  من قصره وأهانوه وأوشكوا أن يعتدوا على نسائه لولا تدخل بعض رعاياه، ولم تعد الأمور إلى مجاريها إلاّ بعد توسط الخليفة القادر بالله العباسي. بالمناسبة، لقد شهد بعضُ المشتغلين عند ابن عمّي سعيد الواقعة َ، حينما كانوا قرب ضفـّة النهر. وشارك بعضهم في الدفاع عن الملك مع خدمه، من دون أن يعرفوا لماذا، على الرغم من أنّه ديلميّ، وسعيد لا يحب الديلم. دع سعيدا يروي لك الحادثة كحقيقة وليس كطرفة.

ــ   ومن أين يستمد الأتراك قوتهم؟

ــ   من المعين نفسه الذي  يستمد الصقالبة قوتهم عندكم، من حاجة كل فريق إليهم، من ضعف الآخرين. المشكلة الكبرى هي أنّ البويهيين يلعبون لعبة ماكرة، فهم لا يريدون إغضاب الناس، لذلك تراهم يحتفظون بالخليفة كزعيم للأمّة والخلافة في الظاهر، وهو لا يملك سوى السكّة والخطبة. فهم لا يريدون الاستغناء عنه تماما، بما أنّه لا يهدّد مصالحهم. لكنّهم يتعاملون سرّا مع الفاطميين الذين مدوا نفوذهم إلى الشام. وبالمقابل فإنّ الخليفة يعتمد على تحريض العامة في مواجهة ضغط الشيعة، ولا يُستبعد أن يضع يده بيد قوة خارجية منافسة، كالسلاجقة، الذين يتحيّنون الفرص للانقضاض على أرض السواد. انظر إلى هذه ! هذه بغداد على حقيقتها.

مدّ يده في كيس موضوع إلى جواره وأخرج عملة معدنيّة وقال:

ــ   تأمّلها جيدا، تأمّل وجهيها !

نظر المجريطيّ إلى الوجه الأوّل فرأى اسم الملك البويهيّ جلال الدولة البويهيّ منقوشاً عليه، وفي الخلف قرأ اسم الخليفة العباسيّ القادر بالله، أحمد أبي العبّاس.

ــ   دولة واحدة يحكمها خليفة وملك في الوقت نفسه.

ــ   لم أكن أظنّ أنّ الحال على هذا العسر في بغداد.

ــ   هي أكثر عسراً من هذا لو تعمقنا في التفاصيل، لأنّ الخليفة نفسه له تحالفاته الخارجية السريّة أيضاً. فلا تغرق نفسك في تفاصيلها.

ــ   لم ألتق عراقيّاً لم يقل لي هذا القول، رغم ذلك أجد نفسي أغرق فيها يوماً بعد يوم.

ــ   تمتع بأيامك هنا ولا تتعب نفسك في شؤون الحكم ودسائس السياسة.

قام البغداديّ ووقف بجوار رفوف الكتب التي ملأت الجدران وقال:

ــ   تمتع بهذه، هذه هي الأبقى ! سيزول هؤلاء جميعا. هذه خزانات كتبي أضعها بين يديك، تستطيع أن تأخذ منها ما تشاء، أنّا تشاء، وقد أخبرت سعيداً بذلك.

اقترب من منضدة وأخذ رقاعاً مرصوفة بعناية وقال:

ــ   هذه مسوّدات مخطوطة جديدة لم تكتمل بعد، شرعت في كتابة مقدماتها التاريخيّة، ولم أزل أقوم بجمع مادتها، ولم أكمل منها سوى صفحات البداية. سأجعلها سفراً يخلّد تاريخ بغداد، أريدها أن تكون تاريخاً جامعاً لأحداثها ورجالها. ابقها معك، ربّما تجد فيها ما يسلّيك ويعرّفك ببعض جوانب بغداد، أنت في حاجة إليها  في أوّل عهدك بها. هذه الوريقات بخطّ يدي تتحدث عن نشأتها والأقوال فيها، وهي مقدمة لما سيأتي.

ــ   هذه هدية ثمينة، ربّما لا أستحقها.

ــ   من تجشم ركوب الأهوال وعبور القفار يستحق أكثر من هذه الرقاع.

ــ   وأنا بدوري أهديك بعض ما صغر حجمه وغلى ثمنه من تحف الأندلس، جلبتها معي من قرطبة.

همّ المجريطيّ بفتح جراب كان معه، لكنّ البغداديّ أوقفه وهو يقول:

ــ   لا تفعل هذا يا أبا سليمان ! أنت أحوج ما تكون لكلّ ما جئت به، فاحتفظ بهداياك، ربما ستعينك في هذه المدينة العصيّة على القراءة.  أما أنا فستكون هديتي هي أن أراك تحقق غاياتك، ولن أقبل غير هذا.

ــ   هذا لا يجوز يا أبا بكر، أنت تردّ هديتي.

ــ   أنا لا أرد هديتك، أنا أقبلها بطريقتي الخاصة. أنت الآن في بغداد وأنا أدرى منك بها وبأحوالها.

ــ   أنا ميسور الحال.

ــ   وهذا أمر عليك أن لا تعوّل عليه كثيراً، المسافرون فقراء دائماً وأبداً. أنت مسافر، إذاً أنت مطالب بأن تحتاط ليوم غد. وفي بغداد لا يعرف المرء ما تدبره له الأقدار.

ــ   أنت تغرقني في كرمك يا أبا بكر.

ــ   أنا أكرم نفسي بك.

ــ   جزاك الله خيراً. أنت خبير بأهلها إذاَ؟

ــ   أسعى لأن أكون.

ــ   وهل مرّ بك اسم أديب بغداديّ يقال له ابن زريق؟

ــ   لا، من يكون؟

ــ   لا أعرفه معرفة تامة، لكنّه شاعر مجوّد، كوفيّ، وبغداديّ، كما يقال.

ــ   لم أسمع به ! كيف وصل إلى مسامعك؟

ــ   تعرّفت إليه في قرطبة، عاش مأساة كبيرة، وترك خلفه قصيدة رائعة.

أخرج المجريطيّ الرقعة وناولها لأبي بكر، الذي استغرق في قراءتها، متلذذاً مستحسناً، وهو يهز رأسه إعجاباً، وحينما فرغ قال باندهاش:

ــ   إنّه كرخيّ !

ــ   نعم، كما تقول قصيدته. حينما عاد كسيراً من مقابلة الأمير أبي عبد الرحمن كان يردّد قائلا: " كأنّي خُصصت بخساسته وحدي"، " كأني طعنت في القرآن، أو رميت الكعبة بخرق الحيض، أو عقرت ناقة صالح، أو سلحت في بير زمزم".

ــ   عجباً ! هذا ليس كلامه، هذا كلام التوحيديّ !

ــ   التوحيديّ ! أبو حيّان؟

ــ   وهذا أمر لا يقل عجباً ! أتعرفون التوحيديّ في الأندلس؟

ــ   لا، لكنني سمعت باسمه يتردد على لسان ابن زريق؛ حينما سألته من أنت، قال لي ستعرفني حينما تعرف التوحيديّ.

ــ   هذا لغز محيّر. التوحيديّ رجل أدب وعلم كبير، لكنّه خامل الذكر.

ــ   أهو ضعيف الهمّة؟

ــ   على العكس، هو رجل لا تنقصه الجرأة على مقارعة أكبر الخصوم، وربّما لهذا السبب خُص بالتجهيل وسـُـلّط عليه السوقة من الكتاب. وما ذكرته من كلمات قالها في حقّ الوزير الصاحب بن عباد، الذي قابله وبدلا من أن يكرمه طلب منه أن يعمل نسّاخاً بالأجرة لديه؛ وحينما ذمّ فعلته قرّر الوزير أن يقطع ذكره، حتـّى بلغ اليأس بالتوحيديّ مبلغاً عظيماً فقام بإحراق كتبه القيّمة.

ــ   وهل أجد شيئاً من كتبه لديك؟

ــ   للأسف، لا يملكها سوى بعض الخاصة، وهي لا تتوافر لدى النّساخين أو العامة.

ــ   وما يكون الرابط بين التوحيديّ وابن زريق، كما تظن؟

ــ   هذا أمر محيّر، لا أستطيع أن أجيبك عنه.

ــ   أين يمكن لي أن أعثر على مؤلفات التوحيديّ؟ لدي صديق يعمل معلماً في دار العلوم، هل يمكن له أن يوصلني إلى مؤلفات التوحيديّ؟

ــ   أنا لا أنصحك بهذا، ربما سيجلب لك هذا البحث عداء البعض.

ــ   ولكن من أتحدث عنه رجل من الثقاة، رجل زاهد، حصيف.

ــ   إذا كنتَ واثقاً منه ومن استقامة خلقه، فأنت قريب جداً من مؤلفات التوحيديّ. يستطيع أن يوصلك إلى بغيتك؛ ولكن قد يجلب لك هذا البحث بعض العداء، ربّما أنت في غنى عنه في أول عهدك ببغداد.

ــ   ربّما سأجد عند التوحيديّ ما يوصلني إلى هذا الرجل.

ــ   ربّما، فأنا لم أطّلع على مؤلفاته أجمع. ربّما يكون للرجل الذي تعنيه ذكر عنده، ففي مؤانساته تحدث عن الكثير من رجال الأدب والثقافة. لكنّني أشكّ في هذا أيضا؛ فأنت تقول إنّه رجل في الثلاثين من عمره، وهذا أمر محال، لأنّ التوحيديّ توفاه الله منذ حوالي ثماني عشرة سنة. كيف لرجل مثله أن يكون له ذكر في مؤلفات التوحيديّ. هذا ضرب من المحال.

ــ   وماذا كان يعني بقوله: حينما تعرف التوحيديّ تعرفني.

ــ   لا أدري، كلّ شيء جائز، ربما يتحدث عن نسب ما.

ــ   قصيدته تدلّ على أنّه كان في ضيق وعسر.

ــ   كان التوحيديّ في فاقة أيضا. لكنّني  لا أجد ما وجدته أنت في أبيات هذا الرجل. هذا رجل كثير السفر، ولا يعقل أن يكون مسافراً إلى مكان ناء كالأندلس بلا قصد. وإذا أضفنا إلى هذا جودة شعره، فإننا أمام حالة غريبة ومحيّرة.

ــ   ماذا تعني؟ البعض يعتقد أنّه قصد عبد الرحمن لأنّه يتقرب إليه بنسبه، لكنّ ذلك غير دقيق أيضاً.

ــ   أعني أنّه رجل خبير بالسفر والترحال والنظم، ومثل هذا لا تنكسر نفسه بهذا اليسر، تأمّل قوله:

مـا آبَ مِــن سَـفَـرٍ إلاّ وَأَزعَـجَـهُ    عـزم إلى سَفَـرٍ بالرغــمِ  يُزمِعُـــهُ

كَأَنّـمـا هُــوَ فِـي حِـــلِّ وَمُـرتـــحــل    مُــوَكَّــل  بـفَـضـاءِ  الـلَـهِ  يَـذرعـــهُ

هذه عزيمة محارب.

ــ   حينما تعمّقت في كلماته حيّرني فيها الانتقال المدبّر من المخاطب إلى المتكلم؛ يذهب إلى المخاطب عند اللوم، ويعود إلى المتكلم عند تأكيد الحقائق بالوصف ! شيء عجيب، أليس كذلك؟ كما لو أنّ شخصين متنافرين يسكنان جسداً واحداً.

ــ   أحسنت يا أبا سليمان، هذه ملاحظة ثاقبة تدلّ على تعمق في فهم الكلمات وفي فهم بواطن النفس.

الإطراء المفاجئ الذي أسبغه البغداديّ على المجريطيّ جعله يحسّ بأنّ لحظة البوح قد حانت، وأنّه الآن قريب من بغيته، يستطيع أن يسأل بيسر وأن يتوجه إلى مقاصده توجّهاً مباشراً؛ يسأله عنها، وعن الأمانة التي يحملها، والتي تثقل عليه روحه. أراد أن يبدأ من زاوية لا تجلب النظر إلى هدفه البعيد، إلى ما يمكن أن يسميه خبله، كما قالت ألفيرة؛ أراد أن يبدأ من دلالة الاستعارات في قوله "من فلك الأزرار مطلعه"، لكنّ البغداديّ عجّل قائلا:

ــ   كنت أظنّ نفسي خبيراً بشؤون بغداد، لكنّك جعلتني أحسّ بفقر معارفي، وربّما سيجعلني هذا أعجّل في مسعاي إلى كتابة تاريخ بغداد. فمدينة السلام، التي جافاها السلام في عوز إلى هذا.

ــ   أنت لها يا أبا بكر، من يضع تاريخاً حافلا كهذا لهو عليم وضليع. لكنّ ابن زريق شأن خاص جداً، وربّما هو شأن عابر.

ــ   لا أوافقك على هذا، فهذا شاعر لا تجود الحياة بمثله كلّ يوم، وقصته أكثر عجباً وغرابة من شعره.

دقـّت الطبول وبدأ الأذان. ضحك البغداديّ، بينما اعترت المجريطيّ دهشة وخشية مجهولة المصدر، وهو يستمع إلى قرع الطبول في هذا الوقت المبكّر:

ــ   أأدهشك قرع الطبول؟

ــ   نعم، ولم أفهم مغزاه حتّى اللحظة.

ــ   هذه من بدع الملك جلال الدولة. حينما تولى الملك طلب من الخليفة أن تقرع الطبول عند الأذان، فرفض الخليفة؛ لكنّه عاد إلى طلبه حينما أصبح أقوى نفوذاً، وحقق ما أراد. أمّا ما يضحكني دائماً فهو تنافس المؤذن مع "أبو طبيلة"، قارع الطبل، سأحدثك عن هذا بعد الصلاة.

توجها نحو مسجد قريب. صليا الفجر معاً. ثم خرجا ماشيين. قال البغداديّ:

ــ   سأريك أحبّ الأشياء إلى نفسي بعد التأليف والسفر.

سارا باتجاه شطّ دجلة، وحينما اقتربا من ضفـّة النهر قال البغداديّ:

ــ   هذه بغدادي الخاصّة. لم أفارق بغداد يوماً من دون أن أرشف من دجلتها، كما لو أنّني أريد لعروقي أن تظلّ مبتلّة بمائها، ولدمي أن يظلّ مخلوطاً بعصارة روحها.

فجر بغداديّ آسر. مجمع صغير لزوارق ومراكب، اصطفــّت على ضفـّة تهتز بتثاقل، كما لو أنّها لا تريد أن تصحو من نومها. كان النهر يهدهدها في مهدها المائيّ.  صعد البغداديّ إلى مركب صغير يرسو على ضفـّة النهر، فيه مقصورتان تشبهان حجيرتين، تفصلهما ستارة. قال البغداديّ وهو يدعو المجريطيّ إلى الصعود:

ــ   هذا الضرب من المراكب نسميه الحرّاقة، وهو خاص بالنزهات، يمتلكه الخاصة من الناس. أما هذه الحرّاقات وبعض القوارب التي تجاورها فهي ملك لسعيد ابن عمّي، يعتاش منها، وهي تدر عليه ربحاً، لأنّه أوقف عملها على الأغنياء وكبار العوائل من أهل بغداد. تستأجرها منه العوائل الثريّة وعليّة القوم ممن لا يملكون مراكب خاصّة. بالمناسبة هو رجل كريم، فلا تقس شخصيته على صغر مقاس زوارقه، فهو أفضل منها بكثير. هل أتكلم كثيراً؟ أنا هكذا حينما أكون قلقاً !

ــ   ولماذا أنت قلق؟

ــ   السفر يقلقني كثيراً.

ــ   ورغم ذلك تأبى إلاّ أن تسافر.

ــ   السفر والتأليف يبعداني عن شرور الحكم.

ــ   حتام؟

ــ   حتّى يقرر الحاكم أمراً.

ــ   أينما تذهب تجد حاكماً. أحياناً تجول في رأسي فكرة أن يولد إنسان في بقعة ما ولا يجد من يحكمه سوى نفسه، ترى ماذا سيكون شأنه بلا مال ولا حاكم ولا شُرط ولا قوانين وعادات.

ــ   فكرةٌ عجيبة، لكنّك لن تجدها حتّى في الجنّة.

ضحكا فارتجّ المركب تحتهما.

ظلّ البغداديّ يتحدث على هواه، من دون تكلّف، كما لو كان يخاطب صديقاً نشأ وترعرع معه منذ طفولته.

ــ   منذ متى أنا وأنت نعرف بعضنا يا أبا بكر؟

ــ   هذا السؤال كان على طرف لساني.

ــ   حقـّا منذ متى؟

الفجرُ في بغداد أصيلٌ وناعمٌ مثل شعاع الشمس المنكسر على صفحة الماء.  غرس البغداديّ يده في ماء النهر وارتشف قليلا من الماء وهو يقول:

ــ   هذا إكسير حياتي. أنا جاهز للرحيل يا بغداد !

مرأى البغداديّ مفتوناً بالشروق منح المجريطيّ جرعةً مضاعفة من العواطف والأحاسيس الفيّاضة، فودّ لو أنّه يستطيع أن يمدّ قدمه ويلامس وجه الماء، ومن دون أن يسيطر على مشاعره راح ينطق:

ــ   حينما رأيته للمرّة الأخيرة كان موحل القدمين. جاء من الوادي الكبير حزيناً، وغمس قدميه فيه، كما أفعل أنا الآن. كان يتذكّر دجلة. لا أعرف بماذا كان يفكّر في تلك اللحظة، لكنّه كان كسيراً.

ــ   أنت لا تستطيع أن تنساه لحظة واحدة.

ــ   ليتني أستطيع. ربّما أنا هنا، في بغداد، لكي أعين نفسي وأمكنّها من نسيان ذلك.

ــ   لكنّني أراك تفعل العكس، تتشبث به.

كادت الكلمات تقفز من فمه، كاد ينطق السؤال الذي حيّره، ينطق الاسم الذي أرّقه  وخلب لبّه، لكنّه أمسك نفسه. لم يشأ أن يخسر رجلا بهذه الصفات النادرة، لم يشأ أن يظهر أمامه شيئاً من الأنانيّة الشخصيّة، وقدراً من الضعف والوهن وهو يستقبل منه  فيضاً لا محدوداً من النبل والكرم والعلم والحماسة للعقل والمعرفة. لم يرغب في أن يكون صغيراً، وأن تتضاءل صورته في عين رجل على هذا القدر العظيم من الإرادة وحب الحياة. فكّر: "لا يصح لي أن أفسد عليه هذه المتعة الصغيرة، التي يودع بها بغداده التي يعشقها. ولكن ماذا تكون بغداد لي؟"

ــ   هل يحقّ لي أنا الغريب أن أسألك قائلا: كيف ترى أنت بغداد؟

ــ   اختلف الناس في أمر بغداد. كان ابن العميد، وزير ركن الدولة البويهي، وهو أحد الوزيرين اللذين ذمهما التوحيديّ يمتحن عقول قاصديه بسؤالهم عن أمرين: أولهما: معرفتهم بمحاسن وخواص بغداد، وثانيهما: معرفتهم بأدب أبي عثمان الجاحظ. في حين أنّ البعض قال، قلت لعبد الله بن داود إن لي خالة ببغداد، قال: اقطعها قطع القثاء.

ــ   أهذا بسبب كونها أرض جزية، أليس كذلك؟

ــ   يرى البعض أنّها أرض حرمت عليهم ملكيتها، لأنّها مملوكة أصلاً، قبل الفتح وأسلم أهلها مبايعين. لكنّ أطرف ما قيل عن بغداد جاء على لسان الفضيل بن عياض، الذي سُئل عن المقام ببغداد فقال: لا تقم بها واخرج عنها فإنّ أخبثهم مؤذنوها.

ــ   ولماذا مؤذنوها؟

ــ   لا أعرف، ربّما لأنّهم ينافسون طبّاليها.

ــ   من أين أتى جلال الدولة بهذه الفكرة؟

ــ   قل من أين جاءوا لنا بجلال الدولة؟ ولماذا جلال الدولة ونحن سرّة الدنيا؟ أنا لا أستطيع أن أفهم كيف نؤمن بأننا مركز الأرض ونرضى في الوقت نفسه أن نساس من قبل. ..

أنا آسف، لأنّني عدت إلى ما أهرب منه.

ــ   وهل أنتم مركز الأرض حقا؟

ــ   نعم، هناك من يعتقد ذلك. ذكر علماء الأوائل أن أقاليم الأرض سبعة...الإقليم الرابع الذي فيه العراق. وفي العراق بغداد. هو صفوة الأرض ووسطها، لا يلحق من فيه عيب سرف ولا تقصير. قالوا ولذلك اعتدلت ألوان أهله، وامتدت أجسامهم، وسلموا من شقرة الروم والصقالبة، ومن سواد الحبش وسائر أجناس السودان، ومن غلظة الترك، ومن جفاء أهل الجبال وخراسان، ومن دمامة أهل الصين ومن جانسهم وشاكل خلقهم؛ فسلموا من ذلك كله، واجتمعت في أهل هذا القسم من الارض محاسن جميع أهل الأقطار بلطف من العزيز القهار، وكما اعتدلوا في الخلقة كذلك لطفوا في الفطنة والتمسك بالعلم والأدب ومحاسن الأمور.

وهناك من بالغ أكثر في مديح بغداد. قيل لرجل كيف رأيت بغداد قال الأرض كلّها بادية وبغداد حاضرتها.

وهناك من سمع الشافعي يقول ما دخلت بلدا قطّ إلاّ عددته سفراً، إلاّ بغداد فانّي حين دخلتها عددتها وطناً. وأنا أقول أيضاً: نعم هي وطن، فأنا مثلاً من أصل حجازيّ، لكنّ بغداد وطني، ولا وطن لي سواها.

ــ   كلّ هذا الحبّ وأنت حجازيّ !

ــ   حجازيّ الأصل، بغدادي الوطن.

وصل سعيد. سلـّم عليهما وهو يقول:

ــ   آن الأوان يا بن العمّ.

تعانق البغداديّ والمجريطيّ. ودّ المجريطيّ أن يقول له: أهو فراق؟ لكنّ البغداديّ أشار إلى سعيد قائلا:

ــ   ابن عمّي هذا سيكون أخا لك في غيابي.

انتحى به جانباً وقال هامساً، مبتسماً:

ــ   أخاً في الطريق والمأكل والملبس والمشورة فحسب. سيعرض عليك مشاريعه التجارية الخياليّة فلا تصدّقه في شيء، سيحدثك عن رحلات خرافيّة في عرض البحر وفي مجاري الأنهر وفي الجزر البعيدة فلا تصدّقه؛ أما الأهم من كل هذا، وهو أمر لا هزل فيه: احذر أن تخوض معه في شأن سياسي أو مذهبيّ أو دينيّ.

ــ   أتحذرني منه؟

ــ   لا، ولكنّي لا أثق بأحد في مثل هذه الظروف.

ــ   هذه العبارة سمعتها هناك، على بعد آلاف الفراسخ، قالها لي الوزير، حينما التقيته قبل سفري بثلاثة أيام.

فكّر المجريطيّ "سيختفي البغداديّ من المشهد في الحال". سيكون وداعاً قاسياً، ستغدو بغداد على إثره فارغةً تماماً، مهجورة، بغداد بلا بغداديّها.

ــ   ستكون خاويةً من بعدك. من سيشغل هذا الفراغ الذي يحيط بي من كلّ صوب، يا أبا بكر؟

ــ   ولهذا أسرفت في الحديث معك عن بغداد. من أجل هذه اللحظة القاسية يا أبا سليمان، من أجل أن أترك لك بقية تقوم أنت بمعاينتها بنفسك وتفسير صفحاتها بإرادتك الخيّرة، هذه أمانة في عنقك.

***

في منامه رأى المجريطيّ نفسه يطوف حول سور بغداد ولا يصل إلى باب. كان يلتـّف حولها كما يدور مغزل حول نفسه، وهي تدور به، كما يدور خاتم في أصبع.

 

(4)

ــ  هل تعرف ما أفكر فيه يا أندلسيّ؟

ــ   وكيف لي ذلك يا سعيد !

ــ   أنا أحلم أن أصحو فجراً فأجد نفسي أبحر صوب قرطبة.

ــ   تعني صوب الأندلس.

ــ   كلّه واحد، الأندلس أو قرطبة، كلّه واحد ! المهمّ في الأمر أن أجد نفسي أقف على رأس سفينة عظيمة ترفرف فوق صواريها الأعلام، أنظر إلى الأفق البعيد وأشم رائحة السواحل المنتظرة.

لا يستطع المجريطيّ أن يرسم صورة محددة لسعيد، عدا أنّه يحمل اسماً يطابق جوهره مطابقة مطلقة: سعيد، حالم ورقيق وودود وخدوم. شخصيّته لا تخلو من الميل إلى الخداع المكشوف، الساذج والبريء، حاله كحال بائع، قبل أن يقوم بخداع المشتري، يقول له: ما رأيك لو أنّني أخدعك؟  كان سعيد مثل بائع يزوّق للناس بضاعته  علناً لغرض ترويجها، وهو يدرك أنّه  لا يبيع سوى جزائر لا يعثر المرء لها على أثر في الخرائط، وبحار لا وجود لها إلاّ في الخيال.

ــ   هل لي أن أسألك يا سعيد عن رحلاتك. أيّ المدن زرت؟

ــ   المدن ! ماذا تعني بالمدن؟ أنا أتحدث عن المياه.

ــ   أنا أعني أيّ البلدان زرت؟

ــ   هذا سؤال عويص يا صاحبي.

ــ   ما وجه الصعوبة فيه؟

ــ   وجه الصعوبة فيه هو أنّني لم أغادر بغداد أبداً.

ــ   ألم تر مدينة أخرى؟

ــ   لم أغادر أرباضها قطّ.

توقف لحظة ثم أضاف: ولكنّني اخترقها من أعماقها، أعبر من ضفـّة إلى ضفـّة غير آبه بأسوارها. النهر الذي تمخر فيه مراكبي يقع خارج أسوارها. حينما أكون في زورقي تختفي الأسوار. بغدادي، التي لم أغادرها، طليقة، لا تطوّقها الأسوار.

لم يعد المجريطيّ يعرف الحدود بين الحكمة والسذاجة في أخيلة سعيد؛ لكنّه أخذ يقتنع ساعة بعد ساعة أنّه أمام ذات فريدة، لا شبيه لها.

ــ   يا أبا سليمان، لو احتجت حرّاقة لا تتردد، أنا جاهز وفي خدمتك. من النهر سترى بغداد أجمل، صدّقني ! أجمل وأكثر بهاء ورقّّـّة.

ــ   وهل تدرّ عليك هذه المهنة الكثير؟

ــ   ستدرّ أكثر لو أنّك شاركتني وجعلنا القوارب الصغيرة المعدودة التي أمتلكها أسطولاً عامراً، أسطولاً يـمخـ...

ــ   يا سعيد ألا تستطيع أن توقف مشاريعك العجيبة لبرهة، أنا أسالك بشكل جادّ.

ــ   وأنا أجبتك بشكل جادّ أيضاً. أنا لا أعيش على تأجير زوارقي لمن هبّ ودبّ. صحيح أنّ بعضها يعمل فيه مجذفون أجراء، ينقلون الناس والبضائع بين ضفـّتيّ النهر. ولكنّ معيشتي الأساسيّة تعتمد على ما أحصل عليه من العوائل الغنيّة، التي تستأجر قواربي في المناسبات الخاصّة والعامّة.

ــ   الأثرياء فقط؟

ــ   البيوت الكبيرة، حتّى بيوت الخلافة. الجميع يثق بي وبعائلتي. أنا لاأحفظ لهم راحتهم وسلامتهم فحسب، بل أحفظ لهم ما هو أهمّ من هذا، أحفظ لهم أسرار عوائلهم. هذه مهنة تتطلب من حاملها خبرة بأحوال النهر وسمعة أخلاقيّة عالية، إضافة إلى الصبر وحسن المعشر. وهي أمور تتوفر فيّ، أليس كذلك؟

ــ   حدّثني أبو بكر عن  معركة الملك مع الأتراك ومشاركة صنّاعك في تخليصه من براثنهم.

ــ   أولاد الكلب ! هبّوا لنجدته مع الخدم. ثارث في نفوسهم الحميّة حينما حاول بعض الجنود الأتراك الاقتراب من النسوة. كان الملك قد استسلم تماماً لهم، وقرر التنازل والخروج من القصر من طريق النهر. وقد شجّع استسلامه بعض الطامعين فشرعوا يتحرّشون بحريمه. هنا ثارت ثائرة عمّالي الحمقى. فأنقذوا ملكا يكرهونه. أيّ قوم نحن !

ــ   وكيف هزموا مقاتلين أشداء كالأتراك؟

ــ   هنا تكمن المهزلة، حينما تقدم عمّالي الحمقى من النهر، صرخ أحد الأتراك محذراً أصحابه، فظنوا أن جلال الدولة حصل على نجدة حربيّة من طريق النهر، فهرب المهاجمون.

ــ   وهل أنت ضليع على البرّ  أيضا؟

ــ   لا، ليس كما في الماء.

ــ   لهذا أراك ستخذلني في بحثي عن أبي مهديّ !

ــ   لا، هذا أمر مقدور عليه. سنذهب أولاً إلى دار العلوم، ومن هناك نذهب إلى بيته.

توجها صوب الكرخ. في دار العلوم استطاع سعيد أن يجعل المجريطيّ يقف أمام قيّم المدرسة خلال دقائق حسب. عاد إلى المجريطيّ  وهو لا يستطيع كتمان ضحكة خرجت منه مجلجلة وهو يقول:

ــ   الأصلع  بانتظارك.

ــ   من الأصلع؟

ــ   القيّم على المدرسة. احذر ! لا تنظر إلى ما تحت عمامته ! لأن الأصلع لقبه وليس وصفا لرأسه.

ــ   وماذا قلت له عنّي؟

ــ   لا يهمّك.

ــ   لا يا سعيد، هذا مهمّ.

ــ   أخبرته أنّك تاجر أندلسيّ، جئت من طريق البصرة في سفينة عظيمة محملة بالأطايب. لأنّ ذوي العمائم الكبيرة يحبّون الأكل، أنا أفهمهم جيّداً.

نطق ذلك ضاحكاً ولم يعرف المجريطيّ إذا كان سعيد يهزل أم أنّه قال ذلك حقـّاً. دخل فواجه الأصلع، الذي قام محيياً، باشّاً:

ــ   مرحباً بك يا أندلسيّ، مرحباً بك في دار السلام، نرجو أن تكون دار سلام لك ودار إيمان.

ــ   شكراً لك على كرمك.

ــ   هل أستطيع أن أخدمك في شيء؟

ــ   جئت أسأل عن أبي مهديّ.

ــ   يا للعجب ! تسأل عن أبي مهديّ ! قال لي صاحبك إنّك وصلت بغداد قريباً، كيف عرفت أبا مهديّ؟

ــ   معرفة طريق.

ــ   وهذا أمر أعجب ! لم أعرف أنّ أبا مهديّ خرج من بغداد يوماً قبل الآن، ولم أعرف له صديقاً قطّ.

ــ   كان رفيقي في قافلة العراق القادمة من الحجاز. عدنا معاً من الحجّ.

ــ   الحجّ؟ وهل تحجوّن أنتم أيضا؟

ــ   ولماذا لا، ألسنا مسلمين مثلكم.

ــ   مسلمون ! نصارى الأندلس مسلمون؟

ردّ المجريطيّ بانفعال:

ــ   أنا مسلم أيّها القيّم، وإسلامي لا يقلّ عن إسلامك.

ــ   عذراً يا أندلسيّ، لقد أوهمني صاحبك بطريقته العجيبة في الكلام، وربّما لم أفهم كلامه جيداً، لا أذكر جيداً ماذا قال، أظنّه قال لي بأنك من ملوك الروم الإسبان، جئت في وفادة إلى بغداد. وقد عجبت من قوله عن الروم، هل الإسبان من الروم؟

ــ   هذا كلام مختلق من أوّله إلى آخره. أنا كما أخبرتك زائر جاء يقصد بيت الله وعرّج على بغداد. ربّما فهمت أقواله خطأً. هل تستطيع أن تدلني على بيت أبي مهديّ؟

ــ   بيته ليس قريبا من هنا، ولكنّي سأبعث من يدلك عليه. لقد وصل اليوم.

ــ   اليوم !

ــ   نعم، فهو من ذوي المكرمتين. ذوو المكرمتين يصلون متأخرين قياساً بذوي الحجّة الواحدة من أمثالك.

ــ   لا أفهم ماذا تعني.

ــ   من دون شك لا يمكن لك أن تفهم هذا. بعض حجّاج قافلة أبي مهديّ، يذهبون بمكرمة من السيّد الكبير، لذلك عرّجوا على النجف لزيارة ضريح أمير المؤمنين رضي الله عنه، لتكتمل الحجّة بالزيارة المباركة.

ــ   ربّما لا يكون لائقا زيارته الآن، إذا كان عائداً اليوم.

ــ   لا، أظنّه سيفرح بمقدمك، لأنّ اليوم سيكون يوم استقبال الناس والأهل والأصدقاء، وأنا أشك في أن يكون أبو مهديّ في استقبال أحد. هذه ليست عادته، إلاّ إذا كان قد غيّر عاداته بعد أن عرفك.

ودّع المجريطيّ الرجل وخرج.

" هذا سعيد آخر، ولكن بطريقة مختلفة"، فكّر المجريطيّ حينما عجز تفكيره عن الإحاطة بما تعنيه كلمات هذا الرجل، وحينما فقد المقدرة على تمييز باطنه من ظاهره.

قال المجريطيّ لسعيد، الذي كان ينتظر منزعجاً:

ــ   يا سعيد، وصل الرجل اليوم، هل ترى أنّ من اللائق زيارته؟

ــ   وماذا قال الأصلع؟

ــ   دعك من الأصلع، أنا أسألك أنت !

ــ   خير الشرّ عاجله.

قال ذلك من دون أن يضحك، وسار أمامه خارجاً من الرواق المفضي إلى باب المدرسة. لكنّ المجريطيّ لم يواصل السير، تسمرّ في مكانه وهو يرى المعجزة أمام عينيه:كان أبو مهديّ قادماً نحوهما.

تعانقا عناق أخوين افترقا منذ دهر، بينما لبث سعيد ينظر ببلاهة إلى المشهد الغريب الماثل أمامه.

 

(5)

حينما شرع المجريطيّ يجمع تركة  ابن زريق، التي اشتراها والتي أخذها من عمران العراقيّ: ثيابه، خاتمه، قصيدته .خطرت على باله فكرة مثيرة. بدت له أوّل الأمر مثل مزحة من مزح سعيد، لكنّه وجدها قريبة من نفسه. وضع خاتم ابن زريق الكبير، ذا الفص الأحمر، في إصبعه، ثم رفع غطاء الرأس وراح يجرّب تعصيب رأسه به، كما كان ابن زريق يفعل، ثم شرع يلبس ملابس ابن زريق الخارجية كلّها. تأمل هيئته فأعجبه مرآه، خاصة أكمامه البغدادية العريضة، التي بلغت ثلاثة أشبار. ابتسم في سرّه، وهو يرفع الرقعة ويشرع في القراءة، مقلّدا صوت ابن زريق وهو يسكّن أواخر الكلمات ويمطّها، بلكنته المميّزة.

سار بضع خطوات في البيت، كما لو كان يدرّب نفسه على قبول هيئته الجديدة.

تحسّس المجريطيّ خاتم ابن زريق فجاءه صوت عمران العراقيّ:

ــ   تأمّل هذا !

نطق عمران وهو يضع خاتما ذا فصّ أحمر في يد المجريطيّ. تأمل المجريطيّ الخاتم وقال:

ــ   بكم؟

ــ   هذا ليس للبيع، هذا هدية منّي اليك.

ــ   أهو خاتمه؟

ــ   لا أعرف، لكنّني وجدته بين أمتعته، ولا أعرف لماذا لم يكن يضعه في إصبعه !

ــ   وما نفعه لي؟

ــ   ربّما ستعرف قيمته حينما تكون في بغداد، ولكن أنصحك أن لا تريه لمن لا تثق به جيّدا.

ــ   عمران، هل تستطيع أن تصل إلى غرضك من دون لفّ أو دوران؟ ماذا تقصد؟ هل تريد أن ترفع السعر؟ هل تريد أن توصيني شيئاً؟ هل تريد أن تعلمني بأمر ما؟ هل تريد تحذيري؟ هل تريد إخافتي؟ هل ترشوني؟ تكرمني؟ أرجوك، قل لي ماذا تريد، لكي أفهم غرضك بوضوح.

ــ   هذا هديّة منّي، لا أكثر ولا أقلّ، لكي تتأكد من أنّني لست طمّاعاً. أما لماذا لم يكن يستخدمه فذلك سرّ هو وحده يعرفه. وربّما هو سرّ يخفي بعضاً من شخصيته.

ــ   لم تصل بعد. ما السرّ الشخصيّ الذي تعتقده؟

ــ   لا أدري، لكنّه من دون شك يتعلق بهويته، وبمن يكون.

ــ   ومن يكون غير عليّ أبي الحسين ابن زريق البغداديّ الكوفيّ؟ من يكون؟

ــ   لا تغضب، ربما يكون أبا الحسين أو أبا عبد الله، أوغير ذلك، هذا للاحتياط.

سكت لحظة ثم أضاف:

ــ   وهل كنت تراني أميناً وصادقاً لو أخفيت هذا عنك !

لم يتردد المجريطيّ طويلاً في قبول هديّة عمران، وحالما أخذ الخاتم، تململ عمران قليلاً وقال وهو يوشك على البكاء:

ــ   هل لي بخدمة بسيطة يا أبا سليمان، خدمة تجعلني أكون خادماً لأهل بيتك طوال فترة غيابك.

ــ   قل حاجتك، لن أبخل عليك لو استطعت.

ــ   تسأل عن أهلي في بغداد، وتطمئنهم...

دُقّ الباب. نزع المجريطيّ الخاتم على عجل وأخفاه.

على الرغم من القلق الذي أحدثه الخاتم في نفسه، إلاّ أنّه لم يتردّد في فتح الباب. هو على قناعة تامة من أنّه لا يمثل دوراً ما، غريباً عليه، بل يمارس دوره المعتاد. واجه سعيداً، من غير اضطراب، واستعد لاستقبال دعابة متوقعة؛ لكنّ سعيداً قال بإعجاب:

ــ   اليوم أنت عراقيّ أصيل، عراقيّ حقيقيّ. متى اشتريت هذه الثياب؟

ــ   منذ وقت، ولم ألبسها سوى اليوم.

ــ   هذا أفضل لي ولك، ستقلل هذه الملابس من فضول الناس الزائد، الذي يثيره زيّك الأندلسيّ.

عرّجوا على باب الطاق ودخلوا سوق الورّاقين. ما كاد عقل المجريطيّ يصدق وجود هذا العدد الكبير من الورّاقين. ظلّ المجريطيّ يتنقل من ورّاق إلى آخر وهو يمتـّع بصره بما هو معروض من كتب وصحائف وخطوط جميلة عظيمة الإتقان.

ــ   لك أن تتخيل يا سعيد كم أنا جاهل !

ردّ سعيد:

ــ   كيف يقاس الجهل؟

ــ   حينما ننظر إلى هذه الرقاع ونعرف أنّنا لم نحظ بشرف قراءتها.

ــ   إذاً أنا أكبر الجاهلين، ما رأيك؟

توقف المجريطيّ عند واجهة عامرة فجمدت عيناه حينما قرأ اسماً يعرفه جيّداً: ديسقوريدس. حمل الكتاب بين يديه كما لو أنّه يحمل الأندلس كلّها في راحتيه. نظر إلى الغلاف وراح يقرأ: قام بنقله إلى العربية إصطفن بن باسيل بأمر من الخليفة المتوكل. عجّل في شرائه. الغبطة التي حلّت فيه جعلته يندفع قليلاً في عواطفه ويهمّ بالسؤال عن كتب التوحيديّ. كاد أن ينطق الاسم، لكنّه عدل عن ذلك  حينما حضرت صورة البغداديّ إلى ذهنه فنهته عن ذلك. امتثل المجريطيّ لا خوفاً من البائع، ولكن خشية من سعيد، الذي كثر تأفـّفه وهو يتجول مرغماً بين دكاكين الكتب. خرجا من السوق فأحس سعيد بالارتياح وعاد إلى مرحه المعهود.

ــ   هل تعرف فيم أفكّر يا أبا سليمان؟

ــ   وهل تعرف أنت فيم أفكّر أنا الآن؟

ــ   وكيف لي ذلك !

ــ   حينما حملت الكتاب بين يديّ أحسست كما لو أنّني في قرطبة.

ــ   أهو من قرطبة؟

ــ   لا، ولكنّني قرأته هناك.

ــ   ولماذا تشتريه إذاً؟

ــ   سأخبرك عن هذا حينما أقرأه بنسخته العراقيّة.

لم يفهم سعيد ما قاله المجريطيّ، لأنّه كان مشغولاً بأمر آخر، مختلف تماماً. سار صامتاً ثم قال من دون أن يسأله أحد:

ــ   أنت تحلم بكتاب قرأته هناك، أمّا أنا فأحلم

ــ   أعرف يا سعيد، تحلم بسفينة

ــ   لا يا مجريطيّ، أحلم بشي آخر.

ــ   ما هو؟

ــ   لن أقول لك. أنت تظنّ أنني أمزح معك. والله أنا لا أمزح. لكنّني مندهش لصاحبك أبي مهديّ هذا، أليس له بيت يأويه، يأتي إلى دار العلوم حتـّى في الجمعات !

ــ   له بيت يا سعيد، لكنّنا اتفقنا أن نلتقي هنا، سنصلي الظهر في المسجد الجامع، ثم نذهب إلى بيته. هل لديك اعتراض على هذا؟

تركه سعيد قرب المدرسة وقال ساخراً:

ــ   سأتركك هنا، لن أسير أبعد من هذا لأنّني أتشاءم من رؤية الأصلع. سأعود إليك بعد صلاة العصر.

ــ   لا تتعب نفسك، أظنّ أنّي أستطيع العودة بنفسي هذه المرّة.

ــ   افعل كما يحلو لك، ولكن لا تنس أنّك أمانة في عنقي.

ــ   لن أنسى يا أبا حامد.

كانت دهشة أبي مهديّ حينما رأى زيّ المجريطيّ أكبر من دهشة سعيد، كانت بحجم ما كان المجريطيّ يظنّ ويتوقع. لكنّ أبا مهديّ لم يشر إلى ما كان المجريطيّ يرجوه، فلم يحصل المجريطيّ  على الإشارة التي كان يصبو إليها ، والتي ستكون مفتاح الطريق إليها ، إلى قمر في الكرخ لا يعرف طريقاً إليه، فاضطر إلى سؤاله سؤالاً مباشراً:

ــ   أأعجبتك ملابسي لأنّها عراقيّة أم لأنني أشبه شخصاً ما، مرّ بك يوما ما؟

ــ   لا أظنّك تشبه أحداً سوى نفسك. لكنّ هذا الشيء الثقيل الذي تحمله ربّما يشبه شيئاً ما.

نطق ذلك ضاحكاً، على غير عادته، وتناول الكتاب وراح يقلّب فيه، ثمّ قال:

ــ   أتقرأ في الأعشاب؟

ــ   أحياناً. لكنّ لهذا الكتاب قصة. حينما رأيته كادت الدموع تفرّ من عينيّ. فقد أهدتني امرأة من أقربائي نسخة منه بخط الأندلسيّ أبي داود سليمان بن حسان بن جلجل. كنت شغوفا به لما حواه من معارف ومن إضافات على هذه الترجمة المشرقيّة. وبالمناسبة أشار ابن جلجل إلى هذه الترجمة في مقدمته، وقال إنّها ترجمت في دار السلام.

ــ   العالم صغير جداً يا صديقي.

ــ   أصغر مما يظنّ المرء.

ــ   هل أفهم من هذا أنّ لك اهتماماً بالعلوم؟

ــ   لي اهتمام محدود بالفلاحة. لقد حدثتك عن هذا حينما كنّا في القافلة، لأنّ الفلاحة مصدر معيشتي ورزقي.

ــ   سنكمل حديثنا في الطريق، حان وقت الذهاب.

غادرا المكان. سارا في سكة فسيحة يزدحم فيها الناس، واتجها صوب المسجد الجامع.

صدق من قال يوم الجمعة ببغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد.

استعاد المجريطيّ هذه العبارة حينما رأى جموع الناس تتزاحم وتتقاطر من كلّ صوب عند صلاة الجمعة. سار المجريطيّ وأبو مهديّ من البيوت المحاذية لدجلة بباب خراسان والصفوف مادة من المسجد إلى ذلك المكان والصلاة قائمة بمكبرين ينقلون التكبير عند الركوع والسجود والنهوض والقعود

ــ   قرأت للبغدادي يقول عن هذا المكان: كان على أبواب المقصورة بوابون بثياب سواد يمنعون الدخول إليها  إلاّ لمن كان من الخواص المتميزين بالأقبية السود وانه حضر في يوم جمعة بدراعة يتبع القاضي أبا تمام فرد حتى مضى ولبس القباء وكان هذا رسماً جارياً مأخوذاً به في سائر مقاصير الجوامع.

ردّ أبو مهديّ قائلا:

 ــ   هكذا كان الأمر منذ عقود، وقد بطل الآن ذلك، فليس يلبس السواد والقباء سوى الخطيب والمؤذنين.

ــ   أهكذا تكون بغداد دائماً؟

ــ   مرّة وصلنا إلى باب خراسان في دجلة وقد ضاق الوقت وقامت الصلاة وامتدت الصفوف إلى الشاطئ فصعدنا وفرشنا وصلينا. .. وأذكر وأنا أحبو وقد حملني أخ لي كان يلازمني ويحفظني في يوم جمعة لمشاهدة أناس في اجتماعهم وليصلي هو معهم فوقف عند الباب الجديد من شارع الرصافة والصفوف ممتدة في المسجد الجامع بالرصافة إلى هذا الموقع ومسافة ما بينهما كمسافة ما بين المسجد الجامع بالمدينة ودجلة.

في بيته عاد أبو مهديّ مجدّدا يصرّ على أن ينتقل المجريطيّ للإقامة عنده ويترك الدار التي منحها البغداديّ  له. فكّر المجريطيّ في ردّ ملائم  وهو يرى ضيق حجم بيت أبي مهديّ وكثرة أولاده، ونفوره هو شخصيّاً من بيته:

ــ   لا فرق بينك والبغداديّ، أنتما أخواي.

ــ   لكنّني دعوتك قبله، كما أنّك تحتاج إلى أكل وعناية.

ــ   يوفر لي سعيد كلّ شيء، كما لو أنّه خلق لأن يكون مساعداً لي. ما يؤرّقني يا أبا مهديّ الآن هو كيف أهتدي إلى هذه العائلة المنكودة !

ــ   هل العائلة هدفك الأوّل أم الرجل؟

ــ   هذان أمران متلازمان، هذا يقود إلى ذلك.

ــ   صدقت، ولكنّ موضوع البحث عن نسبه من طريق التوحيديّ لن يثمر شيئاً.

ــ   أنا أقول من المحتمل أن يسفر عن شيء، لأنّه أكّد لي ذلك حينما قال: ستعرفني حينما تقرأ أبا حيّان.

ــ   هل قال لك تقرأ أم تعرف؟

ــ   لم أعد واثقاً من الكلمة، ولكن لا فرق.

ــ   لا، يا أبا سليمان، الفرق بين الكلمتين عظيم. أن تقرأ وأن تعرف أمران مختلفان. ربّما هو يعني نفس ما حكيته لك، يعني أنّ حياته تشبه حياة التوحيديّ في مشقتها وعسرها.

ــ   ولماذا كان يردد كلمات التوحيديّ حرفيّا؟

ــ   لأنّه وقع في المأزق نفسه. حينما قابل التوحيديّ الوزيرَ ابنَ العميد، استخف به، وطلب منه أن يلزم داره وينسخ له الكتب، لذلك قال قولته تلك في لحظة غضب، وعاد مرة أخرى فكتب قائلاً: لو أنّه أراد أن يكون نسّاخاً ويمتهن حرفة الشؤم هذه لما جاء إلى وزير، لذهب مباشرة إلى سوق الورّاقين.

ــ   لكن نهايتيهما لم تكن واحدة.

ــ   وهل كان ابن زريق يتنبأ بنهايته؟  لم يمت التوحيديّ كمداً، لكنّه أحسّ بالمرارة ذاتها وهو يرى وزيراً مقتدراً يحقـّق شهرته من طريق تسليط الأضواء على نفسه، وفي الوقت نفسه يصرّ على اخمال ذكر أديب مجتهد، مشهود له بالعلم، ثمّ راح يدفع مريديه من سقط الكتاب ووضعائهم  والمتكسبين إلى الإغارة عليه ونهشه نهشاً، وسلط عليه كلّ ذي لسن، فتصدوه بالإساءة حتّى أخملوا ذكره، وجعلوه طريداً شريداً لا يأويه حجر ولا يسكن إلى مدر، ولم يذكره أحد من أهل العلم في كتاب ولا دمجوه في ضمن خطاب.

ــ   رغم هذا لم تكن نهايتيهما واحدة.

ــ   لكنّني أراها واحدة. ماذا كانت عاقبة ذلك كلّه؟ قام التوحيديّ في لحظة غضب بإحراق مؤلفاته كلّها. وصلت الحال به حدّاً يفوق الموت. فقد قتل وهو حيّ، حتّى أنّ الأديب ابن فارس، الذي توفي قبل تسعة أعوام ادّعى جهلاً وحقداً أنّ التوحيدىّ اختفى هارباً و"مات في الاستتار، وأراح الله منه".  أيّ موت يعادل هذا الموت ! لقد قتلوه حيّاً وأضاعوا أثره.

ــ   كيف ضاع أثره ونحن نتحدث عنه بعد عقدين من موته؟

ــ   وها أنت تفعل الأمر عينه مع ابن زريق، تريد الوصول إليه ولم يمض على وفاة الرجل سوى وقت قصير. أنا لا أتحدث عن أدبه وإنما عنه شخصيّا. الأدب الحيّ لا يموت؛ لكنّهم قتلوه في الحياة، وهذا أقسى وأمرّ. كان يصرخ قائلا: " أكفني مؤونة الغداء والعشاء، إلى متى الكسيرة اليابسة والبقيلة الذاوية، والقميص المرقـّع؟ إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟ أجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صد، أغثني فإنّني ملهوف، شهّرني فإنّني غفل، حلني فإنّني عاطل؛ قد أخلني السفر من بلد إلى بلد، وخذلني الوقوف على باب باب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب منّي...".

 هل يوجد موت أقسى من هذا؟ قل لي !

بدا انفعال أبي مهديّ عنيفاً، حتّى خيّل للمجريطيّ أنّ أبا مهديّ يتحدث عن نفسه، ويدافع عن حقـّه الشخصيّ في الحياة وفي الوجود، وحقـّه في أخذ موقعه بين صفوف الخاصّة، بدلا من أن يجلس خائفاً، حذراً، لا يقوى على شيء سوى إلقاء دروس مبسطة في فروع اللغة على طلاب مبتدئين من أجل لقمة العيش، ثم الانزواء في عتمة الصمت.

ــ   أنت تجعلني أيأس.

ــ   لا، أنا لا أدعو إلى هذا. سنبحث عنه عند التوحيديّ، لن نخسر شيئاً في البحث؛ لكنّني لا أقلل من مخاوف البغداديّ في هذا الشأن.

ــ   ربّما يكون بالغ في إظهار مخاوفه، خشية عليّ لا أكثر.

ــ   ربّما، ولكّنها مخاوف لها أساسها المعلوم. أنت لا تستطيع تقديرها، فهي قد تكون عابرة، لكنّها قد تغدو قاتلة، ككلّ شيء عندنا هنا.

ــ   ولكنّني لا أنشد سوى الدرس والاطلاع، أنا عابر سبيل.

ــ   هذا لا يغير من الأمر شيئاً، الموضوع لا يتعلق بك، بل بمن سيفسّر سلوكك.

ــ   وكيف سيُفسّر سلوكي؟

ــ   هذا يتوقف على أمور كثيرة، وربّما على مصادفات غير مقصودة قد تقلب كلّ شيء إلى ضدّه. الأمر خال من الضرر في مقاصده العامة، لكنّه قد...

ــ   حينما كنت بباب الطاق مع سعيد هممت أن أسأل الورّاقين عن مؤلفات التوحيديّ، ثم أحجمت حينما تذكرت أمرا قاله لي البغداديّ.

ــ   حسناً فعلت، وإيّاك أن تعاود.

ــ   أنت تخيفني يا أبا مهديّ ولا تفصح، هل تخفي عنّي شيئاً؟

ــ   بوضوح تام، ما تبحث عنه لا يتوفر إلاّ في مكتبة السيّد الكبير، كما أخبرتك. وهي مكتبة خاصّة، ليست تابعة للمدرسة، وليست متاحة للعامة. صحيح أنّ قيّم المدرسة يشرف عليها، لكنّه لا يتصرف بها إلاّ بأوامر عليا. لأنّها ليست مكتبة، هي أشبه ما تكون بدار للمحفوظات، فيها أمور كثيرة لا تعرض على العامة، يتم الاحتفاظ بها كمراجع وكمادة يستقي منها السيّد الكبير وعلماء الطائفة الكبار أفكارهم، ويبنون عليها تصوراتهم في محاججة الفرق والنحل المختلفة. والموضوع كما ترى يأخذ أحياناً مسحة سياسيّة وليس عقليّة أو بحثيّة فحسب. لذلك أتساءل كيف نستطيع الوصول؟ أيّة حجّة يمكن تقديمها لغرض الوصول؟ أن تذهب وتقول إنّك قادم من الأندلس للاطلاع على أبي حيّان سيجعلك في دائرة الشكّ مباشرة، لأّنك مطالب بتوضيح لماذا اخترت هذا الرجل.

ــ   أستطيع أن أقول أيّ شي.

ــ   لا يمكن، لأنّ بعض رسائل التوحيديّ مرفوضة من قبل السيّد والمراجع الكبار، خاصّة الرسالة المسماة "رواية السقيفة". أنا لم أقرأها، لكنّ شهرتها تملأ الآفاق. بعضهم يستخدمها كحجّة ضدّ الطائفة، وضدّ فكرة أحقيّة الأمام علي رضي الله عنه بالخلافة بعد الرسول، صلى الله عليه وسلّم.  لقد دخل الخلاف كلّ زاوية من زوايا الحياة حتّى الشعر، لذلك قال مهيار الديلمي:

حـــــملوها يـــوم(السقيفة) أوزا     را تخـــــف الجبال وهي ثقالُ

ــ   هذا خلاف فكريّ معروف، لا جديد فيه.

ــ   نعم، معروف كخلاف فكريّ. لكنّه لم يعد خلافاً جدليّاً وفكريّاً الآن. أصبح خلافا عمليّاً. القبول به أو رفضه يقرّر موقف المتخاصمين ليس من الفكر فحسب، بل من شؤون الحياة اليوميّة أيضاً.

ــ   كل صراع مذهبيّ له هذا البعد اليوميّ.

ــ   لكنّ هذا النوع من الصراع له بعد عمليّ مباشر. ألا تعرف أنّ بني بويه جعلوا من يوم الغدير يوم عيد، يحتفلون به لمناسبة تتويج الإمام عليّ رضي الله عنه كخليفة من قبل الرسول. كيف تقبل فكرة العيد وأنت تقبل بيعة السقيفة؟ المرء ما عاد يناقش، أصبح الموقف ممارسة على الأرض، يختلف الناس حولها بالملبس والمشاعر والسلوك. لقد ضرب الخلاف جذوره عميقا الآن. البويهيّون يعتمدون عليه كنوع من القوة الشعبيّة المساندة، فهم لن يتسامحوا بثلمه أو الاستخفاف به ولو شكليّاً. حينما ننكر هذا الخلاف فإننا نضحك على أنفسنا، وحينما ندّعي تجاهله، فإننا نكون مشاركين فيه عن قصد وتصميم.

ــ   لم أكن أدرك أنّ الأمر بهذا التعقيد.

ــ   وربّما أكثر تعقيداً، لو علمت أنّ السيّد الكبير ينظر إلى مصالح الطائفة ليس من خلال الوعظ والعقائد فحسب، وإنّما من خلال التحالف السياسيّ أيضاً. هذه سياسة، كما لمّحت لك، وليست مجرد درس علميّ أو خلاف مذهبيّ وفقهيّ. نحن في قلب الصراع السياسيّ. حينما يوظّف الخلاف المذهبيّ أرضيّاً يتحول إلى قضيّة تمسّ الحاكم، تمسّ السلطان، أي تمسّ السياسة.

ــ   لقد أغلقتها تماماً في وجهي يا أبا مهديّ. أراها مظلمة.

ــ   لا تيأس، سنجد طريقاً مأمونة، ولكن لا تتعجل. كلّ شيء يأتي في أوانه.

ــ   لكنّني لا أطيق صبراً.

ــ   إذاً، هذا أكثر من درس وأبعد من قصيدة شاعر يا أبا سليمان.

"نعم، صدقت،  أكثر من درس وأبعد من قصيدة شاعر. ألم تر ثوبي؟ ألم تلمح عمامتي البغداديّة؟ ألم تر أنني أسكن فيه وهو يسكن فيّ؟"، فكّر المجريطيّ، وهو يتجول في الأسواق على غير هدي، باحثاً عنها في كلّ وجه يراه، وفي كلّ طيف يمر أمام ناظريه. كيف تكون؟ ماذا تفعل الآن في هذه الساعة؟

                 * * *

عاد المجريطيّ إلى البيت مثل ثَمِلْ. كان ضائعاً كلحظة ضياعه وهو يقف حزيناً مضطرباً أمام ألفيرة، يفصل بينهما قبر ابن زريق. وهو في ملابسه البغداديّة يحسّ كما لو أنّه لم يترك خلفه قبراً لابن زريق، وإنّما خلّف وراءه قبره الشخصيّ. وها هو يأتي إلى هنا روحاً بلا جسد. بينه وبينها تقف بغداد كلّها مثل قبر، قبر ندي، لم تجفّ تربته بعد.

سَلـَت بضعَ صفحات من فوق الرفّ وحاول أن يلهي نفسه بالقراءة.

... قال عمر بن الخطاب إلى كعب الأحبار: اختر لي المنازل. قال فكتب يا أمير المؤمنين، أنه بلغنا أن الأشياء اجتمعت، فقال السخاءُ: أريد اليمن، فقال حسنُ الخلق: أنا معك؛ وقال الجفاءُ: أريد الحجاز، فقال الفقرُ: وأنا معك؛ وقال البأسُ: أريد الشام، فقال السيفُ: وأنا معك؛ وقال العلمُ: أريد العراق، فقال العقلُ: وأنا معك؛ وقال الغنى: أريد مصر، فقال الذلُ: وأنا معك؛ فاختر لنفسك، قال فلما ورد الكتاب على عمر قال فالعراق إذاً. أخبرنا محمد بن الحسين القطان قال أنبأ عبد الله بن جعفر النحوي قال ثنا يعقوب بن سفيان قال ثنا قبيصة قال ثنا سفيان عن الأعمش عن شمر بن عطية عن رجل عن عمر قال: أهل العراق كنز الإيمان وجمجمة العرب، وهم رمح الله عز وجل يحرزون ثغورهم ويمدون الأمصار.

سافرت الآفاق ودخلت البلدان من حد سمرقند إلى القيروان ومن سرنديب إلى بلد الروم فما وجدت بلداً أفضل ولا أطيب من بغداد. قال وكان سبكتكين المعروف بالحاجب الكبير، حاجب معز الدولة البويهي، الذي خلع عليه الخليفة المستكفي  لقب أمير المؤمنين حينما استولى على بغداد وأسس مع أخوته حكم بني بويه، وكان سبكتكين الجد، مملوكاً لقائد الجيوش السامانية في خراسان، وكان آنساً بي فقال لي يوماً: قد سافرت الأسفار الطويلة فأي بلد وجدت أطيب وأفضل؟ فقلت له: أيها الحاجب إذا خرجت من العراق فالدنيا كلها رستاق.

لم يستطع المجريطيّ الاستمرار في القراءة. كانت صورتها تهاجم خياله، تأتي إليه، تظهر بين السطور، يراها في منعطفات الأزقـّة، في الأسواق، في الشبابيك. كانت بلا وجه، كانت امرأة بمليون وجه.

وضع رقعة ابن زريق على وجهه وراح ينظر إلى حروفها المعتمة والى فرجات الضوء الداكنة، التي تتخللها، فيراها مجدداً تسير عابرة من حرف إلى حرف، تقفز بين الكلمات كنقطة ضوء. أهو خبل الهيام؟ قالت ألفيرة، فأجابها وهو ينظر إلى الحروف المعتمة: نعم يا ألفيرة، نعم، خبل الهيام.

دُقّ الباب. استيقظ المجريطيّ من غفوته، فوجد أبا مهديّ يقف على عتبة الباب.

ــ   أتيتك بالحلّ.

ــ   أين هو؟

أجاب أبو مهديّ وهو يشير إلى رأسه:

ــ   الحلّ هنا يا أبا سليمان، هنا.

ــ   عجّل به.

ــ   اسمعني جيداً. أنت قلت لي إنّك تهتمّ بالزراعة، الفلاحة كما تسمونها، وإنّك اقتنيت كتاب ابن باسيل، لأنّك قرأت ترجمته الأندلسيّة.

ــ   نعم، أين الحلّ؟

ــ   ربما سنبدأ من هنا، من ابن باسيل.

ــ   كيف؟

ــ   ابن باسيل يقودنا إلى أبي حنيفة الدينوريّ، وهذا يقودنا إلى التوحيديّ.

ــ   كيف؟

ــ   أنا أشرح لك. كتب التوحيديّ عن الدينوريّ بإعجاب، والدينوريّ كتب بإنصاف عن مقتل الإمامين علي والحسين رضي الله عنهما في كتابه (الأخبار الطوال)، وهو مصدر ثقة عند السيّد الكبير.

ــ   لا أكاد أفهم ما الرابط بين كل هذا؟ التوحيديّ مغضوب عليه ومحظور، لكنّه يمتدح الدينوريّ المقبول.

ــ   لا تهتمّ بالتفاصيل، المهم الأسباب وحلقات الربط.

ــ   وما صلة الدينوريّ بابن باسيل؟

ــ   صلته عميقة، لأنّه مؤلف كتاب (النبات والشجر). هذا يقود إلى ذلك، وذلك يقود إلى تلك. وهكذا نصل من دون أن نثير شكوكاً، ومن دون أن...

ضحك المجريطيّ مقاطعاً:

ــ   هذا ليس حلاًّ يا أبا مهديّ، هذه متاهة. هذه دورة طويلة، طويلة، خالية من البداية والنهاية. المشكلة هي كيف أصل إلى المكتبة الخاصّة؟

ــ   الحلّ هنا، كما قلت لك. الحلّ هنا.

أشار أبو سليمان إلى رأسه الكبير وأضاف:

ــ   السيّد الكبير له مداخل عديدة، لا نستطيع أن نصلها جميعها. لكنّ مدخلين أساسيين يمكن لنا أن ننفذ منهما. الأوّل هو الدنيا، والثاني هو الآخرة.

ــ   وكيف نصل إلى دنياه والى آخرته؟

ــ   الدنيا يصلون إليها  بالمال، أليس كذلك؟ والآخرة من طريق حبّ الذات.

ــ   وهل هو كذلك؟

ــ   لا أعلم، خصومه ينعتونه بذلك، وأنصاره يدّعون أنّه أكمل رجال عصره.

ــ   وأنت؟ ماذا ترى؟

ــ   بعض خصومه يشيعون عنه  أنّ فخر الملك، وزير بهاء الدولة البويهي، الذي بتحريض منه تم خلع الخليفة الطائع، يدّعي أنّ السيّد أرسل له رقعةً طويلة يرجوه فيها أن يعفيه من ضريبة ماليّة زهيدة قدرها دينار واحد !

ــ   وماذا يعني هذا لك؟

ــ   أنا لا يعنيني هذا كلّه، ما يعنيني أنّه رجل ثري، عظيم الثراء. لذلك فهو لا يرفض هديّة نفيسة، ذات قيمة كبيرة من شخص يقدمها إليه بحسن نيّة. وثانياً هو رجل على حظّ عظيم من العلم، لكنّه محدود الموهبة كشاعر. ولهذا هو بحكم وضعه هذا يحتاج إلى المديح والتقريظ والى شهادة رجل مثلك قادم من أقاصي الأرض. هذه الدنيا وتلك الآخرة. ما رأيك؟

 ــ   ولكنّ هذا تخمين، يا أبا سليمان.

ــ   ربّما يبالغ الناس في حبّه للمال وقلّة سخائه، لكنّه معروف بحبّ التجارة، فهو يملك ثمانين قرية بين بغداد وكربلاء. كما أنّه معروف بنفوره من كبار الموهوبين، ممن يبزونه موهبة، كأبي الطيب المتنبي مثلاً؛ حتّى أنه لا يستعذب الإطراء الذي يحظى به أخوه، رحمه الله، الذي هو أشعر منه وأعلى مرتبة في الطائفة. فعلى الرغم من أن المرحوم هو جامع نصوص نهج البلاغة، لم يزل السيّد لا يفصح للناس جهراً حقيقة جامعها، لكي يختلط اسمه باسم أخيه عمداً. هذا لا يُخفى على أحد، لكنّ هذا لا يقلل من علمه ومنزلته ونسبه ومكانته الرفيعة، فهو صاحب كرسي الكلام، لذلك لُقب بـ  "وحيد العصر".

ــ   وكيف نصل إلى هذين الدربين؟

ــ   هذا مرهون بك، بشطارتك. أنت أخبرتني أنّك جلبت معك هدايا ثمينة تليق بالملوك.

ــ   نعم.

ــ   هذه حلّت المعضلة الأولى. أما الثانية فستحلّها أنت بنفسك اليوم، وربّما الآن حينما تذهب معي لأريك شيئاً من معالم بغداد، التي لم تكتب في الكتب بعد.

ــ   ماذا لديك؟

ــ   سنذهب إلى جامع المنصور، هناك ستتعرف على أكثر شعراء بغداد شهرة، مهيار الديلميّ. مهيار بن مرزويه الديلميّ البغداديّ. هذا مفتاحنا الثاني إلى قلب السيّد. لو كسبنا ودّه، وكسبه أمر ليس بالصعب، ستكون في حضرة السيّد قريباً.  مهيار يأتي ليلقي قصائده في الجامع أيام الجمعات. وهو ككلّ الشعراء يحب الإطراء. وحينما يعرف أنّك أندلسيّ مهتمّ به وبشعره، سينجذب إليك فوراً. وحينما يعرف أنّك مولّد سيزداد إعجابه بك، لأنّه من أصل فارسي، وحينما يعرف أنّك مسلم سيجد فيك عصبة يتقوى بها، فهو حديث الإسلام، أسلم على يد الشريف الرضي قبل ستة وعشرين عام فحسب، وقبلها كان مجوسيّاً. وحينما تهديه شيئاً ثميناً مما معك، سيتبسط معك ويكون طوع بنانك، فتكسب ودّه، وحينئذ تستطيع أن تخبره بأنّك جئت إلى الحجّ وعزمت على زيارة دار السلام حبّاً بها، وليس من اللائق أن تعود من دون أن تقدم هديّةّ للسيّد الكبير، الذي هو محطّ احترامك لعلمه ومكانته وأدبه، إلى آخر القصة. مهيار أقرب الأدباء اليه.

ــ   أنت داهية الدواهي يا أبا مهدي ! ولكن، قل لي: ألا يشعر مهيار بالحرج لو ناداه الناس بالديلميّ؟

ــ   الحرج ! مهيار يفتخر بهذا الأصل. ولا تنس أنّ أم كبير الأشراف الطالبيين ديلميّة أيضاً، وابنة أحد ملوكهم.

ــ   أنت بارع يا أبا مهديّ، ولكن، هذه رحلة طويلة.

ــ   هل تملك طريقاً أقصر؟ ولا تنس أنّك ستكون في محفل أدب وثقافة وعلم، وهي طريق لا تتم إلاّ بوسطاء، لكنّها طريق لا خسارة فيها، لأنّك ستمضي وقتاً ممتعاً وتتعرف على رجال لا تجود بمثلهم الأرض كل يوم.

ــ   منذ أن وطئت قدماي أرض بغداد وأنا أشعر أنّ أولها سعد عشته بكل جوارحي، وآخرها وعد، وعد لا بدّ أن يتحقق.

 

(6)

حينما وصلا جامع المنصور كان مهيار يقرأ آخر أبياته. لم يكن يقرأ شعراً فحسب، كان يستعرض خيلاءه، ويرشّ على الحاضرين مشاعر الزهو، أكثر مما كانت كلماته ذاتها قادرة على التعبير عن نفسها. كان كمن يساعد كلماته على تحميل نفسها أحمالاً لا تقوى عليها، يحثها ويشجعها بثقته العالية على النهوض. كان حسن الملبس، في الخمسين من عمره، لكنّه بدا أصغر سناً مقارنة بأبي مهديّ. تعالى المديح من بعض المتطفلين فتعاظمت نشوة مهيار وراح يقول مفاخراً:

ــ   أنا لا أفخر بهذا حسب، أنا أفخر بما هو أهم وأثمن. أنا الأديب الوحيد على سطح البسيطة الذي لم يمجّد حاكماً.

ــ   صادق كبير وكذّاب أكبر !

همس أبو مهديّ، وأضاف:

ــ   صادق لأنّه حقـّاً لم يمدح خليفة عباسيّا، وكاذب لأنّه حينما صعد جلال الدولة البويهيّ من البصرة إلى بغداد عند مبايعته بالملك، كان هو والشريف المرتضى في استقباله منشدين. لقد رأيتهما بعينيّ وسمعتهما بأذنيّ يهتفان لأمير الأمراء !

قال مهيار لجلسائه:

ــ   استودعكم الله، سأراكم الجمعة القادمة هنا في مجلسنا هذا، لأقرأ بعضاً مما تجود به القريحة.

ــ   سأتولى أمره !

همس أبو مهديّ ومضى في إثره مسرعاً. لحق به، عانقه وراح يسارره، ثم أقبل بصحبته.  وقف مهيار أمام المجريطيّ وقال:

ــ   خلتك شيخاً يا أندلسيّ !

ــ   وأنا خلتك أفتى وأنا أقرأ رقـّة شعرك وعذوبته، لكأنّك أندلسيّ مثلي !

ــ   قل: كأنّك لستَ بدويّا، مثل هذا الشيخ الأعرابيّ الهرم.

نطق كلماته وهو يشير إلى أبي مهديّ، ثم أضاف وهو يصافح المجريطيّ، ويتأمل ثيابه الأندلسيّة الفاخرة:

ــ   أعجبني فيك أنّك لم تتبغدد، ولم تزل تحتفظ بزيّك الأندلسيّ الجميل.

رد المجريطيّ بود:

ــ   تبغددت يوماً وفشلت، أما أنت فأراك قد تبغددت تماماً.

ــ   نعم، تبغددت، لكنّني لم ولن أتعرّق. لا تزعل من صراحتي يا أبا مهديّ. بالمناسبة كيف عرفت هذا الرجل الذي لا تكاد حتّى زوجته تعرفه إذا التقته خارج البيت؟

ــ   جمعتنا ألفة الصحراء.

ــ   في هذه أنت على حقّ. الصحراء! معبده المقدّس! لو أنّه يخرج قيد أنمله من صحرائه هذه لوجد أنّ العالم أجمل وأرحب مما يظنّ، لكنّه عبد من عبيد الصحراء الآبدين.

ــ   الصحراء التي تعنيها يا مهيار الديلميّ أنجبت رسولنا محمّداً صلّى الله عليه وسلّم، وأنجبت إمامنا عليّا وأبناءه المعصومين، رضيّ الله عنهم أجمعين.

أحسّ مهيار بأنّه أُخِذ على حين غرّة، فمال بالحديث جانباً، وقال وهو يهزّ ساعد أبي مهديّ بودّ كبير:

ــ   أنتم تفتخرون بكرمكم، لكنّي أبزّكم في هذا أيضاً.

فردّ عليه أبو مهديّ:

ــ   أرنا، لكي نصدّق !

ــ   نذهب إلى بيتي إذاً. سيتذوق المجريطيّ بعضاً من طعام بغداد، الذي أنا واثق أنّك حرمته منه واكتفيت بإطعامه وحشوه بأكلتكم المفضّلة: البلاغة.

ــ   أسمعت يا مجريطيّ ! هذه أولى علامات الانسحاب، ستبدأ سياستهم.

ــ   أنا عند كلمتي، وأنت بين أهلك يا أندلسيّ. انتبه يا أبا مهديّ، أنا قلت له أنت ولم أقل أنتم.

ــ   وهذا نصف الانسحاب. قلت لك يا مجريطيّ ستبدأ السياسة تفعل فعلها.

ــ   السياسة طبع فينا، ألا تذكر قول التوحيديّ، أبي حيّان...

"أبو حيّان ! على لسان مهيار !" خفق قلب المجريطيّ، فقال من دون وعي وهو يحدّق وجه أبي مهديّ:

ــ   وماذا قال؟

ردّ مهيار:

ــ   قال ما معناه، وهو يتحدث عن صفات أهل الأرض: الأمم تشترك في الفطرة الواحدة، وتأتي بعد ذلك أوجه الاختلاف. اليونان يميّزهم الفكر، والهند يميّزهم الوهم، ويعني به الخيال، والعرب تميّزهم الفصاحة، والترك الشجاعة، أمّا الفرس فتميّزهم السياسة.

ــ   إذاً، سنتعشى اليوم  سياسة.

ضحك مهيار ضحكة عالية وقال:

ــ   أنت لي بالمرصاد يا أبا مهديّ، لا تفوّت لي كلمة. اسمعا، أنا أتكلم جادّا، أنا اليوم حرّ طليق، ما رأيكما لو ترافقاني؟ سأكون مسروراً لو شرّفتماني في بيتي. مسكني ليس بعيداً من هنا، في درب رياح، أنت تعرف بيتي يا أبا مهديّ، أليس كذلك؟

ــ   لم أحضر عندك منذ زمن طويل.

ــ   لأنّك متخاصم حتّى مع نفسك.

نطق ذلك وراح يضحك لوحده، ثم أضاف:

ــ    لا يشبهك في التشاؤم سوى أعمى المعرّة.

عقبّ أبو مهديّ متسائلا:

ــ   هل سمعت به يا أبا سليمان؟ إنّه شاعر فيلسوف.

 فردّ مهيار:

ــ   الشعر شعر والفلسفة فلسفة، يا أبا مهديّ.

فكّر مهيار قليلاً ثم أضاف، كما لو أنّه تذكّر شيئاً:

ــ   لكنّه رجل لا غبار عليه، وهو شاعر كبير على أيّة حال.

كان مهيار كريماً حقاً. أظهر قدراً عالياً من الأناقة والذوق في عرض وجبة العشاء المتواضعة، ولكن حسنة الترتيب والتزويق. أعجب المجريطيّ بطريقة طهي الأرز وجودة طعمه، وكثرة ما يوضع فوقه من أصناف الجوز والتوابل اللطيفة الهادئة. أمام حسن الضيافة وجمال ترتيب المائدة اضطرّ أبو مهديّ إلى تعديل فكرة المجريطيّ عن صدق كرم مهيار، فأضاف إليها  عبارة: هذا اليوم فقط. وحينما ابتعد مهيار، لقضاء حاجة في الداخل، عجّل المجريطيّ قائلا بصوت خفيض:

ــ   هل سمعت؟  تحدّث عن التوحيديّ، ربما فاتت الفرصة منّا، ربما نكون قد بالغنا في...

قاطعه أبا مهديّ:

ــ   لا، لم نبالغ. مهيار وأمثاله يأخذون ما يريدون حتّى من أفواه الشياطين.

ــ   ماذا تعني؟

ــ   أعني ما نحن فيه: السياسة، التي يفتخر بها أمامك باعتبارها خصيصة قوميّة، لكنّه ينطقها بلسان التوحيديّ، لكي تكون أبلغ.

ــ   ما الخطأ في قول التوحيديّ؟

ــ   لا خطأ فيه من حيث مطابقته لواقع الحال، لكنّه لا يطابق مطلق الأحوال.

ــ   ماذا تعني؟

دخل مهيار فسكتا، أحسّ أنّهما يدبّران أمراً فقال:

ــ   لماذا سكتّما؟

 ردّ أبو مهديّ ضاحكاً:

ــ   لكي لا تسمعنا.

خفق قلب المجريطيّ، وتعاظم قلقه حينما واصل مهيار الكلام بإلحاح:

ــ   وما الذي تخفيانه عنّي ولا تريداني أن أسمعه؟

ردّ أبو مهديّ:

ــ   قال المجريطيّ عنك: إنّك كريم حقـّاً.

ــ   وما السرّ في هذا؟

ــ   لأننّي أكملت عبارته الناقصة.

ــ   وماذا قلت؟

ــ   قلت: ليوم واحد فقط في العام.

ضحكوا بصفاء. أحسّ المجريطيّ أنّ مهيارَ، على الرغم من غطرسته وحبه لنفسه، يملك صدقاً فريداً لم يره عند كثيرين. اعتداد بالنفس، ورقّـّة، وفطنة. لكنّه كان يخفي قلقاً كبيراً، ويحسب ألف حساب لمن هم أكثر منه تجذراً في هذه الأرض، وغالباً ما  تضطرب مقاييسه معهم. فكّر المجريطيّ في أن يستثمر لحظة الألفة هذه فقال:

ــ   يا أبا الحسن، لم تعجبني موهبتك فحسب، بل أعجبني فيك أنّك شغلت الآخرين بك، على الرغم من أنّك لم تحاول مثل كثيرين التنكّر لأصلك الفارسيّ.

ــ   أنا لا اكتفي بعدم التنكر، أنا أجاهر وأفاخر بهذا، وأذكر حتّى المجوس منهم.

ردّ أبو مهديّ قائلا:

ــ   طبعاً، ومن غيرك يستطيع أن يقول:

لا تخـالي  نسـباً  يـخـفـضـني         أنا  من   يرضـيك  عند  النـسـب

قومي  استولوا  على الدهر   فتى        ومشوا    فوق   الـرؤوس   الحقـب

عـمـموا بالشـمـس هاماتهم        وبـنـوا أبـيـاتــهــم بالشـهب

وأبـي كـسـرى عـلى ـإيوانـه        أيـن  في  النـاس  أب  مثل   أبي؟

سـورة الملـك الــقدامى وعلى         شـرف  الإســلام  لي   والأدب

قـد  قبسـت  المجد من خير أب          وقـبست   الديـن   من  خـير  نبي

وضممت الفـخر من أطرافـه           سـؤدد   الـفرس    ودين   الـعرب

انتشى مهيار زهواً وقال:

ــ   أحسنت وأجدت يا أبا مهديّ، وأنت يا مجريطيّ، قل لي: من يجرؤ على قول مثل هذا؟

ــ   حينما اجتزت المغرب، في طريقي إلى الحجاز، سمعت الناس هناك يتداولون شعر ابن رشيق، أبي علي حسن المسيليّ القيروانيّ، ومما قاله في الدفاع عن أصله الروميّ:

       أما أبي فرشيق لست أنكره         قل لي أبوك وصوره من الخشب

ــ   وهل يجرؤ مولّدوكم في الأندلس على مثل قولي ؟

ــ   مولّدو الأندلس يسعون إلى وحدة ربّما لا تشبه وحدتكم يا أبا الحسن.

ــ   إلى ماذا يسعون؟

ــ   يسعون إلى عصبيّة تقوم على وحدة المصالح.

ــ   وأنا أيضاً أسعى إلى هذا. لكنّني لا أتخلى عن أهلي وعن نسبي. فهذا الدين السمح منحنا الحقّ في أن نكون أخوة، بصرف النظر عن منشئنا وأصلنا. أليس كذلك؟

ــ   ما يصحّ هنا، ربّما لا يصحّ هناك.

ــ   أنا لا أفهمك.

ــ   نحن نتكلم من موقعين مختلفين. الأرض التي أنت عليها الآن ليست أرضك، لذلك تستطيع أن تقول هذا. لكنّ الأندلس أرضي قبل أن تكون أرض جند الفتح الأماجد، لذلك لا يريد المولّدون أن يُشعروا الآخرين بأنّهم غرباء، ولا يريدون أن يذكّروهم بأصولهم الأجنبيّة. لهذا نسعى إلى وحدة جديدة.

ــ   وجهة نظر جديرة بالسماع، لكنّني لا أفهمها. لماذا لا تتحدّث أنت يا أبا مهديّ؟

ــ   أنا أفضل أن أكون صامتاً.

ــ   لا، أنت تخاف أن تقول شيئاً يغضبني، فتخسر ما تبقـّى من العشاء. ولكن قل، فأنا كما تعرف، لا أخشى سماع ما يخالف وجهة نظري.

ــ   أسمعت يا أندلسيّ، يهددنا بعشائه، ألم أقل لك منذ البدء !

ضحكوا مجدداً. من أين يأتي أبو مهديّ بهذه الدعابة كلّها، وهو المحزون المكروب دائماً؟ أيشعر الآن أنّه في موضعه فعادت إليه نفسه؟ عاد إليه ودّه مع ذاته وصلحه مع العالم الذي تنكر له وجافاه. لكنّ المجريطيّ فكّر بقلق في مهيار، في عنجهيته التي تطفو على السطح كلّما خبت نارها، والتي ربّما ستدفع بالأمور إلى وجهة أخرى غير مستحبّة فتفسد خططهم، لذلك قام مسرعاً، وقال:

ــ   هذا منديل من الحرير، مطرّز بالذهب، من أشغال قرطبة، ولا أظن أنّه يليق بأحد سوى مهيار.

ــ   أنت تفسدني يا مجريطيّ.

ــ   لا أفسد عظيماً بما لا قيمة له. أنا رجل في طريقي إلى بلادي، ولا بدّ أن أترك هنا أثراً على قدر مشقـّة رحلتي، على الرغم من أنّني أحسّ بضآلة الهبة أمام عظمة الموهوب.

ــ   والله، لو أنك اكتفيت بهذه الكلمات حسب، لوفيتني حقيّ.

ــ   ليس لعاقل أن يوفي شعراً رائع السبك كشعر مهيار البغداديّ حقّه.

ــ   وهل أعجبتك بغداد؟

ــ   هذا سؤال لا يقال لأندلسيّ يا أبا الحسن.

نطق المجريطيّ وهو يفكّر في جواب يثير  به فضول مهيار، ويهيّج عواطفه أكثر. تذكر أبيات الهمداني فأضاف:

      فــدى لـك يا بغـداد كل قـبيلة                من  الأرض  حتى  خطتي   وديـاريا

      فقد طفت في شرق البلاد   وغربها                وسـيرت  رحـلى   بـيـنها  وركابـيا

      فلـم أر  فيها  مثـل  بغداد  منزلاً                ولم أر  فـيها مــثـل  دجـلة  واديا

      ولا مثل أهـلـيها أرق شمـائـلاً                 وأعذب   ألـفاظـاً  وأحلى    معانيا

      وكـم قـائل لـو كان ودك صادقاً                  لـبغـداد  لـم  ترحـل  فكان جوابيا

        يقيم  الرجال الأغنياء بأرضـهم                 وترمى  النوي   بالمـقترين   المراميا

عقب أبو مهديّ في الحال:

ــ   أجاد الهمدانيّ. لم أجد عشقاً لبغداد يفوق عشقه.

 تذكّر المجريطيّ عبارة البغداديّ: العراق سرّة الدنيا، وهم بأن ينطقها، لكنه رأى وجه مهيار يفارق بعض بشره، عند سماع أبيات الهمداني، فقال:

ــ   بغداد سرّة الدنيا !

هتف مهيار مغتبطاً، كما لو أنّه يريد أن يزيح ثقل القصيدة الذي جثم على المكان:

ــ   أهذا قولك؟

ــ   لا، سمعته يقال، ولا أذكر أين.

ــ   سرّة الدنيا ! ياله من تشبيه ! هل لديك شيء يضاف إلى هذا القول الجميل يا أبا مهديّ؟

ــ   بعد هذا القول لا يوجد قول. ماذا تريد يا مجريطيّ أكثر من هذا ! أمنيتان من أمانيك الثلاث قد تحققتا: زيارة بغداد، ولقاء شاعرها مهيار.

قال مهيار:

ــ   والثالثة؟

ــ   الثالثة سيخبرنا بها حينما تتحقـّق.

ــ   أهي عصيّة إلى هذا الحدّ؟

ــ   لا يا أبا الحسن، هي سهلة، على غاية السهولة كفعل، لكنّها عظيمة المعنى وسامية كهدف، لذلك ادّخرتها كخاتمة لرحلتي.

ــ   بالله عليكما، شوقتماني، وأنا رجل عظيم الفضول. أبو مهديّ يعرف دائي هذا جيداً.

ــ   ربّما لن تكتمل صورة بغداد في عين رجل مثلي إذا لم يتشرف بلقاء سيّد أشراف المدينة وأديبها وحجتها، وحيد عصره.

ــ   صدقت في هذا أيضا، فإذا كانت بغداد سرّة الدنيا، كما تقول، فهو سرّة بغداد.

ــ   سيكون لي شرف عظيم لو أنّني استطعت أن أقدم له بعض ما حملته معي من قرطبة، لكي تكون حجّتي إلى بغداد مكتملة.

ــ   وهل تعرف الطريق اليه؟

ــ   ماذا تعني يا أبا الحسن؟ ومن لا يعرف الطريق إليه !

ــ   أعني هل تعرف من أين تمرّ الطريق اليه؟

ــ   لا.

ــ   اخبره يا أبا مهديّ، اخبره !

تذكّر أبو مهديّ قول أبي القاسم حينما سمع غلو مهيار المذهبيّ فقال له: "أنت تنتقل في النار من زاوية إلى أخرى"، معرضا بانتقاله من المجوسية إلى الإسلام، ثمّ إلى طائفيّة سافرة.  لكنّ أبا مهديّ كبت مشاعره، وردّ قائلا:

ــ   يا أبا سليمان ! أبو الحسن لا يرمي كلماته في الريح عبثاً، هو يعني ما يقول. مهيار رجل الملمّات، وليس رجل الكلمات فحسب.

ــ   أحسنت يا أبا مهديّ، الطريق يا مجريطيّ إلى سرّة بغداد تمرّ من هنا.

نطق الكلمات وأشار إلى صدره، ثم أضاف بفخر:

ــ   من هنا. اختر، متى تشاء، تجد نفسك في حضرته العليـّة.

خرجوا يسبقهم أبو مهديّ، وحينما انفرد المجريطيّ بمهيار قال له، وهو يسعى إلى الاستزادة في إطرائه من أجل تأكيد وتثبيت ما سمعه من وعود:

ــ   يا أبا الحسن، ستكون مثل علم لو وطئت رجلاك أرض الأندلس !

نظر مهيار إليه بتعال وغطرسة وقال:

ــ   قدما مهيار لا تطآن أرضا دنّسها بنو أمية.

رأى مهيار وجه المجريطيّ يزول منه البشر، فسارع يقول:

ــ   كنت أظنّك تشاطرني المشاعر ذاتها.

ــ   لا عليك.

ــ   لا بدّ أن تعرف أنّني أحبّ هذه الأرض حتّى الغلو. هكذا أنا.

أحسّ المجريطيّ أنّه أفسد كلّ شيء بعبارته المتهورة الزائدة، ولم يعد يعرف ماذا يجيب وكيف يخرج من هذا المأزق؛ لكنّ مهيارَ عاجله قائلا، وهو يبتسم بفخر:

ــ   غداً،لن يمر يوم غد، إلاّ وأنت بين يدي السيّد الكبير يا أبا سليمان، هذا وعد.

نطق ذلك وعانق المجريطيّ بحرارة، بينما ظل أبو مهديّ ينظر إليهما من دون أن يعي شيئاً.

***

لم يستطع المجريطيّ أن يصدق أن الأشياء يمكن لها أن تتسارع إلى هذا الحدّ، وأن القيود والظنون والشكوك التي يصنعها الخيال يمكن لها أن تفسد فطرة الإنسان الطيّبة وتشوّه فكره، فتغدو مثل غيمة سوداء تحجب عنه شمس الحقيقة. كلّ شيء تمّ بيسر وودّ، على الرغم من اختلاف الطباع والأفكار والأهواء والمصالح. كلّ الظنون والخطط والاحتمالات وإعمال العقل واستخدام البصيرة والذكاء والحيلة ذهبت أدراج الرياح، كنستها بلمح البصر يد الواقع الصادقة البسيطة، يد الحقيقة. ما أروع بغداد وهي ترفل بهذا القدر العظيم من السلاسة والاستقامة والصفاء والبهاء !

لم ينم المجريطيّ. فالغد أضحى أبعد من أبعد زمان. حاول أن ينام لكنّ النوم أبى أن يقترب من جفنيه.

تذكّر وجه مهيار الغاضب وهو يقول:"انّني أحبّ هذه الأرض حتّى الغلو. هكذا أنا."

وفكّر : "هل أفسدت جملتي الرعناء الأخيرة كلّ ما حققته؟"

أزاح الفكرة من رأسه، لكنّ وجه مهيار لم يفارقه. أضحى  رقيباً خفيّاً يلبد في أعماقه ويقوم بمهمة تدقيق كلماته وتمحيصها: سرّة الدنيا، وسرّة بغداد. فكّر المجريطيّ: "تحريف العبارة حقق وقعه، ولكن ماذا كان يحدث لو أنّ مهيارَ على علم بقائلها أو بأصلها؟ وهل يستسيغها مهيار لو نُطقت على حقيقتها:العراق سرّة الدنيا!"

قرّر المجريطيّ أن يوقف فوراً هذه الأفكار المكدّرة، المقلقة. تناول الرقاع التي حصل عليها من البغداديّ وراح يقرأ.

والإقليم الرابع إقليم بابل وهو الممثل بالدائرة الوسطى التي اكتنفتها سائر الدوائر وهو أوسط الأقاليم وأعمرها وفيه جزيرة العرب وفيه العراق الذي هو سرة الدنيا.

إذا كان العراق سرّة الدنيا، فماذا تكون بغداد؟ وإذا كان السيّد الكبير سرّة بغداد، فماذا تكون هي من بغداد؟

قال أبو مهديّ: لا خطأ فيه من حيث مطابقته لواقع الحال، لكنّه لا يطابق مطلق الأحوال. ماذا تعني يا أبا مهديّ؟ نعم اليونان أهل فكر، والأتراك، ومعهم الصقالبة والمماليك بأنواعهم هم جند المرحلة، والفرس دهاة السياسة هنا في المشرق وحول أرض السواد، أما العرب فلم تتبق لهم سوى الفصاحة. هذا واقع الحال. ولكن لماذا لا يطابق مطلق الأحوال يا أبا مهديّ، ألأنّك سواديّ من أصل عربيّ؟

عاد يقرأ في الرقعة:

قال سمعت ابن مجاهد المقرئ إمام الزمان قال رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت له ما فعل الله بك فقال لي دعني مما فعل الله بي من أقام ببغداد على السنة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة.

وقال حدثنا أبو ذكوان قال حدثني من سمع الشافعي يقول ما دخلت بلداً قط إلاّ عددته سفراً إلاّ بغداد فاني حين دخلتها عددتها وطنا.

قال أبو الحسين. .. تركنا ذكر أشياء كثيرة من مناقبها التي افردها الله بها دون سائر الدنيا شرقاً وغرباً وبين ذلك من الأخلاق الكريمة والسجايا المرضية والمياه العذبة الغدقة والفواكه الكثيرة الدمثة والأحوال الجميلة والحذق في كل صنعة والجمع لكل حاجة والأمن من ظهور البدع والاغتباط بكثرة العلماء والمتعلمين والفقهاء والمتفقهين ورؤساء المتكلمين وسادة الحساب والنحوية ومجيدي الشعراء ورواة الأخبار والأنساب وفنون الآداب وحضور كل طرفة واجتماع ثمار الأزمنة في زمن واحد لا يوجد ذلك في بلد من مدن الدنيا إلاّ بها سيما زمن الخريف ثم إن ضاق مسكن بساكن وجد خيراً منه وان لاح له مكان أحب إليه من مكانه لم يتعذر عليه النقلة إليه من أي جانب من جانبيه أراده ومن أي طرف من أطرافه خف عليه ومتى هرب أحد من خصمه وجد من يستره في قرب أو بعد وان آثر أن يستبدل داراً بدار أو سكة بسكة أو شارعاً بشارع أو زقاقاً بزقاق فغير ذلك من التبديل اتسع له الامكان في ذلك حسب الحالة والوقت ثم عيون التجار المجهزين والسلاطين المعظمين وأهل البيوتات المبجلين في ناحية ناحية تنبعث الخيرات بهم الى الذين هم في الحال دونهم غير منقطع ذلك ولا مفقود فهى من خزائن الله العظام التي لا يقف على حقيقتها إلاّ هو وحده ثم هي مع ذلك منصورة محبورة كلما ظن عدو الإسلام انه فائز باستئصال أهلها كبته الله وكبه لمنخريه واستؤصلت قدرته...

وقبل أن يأخذه النوم راح المجريطيّ يقرأ صفحة جديدة، ولكن من دون أن يركز تفكيره في المعاني، فقد أخذ التعب والنوم يسرقان أبصاره من فوق الحروف:

...قال حدثنا خضر بن اليسع البصري عن مسعدة بن اليسع عن أبي يعقوب الإسرائيلي وكان قد قرأ الكتب انه قيل له: ما بال بغداد لا تكاد ترى فيها إلاّ مستعجلاً؟ فقال: لأنها قطعة من بابل، فهي تبلبل بأهلها. واللفظ لحديث هارون قال أبو الحسين بن المنادي، فنظرنا ما في كلام هذا الإسرائيلي فإذا هو كلام لا يصح في المعتبر، وذلك لان الناس في سائر البلدان يبادرون في حوائجهم غدوا ويبادرون الانقلاب إلى أهليهم رواحاً لان طرفي النهار يوجبان ذلك ضرورة؛ فبابل كغيرها من البلدان الآهلة بلا فرق.

 

(7)

قبل أن يدخل المجريطيّ دار العلوم ناداه شخص مجهول باسمه، ثمّ تنحى به جانباً وأخذه بلطف إلى غرفة قيّم المدرسة، من دون أن يترك له فرصة للسلام على أبي مهديّ أو إخباره بوصوله.  كان قيّم المدرسة في انتظاره.

ــ   هل أنت جاهز؟

سأله قيّم المدرسة، فاختلطت الأمور على المجريطيّ وقال:

ــ   جاهز ! لأيّ شيء تريدني أن أكون جاهزاً؟

قام الرجل من مقعده واقترب من المجريطيّ وقال هامسا:

ــ   السيّد الكبير.

ــ   السيّد الكبير !

ــ   في انتظارك.

ــ   الآن؟

ــ   نعم الآن، فوراً.

ــ   ولكنّني...

ــ   أتتردد في مقابلته؟

ــ   لا أتردد، ولكن أتهيب، لست مستعداً لهذا.

ــ   استعد له إذاً.

نطق الرجل كلماته ووضع كفـّه على ساعد المجريطيّ بلطف مصطنع، وهو يشير إلى الطريق. أحسّ المجريطيّ أنّه لا يستطيع الفكاك من هذا الأسر. فكّر في الهدايا. لو أنّه ذهب الآن خالي اليدين، ربّما فسد كلّ شيء وانهارت أحلامه كلّها دفعة واحدة. استجمع جرأته وقال:

ــ   يا أبا محمد، هناك أمور شخصيّة جداً جدّا، تخصّ السيّد الكبير، لا بدّ من إحضارها، وهي ليست معي الآن، لأنّها عندي في الدار.

ــ   لا توجد مشكلة، هو لم يحدّد وقتاً، سنرسل معك من يحضرها فوراً، ما رأيك؟

ــ   نعم العقل.

***

سلّمه قيّم المدرسة إلى شخص طويل القامة، كبير الرأس، محمرّ الوجه، يشبه طفلاً ضخماً. استقبله المرافق بودّ. أخذ منه صندوق الهدايا وأهمل قيّم المدرسة، الذي توقف من تلقاء نفسه وعاد أدراجه.  سار المجريطيّ بمعية المرافق في رواق يشرف على حديقة واسعة، لكنّها فقيرة، شحيحة الخضرة.

دخلا بناية انتشر على بابها وأركانها حرّاس متفرّقون، بملابس سود، جامدو الهيئة، يشبهون النسور؛ هيئاتهم متشابهة، ومظهرهم واحد، يخالهم المرء رجلاً واحداً يختفي في ركن ويعود للظهور في ركن آخر. فتح الرجل باباً كبيراً بوقار ودخل ملتفتاً إلى المجريطيّ، الذي تبعه فواجهه السيّد الكبير جالساً على مقعد وثير، خلف منضدة عظيمة، تتكدس عليها الكتب وتحيط بها رفوف عامرة بالمخطوطات. لم يتفاجأ بمنظر السيّد، فقد كانت المشاهد السابقة تشبه قطعاً من جزئيات صغيرة تكـمّل بعضها بعضا، وتتكاثف جميعها لتغدو في النهاية كائناً واحداً، يجلس الآن أمامه باسترخاء، غالقاً عليه أية فرصة لاختيار الطريقة الفضلى لتحيته: كيف سيقابله، وكيف سيتصرف وهو يقترب منه. سار المرافق أمامه وذهب خلف مقعد السيّد وتناول يده ولثمها وهو يشير إلى المجريطيّ بأن يتقدم، كما لو كان يحثـّه على تقليد فعله. تراجع المرافق ووضع الصندوق على المنضدة وخرج. تقدم المجريطيّ، حيّا السيّد مصافحاً وهو ينحني بوقار، فما كان من السيّد إلاّ أن وقف، ثم خرج من مكمنه وأمسك ساعد المجريطيّ بلطف وأخذه معه إلى مقعد طويل. أشار له أن يجلس، ولم يجلس قبل أن يضع المجريطيّ جسمه على المقعد.

أحسّ المجريطيّ بشيء من الانفراج، لكنّ الارتباك وغرابة الموقف جعلاه يتردد في الحديث. بيد أنّ السيّد بادر متحدّثاً، ببساطة وودّ وأدب لم يكن يتوقعها المجريطيّ:

ــ   مرحباً بك بين أهلك وفي مدينتك. لقد أسعدني أنّك اجتزت الامتحان بتفوق.

أراد المجريطيّ أن يسأل مستفسراً، لكنّ السيّد الكبير واصل يقول:

ــ   هذه شهادة لا يعطيها مهيار لأيّ إنسان. أعجبني وصفك لبغداد، وأكثر ما أعجب مهيار هو طريقة توليدك للمفردات، هذا من أثر المكان، أليس كذلك؟

ــ   من دون شك. حقـّاً، إنّني أشعر كما لو أنّي اجتزت امتحاناً وأنا أحظى بمقابلتك، فأنا لا أعرف من يشرّف الآخر، مقامك ببغداد، أم حيازة بغداد علماً فرداً مثلك.

ــ   هذا الكلام الجميل الشبيه بالحرير هو ما عنيته بتوليد الكلم، الذي خلب لبّ مهيار.

لم يجد المجريطيّ ما يقوله. تذكّر الهديّة: أوشحة ومناديل الحرير، الموشاة بالذهب، فقال بشيء من الخشية:

ــ   هل يأذن لي سيّدي أن أضع بين يديه بعض ما جلبته خصيصاً لشخصه الكريم، أرجو منك أن تقبلها على الرغم من ضآلتها.

نهض المجريطيّ وفتح الصندوق الصغير، وقرّبه من السيّد، الذي نظر فيه، من دون أن يمدّ يده. لكنّ ّالمجريطيّ تشجّع قليلا وأخذ عدداً من الأوشحة وقام بعرضها أمام السيّد، الذي مدّ يده ولمسها برقـّه، ثمّ رفعها وقرّبها منه.  وضع بعضها على ركبته، وهو ينظر إليها بإعجاب. ثمّ أسرع يناولها إلى المجريطيّ. أعادها المجريطيّ إلى الصندوق ووضعه أمام السيّد، الذي سرح خياله بعيداً، لكنّه تنبه إلى ضيفه وقال فجأة:

ــ   أودّ أن تحدثني عن أحوال الأندلس، كيف يعيش الناس؟ كيف يتدبّرون رزقهم؟

ــ   أحوالها مضطربة و...

ــ   أعرف هذا، أودّ أن تحدثني عن معيشة الناس وسبل كسب العيش.

لم يفهم المجريطيّ غرضه فقال:

ــ   في أوقات الاضطراب يشتدّ الوضع على العامة ويزداد قادة الجند تطلبّاً، لما تقتضيه حاجة تسيير الدولة و...

ــ   ماذا تشتغل أنت؟ كيف تكسب رزقك؟

ــ   أنا رجل موسر، أملك ضياعاً ومزارع، بعضها لي والبعض الآخر لزوجتي. لكنّني أميل إلى العلم والأدب.

ــ   حدّثني عن فكرتك الطريفة التي تحدثت بها مع مهيار، عن إدارة المزارع. كيف تدير شؤون الفلاحة وتربية المواشي وغيرها؟

ــ   لست أنا من يقوم بها. لي قريب اسمه راميرو، يتعهدها بالرعاية تحت إشرافي. وهو رجل يجمع بين التجارة والعلم. هو ابن عمّ أشهر عَشّابيّ الأندلس، سليمان أبي داود بن جلجل، الذي صحّح ترجمة ابن باسيل لديسقوريدس وأضاف فصولا قيّمة منها فصل الترياق والسموم.

ــ   هل لك علم بهذا أيضا؟

ــ   لي بعض الإطلاع. يوم أمس عثرت على نسخة من ترجمة ابن باسيل واشتريتها.

ــ   ما كان لك أن تفعل هذا، النسخ الموجودة عندنا موثوقة أكثر من نسخ الورّاقين.

سكت الرجل، فلم يعد المجريطيّ قادراً على إيجاد مدخل للبدء بالحديث. انشغل يفتش عن فكرة ملائمة لا تبعده عن فكرة الزراعة، وتجعل الحديث في الموضوع متواصلاً، لكنّه عجز عن إيجاد ما يفيده. أما السيّد فقد ظلّ ساكتاً، كما لو أنّه ينتظر سؤالاً لكي يجيب عليه، وحينما طال الصمت قال فجأة:

ــ   كنت تقول إنّه يعمل تحت إشرافك أنت؟

شعر المجريطيّ بغبطة وهو يسمع سؤال السيّد، الذي يعني أنّه كان مشغولا بما قاله، وأنّه لا يريد أن يقطع مجراه، فبادر يقول:

ــ   يعمل تحت أبصاري.

ــ   يعجبني تواضعك يا مجريطيّ، تقول إنّه قريب ولا تقول إنّه أجير.

ــ   نعم، لأنّه من العائلة ذاتها.

ــ   وكيف يكون هذا؟

ــ    من فرع العائلة التي لم تسلم.

ــ   هذا واضح على شكلك.

ــ   لقد اتخذ الرسول)ص ( ماريا القبطيّة زوجاً له.

ــ   لنا أسوة في أئمتنا المعصومين أيضا. أمّ إمامنا المنتظر، المهديّ، هي نرجس ابنة يشوع بن قيصر، إمبراطور الروم، وتنتمي من جهة الأمّ إلى شمعون، وصيّ السيّد المسيح عليه السلام، لهذا تجد أهل البيت أكثر تسامحاً وأكثر قبولاً للآخر المختلف عنهم في الأصل.

فجأة، من دون رابط سببيّ، صمت السيّد، ثمّ انتقل إلى فكرة جديدة:

ــ   هل تعرف أنّ بَرْدَ العامين الماضيين ألحق ضرراً كبيراً بالناس. حينما تزور ضياعي ومزارعي سترى ذلك بنفسك. سيكون عماليّ في خدمتك. أنتم بلاد يصيبها الصقيع دائماً، ستكون عوناً لنا لو منحتنا بعضا من معارفك، وشيئاً من علوم الأندلس.

ــ   أنا في خدمة سيّدنا. ولكنّي أودّ أن أعرف ماذا يطلب منّي سيّدنا لكي أقوم بخدمته على أكمل وجه.

ــ   أنا لا أطلب منك، أنت ضيفي، أنا أدعوك لأن تشرّفني في مزارعي، لكي أكرمك وأفخر بك وبعلمك. لكنّني طامع في الاستزادة من معارفك وعلومك، أريدك أن تتوسع في حديثك عن الفلاحة وما يرافقها من سبل للمعيشة تكمّلها وترتبط بها؛ أحسب أنك كنت تتحدث عن هذا، حينما أشرت إلى قريبك النصرانيّ؟

ــ   نعم، بكل تأكيد، كنت أتحدث عن أننا كنّا نعتمد في دباغة الأديم على ما يأتينا من المغرب من منتوج السَلم والوعظ، لكنّنا جرّبنا زراعته في أرضنا فوجدناها تصلح لإنباتها. وبذلك تكونت لدينا حلقة مكتملة، تبدأ بزراعة السَلَم وتربية المواشي ودبغ الجلود وكلّها صناعة متـّحدة، ومثلها زراعة الزيتون وما يرافقها من معاصر للزيت وعلف للحيوان. وبهذا تكتمل الصنعة وتتوحد، فتزيد من عائدها، ولا يعيش الأجراء من دون عمل في موسم ما.

هتف السيّد مثل طفل:

ــ   هذا ما أريده يا مجريطيّ ! أحسنت، وأصبت.

لكنّه سرعان ما تنبه فعاد إلى ما كان عليه، إلى وضع السائل المستفهم:

ــ   والآن قل لي: هل أنت هنا للإقامة أم لغرض آخر؟

ــ   جئت للحجّ، لكنّني وجدت أنّ من الحمق أن أكون على مقربة من دار السلام ولا أزورها. وجدت أنّني سأعود خائباً لو أنّ أحدهم سألني كيف حال بغداد، فأردّ عليه مررت قربها ولم أدخلها.

ــ   وكيف وجدتها؟

ــ   لم أتجول فيها كثيراً، لكنّها عامرة. بيد أنّي وقعت في غرام أهلها. حقاً وقعت في غرامهم، إذا جاز لنا القول، وصل العشق حدّ الهيام، كما يُقال.

 توقف المجريطيّ عن الاسترسال، لكي يصحّح الفكرة، ولكي لا تُفهم كلماته خطأً ويظنّ السيّد أنّه يلمّح إلى غرام حقيقيّ، قد يشي بنيّته الخفيّة. فراح يفسر ما قاله:

ــ    حقـّا أنا لم أكن أتخيل لحظة واحدة أنّني سأجد بشراً على هذا القدر من الكرم والسماحة، لا أعرف كيف أصف الأمور، تخونني الكلمات.

ــ   أنت بين أهلك.

ــ   نعم بين أهلي، لكنّني لم ألق حتّى من أهلي مثل هذا الذي لقيته هنا. في دقائق معدودات حصلت على صديق مثل أخ،  قضيت معه بضع ساعات حسب، لكنّه ترك في نفسي أثراً لم يتركه أخوتي الذين هم من رحم أمي. حتّى أنّه سلمني بيتاً وفرساً وترك من يعني بي، وهو يكاد لا يعرفني حقّ المعرفة.

ــ   وأين ذهب؟

ــ   سافر. هذه قصة أغرب من الخيال. تعرفت عليه في مسجد الدار قطني، وخلال دقائق معدودات...

 انكمش وجه السيّد، لكنّ المجريطيّ لم يتمكن من التوقف، تذكر كلمات أبي مهديّ وهو يحذره من ذكر علاقته بالبغداديّ، لكنّه فشل في تغيير سير الحديث:

ــ   قبل سفره إلى أصبهان، في اليوم التالي أضحى لي بمثابة أخ لم تلده أمي، وربما ولدته من دون علمي.

ضحك السيّد، ولكنّه ازداد فضولاً:

ــ   هل هو تاجر مقتدر لكي يترك لك فرساً وبيتاً ومن يقوم بحاجتك؟

ــ   ليس معسراً، لكنّه أديب كبير متألق ودارس حجّة؛ اسمه أبو بكر أحمد بن علي.

انكمش وجه السيّد مجدداً، لكنّه تدارك الأمر وقال له:

ــ   هذا كرم كبير من رجل شهم، لكنّني أراك تسكن بعيداً عنّا.

ــ   المسافات لا تهمّ كثيرا، المهم أنّني وجدت نفسي بين قوم هم مثل أهلي، بل هم حقـّا أهلي.

ــ   أهلك يريدونك أن تكون أقرب إليهم، أن تكون إلى جوارهم. بما أنّ صديقك قد رحل، ستشكر أهله على كرمهم، وستأتي هنا، عندنا، فتكون إلى جوار دور العلم والعبادة وحلقات الدرس.

لم يصدق المجريطيّ ما سمعه. أيّ عالم غريب هذا! معجزة تتبعها معجزة وتلحقها ثالثة !

ــ   لا تقل شيئا، بما أنّ صاحبك قد سافر فلا حرج عليك، ولا تتعب نفسك، سأرسل من يقوم بكلّ شيء نيابة عنك، سأرسل من يتولون نقل أمتعتك الشخصيّة، وستسكن هنا قريباً منّا، في أحد بيوت المدرسة، وسنجد لك من يعتني بشؤونك. وهذا كلّه ليس بالمجان، سنجعلك تدفع أجرك علماً، لأنّني لا أحسبك تبخل على طلاب المدرسة ببعض معارفك. وإذا وجدت وقتاً زائداً فخصصه لي، تكرم به عليّ شخصيّاً، أنا أيضاً أريد أن تكون قريباً منّي عند الحاجة.

قام السيّد فانبثق المساعد من تحت الأرض. بلمح البصر فتح الباب ودخل، كما لو أنّه كان يجلس بينهما يستمع إلى كلامهما. همس السيّد بضع كلمات في أذن المساعد، وقال للمجريطيّ:

ــ   قم معي لأريك شيئاً أثمن من مكتبة دار العلوم.

سارا في رواق طويل، لم يره المجريطيّ عند دخوله، ثمّ اجتازا ممراً يقود إلى بناية مجاورة. فتح السيّد باباً، فوجد المجريطيّ نفسه بين صفوف هائلة من الكتب.

ــ   هذه مكتبتي الشخصيّة، وهي مكتبة خاصة جداً جدّاً، لا يدخلها سوى قلّة، سأعطي أمراً للقّيّم عليها بأن يسمح لك بالمجيء إلى هنا والانتفاع بموجوداتها، كلّما أحسّست برغبة وحاجة إلى ذلك. هنا تجد الكتب التي لا تجدها في أيّ مكان. في هذا المكان ستعرف أنّ زعماء الطائفة لا يتركون شاردة أو واردة من دون أن يطّلعوا عليها ويتباحثوا فيها.

فجأة عاد المساعد بصحبة الأصلع، الذي انحني بخشوع وقبّل يد السيّد، وراح يصغي إلى أقواله:

ــ   يا عبدالله ! انظر في حاجات ضيفنا المكرّم كلّها، وتصرّف معه من دون الرجوع إليّ، في مكتبة دار العلوم، وفي مكتبة الحوزة، وفي مكتبتي الخاصّة؛ مُر النساخين أن ينسخوا له كلّ ما يطلبه أو يبعث به إليهم من دون حاجة إلى إذن من أحد. جدوا له سكناً يليق بمقامه. وأنا أفضّل أن تكون الدار التي إلى جوار بيتنا القديم. وكذلك جدوا  من يقوم بخدمته طوال إقامته بيننا. لا أريد لأبي سليمان أن يرجع إليّ في طلب، كلّ ما يطلبه ستقومون بتوفيره أنتم بأنفسكم فوراً، من دون إبطاء، ومن دون الرجوع إليّ. أوامر أبي سليمان مطاعة. تفضل، في أمان الله.

انصرف عبد الله الأصلع وهو ينحني إجلالاً، بينما ظلّ المجريطيّ حائراً، فاقد المقدرة على الردّ أو التصرف. ما حدث أمامه فاق حتّى أحلامه وخططه الخياليّة. قبل دقائق معدودات كان يفكّر في الانكسار والخيبة، كما لو كان هو ابن زريق أو التوحيديّ؛ وها هو الآن، بلمحة خاطفة، ينقلب من حال إلى حال. فكّر: "أي سحر لبغداد! نحن، مجتمع الأندلس، لسنا سوى صورة مستنسخة بيد نساخ قليل الخبرة والموهبة! .'' نظر إلى السيّد فرأى فيه أصالة لا تعادلها أصالة. تذكّر أبا عبد الرحمن، وتذكّر صرّة النقود، وخطبة الكرم التافهة عقب موت ابن زريق، ثمّ عاد ينظر إلى مهابة السيّد، حتّى أنّه أوشك أن يفعل كما فعل الأصلع، أن يقبل يده، لكنّه اكتفى  بانحناءة لا تُخفى معانيها، مما جعل السيّد ينظر إليه فرحاً، مفتوناً بما أحدثه من ردود فعل في نفس ضيفه.

ــ   ستذهب الآن لترتاح، وتودع وتشكر أصحابك، وتنتظر رسولاً مني. لا تندهش، سأرسل في طلبك كثيراً. فلا تنزعج من إلحاحي في طلبك. لم أشبع بعد من أخبار الأندلس. أمّا ما يتعلق بمهيار، فلا تحمّل كلامه أكثر مما يحتمل.

ــ   لم أكن...

ــ   أنا أعرف كلّ شيء، أجابك جواباً خالياً من اللياقة، حينما دعوته بنيّة صافية إلى زيارة الأندلس. عليك أن تتعود على طباع مهيار.

ودّعه إلى باب المكتبة الخارجي، وأرسل معه خادماً ليدلّه على الطريق وقال:

ــ   انتظر رسولي ! لديّ أمر هام جداً جدّاً أريد أن أتدارسه معك.

 صمت لحظات ثم أضاف بمرح:

ــ   هذا أمر.

انحنى المجريطيّ وخرج وهو مصاب بالذهول، لا بسبب النجاح فقط، ولكن لهذا التحول الكبير في سلوك السيّد من متحفظ إلى منبسط إلى محذر، ثمّ اختتم اللقاء بعبارة آمرة، ممزوجة بأبوّة صادقة. ماذا يريد السيّد الكبير؟ وهل حقاً هو يقترب من الطريق إليها . أين الطريق؟

الطريق إلى بيت أبي مهديّ أضحت أمراً حتميّاً في هذه اللحظة. توجه إليه في مسجد المدرسة، وقرر أن يصحبه من دون أن يخبره بأمر السيّد.

قال أبو مهديّ:

ــ   كيف الأمور مع الـقيّم؟ هل سارت على ما يرام؟

ــ   أعتقد ذلك.

ــ   ألست واثقاً بعد؟

ــ   لا أدري، ولكن تعال معي لأريك شيئاً، اتبعني فقط ولا تتكلم.

ــ   لا أستطيع الآن، لديّ حلقة درس أديرها، سنذهب معاً حالما أفرغ منها، انتظرني.

ــ   لا أستطيع الانتظار، ولن أنتظر، تعال معي يا أبا مهديّ ولا تنطق بحرف واحد.

سارا معاً. كان المجريطيّ يمشي وأبو مهديّ يتبعه مندهشاً وهو يراه يخطو واثقاً، يسير كما لو أنّه يمشي في بيته، بعد أن كان قبل ساعات فقط ضائعاً، غريباً، مبلبلاً، لا يعرف من أين يبدأ. سار خلفه عابساً، مقاداً بالفضول، أكثر مما كان طائعاً.

توجه نحو غرفة قيّم المدرسة، دخل من غير استئذان ووقف أمام القيّم، الذي قام من مكانه وهرع يصافح المجريطيّ بحرارة، وقال:

ــ   كلّ شيء جاهز، سنرسل معك من يتولى كلّ شيء، ولكن عرّفهم أنت بالمكان، ولا تتعب نفسك، سيقومون بما يلزم، أمّا أنا فقد أتممت كلّ شيء: البيت، والخادم. وسيأتيك سائس من عندنا لترى الفرس الذي يناسبك. كلّ شيء جاهز، أنت تأمر ونحن في خدمتك.

ــ   شكراً على هذا يا أبا محمد، لكنّني جئت لأمر آخر.

ــ   مُرْني !

ــ   سيرافقني أبو مهديّ إلى البيت لكي نراه معاً، ولكنّه لا يستطيع ذلك، لأنّ حلقة درسه تبدأ بعد قليل.

ــ   هذا فقط ! يا أبا مهديّ ما كان لك أن تجعل أبا سليمان يأتي إليّ بنفسه لأمر صغير كهذا. سأبعث من يحلّ محل أبي مهديّ، وسيرافقكما الخادم إلى البيت. على الرحب والسعة.

لم يتمكن أبو مهديّ من تمالك نفسه. جرّ المجريطيّ من ساعده. لكنّ المجريطيّ لم يمهله، عجلّ بإخراجه من الغرفة، وهو يودع قيّم المدرسة شاكراً:

ــ   شكراً لك مرة أخرى، سأكون في البيت لو أنّ أحدا سأل عنّي.

***

حالما أوصلهما الخادم إلى البيت ودخلا، أمسك أبو مهديّ المجريطيّ من ساعده بقوة،كأنّه يعيد مشهداً جرى حدوثه وانقطع تسلسله. هزّه بعنف وقال:

ــ   أتهزأ بي ! ما الذي يحدث؟

ــ   ألم تسمع قول الشاعر:

وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِـن حَيـثُ يَمنَعُـه     إِرثـاً وَيَمنَعُـهُ مِـن حَيـثِ  يُطمِـعُـهُ

كما ترى. بيت وفرس وامتيازات وحظوة وجاه وسلطان.

ــ   لا أكاد أصدق ما أسمع وما أرى.

ــ   صدّق. ولكنّني لا أعرف ماذا يعني السيّد  بالموضوع المهم جداً جدّاً.

ــ   قابلته؟

ــ   وسأقابله مرة ثانية لأمر نعته بالمهم جداً جدّا.

ــ   وقال لك: جداً جدّاً؟ هذا شيء كبير وخطير.

ــ   وما تظنّه يكون؟

ــ   أتسألني؟

لبث أبو مهديّ تحت تأثير الصدمة. لكنّه رغم ذلك أدرك، بما لا يقبل الشك، أن خبراته في الحياة والناس معدومة تماماً. وأنّه لا يساوي شيئاً، لأنّه لا أكثر من معلم مجهول في مدرسة لتلقين علوم ميّتة: نحو وصرف وعروض وأنساب وأحاديث. أمّا دوره كصديق وأخ أكبر، مجرّب وعارف، فربّما يكون على شفير الهاوية؛ دوره كناصح، يدّعي العلم بأحوال الناس وطباعهم انتهى، وآن له أن يقرّ بأنّه لا يفهم شيئاً من أحوال هذه البلاد، وربّما لا يصلح حتّى أن يكون معيناً أو صديقاً.

 ــ   وأسألُ من غيرك؟ ألا تريد أن أسألك؟

ــ   لا أريد، وآن الأوان  أن تكفّ عن سؤالي. فكما ترى أنا لا أفقه في شيء أبداً، ولا أعرف ماذا يجري في عقول الناس وكيف يفكّرون ويتصرّفون. أنا رجل هرم، لا نفع فيه. كأنّني غريب هنا، كأنّني صالح في ثمود. حتّى أنت، الشاب الغريبّ، وصلت بيسر، خلال ساعات، إلى ما لم أصل إليه وأنا أشقى طوال عمري. فلا حاجة لك بي.

ــ   نعم، ربّما لا حاجة لي بنصائحك التي تتعلق بخفايا السادة الكبار. لكنّني أحتاج إلى وجودك يا أبا مهديّ ! ما أحتاجه منك ليس موجودا عندهم، قلبك وعقلك يا أبا مهديّ، وضميرك النقيّ هو ما أحتاجه الآن أكثر من أي شيء آخر، بدونهما سأكون غريباً حقـّاً. أنا لم أشعر لحظة واحدة أنّك كنت صديقاً، كنت أخاً عطوفاً، وليس صديقاً حسب. أمّا المال والعيش الرغد فأنا لست غريباً عليه.

ــ   وما المطلوب منّي الآن؟ الكتب بين يديك، السيّد يتشاور معك، قيّم المدرسة، الذي لا يرد على تحيّتي إلاّ بتكلف وترفـّع، يستمع إليك مثل عبد. ماذا ترجوه مني؟

أخرج المجريطيّ رقعة ابن زريق مبتسما، وقال:

ــ   تأمّل قول الشاعر:

  اِستَودِعُ اللَـهَ فِـي بَغـدادَ لِـي قَمَـراً        بِالكَـرخِ مِـن فَلَـكِ الأَزرارِ   مَطلَـعُـهُ

نحن الآن في قلب الكرخ، أليس كذلك؟

ــ   نعم، ماذا تبحث في الكرخ؟ أتبحث عن رجل لا اسم له ولا وجود؟

ــ   لا، أبحث عن شيء تجيده أنت أكثر مني، أبحث عن صناعة الشعر، عن الكلام والمعاني.

ــ   أليس من الأجدى أن تنتظر قراءة التوحيديّ، الذي أرّقت رأسي به؟

ــ   هذا سبيل آخر، التوحيديّ قد يوصلني إلى حقيقة ابن زريق، وربّما إلى مغزاه كما قلت أنت، لكّننا لو تأمّلنا هذا البيت جيداً سنصل إلى طرق أخرى.

ــ   يا أندلسيّ، بدأت أشعر كما لو أنّك لست جادّا في مسعاك.

ــ   لست جادّاً ! رجل يهجر بلاده، يركب البحار والقفار ولا يكون جادّاً !

ــ   أحسّ كما لو أنّك تريد أن تمارس ترفك وغناك بطريقتك الخاصّة.

ــ   هل تريد أن تقول إنّني مصاب بالهيام؟ لا جديد في هذا القول، لقد قالوه قبلك هناك في الأندلس. هبْ أنّني حقاً كذلك، أتتخلى عنّي؟ أتخذلني؟

ــ   هميّ وهمّك مختلفان، يا أبا سليمان.

ــ   أهي شكوى، أم برم بصداقتي؟

ــ   لا أعرف يا أبا سليمان، كما قلت لك، أحسّ أنّني هرمت، هرمت. وما حدث حيّرني وقلب تفكيري ومشاعري، وربّما أنا  مشلول التفكير الآن، واعتذر لأنّني أسأت إليك.

ــ   أنت لا تسيء لي أو لأحد. أنا مثلك لم أزل تحت تأثير الصدمة، والأكثر من هذا أنا تحت تأثير صدمة ما سيحدث لاحقاً. إذا كانت بدايتها هكذا، فكيف ستكون خاتمتها؟ هناك طريقان: الطريق الأولى أوّلها سعد وآخرها وعد، والطريق الثانية أوّلها شؤم وآخرها لؤم. فما تظنّني سالكاً؟

ــ   لم أعد قادراً على التمييز، كلّ الطرق لدي تقود إلى نهاية واحدة.

ــ   وأنا مثلك، وربّما أكثر منك بلبلة، ولا يغرنّك مظهري ونشوتي، فأنا قلق الآن قلقاً لا يوصف. لهذا أريد أن أبدّد قلقي بما يزيح هذا الثقل عن قلبي، وبما يبعدني عن التفكير في عواقب ما سيحصل. ولا سبيل إلى ذلك سوى هذا.

رفع رقعة ابن زريق، فابتسم أبو مهديّ:

ــ   أنت مصّر على هيامك؟ ما سؤالك، الذي أتعبك؟

ــ   تأمّل قوله: لي قمر. من يكون هذا القمر؟ أعني أهي كلمة وصف، أم هي كلمة تدلّ على اسم معلوم؟

ــ   تريد أن تقول إنّه يتحدث عن امرأة محددة اسمها قمر.

ــ   ألا يجوز هذا؟

ــ   إذا كان بغداديّا حقـّاً، وكوفيّاً كما تقول، فهذا محال. لم يحدث أن شبّب شاعر بحليلته مستخدماً اسمها الصريح.

ــ   ربّما يكون مجدِّداً في هذا الباب !

أراد أن يقول له إنّ هذا الاسم المذكّر لا يقع على المرأة إلاّ لدى الجواري، وما أكثرهن. لكنّه عدل عن ذلك، لكي لا يجعله يصاب بالخذلان، فقال:

ــ   لم يصل التجديد في الكوفة إلى هذا الحدّ.

ضحكا معا، لكنّ المجريطيّ أصرّ على أن يلقي سؤاله، الذي ظلّ يؤرّقه وينخر قلبه:

ــ   هل سمعت بامرأة بهذا الاسم؟

ــ   لا. لو سألنا، كما ستطلب منّي لاحقاً، سنقع، على ما أظنّ، في مشكلة أكبر. سنعثر على آلاف النساء بهذا الاسم.

ــ   أغلقتها مجّددا في وجهي يا أبا مهديّ.

ــ   لهذا السبب قلت لك دعك من سؤالي، لم أعد أصلح لهذا الضرب من الأسئلة.

ــ   لا تقل هذا، أنت تصلح لهذا وغيره، كأنّك لست أنت من أوصلني إلى مهيار. بالمناسبة، لماذا لم تخبرني أنّك على علاقة حميمة بمهيار.

ــ   لأنّني لست كذلك.

ــ   لست كذلك ! كلّ ذلك الودّ ولست كذلك. أنا لم أرك على ذلك القدر من الانشراح والمعاشرة الحارّة مع أحد من قبل يا أبا مهديّ !

ــ   إلاّ معك يا أبا سليمان.

ــ   حتـّى معي، لم تكن لحظة واحدة بهذا المزاج المرح يوماً، خلتك رجلا آخر.

ــ   حتـّى هو، لا يسلك هذا المسلك مع الجميع.

ــ   ولكنّه يفعل ذلك معك، تذهب معه ويذهب معك إلى أبعد الحدود والغايات !

ــ   لأنّني عرفته وخبرته منذ زمن طويل، منذ أن جاء ليعمل في الترجمة من والى الفارسيّة. كنت، بحكم عملي، أراجع ما يكتبه من تراجم بالعربيّة وأصحّحها.

ــ   إذاً هي صحبة قديمة؟

ــ   علاقتنا أعمق من أن نطلق عليها صفة قديمة، علاقتنا تتجاوز حدود الأديان والمذاهب والأزمان والأماكن.

ــ   وكيف يكون هذا؟

ــ   يكون هذا حينما تتعرف على من سيُسلم وهو مجوسيّ بعد، وعلى من يريد أن يكون بغداديّا وهو جيلانيّ بعد، وعلى أديب لم يصبح شاعراً بعد، وعلى مترجم لم تكمل عدّته، وعلى مشهور وهو غريب لا يكاد يعرفه أحد. حينما نلتقي في المرات القليلة ينسى كلانا الزمن والمكان والأديان والمذاهب والشهرة ونعود شابين، كما كنّا قبل ثلاثين عاما. هو يبحث في هذا عن شيء يفتقده، وربّما أنا أفعل الشيء عينه.

ــ   إذا كان الأمر كما تقول، لماذا أخفيت صداقته عنّي؟ أكنت تخشى أن لا يقابلك بودّ أو يتنكر لك؟

ــ   ربّما، هو بشر كالآخرين. لكنّ أحبّ ما في مهيار إلى قلبي أنّه وفيّ وصادق.

ــ   لقد فعل ذلك من أجلك شخصيّاً، كما أحسست.

ــ   وربّما فعله من أجلك، أو من أجله شخصيّاً، أو من أجل طرف ثالث. هذا أمر لا يعرفه أحد سواه.

ــ   وكيف نسمّي هذا الأمر الذي لا يعرفه أحد سواه؟

ــ   نسميه فنّ السياسة، فنّ المحافظة على البقاء، ولكن بأفضل الصور وأقل الخسائر.

ــ   وهل يدخل سؤال السيّد لي عن حديثي مع مهيار في باب السياسة؟

ــ   إلى ماذا تلمّح؟

ــ   حينما كنت خارجا، وأنا على عتبة الباب استوقفني السيّد وقال: أنا أعرف كلّ شيء، أجابك مهيار جواباً خالياً من اللياقة، حينما دعوته بنيّة صافية إلى زيارة الأندلس.

ــ   وهل فعلت هذا؟

ــ   نعم، في لحظة حمق، حينما كنت تتقدمنا ماشياً، بعد خروجنا من داره.

ــ   لقد استغل غيابي لينال منك.

ــ   وهل لهذا أيّة دلالة خاصّة؟ لا أعني حديثي مع مهيار، وإنما وجود الفكرة في رأس السيّد، وتأكيده عليها؟

ــ   لقد قلتَ قبل قليل إنّك لن تستشيرني في أقوال السادة الكبار بعد اليوم، وها أنت تعود إلى هذا مرّة أخرى.

ــ   وتتركني حائراً؟

ــ   أنا أكثر حيرة منك، ولكن لماذا نأخذ الجانب المظلم من الواقعة، ألست راضياً بما حدث؟

ــ   وهل كنـّا نحلم بالوصول إلى هذا، بهذا اليسر ! أتذكر كيف وضعنا خططاً تشبه الدهاليز: الدينوريّ يقود إلى المكتبة، والمكتبة تقود إلى التوحيديّ، والتوحيديّ يقود... كم كنّا خياليين ! لكنّي أرى الآن أنّنا أضعف خيالاً من الواقع، وأكثر تعقيداً والتباساً منه.

ــ   هذا هو الصحيح. العبرة في النتائج يا صديقي، في النتائج، فلا تتعب رأسك بما لا نفع فيه.

الصفاء الذي حلّ في قلب المجريطيّ اليوم لا يوازيه سوى ذلك الصفاء الروحي الخالص، الذي قرأه في رسائل أخوان الصفا وخلاّن الوفا. كم يشعر الآن أنّه قريب منهم، وكم هو في عوز إلى ألفتهم وسكينتهم، فإنّ صداقتهم قرابة رحم، ورحمهم أن يعيش بعضهم لبعض، ويرث بعضهم بعضا، وذلك أنّهم يرون ويعتقدون أنّهم نفس واحدة في أجساد متفرقة، فكيف ما تغيرت حال الأجساد بحقيقتها فالنفس لا تتغير ولا تتبدل... فإذا أسعد الله المرء بمن هذه صفته فعليه أن يبذل له نفسه وماله، ويقي عرضه بعرضه، ويفرش له حاجته ويودعه سرّه ويشاوره في أمره، ويداوي برؤيته عينه ويجعل أنسه إذا غاب عنه ذكره والفكر في أمره، وان هفا هفوة فيغفر له، وان زلّ زلّة فيصغرها عنده ولا يوحشه فيخاف من حقده، ويذكر من سالف إحسانه عند إساءته ليأنس به ويأمن غائلته، فإن ذلك أسلم لودّه وأدوم لإخائه...

فكّر المجريطيّ بأبي مهديّ، بعسر أحواله، وضيق عيشه، بعزلته الإجبارية، بصفاء سريرته وخشيته من الخطأ. ولكن، ما هو الصحيح وما هو الخطأ؟ أين الحدّ بين ما هو صحيح وما هو خاطئ؟ لماذا يختلط الفرح بالقلق هنا؟ لماذا تتداخل الأشياء هذا التداخل العبثي: البساطة بالوعورة، الصدق بالكذب، التكبر بالوضاعة، السرّ بالعلن، الرحمة بالقسوة؟ ما الحدود؟

لماذا يختلط الصفاء والوفاء بالغدر والأحقاد؟

 

(8)

كلـّما اتسعت بغداد ضاقت، وكلـّما ضاقت اتسعت.

بغداد، التي يعنيها المجريطيّ، هي بغداد التي لفـّت ذراعيها القويتين الحانيتين حول كيانه حينما مرّ من تحت أبراج سورها، والتي جمعت مشاعره المضطربة في حزمة محكمة الربط؛ بغداد التي ظلـّت مجرد وجوه يلتقيها وتضيع، مجرد بيوت وغرفات يتنقل فيها من واحدة إلى أخرى مثل عابر سبيل مجهول، مجرد أوهام ومخاوف وأضاليل وصور مبعثرة متضاربة، ملأت خياله وفكره وأحاسيسه؛ بغداد التي جاءها من عدم الصحراء أخذت تضيق، وتضيق، وتضيق حتـّى غدت بيتا صغيراً جميلاً في الكرخ، ومدرسة، وحلقة علم، ومكتبة تضم أكثر من ثمانين ألف مجلد، وصحبة تأتمر بأمره وتبادله الودّ. أسواق عامرة، وشوارع فسيحة، ونفوس أبيّة، صافية، تعلن لك عن وجودها ببسمة خاطفة، بلمسة يد، وبكلمة تخرج من القلب. في بغداد يُحاط المرء  بالتاريخ والحاضر، تحيط به الأزمان والأماكن، الأقوام الغازية العابرة وجيوش الأفكار والمذاهب، خزائن الذهب ومجلدات الكتب، الحراب وعيون المها المستترة خلف البراقع.

ضاقت بغداد بين رصافة وكرخ، بين بيوت بدأت تغدو أليفة، معروفة القسمات، ووجوه أضحت حيوات تنبض بالعواطف والمشاعر والألفة. حتـّى دار البغداديّ عزّ عليه أن يتخلى عنها. احتفظ المجريطيّ بها كمزار، كمتحف يصون فيه بضع ليال لا يريد لها أن تزول من ذاكرته أو تتقادم صورها.

قال له سعيد:

ــ   أبا سليمان لا حاجة لك بالبيت الآن، نستطيع أن نؤجّره، قد يدرّ شيئاً بسيطاً تستفيد منه عائلة أبي بكر.

 أراد المجريطيّ  أن يجيبه بأنّه لم يحسم أموره بعد، وأنه لم يزل معلّقاً بين بيتين، بين ضفـّتين، وأنّه يريد أن يرى بغداد من صوبيها. فكّر في هذا لكنّه أجاب:

ــ   لا يا سعيد، لا تقل مثل هذا، إذا كان الأمر يتعلق بالكراء، فسأدفع ما تريد، وأكثر.

ــ   ليس الكراء يا أبا سليمان ! ما نفع بيت مهجور وأنت تسكن بيتاً يفي بحاجاتك ويقع قرب مصالحك؟

تذّكّر المجريطيّ تحذير البغداديّ من مشاريع سعيد التجاريّة، وقال:

ــ   سيصلك الكراء مدفوعاً مقدماً، إلاّ إذا كنت تريد أن تقصيني عن البيت !

ــ   أقصيك ! كيف تنطقها يا أبا سليمان ! هذا البيت وبيوتنا كلّها بيتك. إذا اشتقت للمكان بيتي جاهز لاستقبالك متى شئت.

ــ   أنا أعرف هذا، ولستَ في حاجة إلى قوله يا سعيد، ستظل مثل أخي، سأحضر إلى مرفئك كلّما اشتدت عليّ الشدائد. أين أجد قلباً رائقاً بهيجاً مثل قلبك، يجدد دمي كلّما أفسدته الأيام.  لكنّني أحسّ أنّني سأتخلى عن قطعة من كياني لو تخليت عن هذا المسكن.

ــ   أنا لا أفهم ما تعنيه !

ــ   وربّما ليس بمقدوري إفهامك. لقد أتعبني الهجر والفراق، تعبت من كثرة ما هجرت وفارقت، لا أريد أن أضيف هجراً على هجر. هذا البيت عندي باختصار هو بغداد.

نظر سعيد إلى ما حوله، إلى بغداد الواسعة الفسيحة بضفـّتيها وابتسم، مشكّكا في صدق ما يسمع.

ــ   لا تنظر حولك باندهاش، هذا البيت هو بغدادي، بغدادي أنا، نظرتي الأولى، عشقي الأوّل.

ــ   كما تشاء.

نطق سعيد وهو غير قادر على فهم رجل مترف جاء من عالم آخر، يفصله عن عالمهم تاريخ وأزمان وبحار وفلوات.

كيف له أن يتخلى عن قطعة حبيبة من وجوده ! ظلّ المجريطيّ ينتقل بين ضفـّتي بغداد، بين كرخ ورصافة، كما ينتقل الدم من القلب واليه. هنا بيت وهنا سكن. وبين الضفـّتين يقع مرفأ سعيد، الذي غداً قنطرة تصل جانبي المدينة، ومعبراً يوحّد أوصال مشاعره، كلّما أحسّ بانقطاع مسالكها.

لكنّ المجريطيّ أخفى عن سعيد ما يكدّره حقاً. لم يشأ أن يقول له كلّ ما في قلبه، لكي لا يجعله يلحّ في عودته إلى بيت أبي بكر وترك بيت الكرخ. لم يتمكن المجريطيّ أن يألف بيته الجديد، ليس بسبب سوئه، ولكن بسبب الرائحة غير المستحبّة التي يجلبها الفتى الخادم، المكلّف بالعناية بشؤون البيت في غياب المجريطيّ. فقد اعتاد الفتى أن يحضر مباشرة إلى البيت قادماً من زريبة الحيوان التي يعمل فيها، فتلبث رائحة البهائم في الدار والأفرشة وتجعل المجريطيّ يحسّ بالنفور من الإقامة فيه. فكّر: لا يوجد كمال، الكمال لله وحده. فرغم كلّ ما حصل عليه من تيسير وحظوة إلاّ أنّ أمراً صغيراً مثل هذا كدّر عليه صفاءه وثلم غبطته !

اشترى المجريطي شيئاً من البخور والطيب، علّها تنفع، وتجعله يهنأ تماماً بما هو فيه.

عاد من بيته القديم وهو يشعر أنّه ضَمِنَ وحدة مشاعره، التي خشي عليها من طمع سعيد ومشاريعه التجارية الخياليّة، ومن عادات الخادم غير المستحبّة.

بغداد بكلّ اتساعها تضيق بين بيتين، تتمركز وتتكثـّف في بقعة صغيرة مستقرّة، ثابتة: بيتين متباعدين، لكنّهما يملآن عقله وروحه، ويسدّان حاجته إلى الهدوء والطمأنينة.

لكنّ بغداد التي تمركزت وتكاثفت مثل غيمة عامرة بالماء، فتحت له مسالك لم يكن يعرفها من قبل، ولم يفكّر فيها من قبل. كوكبه المجهول، الذي يختفي في بقعة ما من سماء الكرخ، أضحى ملايين الأنجم الزاهرة، المتلألئة في وجدانه. أين هي؟ ومن تكون؟ كلّما مرّ بطيف امرأة خفق قلبه، وخالها هي. ولكن من تكون؟ أهي قريبة أم بعيدة؟ أهي حقيقة أم وهم؟ خبل هيام أم لحم ودم وعواطف ووجود؟

حمل المجريطيّ إلى بيت أبي مهديّ سلّة الفاكهة، التي جُلبت يوم أمس من مزارع السيّد. ظلّ أبو  مهديّ ينظر إليه بعينين معاتبتين، لكنّه لم يستطع أن يمنع صغاره من تناول ثمار الرمّان والتمر من يديّ أبي سليمان. يودّ أبو مهدي لو أنّه انتزعها من أفواههم، لكنّه لم يكن قادراً على ذلك، فهم محرومون، وهو سبب حرمانهم، وهم يتلقـّونها من يدّ صادقة النيّة، وفيّة، فلا يقوى على منعها أو ردّها.

قال أبو مهديّ:

ــ   هل تذكر ما قاله لك مهيار، حينما أعطيته المنديل؟

ــ   ولكنّني لا أمنحك منديلاً مطرزاً بالذهب، لكي أفسدك به. أنا أمنحك تمراً ورمّاناً حملوه إلى بيتي من مزارع السيّد ولا أعرف كيف أنفقه.

ــ   ربّما يكون هذا التمر أكثر إفساداً لأولاد فقراء من منديل مطرّز بالذهب !

ــ   لا تشعرني بالذنب يا أبا مهديّ كلّما وضعت قدمي على عتبة بيتك. هؤلاء أولادي، أولادي وفق قوانين المنطق كلّها. أليس لي حقّ فيهم، أم ترانا أصبحنا ننظر إلى بعضنا من شرفات متباعدة؟

الحياة شرفات متباعدة ! فكّر أبو مهديّ، لكنّ المجريطيّ كان يفكّر في أمر آخر.

كان يفكّر في الكذبة البيضاء التي بدأ بها دربه: كتاب الدينوريّ. الكذبة التي غدت مكتبة عامرة، تربو على ثمانين ألفا من المجلدات تملأ القاعات والرفوف؛ يفكّر في الحديث العابر عن قرطبة، الذي  غداً طريقاً من الخضرة العامرة يمتد من بغداد إلى أرض كربلاء، وأضحى قريةً تتلوها قرية، ومزرعةً تتصل بها مزرعة، غداً ثمانين قريةً عامرة من قرى السيّد. لقد بدأ هناك، في قرطبة، بأمر مختلق عن الحج، وها هو يبدأ هنا، في بغداد، بأمر لا يقل اختلاقاً: البحث عن التوحيديّ. فكّر المجريطيّ: "هل يدرك أبو مهدي أنّي لا أبحث عن التوحيديّ، وإنما أبحث عنها، عنها هي، هي وحدها، هي كذبتي الأزليّة ووهمي الدائم !".

بغداد التي ضاقت امتدت فسيحة وأضحت مسالك لا نهاية لها، وهي التي كانت طيفاً واحداً وكوكباً فرداً أضحت ملايين الأقمار.

ــ   كم كنّا واهمين يا أبا مهديّ. ظننا بالرجل الظنون، ظنناه شحيحاً وها هو يضع ثروته كلّها تحت قدميّ، أقطعها طولاً وعرضاً كأنّني مالكها، أو وريثها !

ــ   إذا كان هذا يعني شيئاً، فهو يعني أنّ أخاك، أبا مهديّ، لم يحسن تدبير حياته. فأنا عشت حياتي كلّها ولم أحصل منه على درهم زائد، عدا رحلة للحجّ جاءت بعد ثلاثين سنة من الخدمة المتّصلة، وبعد أن أنهكت نفسي بالعلم وخدمة العقل ولم أملك سوى ثوب الفقر.

ــ   لكنّك أنت من اختار هذا.

ــ   العزلة أنا اخترتها، هذا صحيح؛ لكنّ الفقر هو الذي اختارني.

ــ   يا أبا مهديّ أنت أغنى الجميع بقلبك وبعلمك. فهل أنت نادم على شيء؟

ــ   لا، لو قدر لي أن أعيد حياتي، لما مشيت درباً غير هذا.

ــ   إذاً لا تبكّت نفسك.

ــ   أنا لا أبكّت نفسي، وإنّما أراجع حصادها، أنظر فيه. أنت تقول إنّ الظنون ذهبت بي بعيداً فيما يتعلق بشحّة وبخل السيّد، وفيما يتعلق بمشاعر الحسد التي يكنّها لمن هم أكثر علماً منه. وها أنت ترى عكس هذا تماماً. ماذا أقول سوى أنّني رجل لا يصلح لفهم ما يحيط به. ألا يحقّ لي أن أتساءل مع نفسي قائلا: ما نفع علمي ومعارفي، إذا كنت لا أستطيع إدراك حقائق واضحة كالشمس أدركتها أنت الشاب الغريب في أيام معدودة؟ ألا يحقّ لي هذا؟

ــ   أنت رجل عقل وثقافة يا أبا مهديّ. هذه التخمينات شؤون أقرب إلى السياسة، وأنت بعيد عن هذا، أنت رجل فكر وأدب.

ــ   لا تسرف في مواساتي، فأنا أعرف حجم خيباتي.

ــ   أتسمّي التبحّر في العلم خيبة؟

ــ   حينما يعجز التبحّر عن الإجابة على أسئلة الحياة، يغدو خيبة وأيّة خيبة.

ــ   أنا لم أرك منكسراً كما أراك الآن !

ــ   لأنّك لم تعرفني جيداً. هذا أنا، هذا أنا كما خلقني الله. هذا أنا على حقيقتي. لا تندهش، ربّما لهذا اخترت عزلتي بنفسي.

ــ   لكّنني لا أظن هذا، أنت أكثر حكمة من هذا.

ــ   أنا أعرف إلى ماذا تلمّح.

ــ   أنا لا ألمّح حينما أتحدث مع صديقي وخليّ وأخي الأكبر.

ــ   ها هي ألفاظك تخونك وتفضحك يا مجريطيّ. لو أردت محاكمة ألفاظك، على طريقتك في محاكمة الألفاظ، لأدنتك من فمك.

ــ   إذا كانت كلمة خلّ وأخ قد أوحت لك بشيء، فكن واثقا أنّها جاءت عفو الخاطر ولا صلة لها...

ــ   بما يشاع عنّي، قلها يا أخي وخلّي.

ــ   وهل أنت كذلك حقا؟

ــ   الآن أستطيع أن أجيبك. لا، لست منهم. والعزلة لديّ طبع وليست خطّة أو وسيلة مدبّرة. أنا لا أستتر من أحد. أنا مجرد رجل عاثر الحظّ ولد في زمن غير زمانه.

ــ   ومتى يأتي زمانك؟

ــ   ربّما لا يأتي.  بعض الأزمان تأتي ولا تعود، وبعضها لا يأتي أبداً، بل يظلّ حلم ليل يطارده البشر من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل، ولا يدركونه.

ــ   وهل انجذابك إليّ مصادفة محضة؟

ــ   لقد سألني قيّم المدرسة السؤال عينه مقلوبا. قال لي: هل انجذاب المجريطيّ إليك مصادفة محضة !

ــ   لنتكلم بوضوح مطلق يا أبا مهديّ. جماعة أخوان الصفا وخلان الوفا، التي تُتهم بأنّك من بقاياها، يستترون من دون سبب معقول ومعلن. لماذا يستترون إذا كانوا لا أكثر من جماعة تقوم على المحبّة والتسامح، ولا تنشد سوى تحقيق توازن أبدي بين المذاهب والأديان والأنفس والأقوام والأفكار والفلسفات، كما يدّعون؟ لماذا يستترون وهم لا يقفون موقف العداء من الحاكم؟

ــ   هذا سؤال هم يجيبونك عنه.

ــ   يا أبا مهديّ، أنا أندلسيّ، لا خبرة لي في هذا، وأنت ضليع في علمهم.

ــ   الحاكم ! عن أيّ حاكم تتحدث؟ قل حكّاما. أصغر حرسيّ في هذه البلاد يعتقد أنّه حاكم.

ــ   ولهذا يستتر أخوان الصفا؟

ــ   رسائلهم مبثوثة في الورّاقين، موهَبة للناس من دون مقابل، لا فخر لي في هذا، أيّ رجل يقرأ رسائلهم يعرف ما أعرف.

ــ   شرعت في قراءة بعضها.

ــ   وما الذي أثار اهتمامك فيها؟

ــ   أمور كثيرة، أهمّها فلسفتهم التي تتحدث عن  كون الإنسان نشأ في فارس، وتديّن بالإسلام، واعتنق المذهب الحنفي، وعشق أدب العراق، وصار عبرانيّا في مخبره، مسيحيّا في منهجه، شاميّا في نسكه، يونانيّا في علمه، هنديّا في بصيرته، صوفيّا في سيرته، ملكيّا في خلقه، ربانيّا في رأيه، إلهيّا في معرفته. ماذا ترى أنت في هذا؟

ــ   لعنة الله على النسيان ! نسيت أن أسألك عن التوحيديّ. هل عثرت عليه في مكتبة السيّد؟

ــ   أعتقد جازماً أنّه موجود في الجزء الخاص.

ــ   أهو مجرد اعتقاد أم أنّك رأيت كتبه بأمّ عينك؟

ــ   رأيتها ولمستها بأصابعي. لمستها كما لو أنّني ألمس شغاف قلبي.

ــ   ولم تفتحها؟

ــ   لم أفتحهاّ طبعاً، لأنّني لا أريد الآن، أن...

ــ   لا تكمل يا أبا سليمان، لا تكمل.

ــ   أتريد أن تقول إنّني أخون نفسي وحلمي و...

ــ   لا، حاشاك الخيانةُ، ولكنّني أقول ما قلته لمهيار. هذا يسمّونه سياسة، ولا تنس أنّك أندلسيّ وهو فارسيّ. أما أنا فعراقيّ. أنا هذه المرة أكون ابن الأرض، كما كنت أنت في قرطبة.

ــ   وما صلة هذا بالتوحيديّ؟ هل أنت غاضب عليّ لأنّ السيّد أكرمني؟ أو لأنني قبلت هديته؟ أنا أعطيته ذهباً خالصاً، وأنت تعرف أنّني أملك الكثير ولا تغريني عطايا تافهة مثل دار صغيرة وفرس وخادم كريه الرائحة.

ــ   لقد ذهب بك الخيال بعيدا، سأقول لك ما قاله ذلك الذي تركته خلفك في قرطبة، ابن زريق، الذي هجرت أرضك في سبيل البحث عن جواب له، سأقول لك: ستعرف رأيي حينما تقرأ التوحيديّ.

ــ   أعرف ما قاله التوحيديّ في أخوان الصفا، قال في (الامتاع والمؤانسة) : رأيت كتبهم وهي مبثوثة من كلّ فن بلا إشباع ولا كفاية وفيها خرافات، وكنايات وتلفيقات، وتلزيقات...

ــ   وكيف تقول إنّك لمسته ولم تفتحه؟

ــ   لأنّني سمعت هذا الكلام من السيّد.

ــ   السيّد يستعير هذا النص ويحاجج به، لكنّه لا يستعير الفصل الذي يتحدث عن بيعة السقيفة، بل يخفيه. أتعرف ماذا يسمون هذا؟

ــ   أعرف: سياسة، ولكن قل لي من أنت؟

ــ   لا تتعب نفسك. أنا أنا، لا أكثر ولا أقل. هل أعجبك ردّي؟

ــ   أنا أرى في دقّ الطبول عند الأذان بدعة مضحكة، كيف ترى أنت الأمر؟

ــ   ولماذا ترى الأمر بهذه النظرة؟ هذا الأمر يشبه التماثيل التي كانت تزين قبّة قصر الخلافة وأبراج بغداد؛ حسبها البعض أصناماً، وعدّها الناس بدعةً وعدّوا خرابها عدلاً ربانيّاً. لماذا لا تعدّ قرع الطبول تطويعاً مبهجاً للإيمان؟ ألا يعدّ الأذان تنغيماً وتطريباً؟ألا تُقرع النواقيس في الكنائس؟ لماذا لا يكون هذا من ذاك؟ لماذا يُجرّد الإسلام من كل شيء له علاقة بالجمال؟

ــ   أهذا رأيك الشخصيّ؟

ــ   هذا رأي موجود، رأي يتحدث به البعض ويأخذون به، لا يستطيع أحد، لا أنا أو أنت أو غيرنا، أن ينكر وجوده، سواء قبلنا به أم لم نقبل. ولا تنس أنّ  أهمّ أمارات الكاتب حسن الخلق وصفاء الذهن وحبّ العلم وبغية الحقّ وعدم التعصب لرأي معين.

ــ   حسن، ما رأيك بمن يقول بقدم العالم؟ هل هو  قديم أم محدث؟

ــ   لو سألتني عن المسألة الفقهية المتعلّقة بإمكانيّة الخطأ والزلل في أفعال الأنبياء، سأقول لك فوراً، بثقة تامة: إنّ السيّد أرسلك لكي تختبرني وتتأكد من انتسابي إلى أخوان الصفا.

ــ   لا تحقـّر أفكاري يا أبا مهديّ، أنا أسألك عمّا أسمعه وما يدور بين العلماء هنا. أنا حديث عهد بأساليب فكركم، لمن أتوجه غيرك ! هل تريدني أن أكفّ عن سؤالك؟ سأفعل.

ــ   قديم ومحدث.

ــ    يا أبا مهديّ. لا يوجد مثل هذا، إمّا قديم أو محدث. أنت تبتدع ما لم يبتدع. كيف يكون قديماً ومحدثاً في الوقت نفسه؟

ــ   يكون كذلك بحسب ما ننظر إليه.  يكون قديماً لو نظرنا إليه كجزء من كلّ سرمديّ لا انفصال في قوامه وكينونته وعناصره وجوهره، ويكون محدثاً على اعتبار ما نمنحه نحن له من مرتبة.

ــ   وكيف تحدد جوهره؟

ــ   هو كتاب مفتوح يسجّل فيه الدهر وقائعه وأنفاسه.

ــ   أتعرف ماذا يسمّون هذا الجواب؟

ــ   لا.

ــ   هذا يا أبا مهديّ، يا أخي وخلّي، يسمّونه سياسة.

ردّ أبو مهديّ ضاحكاً:

ــ   نسينا أن نشكرك على التمر.

سكت ثم أضاف:

ــ   ربّما تظنّ أنّني أهزل، لا والله. لقد شحّت التمور في السواد، وسبب ذلك يعود إلى أنّ البرد ضرب البلاد في السنة الماضية. تجمدت السواقي وتوقفت النواعير وماتت المزروعات، وشحّت المحاصيل. أنت لا تكرمنا بهذا التمر والرمّان، بل ترفعنا إلى مصاف الأغنياء.

أراد المجريطيّ أن يقول له إنّه رأى هذا بأمّ عينيه في مزارع السيّد، التي تجوّل فيها، لكنّه أحجم عن قول ذلك، خشية أن يجرّه هذا إلى المزيد من التباعد مع أبي مهديّ، الذي أحبّه مثل أخ.

من أنت يا أبا مهديّ؟

ترى هل تباعدا في مشاعرهما؟ هل اقتراب المجريطيّ من السيّد سبّب ذلك لأبي مهديّ؟ هل هي الغيرة، أم إنّه حسد الفقراء؟ وهل ما قاله قيّم المدرسة عن أبي مهديّ صحيح؟ هل يعقل أن يكون من جماعة أخوان الصفا وخلان الوفا المستترين؟ أكان لقاؤهما مصادفة محضة؟ ألا يعد ذلك من طرقهم في جذب الشباب إلى مذهبهم، كما يدّعي قيّم المدرسة؟

تذكّر المجريطيّ اللحظة المرعبة التي وجد نفسه فيها وحيداً في مكتبة السيّد الخاصّة. نظر إلى رفوف الكتب فرأى عيوناً حالكة السواد مبثوثة في كلّ زاوية تنظر إليه، عيوناً في السقوف، بين الكتب، حتـّى يده التي مدّها بخوف ليلمس بها غلاف كتاب التوحيديّ خالها عيناً تراقبه وتسجل أفعاله. جرّ يده بخوف وسار مبتعداً.

"رأيتها ولمستها بأصابعي. لمستها كما لو أنّني ألمس شغاف قلبي"، قال لأبي مهديّ. كم كان غبياً وضعيفاً وهو ينطق ذلك. لكنّ أبا مهديّ رد عليه، بطريقته، التي لا تتغير، قائلا: "أقول ما قلته لمهيار. هذا يسمّونه سياسة، ولا تنس أنت أندلسيّ وهو فارسيّ"  سكت قليلا ثم أضاف: " أمّا أنا فعراقيّ"

"من منّا يخون الآخر؟ من منا يبتعد عن الآخر؟ ولكن كيف يستطيع أن يجمع بين هذا وذاك؟ كيف يجمع بين ضفاف متقابلة؟ كيف يجمع بين ما لا يُجمع ! وكيف يصل إليها ؟ إليها  هي؟ ولكن، من هي، من تكون؟

وأين هي؟ أين هي لكي أنهي هذا العذاب القاهر؟"

رشّ المجريطي بعضاً من الطيب، وأشعل البخور في المجمرة، وأخذ  رسائل أخوان الصفا وشرع يقرأ.

 

(9)

حبس المجريطيّ نفسه في مكتبة السيّد الخاصّة. أنهى كتابة وصف لحالة أشجار الحمضيّات في مزارع السيّد، ووضع ملاحظات تتعلق بطرق الرّيّ وسبل اتقاء حالات البرد المفاجئة. وضع القلم والدواة والقرطاس جانباً وراح يفكّر في ما يمكن أن يضيفه. همّ بأن يكتب ما يتذكره من إضافات ابن جلجل، لكنّه عدل عن الفكرة. من الأفضل التريث وانتظار ردود فعل السيّد.

مرّ قرب الرّفّ الذي يضمّ كتب التوحيديّ، وهو ينظر إلى ما حوله. شجّع نفسه على الاقتراب أكثر فلاحظ أنّها ناقصة؛ بعضها لم يعد موجوداً في موضعه المعتاد. لم يشأ أن يمدّ يده ويلمس ما تبقى على الرّفّ. من الأفضل التريث والانتظار. عاد يجلس خلف المنضدة، المليئة بالكتب، وراح يفكّر في أمر واحد: ما الأسلم أن يعجـّل في قراءتها، أم أن ينتظر حتّى تتعمق صلته بالسيّد وتقوى الثقة بينه وبين القائمين على المكان؟ ولكن من أين يأتي بالصبر؟ مدّ يده وراح يعبث بالمخطوطة القريبة، المفتوحة، الملقاة فوق المنضدة، فاعترته رجفة وهو يقرأ  عنوانا فرعيّا يقول " مناظرة جرت بين أبي سعيد السيرافيّ وبين متى بن يونس القنُنّائيّ الفيلسوف"، قلّب الصفحات على عجل ووقف عند سطر يقول: "إنّي أرى فصاحة لسانك سبباً لعجمة فهمك، وتدرعك بقولك آفة من آفات عقلك"، خفق قلبه بشدّة وهو يقرأ عنواناً على غلاف الرسالة: الإمتاع والمؤانسة، لعلي بن محمد بن العبّاس أبي حيّان التوحيديّ.

نسي المجريطيّ مخاوفه، نسي حذره وتريثه، وراحت عيناه تلتهمان الصفحة تلو الأخرى، وحينما فرغ من الكتاب ذهب إلى الرّفّ بتصميم واستل منه ما وجده من كتب، وانكب على قراءتها، باحثاً فيها عن شيء ما، عن بصيص ما، يمكن أن يدلّه أو يوصله إلى ابن زريق. شرع يقرأ الرسالة تلو الرسالة مثل قاتل مجنون يهوي بمديته على جسد ضحية، ثمّ لا يقوى على التوقف، مدفوعاً بقوة غامضة، لا تردّ، غافلاً عمّا يدور حوله. لكنّه لم يعثر على بغيته. كان أبو حيّان يسرح في عالم آخر، كان غارقاً في عالم بعيد لا يربطه رابط بابن زريق أو بشعره أو بأقماره. قام بتثاقل ويأس. نظر حوله فلم يجد أحداً. أحسّ بسخف مخاوفه. أعاد الكتب التي أنزلها من الرّفّ إلى مكانها، وأبقى الكتاب المفتوح على حاله فوق المنضدة، واستغرق يفكّر في أمر واحد، وهو ينظر إلى كتاب التوحيديّ المفتوح، الموضوع فوق المنضدة: من وضعه هنا ولم يعده إلى مكانه؟ من ورّقه وتركه مفتوحاً؟ نظر حوله مجدداً، فلم يجد أحداً. أهي دعوة مفتوحة للدخول في عالم ظنّه مغلقاً؟ أهو فعل مرّتب أم مصادفةٌ محضة؟ ولكن، ما نفع هذا؟ لم يقده التوحيديّ إلاّ إلى الخيبة. أيريد قدره أن يقول له هذا! أن يعلمه أنّ طرقه مسدودة، وأنّ الوصول إليها  خيال محض !

الخيبة لدى المجريطيّ لها دائماً ألوان وروائح وأشكال خاصة لا تتغير. قد تتغير الأماكن والأزمان والحالات، لكنّ الخيبة واحدة تبدأ دائماً، كما قال ابن زريق، تبدأ بشيء أوّله شؤم وتنتهي بما يشبه اللؤم. ولكن، لماذا بدأ يفقد صبره. قبل ساعات حسب كان مفعماً بالأمل، كانت مشاعره وأحاسيسه تسخر من قلّة حيلة ابن زريق وتطيّره، كان يرى أن من دخل بغداد في يوم سعد لن تنتهي أيامه فيها قبل أن ينال الوعد. لكنّه الآن يفقد صبره، فيشم رائحة الخيبة، الشبيهة بتلك الرائحة، غير المحببة التي يجلبها معه الخادم، المملوك، الذي اسمه كوكب عند دخول منزله. الرائحة التي تلبث مقيمة بعد ذهابه، حاملة معها عفونة رائحة الإسطبلات. هكذا بدأ نهار هذا اليوم، ممزوجا برائحة الإسطبلات.

أحسّ المجريطيّ أنّه لا يرغب في العودة إلى داره، إلى بقعة تذكره رائحتها بالخيبة والخذلان.

فكّر في الذهاب إلى بيته الأول. وربّما إلى مرفأ سعيد، ليتنفـّس بعضاً من هواء النهر.

مرّ بغرفة قيّم المدرسة، سلمّه القرطاس، فاقتنص الأصلع، بفراسته العالية، مسحة التضجّر على ملامح المجريطيّ، وقال:

ــ   أراك مهموماً اليوم يا أبا سليمان؟

ــ   هل أنا كذلك؟

ــ   ما أسهل قراءة وجه مليء بالبشر كوجهك !

هل هو مفضوح إلى هذا الحدّ؟ فكّر المجريطيّ وقال من دون تبصّر:

ــ   الموضوع تافه لا يستحقّ أن أكدّرك به.

ــ   تافه أو عظيم، لا يحقّ لك إخفاءه.

نطق القيّم كلماته بعفويّة، ثم تنبه إلى خشونة عبارته، فقال مبتسماً:

ــ   لا يحقّ لك أن تخفي ما يكدّرك عنّي، لأنّك تجعلني أتحمل مسؤولية عدم رضاك. السيّد لن يغفر. ..

ــ   الموضوع أصغر من هذا.

ــ   أصغر أم أكبر، لا يهمّ، لا بدّ من معالجة الأمر الآن، فوراً، لن أدعك تذهب وأنت غير راض عنّي.

ــ   عنك ! كيف لا أرضى عنك ! الموضوع يتعلق بهذا الفتى الخادم، يا أبا محمد.

ــ   ما به؟ أأزعجك بكثرة كلامه؟ لا تسمح له بالحديث معك !

ــ   ليس كلامه، بل رائحة ثيابه. يأتيني مباشرة من الإسطبل، فيترك بعد ذهابه رائحة تمكث طوال النهار في الدار.

ابتسم القيّم وقال:

ــ   سوف لن يتكرر هذا. هذا وعد، حينما تكون في البيت اليوم ستجد ما يفرحك.

بحث عن أبي مهديّ ولم يجده، فقرر الذهاب إلى البيت لأخذ بعض اللوازم والتوجه إلى الضفـّة الثانية.

حينما دخل داره واجهته رائحة الإسطبل. كانت قوية، كما لو أنّ الفتى لم يبارح الدار. وحينما خطا نحو غرفة النوم تأكد من صدق إحساسه. كان الفتى المملوك نفسه موجوداً في الدار، وليس رائحته فقط.

تفاجأ الفتى بعودة المجريطيّ المبكرة، ارتبك، وراح يعدل من وضع أغطية السرير، وهو يقول:

ــ   سأنتهي حالا من التنظيف يا سيّدي، وعذراً لأنّي جئت مرة ثانية في هذا الوقت، بسبب الإعداد  لسفر سيّدتي؛ سأرافقها غداً،منذ الفجر إلى زيارة أقرباء لها.

 رأى المجريطيّ أطباق الطعام فتقززت نفسه منه وقال:

ــ   لقد أخبرتك من قبل أنّي لا أريد طعاماً، أنا أتناول الأكل في المدرسة، لا تتعب نفسك بإعداده بعد اليوم.

ــ   أنا لا أقوم بإعداد الطعام، يا سيّدي. أنا أتولى مهمّة جلبه، أجلبه من مطبخ السيّد الكبير.

ــ   لا أريده، سواء تجلبه أو تعدّه.

ــ   ولكنّي جلبته هذه المرة من بيت سيّدتي. طبخته الجارية شمس. شمس اسم على مسمّى، طباخة ماهرة.

ــ   ما هذا؟ كوكب وشمس ! هذه ليست داراً يا كوكب، هذه سماء.

ضحك كوكب مثل طفل وقال:

ــ   ما رأيك يا سيّدي لو قلت لك ما هو أعجب من هذا، ولكن ربّما لا يحقّ لي ذلك

كان كوكب يبحث، كعادته، عن وسيلة لاستمرار الحديث، بينما كان المجريطيّ يبحث عن وسيلة لإنهائه والتوجه إلى ضفـّة النهر، إلى مرفأ سعيد، ليتنفس هواء أقلّ فساداً. قرّر أن لا يمنحه فرصة لمواصلة الحديث. شرع يجمع بعض حوائجه، لكي يحثـّه على إنهاء عمله والانصراف. لكنّ الفتى جلس على حافة السرير وقال:

ــ   هل تعرف ما اسم سيّدتي؟ نحن بحقّ كما تقول عبارة عن سماء.

لم يجب المجريطيّ، فقال كوكب مجيباً نفسه:

ــ   ستتعجب يا سيّدي لو عرفت أنّ اسمها قمر !

ــ   قمر !؟

ــ   نعم، قمر، وهي تشبه الـ

توقف كوكب عن الكلام إحساساً منه بأنّه ذهب بعيداً، أمّا قلب المجريطيّ فكاد أن يتوقف أيضاً، إحساساً منه أنّه أُخِذ على حين غرّة. فجأة جلس المجريطيّ وغرق في الصمت، وعيناه تنظران إلى شيء ما قريب، شيء ما يراه بعينيه ولا يراه أحد غيره.

ــ   هل قلت شيئاً ضايقك يا سيدي، ربّما لم يكن لائقا أن أتحدث عن سيّدتي أمام رجل غريب، ولكنّني والله أحببتك، وأحببت أن أسليك، فأنا أعرف وحشة الغربة.

ــ   لا تهتمّ يا كوكب، وقل لي، هل سيّدتك متزوجة؟

ــ   أرملة، مات زوجها منذ وقت قريب.

ــ   هل لديها أطفال؟

ــ   لا أعرف.

ــ   كيف لا تعرف وأنت تعيش في الدار ذاتها؟

ــ   يجوز ولا يجوز.

ــ   أمرك عجيب يا كوكب! دعنا من هذا واخبرني: ما اسم زوجها؟

ــ   وكيف لا تعرفه !

ــ   أنا أسألك: ما اسمه؟

صمت كوكب فأضاف المجريطيّ:

ــ   ربّما لا تريد أن تجيب.

ــ   أريد أن أجيب، لكنّني لا أعرف ماذا أقول. هل أنت تسخر مني يا سيّدي؟

ــ   دعك من هذا أيضاً وقل لي: هل قتل في معركة؟

ــ   لا أحد يعرف، هناك أقاويل كثيرة، منهم من يقول إنّه مرض ومات، ويقال إنّ اللصوص هاجموا قافلتهم الذاهبة إلى الحجّ وقتل هناك، ودفن بأرض فلسطين.

ــ   وما دخل فلسطين بالحجّ؟

ــ   لا أعرف، ربّما في الحجاز، وهناك من يقولون...

ــ   ماذا يقولون؟

ــ   البعض يقول ربّما يكون العيّارون من قتله.

ــ   العيّارون ! وكيف وصل العيّارون إلى هناك؟

ــ   لاحقوه، لأنّه كان قاسياً عليهم، وقتل منهم الكثير في السنتين الماضيتين، حينما عمّت الفوضى ونشط العيّارون في قتل كبار الطالبيين.

ــ   اسمع يا كوكب، أنا لم أفهم شيئاً من كلامك، أنت تخلط الحابل بالنابل.

ــ   ولا أنا يا سيّدي، أنا مثلك، أنا أسمع ما يقال، لكنّني لا  أتعب رأسي في تفسير الأحداث المعقدّة. أتعرف لماذا؟  لأنني لو فسّرتها أو لم أفسّرها، لو كنت على خطأ أو على صواب، لن يتغير شيء من حال الدنيا. هل أنا مخطئ يا سيّدي !

ــ   ولكنّك قلت إنّه ذهب إلى الحجّ، ثم قلت إنّه قتل بفلسطين، ما صلة هذا بهذا؟

ــ   هو ذهب إلى الحجّ، وهناك من يقول إنّه ذهب بعد ذلك في سفارة إلى مصر، رغم أنّني لا أعرف ماذا تعني كلمة سفارة.

ــ   وهل سمعت هذا من سيّدتك قمر؟

ــ   قمر ! لا، سيّدتي لا تسمح لأحد أن ينطق اسمه أمامها. هي لم تنزع ثوب الحزن يوماً واحداً، حتّى في العيد الماضي، بينما نزعت زوجته الأولى وابنة عمته ثياب الحزن منذ عدة أسابيع.

ــ   لماذا؟

ــ   لا أعرف، يقولون غيرة نساء.

ــ   ومن أيّ شيء تغار سيّدتك قمر؟

ــ   تغار لأنّها

ــ   أقل جمالا؟

ــ   أرجوك يا سيّدي أنت

ــ   يا كوكب لا تتحدث بشيء إذا كنت محرجاً أو غير مقتنع، أنت غير ملزم بهذا، لأنّه مجرد فضول. أنا، كما تعرف، غريب في هذه البلاد، وكلّ ما يهمّني هو معرفة ما يحيط بي، إضافة إلى هذا أنا وأنت نتسلى بالحديث، أنت غير مجبر على الإجابة عن أسئلتي.

ــ   ماذا أقول لك يا سيّدي، سيّدتي قمر تغار منها لأنّها... لأنّها، نستطيع أن نقول، أقلّ منزلة من ابنة عمّة زوجها.

ــ   أقلّ منزلة ! كيف ؟

ــ   لأنّ ابنة عمة سيّدي هي  ابنة العائلة الكبيرة.

ــ   إذاً لزوجها اسم تعرفه؟

ــ   يعرفه كلّ الناس.

ــ   لكنّك تعرف أنّني لا أعرفه. ولماذا تغار منها سيّدتك قمر، إذا لم تكن أجمل منها؟

ــ   لأنّ أباها يشتغل في البيت الكبير.

ــ   ماذا يشتغل؟

ــ   هو معلمي، وهو من ربّاني وعلمني الشعر والكتابة العربية، هو بمثابة أبي... أبوها سائس خيلهم، أعني كان سائس خيلهم، أنا الآن سائس خيلهم،لأنّه أصيب حينما هاجم العيّارون حظائر البيت الكبير قبل عامين.

ــ   وهل هذا سبب كاف للغيرة، كما تظنّ؟

ــ   ليس هذا فقط. سيّدتي قمر أنجبت له ولداً ذكراً، بينما لم تنجب له الأخرى سوى الإناث: ثلاث إناث.

ــ   ولكنّك قلت لي قبل قليل إنّك لا تعرف إذا كان لديها أطفال؟

ــ   أنا أقول ما أسمع يا سيّدي.

ــ   أنت تحيّرني يا كوكب، كل شيء لديك جائز وغير جائز في الوقت نفسه.

ــ   هذا صحيح، لأنّ الحياة هكذا، فيها الصحيح وفيها الخطأ.

ــ   ولكن ما رأيك أنت شخصيّاً؟

ــ   أنا ! شخصيّاً ! ليس لي رأي.

ــ   أنا أعني حينما تجلس مع نفسك وتفكّر في الأمور المختلطة، كيف تفرّق بينها، ما الذي تصدّقة أو لا تصدّقه؟

ــ   أنا لا أفعل ذلك يا سيّدي.

ــ   لا تفكر؟

ــ   لا، أفكّر، ولكنّني لا أتعب نفسي في  فرز الأمور كما تقول أنت، لأنّها في النهاية واحدة. فإذا كان عند سيّدتي طفل أو لم يكن عندها، لا يغير من وضعي شيئاً. أنا مجرد سائس في إسطبل، ولن تتغير حياتي سواء كان لديها طفل أو لم يكن، وسواء مات زوجها في بغداد أو في طريقه إلى الحجّ.

ــ   وأنت جزء من أملاك سيّدتك قمر؟

ــ   نعم ولا.

ــ   يا كوكب !

ــ   أنا أقول الحقّ، هل تريد منّي أن أكذب ! أقول نعم لأنّني أعمل في خدمتها وأحبّ أن أكون في خدمتها؛ وأقول لا،  لأنّني جزء من الأملاك التي لم تزل موضع نزاع. لكنّ الجارية شمس والبيت ومزرعة صغيرة تعتاش منها سيّدتي ورثتها عن زوجها، أمّا الأملاك الكبيرة فكانت من نصيب سيّدتي ابنة العمّة وبناتها.

ــ   لماذا؟

ــ   أنت تسألني عن أشياء لا أعرفها يا سيّدي، أنا لا أعرف لماذا فعلوا ذلك ولم أفكّر في ذلك، لكنّهم حينما اقتسموا الميراث أصبحت تابعا للجميع، ولا يمكن لي أن أذهب إليهم وأقول لهم: اسمعوا يجب أن تحدّدوا فوراً من يمتلكني؟ لا يجوز هذا، رغم أنّني أفكّر في هذا الموضوع أحياناً. فأنا أفكّر أيضاً يا سيّدي.

ــ   وهل أفرحك أم أحزنك هذا؟

ــ   أفرحني وأحزنني.

ــ   يا كوكب، إما أن يكون أفرحك أو أحزنك؟

ــ   أنا أتحدث عن مشاعري يا سيدي. أحزنني لأنّني فقدت المكان الواسع والذهاب إلى المزارع العامرة، التي تغطي قرى بأكملها؛ وأفرحني لأنّني بقيت عند سيّدتي قمر وليس هناك، وربّما أفرحني أيضاً شيء لا أستطيع شرحه لأنّك لن تفهمه.

ــ   ولماذا تفترض أنّني لن أفهمه.

ــ   أنا لا أفترض يا سيّدي، أنا واثق، لن تفهم الموضوع مثلي، لأنّك لست مثلي، لست عبداً.

ــ   اشرحه لي سأحاول أن أفهمه على قدر ما أستطيع.

ــ   المشكلة هي أنّني نفسي لا أعرف كيف أشرحه. تستطيع أن تقول إنّني أصبحت، لا أعرف كيف أعبّر، أصبحت أقلّ عبوديّة، لأنّهم لا يعرفون من يملكني.

ــ   لكنّني أرى العكس يا كوكب. أرى أنّ عبوديتك تفرقت بين المالكين، أضحت مشاعة، أصبحت عبداً جماعيّاً.

ــ   صدقت يا سيّدي، هذا بالضبط ما كنت أفكّر فيه، عبداً مشاعاً. حينما يكون العبد مشاعاً يصبح مثل غير العبد.

ــ   يسمّونهم الأحرار يا كوكب.

ــ   نعم الأحرار، اللاعبيد. هل أستطيع أن أذهب الآن يا سيدي، فسيّدتي في انتظاري.

لم يتمكن المجريطيّ من استنطاقه أكثر. ربّما لا يستطيع أن يأخذ منه أكثر الآن. أراد أن يصرخ به قائلا: أين تنتظرك؟ ودّ لو يكون طفلا لتتبّعه خفية ووقف أمامها، ورآها على حقيقتها.

 ظلّ قلبه يرتجف في صدره وهو يسمع اسمها يتكرر على لسان كوكب. هي موجودة، حيّة وليست خيالا محضا، موجودة قربه، على بعد أمتار قليلة. يكاد يسمع حفيف ثوبها وهي تسير. لا يهمّ كيف تكون، يكفي فقط أنّها موجودة، أنّها حقيقة. الوعد يتحقق. كم ضيق هذا العالم الواسع !

ــ   اذهب الآن يا كوكب. ولكن خذ هذا المبلغ. ستشتري به ثياباً جديدةً تلبسها حينما تأتي إليّ، لا تأت بثياب العمل، هل فهمت؟ أريدك هنا غداً منذ مطلع الفجر.

لم يفهم كوكب شيئاً، لكنّه أحسّ للمرّة الأولى منذ أن أبلغه أبو محمد أن يذهب إلى بيت المجريطيّ للتنظيف والمساعدة أنّ الأندلسيّ يستمع إليه ويحاوره محاورة الأصدقاء. وها هو يكرمه بمبلغ لشراء ثياب جديدة. ربّما يكون الأندلسيّ جاهزاً تماماً لقبول فكرته، التي حلم بها منذ أن عرف بمقدم الأندلسيّ، الفكرة التي درّب نفسه عليها كلّ يوم في الإسطبل وفي غرفة نومه وفي البيت: أن يجد نفسه يسير خلف الأندلسيّ، ذاهباً معه إلى الأندلس، عند عودته.

***

لم يتفاجأ أبو مهديّ بمقدم المجريطيّ، لكنّ المجريطيّ تفاجأ حينما قال له أبو مهديّ فور جلوسه:

 ــ   أزعجك الفتى الخادم !

ــ   من أخبرك؟

ــ   أبو محمد، ولكنّني أراك مهموماً أكثر مما يقتضيه حادث ضئيل كهذا؟

لم يعرف المجريطيّ من أين يبدأ. لكنّه أحسّ أنّ الرغبة العارمة التي دفعته إلى الحضور: معرفة مكان وجود قمر، وكلّ تلك الحقائق التي تؤكد أنّها هي التي ينشدها، قد خبت، أو توارت خلف هواجس غامضة. الخشية من الفشل، والخشية من مجهول ما جعلته يتردّد في قول ما جاء ليقوله في هذا الوقت غير الملائم من الليل.

ــ   هل حدث شيء مكدّر؟ أنا لا أظنّ أنّ أمراً صغيراً كهذا يفعل بك كلّ هذا الفعل!

ــ   صدقت يا أبا مهديّ. أنا مخذول بحقّ. اليوم تمكنت من قراءة كلّ ما عثرت عليه من أدب التوحيديّ.

فكّر المجريطيّ: "هل أخون صداقته حينما أداري مشاعري الحقيقيّة، وحينما أضلله بالكلام؟ لقد جئت لأمر وها أنا أذهب إلى أمر آخر، مختلق، وكاذب ! هل هو مختلق؟ ألم يكن هو الحقيقة الوحيدة التي عثرت عليها، أو عثرنا معا عليها، الحقيقة التي ستقود خطاي إليها . ولكن هذه الحقيقة لم تعد قائمة، ما عادت حقيقة، ليس لأنّ أبا حيّان لا يجيب، ولكن لأنّني الآن أسير أبعد من تلك الحقيقة، التي غدت أقلّ من كونها حقيقة. الحقيقة الوحيدة الآن هي أنّني عثرت عليها، عثرت عليها ولن أفقد الطريق الموصلة إليها ."

ــ   وماذا وجدت؟

ــ   وجدت الكثير المثير والمفيد والطريف، لكنّني لم أعثر على كلمة واحدة تربطه بابن زريق.

ــ   هذا مكدّر حقا، ولكن لا تيأس.

ــ   اليأس وعدم اليأس أضحيا متشابهين في حالتي.

ــ   ستعثر عليها، أعني ستعثر عليه. شعور خفيّ في نفسي يقول لي ذلك.

ــ   إن شاء الله.

ــ   وكيف وجدت التوحيديّ؟

ــ   حيّرني فيه أمر واحد، وأعني فيه شخصيّاً وليس في أفكاره. هل تذكر أحاديث الناس عن أصله، فمن قائل إنّه شيرازيّ، ومن قائل إنه نيسابوريّ.

ــ   وماذا وجدت أنت؟

ــ   لم أجد شيئاً سوى الغموض، لقد زادتني قراءته غموضاً على غموض. ففي إحدى رسائله  يشرح سوء الفهم المعروف بينه وبين الوزير الصاحب بن عباد، وكيف أنّ الوزير سأله ساخراً: " بلغني أنّك تتأدب، فقال التوحيديّ: تأدب أهل الزمان. فسأله: أبو حيّان ينصرف أو لا ينصرف؟ فأجاب التوحيديّ: إن قبله مولانا ينصرف. فلما سمع الوزير ردّ أبي حيان هذا تنمّر وكأنه لم يعجبه، وأقبل على واحد إلى جانبه وقال له بالفارسيّة سَفهَا ــ  على ما قيل للتوحيديّ فيما بعد، حينما سأل عن المعنى بالفارسيّة ــ  ثم قال له: الزم دارنا وانسخ هذا الكتاب."