يرحل بنا الروائي العراقي في بطون التاريخ العربي ناسجا نصه الممتع ومستوحياً حكايته من قصيدة ابن زريق الشهيرة وقصته فيأخذنا إلى العمق من أوضاع البشر في الأندلس وبغداد في تلك الفترة حيث الاضطراب والدسائس السياسية والاجتماعية في بنية مجتمع مؤسس في قيمه وأعرافه على معاداة الوضوح والصدق والحب.

تغريبة ابن زريق البغداديّ الأخيرة (رواية)

سلام عبـّـود

قرطبة

(1)

"إنّا لله وإنّا إليه راجعون"

لغط تناهى إلى مسامعي. فتحتُ عينيّ وأنا أصحو مرتبكاً، مُستفزاً. الفجر لم يطلع بعد. هل وقعت الواقعة؟

الإحساس المسبق، المعتـّق، الذي يسيطر على مشاعري  طغى على غيره من الأحاسيس. كثرة انشغالي، وهو انشغال القرطبيين كافة، بما ستجلبه الساعات المقبلة من أحداث ملك تفكيري حينما تناهت إلى أذنيّ أصوات تتحدث في أروقة الخان.

نهضتُ على عجل وخرجتُ، فوجدتُ بعض نزلاء الخان  يتهامسون  وعلى وجوههم أمارات الحزن.

"إنّا لله وإنّا إليه راجعون !"

تكرّرت العبارة غير مرّة.

اقتربتُ من النزلاء وفكّرت وأنا أطمئن نفسي: " ما يحدث الآن شأن صغير، لا يتعلق بالوضع العام  في قرطبة"؛ وقبل أن أقوم بالسؤال، نطق أحدهم موجها كلامه إليّ:

ــ   لا حول ولا قوّة إلاّ بالله، مات العراقيّ.

ــ   العراقيّ !

ــ   نعم، وجدوه ميتاً في فراشه.

انقبضت نفسي، ليس حبّا به، فأنا لا أحبّ طريقته الملحاحة والاستفزازيّة في التعامل مع الزبائن، لكنّني أحسست بقوّة الموت الكاسرة، التي تستطيع أن تختطف رجلاً نشيطاً، موفور الصحة كعمران العراقيّ، مساعد صاحبة الخان.

قلت مستفسرا:

ــ   كيف حدث هذا؟

ــ   لا أحد يعرف؛ شيء غامض ومحيّر أن يموت رجل مثله. لكنّ عمران العراقيّ تفقـّده لسبب ما، نجهله، فوجده ميّتاً.

اختلطت الأمور عليّ اختلاطا تاماً.

ــ   عن أيّ عراقيّ تتحدثون؟

ــ   النزيل القادم من أرض السواد، الذي يسمّونه ابن زريق البغداديّ.

ماجت الأرض بي. دوار مفاجئ لفّ بي الأرض لفّاً. وبالكاد تمكنت من تثبيت قدميّ بالأرض المرتجّة تحتي.

ابن زريق !

اندفعتُ من دون وعي إلى الممر الذي يأوي فيه. وجدت باب الغرفة مفتوحاً وجمعاً من الناس يتحلّقون حول سريره. رأيت عمران العراقيّ يتحدث إليهم، وحينما أبصر قدومي قام، ثمّ رفع طرف الشرشف الذي  يغطي السرير، كما لو أنّه يدعوني للاستمتاع بالمشاهدة. رأيت عن بعد وجه ابن زريق متذمّرا، هازئا كعادته، بلحيته الخفيفة المهذبة وتقاطيع وجهه الصارمة، لكنّه رغم ذلك ظلّ يحتفظ بملامح الكبرياء والجمال والتفرد المميزة فيه، التي تكسب سنوات عمره الثلاثين مزيداً من الغموض والمشاكَسة المستفِزّة.

لم أقل شيئاً. احتبست الآهات والكلمات في صدري، ولم أعد أعرف ماذا أفعل أو أقول. فأنا لا أكاد أعرفه. لم أقابله سوى مرّات قليلة في أروقة الخان، ولم أتحدث معه سوى مرّة واحدة، تحاورنا فيها على عجل، ولم أتمكن من معرفة إذا كان راغباً عن الحديث معي شخصيّاً، أم أنّه كان متحفـّظاً لسبب ما، أو أنّ ذلك طبع فيه. تحدّثنا باقتضاب، لكنّ حديثنا القصير ترك أثراً عميقاً، بعيد الغور في نفسي، وربّما خلّف أثراً لا يمحى، حتـّى أنّني فكّرت في أن أعود إلى الحديث معه، في وقت آخر، أكثر ملاءمة. وها هو ينام ميتاً في سريره.

الإحساس بالغربة هو أعظم ما هاجمني في هذه اللحظة.  أن يقطع المرء كلّ تلك المسافات والبحار ليقضي هنا، بعيدا، غريباً، وحيداً.

"إنّا لله وإنّا إليه راجعون !"

ظلّت هذه العبارة تتردّد في الأروقة، فلا يملك أحد منّا سوى هذه العبارة يواجه بها مصيراً غريبا كهذا.

* * *

الحيرةُ والوجومُ والحزنُ سادت المكان وشلّت حركة الجميع وأسرت مشاعرهم، حتـّى مجيء الخانيّة ألفيرة.

بحضور ألفيرة، المفجوعة إلى حدّ لا يقبل الإخفاء، تغيّر وقع الحركة في الخان، ودبّت حركة سريعة  ومحمومة شملت الجميع.

ــ   الموت هو العادة الشائعة الوحيدة، التي لا يمكن للمرء أن يعتاد عليها ويألفها.

نطقت ألفيرة بعيون باكية وهي تحييني، ثم أضافت وهي تسير بهمّة:

ــ   لا بدّ من ترتيب لوازم الدفن في الحال.

مضت ألفيرة  وهي تلقى أوامرها على خدم الخان، من دون أن تحاول إخفاء شدّة حزنها.

من المحتمل أنّها تحبّه ! فكّرت وأنا أراها تختفي في غرفة الميت، وتبعد الخدم من الغرفة، وتبقى وحيدة مع ابن زريق. ربّما كانت لديها آمال فيه. كم استقبلت وكم ودّعَت !

ألفيرة أندلسيّة، تقترب من الخمسين، فيها قدر كبير من بقايا جمال لافت، تدير برقّة وأناقة ونظام صارم خانها الأكثر شهرة في قرطبة كلّها. طباعها الفريدة الآسرة، وشقرتها المميزة، التي قلّما يجد المرء نظيراً لها في هذه الأنحاء، تكسب شخصيتها خصوصية استثنائية، وتمنحها سلطة حقيقيّة على كل من يقترب من محميتها الخاصة. تربطني بها علاقات متعددة. فهي تنتسب إلى العائلة ذاتها التي انحدرت منها أمّ جدّتي في نواحي مجريط، لكنّها ترتبط بالفرع الذي ظل يعتنق النصرانيّة ولم يُسلم.  تربطني بأخيها راميرو تجارة، فهو القيّم على شؤون الحسابات وتصريف الغلّة في مزرعتي وأراضي زوجتي. اعتادت ألفيرة  أن تعاملني بحبّ كأخت كبرى، وفي بعض الأحيان أحسّ أنّها ربّما كانت تهفو إلى ما هو أبعد من الأخوّة، لكنّ شخصيتها القويّة تمنعها من إظهار رغباتها وتكبح نزواتها. هي مصدر ثقة واطمئنان نفسي لعائلتي كلّها ولي بشكل خاص. أما الخان فيعود إلى عائلتها، التي تثق بها ثقة كبيرة، لحكمتها واستقامتها، ولكونها على صلات واسعة بعليّة القوم من آل جهور وبقايا الأمويين وبني عامر وكبار البربر وحتـّى الصقالبة. صلاتها القائمة على التوازن عميقة جدا، يحسب لها كثيرون ألف حساب. معارفها خليط متصارع، متعدد المشارب. تشبه ألفيرة حلقة جامعة توصل أكثر من خيط مقطوع ببعضه. لم تشارك قطّ في رأي سياسيّ محدّد، لكنّها على دراية تفصيليّة تامّة بواقع الأندلس وممالكها، قرطبة على وجه التحديد، كما لو أنـّها تملك خرائط المدينة السريّة كلّها.

أنا أحضر إلى خانها من حين إلى آخر، لسبب أو من دون سبب، وأحظى منها بأفضل غرفة مخصّصة لكبار التجار والمسافرين. فأنا ضيف خاص جدّاً. ربّما يغريني هذا التكريم، الذي تخصّني به ألفيرة أكثر من أيّ شيء آخر، لذلك أجد نفسي دائماً أعرّج عليها وأتصنع حججاً للمبيت عندها، كلّما أحسست بضيق وكدر أو ملال.

في دقائق تمّ كلّ شيء على أحسن وجه، ومن دون عوائق. نُقل ابن زريق للغسل ثم للتكفين، وسار جمع من الناس وراءه  في اتجاه مقبرة الربض.

كان عمران هو القائم بأعمال الدفن.  تصرّف بشهامة عالية، وبدا الحزن عظيماً على محيّاه، ولم تثلم شهامته سوى الحماسة التي أبداها في جمع بعض المساعدة الماليّة على روح الميت من الحاضرين، الغرباء، لسداد لوازم الدفن، كما قال. لم يطلب منّي شيئا. تقدمت منه ووضعت مبلغا في يده فسحبها بخفـّة، مستنكراً، لكنّه أحسّ بإصراري فتقبلها، وهو يقول:

ــ   كرمك سابق، يا أبا سليمان.

بعد الدفن تفرق الناس جميعهم ولم يبق في المقبرة سواي وعمران وبعض خدم الخان.

ألقيت نظرة أخيرة على القبر: كومة من التراب النديّ، يرقد تحتها إنسان عبر البحار والقفار، ثم جاء ليُلحد في حفرة ضيّقة، في أرض غريبة.

ــ   نحن أهل ما دام هو عراقيّ مثلي، نحن أهل والله.

ألقى عمران كلماته وهو ينظر إلى الأرض، كما لو أنّه كان يبعثر كلماته في تراب الشارع أو يخلطها بغبار الطريق.

ــ   ولكنّي لا أرى أحداً من العراقيين سواك. ألا يوجد لديه معارف أو أصدقاء؟ ألا يوجد عراقيون هنا في هذه الناحية؟

ــ   كـُثـُر.

ــ   ولكنّي لا أرى أحداً.

ــ   أما يكفي وجودي !

لم أجب. أحسّ عمران أنّ كلماته الأخيرة تحتاج إلى توضيح، فأضاف:

ــ    وربّ الكعبة، زوجتي مريضة منذ يوم أمس، لكنّني رغم ذلك ظللت ساهراً عند جثة ابن زريق أحنو عليها كما لو كان حيّاً.

سكت، ثمّ عاد يقول:

ــ   أتعرف ماذا يسمّون هذا؟

لم ينتظر جوابا منّي، نظر إليّ بثقة تامّة وقال:

ــ   هذه هي الطيبة العراقيّة، الطيبة العراقيّة الأصيلة والنادرة، الطيبة العراقيّة في أنصع صورها.

ــ   ليس غريبا على أهل السواد ذلك.

أجبت وأنا أحسّ بشيء من التعاطف معه. فرغم عيوبه الشخصيّة العديدة، إلاّ أنّه لم يزل يحتفظ بما هو مشترك مع الآخرين من بني جلدته. ألم يقل ذو القروح: "وكلّ غريب للغريب نسيب ." هل المعاشرة أم المكان والمجاورة هي التي تخلق الروابط بين البشر؟

ــ   نحن رغم اختلاف عقائدنا ومذاهبنا وأماكن ولادتنا، إلاّ أننا ــ  أبناء السواد جميعا ًــ  تربطنا عرى لا تنفصم.

ــ   ولكنّك لم تجبني عن سؤالي: لماذا لا أرى عراقيّا غيرك هنا؟

ــ   لا أعرف ! ربّما... حقيقة لا أعرف.

ــ   لكنّك تقول لي بأنّك تعرف القاصي والداني، كيف لا تعرف سبب هذا الجحود؟

ــ   أنت تسمّيه جحوداً، ربّما لا يسمّيه الآخرون كذلك.

ــ   وماذا يسمّونه؟ رجل في ريعان الشباب، يموت في أرض نائية غريبة ولا يمشي في جنازته أحد من أهل بلده. هذا أمر يحيّرني.

ــ   نعم، يحيّرك، ولكنّه لا يحيّر الآخرين.

ــ   وأنت؟

ــ   أنا هنا معك.

ــ   أعني، ما تفسيرك؟

ــ   لكلّ إنسان أسبابه.

ــ   وما أسبابهم؟

ــ   ربّما مجرد أسباب شخصيّة: أمزجة وأهواء. فبعضهم رأى فيه متكسباً؛ وربّما وجد فيه آخرون شيئاً من الكبر الزائف والتفاخر الكاذب. كما أنّه متجهم، عابس، متطيّر، صعب المعشر.

ــ   ولكن، هذه الأمور لا صلة لها بالموت.

ــ   لكلّ واحد من الناس رأيه.

 ــ   حسن، قل لي: ما رأيك أنت؟

ــ   أراك مهتمّاً جداً به.

ــ   ليس به، فأنا لا أعرفه، لم ألتق به لقاءاً مباشراً سوى مرّة  واحدة، قبل يومين. لكنّني مستثار ومنفعل. ما الذي جعلني وجعل هؤلاء الأغراب نسير خلف نعش رجل لا نعرفه؟

ــ   أنت تحمّل الأمور أكثر ما تحتمل. لو تعرف كم قدمت له من مساعدة، لكنّه رغم ذلك لم يكن ودوداً، ولم يكن سوى متكبر. بيني وبينك كان أقرب ــ   أستغفر الله ــ   إلى أن يكون شحّاذاً، رغم عنجهيته وكبره.

ــ   ألهذا السبب لم يأت أحد؟

ــ   ربّما، وربّما لأنّه... أقول هذا بصراحة مطلقة، ربّما هو رافضي.

صعقني ردّه. سكتّ واحتبست الكلمات في حلقي. أحسّ عمران أنّه ربّما تسرّع في استسهال الإدانة، فأضاف محاولاً إقناعي:

 ــ   لماذا يخفي أصله الكوفيّ ! لماذا يصرّ على تسمية نفسه بالبغداديّ. بغداد شيء والكوفة شيء آخر !

ــ   وماذا في هذا؟

ــ   أنا مثلك أتساءل هذا السؤال ! لو أنّه لا يريد أن يخفي شيئاً لماذا يخفي أصله الكوفيّ إذاً ! يتحدث مثل أهل بغداد، ولكنّ أصله يفضحه، فنبرته وكلماته الكوفيّة لا تُخفى على أحد.

ــ   يا عمران أنت تفترض افتراضات ظالمة. لماذا تعتقد أنّه يخفي لهجته وأصله؟ أنا لم ألمس هذا فيه.

ــ   هذا أمر طبيعيّ، فأنت لا تستطيع التفريق بين لهجات أهل السواد. لكنّ غيرك يستطيع.

ــ   لكنّه لا يخفي أصله الكوفيّ، فقد ذكر هذا أمامي.

ــ   ربّما هو يثق بك أكثر منّي، وهذا أيضاً يثير العجب. كيف يفعل هذا وهو لا يعرفك، بينما يخفي ذلك عنّي وأنا من استقبله وساعده ووقف إلى جانبه؟ لماذا؟

ــ   يا عمران لقد قال بنفسه أمامي إنّه عليّ أبو الحسين، فكيف يخفي مثل هذا الاسم تشيّعه؟

ــ   وقال لي إنّه أبو الحسن، وقال لآخرين إنّه أبو عبد الله؟ فأيّهم هو؟

ــ   أنا لا أعرف شيئاً عنه. لقد أخبرتك بأنّني لم ألتق به سوى بضع دقائق. أنت تذهب بعيداً في تفسيراتك، أنا لا أفهم إلى أي شيء تلمّح، وماذا تقصد !

ــ   يا أبا سليمان لماذا نختصم على أمر مات وشبع موتاً ! أنت سألتني وأنا أجبت عن أسئلتك لا أكثر ولا أقل.

شبع موتاً ! نظرتُ إلى الخلف. لم يزل تراب القبر نديّاً، يتميز عن  تراب القبور القريبة بلونه الحيّ، الداكن.

لمحت ابن زريق غير مرّة في أروقة الخان خلال المرّات الماضية، التي أقمت فيها هنا؛ لكنّني لم أتحدث معه، حتّى مساءاً قبل الأمس.

كان لقائي به غامضاً، مرتبكاً، كما لو أنّه مرتب من قبل قدر أرعن. كنت عائداً من خارج قرطبة. وضعت فرسي في الإسطبل وأنا أشعر بالضيق لأنّ الفرس كان مضطرباً. كنت مضطرباً ومنقبض النفس مثله. طلبت من السائس أن يهدئه فوعدني خيراً. توجهت من فوري إلى ألفيرة، حيث اعتادت أن تجلس في صدر الخان.

ــ   أنا سعيد برؤيتك مجدّداً يا ألفيرة.

قبل أن تردّ على تحيتي وقفت وصافحتني مبتسمة وقالت:

ــ   ذهبتَ إليه !

ــ   كيف عرفتِ؟

ــ   لأنّك جئتَ راكباً فرسك الأصهب.

ــ   أنتِ لا تفوتكِ فائتة يا ألفيرة !

ــ   أنتَ لم تعتد المجيء إليّ على ظهر الأصهب.

ــ   لأنّ الأصهب لا يحبّ زحمة الأسواق وضجيج المدينة.

ــ   ورّبما لأنّه يحبّ المسافات البعيدة.

ــ   هذا صحيح.

ــ   وهل أرغمته على المجيء عندي لكي تخفي شيئاً.

ــ   لا يا ألفيرة، أسأت الظنّ بي. على العكس، لم أشأ الذهاب إلى البيت وإبدال الفرس. حملته قسراً على التوجه إلى هنا.

ــ   الأمر عسير إذاً !

أحسست أنّني لن أفلت من قبضتها مهما حاولت. ألفيرة  خبيرة في نفوس البشر وفي سلوكهم، تقرأ تصرفاتهم من خلال ملابسهم ومن خلال لوازمهم ونبرات صوتهم.

ــ   أنتِ خطيرة يا ألفيرة. ما تقولينه صحيح. أنا استخدم الأصهب كلّما ذهبت إليه؛ لكنّني هذه المرّة قررت أن أتوقف عندك، لأنّني كما قلت لك، لا أستطيع الذهاب إلى البيت منقبض النفس. أنت تعرفين أم سليمان، أنا أفضّل أن لا أكدّر مشاعرها بمشاكلي الخاصة، وأنا أعرف أنّها لا تستطيع أن تفهم دوافعي وأسبابي جيّداً.

ــ   لا تبرّر سبب مجيئك يا أبا سليمان، يكفيني أنّك هنا، قربي. فمرحباً بك !

ــ   أنا لا أبرر يا ألفيرة، لكنّك ظننت أنّني أخفي عنك شيئاً، وأنت تعرفين كلّ شيء، كلّ شيء.

ــ   كان يائساً، أليس كذلك !

ــ   إلى أبعد الحدود. ولكن، لم يكن ذلك ما يقلقه.

ــ   وما الذي يقلقه؟

ــ   هو مهموم لكثرة الواعدين.

ــ   هذا أمر طبيعيّ، الدولة تغدو مثل مزاد علنيّ إبان محنة ضعفها.

ــ   يقول إنّ بعضهم عرض عليه العودة إلى الوزارة، ومنهم من عرض عليه القضاء، ومنهم من عرض عليه ما هو أهم وأكبر من هذا.

ــ   وهذا ما يخيفني.

ــ   كثرة الوعود وضخامتها؟

ــ   كثرة الواعدين تخفي وراءها كثرة الخصومات؛ وضخامة الوعود تعني البحث عن السلطة بأيّ ثمن.

ــ   الوعود الكثيرة تحمل في ثناياها احتمالات كثيرة.

ــ   تحمل أخطاراً كثيرةً. لأنّ الوعد هو وجه الواعد الحسن؛ لكنّ فشل واعد ما يرجح نجاح واعد آخر. ولا يعرف المرء  أيّ وجه سيُظهر من ينجح ومن يفشل !

ــ   صدقتِ، كثرة الوعود تزيد المهالك.

ــ   أيتوقع شيئاً حسنا؟

ــ   يتوقع أسوأ العواقب، ويخشى فتنة كبرى تطيح أساس دولة الخلافة !

ــ   انقلاب الأحوال المفاجئ في هذه المدينة يخيفيني أيضا.

ــ   لهذا نصحني أن أحتاط.

ــ   ولهذا جئت اليّ؟ !

ــ   بصدق ! نعم. فأنا أريد أن أستشيرك في أمر.

ــ   خطير؟

ــ   لا أعرف، ولكنّه حمل ثقيل.

ــ   أنا مصغية.

ــ   سأخبرك به لاحقا.

شيء ما فيّ جعلني أتردد في نطق الكلمة التي أعددت نفسي طويلاً لقولها، والتي جئت إلى هنا لكي أقولها لألفيرة على وجه التحديد. شيء ما قاهر أعاقني؛ لو أنّ الفكرة خرجت من رأسي، لو أنّها خرجت من فمي فلن تعود إلى موضعها البتـّة. استجمعت شجاعتي وقلت: ربما سأذهب إلى المغرب.

ــ   أتهرب من التهلكة بالذهاب إليها .

ــ   نعم، هذا ما أفكّر فيه. هناك أكون أمام خصم واحد. لكنّني هنا أمام خصوم لا عدد لهم، ولا أعرف احتمالات أفعالهم.

ــ   وتريدني أن أقنع أمّ سليمان بهذا؟

ــ   تقريبا.

ــ   هل عجزت؟

ــ   لا، لكنّني أخشى أن تسيء فهمي، أو أن أجرحها حينما أواجهها بهذا الأمر.

ــ   ألن يجرحها ما سأقوله لها. أنا أفضّل لو أنّك فعلت هذا بنفسك.

ــ   من دون شك سأفعل، ولكن قبل هذا أريد منك أن تمهّدي للأمر. تحدّثي عن اضطراب أحوال قرطبة والأندلس وضرورة الابتعاد عنها حتـّى تنقشع السحابة السوداء وتتضح الأمور. تحدّثي عن سفر للترويح عن النفس وللبحث عن مراجع علميّة وأدبيّة، لا أكثر.

ــ   سأفعل، سأتكفل بإقناعها؛ ولكن من يقنعني أنا؟

ــ   أنت لا تحتاجين إلى إقناع يا ألفيرة، لأنّك تعيشين في روحي، ترعينها مثل أخت كبرى.

ــ   أخت كبرى !

ــ   لأنّك كذلك عندي يا ألفيرة، أم أنّك تشكّين في هذا !

ــ   أنا لا أشكّ، ولكنّي أطمع، وربّما أغار أيضا.

ــ   مم تغار الأخت؟

ــ   بعض الأخوات يغرن أكثر من الزوجات.

ــ   لديّ ما يكفيني من الغيرة يا ألفيرة. أمّ سليمان مخزن عامر بالغيرة،ألا يكفي هذا؟

ــ   ولكنّ غيرتي مختلفة.

مثل هذا الحوار العابث كان يحدث بيننا دائماً. لكنّه حوار صادق وصاف إلى حدّ العذريّة. كانت تجيب بنقاء تام، وربّما برغبات خفيّة، مبهمة. لكنّها لم تكن تبخل في عواطفها نحوي، كانت تشملني بكل أنواع العواطف، عواطف الأم والأخت والصديقة، وربّما أيضاً عواطف المُحبّة الغيور، ولكن اليائسة.

نطقت الكلمات وهي تقوم مسرعة، وتتجه نحو الرواق المقابل. رأيت الرجل القادم من أرض السواد، المسمّى ابن زريق يدخل من باب الخان. لمحت ألفيرة مقدمَه فقامت على عجل وأوقفته، وراحت تتبادل معه بعض الكلمات، كما لو أنّها كانت تواسيه أو تقنعه بأمر ما. أخذت تشير إلى قدميه ونعليه المتـّسخين، اللذين كانا كما لو أنّهما غطسا تواً في الوحل. ثمّ لم تلبث أن عادت بصحبته.

أحدث مرآه شعوراً مبهماً، غير مألوف، في نفسي. بدا لي مهموماً إلى حدّ لا يُحتمل، يسير مثل نائم أو ثمل. جرّته ألفيرة  جرّا إلى حيث أجلُس وأجلسته إلى جواري بلطف وعطف بالغ، فراح من فوره يشكو لها بعض همومه الخاصة، في عبارات غامضة، مقتضبة، جارحة: " كأنّي خُصصت بخساسته وحدي"، "كأنّي طعنت في القرآن، أو رميت الكعبة بخرق الحيض، أو عقرت ناقة صالح، أو سلحت في بير زمزم".

ــ   لا عليك يا بغداديّ، لا عليك، ستتدبّر الأمور قريبا، فلا تكن عجولا.

 ظلّت ألفيرة تطمئنه بطريقتها الودودة، الناعمة، وحينما شعرت أنّه لا يستجيب لها قالت له:

ــ   لا تفكّر في أجور المبيت والطعام وما تستلفه من لوازم الخان. لا تفكّر في هذا البتـّة، طالما أنت هنا، عندي. أما ما تملكه من مبلغ فادّخره لحاجاتك الضروريّة. وإذا احتجت شيئاً ستجدني جاهزة دائماً ومسرورة. أنا أعرف أنّ نفسك الأبيّة لن تسمح لك بفعل هذا، لكنّني لا أعرض عليك منحة، أنا أسلّفك وسأسترد ما أقرضك إيّاه بالتمام والكمال يوماً ما أنا أراه قريباً جداً جداً، كما أراكما الآن أنت وتوأمك هذا.

نطقت ذلك وهي تمسك بساعده وتضغط عليها بحنو، وأشارت إليّ برأسها. وكما لو أنّه تنبّه للمرّة الأولى إلى وجودي، رفع رأسه، وصوّب نظره نحوي. بدت لي  عيناه محيّرتين، عسيرتين، غير قابلتين للقراءة. بدتا لي فارغتين تماماً، كما لو أنّهما صفحتان من كتاب جرى مسحهما من كلّ ما كتب فيهما، أو ربّما كانتا مملوءتين تماماً إلى حدّ تداخلت فيهما الكلمات والحروف والمداد والألوان واختلطت.

ــ   هذا نسختك العراقيّة يا أبا سليمان. هذا عليّ أبو الحسين. سبحان الله ! أنتما في السنّ نفسها، وفي المزاج نفسه، وفي الغايات نفسها. هذا نسختك الأندلسيّة يا بن زريق البغداديّ الكوفيّ.

للمرّة الأولى أراه يبتسم. ابتسامته عجيبة، لا تصدّق، تشبه وردة جميلة تنبت على قبر.

قلت مستفسراً، وأنا لا أعرف كيف أبدأ الحديث معه ومن أين:

ــ   هل أنت كوفيّ أم بغداديّ يا أبا الحسين؟

ــ   كوفيّ أو بغداديّ، لا فرق عندي. أنا عراقيّ.

ــ   أراك مهموماً يا صديقي !

ــ   وماذا يجني المرء من قرطبة غير الهمّ.

ــ   وكيف حال دار السلام؟

ــ   ليست بأحسن حال من قرطبة.

ــ   وهل أنت طالب علم؟

ــ   هذه وغيرها.

ردّت ألفيرة بإعجاب:

ــ   هو شاعر وأديب يا أبا سليمان. ستسمع اسمه قريباً يعلو في مجالس الأمراء، وتردّد كلماته القيّان.

ــ   لا أظنّ ذلك يا ألفيرة.

ــ   لا، يجب أن تظنّ وتتأكد من هذا يا بغداديّ، اليأس ليس من شيم العظماء.

ظلّت ألفيرة  تجامله بطريقتها، وتحاول أن تفرّغ بعض شحنات آلامه.

ــ   لا أظن ذلك أيتها الأندلسيّة الطيّبة.

ــ   لماذا لا تظنّ ذلك، أنت مصرّ على أن تغلق على نفسك أبواب الله الواسعة.

ــ   الواسعة ! أين هي الأبواب يا ألفيرة، أين الأبواب؟

نطق وهمّ بالوقوف، لكنّ ألفيرة قالت له:

ــ   لا تنصرف ! ما رأيك لو أنّك رافقتني إلى بيتي، ربما سيحضر عندنا اليوم رجل له مكانة كبيرة في قرطبة ومعه ضيوف كبار من المريّة. إنّها فرصة لك لكي تروّح عن نفسك ولكي تلتقيهم.

أردّت أن أهوّن عليه الأمر فقلت:

ــ   إذا وعدت ألفيرة فإنّها واثقة تماماً من أنّ وعدها سيتحقق لا محالة.

نظر البغداديّ إلى وجهي بأسى، ثم تبادل نظرات غامضة مع ألفيرة، التي طأطأت رأسها؛ لكنّها سرعان ما رفعت رأسها وهي تزيح خصلة شعرها الصفراء من على جبينها وتقول بحماسة:

ــ   ربما ستكون هذه البداية الحقيقيّة يا بغداديّ.

ــ   لا أظنّ يا ألفيرة، لا أظنّ.

 قلت بتعاطف تام ومشاعر صادقة وأنا أراه يدفن نفسه في حفرة الإنكار المطلق:

ــ   لماذا هذا الإصرار على غلق الأبواب يا بغداديّ؟

ــ   أوّلها شؤم وآخرها لؤم.

ــ   أنا لا أكاد أفهم ما تقول.

ــ   هل سمعتَ بشخص اسمه التوحيديّ؟

ــ   لا، من يكون؟

ــ   أبو حيّان التوحيديّ.

ــ   لم أسمع به.

ــ   حينما تسمع أخباره ستعرف قصتي على حقيقتها. استودعكما الله. أنا متعب، ولا بدّ لي أن استريح قليلا وأخلو إلى نفسي.

قام على مهل، وذهب ماشياً بهدوء عجيب، كما لو أنّه سائر نحو قبره.

كان ذلك آخر عهدي به.

 

(2)

حينما وصلنا الخان شرع عمران يلقي الأوامر على خدم الخان، بينما توجهت أنا إلى ألفيرة. وجدتها تجلس في مكانها، ولكن في حال لم أعهدها فيها من قبل. بدت لي ثائرة الأعصاب، تسرف إسرافاً غريباً في إظهار حزنها وثورتها وانفعالها.

ــ   عجيب أمرك يا ألفيرة ! لقد قمت بشؤون الدفن كلّها طوعاً، لكنّك لم تحضري دفنه؟

ــ   أنا لا أحتمل أن يوضع إنسان في باطن الأرض، ثمّ. ..

ــ   ولكنّ الموت حقّ، وهذا مصير كلّ من عليها.

ــ   وهذا ما لا أستطيع تحمّله. رّبما لأنّني أشعر بنوع من الذنب تجاهه.

ــ   ذنب ! كنت عطوفة عليه.

ــ   لا أعرف إذا كنت كذلك، أم أنّني التي قدته إلى هلاكه !

ــ   لا تحمّلي نفسك وزر شيء لم تقترفه يداك يا ألفيرة.

بكت ألفيرة بحرقة وقالت:

ــ   دعنا نترك هذا المكان.

ــ   كما ترغبين، ولكن إلى أين؟

ــ   إليه !

ــ   ما أعجب أحوالك يا ألفيرة ! قبل دقائق كنت تقولين إنّك تكرهين رؤية الناس يقبرون. وها أنت تريدين الذهاب إليه في قبره.

ــ   نعم، أريد هذا، وإذا لم أذهب إليه من فوري ربّما سيحدث لي شيء فظيع.

ــ   أنا لم أرك من قبل مضطربة و...

ــ   مختلّة، قلها ! مختلّة، أليس كذلك؟

ــ   لا، أعني منفعلة وثائرة.

ــ   وتائهة.

ــ   أنت حزينة يا ألفيرة.

ــ   لست حزينة، أنا قتيلة يا حبيبي وأخي، أنا قاتلة وقتيلة.

نطقت كلماتها واستلت رقعة من رفّ موجود إلى جوارها. رفعت رأسها الباكي نحوي ومدّت يدها بالرقعة، ووضعتها بعنف في يدي.

أخذتُ الرقعة ونظرتُ فيها فوجدتُ أبياتا من الشعر مكتوبة بخطّ كوفيّ جميل.

نظرتُ إلى ألفيرة وقلت مستفهما:

ــ   أبيات شعر كالعقيق.

ــ   ليست أبيات شعر، وليست عقيقاً، هذه بعض دماء القتيل. دماء الزمان والمكان والإنسان يا أبا سليمان. دماء ودموع وآمال لم تر البشريّة مثيلاً لها قطّ، ولن تسمع بمثلها البتـّة.

لم أفهم ماذا تعني. ولم أتمكن من استيعاب ما تقوله أو تفعله. بدت مثل شخص فقد رشده وأخذ يهذي.

نظرتُ إلى الرقعة مجدداً لأعرف ما فيها، لكنّ ألفيرة أسرعت وأخذت الرقعة منّي بخشونة لم أعهدها فيها من قبل. كانت مثل حيوان متوحش جريح فقد المقدرة على تحديد الخصم الذي ينوي مهاجمته.

قامت ومشت، من دون أن تلتفت إليّ. مشيت خلفها منقاداً إليها . ذهبت إلى الإسطبل وركبت فرسها وتحركت. عجّلت في ركوب فرسي ولحقت بها. لكنّها لم تعرني التفاتاً، ظلّت تحثّ فرسها على المسير حتّى عبرت القنطرة ثمّ اتجهت خلف النهر صوب مقبرة الربض، ففهمت أنّها تقصده، وأنّها ذاهبة إلى قبره.

دخلنا المقبرة معاً. ترجلَت بخفـّة، لكنّها كادت أن تهوي، فأسرعت وأمسكت بها، فما كان منها إلاّ أن احتضنتني باكية، وهي تقول:

ــ   لقد قتلته، ولن أغفر لنفسي.

وحينما صرنا عند القبر، ناولتني الرقعة وقالت:

ــ   إقرأ بصوت عال.

ــ   لا تؤاخذيني كثيراً لو تلكأت في القراءة، فأنا مرتبك، كما ترين.

  لم تعقــّب على كلامي. أحسست أنّها غير معنيّة بشيء مما أفكّر فيه أو أحسّه. كانت غارقة تماماً في حزنها. فتحتُ الرقعة وشرعتُ أقرأ، وهي تقف أمامي مترنـّحة، يفصل بيننا قبر ابن زريق. كففت عن النظر إليها ، وركـّزت أنظاري في الرقعة، لأنّ ألفيرة لبثت تميل إلى أمام والى وراء، كما لو أنّها توشك أن تهوي على صفحة القبر:

لا تَـعـذَلِـيــه فَــإِنَّ  الــعَـذلَ   يُـولـِـعُـهُ     قَـد ُقلـت حَقّـاً، وَلَكِـن لَيـسَ يَسمَعُه

جــاوَزتِ فِـي نـصحــه حَـداً أضَـرّ بِـــهِ     مِـن حَيـثُ قَـدّرتِ أَنَّ النصح  يَنفَعُـهُ

قَـد كـانَ مُـضطَلَعا  بِالخَطـبِ  يَحمِلُـهُ     فَضُـلـّعَـتْ بِــخُـطُـوبِ البـين  أَضلُـعُـهُ

مـــا آبَ مِــن سَـــفَــرٍ إلاّ وَأَزعَـــجَـــــهُ     عـزم  إلى  سَــفـَـرٍ  بِـالرغــمِ  يُــزمِعُــهُ

كَأَنّـَمــا هُــوَ فِـي حِــــلِّ وَمُــرتـــحــــلٍ      مُــوَكَّـــل بـِــفَـــضـــاءِ الــلــَـهِ  يَذرعــهُ

  استَودِعُ اللَـه،َ فِـي بَغـداد،َ لِـي قَمَـراً      بِالكَـرخِ مِـن فَلَـكِ الأَزرارِ مَطلَــعُــــهُ

وكـــم تـشــفـــّعَ بـي أن لا أفـــارقــــــهُ،      ولـلـــضـروراتِ حــــــال لا تُــشَـفــّعــُهُ

وَكَم تَشبَّثَ بـي يَـومَ الرَحيـلِ ضُحَـىً،     وَأَدمُــعِــي مـُســتَـهــِـلّاتٍ  وَأَدمُــعــُــــهُ

أعطيتُ مُلكـاً فَلَـم أَحسِـن سِياسَـتَـه،ُ     وَكُـــلُّ مَـن لا يُسُـوسُ المُلـكَ يَخلَعُـهُ

وَمَن غداً لابِسـاً ثَـوبَ النَعِيـم    بِـلا      شَـكـرٍ عَــلَيــهِ، فـَعـنهُ الــلَـــهُ يَنـزِعُـــهُ

وَالحِرصُ في المرء وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت     بَغِـيُ،ألا  إِنَّ  بَغـيَ  المَـرءِ  يَـصـرَعُـــهُ

لــو أنــني لـم تــقـع  عيـني عــلى  بــلـد         في سـفــرتـي  هــذه  إلاّ  وأقـــطــعــــــهُ

اعتَضتُ مِن وَجـهِ  خِلّـي بَعـدَ  فِرقَتِـهِ      كَأســاً  تجَــرَّعَ  مِـنـهـا مــا  أَجَـرَّعُـــه

فرغتُ من القراءة. رفعتُ رأسي نحو ألفيرة، فوجدتها تتوسد القبر، كما لو أنّها تعانق شخصاً حيّاً. لا أعرف منذ متى فعلت ذلك. كنت مأخوذاً أكثر منها. نظرت إلى ما حولي فلم أر شيئاً سوى القبور المتلاصقة. لم أعد أقوى على الوقوف. غيمة كثيفة من الأحزان هبطت على فؤادي فأغرقته بقتامتها. أحسست كما لو أنّني فقدت ذاكرتي. ضباب مُخَدِّر أخذ يتكاثف في رأسي. جلست أمام القبر والرقعة أمامي موضوعة عليه، وشرعت أتبارى مع ألفيرة في إظهار حرقة البكاء، وأنا لا أدري على وجه اليقين على من كنت أبكي: على شخص لا أعرفه معرفة أكيدة، أم على مصيره الغريب الغامض، أم على خيباتي الشخصيّة ! كانت فرصة نادرة لإطلاق الأحزان من دون خجل أو حرج.

لا أعرف كم لبثنا منكبّين على وجهينا، نسرف في إطلاق أحزاننا.

فجأة شعرت كما لو أنّ يدا تهزّني. فتحت عينيّ فوجدت القبّار يقف خلفي وهو يقول:

ــ   اعذرني يا سيّدي، لأنّني قطعت عليك غفوتك. فأنت والسيّدة استغرقتما في النوم. هل أنتما متعبان؟ هل أستطيع أن أقدّم لكما خدمة؟

ــ   أين فرسانا؟

ــ   لا تخف ! لقد عنيت بهما، هل تريدان مساعدة؟

فتحت ألفيرة عينيها مذعورة وقالت:

ــ   أين نحن؟

ــ   لا تقلقي يا ألفيرة ! نحن هنا، في المقبرة.

فركت عينيها وعدّلت هيئتها، فبدت شخصاً آخر بلمح البصر. عادت فجأة إلى طبيعتها التي أعهدها فيها:  ودود، حازمة، على الرغم من الإعياء الواضح، الظاهر على صوتها ووجهها.

نظرت إليها  فوجدتها هادئة، ساكنة المشاعر. شدّة تقلّب مزاج  ألفيرة جعلني أظنّ أنّني لم أزل نائماً أحلم، لكنّني تأكدت من حقيقة ما يجري حينما رأيت الريح تداعب الرقعة الموضوعة فوق القبر. كانت أطرافها تتحرك مثل شيء حيّ. مددت يدي بحذر وأخذت الرقعة المرتجفة، وأنا خجل من نفسي لأنّني أغفيت من شدة التعب وفقدت السيطرة على مشاعري.

قلت لكي أسيطر على مشاعري:

ــ   أهذا شِعره؟

ــ   يا ويلي ! هذه روحه يا أبا سليمان، روحه. هذا لا يسمّى شِعراً، هذه روح، روح طاهرة، محبّة، عظيمة، لا تجود الأرض والسماء  بمثلها بعد اليوم، روح سُكبت هنا وخلّفت وراءها جسداً هامداً غريباً مهاناً.

سارت  فتبعتها. أوصلتها إلى بيتها.

قلت لألفيرة لكي أبرر لها ضعفي:

ــ   لم يحدث لي مثل هذا من قبل. صحيح أنّي لم أنم منذ منتصف الليل، لكنّني لم أحسب أن يأخذني النوم بهذا الشكل، لقد ظننت أنّني أحلم.

ــ   وأنا كذلك. واعذرني لو بدر مني شيء مخجل، فقد كنت ثملة بعض الشيء. هذه هي المرّة الأولى في حياتي التي أخرج فيها من البيت وقد احتسيت بعض النبيذ. يحدث لي هذا حينما أشرب على عجل. يبدو أنّني كنت حزينة جداً، أكثر مما أظن.

ــ   فاجأنا موته.

ــ   الموت كالفراق، الموت والفراق سرّ من أسرار الغيب.

ــ   وما سر القصيدة؟

ــ   القصيدة هي ما جعلني أقع في ما وقعت فيه اليوم. قصتها طويلة. وجدها عمران على سرير ابن زريق وهو ميّت.

ــ   كنت تتحدثين عن الموت، وتلومين نفسك، وتتهمينها بقتله !

ــ   أنا لا ألوم نفسي، بل أدينها، فأنا التي بعثته إلى هلاكه. أنا التي أوصلته إلى أبي عبد الرحمن. استمع أبو عبد الرحمن إليه، وأراد إكرامه، كما قيل، لكنّ بعض خاصته أشاروا عليه أن يختبر سماحة المادح وحلمه وصدق إخلاصه ويبلوه، فأعطاه شيئاً قليلاً، تافهاً، لا يُعطى مثله حتـّى لطارق باب مسكين، فانكسرت إليه نفسه، وقال: " إنّا لله وإنّا إليه راجعون ! سلكت البراري والبحار والمهامه والقفار فأعطاني هذا العطاء النزر؟".  وقد رأيته بنفسك يوم أمس الأول. كان عائداً حينذاك من أبي عبد الرحمن وهو في ذروة يأسه وحزنه وانكساره. حينما رأيته في تلك الهيئة انقبض قلبي وهاجمتني الشكوك.

ــ   لاحظت ذلك أيضا، كان موحل القدمين.

ــ   هذا ما أعنيه. وهذا ما أقلقني. قلت له: "لماذا قدماك موحلتان بهذا الشكل؟ أجئت ماشيا من قصر أبي عبد الرحمن إلى الخان؟"، فأجابني: "لا، جئت راكباً، لكنّني عرّجت على الوادي الكبير، وغمست قدميّ فيه، وأنا أحسّ كما لو أنّني أغطسهما في ماء دجلة"  .  فانقبض قلبي ووسوس الشيطان لي حينذاك بأنّه ربّما كان ينوي إلحاق الأذى بنفسه.

ــ   إذاً هم الذين قتلوه.

ــ   وربّما أنا.

ــ   ما ذنبك أنت ! أنت كنت تقدّمين له خدمة حينما قمت بإيصاله إلى شخص كبير المقام يدّعي حبّ الأدب.

ــ   ما يؤرقني أنّني سمعت كلاماً آخر، يختلف عن تلك الرواية في بعض التفاصيل، ولكنّني لم أتمكن من التأكد من عمران، لأنّه لم يفدني بشيء مفهوم لحدّ الآن.

ــ   ماذا سمعتِ؟

ــ   لا أدري كيف أربط بين الأمور، أنا غير واثقة من شيء؛ ربّما أنا لم أزل تحت تأثير الصدمة أو النبيذ، وربّما أنا أهذي حقاً، كما قلت أنت.

ــ   كيف تفسرين الأمر؟

ــ   لقد فتشّت جسده بقعة بقعة لأرى إذا كان مصابا، لكنّه كان سليم الجسد. حتـّى عمران لم يلحظ شيئاً غير طبيعيّ حينما زاره قبل منتصف الليل ورآه يبكي من شدّة الخذلان. سألت عمران أكان يبكي من ألم ما؟ فقال لي: لا، كان حانقاً، يقول: قطعت كل تلك البحار والمفازات لألقى ما يلقاه أشدّ الشحاذين بؤساً. كأني خصصت بخساسته وحدي. قال عمران كان ابن زريق يردّد هذه العبارة، وهو ينتحب مثل ذبيح.

ــ   وماذا يعني هذا؟

ــ   لا أعرف؟ لكننّي أقول لك: أنا الآن قد أوافقك لو قررت السفر إلى عدوة المغرب.

ــ   أتلمّحين إلى أمر ما يا ألفيرة؟

ــ   لا، لو كان عندي ما أريد قوله لما أخفيته عنك، لكنّني لا أرتاح للرجال الذين يتولون قيادة فرق ما يعرف بجيش الخارج، المرتزقة، مهما كانت أخلاقهم فاضلة. لأنّهم محاطون بقوم مغشوشين، عديمي الضمائر، ويتعاملون مع جماعات مجهولة الأصول والخلق والطبائع، فتتأثر أخلاقهم بمن يحيط بهم.

ــ   هل لديك شكوك في...

ــ   لا يا أبا سليمان، قلت لا. لكنّني منقبضة القلب، وربّما أريد أن أخفـّف من ذنوبي عن طريق اختلاق ذرائع وأوهام أخدع بها نفسي.

حديث ألفيرة حيّرني. فهي لا يمكن أن لا تقصد شيئاً. لكنّني رغم جسامة ما تتحدث به شعرت أنّ شكوكها أو خيالاتها لم تعد تعنيني في شيء. كانت روح ابن زريق التي أودعها في رقعة لا قيمة لها، هي التي أسرت لبّي. صورة امرأة آسرة، كاسرة، من بغداد، تجمع بين الجمال والعظمة، تشبه أفلاك السماوات، تتشبث بردائه وهو يبتعد عنها، قائلاً لها: لا تقلقي، سأعود إليك سريعاً، غير مدرك أنّه ذاهب إلى حتفه ! لماذا تركت الجنّة وراءك يا بن زريق؟ لماذا؟

أحسست أنّني مشدود إلى شيء ما، لا أستطيع نسيانه. كنت أحادث ألفيرة وعقلي مشغول بكلمات ابن زريق:

ــ   هل أستطيع الاحتفاظ بالقصيدة؟

ــ   نعم، لك أن تنسخها، ولكن أعد الأصل لي.

أخذت الرقعة، طويتها بعناية وقلت لألفيرة:

ــ   يجب أن أذهب. أنا متعب جداً، وأراك أنت متعبة أيضاً.

ــ   تستطيع المبيت هنا.

ــ   شكراً يا ألفيرة، أريد أن أختلي بنفسي.

ــ   تستطيع أن تختلي بنفسك هنا أيضاً.

ــ   لا أستطيع يا ألفيرة، واسمحي لي بالذهاب.

ــ   إذا كنت مصرّاً على الذهاب؛ ولكن تريّث، لا تغادر قبل أن أعود إلى الخان. سأذهب إلى أم سليمان غداً، وستسمع منّي ما يرضيك.

ــ   إلى اللقاء.

خرجت مسرعا. لم تزل الشمس في قبّة السماء. الفكرة الوحيدة التي سيطرت على عقلي هي أن أذهب فوراً إلى سوق الورّاقين لأجد أفضل خطّاط يستطيع أن ينسخ لي قصيدة ابن زريق، وأن يصنع لي نسخة تضاهيها دقّة وجمالاً.

 

(3)

وضعت الرقعتين، الأصل والصورة، على السرير، ورحت أتأمل انسياب وتشابك حروفهما وكلماتهما. بدتا لي تشبهان أرضا عظيمة الخصوبة تغمرها أنهر من الحبّ والمكابدة، وروافد من ألم البين وألم الدهر. كانت الرقعتان تستلقيان على السرير أمامي مثل كائن حيّ، أكاد أشم عبق كيانه، وألحظ أنفاسه، وألمس دفء مشاعره، وأسمع وجيب قلبه.

هل يمكن لبغداد أن تكون رقيقة وعميقة إلى هذا الحد في آن واحد ! أصيلة ومجددة في آن واحد ! ثائرة ومقيـّدة في آن واحد ! ومن غير بغداد يمكن أن يكون كذلك ! البداية الغزليّة للقصيدة، التي تشبه تأكيداً على الالتزام بعمود الشعر، كانت تمرّداً خفيّاً عليه. أمّا العودة إلى براءة الغزل العذري الأمويّ، وما حفل به من جرأة وحرّيّة عاطفيّة، فتغاير في عمقها الوجوديّ التركيزَ الفرديَّ على العواطف الشخصيّة في شعر الغزل التقليديّ. والرحلة، التي هي من لوازم عمود الشعر، لم تكن ارتحالاً في المكان، بل كانت ارتحالاً وجدانيّاً فريداً. الهجوم  العاطفي الذي افتتح به قصيدته، تبرير تضليليّ أراد به أن يكسب عطف مستمعيه وأن يحوزهم إلى صفـّه في مواجهة مشاعره الأكثر حميميّة، في مواجهة كتلة اللهب العاطفيّ، التي تشبثت بردائه في لحظة الفراق، والتي يدرك في قرارة نفسه أنّه ألحق بها ظلماً قاتلاً. تعدد ضمير القول كان غشّاً عاطفياً. ربّما كان يشجّع نفسه على المضي في لعبة الفراق والمكابدة، في لعبة الترحال العبثيّ والبحث عن الوهم، في رحلة الأخطاء واللعب على الأقدار والمصائر ! والمرأة التي تركها خلفه؟ ما الذي قهره على ذلك؟ لم يظهر بوح غزليّ عن زوجة، في التراث الشعريّ العربيّ كلّه من قبل، على هذه الدرجة من التشخيص والإشهار.

أيّ قمر ذلك الطالع من فلك الأزرار؟ من تكون؟ كيف شكلها؟ وكيف تمضي ليلتها هذه؟ هل أحسّ قلبها حينما توقف نبض حبيبها؟ هل ضاقت أنفاسها بتوقف أنفاسه؟ هل لمست عيناها انطفاءة النور حينما أهيل التراب فوقه؟

من تكون، وكيف تكون؟

لم أنم حتـّى مطلع الفجر، حتـّى اللحظة التي بدأت فيها أفرّق تفريقاً مطلقاً بين الأصل والصورة لفرط ما أطلت النظر فيهما. حاء قرطبة وحاء بغداد، باء قرطبة وباء بغداد؛ عين قرطبة وعين بغداد، شين قرطبة وشين بغداد، قاف قرطبة وقاف بغداد، خط بغداد الكوفيّ وخط قرطبة الكوفيّ. غفوت وأنا أتوسد الحروف، وفي خيالي المضطرب، الخَدِر، يمرّ كلّ حين طيفُ امرأة بغداديّة، تمرق عابرة مثل قدحة زند، وامضة في عتمة روحي.

" أبا سليمان، أبا سليمان !"

سمعتها تردّد اسمي. صوت قادم من بغداد يناديني. أسمعها تدعوني إليها . كلمات تخرج من ومضة الخيال ومن قدحة الحلم إلى الحياة وتناديني، تقول لي: تعال يا أبا سليمان، تعال !

ــ   أبا سليمان، أبا سليمان !

فتحتُ عينيّ مرتبكاً وأنا أحسّ أطراف أصابعها تلمس أجفاني.

كان عمران في مواجهتي. فركت عينيّ وقلت:

ــ   اللّهم اجعله خيراً !

ردّ مبتسماً:

ــ   كما لو أنّك تتعوذ بالله من شرّ شيطان رجيم.

ــ   أنا متعب يا عمران، لماذا لم تدعني أواصل النوم، لم أنم إلاّ عند مطلع الفجر.

جلست على حافـّة السرير فلاحظت أبصار عمران تسقط على الرقعتين وتمعن النظر فيهما.

ــ   لم أرغب في تركك نائماً، لكي لا تلومني فيما بعد.

ــ   ألومك !على ماذا؟

ــ   على ما يحدث الآن في الخان.

ــ   وماذا يحدث الآن؟

نطقت الكلمات بخوف وفكري يذهب بعيداً، إلى ألفيرة وحالتها العجيبة ليلة أمس، سكرها واضطراب مشاعرها ونومها وهي تتوسد القبر.

ــ   جاء يسأل عنه.

ــ   من جاء؟ ويسأل عمّن يا عمران؟ لا تجعلني أستقبل يومي بألغازك العجيبة.

ــ   من غيره، أبو عبد الرحمن !

ــ   وماذا يريد؟

ــ   جاء يسأل عنه، عن ابن زريق.

ــ   ابن زريق ليس في الخان، ابن زريق في مقبرة الربض يا عمران؛ ألم تقولوا له ذلك؟

ــ   لهذا السبب جاء.

لم أستطع الوصول بسرعة إلى ما يفكّر فيه عمران وأنا في هذه الحالة المرتبكة. عمران يسبقني في الأحوال الاعتياديّة بعدد من الدورات واللّفات الافتراضيّة، التي تتطلب منّي جهداً مضاعفاً لكي أصل إلى حقيقتها وفحوى مقاصدها. أمّا الآن وأنا ممزق النفس، مشدود الأعصاب،  موجوع البدن، فلا أقوى على تتبع خيوط وتعرّجات أفكاره ومقاصده.

ــ   أنا متعب يا عمران، قل لي بالضبط ماذا تريد أن تقول.

ــ   هو موجود الآن عند ألفيرة في غرفتها، وحينما طال مكوثه عندها فكّرت في أنّها ربّما تظنّ أنّك لست في الخان، فلم ترسل في طلبك للقائه.

 عشرة أخطاء محتملة تضمنتها جملة عمران القصيرة. عشرة افتراضات كاذبة تخفي تحتها سبباً غامضاً لا يريد أن يبوح به. لا يمكن لألفيرة أن تدعوني لمقابلته وهي تدرك قرفي منه وشدّة احتقاري لوضعه؛ ولا يمكن لها أن تدعوني، لكي لا تشعره بأنّني أقيم عندها وبيتي على مقربة من قرطبة، في ربضها الشمالي، رغم أنّه لا تُخفى عليه مثل هذه الأسرار الصغيرة؛ ولا يمكن لي مغادرة الخان من دون إخبارها والتحدث إليها  كما اتفقنا يوم أمس؛ ولا يمكن أن أكون خرجت من الخان وفرسي مربوط في الحظيرة. ماذا يريد عمران إذاً؟

ــ   لا أريد أن أرى أحداً يا عمران، هل أنت مرتاح الآن !

ــ   كما تحبّ، على أيّة حال لقد أدّيت واجبي نحوك.

ــ   شكراً لك يا عمران، والآن دعني أواصل نومي، وحينما أصحو تستطيع أن تحدثني عن كلّ شيء بالتفصيل.

ــ   وكيف أحدّثك بالتفصيل وهو لم يخرج من غرفة ألفيرة ! وربّما سيخرج منها مباشرة إلى بيته.

ــ   يكون في هذه الحالة قد أراحنا من أفضاله علينا.

ــ   أأنت ناقم عليه وباغض له إلى هذا الحدّ؟

باغض وناقم ! أيقظت كلمات عمران حواسيّ. باغض وناقم ! أحسست برجفة وأنا أتخيل نفسي مقاداً من قبل عسكر أبي عبد الرحمن وأنا أوشك على مغادرة قرطبة. أيّ مصير أرعن سيكون لو أنّه تمكن منّي بهذه البساطة وفي هذه اللحظة الخاطئة، القاتلة !  نهضت بعزم وأنا أشعر بآلام في أنحاء متفرقة من جسدي، وقلت:

ــ   يا عمران، أنت تعرف أنّني سأعرف التفاصيل كلّها من ألفيرة، فلماذا تريد منّي أن أزعجهما بوجودي ! لو كان وجودي ضروريّاً لبعثا في طلبي، أليس كذلك؟

ــ   ربّما تكون على حقّ.

ــ   عليّة القوم وكبارهم يا عمران يستحقـّون منّا أن نعاملهم بشكل خاص يليق بمكانتهم، وأن لا نتطفـّل عليهم بشؤوننا الشخصيّة الصغيرة. يجب أن تكون لهم مكانة خاصّة في نفوسنا.

ــ   صدقت.

نطق الكلمة وهمّ بالذهاب، فعجلّت بالقول:

ــ   أخبر السائس أن يعتني بفرسي جيداً لأنّني سأغادر اليوم.

ــ   لم نشبع من وجودك !

ــ   ستشبع منّي في يوم من الأيّام.

ابتسم وهو يفسّر ويؤوّل كلماتي، التي حرصت أن تحمل أكثر من معنى، لكي يستمتع بها بطريقته الخاصّة، ولكي يظل مشغولاً في تفسير احتمالاتها.

في الطريق إلى موضع الوضوء سمعت جلبة وضوضاء تقترب منّي. غسلت وجهي على عجل وأنا أرى حرّاس أبي عبد الرحمن يتزاحمون في الأروقة، وهم يبعدون الناس الذين أخذوا بالتجمهر، فأدركت أنّ أبا عبد الرحمن في طريقه إلى الخروج. فكّرت في أن أظلّ قابعاً في الداخل، لكنّ تجمهر الناس حول أبي عبد الرحمن أثار فضولي، وأثار انتباهي أنّه كان يتعمد أن يتجمهر الناس، كما لو أنّه كان يقصد حدوث ذلك. وبالفعل صدق ظنّي. فحالما اكتظّ المكان بالناس وقف أبو عبد الرحمن وسطهم مثل خطيب، وراح يتحدث عن فضائله وكرمه وسخائه ودوره في تثبيت أركان الدولة والإسلام على أرض الأندلس. تضاعف قرفي منه وأنا أسمعه يكيل المديح لنفسه. لكنّني أصبت بنوبة حادة من الاستفزاز وأنا أراه ينعطف فجأة من المديح إلى الرثاء. في لحظة واحدة انقلبت سحنته المتكبرة المفاخرة وأخذت تكتسب هيئة المحزونين، المصابين بالفواجع القاتلة. رقّ صوته وأخذت الدموع تسيل من عينيه مدراراً، واخضلّت لحيته بالدمع. أيّ مصانع بارع هذا القاتل الصلف ! بّخـُل يوم أمس فقتل الرجل، ويريد الآن أن يقتله مرة ثانية بسخائه الكاذب !  فكّرت وقد ملأ الغيظ صدري، فخطوت من دون وعي في اتجاه الحشد، وشققت طريقاً لي بينهم.

رفع أبو عبد الرحمن رقعة مماثلة للرقعة التي كُتبت عليها قصيدة ابن زريق وشرع يقرأ:

 لا تــعـذلـيــه فَــإِنَّ الـعَــذل  يـولـِـعُــهُ    قَـد  قـلـتِ حـقّــا،ً وَلـكِـن لَيــسَ   يَـسـمَـعُـهُ

خلعت كلماته قلبي من موضعه. كيف تسنى له أخذ الرقعة وقد تركتها خلفي منذ دقائق حسب ! لكنّني هدأت حالما أدار الرقعة لكي يُري الناس كلمات ابن زريق. كانت نسخة مخطوطة على عجل بخط رخيص ورديء جدّا، هي غير الأصل وغير النسخة التي صنعوها لي يوم أمس. فكّرت في عمران، الذي كان يقف على مبعدة من أبي عبد الرحمن، خلف حراب الحرّاس، وهو ينظر إلى الرقعة بفخر وزهو ويتصنع النواح والبكاء.

قال أبو عبد الرحمن بصوت باك:

ــ   والله لو أنّني كنت أعلم بالغيوب، استغفر الله، لكنت اقتسمت معه ثروتي. وددت لو أن هذا الرجل حيّ وأشاطره نصف ملكي، فهو يستحقه أكثر منّي.

بحركة عاطفية بارعة استل أبو عبد الرحمن صرّة من ثوبه، مثقلة بالقطع النقديّة، وقال بصوت مرتجف:

ــ   هذه خمسة آلاف دينار، لو أنّني أعرف من يستطيع أن يوصلها إلى أهل بيته لمنحته الآن جراية تكفيه مؤونة الذهاب والعودة وجعلته من خاصتي. ولكن، أنتم تعرفون، أنّ أرض السواد بعيدة، ولا نعرف شيئاً عن الرجل أو أهله. ما أتعس حظّه! بل قولوا ما أتعس حظّي!

لم أتمالك نفسي أكثر. أزحت الرمح المنتصب أمام وجهي وتقدمت بهدوء وقلت:

ــ   أنا لها يا أبا عبد الرحمن.

تفاجأت ألفيرة  وهي تسمع كلماتي، حتـّى خلتها تكاد أن تقع من فرط الصدمة؛ لكنّها تماسكت وراحت تتشاور مع أبي عبد الرحمن بودّ، وهي تكبت ابتسامة خفيّة كادت أن تنطلق من بريق عينيها، فما كان من أبي عبد الرحمن إلاّ أن صاح:

ــ   ونعم الرجل ! ومن غير أبي سليمان يكون لها !

نطق كلماته وهو يغادر حالة الانكسار والحزن ويعود إلى وضع التكبّر. نطق الكلمات بتعال وجفاء، فخرجت من فمه مثل الأحجار.

تقدمت نحوه وصافحته فعانقني. شممت رائحة النبيذ تفوح من فمه مخلوطة بالمسك الذي يملأ فمه، والطيب الذي بالغ في رشّه على ثيابه وجسده.

جرّني إلى جواره وقال بصوت سلطويّ:

ــ   أبو سليمان لها. لكنّني لا أريد له أن يذهب إلى مكان مضطرب مثل بغداد، قرطبة في حاجة ماسة إليه والى أمثاله من الرجال، في هذه الأوضاع العصيبة.

فجأة هتف عمران وهو يمسح دموعه:

ــ   صدقت يا أبا عبد الرحمن ! صدقت ! قرطبة أحوج إلى أبي سليمان، وبغداد مضطربة الأحوال. أنا يا سيّدي اسمي عمران وأعمل هنا مساعداً للسيّدة ألفيرة، وهذه الرقعة التي في يدك هديّة منّي إليك أرسلتها بنفسي يوم أمس مع بعض خاصتك. وأنا شخصيّا بحكم وجودي هنا في الخان أعرف الكثير من التجار وطالبي العلم الذين يذهبون إلى بغداد، بعضهم يعرف أحوال البلاد والعباد جيّداً. تستطيع الاعتماد عليّ في هذا الأمر، أستطيع أن أجد لك يا سيّدي من هو جدير بهذه المهمّة.

ــ   هذا إخلاص تكافأ عليه يا رجل. نعم، أنت على حقّ، حالما تجد الرجل المناسب لا  تتأخر هنيهة واحدة في إخباري، وبما أنّك من أوصل هذه الدرّة الثمينة لي، فأنت تعرف طريقي جيداً.

ابتسم واستدار نحو ألفيرة، كما لو أنّه أنجز المهمّة التي جاء من أجلها بنجاح تام، فما كان منّي إلاّ أن هتفت لأسمع الناس جميعا:

ــ   يا أبا عبد الرحمن، أنا ذاهب إلى بيت الله لأداء فريضة الحجّ، وقد حسمت أمري، ولم يتبق على سفري سوى يوم وليلة. وأنا هنا في قرطبة لكي أنهي بعض مصالحي قبل سفري. لذلك لن يكون شاقاً عليّ المسير إلى بغداد في طريق العودة إن شاء الله.

قال بصوت جهوريّ:

ــ   أخشى عليك من اضطراب الأوضاع هناك.

أجبت:

ــ   لا تخش شيئاً أيّها الأمير، لن أمكث هناك كثيراً.

رأيت علامات الدهشة تغزو وجه ألفيرة، لكنّها دهشة مملوءة بالودّ والقلق والحيرة، وحتـّى بالفرح الخفيّ. أمّا وجه أبي عبد الرحمن فقد اربد وغلظ، وأخذ الرجل يتململ في وقفته حائراً لا يعرف ماذا يجيب، وقد أسقط في يده. لكنّ صوت عمران جاء منقذاً:

ــ   ليست الرحلة إلى بغداد سهلة يا سيّدي، لماذا تجشّم نفسك عناء السفر في هذه الظروف المتقلّبة؟ أنا أعرف بعض المسافرين الثقاة، أستطيع أن أحضرهم إليكم متى تشاؤون، هم كثر، ولن يتأخر سفرهم كثيراً.

قررت أن أنتصر بأيّ ثمن، وبأيّة وسيلة. أحسست أنّها معركتي الأخيرة، فلم أمهل أبا عبد الرحمن فرصة للردّ، عجّلت بالقول:

ــ   سواء أخذت مكرمتك إلى أهل ابن زريق أم لم أفعل، سأكون في كلّ الأحوال ببغداد بعد أداء مناسك الحجّ،  بما أنّني سأكون قريباً منها. فبيت الله محجّة المتـّقين، وبغداد محجّة الأدباء والعلماء.

جمدت هيئة أبي عبد الرحمن. تيبّـست ملامحه وأضحى مثل تمثال من حجر.  لكنّه تنبه وهو يسمع همهمات الناس المتجمهرين، فوضع صرّة النقود بيد ألفيرة وقال:

ــ   تصرّفي بها، كما ترين.

نطق كلماته واستدار فتراكض الحرّاس يتزاحمون حوله، ويفتحون الطريق أمامه.

ذهب الناس جميعهم خلف موكبه.  حاول عمران الاقتراب منه، لكنّ الحراس صدّوه بعنف، فوجد نفسه مُبعداً، يقف في مواجهتي.

 

(4)

قال لي عمران وهو يدخل غرفتي:

ــ   لم تخبرنا بأنّك ذاهب إلى الحجّ !

ــ   ألم أفعل ذلك؟ موت هذا الرجل شغل بالنا جميعاً. لكنّني أخبرتك أنّني هنا لغرض ترتيب أعمالي ووضعي العائلي.

لم يقل لي عمران بأنّي لم أخبره بهذا أيضاً، وفضّل، بدلا من ذلك، أن يردّ عليّ موضّحاً:

ــ   أحسب أن موسم الحجّ لم يزل بعيداً !

كيف فاتني هذا ! فكّرت وأردت أن أجيبه بأنّي أعرف هذا جيّداً، لكنّه سبقني وقال:

 ــ   لو أنّ أهل بيتك احتاجوا شيئاً، أنا موجود يا أبا سليمان وفي خدمتهم دائماً وأبداً.

ــ   شكراً لك، أنا أعرف هذا، وألفيرة تعرف هذا أيضاً.

نطقتُ الكلمات وأنا أخشى أن تحضر ألفيرة وتفاجئني هنا بمعية عمران وأنا أكذب مدّعيّاً أنني اتخذت قرار السفر إلى مكة منذ زمن. لكنّني قررت أن أغتنم الفرصة فقلت له:

ــ   أين وضعتم أمتعة ابن زريق؟

ــ   أيّ أمتعة؟ لم تكن لديه سوى خِلق وخرق.

ــ   أريد هذه الخرق، خاصّة تلك التي كان يرتديها ساعة موته.

ــ   ماذا تفعل بها؟ الناس عادة يرمون ثياب الموتى.

ــ   ولكنّي أريدها لحاجة خاصّة.

ــ   سأسأل عنها، وأعدك بإحضارها. أما ما تبقى من أمتعته فهي عندي في البيت، كنت أزمع أن أتصدّق بها على الفقراء. فهو كما يعرف الجميع  مدين لي بأشياء كثيرة، وببعض المال اقترضه منّي.

ــ   سأدفع لك ثمنها.

ــ   لا حاجة إلى ذلك.

ــ   سأدفع لك لا لكي أشتريها منك، ولكن لكي أمكّنك من التصدق بثمنها على الفقراء.

ــ   إذا كان الأمر كذلك، سأعمل على جلبها إليك.

ــ   الآن.

ــ   والخان؟

ــ   لا تهتمّ بهذا، سأتحدث مع ألفيرة في الأمر.

ــ   ولكن، لي شرط !

ــ   لك أن تشرط يا عمران.

ــ   أن لا تخبر ألفيرة، لأنّك تعرف أنّها حسّاسة وربّما يحزنها أنّني أقرضته شيئاً من وراء ظهرها. فأنا أعرف أنّها كانت تلحّ عليه أن يأخذ منها، لكنّه كان يرفض ويصرّ على الاقتراض منّي.

ــ   هذه شهامة منك يا عمران.

ــ   هذا أقل ما يمكن تقديمه، ولا تنس يا أبا سليمان أنّنا مهما اختلفت أهواؤنا وأمزجتنا نظلّ أبناء أرض واحدة، شربنا من النهرين العظيمين ذاتهما.

ــ   هذا أمر تـُحمد عليه.

ــ   أنا لا أبحث عن حمد أو شكر. فأنا هكذا، طباعي  وفطرتي تأمرني أن أكون هكذا، متسامحاً، أُوثر الناس على نفسي.

استرخى عمران على السرير وهو ينظر إلى الرقعتين، اللتين أخذت أطويهما بعناية وبطء، لكي أزيد من متعة التذكـّر لديه وأشحذ مقدرته على البوح والتخيّل. قال مثل راوٍ يروي قصّة:

أنا أوّل من تعرف عليه في قرطبة، وأوّل من كلّمه وأكرمه، منذ أن وطئت قدماه أرض قرطبة. جاءنا عابساً متذمراً، سيئ الهيئة، حتـّى أنّنا جميعاً حسبناه لصّاً أو صعلوكاً. قال إنّه فقد ثروته بسبب غرق المركب الذي أقلّهم من إفريقية، ولم يتبق معه سوى النزر اليسير. استطاع أن يقنع السيّدة ألفيرة بصدق كلامه. تعاطفت معه بقوّة، كعادتها، ولم تكتف بأن تطمئنه، بل طلبت منه أن يستحمّ ويبدل ثيابه ويذهب معي لمشاهد حفل استقبال وتتويج الأمير هشام. قالت له ألفيرة: يا بغدادي هذه فرصة نادرة لا تتكرر في التاريخ كثيراً، اليوم يُنصّب أكبر أخوة الخليفة السابق عبد الرحمن المرتضى.

 ذهبنا معا. كان الناس يحتشدون من كل صوب وفجّ. كانت الألسن والأنفس تلهج بذكر هشام، وكانت ترى فيه خلاص قرطبة وخلاص الأندلس كلّها.

كانت ألفيرة مشغولة بإعداد لوازم  احتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة، كما أذكر.

قلت له: يا بن زريق، ما تراه الآن  لن تراه في مكان آخر ولن يتكرر في زمان آخر. من سنراه الآن ليس شخصاً، هو شيء يشبه القدر، يشبه صفحة من كتاب الزمان. لقد تأخر حضوره ثلاث سنوات نكدات، إلى حدّ أنّ الناس فقدوا الأمل من حضوره. ومنذ مقتل أخيه خليفة قرطبة عبد الرحمن المرتضى وقرطبة نهباً للفتن والوساوس، لا أحد يعرف ماذا يخبئ القدر لها وكيف سيدير الناس شؤونهم. الخليفة قتل، وهشام توارى عن الأنظار، فرّ معتصماً في قرية صغيرة، مختفياً. الخصوم من عرب وبربر وصقالبة وأندلسيين وغرباء لا يعرفون ماذا تخبئ اللحظة القادمة، ولا أحد منهم يجرؤ على أخذ السلطة خشية أن يهوي سريعاً على يد خصومه المتربصين ببعضهم. محبو السلطة لا يُحصى عددهم. لقد اتفق الرأي أن الأمور لا تستقيم إلاّ باستخلاف حاكم عربيّ، فاستقر الرأي على هشام. هكذا كانت الحال، لذلك رأينا الناس يتراكضون من كلّ حدب وصوب.

طال انتظارنا. كان ابن زريق مأخوذاً بالمشهد. عرفت في تلك اللحظة أنّني أقف إلى جوار شاعر عظيم. لقد نسي مصيبته وغربته وفقدان متاعه وغدا شخصاً آخر. فخلف غمامة الحزن، التي غطّت ملامحه، رأيت وجهه الرجوليّ الصارم، ولكن الجميل، يشّع بألق الفرح ونشوة السعادة، كما لو أنّ فتنة المكان وأفراح الناس انسكبت في قلبه دفعة واحدة فأحالته إلى مخلوق مختلف. لم أره بعد تلك اللحظات قطّ يعود إلى تلك الهيئة الصافية المفعمة بالأمل والترقـّب.

بعد كلّ تلك النشوة والفرحة، فجأة انهار ابن زريق. خرّ جالساً على الأرض، كما لو أنّ رجليه لم تعودا تحتملانه. هبط جالساً على قارعة الطريق وشرع يهذي.

كنّا في انتظار الموكب، وحينما تعالت الصرخات والهتافات إيذاناً بمقدم هشام، كان ابن زريق قد تخلى عن وقاره وراح يصارع المتزاحمين للوصول إلى أقرب موقع يرى منه الخليفة المنتظر. كان كما لو أنّ روحاً غريبة تملّكته فأحالته إلى واحد من آلاف مؤلّفة، إلى نسخة من جموع تتزاحم، لا يعرفون سوى الصراخ والهتاف المملوء بالرجاء.

وبينا الموكب يقترب إذا بابن زريق ينهار وهو يرى الخليفة يدخل على فرس هزيل، من دون موكب ملكيّ، عليه كسوة رثـّة. تفاجأنا جميعاً بذلك، لكنّ ابن زريق أصيب بمقتل. جلس شارداً وهو يتمتم: أهذا خليفتكم؟ أهذا خليفتكم؟ أوّلها شؤم!

أحسب أنّه كان يتطيّر من أشياء معيّنة.

منذ تلك اللحظة وأنا ألازمه ملازمة تامة.

لا أعرف حقيقة ما رواه لي عمران. لكنّني لا أشك في أن من وصفه كان ابن زريق، الذي تبادلت معه بضع كلمات عابرة واستقرّ في وجداني مثل أثر لا يمحى.

ــ   يا عمران، يتوجب عليّ أن أتركك تذهب لتدبير ما وعدتني به. أما أنا فلدي الكثير لأفعله.

عدا ألفيرة، لا بدّ لي من ترتيب اللقاء براميرو، لاتمام موضوع الأرض والعمال والحسابات والعقارات. ولا بدّ من توديع بعض الأصدقاء وقضاء بعض الاحتياجات التي تخصّ البيت والأهل.   

ــ   سأنتظرك عند ألفيرة  يا عمران.

ــ   هل لي أن أطلب منك شيئاً شخصيّا، لو تكرمت بهذا؟

ــ   أطلب.

ــ   أريد أن تشرّفنا للعشاء في بيتي المتواضع. أريد أن أودّعك وأنا أحسّ أنّني قريب إلى قلبك، وهناك تستطيع أن تستلم أمتعة ابن زريق كلّها كاملة.

ــ   ولكنّك تعلم أنّ وقتي ضيّق، ووقتك أضيق، فأنت لا تعود من عملك إلاّ حينما تحضر ألفيرة، كما أنّ زوجتك مريضة.

ــ   سأتدبر هذا، ولن نأخذ من وقتك الكثير، ما رأيك؟

ــ   اتفقنا.

صافحني بحرارة وهو يقول:

ــ   سأخبر ألفيرة حينما تعود.

ذهب وتركني حائرا. لم  أستطيع معرفة سبب هذا الإصرار على دعوتي. فليس من المنطقي أنّه يريد إخفاء موضوع بيع الملابس عن ألفيرة، لأنّه يعرف أنّني سأقول لها هذا حتما. لكنّني وجدت أن الذهاب قد يفيدني في معرفة أمر أجهله، فهو لا بدّ أن يكون قد ادّخر شيئاً ثميناً يريد أن يختتم به هذه المأساة العجيبة؟ ما هو؟ هذا في علم الغيب !

 

(5)

حينما عادت ألفيرة من زيارة بيتي والتحدث إلى أمّ سليمان، حدّثتها عن دعوة عمران. سكتت وراحت تفكّر، ثمّ قالت:

ــ   لا أعرف ماذا أقول، ربّما يكون الأمر كما فكّرت أنت، ربّما يخفي شيئاً مفيداً يريد مقايضته !

ــ   أترين الأمر هكذا؟

ــ   هذا الاحتمال هو الأرجح، فهو لا يمكن أن يرتكب فعلاً  يؤذيك، لأنّه يحسب لي ألف حساب. الأمر المرجّح أنّه يريد مقايضة سرّ ما. لكنّك فاجأتني بكذبتك العظيمة عن الحجّ.

ــ   ولماذا تعتبرينها كذبة؟

ــ   لا أعرف إذا كان ربّك يقبل منك أداء فريضة نويتها وأنت تسعى إلى تحدّي وكسر شوكة عدوّ شخصيّ؟

ــ   لا تغرقي رأسك الجميل في شؤون الإلهيات يا ألفيرة !

ــ   أنا لا أتحدث عن الإلهيات. لم تكن الفكرة في رأسك يوم أمس. أنت تقلب حياتك رأسا على عقب في لحظة طيش وانفعال يا أبا سليمان.

ــ   حسن، ولكن قولي لي:  هل هناك إمكانية لتغيير الأمر الآن؟

ــ   لا، ولهذا أنا غاضبة، ولهذا أردت محاججتك بالله، لكي أقول لك إنـّك تلعب بالجميع، بنفسك، بمصيرك، وحتـّى بما تؤمن به.

ــ   لا تضخّمي الأمر. هذا الموضوع صاغ شكله من تلقاء نفسه على هذه الهيئة، أما القرار فموجود في داخلي، موجود في أعماق فكري ووجداني. أنت تتحدثين عن شكل حدوث الأشياء ومواقيتها.

ــ   لا تضللني بمنطقك الملتوي يا أبا سليمان، أنا لست ندّا لك.

ــ   أسألك بيسوع المسيح، ألم تفرحي وأنت ترينه ينهار مثل جبل من النفايات؟

ابتسمت. ألفيرة تبتسم من عينيها لا من شفتيها. نظرت إليّ باسمة وقالت:

ــ   هل ظهر هذا على وجهي؟

ــ   ليس للآخرين على أيـّة حال. لكنّني أحسست أنّك كنت موشكة على السقوط من فرط المفاجأة، وأحسست في الوقت عينه كما لو أنّك تسجّلين لي انتصاراً صغيراً جاء بعد انتهاء معركة خاسرة.

ــ   هذا صحيح، على الرغم من أنّني أريد لك الانتصار في معارك نافعة، رابحة.

ــ   هذه ليست بيدي يا ألفيرة، ليست بيد أحدّ منّا.

خضرة عينيّ ألفيرة تشبه سحر الحقول. نظرت إلى غابات عينيها فرأيت طيور الله ترتحل إلى كلّ صوب، بيضاء، محلّقة في أثير سحريّ آسر.

 ــ   اسمعي يا ألفيرة، سأريك أمراً يعجبك.

 استللت الرقعتين وبسطتهما أمامها وقلت:

ــ   أيّهما نسختك؟

دقـّقت النظر في الرقعتين مليّا، ثمّ رفعت رأسها نحوي غاضبة:

ــ   غششتني يا أبا سليمان !

ــ   لم أغششك بعد، خذي الأصل واتركي لي النسخة المغشوشة.

ــ   أنت دائما تعاملني بهذه الطريقة يا أبا سليمان.

ــ   كيف؟

ــ   تضع أمامي نسختين إحداهما أصل والأخرى صورة وتطلب منّي أن أختار؟

ــ   وماذا كنت تختارين؟

ــ   كما تراني الآن، أظلّ معلّقة بين الأصل والصورة. لكنّني سأعرف اليوم، الآن على وجه التحديد، سأمتحن حبيبي لكي أعرف كيف أميز بين الصورة والأصل.

ــ   أما أنا فلا أراك سوى أصل غير قابل للنسخ.

ــ   وأمّ سليمان؟

ــ   أصل الأصول.

ــ   وأقمار بغداد؟

ــ   لا أصل ولا صورة.

ــ   خيال محض، أليس كذلك !

ظلّت ألفيرة تستدرجني. تذكّرت كلماتها في المقبرة: الموت يشبه الفراق. شعرت كما لو أنّها تبتغي قيادتي نحو طريق واحدة لا مخرج منها: أن نكون معاً منفردين، في خلوة المفارقين. إحساس دهمني يقول لي بأنّها تظنّ أنّني لن ألتقيها بعد الآن، أو أنّني سأختفي قبل أن أودّعها، وأنّها ستفقدني إلى الأبد. سارت أمامي إلى غرفتها في الخان وقالت:

ــ   ما هو أصيل لا يُبحث في أروقة الخانات يا عامر.

عامر ! نطقتها بوفاء خاص. حينما جلست أمامي أحسست أنّها في سبيلها إلى  تجريد كلّ شيء من أغلاله، أولها اسمي، الذي أعادته إلى أصله الشخصيّ المباشر: عامر.

ــ   أخشى أن تصرعك الغواية يا عامر !

ــ   أيّة غواية يا ألفيرة؟ الغوايات تحيط بي من كلّ جانب.

ابتسمت بحزن وقالت:

ــ   أنت لديك مهرب من كلّ سؤال، ولكن يجب أن أعرف هل أنت تهرب من الأندلس أم من أمّ سليمان؟

ــ   أنا الآن فقدت المقدرة على فهمك، لماذا هذا السؤال المتأخر جداً جدّا؟

ــ   أخشى أن تكون مدفوعاً بالغيرة أو الطمع الأنانيّ؟

ــ   لكنّك تعرفين أنّني أفكّر في الأمر منذ زمن، وأن...

ــ   هذه الحكاية أقنعنا بها أمّ سليمان يا أبا سليمان.

ــ   وماذا ترين؟

ــ   أراك تسرف في الغيرة.

ــ   الغيرة ! ممن؟ وعلى من؟

ــ   أنت مغرم بها.

ــ   بمن؟

ــ   قمر الكرخ، الخارجة من فلك الأزرار !

ــ   من منّا يسرف في أوهامه يا ألفيرة، من؟ وهل يعشق المرء اسماً مجهولاً، فيهجر بلاده وأهله، ويرتحل عابراً البحار والمفازات، في سبيل العثور على كلمة عابرة في نص لرجل مجهول مات في أرض غريبة؟

ــ   نعم، بكلّ تأكيد، رجل مثلك شغوف بعشق الوهم يفعل. هل تدري لماذا هجر ابن زريق قمراً كان له بالكرخ؟

ــ   نعم، شظف العيش، هو يقول ذلك.

ــ   وشظف العيش لا تُحل مشاكله إلاّ في الأندلس؟

ــ   من دون شك كانت لديه أسبابه الخاصّة.

ــ   لديه أحلامه الخاصّة، لديه خيالاته الخاصّة، لديه أوهامه الخاصّة، لديه جنونه الخاصّ وعبثه الخاصّ يا عامر. لكلّ منّا جنونه الخاصّ. لا أخفيك سراً، أنا نفسي كنت مجنونة به، وكنت أزمع أن أخبره بذلك، لكنّني لم أفعل ذلك لأنّني خشيت أن يفهم مشاعري خطأً، ويعتقد أنني أستغلّ عوزه وحاجته.

ــ   إذاً هو الوهم والخبل، كما تظنين.

ــ   بمعنى من المعاني.

ــ   وأين الغيرة؟

ــ   هذا تأويل لا أكثر. حينما سمعتك تكذب بحماسة أمام أبي عبد الرحمن، مدعيّاً ذهابك للحجّ، أحسست أنّك تريد منافسة ابن زريق على ما كان لديه.

ــ   لم أفعل ذلك لهذا السبب. فعلت ذلك لأنّني أردت أن أفضح زيف هذا الجلف المتصنع، المملوء بالنفاق والتكبر والغطرسة. أردت أن أقول له إنّ الإيذاء أصبح لديه جزءاً من لوازم المتعة. حتـّى في لحظة الموت، التي هو سببها، أضحت حياة البشر موضع مباهاة فارغة، يستمتع عن طريقها  بنبله الزائف، كواهب يصحح مسارات القدر بعطاياه التافهة. أيّة لعبة وسخة يلعبها هؤلاء التافهون الجاحدون، لمجرد أنّهم يحكمون !

ــ   أتحسب أنّك ذاهب إلى الجنّة، لملاقاة الملائكة في بغداد؟

ــ   تلك هي المحنة.

ــ   وهذا هو جنون الغواية الذي تحدثت عنه.

ــ   لا تضعفي عزيمتي يا ألفيرة !

ــ   لا أستطيع أن أضعف عزيمتك حتـّى لو أردتُ، لأنّك حسمت أمرك وأغرقتها في وهم المنطق وفي وهم التبريرات العقليّة والشوارد الخياليّة، ولن تتراجع. إذا لم يكن من أجل خيال امرأة، أو من أجل الغيرة، فقد أصبح الأمر، كما تدّعي، مواجهة مع أولئك الذين يلوثون مسارات القدر بعطائهم الكاذب. أليس كذلك؟

ــ   لا طائل من وراء هذا النقاش يا ألفيرة، دعيني استجمع عواطفي ومشاعري  بطريقة تحفظ لي سفراً هادئاً، خاليّاً من العسر والمشقـّة.

ــ   لا يوجد فراق خال من العسر والمشقـّة يا عامر، وفراق مثل فراقك تختلط فيه الأسباب والدوافع والأوهام والمطامح أقسى أنواع الفراق، لأنّه فراق يشبه. ..

ــ   يشبه الموت !

ــ   لا أعرف، لم أجد الكلمة المناسبة، وربّما لا توجد في رأسي كلمة ما تناسب ما أريد أن أقوله، لكنّني أعني أنّه شيء. .. اعذرني، ربّما أنا لم أزل مرتبكة وقلقة. دعنا من هذا وقل لي كيف ستواجه أمّ سليمان بالأمر.

ــ   سأترك الأمور تجري على طبيعتها.

ــ   حسابك عسير معها، أكثر عسراً مما تظنُّ.

ــ   أنا أعرف هذا ووطّنت نفسي عليه.

ــ   ولكنّك لا تعرف أنّها مثلي تعرف أنّك هنا عندي، أمّا لعبة الفرس الأصهب فلن تنطلي عليها أيضاً.

هل تريد أن أقوم بوداعها نيابة عنك؟

ضحكنا معاً. مدت يدها وأمسكت كفي كما لو أنّها تعينني على تقبّل صدمة الفراق.

ــ   لا مهرب من هذا. هناك أشياء كثيرة في الأندلس يجب أن تودّع يا ألفيرة.

ضغطتْ على كفي، ثمّ راحت أصابعها تحاور كفي بحنان:

ــ   ستكون أندلسي فارغة من دونك يا عامر.

ــ   وستكونين أندلسي الرائعة، التي تعينني على تحمل حرقة النوى والفراق. ستكونين معي، ستختصمين مع أمّ سليمان في خيالي، سأترككما تتنازعان وتغاران وتتشاكسان.

ــ   إذا لم تمسح أقمار الكرخ صورنا، وتجعل منها نسخاً مزورة.

تعانقنا عناق الأخوة حزينين. قبّلتني في جبيني، فآثرت أن أقبلها في خدها وفي ثغرها. نظرتُ في بحر عينيها  الفائضتين بالأسى. كانت شفتاها مبللتين بالدموع.

ــ   لك أن تتخيلي يا ألفيرة، أنّني لم أر دموعك حسب، بل ذقت طعمها أيضاً.

ــ   هذا ما يجعلني أخشى عليك من مصارع الغوايات، فأنت أرقّ من الدمع يا عامر.

ــ   وأنت أجمل ورود الأندلس يا ألفيرة.

في لحظة واحدة قرّرنا، كلّ واحد منّا، من تلقاء ذاته، أن يحسم فوراً هذا الحوار الملتاع، الذي لا يريد أن ينقطع، والذي يريد أن يمتد ويمتد ويمتد من دون نهاية.

قمنا معاً، ووقفنا في مواجهة بعضنا. عصرَت كفي بقوّة، أغمضتُ عينيّ وقبلتها في جبينها واستدرت مسرعاً، لكي لا أنظر إلى وجهها. خطوت خارجاً بعزم، ونشوة نصر طفوليّة تغمرني: أنجزتُ فراقي الأوّل بنجاح.

 

(6)

فراق ألفيرة كان تدريباً عاطفيّاً هامّاً لي، جعلني أقف بيسر أمام أمّ سليمان جاهز العواطف والحجج، عارفاً حتـّى بمعرفتها لبعض أسراري وأكاذيبي. رتّبت أموري كلّها، بما في ذلك عقود ومواثيق الإرث وشؤون إدارة البيوت والمزارع وتنظيم شؤون العمل فيها وحساباتها. اشتريت بعض الهدايا الأندلسيّة خفيفة الوزن وغالية الثمن وعدت إلى البيت. كانت أمّ سليمان في انتظاري.

ــ   السفر إلى الحجّ لا يحتاج إلى وساطة.

 نطقت أمّ سليمان معاتبة، جافة الشفتين. سكتت وراحت تنتظر جواباً منّي،  ولمّا شعرت أنّني لا أريد أن أجيب، لكي لا أجرح مشاعرها، قرّرت هي أن تبادر إلى حرب العواطف. نظرت إليّ بتحدّ وأضافت:

 ــ   نصيحة حجّ من نصرانيّة إلى مسلمة، يا أبا سليمان !

شفتاها المزمومتان أنبأتاني بعسر الفراق، وبما هو أقسى من ذلك.

ــ   وهل أزعجك مجيؤها؟ أنا أعرف أنّك تسعدين بزيارتها وبحبّها لك ولأطفالنا.

ــ   لا تنكأ الجراح يا أبا سليمان ! أنت اعتزمت السفر، لو أخبرتني بأنّك ذاهب لأداء فريضة الحجّ لاقتنعت برأيك ووافقت، فما حاجة هذه أن تأتي لتقنعني؟

ــ   تحدّثت معها عن أمر آخر.

ــ   عن الفتنة المحتملة، باعتبارها عرّافة قرطبة ! كلّ الناس يعرفون أنّ قرطبة مضطربة الأحوال ! ولكن ما يحيّرني هو أن تقنعني بضرورة سفرك وهي تتحدث عن فتنة محتملة، بل أكيدة.

ــ   وهذا ما يهمّنا الآن.

ــ   ولكنّ هذا لا يستقيم مع ذاك. البيت والأطفال والأملاك أحوج إلى الرجل في أيّام الفتنة.

ــ   هذا صحيح، الرجل. ولكن ليس أنا ! هذا بيت القصيد، وهذا ما يقلقني وما لا تريدين الاقتناع به. أما أنتم فأرجو من الله أن لا يمسّكم أذى بسببي.

ــ   أرجو أن أكون واهمة.

ــ   ربّما أخطأتُ حينما تحدثت إليها  عن سفري. على الرغم من أنّني تحدثت عن الحجّ أمام جمع من الناس، وليس إليها  على وجه التحديد، ولم أطلب منها الحديث معك في هذا الأمر.

ــ   ليس هذا ما يزعجني. ما أزعجني هو أنّها جاءت إليّ تتحدث عنك، بينما كنت أنت تجلس في غرفتها.

ــ   في خانها.

ــ   في خانها.

ــ   أأفهم من هذا أنّكِ تغارين من امرأة تعاملني معاملة الأخت؟

ــ   ليس هذا أيضاً ما يشغلني.

ــ   وما الأمر إذاً؟

ــ   ما كان لك أن تغشّني.

ــ   لم يكن غشّاً، ربّما كان خطأً، وربّما يكون للحذر والحيطة أثر في ذلك؛ فكلّما أمعن المرء في حذره وحيطته عظمت مخاوفه وكثرت أخطاؤه.

ــ   نطقتَ ذلك أمام الناس من دون أن تفكّر في أنّ موسم الحجّ لم يزل بعيداً.

ــ   لأنّني لم أستطع القول إنّني سأمكث في البرّ الأفريقي حيناً قبل سفري إلى الحجّ.

ــ   ولكنّك دائماً هكذا، تتصرف على هذا النحو، لا تهمّك سوى انتصاراتك في معاركك الخياليّة ضد أعدائك الوهميين. يخيّل لي أحياناً أنّك تصنع أعداءك بنفسك.

ــ   لا أحد يصنع أعداءه بنفسه أو ينتقيهم انتقاء سوى القتلة. أنا لا أريد أن أحارب أحداً أو أصنع منه عدواً، لكنّي  أملك الحقّ في أن أحفظ رقبتي من سيوف حروبهم وعداواتهم.

ــ   لم تأت بجديد، هذه طريقتك المعتادة في الحرب.

ــ   وليس لدي طريقة أخرى.

ــ   ربّما لم تستطع قول ذلك لهم ! ولكنّني أتحدث عن نفسي، أكنت تخشى مواجهتي بالحقيقة إلى هذا الحدّ؟

ــ   نعم، وهذا دليلي الوحيد على أنّني أقيم لك حبّاً لا أقيمه لمخلوق آخر سواك.

ــ   وتريد أن تقنعني أنّك انشغلت بدفن شاعر عراقيّ مجهول، مات وحيداً، وآلمك موته !

لم أجب، لأنّني أعرف ما لا تعرفه، أعرف أنّني أجد تماسكي كلّما اشتد الحصار حولي، أجد نفسي منسجماً مع ذاتي أعظم انسجام كلّما وجدت سيوف الآخرين تجتمع متـّجهةً صوبي.

ــ   هل تعرف أن الموت...

عجّلتُ في إكمال جملتها، التي سمعتها تتردد على لسان ألفيرة يوم أمس: الموت يشبه الفراق، فقلت:

ــ   يشبه الفراق.

ــ   بل قل: الفراق يشبه الموت.

ــ   والموت؟

ــ   الشيء الوحيد في الوجود الذي لا يشبه شيئاً آخر.

قالت كلماتها بهدوء وسكينة. كما لو أنّ كلمة موت نظـّفت قلبها من ثورته، وأطفأت نيران غيرتها المتأججة. اغتنمتُ حالة السكينة التي حلّت على نفسها وقلت:

ــ   وهل سنظلّ نتحدث عن الموت والدفن والقبور؟

ــ  إذاً دعنا ننهي هذا الأمر بهذه الخلاصة الصادقة والطيّبة، وأرجو أن تمضي سويعاتك المتبقية بهدوء مع أطفالك.

ــ   ومعك يا أمّ سليمان.

ــ   أنا جزء من عديد أطفالك.

ضحكنا معا، احتضنتها وأنا غارق في أسى عميق. فمهما اختلفت مع أمّ سليمان في شؤون الحياة لن أجد مخلوقاً يستطيع أن يرضيني وأن يحتمل انكساراتي وهزائمي أكثر منها. كانت صدراً عامراً بالثقة والمحبة والغيرة القاتلة.

فجراً، في لحظة الوداع، قبّلتها في جبينها ومضيت خطوات. لم أشأ أن أنظر إلى وجهها ولم ألثم شفتيها المخضلتين بالدموع. كانت تريد أن تشعرني بأنّها في أوج بهجتها وهي ترى زوجها ذاهباً لأداء فريضة من فرائض الله، وهو ما أقنعت به الأطفال والأقارب، الذين تحلّقوا حولي يتبارون في إظهار سعادتهم. كنّا، أنا وأمّ سليمان، عاريين أمام بعضنا، لا نستطيع أن نخفي أو أن نعلن ما يعتمل في أعماقنا.

مشيتُ خطوات، وقبل أن أعتلي فرسي ركضت أمّ سليمان نحوي وأمسكت ردائي بقوّة. توقفتُ، التفتّ إلى الخلف وأنا أحسب أنّ أحد الأبناء فعل ذلك. لكنّني واجهت وجهها. كانت ساكنة الملامح، مسحت دموع فرحها الكاذب، ووقفت أمامي عارية الروح، وقفت بكلّ غيرتها القاتلة، بكلّ ما تمتلكه الأنثى من طغيان، وهي تشدّني بقوة من ثيابي:

ــ   أهو فراق؟

لم أجب، وضعتُ كفي على راحتها. قبضتُ عليها بشدّة وبكيت. رأتني أبكي. للمرة الأولى في حياتها ترى دمعة تفرّ من عيني وتسقط أمامها على الأرض. مسحتْ دموعها وهزّتْ رأسها وهي تتمتم بصوت يشبه النشيج:

ــ   إذاً، هو الفراق، يا عامر !

 

بغداد

(1)

لا سماء أوسع من سماء الصحراء، ولا كوكب أقرب إلى الأرض من كواكبها.

 في الصحراء تغدو الحياة عارية عري الأجنّة. جسدٌ رمليّ، لا نهائيّ، يستلقي على وجهه اتقاء لسياط الشمس الباهرة، ثمّ يستدير مساء ليستلقي على ظهره مستقبلا بحر السماوات ودغدغات الضوء القادمة من مصابيحها الأزليّة.

 في الطريق الطويلة، الرتيبة، بين الحجاز وأرض السواد، ظلّ أبو سليمان، عامر المجريطيّ الأندلسيّ، يشغل نفسه ويغالب شدّة شوقه إلى بغداد بالسباحة الحرّة في بحر السماوات الفسيحة، التي تغطي دروب القوافل. وفي ليل الصحراء الكثيف ظلّ القمر الداني، والأفلاك القريبة إلى حدّ اللمس باليدين، مسرحا لخياله الطليق.

هنا، حيث الحدود لا نهائيّة، والمسافات غير قابلة للقياس، لبثت مشاعر أبي سليمان تائهة، لا مستقر لها، تصعد نحو قمر قريب، تسامره، تعابثه، راسمةً  له صورة بشريّة : عينين سوداوين مطرزتين بالكحل، شفتين ناضجتين، وفماً مثل كأس رحيق جاهز للارتشاف. لبثت القافلة تسير على الأرض حاملةً معها العائدين من أرض الحجاز، بينما ظلّ قلب أبي سليمان مشدوداً إلى قمر يحرس القوافل العابرة، ويحرس مشاعره، وعواطفه، وخياله؛ يناجيه، يعيد تشكيله، يعيد خلقه في صور وصور، يهمس إليه ويستمع إلى همساته، يشاغبه، يحاوره، وحتـّى يختصم معه.

ليس عسيراً على المرء أن يكون شاعراً مجنوناً هنا. ولكنّ المجريطيّ، لم يكن في عوز إلى صناعة الشعر أو الجنون. أضحى الشعر نابضاً في قلبه، يضخ دماً في خلاياه مع كلّ كلمة من كلمات ابن زريق، وزاده ترديدها تعلقاً بها، وتعمّقاً في فهم معانيها وخوافيها، ما بطن منها وما ظهر، حتـّى بات يخيّل إليه أنّه هو خالقها، وأنّه وحده من يملك حقّ تفسيرها وتأويلها. أضحى عامر المجريطيّ مفتوناً بعبث الخيال هذا، الذي أسمته ألفيرة خبل الهيام ووهم الهيام، الذي يقود إلى التهلكة.

أن تهلك هنا، لا أكثر من أن تصبح ذرات رمل ناعمة، تخلطها الريح بغيرها من رمال الجسد اللانهائيّ المستلقي تحت عيون الأفلاك المتلألئة في الأعالي.

طعنات الفراق أخذت تختلط بغيرها من المشاعر شيئاً فشيئا، كلّما اقتربت القافلة من أرض السواد. الموت الذي يشبه الفراق، كما قالت ألفيرة، أو الفراق الذي  يشبه الموت، كما قالت أمّ سليمان، أصبح ومضات قادمة من أرض بعيدة نائية، اختلط فيها الشوق للوصول بالترقب والأمل في النجاة من مخاطر الطريق.

حرقة النوى والبين والفراق لم تخبُ. لم تزل  تنبض في قلبه، كما تنبض كلمات ابن زريق، وكما تومض قسمات القمر الطالع في السماء. لوعة البين أو النوى أو الفراق شرعت تعيد نحت فحواها ومعانيها. في وسط هذا التيه العاري تفقد الكلمات اتجاهها، تتجرد من خصوصية وتفرد مسارها، تنزع ملموسية إيحائها، وتغدو شيئاً مشابها لكلّ شيء، تغدو ذرات من رمل. في ليل الصحراء يفكّر المجريطي بالنوى والبين ويسأل نفسه: فراق من وماذا؟

في المسافة الواقعة بين السماء اللانهائيّة والأرض العارية الأبعاد  تكسر الكلماتُ بوصلتها، وتذهب تائهة، مثل ناقة وحيدة تطبع خفافها على رمل تسفوه الرياح. فراق من، والنأي عن من؟ أرض السواد أم أرض الأندلس؟ بغداد أم قرطبة؟ رصافة قرطبة أم كرخ بغداد؟ امرأة كانت لابن زريق أم امرأة ربّما تغدو لأبي سليمان؟

في الصحراء تكون المسافات واحدة، أينما نظرت. في الأتياه الرمليّة لا تقاس المسافات إلاّ حيث توجد، إلاّ حيث تضع قدمك. وحالما ترفع قدمك من الرمال المنزلقة تحت نعلك، تكون مجبرا على أن تجد مركزاً جديداً لوجودك المفترض، المتبدد مثل السّفِيّ. وكلّما وكيفما تحركت، تظل تنظر شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، فلا ترى سوى مركز واحد للمقايسة، ومسافة واحدة تمتد حيث  تنظر، وحيث تكون.

لا فرق هنا بين قمر في كرخ بغداد وقمر في رصافة قرطبة. كلّ المسافات واحدة، والنأي واحد، والبين واحد، وأوهام التهلكة واحدة.

 

(2)

إذا كان الفراق يشبه الموت، ألا يشبه اللقاءُ الحياةَ َ !

ولكن، إذا كان الموت لا شبيه له، كما تقول أمّ سليمان، وإذا كان الموت واحداً، كما تقول ألفيرة، فالولادة لها ملايين الأشكال. وإذا كان الفراق ذا وجه واحد يشبه وجه الموت، فاللقاء متعدد الأوجه، يشبه تعدد أنفاس الحياة.

اللقاء بالمسافات والأبعاد، اللقاء بما يشير إلى الطول والعرض والارتفاع بدأ يظهر شيئاً فشيئا مع الاقتراب من أرض السواد.

لا شيء هنا، في الصحراء، يعرف التسلسل؛ لا شيء ينتقل من حال إلى حال وفق قوانين التدرّج. ولكن ما أن تشم الرواحل خرير الماء الأبديّ، حتـّى تدهمها رجّة اللقاء بالألوان والأشكال، بالشيء وظلاله المتحرّكة. لم يُصِب التغييرُ الظواهرَ الأرضيّة والجويّة والتضاريس وما رافقها من مشاعر وشطحات في العواطف والأخيلة حسب. تغيير مفاجئ وكبير أصاب حركة الأشياء وتغلغل في معانيها ودلالاتها، وشرع يسيطر على لوحة الحياة. طوال الرحلة انشغل بال الجميع بمشاق الطريق والخشية من غارات الصحراء. لكنّ رائحة أرض السواد أحدثت انقلاباً جذريّاً في الأحاسيس، لم يكن في الحسبان. فجأة أعيد ترتيب الحسابات، أعيد تنظيم الحركة، ثمّ أعيد تنظيم العواطف والمشاعر، وحتّى الأخيلة والأوهام.

صدرت الأوامر بالتوقف والانتظار. وبعد انتظار طويل بدأت طوابير من القوافل الصغيرة تّتصل ببعضها، صانعة كتلة عظيمة الامتداد من الرواحل ملأت وجه الأرض. شرعت القوافل تتحد ببعضها مكونة جيشاً عرمرماً لا أوّل له ولا آخر.

ــ   هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن لنا بها حماية القوافل. ففي العامين الماضيين كانت طريق الحجّ مقطوعة بسبب الغارات، ولم تُفتح سوى هذا العام. اتحاد القوافل يرهب المهاجمين ويسهّل أمور الدفاع.

سارت القوافل محروسة بعناية. مسلحون بألسن عديدة يحرسون الحجيج: عرب وكرد وفرس وأتراك وغيرهم.

كلّ شيء تغير. اللغات والمسافات، وشكل المخاوف، وتأويلها. هنا لا تكون الغارات موجّهة من قبل لصوص، هنا يغير عليك لصوص يحملون بيارق كتبت عليها آيات النصر.

ــ   مرحبا بك على أرض السواد يا أبا سليمان !

ــ   شكراً لك يا أبا مهديّ.

منذ أن التقيا أضحى أبو مهديّ جزءا جوهريّا من لوحة التغيير، لا لأنّه أوّل عراقيّ يتّصل به المجريطيّ اتصالاً وثيقاً وهو في طريقه إلى بغداد، ولكن لأنّه أضحى مدخلاً يوحّد مشاعر المجريطيّ ويكثفـّها في بقعة صغيرة محدّدة اسمها بغداد، ثمّ راح يضيّقها أكثر فأكثر لتغدو كرخ بغداد، ثمّ أضحت حواراً داخلياً مكتوماً ومكبوتاً عن كلمات في قصيدة مجهولة المصدر. أبو مهديّ كرخيّ، معلم في مدرسة العلوم ببغداد، ضليع في شؤون الكلام والأدب. حافظ جيد ومستمع فريد. صامت، متقشف، وزاهد إلى حدّ الفقر والإملاق، أضحى جزءاً مباشراً من معالم الطريق. شيخ بقلب شاب. صمته وانشغاله بالقراءة وابتعاده عن الخصومات والمنازعات التافهة، التي يحدثها احتكاك الحجّاج ببعضهم، ورضاه بالقليل، جذب أنظار المجريطيّ إليه؛ ولم يكن المجريطيّ بوجهه الجميل وثيابه الفاخرة وما يحاط به من رعاية بعيداً عن أنظار أبي مهديّ. لكنّ زهد أبي مهدي وعزلته وصمته، وفارق العمر بين شاب في الثلاثين ورجل في الخمسين، جعلتهما يتردّدان في الاقتراب من بعضهما، إلاّ بعسر.

ــ   رفقة الطريق أقوى من رفقة المعاشرة يا أبا سليمان.

ــ   صدقت يا أبا مهديّ، لأنّها تتضمن المعاشرة من جهة، وتظهر من جهة أخرى طريقة تصرف المرء في المواقف المتجددة والمتغيرة. السفر سِفر متغير يواجهك بالجديد وغير المتوقع في كلّ لحظة.

تساءل أبو مهديّ:

ــ   أينّا أكثر حظّا، أنا أم أنت؟

ردّ المجريطيّ:

ــ   يا أبا مهديّ، لكأنّما أرسلك الله لي خصّيصا، لكي ترافقني وتقود خطاي. فأنت تقرّبني من هدفي. أنت بغداديّ، من الكرخ، وأديب ومحدث.

ــ   وأنا أيضاً في شوق إلى معرفة أحوال المسلمين في الأندلس. ولكنّك لم تفصح عن مرادك، ولم تقل لي ما تريده على وجه التحديد.

ــ   أريد أن أعرف كلّ شيء عن بغداد والسواد، كلّ شيء.

ــ   دفعة واحدة؟

ــ   نعم.

ــ   ستضيع أقدامك في طرقاتها يا صديقي لو تعجّلت المسير. طلب العلم يحتاج إلى صبر، وأنت في مقتبل العمر، فما الحاجة إلى العجلة؟

ــ   يا أبا مهديّ أنا لست طالب علم، أنا حاج إلى بيت الله قرّر أن يزور أرض السواد قبل أن يعود إلى بلاده، فلا وقت لدي طويلاً أمضيه، ولا حاجة لي بالتمهل.

ــ   وماذا تريد أن تعرف على وجه التحديد؟

ــ   كلّ شيء، قلت لك كلّ شيء. فضولي عظيم، لا تحّده حدود.

ــ   هل لي أن أعرف مقدار ما تعرفه عنّا، لكي أستطيع أن أفيدك بما يعوزك؟

ــ   هذا يسعدني يا أبا مهديّ.

أجاب المجريطيّ رفيقه الجديد في الرحلة  أبا مهديّ، وهو يتأكد بشكل قاطع أنّ هذا الرجل يستمتع بالإنصات أكثر مما يستمتع بالحديث، وربّما تدفعه طباع الحذر المتوطـّنة في نفسه إلى استطلاع رأي غريب مجهول يلتقيه على أطراف الصحراء في قافلة عظيمة كهذه قبل أن يخوض معه في حديث.

ــ   ما أعرفه يا أبا مهدي هو أنّ أرض السواد لم تزل عاصمة الخلافة، لكنّها تتعرض إلى ضغط ما يجاورها، والى ضغط الفتن في الداخل. تعددت مراكز الدولة الإسلامية: دولة في الأندلس وأخرى في شمال إفريقيّة وثالثة في مصر والشام ورابعة في العراق، لم يعد السواد مركزاً جامعاً كما كان. هذا ما أراه.

ــ   هذا كلام عام، ينطبق على العراق وعلى غير العراق. وماذا عن قرطبة؟

ــ   قرطبة أحوالها مختلفة. ضعفت دولة الخلافة ولكنّها ظلت قائمة صوريّا. الوزراء منذ زمن أبي عامر وأبنائه تحوّلوا إلى ملوك حقيقيين. البربر والعرب والأندلسيون والصقالبة يتناحرون في الجزيرة، والإسبان لهم بالمرصاد. ودولة الخلافة مهددة بالتمزق والانقسام.

ــ   بوصفك هذا لقرطبة تصف الحال في العراق بدقـّة كبيرة.

ــ   أإلى هذا الحد تتشابه الأمور؟

ــ   تتشابه وتختلف.

ــ   وأين تختلف؟

ــ    كلّ شيء متشابه، عدا موضوع الانقسام، فهذا لا يحدث في السواد الآن. ولكنّ الحال تختلف أيضاً في تفصيلات اللوحة، وعلى وجه التحديد في أزمة نظام الحكم، وفي تشابك  خيوط المشاكل السياسيّة والاجتماعيّة. فنحن لا نعتبر المسلم التركيّ أو الفارسيّ أجنبيّاً، بما أننا  نتحدث عن دولة الخلافة ومركزيتها.

ــ   والحال كذلك في قرطبة. العربيّ من إفريقية أو من الشام والبربريّ والأندلسيّ جزء من بناء المجتمع والكيان السياسيّ.

ــ   اللوحة هنا مختلفة في أمر أساسيّ هو أنّ الصراع الداخلي عندنا أخذ يرتدي ثوباً مذهبيّا.

ــ   وحتـّى في الأندلس. الضغط القادم من المغرب يرفع شعارات الخلاف الدينيّ العقائديّ حول الحياة والشريعة وحتـّى طرائق المعيشة وسبل التعبير عنها.

ــ   ولكنّه لم يغدُ مذهبيّا بعد، كما هي الحال في العراق، الذي تسير فيه الأمور في هذا الاتجاه. هنا يوجد تعدّد للسلطة وتعدّد للغطاء التبريريّ الدينيّ في ثوب مذهبيّ. الخليفة ينتمي إلى مؤسسة سياسيّة ودينيّة معيّنة والملك ينتمي إلى مؤسسة أخرى، والولاء الاجتماعيّ منقسم ومتداخل على ضوء ذلك.

ــ   رغم أنّ الخليفة العباسيّ والعلويين أبناء عمّ !

ــ   في مرحلة العدوّ الأمويّ المشترك فقط.

ــ   ما أود معرفته هو من يدير الحياة فعليّاً، ما اسمه وما أصله؟

ــ   قل ما اسمهم وما أصلهم؟ هناك كتل متناحرة تتحالف ضد كتل أخرى، وفيما بينها.  الذي يدير الحياة هو وضع وليس فرداً. هو توازن تاريخيّ بين عوامل عديدة خارجيّة وداخليّة.  أبو كاليجار ( صاحب بلاد فارس) يعمل ضد عمّه أبي الفوارس (صاحب كرمان)، وقد ظلاّ يقتتلان حتـّى موت الثاني؛ وظلّ الخلاف بين جلال الدولة (صاحب البصرة سابقاً، وملك أرض السواد الآن)، وعمّه أبي كاليجار مستعراً، وقد حاول الأخير مراراً أخذ البصرة وواسط، وبايعه الأتراك مرّة على الملك ناقضين عهدهم لجلال الدولة، ثمّ عادوا إلى جلال الدولة حينما اشتدت العامة والعرب والأكراد عليهم. وفي خلفيّة المشهد يجلس الخليفة العباسيّ على عرش أثريّ، يراقب حالة التوازن ويطيل أمدها، لكي لا يُقتطف رأسه سريعاً.

ــ   الحال في مصر لا تختلف عن هذا كثيرا.

ــ   في التفاصيل أيضاً. لكنّ مؤسسة الحكم في العراق معقدّة، لأنّها تملك صفة المركزيّة تاريخيّاً، ومن يسيطر عليها يمنح نفسه شرعيّة التطلع إلى وضع الآخرين تحت مركزيته باسم الولاء للدين، سواء قدم الحاكم من الحجاز أو من فارس أو من الأناضول. الدين هو الأمة.

ــ   وأحوال الأدب والعلم، هل تعقدت؟

ضحك أبو مهديّ:

ــ   اعتاصت عليك الأمور ! قلت لك من الأفضل أن لا تغرق في رمال العراق السياسيّة، دفعة واحدة. تعدد الصراع وتعقيده يجعل من الفكر معقـّداً ومتعدداً أيضاً.

ــ   أيّهما يلد الآخر؟

ــ   يتبادلان الإنجاب، ما هو أب في حين يغدو إبناً في حين آخر.  وفي الحالة الاجتماعيّة يكون التناسل ذاتياّ. لأنّ الكائن الثقافيّ يتناسل ويتبادل التلقيح مع ذاته، باتحاد تام مع المحيط وليس خارجه، كما لو أنّه فيوض تنبع من فيوض.

كلّما اقتربت القافلة من بغداد ازدادت علاقة الرجلين ببعضمها متانة، على الرغم من اختلاف طباعهما، وسنهما، وتناقضهما في المظهر والمخبر. رابط خفيّ أضحى يوحدهما: حبهما المشترك للحقيقة والفضول العظيم إلى معرفة ما خفي وما بطن. ومع اقتراب القافلة من مشارف القادسيّة، أصبحت الأسئلة التي ادّخرها أبو سليمان للّحظة المناسبة تغلي في أعماقه، وتوشك أن تنفجر في كلّ حين. لكنّه ظل يتجلّد ويقول لنفسه: لم تزل الطريق إلى بغداد طويلة. لم تزل أمامهم بضع محطات قبل الوصول، كما أنبأهم قادة القافلة. فقبل ورودهم بغداد ستكون محطة الياسريّة حاسمة؛ هناك يضع أمام أبي مهديّ الأسئلة التي حيّرته ولم يشأ أن يسألها، الأسئلة التي رتّبها في عقله ترتيباً منطقيّاً وفنيّاً، والتي تتجاوز في مراميها ابن زريق نفسه، تتجاوزه كشاعر وإنسان وتذهب بعيداً، إلى وجهتها الحقيقيّة، إلى قمر في الكرخ يناديه.

قمر طالع من فلك الأزرار ! أهي مجرد كلمة عابرة؟ أهي وصف أدبيّ وتشبيه لامرأة بقمر، تشبيه بلا وجه شبه، أم هي اسم حقيقيّ؟  لماذا جعل ابن زريق استعارته مجردة ومرشحة في عين الوقت؟ لماذا جعل الأزرار مثل نجوم تلتمع حول هذا الفلك؟ وإذا كانت اسماً لعلم، لامرأة محدّدة، فهل يحقّ له أن يسأل عنها سؤالاً مباشراً من دون أن يثير ريبة أحد؟ هذه الأسئلة المربكة والمفترسة ادخرها لمحطتهم الأخيرة، حينما ينزلون بالياسريّة ويبيتون ليلتهم هناك استعداداً للتبكير إلى دخول بغداد. بيد أنّ حدثاً مفاجئاً غيّر حسابات المجريطيّ وقلب خططه عاليها سافلها، حدث ذلك على مشارف القادسيّة.

استيقظوا فجراً استعداداً للمسير. أحسّ المجريطيّ كما لو أنّ حدثا عاشه من قبل يتكرر بالصورة ذاتها، من دون أن يعرف طبيعته. إحساس غريب جعله يصغي إلى حركة الركبان والرواحل والى أصوات الناس والدواب. تذكّر اللحظة التي اجتمعت فيها القوافل واتـّحدت في قافلة طويلة اسمها قافلة العراق. ما يراه الآن عكس ذلك تماماً: حركة محمومة ترجّ الأرض، رافقها تبدّل في ترتيب المشهد. أخذت القوافل تنفصل عن بعضها، من دون أن يفهم سبباً لذلك.

ومن بين زحام الحركة رأى المجريطيّ أبا مهديّ قادماً نحوه؛ ترجل وقال:

ــ   حانت لحظة الفراق يا أخي وخِليّ. لم يكن هذا متوقعاً، كنت أظن أننا سنفترق في المحطّة التالية، لكنّنا كما ترى سائرون في طريق أخرى.

ــ   لا أفهم ماذا يحدث.

ــ   الأمر بسيط. القوافل التي اتحدت ستنقسم، وتذهب كلّ واحدة إلى الوجهة التي تقصدها. هنا لم يعد أحد يخشى خطراً كبيراً.

ــ   ولكنّك ذاهب إلى بغداد، كما قلت لي.

ــ   نعم، ولكن لسوء الحظ ستتقدمكم قافلتنا على طريق أخرى، ولا بدّ لي أن أتبع سيرها، فأنا جزء منها.

ــ   أهو فراق؟

ــ   هذا لا يسمونه فراقاً يا أبا سليمان. بعد بضع ليال ستكون معنا في بغداد، وستكون في بيتي، ستكون واحداً منّا. ربّما لا تناسبك حالنا  وعسرنا، لكنّنا لن نرتضي إلاّ أن تكون واحداً منّا طوال إقامتك، وليس مجرد ضيف مكرم، إذا قبلت بنا أهلا.

ــ   لم أكن أتوقع هذا الفراق المباغت.

ــ   ما باليد حيلة. ستأتي إلينا فور وصولك، ستسأل عنّي في مدرسة العلوم، وإذا لم تفعل هذا ستخون الرفقة يا مجريطي  

تعانقا. ركب أبو مهديّ واختفى مسرعا يتبع أثر قافلة راحت تبتعد سائرة وجهة مغايرة.

الفراق العاجل، غير المتوقع، بلبل فكر المجريطيّ وجعله يندم لأنّه استغرق في شؤون السياسة وسخافاتها ولم يصل إلى بغيته. فأبو مهديّ عليم بأحوال الناس، وفوق هذا وذاك هو كرخيّ. كم كان قريبا من وهمه !

لم يكن قريباً من أسباب جنونه يوماً ما في حياته كما كان قبل هنيهة، لكنّه الآن يبتعد مجدداً عن الطريق الموصلة إليها .

اختفى أبو مهديّ كما لو أنّه جاء من العدم وعاد إليه.

 فجأة، وجد المجريطيّ نفسه وحيداً ينظر إلى صفحة مليئة بالألغاز، مجهولة التفاصيل.

 

(3)

توقفت القافلة بالياسريّة. باتوا ليلتهم هنا على أمل أن يدخلوا بغداد مبكرين. الياسريّة استراحة أخيرة اتخذها الناس محطّة للتخلص من تعب الطريق ومشاقّه ولتغيير المشاعر؛ فيها تنقلب الشكوى والأنانيّة والخصومات والتزاحم على المأكل والمشرب والنوم، التي تخلقها مشاق الطريق الطويل في نفوس أفراد القافلة، إلى شعور جماعي بالألفة والتسامح والرفقة الحسنة. هنا يصبح كلّ شيء ماضياً لا يُستحبّ تذكّره. الياسريّة أشبه بمحطّة للمستقبل، لعواطف ما سيأتي، يخالها المرء موقعاً أمامياً للطمأنينة والمسرّة. لذلك أضحت مثل سوق شعبيّ للتبضع وتبادل الهدايا والتذكارات وللترويح عن النفس، استعداداً لدخول مدينة السلام. على مشارف بغداد تغيّر وجه الطبيعة والعمران أيضاً. كما لو أنّ بغداد أجبرت عيونهم على انتزاع عريّ الصحراء، الذي جمدت ملامحه في أحداقهم، وشرعت تمسح عن أجفانهم سفيف الرمل. مزارع وبساتين متصلة تمتد من الياسريّة حتى أسوار بغداد. كثيرون ممن جاؤوا مع القافلة تركوا القافلة وذهبوا بصحبة ذويهم، الذين كانوا ينتظرونهم هنا.

أرض السواد ! للمرّة الأولى يدرك المجريطيّ، حسيّاً، لماذا أطلق القادمون من جزيرة العرب هذا التعبير على أرض العراق الأسفل.

ما أن اجتازوا البساتين حتـّى ظهرت أسوار بغداد. توقفت القافلة عند باب الكوفة، الذي يفصله عن باب خراسان سور يعتليه ثمانية وعشرون برجاً. صدرت الأوامر بالترجل. سار الناس على أقدامهم ولحقت بهم الرواحل والعربات. اجتازوا الخندق ووصلوا حتـّى السور الداخلي فتوقفوا وتجمعوا هنا استعداداً للسير إلى قلب المدينة. لم تكن بغداد تشبه حصون وقلاع المدن الأندلسيّة العالية. بدت بغداد من الداخل مثل قلعة كبيرة منخفضة، محاطة بالأبراج؛ قلعة هائلة منبسطة، تشبه أمّاً حنوناً تحتضن أبناءها، لافّة ذراعيها حولهم بحبّ ومهابة. كانت أمّاً طينيّة أكثر منها قلعةً حربيّةً حصينة.

أحسّ المجريطيّ كما لو أنّها تجرّه إليها ، تأخذه إلى صدرها، وتضمه إليها  بقوّة، حتـّى يكاد يسمع وجيب قلبها ويحسّ حرارة أنفاسها تداعب وجهه. شعور لم يعشه المجريطيّ من قبل قط هزّ أعماقه: مزيج من الرهبة الغامضة وعاصفة من الحبّ العارم تختلطان في كيانه. سورها مدور، و قطرها من باب خراسان إلى باب الكوفة الفا ذراع، ومن باب البصرة إلى باب الشام الفا ذراع ومئتا ذراع، وسمك ارتفاع السور الداخل في السماء خمسة وثلاثون ذراعاً، وعليه أبرجة سمك كل برج منها فوق السور خمسة أذرع، وعلى السور شرف. عرض السور من أسفله نحو عشرين ذراعاً، ثم الفصيل بين السورين وعرضه ستون ذراعاً، ثم السور الأول وهو سور الفصيل ودونه خندق.

 اجتازوا الباب الأول، وكان لكل باب منها بابان، باب دون باب. ساروا في دهليز أزج معقود بالآجر والجص عرضه عشرون ذراعاً وطوله ثلاثون ذراعاً. أفضى بهم الدهليز إلى رحبة مادة إلى الباب الثاني، طولها ستون ذراعاً وعرضها أربعون ذراعاً، ولها في جنبتيها حائطان من الباب الأول إلى الباب الثاني، في صدر هذه الرحبة في طولها الباب الثاني، وعن يمينه وشماله في جنبتي هذه الرحبة بابان إلى الفصيلين، فالأيمن يؤدي إلى فصيل باب الشام والأيسر يؤدي إلى فصيل باب البصرة، ثم يدور من باب البصرة إلى باب الكوفة ويدور الذي انتهى إلى باب الشام إلى باب خراسان. وعلى كل أزج من آزاج هذه الأبواب مجلس له درجة على السور يرتقي إليه منها، على هذا المجلس، فيه بقايا قبّة عظيمة ذاهبة في السماء سمكها خمسون ذراعاً مزخرفة وعلى رأس كل قبة منها تمثال تديره الريح لا يشبه نظائره؛ كانت هذه القبة، كما قيل، مجلس المنصور في زمانه إذا أحب النظر إلى البساتين والضياع.

اجتازوا الرحبة فوجدوا جموعا من الناس بملابس زاهية في انتظارهم. كانت العوائل قادمة لاستقبال أقاربها الحجّاج. كان منظراً بهيجاً، جعل المجريطيّ يبكي فرحاً، وهو يرى الناس يتعانقون بسعادة وهم يستقبلون أحبتهم. منظر اللقاء فتح صفحة جديدة في نفس المجريطيّ نقلته من حال إلى حال. أسوار بغداد جعلته يشعر بقدر من الرهبة الخفيّة وهو يجتازها، كما لو أنّها تغلق مسامات جسدها خلفه، وتأسره إلى أبد الآبدين. لكنّ مرأى الناس أبهجه، فقال في نفسه ساخراً: أولها سعد وآخرها وعد!

نفر قليل من الحجاج انتظروا معه استكمال إجراءات التفتيش عند الباب الداخلي، وحالما فرغوا منها ركبوا رواحلهم وساروا في شارع فسيح، قادهم إلى موقف اكتظّ بالمستقبلين، نزل فيه جلّ من كان في القافلة، عدا المجريطيّ ونفر قليل عادوا أدراجهم إلى محلة يقال لها دار القطن، اتخذتها القافلة موقفاً نهائياً. في هذا الموقع من بغداد قرر المجريطي أن يبيت يومه، في خان مملوك للقيّم على قافلة الحج، على أمل أن يبدأ بعد ذلك رحلة البحث عن قمر الكرخ.

لم يكن الخان الذي توقفت عنده بقايا القافلة يصلح لأن يقارن من حيث الجمال والفخامة والترتيب وحسن الاستقبال بخان ألفيرة، لكنّه كان نظيفاً وهادئاً، جاوره حمّام رجاليّ، منح المجريطيّ فرصة للاستحمام والاستغراق في نوم عميق، لم يفق منه إلاّ عند الغروب. أخبره صاحب الخان أنّه يستطيع قضاء المساء في المسجد الكبير، فهو مجتمع للأدباء والعلماء، تعقد فيه جلسات المناظرة والمحاورة كلّ مساء.

صوت الطبول والأذان قاده إلى مسجد الدارقطني، الذي لم يكن يبعد عن الخان كثيراً. توضأ وصلى ثم جلس في ركن يراقب حركة الناس ويتأمل مظاهرهم ويستطلع هيئاتهم.

بينه والأندلس بحار ومفازات ومهامه. أين هو الآن؟ أهو قريب من شيء ما؟ إلى ماذا هو أقرب الآن؟ هل كان ابن زريق يشعر بما يشعر به هو الآن حينما وطئت قدماه أرض الأندلس؟ ألم يكن تائها مثله ترك عالماً حيّا وذهب باحثاً عن وهم؟

رُزِقـتُ مُلكـاً فَلَـم أَحسِـن سِياسَـتَـهُ        وَكُـلُّ مَـن لا يُسُـوسُ المُلـكَ يَخلَعُـهُ

لكلّ منهما وهمه، ولكلّ منهما شكل ضياعه. "لكلّ منّا وهمه العلني ووهمه الخفيّ"، فكّر عامر المجريطيّ. لكنّه الآن لا يكتفي بالوهم، يريد أن يستولي، وربّما يسرق، بعضا من أوهام غريمه. يخلع ملكه ويسعى للاستيلاء على ملك غيره. أتراه يحسن السياسة أم أنّه مثل ابن زريق أخفق في سياسة عواطفه وحبّه وقدره ! "من يسرق من؟ الأحياء أم الأموات، الباقون أم الراحلون؟ وهي، قمر الكرخ ! أتراها أحسّت بفقد حبيبها؟  وهل تدرك أعماقها الغافلة شيئاً من وجودي المبهم !"

 "وجودي المبهم !" هل هو مبهم حقاّ؟ تساءل المجريطيّ، وهو يدرك أنّ وجوده في هذه اللحظة بات محسوساً من قبل الجميع. كان الجميع مشغولين عنه ظاهريّاً بالحديث، لكنّ الفضول الفطريّ في الإنسان، يرغم البشر على ملاحظة كلّ ما يخالف العادة، وعلى تمييز هيئته الغريبة وملابسه غير المألوفة.

حلقات صغيرة بدأت تنعقد في باحة المسجد.

دخل بضعة رجال مجتمعين فتغيّر نظام الجالسين. اجتمعت أغلب الحلقات في حلقة كبيرة توسطها رجل في مقتبل العمر، في مثل سنّ المجريطيّ وسن ابن زريق، وربّما يصغرهما بعام أو عامين؛ كان يفيض بشراً وحماسة، حتـّى يكاد يصيب جميع من حوله بعدوى حماسته، منقطعة النظير.

مرّ بقربه صاحب الخان، الذي نصحه بالذهاب إلى المسجد حينما أفاق من نومه. سلّم الخانيّ على الجمع، وقبل أن يجلس عاد إلى المجريطيّ وهو يقول:

ــ   لماذا تجلس بعيداً يا أندلسيّ؟

ــ   لم أزل غريباً في هذا المكان !

ــ   أنت في بيت الله، لا غربة ولا غرباء في بيوت الله. كما أنّك الآن في مجلس علم، والعلماء مثل الأنبياء أخوة.

أعجبت المجريطيّ فصاحة الرجل، لكنّه ظلّ متردداً، وفي الوقت عينه كان تواقاً، يدفعه الفضول إلى الاستماع لما يدور من أحاديث، ما انفك الشاب الذي يجلس في واجهة الحلقة يخصّ بها مستمعيه.

قال الخانيّ:

ــ   نحن اليوم نودع الخطيب البغداديّ، أبا بكر، أحمد بن عليّ، لأنّه مسافر يوم غد. إنّها  فرصة نادرة أن ترى شاباً في مثل علمه وحماسته، هذه ليلته الأخيرة ببغداد.

ربّما أحسّ الرجل تردّد المجريطيّ فلم يمهله، توقف عن الكلام وتوجه نحو الحلقة، ثمّ راح يتشاور مع من أسماه بالخطيب البغداديّ، فما كان من هذا سوى أن قطع كلامه، نظر إلى المجريطيّ حيث يجلس، وقال شيئاً لجلاّسه ثمّ تقدم نحوه، عانقه وقال:

ــ   هذا بيتك يا أخي، لا يجوز للمرء أن يشعر بالغربة وهو  في بيته.

جرّه من يده وأجلسه قربه وهو يقول:

ــ   هذا أخ عزيز قادم من الأندلس، من قرطبة الزاهرة.

حيّاه الجميع بحرارة، ثم عادوا يواصلون حديثهم الذي انقطع. قال أحدهم:

ــ   لكنّك يا أبا بكر تكثر من الأسفار، كما لو أنّ السفر بذاته مطلب عندك.

ــ   لم يكن السفر مطلباً ضاراً لبشر يوما. للسفر محاسنه لمن يقوى عليه. ولكنّ أمري مختلف، فأنا طالب علم، والعلم عندي لا يتحقق إلاّ بالسفر.

ــ   مدينة السلام حاضرة الدنيا وموئل العلماء والشيوخ. وأنت ما أن  تنتهي من رحلة حتـّى تبدأ أخرى؟

قال آخر مؤيّداً:

ــ   هذا صحيح يا بغداديّ، فأنت حديث القدوم من رحلة نيسابور، وها أنت تتجه مجدداً إلى أصبهان، كما لو أنّك تهرب منّا؟

ضحك الجميع، فردّ البغداديّ بتوقد وذكاء:

ــ   مذهبي في طلب العلم موزون وممحّص. المقصود بالرحلة في طلب الحديث أمران: أحدهما : تحصيل علوّ الإسناد، وقدم السماع، والثاني : لقاء الحفـّاظ والمذاكرة لهم والاستفادة عنهم؛ فإذا كان الأمران موجودين في بلد الطالب ومعدومين في غيره فلا فائدة في الرحلة، فالاقتصار على ما في البلد أولى.

لاقى جوابه استحساناً ظاهراً، وخلق جوّاً من البهجة أشبه جو الاستقبال الذي عاشه العائدون من الحجّ عند أسوار بغداد، فعادت تتردد في نفس المجريطيّ فكرته المتفائلة: أولها سعد وآخرها وعد ! ظلّ يكررها، كأنّه يقاتل بها رداءة حظّ ابن زريق. قام البغداديّ فقام الجميع، وشرعوا في عناقه وتوديعه، وحينما فرغ من السلام، انفصل عنهم وتوجه إلى صاحب الخان وقال له:

ــ   ستخسر زبونا ثمينا هذه الليلة يا بن النجّار، الأندلسيّ سيكون ضيفي، وسيأتي ابن عمّي أبو حامد ليأخذ أمتعته.

نطق ذلك وهو يشير إلى رجل في مثل سنهما، كان يقف قربه، فرد الخانيّ:

ــ   أتنافسني على ملكي يا أبا بكر؟ وأنت يا سعيد، تركت كراء الحرّاقات وفتحت خاناً؟

ضحكوا فضحك المجريطيّ معهم، لكنّهم لم يتركوا له فرصة للردّ أو الاعتراض أو التفكير. في ثوان معدودات وجد نفسه برفقة البغداديّ وابن عمّه سائرين في اتجاه بيت البغداديّ.

ــ   هذا ابن عمّي وصهري أبو حامد، سعيد. طبعا هو ليس سعيداً جداً، لكنّه رجل طيب وكريم سيقضي حاجاتك، وسأفهمه كيف يخدمك وأنت تواجه سرّة الدنيا في ليلتك الأولى.

"سرّة الدنيا ! نعم سرّة الدنيا !"، فكّر المجريطيّ بإعجاب.

إذا كان اللقاء بأبي مهدي استغرق الإعداد له أكثر من ثلاثة أرباع الرحلة، فإن اللقاء بالبغدادي تمّ في ثوان. حدث كما يحدث العشق. نظرة واحدة منه، التقت عيونهما واتحدت نفوسهما.

 التفت البغداديّ إلى المجريطيّ وهم يدخلون البيت وقال:

ــ   مرحباً بك في بيتك وبين أهلك.

ثمّ قال لابن عمّه:

ــ   يا أبا حامد كما أفهمتك، هذا العزيز أمانة عندك، تقوم بمقامي نحوه طوال غيبتي.

 توقف عن الكلام والتفت إلى المجريطيّ مبتسماً وأضاف: وسأوصي أمّ حامد أن تراقبه جيداً وتسجّل لي حركاته وسكناته !

 ثمّ التفت إلى سعيد قائلا:

ــ   لا تجعله يشعر أنّ بغداد ليست أمّه، هذه مهمّتك الأولى والأخيرة. وقد أتعبتك معي اليوم، تستطيع الذهاب الآن إلى بيتك وسنلتقي غداً عند الفجر في المسجد أو عند الحرّاقات.

ودّعهم سعيد، فعاد البغداديّ يقول:

ــ   مرحباً بك في بيتك وبين أهلك.

ــ   شكراً لك يا بغداديّ، أنت على سفر إذاً؟

ــ   نعم، غداً سأكون في الطريق إلى أصبهان.

ــ   هذا خالٍ من العدل !

ــ   سفري؟

ــ   نعم، سفرك. فلم أقابل أحداً إلاّ واختفى منّي بلمح البصر. هل أنتم متفقون عليّ !

ــ   من نحن يا أندلسيّ؟

ــ   البغاددة يا بغداديّ. قابلت بغداديّاً في المدينة وقضيت معه وقتاً ممتعاً، لكنّه سرعان ما اختفى قبل الوصول إلى مكة، ثم قابلت أخا سفر في قافلة العراق، واختفى منّي على مشارف القادسيّة؛ وها أنت تفعلها.

ــ   أنا على سفر دائم، جئت من نيسابور قريباً، ذهبت إلى هناك لأستمع إلى رواتها وشيوخها وعلمائها، وأنا الآن في طريقي إلى أصبهان.

ــ   ما أتعس حظّي !

ــ   ولكنّي لن أتركك لحظة واحدة حتـّى ساعة سفري، سيجلب أبو حامد  أمتعتك من الخان، وستمكث هنا عندي، وحينما أسافر سندبّر لك سكناً يليق بك، لا تغتم. سيتكفل ابن عمّي بذلك، سيفرحه أن يقدم خدمة لي وأن يكون دليلك في مدينة السلام. قم ولا تتكاسل، فليس لدي سوى سويعات.

توقف فجأة، كأن شعلة حماسته انطفأت فجأة، سكن هنيهة ثم قال ضاحكاً:

ــ   ما أغباني ! ربما تكون متعباً من وعثاء السفر وتريد أن تستريح !

ــ   لا، لقد بتنا  ليلة أمس بالياسريّة، ونمت النهار كلّه، ولم أصح  إلاّ عند أذان العشاء. ولكنّني لا أريد أن أزعجك. أهل بيتك أحوج إليك منّي يا أبا بكر.

ــ   لقد شبعوا منّي، ولا أرى الساعات القليلة المتبقية نافعةً لهم، فقم  لنتناول شيئاً مما أنعمه الله، ولا تماطل أو تخلق الأعذار؛ ولا تنس أنّك تأكل للمرّة الأولى في بيت بغداديّ.

لم ير المجريطيّ صديقاً مثل البغداديّ، ولم يسمع بمثل هذه الصداقة الخالصة، التي تنعقد بين غريبين في لحظات. أهو التمرس بالسفر واعتياد الغربة وما يرافقهما من إحساس بالتعاطف ! أم هو بسبب نشأة البغداديّ العائليّة باعتباره ابناً لإمام مسجد، اعتاد أن يلتقي الجميع في كلّ وقت وحين !

ــ   يا أبا سليمان أرى فيك نفسي، حينما رأيتك جالساً وحدك تنظر إلينا من بعيد، خلتك إيّاي حينما جلست يوماً في مساجد البصرة ونيسابور؛ حينذاك كنت أفكّر من أين أبدأ وكيف أبدأ. وسأفعل الأمر عينه غداً،حينما أكون في اصبهان، على الرغم من أنّني أعرف الطريق هذه المرّة، وفوق هذا وذاك لديّ رسالة توصية من شيخي الجليل. أما أنت فأراك بلا شيخ يوصلك إلى بغيتك.

ــ   سأتركك تخلد إلى النوم فأنت على سفر.

ــ   مشكلتي تكمن في هذا، في النوم والسفر يا أبا سليمان. حينما أكون على سفر يفارقني النوم تماماً ويجفوني، ولا أعرف سبباً لهذا الداء.

ــ   لا أحسبه داء.

ــ   إذاً أنا معافى، فدعنا يا صاحبي نمضي ساعاتنا المقبلات نستمع إلى أخبار الأندلس.

ــ   لقد شلّت فكرة سفرك قواي، وحرمتني من المقدرة على التفكير في أمر محدّد.

ــ   قل لي أولا: كيف حال قرطبة؟

ــ   مضطربة، وربّما على شفير الهاوية.

ــ   هل استعاد الإسبان قوتهم؟

ــ   لا، فقد المسلمون وحدتهم، وراحوا يتطاحنون ويتصارعون على الحكم.

ــ   وماذا عن مشاعر السواد الأعظم من الناس؟

ــ   لا أحد يستطيع أن يرى الخيط الفاصل بين الصديق والعدو، بين الصحيح والخطأ، بين ما يجب وما هو مفترض. الأطماع والضعف والتنافس تقود النفوس وتنخرها. في حين أن المعادلة التي وصل إليها  الخليفة الناصر منذ زمن طويل كانت صائبة: الوحدة على أساس أندلسيّ، كرابطة جديدة لا تقوم على العصبيّة القبليّة والمذهبيّة والدينيّة، رابطة قوامها الولاء للأرض. لكنّ القوم كلّما ضعفوا مالوا إلى العصبيّة ونسوا الوحدة، والأمرّ من هذا أنّهم كلّما كبروا وتمكـّنوا مالوا أيضاً إلى التفرد والأنانيّة. أي أنّهم في كلتا الحالتين هالكون. بعضهم استمرأ التحالف حتـّى مع عدوه وفضّله على التنازل لأخيه عن بعض الحقوق.

ــ   وهل خلت تماماً من أيّ صوت ينير الطريق؟

ــ   لا، لا يمكن لها أن تكون خالية. الوزير ابن حزم وهو في معتكفه يؤمن ويؤكد أن الأرض، ويعني بها الوطن، تشبه الدار والأم والملكية، حينما تسلب ولا ندافع عنها نفقد المقدرة على الدفاع حتـّى عن عرضنا وأمهاتنا، نفقد ذواتنا وهويتنا.

ــ   هذه حالنا أيضا.

ــ   أعرف هذا: البويهيون ضد الخلافة، والعرب من أهل السنّة ضد الشيعة، والأكراد يتقافزون هنا وهناك، والقادة الأتراك يبتزّون هذا وذاك.

ــ   حتـّى أنّهم نقضوا بيعة جلال الدولة ولم يعدلوا عنها إلاّ بعد أن شعروا بخطر العامة، فبايعوه ثانية. وحينما لم يلبّ مطلبهم عادوا وحاصروا قصره وكادوا أن يفتكوا به؛ أخرجوه  من قصره وأهانوه وأوشكوا أن يعتدوا على نسائه لولا تدخل بعض رعاياه، ولم تعد الأمور إلى مجاريها إلاّ بعد توسط الخليفة القادر بالله العباسي. بالمناسبة، لقد شهد بعضُ المشتغلين عند ابن عمّي سعيد الواقعة َ، حينما كانوا قرب ضفـّة النهر. وشارك بعضهم في الدفاع عن الملك مع خدمه، من دون أن يعرفوا لماذا، على الرغم من أنّه ديلميّ، وسعيد لا يحب الديلم. دع سعيدا يروي لك الحادثة كحقيقة وليس كطرفة.

ــ   ومن أين يستمد الأتراك قوتهم؟

ــ   من المعين نفسه الذي  يستمد الصقالبة قوتهم عندكم، من حاجة كل فريق إليهم، من ضعف الآخرين. المشكلة الكبرى هي أنّ البويهيين يلعبون لعبة ماكرة، فهم لا يريدون إغضاب الناس، لذلك تراهم يحتفظون بالخليفة كزعيم للأمّة والخلافة في الظاهر، وهو لا يملك سوى السكّة والخطبة. فهم لا يريدون الاستغناء عنه تماما، بما أنّه لا يهدّد مصالحهم. لكنّهم يتعاملون سرّا مع الفاطميين الذين مدوا نفوذهم إلى الشام. وبالمقابل فإنّ الخليفة يعتمد على تحريض العامة في مواجهة ضغط الشيعة، ولا يُستبعد أن يضع يده بيد قوة خارجية منافسة، كالسلاجقة، الذين يتحيّنون الفرص للانقضاض على أرض السواد. انظر إلى هذه ! هذه بغداد على حقيقتها.

مدّ يده في كيس موضوع إلى جواره وأخرج عملة معدنيّة وقال:

ــ   تأمّلها جيدا، تأمّل وجهيها !

نظر المجريطيّ إلى الوجه الأوّل فرأى اسم الملك البويهيّ جلال الدولة البويهيّ منقوشاً عليه، وفي الخلف قرأ اسم الخليفة العباسيّ القادر بالله، أحمد أبي العبّاس.

ــ   دولة واحدة يحكمها خليفة وملك في الوقت نفسه.

ــ   لم أكن أظنّ أنّ الحال على هذا العسر في بغداد.

ــ   هي أكثر عسراً من هذا لو تعمقنا في التفاصيل، لأنّ الخليفة نفسه له تحالفاته الخارجية السريّة أيضاً. فلا تغرق نفسك في تفاصيلها.

ــ   لم ألتق عراقيّاً لم يقل لي هذا القول، رغم ذلك أجد نفسي أغرق فيها يوماً بعد يوم.

ــ   تمتع بأيامك هنا ولا تتعب نفسك في شؤون الحكم ودسائس السياسة.

قام البغداديّ ووقف بجوار رفوف الكتب التي ملأت الجدران وقال:

ــ   تمتع بهذه، هذه هي الأبقى ! سيزول هؤلاء جميعا. هذه خزانات كتبي أضعها بين يديك، تستطيع أن تأخذ منها ما تشاء، أنّا تشاء، وقد أخبرت سعيداً بذلك.

اقترب من منضدة وأخذ رقاعاً مرصوفة بعناية وقال:

ــ   هذه مسوّدات مخطوطة جديدة لم تكتمل بعد، شرعت في كتابة مقدماتها التاريخيّة، ولم أزل أقوم بجمع مادتها، ولم أكمل منها سوى صفحات البداية. سأجعلها سفراً يخلّد تاريخ بغداد، أريدها أن تكون تاريخاً جامعاً لأحداثها ورجالها. ابقها معك، ربّما تجد فيها ما يسلّيك ويعرّفك ببعض جوانب بغداد، أنت في حاجة إليها  في أوّل عهدك بها. هذه الوريقات بخطّ يدي تتحدث عن نشأتها والأقوال فيها، وهي مقدمة لما سيأتي.

ــ   هذه هدية ثمينة، ربّما لا أستحقها.

ــ   من تجشم ركوب الأهوال وعبور القفار يستحق أكثر من هذه الرقاع.

ــ   وأنا بدوري أهديك بعض ما صغر حجمه وغلى ثمنه من تحف الأندلس، جلبتها معي من قرطبة.

همّ المجريطيّ بفتح جراب كان معه، لكنّ البغداديّ أوقفه وهو يقول:

ــ   لا تفعل هذا يا أبا سليمان ! أنت أحوج ما تكون لكلّ ما جئت به، فاحتفظ بهداياك، ربما ستعينك في هذه المدينة العصيّة على القراءة.  أما أنا فستكون هديتي هي أن أراك تحقق غاياتك، ولن أقبل غير هذا.

ــ   هذا لا يجوز يا أبا بكر، أنت تردّ هديتي.

ــ   أنا لا أرد هديتك، أنا أقبلها بطريقتي الخاصة. أنت الآن في بغداد وأنا أدرى منك بها وبأحوالها.

ــ   أنا ميسور الحال.

ــ   وهذا أمر عليك أن لا تعوّل عليه كثيراً، المسافرون فقراء دائماً وأبداً. أنت مسافر، إذاً أنت مطالب بأن تحتاط ليوم غد. وفي بغداد لا يعرف المرء ما تدبره له الأقدار.

ــ   أنت تغرقني في كرمك يا أبا بكر.

ــ   أنا أكرم نفسي بك.

ــ   جزاك الله خيراً. أنت خبير بأهلها إذاَ؟

ــ   أسعى لأن أكون.

ــ   وهل مرّ بك اسم أديب بغداديّ يقال له ابن زريق؟

ــ   لا، من يكون؟

ــ   لا أعرفه معرفة تامة، لكنّه شاعر مجوّد، كوفيّ، وبغداديّ، كما يقال.

ــ   لم أسمع به ! كيف وصل إلى مسامعك؟

ــ   تعرّفت إليه في قرطبة، عاش مأساة كبيرة، وترك خلفه قصيدة رائعة.

أخرج المجريطيّ الرقعة وناولها لأبي بكر، الذي استغرق في قراءتها، متلذذاً مستحسناً، وهو يهز رأسه إعجاباً، وحينما فرغ قال باندهاش:

ــ   إنّه كرخيّ !

ــ   نعم، كما تقول قصيدته. حينما عاد كسيراً من مقابلة الأمير أبي عبد الرحمن كان يردّد قائلا: " كأنّي خُصصت بخساسته وحدي"، " كأني طعنت في القرآن، أو رميت الكعبة بخرق الحيض، أو عقرت ناقة صالح، أو سلحت في بير زمزم".

ــ   عجباً ! هذا ليس كلامه، هذا كلام التوحيديّ !

ــ   التوحيديّ ! أبو حيّان؟

ــ   وهذا أمر لا يقل عجباً ! أتعرفون التوحيديّ في الأندلس؟

ــ   لا، لكنني سمعت باسمه يتردد على لسان ابن زريق؛ حينما سألته من أنت، قال لي ستعرفني حينما تعرف التوحيديّ.

ــ   هذا لغز محيّر. التوحيديّ رجل أدب وعلم كبير، لكنّه خامل الذكر.

ــ   أهو ضعيف الهمّة؟

ــ   على العكس، هو رجل لا تنقصه الجرأة على مقارعة أكبر الخصوم، وربّما لهذا السبب خُص بالتجهيل وسـُـلّط عليه السوقة من الكتاب. وما ذكرته من كلمات قالها في حقّ الوزير الصاحب بن عباد، الذي قابله وبدلا من أن يكرمه طلب منه أن يعمل نسّاخاً بالأجرة لديه؛ وحينما ذمّ فعلته قرّر الوزير أن يقطع ذكره، حتـّى بلغ اليأس بالتوحيديّ مبلغاً عظيماً فقام بإحراق كتبه القيّمة.

ــ   وهل أجد شيئاً من كتبه لديك؟

ــ   للأسف، لا يملكها سوى بعض الخاصة، وهي لا تتوافر لدى النّساخين أو العامة.

ــ   وما يكون الرابط بين التوحيديّ وابن زريق، كما تظن؟

ــ   هذا أمر محيّر، لا أستطيع أن أجيبك عنه.

ــ   أين يمكن لي أن أعثر على مؤلفات التوحيديّ؟ لدي صديق يعمل معلماً في دار العلوم، هل يمكن له أن يوصلني إلى مؤلفات التوحيديّ؟

ــ   أنا لا أنصحك بهذا، ربما سيجلب لك هذا البحث عداء البعض.

ــ   ولكن من أتحدث عنه رجل من الثقاة، رجل زاهد، حصيف.

ــ   إذا كنتَ واثقاً منه ومن استقامة خلقه، فأنت قريب جداً من مؤلفات التوحيديّ. يستطيع أن يوصلك إلى بغيتك؛ ولكن قد يجلب لك هذا البحث بعض العداء، ربّما أنت في غنى عنه في أول عهدك ببغداد.

ــ   ربّما سأجد عند التوحيديّ ما يوصلني إلى هذا الرجل.

ــ   ربّما، فأنا لم أطّلع على مؤلفاته أجمع. ربّما يكون للرجل الذي تعنيه ذكر عنده، ففي مؤانساته تحدث عن الكثير من رجال الأدب والثقافة. لكنّني أشكّ في هذا أيضا؛ فأنت تقول إنّه رجل في الثلاثين من عمره، وهذا أمر محال، لأنّ التوحيديّ توفاه الله منذ حوالي ثماني عشرة سنة. كيف لرجل مثله أن يكون له ذكر في مؤلفات التوحيديّ. هذا ضرب من المحال.

ــ   وماذا كان يعني بقوله: حينما تعرف التوحيديّ تعرفني.

ــ   لا أدري، كلّ شيء جائز، ربما يتحدث عن نسب ما.

ــ   قصيدته تدلّ على أنّه كان في ضيق وعسر.

ــ   كان التوحيديّ في فاقة أيضا. لكنّني  لا أجد ما وجدته أنت في أبيات هذا الرجل. هذا رجل كثير السفر، ولا يعقل أن يكون مسافراً إلى مكان ناء كالأندلس بلا قصد. وإذا أضفنا إلى هذا جودة شعره، فإننا أمام حالة غريبة ومحيّرة.

ــ   ماذا تعني؟ البعض يعتقد أنّه قصد عبد الرحمن لأنّه يتقرب إليه بنسبه، لكنّ ذلك غير دقيق أيضاً.

ــ   أعني أنّه رجل خبير بالسفر والترحال والنظم، ومثل هذا لا تنكسر نفسه بهذا اليسر، تأمّل قوله:

مـا آبَ مِــن سَـفَـرٍ إلاّ وَأَزعَـجَـهُ    عـزم إلى سَفَـرٍ بالرغــمِ  يُزمِعُـــهُ

كَأَنّـمـا هُــوَ فِـي حِـــلِّ وَمُـرتـــحــل    مُــوَكَّــل  بـفَـضـاءِ  الـلَـهِ  يَـذرعـــهُ

هذه عزيمة محارب.

ــ   حينما تعمّقت في كلماته حيّرني فيها الانتقال المدبّر من المخاطب إلى المتكلم؛ يذهب إلى المخاطب عند اللوم، ويعود إلى المتكلم عند تأكيد الحقائق بالوصف ! شيء عجيب، أليس كذلك؟ كما لو أنّ شخصين متنافرين يسكنان جسداً واحداً.

ــ   أحسنت يا أبا سليمان، هذه ملاحظة ثاقبة تدلّ على تعمق في فهم الكلمات وفي فهم بواطن النفس.

الإطراء المفاجئ الذي أسبغه البغداديّ على المجريطيّ جعله يحسّ بأنّ لحظة البوح قد حانت، وأنّه الآن قريب من بغيته، يستطيع أن يسأل بيسر وأن يتوجه إلى مقاصده توجّهاً مباشراً؛ يسأله عنها، وعن الأمانة التي يحملها، والتي تثقل عليه روحه. أراد أن يبدأ من زاوية لا تجلب النظر إلى هدفه البعيد، إلى ما يمكن أن يسميه خبله، كما قالت ألفيرة؛ أراد أن يبدأ من دلالة الاستعارات في قوله "من فلك الأزرار مطلعه"، لكنّ البغداديّ عجّل قائلا:

ــ   كنت أظنّ نفسي خبيراً بشؤون بغداد، لكنّك جعلتني أحسّ بفقر معارفي، وربّما سيجعلني هذا أعجّل في مسعاي إلى كتابة تاريخ بغداد. فمدينة السلام، التي جافاها السلام في عوز إلى هذا.

ــ   أنت لها يا أبا بكر، من يضع تاريخاً حافلا كهذا لهو عليم وضليع. لكنّ ابن زريق شأن خاص جداً، وربّما هو شأن عابر.

ــ   لا أوافقك على هذا، فهذا شاعر لا تجود الحياة بمثله كلّ يوم، وقصته أكثر عجباً وغرابة من شعره.

دقـّت الطبول وبدأ الأذان. ضحك البغداديّ، بينما اعترت المجريطيّ دهشة وخشية مجهولة المصدر، وهو يستمع إلى قرع الطبول في هذا الوقت المبكّر:

ــ   أأدهشك قرع الطبول؟

ــ   نعم، ولم أفهم مغزاه حتّى اللحظة.

ــ   هذه من بدع الملك جلال الدولة. حينما تولى الملك طلب من الخليفة أن تقرع الطبول عند الأذان، فرفض الخليفة؛ لكنّه عاد إلى طلبه حينما أصبح أقوى نفوذاً، وحقق ما أراد. أمّا ما يضحكني دائماً فهو تنافس المؤذن مع "أبو طبيلة"، قارع الطبل، سأحدثك عن هذا بعد الصلاة.

توجها نحو مسجد قريب. صليا الفجر معاً. ثم خرجا ماشيين. قال البغداديّ:

ــ   سأريك أحبّ الأشياء إلى نفسي بعد التأليف والسفر.

سارا باتجاه شطّ دجلة، وحينما اقتربا من ضفـّة النهر قال البغداديّ:

ــ   هذه بغدادي الخاصّة. لم أفارق بغداد يوماً من دون أن أرشف من دجلتها، كما لو أنّني أريد لعروقي أن تظلّ مبتلّة بمائها، ولدمي أن يظلّ مخلوطاً بعصارة روحها.

فجر بغداديّ آسر. مجمع صغير لزوارق ومراكب، اصطفــّت على ضفـّة تهتز بتثاقل، كما لو أنّها لا تريد أن تصحو من نومها. كان النهر يهدهدها في مهدها المائيّ.  صعد البغداديّ إلى مركب صغير يرسو على ضفـّة النهر، فيه مقصورتان تشبهان حجيرتين، تفصلهما ستارة. قال البغداديّ وهو يدعو المجريطيّ إلى الصعود:

ــ   هذا الضرب من المراكب نسميه الحرّاقة، وهو خاص بالنزهات، يمتلكه الخاصة من الناس. أما هذه الحرّاقات وبعض القوارب التي تجاورها فهي ملك لسعيد ابن عمّي، يعتاش منها، وهي تدر عليه ربحاً، لأنّه أوقف عملها على الأغنياء وكبار العوائل من أهل بغداد. تستأجرها منه العوائل الثريّة وعليّة القوم ممن لا يملكون مراكب خاصّة. بالمناسبة هو رجل كريم، فلا تقس شخصيته على صغر مقاس زوارقه، فهو أفضل منها بكثير. هل أتكلم كثيراً؟ أنا هكذا حينما أكون قلقاً !

ــ   ولماذا أنت قلق؟

ــ   السفر يقلقني كثيراً.

ــ   ورغم ذلك تأبى إلاّ أن تسافر.

ــ   السفر والتأليف يبعداني عن شرور الحكم.

ــ   حتام؟

ــ   حتّى يقرر الحاكم أمراً.

ــ   أينما تذهب تجد حاكماً. أحياناً تجول في رأسي فكرة أن يولد إنسان في بقعة ما ولا يجد من يحكمه سوى نفسه، ترى ماذا سيكون شأنه بلا مال ولا حاكم ولا شُرط ولا قوانين وعادات.

ــ   فكرةٌ عجيبة، لكنّك لن تجدها حتّى في الجنّة.

ضحكا فارتجّ المركب تحتهما.

ظلّ البغداديّ يتحدث على هواه، من دون تكلّف، كما لو كان يخاطب صديقاً نشأ وترعرع معه منذ طفولته.

ــ   منذ متى أنا وأنت نعرف بعضنا يا أبا بكر؟

ــ   هذا السؤال كان على طرف لساني.

ــ   حقـّا منذ متى؟

الفجرُ في بغداد أصيلٌ وناعمٌ مثل شعاع الشمس المنكسر على صفحة الماء.  غرس البغداديّ يده في ماء النهر وارتشف قليلا من الماء وهو يقول:

ــ   هذا إكسير حياتي. أنا جاهز للرحيل يا بغداد !

مرأى البغداديّ مفتوناً بالشروق منح المجريطيّ جرعةً مضاعفة من العواطف والأحاسيس الفيّاضة، فودّ لو أنّه يستطيع أن يمدّ قدمه ويلامس وجه الماء، ومن دون أن يسيطر على مشاعره راح ينطق:

ــ   حينما رأيته للمرّة الأخيرة كان موحل القدمين. جاء من الوادي الكبير حزيناً، وغمس قدميه فيه، كما أفعل أنا الآن. كان يتذكّر دجلة. لا أعرف بماذا كان يفكّر في تلك اللحظة، لكنّه كان كسيراً.

ــ   أنت لا تستطيع أن تنساه لحظة واحدة.

ــ   ليتني أستطيع. ربّما أنا هنا، في بغداد، لكي أعين نفسي وأمكنّها من نسيان ذلك.

ــ   لكنّني أراك تفعل العكس، تتشبث به.

كادت الكلمات تقفز من فمه، كاد ينطق السؤال الذي حيّره، ينطق الاسم الذي أرّقه  وخلب لبّه، لكنّه أمسك نفسه. لم يشأ أن يخسر رجلا بهذه الصفات النادرة، لم يشأ أن يظهر أمامه شيئاً من الأنانيّة الشخصيّة، وقدراً من الضعف والوهن وهو يستقبل منه  فيضاً لا محدوداً من النبل والكرم والعلم والحماسة للعقل والمعرفة. لم يرغب في أن يكون صغيراً، وأن تتضاءل صورته في عين رجل على هذا القدر العظيم من الإرادة وحب الحياة. فكّر: "لا يصح لي أن أفسد عليه هذه المتعة الصغيرة، التي يودع بها بغداده التي يعشقها. ولكن ماذا تكون بغداد لي؟"

ــ   هل يحقّ لي أنا الغريب أن أسألك قائلا: كيف ترى أنت بغداد؟

ــ   اختلف الناس في أمر بغداد. كان ابن العميد، وزير ركن الدولة البويهي، وهو أحد الوزيرين اللذين ذمهما التوحيديّ يمتحن عقول قاصديه بسؤالهم عن أمرين: أولهما: معرفتهم بمحاسن وخواص بغداد، وثانيهما: معرفتهم بأدب أبي عثمان الجاحظ. في حين أنّ البعض قال، قلت لعبد الله بن داود إن لي خالة ببغداد، قال: اقطعها قطع القثاء.

ــ   أهذا بسبب كونها أرض جزية، أليس كذلك؟

ــ   يرى البعض أنّها أرض حرمت عليهم ملكيتها، لأنّها مملوكة أصلاً، قبل الفتح وأسلم أهلها مبايعين. لكنّ أطرف ما قيل عن بغداد جاء على لسان الفضيل بن عياض، الذي سُئل عن المقام ببغداد فقال: لا تقم بها واخرج عنها فإنّ أخبثهم مؤذنوها.

ــ   ولماذا مؤذنوها؟

ــ   لا أعرف، ربّما لأنّهم ينافسون طبّاليها.

ــ   من أين أتى جلال الدولة بهذه الفكرة؟

ــ   قل من أين جاءوا لنا بجلال الدولة؟ ولماذا جلال الدولة ونحن سرّة الدنيا؟ أنا لا أستطيع أن أفهم كيف نؤمن بأننا مركز الأرض ونرضى في الوقت نفسه أن نساس من قبل. ..

أنا آسف، لأنّني عدت إلى ما أهرب منه.

ــ   وهل أنتم مركز الأرض حقا؟

ــ   نعم، هناك من يعتقد ذلك. ذكر علماء الأوائل أن أقاليم الأرض سبعة...الإقليم الرابع الذي فيه العراق. وفي العراق بغداد. هو صفوة الأرض ووسطها، لا يلحق من فيه عيب سرف ولا تقصير. قالوا ولذلك اعتدلت ألوان أهله، وامتدت أجسامهم، وسلموا من شقرة الروم والصقالبة، ومن سواد الحبش وسائر أجناس السودان، ومن غلظة الترك، ومن جفاء أهل الجبال وخراسان، ومن دمامة أهل الصين ومن جانسهم وشاكل خلقهم؛ فسلموا من ذلك كله، واجتمعت في أهل هذا القسم من الارض محاسن جميع أهل الأقطار بلطف من العزيز القهار، وكما اعتدلوا في الخلقة كذلك لطفوا في الفطنة والتمسك بالعلم والأدب ومحاسن الأمور.

وهناك من بالغ أكثر في مديح بغداد. قيل لرجل كيف رأيت بغداد قال الأرض كلّها بادية وبغداد حاضرتها.

وهناك من سمع الشافعي يقول ما دخلت بلدا قطّ إلاّ عددته سفراً، إلاّ بغداد فانّي حين دخلتها عددتها وطناً. وأنا أقول أيضاً: نعم هي وطن، فأنا مثلاً من أصل حجازيّ، لكنّ بغداد وطني، ولا وطن لي سواها.

ــ   كلّ هذا الحبّ وأنت حجازيّ !

ــ   حجازيّ الأصل، بغدادي الوطن.

وصل سعيد. سلـّم عليهما وهو يقول:

ــ   آن الأوان يا بن العمّ.

تعانق البغداديّ والمجريطيّ. ودّ المجريطيّ أن يقول له: أهو فراق؟ لكنّ البغداديّ أشار إلى سعيد قائلا:

ــ   ابن عمّي هذا سيكون أخا لك في غيابي.

انتحى به جانباً وقال هامساً، مبتسماً:

ــ   أخاً في الطريق والمأكل والملبس والمشورة فحسب. سيعرض عليك مشاريعه التجارية الخياليّة فلا تصدّقه في شيء، سيحدثك عن رحلات خرافيّة في عرض البحر وفي مجاري الأنهر وفي الجزر البعيدة فلا تصدّقه؛ أما الأهم من كل هذا، وهو أمر لا هزل فيه: احذر أن تخوض معه في شأن سياسي أو مذهبيّ أو دينيّ.

ــ   أتحذرني منه؟

ــ   لا، ولكنّي لا أثق بأحد في مثل هذه الظروف.

ــ   هذه العبارة سمعتها هناك، على بعد آلاف الفراسخ، قالها لي الوزير، حينما التقيته قبل سفري بثلاثة أيام.

فكّر المجريطيّ "سيختفي البغداديّ من المشهد في الحال". سيكون وداعاً قاسياً، ستغدو بغداد على إثره فارغةً تماماً، مهجورة، بغداد بلا بغداديّها.

ــ   ستكون خاويةً من بعدك. من سيشغل هذا الفراغ الذي يحيط بي من كلّ صوب، يا أبا بكر؟

ــ   ولهذا أسرفت في الحديث معك عن بغداد. من أجل هذه اللحظة القاسية يا أبا سليمان، من أجل أن أترك لك بقية تقوم أنت بمعاينتها بنفسك وتفسير صفحاتها بإرادتك الخيّرة، هذه أمانة في عنقك.

***

في منامه رأى المجريطيّ نفسه يطوف حول سور بغداد ولا يصل إلى باب. كان يلتـّف حولها كما يدور مغزل حول نفسه، وهي تدور به، كما يدور خاتم في أصبع.

 

(4)

ــ  هل تعرف ما أفكر فيه يا أندلسيّ؟

ــ   وكيف لي ذلك يا سعيد !

ــ   أنا أحلم أن أصحو فجراً فأجد نفسي أبحر صوب قرطبة.

ــ   تعني صوب الأندلس.

ــ   كلّه واحد، الأندلس أو قرطبة، كلّه واحد ! المهمّ في الأمر أن أجد نفسي أقف على رأس سفينة عظيمة ترفرف فوق صواريها الأعلام، أنظر إلى الأفق البعيد وأشم رائحة السواحل المنتظرة.

لا يستطع المجريطيّ أن يرسم صورة محددة لسعيد، عدا أنّه يحمل اسماً يطابق جوهره مطابقة مطلقة: سعيد، حالم ورقيق وودود وخدوم. شخصيّته لا تخلو من الميل إلى الخداع المكشوف، الساذج والبريء، حاله كحال بائع، قبل أن يقوم بخداع المشتري، يقول له: ما رأيك لو أنّني أخدعك؟  كان سعيد مثل بائع يزوّق للناس بضاعته  علناً لغرض ترويجها، وهو يدرك أنّه  لا يبيع سوى جزائر لا يعثر المرء لها على أثر في الخرائط، وبحار لا وجود لها إلاّ في الخيال.

ــ   هل لي أن أسألك يا سعيد عن رحلاتك. أيّ المدن زرت؟

ــ   المدن ! ماذا تعني بالمدن؟ أنا أتحدث عن المياه.

ــ   أنا أعني أيّ البلدان زرت؟

ــ   هذا سؤال عويص يا صاحبي.

ــ   ما وجه الصعوبة فيه؟

ــ   وجه الصعوبة فيه هو أنّني لم أغادر بغداد أبداً.

ــ   ألم تر مدينة أخرى؟

ــ   لم أغادر أرباضها قطّ.

توقف لحظة ثم أضاف: ولكنّني اخترقها من أعماقها، أعبر من ضفـّة إلى ضفـّة غير آبه بأسوارها. النهر الذي تمخر فيه مراكبي يقع خارج أسوارها. حينما أكون في زورقي تختفي الأسوار. بغدادي، التي لم أغادرها، طليقة، لا تطوّقها الأسوار.

لم يعد المجريطيّ يعرف الحدود بين الحكمة والسذاجة في أخيلة سعيد؛ لكنّه أخذ يقتنع ساعة بعد ساعة أنّه أمام ذات فريدة، لا شبيه لها.

ــ   يا أبا سليمان، لو احتجت حرّاقة لا تتردد، أنا جاهز وفي خدمتك. من النهر سترى بغداد أجمل، صدّقني ! أجمل وأكثر بهاء ورقّّـّة.

ــ   وهل تدرّ عليك هذه المهنة الكثير؟

ــ   ستدرّ أكثر لو أنّك شاركتني وجعلنا القوارب الصغيرة المعدودة التي أمتلكها أسطولاً عامراً، أسطولاً يـمخـ...

ــ   يا سعيد ألا تستطيع أن توقف مشاريعك العجيبة لبرهة، أنا أسالك بشكل جادّ.

ــ   وأنا أجبتك بشكل جادّ أيضاً. أنا لا أعيش على تأجير زوارقي لمن هبّ ودبّ. صحيح أنّ بعضها يعمل فيه مجذفون أجراء، ينقلون الناس والبضائع بين ضفـّتيّ النهر. ولكنّ معيشتي الأساسيّة تعتمد على ما أحصل عليه من العوائل الغنيّة، التي تستأجر قواربي في المناسبات الخاصّة والعامّة.

ــ   الأثرياء فقط؟

ــ   البيوت الكبيرة، حتّى بيوت الخلافة. الجميع يثق بي وبعائلتي. أنا لاأحفظ لهم راحتهم وسلامتهم فحسب، بل أحفظ لهم ما هو أهمّ من هذا، أحفظ لهم أسرار عوائلهم. هذه مهنة تتطلب من حاملها خبرة بأحوال النهر وسمعة أخلاقيّة عالية، إضافة إلى الصبر وحسن المعشر. وهي أمور تتوفر فيّ، أليس كذلك؟

ــ   حدّثني أبو بكر عن  معركة الملك مع الأتراك ومشاركة صنّاعك في تخليصه من براثنهم.

ــ   أولاد الكلب ! هبّوا لنجدته مع الخدم. ثارث في نفوسهم الحميّة حينما حاول بعض الجنود الأتراك الاقتراب من النسوة. كان الملك قد استسلم تماماً لهم، وقرر التنازل والخروج من القصر من طريق النهر. وقد شجّع استسلامه بعض الطامعين فشرعوا يتحرّشون بحريمه. هنا ثارت ثائرة عمّالي الحمقى. فأنقذوا ملكا يكرهونه. أيّ قوم نحن !

ــ   وكيف هزموا مقاتلين أشداء كالأتراك؟

ــ   هنا تكمن المهزلة، حينما تقدم عمّالي الحمقى من النهر، صرخ أحد الأتراك محذراً أصحابه، فظنوا أن جلال الدولة حصل على نجدة حربيّة من طريق النهر، فهرب المهاجمون.

ــ   وهل أنت ضليع على البرّ  أيضا؟

ــ   لا، ليس كما في الماء.

ــ   لهذا أراك ستخذلني في بحثي عن أبي مهديّ !

ــ   لا، هذا أمر مقدور عليه. سنذهب أولاً إلى دار العلوم، ومن هناك نذهب إلى بيته.

توجها صوب الكرخ. في دار العلوم استطاع سعيد أن يجعل المجريطيّ يقف أمام قيّم المدرسة خلال دقائق حسب. عاد إلى المجريطيّ  وهو لا يستطيع كتمان ضحكة خرجت منه مجلجلة وهو يقول:

ــ   الأصلع  بانتظارك.

ــ   من الأصلع؟

ــ   القيّم على المدرسة. احذر ! لا تنظر إلى ما تحت عمامته ! لأن الأصلع لقبه وليس وصفا لرأسه.

ــ   وماذا قلت له عنّي؟

ــ   لا يهمّك.

ــ   لا يا سعيد، هذا مهمّ.

ــ   أخبرته أنّك تاجر أندلسيّ، جئت من طريق البصرة في سفينة عظيمة محملة بالأطايب. لأنّ ذوي العمائم الكبيرة يحبّون الأكل، أنا أفهمهم جيّداً.

نطق ذلك ضاحكاً ولم يعرف المجريطيّ إذا كان سعيد يهزل أم أنّه قال ذلك حقـّاً. دخل فواجه الأصلع، الذي قام محيياً، باشّاً:

ــ   مرحباً بك يا أندلسيّ، مرحباً بك في دار السلام، نرجو أن تكون دار سلام لك ودار إيمان.

ــ   شكراً لك على كرمك.

ــ   هل أستطيع أن أخدمك في شيء؟

ــ   جئت أسأل عن أبي مهديّ.

ــ   يا للعجب ! تسأل عن أبي مهديّ ! قال لي صاحبك إنّك وصلت بغداد قريباً، كيف عرفت أبا مهديّ؟

ــ   معرفة طريق.

ــ   وهذا أمر أعجب ! لم أعرف أنّ أبا مهديّ خرج من بغداد يوماً قبل الآن، ولم أعرف له صديقاً قطّ.

ــ   كان رفيقي في قافلة العراق القادمة من الحجاز. عدنا معاً من الحجّ.

ــ   الحجّ؟ وهل تحجوّن أنتم أيضا؟

ــ   ولماذا لا، ألسنا مسلمين مثلكم.

ــ   مسلمون ! نصارى الأندلس مسلمون؟

ردّ المجريطيّ بانفعال:

ــ   أنا مسلم أيّها القيّم، وإسلامي لا يقلّ عن إسلامك.

ــ   عذراً يا أندلسيّ، لقد أوهمني صاحبك بطريقته العجيبة في الكلام، وربّما لم أفهم كلامه جيداً، لا أذكر جيداً ماذا قال، أظنّه قال لي بأنك من ملوك الروم الإسبان، جئت في وفادة إلى بغداد. وقد عجبت من قوله عن الروم، هل الإسبان من الروم؟

ــ   هذا كلام مختلق من أوّله إلى آخره. أنا كما أخبرتك زائر جاء يقصد بيت الله وعرّج على بغداد. ربّما فهمت أقواله خطأً. هل تستطيع أن تدلني على بيت أبي مهديّ؟

ــ   بيته ليس قريبا من هنا، ولكنّي سأبعث من يدلك عليه. لقد وصل اليوم.

ــ   اليوم !

ــ   نعم، فهو من ذوي المكرمتين. ذوو المكرمتين يصلون متأخرين قياساً بذوي الحجّة الواحدة من أمثالك.

ــ   لا أفهم ماذا تعني.

ــ   من دون شك لا يمكن لك أن تفهم هذا. بعض حجّاج قافلة أبي مهديّ، يذهبون بمكرمة من السيّد الكبير، لذلك عرّجوا على النجف لزيارة ضريح أمير المؤمنين رضي الله عنه، لتكتمل الحجّة بالزيارة المباركة.

ــ   ربّما لا يكون لائقا زيارته الآن، إذا كان عائداً اليوم.

ــ   لا، أظنّه سيفرح بمقدمك، لأنّ اليوم سيكون يوم استقبال الناس والأهل والأصدقاء، وأنا أشك في أن يكون أبو مهديّ في استقبال أحد. هذه ليست عادته، إلاّ إذا كان قد غيّر عاداته بعد أن عرفك.

ودّع المجريطيّ الرجل وخرج.

" هذا سعيد آخر، ولكن بطريقة مختلفة"، فكّر المجريطيّ حينما عجز تفكيره عن الإحاطة بما تعنيه كلمات هذا الرجل، وحينما فقد المقدرة على تمييز باطنه من ظاهره.

قال المجريطيّ لسعيد، الذي كان ينتظر منزعجاً:

ــ   يا سعيد، وصل الرجل اليوم، هل ترى أنّ من اللائق زيارته؟

ــ   وماذا قال الأصلع؟

ــ   دعك من الأصلع، أنا أسألك أنت !

ــ   خير الشرّ عاجله.

قال ذلك من دون أن يضحك، وسار أمامه خارجاً من الرواق المفضي إلى باب المدرسة. لكنّ المجريطيّ لم يواصل السير، تسمرّ في مكانه وهو يرى المعجزة أمام عينيه:كان أبو مهديّ قادماً نحوهما.

تعانقا عناق أخوين افترقا منذ دهر، بينما لبث سعيد ينظر ببلاهة إلى المشهد الغريب الماثل أمامه.

 

(5)

حينما شرع المجريطيّ يجمع تركة  ابن زريق، التي اشتراها والتي أخذها من عمران العراقيّ: ثيابه، خاتمه، قصيدته .خطرت على باله فكرة مثيرة. بدت له أوّل الأمر مثل مزحة من مزح سعيد، لكنّه وجدها قريبة من نفسه. وضع خاتم ابن زريق الكبير، ذا الفص الأحمر، في إصبعه، ثم رفع غطاء الرأس وراح يجرّب تعصيب رأسه به، كما كان ابن زريق يفعل، ثم شرع يلبس ملابس ابن زريق الخارجية كلّها. تأمل هيئته فأعجبه مرآه، خاصة أكمامه البغدادية العريضة، التي بلغت ثلاثة أشبار. ابتسم في سرّه، وهو يرفع الرقعة ويشرع في القراءة، مقلّدا صوت ابن زريق وهو يسكّن أواخر الكلمات ويمطّها، بلكنته المميّزة.

سار بضع خطوات في البيت، كما لو كان يدرّب نفسه على قبول هيئته الجديدة.

تحسّس المجريطيّ خاتم ابن زريق فجاءه صوت عمران العراقيّ:

ــ   تأمّل هذا !

نطق عمران وهو يضع خاتما ذا فصّ أحمر في يد المجريطيّ. تأمل المجريطيّ الخاتم وقال:

ــ   بكم؟

ــ   هذا ليس للبيع، هذا هدية منّي اليك.

ــ   أهو خاتمه؟

ــ   لا أعرف، لكنّني وجدته بين أمتعته، ولا أعرف لماذا لم يكن يضعه في إصبعه !

ــ   وما نفعه لي؟

ــ   ربّما ستعرف قيمته حينما تكون في بغداد، ولكن أنصحك أن لا تريه لمن لا تثق به جيّدا.

ــ   عمران، هل تستطيع أن تصل إلى غرضك من دون لفّ أو دوران؟ ماذا تقصد؟ هل تريد أن ترفع السعر؟ هل تريد أن توصيني شيئاً؟ هل تريد أن تعلمني بأمر ما؟ هل تريد تحذيري؟ هل تريد إخافتي؟ هل ترشوني؟ تكرمني؟ أرجوك، قل لي ماذا تريد، لكي أفهم غرضك بوضوح.

ــ   هذا هديّة منّي، لا أكثر ولا أقلّ، لكي تتأكد من أنّني لست طمّاعاً. أما لماذا لم يكن يستخدمه فذلك سرّ هو وحده يعرفه. وربّما هو سرّ يخفي بعضاً من شخصيته.

ــ   لم تصل بعد. ما السرّ الشخصيّ الذي تعتقده؟

ــ   لا أدري، لكنّه من دون شك يتعلق بهويته، وبمن يكون.

ــ   ومن يكون غير عليّ أبي الحسين ابن زريق البغداديّ الكوفيّ؟ من يكون؟

ــ   لا تغضب، ربما يكون أبا الحسين أو أبا عبد الله، أوغير ذلك، هذا للاحتياط.

سكت لحظة ثم أضاف:

ــ   وهل كنت تراني أميناً وصادقاً لو أخفيت هذا عنك !

لم يتردد المجريطيّ طويلاً في قبول هديّة عمران، وحالما أخذ الخاتم، تململ عمران قليلاً وقال وهو يوشك على البكاء:

ــ   هل لي بخدمة بسيطة يا أبا سليمان، خدمة تجعلني أكون خادماً لأهل بيتك طوال فترة غيابك.

ــ   قل حاجتك، لن أبخل عليك لو استطعت.

ــ   تسأل عن أهلي في بغداد، وتطمئنهم...

دُقّ الباب. نزع المجريطيّ الخاتم على عجل وأخفاه.

على الرغم من القلق الذي أحدثه الخاتم في نفسه، إلاّ أنّه لم يتردّد في فتح الباب. هو على قناعة تامة من أنّه لا يمثل دوراً ما، غريباً عليه، بل يمارس دوره المعتاد. واجه سعيداً، من غير اضطراب، واستعد لاستقبال دعابة متوقعة؛ لكنّ سعيداً قال بإعجاب:

ــ   اليوم أنت عراقيّ أصيل، عراقيّ حقيقيّ. متى اشتريت هذه الثياب؟

ــ   منذ وقت، ولم ألبسها سوى اليوم.

ــ   هذا أفضل لي ولك، ستقلل هذه الملابس من فضول الناس الزائد، الذي يثيره زيّك الأندلسيّ.

عرّجوا على باب الطاق ودخلوا سوق الورّاقين. ما كاد عقل المجريطيّ يصدق وجود هذا العدد الكبير من الورّاقين. ظلّ المجريطيّ يتنقل من ورّاق إلى آخر وهو يمتـّع بصره بما هو معروض من كتب وصحائف وخطوط جميلة عظيمة الإتقان.

ــ   لك أن تتخيل يا سعيد كم أنا جاهل !

ردّ سعيد:

ــ   كيف يقاس الجهل؟

ــ   حينما ننظر إلى هذه الرقاع ونعرف أنّنا لم نحظ بشرف قراءتها.

ــ   إذاً أنا أكبر الجاهلين، ما رأيك؟

توقف المجريطيّ عند واجهة عامرة فجمدت عيناه حينما قرأ اسماً يعرفه جيّداً: ديسقوريدس. حمل الكتاب بين يديه كما لو أنّه يحمل الأندلس كلّها في راحتيه. نظر إلى الغلاف وراح يقرأ: قام بنقله إلى العربية إصطفن بن باسيل بأمر من الخليفة المتوكل. عجّل في شرائه. الغبطة التي حلّت فيه جعلته يندفع قليلاً في عواطفه ويهمّ بالسؤال عن كتب التوحيديّ. كاد أن ينطق الاسم، لكنّه عدل عن ذلك  حينما حضرت صورة البغداديّ إلى ذهنه فنهته عن ذلك. امتثل المجريطيّ لا خوفاً من البائع، ولكن خشية من سعيد، الذي كثر تأفـّفه وهو يتجول مرغماً بين دكاكين الكتب. خرجا من السوق فأحس سعيد بالارتياح وعاد إلى مرحه المعهود.

ــ   هل تعرف فيم أفكّر يا أبا سليمان؟

ــ   وهل تعرف أنت فيم أفكّر أنا الآن؟

ــ   وكيف لي ذلك !

ــ   حينما حملت الكتاب بين يديّ أحسست كما لو أنّني في قرطبة.

ــ   أهو من قرطبة؟

ــ   لا، ولكنّني قرأته هناك.

ــ   ولماذا تشتريه إذاً؟

ــ   سأخبرك عن هذا حينما أقرأه بنسخته العراقيّة.

لم يفهم سعيد ما قاله المجريطيّ، لأنّه كان مشغولاً بأمر آخر، مختلف تماماً. سار صامتاً ثم قال من دون أن يسأله أحد:

ــ   أنت تحلم بكتاب قرأته هناك، أمّا أنا فأحلم

ــ   أعرف يا سعيد، تحلم بسفينة

ــ   لا يا مجريطيّ، أحلم بشي آخر.

ــ   ما هو؟

ــ   لن أقول لك. أنت تظنّ أنني أمزح معك. والله أنا لا أمزح. لكنّني مندهش لصاحبك أبي مهديّ هذا، أليس له بيت يأويه، يأتي إلى دار العلوم حتـّى في الجمعات !

ــ   له بيت يا سعيد، لكنّنا اتفقنا أن نلتقي هنا، سنصلي الظهر في المسجد الجامع، ثم نذهب إلى بيته. هل لديك اعتراض على هذا؟

تركه سعيد قرب المدرسة وقال ساخراً:

ــ   سأتركك هنا، لن أسير أبعد من هذا لأنّني أتشاءم من رؤية الأصلع. سأعود إليك بعد صلاة العصر.

ــ   لا تتعب نفسك، أظنّ أنّي أستطيع العودة بنفسي هذه المرّة.

ــ   افعل كما يحلو لك، ولكن لا تنس أنّك أمانة في عنقي.

ــ   لن أنسى يا أبا حامد.

كانت دهشة أبي مهديّ حينما رأى زيّ المجريطيّ أكبر من دهشة سعيد، كانت بحجم ما كان المجريطيّ يظنّ ويتوقع. لكنّ أبا مهديّ لم يشر إلى ما كان المجريطيّ يرجوه، فلم يحصل المجريطيّ  على الإشارة التي كان يصبو إليها ، والتي ستكون مفتاح الطريق إليها ، إلى قمر في الكرخ لا يعرف طريقاً إليه، فاضطر إلى سؤاله سؤالاً مباشراً:

ــ   أأعجبتك ملابسي لأنّها عراقيّة أم لأنني أشبه شخصاً ما، مرّ بك يوما ما؟

ــ   لا أظنّك تشبه أحداً سوى نفسك. لكنّ هذا الشيء الثقيل الذي تحمله ربّما يشبه شيئاً ما.

نطق ذلك ضاحكاً، على غير عادته، وتناول الكتاب وراح يقلّب فيه، ثمّ قال:

ــ   أتقرأ في الأعشاب؟

ــ   أحياناً. لكنّ لهذا الكتاب قصة. حينما رأيته كادت الدموع تفرّ من عينيّ. فقد أهدتني امرأة من أقربائي نسخة منه بخط الأندلسيّ أبي داود سليمان بن حسان بن جلجل. كنت شغوفا به لما حواه من معارف ومن إضافات على هذه الترجمة المشرقيّة. وبالمناسبة أشار ابن جلجل إلى هذه الترجمة في مقدمته، وقال إنّها ترجمت في دار السلام.

ــ   العالم صغير جداً يا صديقي.

ــ   أصغر مما يظنّ المرء.

ــ   هل أفهم من هذا أنّ لك اهتماماً بالعلوم؟

ــ   لي اهتمام محدود بالفلاحة. لقد حدثتك عن هذا حينما كنّا في القافلة، لأنّ الفلاحة مصدر معيشتي ورزقي.

ــ   سنكمل حديثنا في الطريق، حان وقت الذهاب.

غادرا المكان. سارا في سكة فسيحة يزدحم فيها الناس، واتجها صوب المسجد الجامع.

صدق من قال يوم الجمعة ببغداد كيوم العيد في غيرها من البلاد.

استعاد المجريطيّ هذه العبارة حينما رأى جموع الناس تتزاحم وتتقاطر من كلّ صوب عند صلاة الجمعة. سار المجريطيّ وأبو مهديّ من البيوت المحاذية لدجلة بباب خراسان والصفوف مادة من المسجد إلى ذلك المكان والصلاة قائمة بمكبرين ينقلون التكبير عند الركوع والسجود والنهوض والقعود

ــ   قرأت للبغدادي يقول عن هذا المكان: كان على أبواب المقصورة بوابون بثياب سواد يمنعون الدخول إليها  إلاّ لمن كان من الخواص المتميزين بالأقبية السود وانه حضر في يوم جمعة بدراعة يتبع القاضي أبا تمام فرد حتى مضى ولبس القباء وكان هذا رسماً جارياً مأخوذاً به في سائر مقاصير الجوامع.

ردّ أبو مهديّ قائلا:

 ــ   هكذا كان الأمر منذ عقود، وقد بطل الآن ذلك، فليس يلبس السواد والقباء سوى الخطيب والمؤذنين.

ــ   أهكذا تكون بغداد دائماً؟

ــ   مرّة وصلنا إلى باب خراسان في دجلة وقد ضاق الوقت وقامت الصلاة وامتدت الصفوف إلى الشاطئ فصعدنا وفرشنا وصلينا. .. وأذكر وأنا أحبو وقد حملني أخ لي كان يلازمني ويحفظني في يوم جمعة لمشاهدة أناس في اجتماعهم وليصلي هو معهم فوقف عند الباب الجديد من شارع الرصافة والصفوف ممتدة في المسجد الجامع بالرصافة إلى هذا الموقع ومسافة ما بينهما كمسافة ما بين المسجد الجامع بالمدينة ودجلة.

في بيته عاد أبو مهديّ مجدّدا يصرّ على أن ينتقل المجريطيّ للإقامة عنده ويترك الدار التي منحها البغداديّ  له. فكّر المجريطيّ في ردّ ملائم  وهو يرى ضيق حجم بيت أبي مهديّ وكثرة أولاده، ونفوره هو شخصيّاً من بيته:

ــ   لا فرق بينك والبغداديّ، أنتما أخواي.

ــ   لكنّني دعوتك قبله، كما أنّك تحتاج إلى أكل وعناية.

ــ   يوفر لي سعيد كلّ شيء، كما لو أنّه خلق لأن يكون مساعداً لي. ما يؤرّقني يا أبا مهديّ الآن هو كيف أهتدي إلى هذه العائلة المنكودة !

ــ   هل العائلة هدفك الأوّل أم الرجل؟

ــ   هذان أمران متلازمان، هذا يقود إلى ذلك.

ــ   صدقت، ولكنّ موضوع البحث عن نسبه من طريق التوحيديّ لن يثمر شيئاً.

ــ   أنا أقول من المحتمل أن يسفر عن شيء، لأنّه أكّد لي ذلك حينما قال: ستعرفني حينما تقرأ أبا حيّان.

ــ   هل قال لك تقرأ أم تعرف؟

ــ   لم أعد واثقاً من الكلمة، ولكن لا فرق.

ــ   لا، يا أبا سليمان، الفرق بين الكلمتين عظيم. أن تقرأ وأن تعرف أمران مختلفان. ربّما هو يعني نفس ما حكيته لك، يعني أنّ حياته تشبه حياة التوحيديّ في مشقتها وعسرها.

ــ   ولماذا كان يردد كلمات التوحيديّ حرفيّا؟

ــ   لأنّه وقع في المأزق نفسه. حينما قابل التوحيديّ الوزيرَ ابنَ العميد، استخف به، وطلب منه أن يلزم داره وينسخ له الكتب، لذلك قال قولته تلك في لحظة غضب، وعاد مرة أخرى فكتب قائلاً: لو أنّه أراد أن يكون نسّاخاً ويمتهن حرفة الشؤم هذه لما جاء إلى وزير، لذهب مباشرة إلى سوق الورّاقين.

ــ   لكن نهايتيهما لم تكن واحدة.

ــ   وهل كان ابن زريق يتنبأ بنهايته؟  لم يمت التوحيديّ كمداً، لكنّه أحسّ بالمرارة ذاتها وهو يرى وزيراً مقتدراً يحقـّق شهرته من طريق تسليط الأضواء على نفسه، وفي الوقت نفسه يصرّ على اخمال ذكر أديب مجتهد، مشهود له بالعلم، ثمّ راح يدفع مريديه من سقط الكتاب ووضعائهم  والمتكسبين إلى الإغارة عليه ونهشه نهشاً، وسلط عليه كلّ ذي لسن، فتصدوه بالإساءة حتّى أخملوا ذكره، وجعلوه طريداً شريداً لا يأويه حجر ولا يسكن إلى مدر، ولم يذكره أحد من أهل العلم في كتاب ولا دمجوه في ضمن خطاب.

ــ   رغم هذا لم تكن نهايتيهما واحدة.

ــ   لكنّني أراها واحدة. ماذا كانت عاقبة ذلك كلّه؟ قام التوحيديّ في لحظة غضب بإحراق مؤلفاته كلّها. وصلت الحال به حدّاً يفوق الموت. فقد قتل وهو حيّ، حتّى أنّ الأديب ابن فارس، الذي توفي قبل تسعة أعوام ادّعى جهلاً وحقداً أنّ التوحيدىّ اختفى هارباً و"مات في الاستتار، وأراح الله منه".  أيّ موت يعادل هذا الموت ! لقد قتلوه حيّاً وأضاعوا أثره.

ــ   كيف ضاع أثره ونحن نتحدث عنه بعد عقدين من موته؟

ــ   وها أنت تفعل الأمر عينه مع ابن زريق، تريد الوصول إليه ولم يمض على وفاة الرجل سوى وقت قصير. أنا لا أتحدث عن أدبه وإنما عنه شخصيّا. الأدب الحيّ لا يموت؛ لكنّهم قتلوه في الحياة، وهذا أقسى وأمرّ. كان يصرخ قائلا: " أكفني مؤونة الغداء والعشاء، إلى متى الكسيرة اليابسة والبقيلة الذاوية، والقميص المرقـّع؟ إلى متى التأدم بالخبز والزيتون؟ أجبرني فإنني مكسور، اسقني فإنني صد، أغثني فإنّني ملهوف، شهّرني فإنّني غفل، حلني فإنّني عاطل؛ قد أخلني السفر من بلد إلى بلد، وخذلني الوقوف على باب باب، ونكرني العارف بي، وتباعد عني القريب منّي...".

 هل يوجد موت أقسى من هذا؟ قل لي !

بدا انفعال أبي مهديّ عنيفاً، حتّى خيّل للمجريطيّ أنّ أبا مهديّ يتحدث عن نفسه، ويدافع عن حقـّه الشخصيّ في الحياة وفي الوجود، وحقـّه في أخذ موقعه بين صفوف الخاصّة، بدلا من أن يجلس خائفاً، حذراً، لا يقوى على شيء سوى إلقاء دروس مبسطة في فروع اللغة على طلاب مبتدئين من أجل لقمة العيش، ثم الانزواء في عتمة الصمت.

ــ   أنت تجعلني أيأس.

ــ   لا، أنا لا أدعو إلى هذا. سنبحث عنه عند التوحيديّ، لن نخسر شيئاً في البحث؛ لكنّني لا أقلل من مخاوف البغداديّ في هذا الشأن.

ــ   ربّما يكون بالغ في إظهار مخاوفه، خشية عليّ لا أكثر.

ــ   ربّما، ولكّنها مخاوف لها أساسها المعلوم. أنت لا تستطيع تقديرها، فهي قد تكون عابرة، لكنّها قد تغدو قاتلة، ككلّ شيء عندنا هنا.

ــ   ولكنّني لا أنشد سوى الدرس والاطلاع، أنا عابر سبيل.

ــ   هذا لا يغير من الأمر شيئاً، الموضوع لا يتعلق بك، بل بمن سيفسّر سلوكك.

ــ   وكيف سيُفسّر سلوكي؟

ــ   هذا يتوقف على أمور كثيرة، وربّما على مصادفات غير مقصودة قد تقلب كلّ شيء إلى ضدّه. الأمر خال من الضرر في مقاصده العامة، لكنّه قد...

ــ   حينما كنت بباب الطاق مع سعيد هممت أن أسأل الورّاقين عن مؤلفات التوحيديّ، ثم أحجمت حينما تذكرت أمرا قاله لي البغداديّ.

ــ   حسناً فعلت، وإيّاك أن تعاود.

ــ   أنت تخيفني يا أبا مهديّ ولا تفصح، هل تخفي عنّي شيئاً؟

ــ   بوضوح تام، ما تبحث عنه لا يتوفر إلاّ في مكتبة السيّد الكبير، كما أخبرتك. وهي مكتبة خاصّة، ليست تابعة للمدرسة، وليست متاحة للعامة. صحيح أنّ قيّم المدرسة يشرف عليها، لكنّه لا يتصرف بها إلاّ بأوامر عليا. لأنّها ليست مكتبة، هي أشبه ما تكون بدار للمحفوظات، فيها أمور كثيرة لا تعرض على العامة، يتم الاحتفاظ بها كمراجع وكمادة يستقي منها السيّد الكبير وعلماء الطائفة الكبار أفكارهم، ويبنون عليها تصوراتهم في محاججة الفرق والنحل المختلفة. والموضوع كما ترى يأخذ أحياناً مسحة سياسيّة وليس عقليّة أو بحثيّة فحسب. لذلك أتساءل كيف نستطيع الوصول؟ أيّة حجّة يمكن تقديمها لغرض الوصول؟ أن تذهب وتقول إنّك قادم من الأندلس للاطلاع على أبي حيّان سيجعلك في دائرة الشكّ مباشرة، لأّنك مطالب بتوضيح لماذا اخترت هذا الرجل.

ــ   أستطيع أن أقول أيّ شي.

ــ   لا يمكن، لأنّ بعض رسائل التوحيديّ مرفوضة من قبل السيّد والمراجع الكبار، خاصّة الرسالة المسماة "رواية السقيفة". أنا لم أقرأها، لكنّ شهرتها تملأ الآفاق. بعضهم يستخدمها كحجّة ضدّ الطائفة، وضدّ فكرة أحقيّة الأمام علي رضي الله عنه بالخلافة بعد الرسول، صلى الله عليه وسلّم.  لقد دخل الخلاف كلّ زاوية من زوايا الحياة حتّى الشعر، لذلك قال مهيار الديلمي:

حـــــملوها يـــوم(السقيفة) أوزا     را تخـــــف الجبال وهي ثقالُ

ــ   هذا خلاف فكريّ معروف، لا جديد فيه.

ــ   نعم، معروف كخلاف فكريّ. لكنّه لم يعد خلافاً جدليّاً وفكريّاً الآن. أصبح خلافا عمليّاً. القبول به أو رفضه يقرّر موقف المتخاصمين ليس من الفكر فحسب، بل من شؤون الحياة اليوميّة أيضاً.

ــ   كل صراع مذهبيّ له هذا البعد اليوميّ.

ــ   لكنّ هذا النوع من الصراع له بعد عمليّ مباشر. ألا تعرف أنّ بني بويه جعلوا من يوم الغدير يوم عيد، يحتفلون به لمناسبة تتويج الإمام عليّ رضي الله عنه كخليفة من قبل الرسول. كيف تقبل فكرة العيد وأنت تقبل بيعة السقيفة؟ المرء ما عاد يناقش، أصبح الموقف ممارسة على الأرض، يختلف الناس حولها بالملبس والمشاعر والسلوك. لقد ضرب الخلاف جذوره عميقا الآن. البويهيّون يعتمدون عليه كنوع من القوة الشعبيّة المساندة، فهم لن يتسامحوا بثلمه أو الاستخفاف به ولو شكليّاً. حينما ننكر هذا الخلاف فإننا نضحك على أنفسنا، وحينما ندّعي تجاهله، فإننا نكون مشاركين فيه عن قصد وتصميم.

ــ   لم أكن أدرك أنّ الأمر بهذا التعقيد.

ــ   وربّما أكثر تعقيداً، لو علمت أنّ السيّد الكبير ينظر إلى مصالح الطائفة ليس من خلال الوعظ والعقائد فحسب، وإنّما من خلال التحالف السياسيّ أيضاً. هذه سياسة، كما لمّحت لك، وليست مجرد درس علميّ أو خلاف مذهبيّ وفقهيّ. نحن في قلب الصراع السياسيّ. حينما يوظّف الخلاف المذهبيّ أرضيّاً يتحول إلى قضيّة تمسّ الحاكم، تمسّ السلطان، أي تمسّ السياسة.

ــ   لقد أغلقتها تماماً في وجهي يا أبا مهديّ. أراها مظلمة.

ــ   لا تيأس، سنجد طريقاً مأمونة، ولكن لا تتعجل. كلّ شيء يأتي في أوانه.

ــ   لكنّني لا أطيق صبراً.

ــ   إذاً، هذا أكثر من درس وأبعد من قصيدة شاعر يا أبا سليمان.

"نعم، صدقت،  أكثر من درس وأبعد من قصيدة شاعر. ألم تر ثوبي؟ ألم تلمح عمامتي البغداديّة؟ ألم تر أنني أسكن فيه وهو يسكن فيّ؟"، فكّر المجريطيّ، وهو يتجول في الأسواق على غير هدي، باحثاً عنها في كلّ وجه يراه، وفي كلّ طيف يمر أمام ناظريه. كيف تكون؟ ماذا تفعل الآن في هذه الساعة؟

                 * * *

عاد المجريطيّ إلى البيت مثل ثَمِلْ. كان ضائعاً كلحظة ضياعه وهو يقف حزيناً مضطرباً أمام ألفيرة، يفصل بينهما قبر ابن زريق. وهو في ملابسه البغداديّة يحسّ كما لو أنّه لم يترك خلفه قبراً لابن زريق، وإنّما خلّف وراءه قبره الشخصيّ. وها هو يأتي إلى هنا روحاً بلا جسد. بينه وبينها تقف بغداد كلّها مثل قبر، قبر ندي، لم تجفّ تربته بعد.

سَلـَت بضعَ صفحات من فوق الرفّ وحاول أن يلهي نفسه بالقراءة.

... قال عمر بن الخطاب إلى كعب الأحبار: اختر لي المنازل. قال فكتب يا أمير المؤمنين، أنه بلغنا أن الأشياء اجتمعت، فقال السخاءُ: أريد اليمن، فقال حسنُ الخلق: أنا معك؛ وقال الجفاءُ: أريد الحجاز، فقال الفقرُ: وأنا معك؛ وقال البأسُ: أريد الشام، فقال السيفُ: وأنا معك؛ وقال العلمُ: أريد العراق، فقال العقلُ: وأنا معك؛ وقال الغنى: أريد مصر، فقال الذلُ: وأنا معك؛ فاختر لنفسك، قال فلما ورد الكتاب على عمر قال فالعراق إذاً. أخبرنا محمد بن الحسين القطان قال أنبأ عبد الله بن جعفر النحوي قال ثنا يعقوب بن سفيان قال ثنا قبيصة قال ثنا سفيان عن الأعمش عن شمر بن عطية عن رجل عن عمر قال: أهل العراق كنز الإيمان وجمجمة العرب، وهم رمح الله عز وجل يحرزون ثغورهم ويمدون الأمصار.

سافرت الآفاق ودخلت البلدان من حد سمرقند إلى القيروان ومن سرنديب إلى بلد الروم فما وجدت بلداً أفضل ولا أطيب من بغداد. قال وكان سبكتكين المعروف بالحاجب الكبير، حاجب معز الدولة البويهي، الذي خلع عليه الخليفة المستكفي  لقب أمير المؤمنين حينما استولى على بغداد وأسس مع أخوته حكم بني بويه، وكان سبكتكين الجد، مملوكاً لقائد الجيوش السامانية في خراسان، وكان آنساً بي فقال لي يوماً: قد سافرت الأسفار الطويلة فأي بلد وجدت أطيب وأفضل؟ فقلت له: أيها الحاجب إذا خرجت من العراق فالدنيا كلها رستاق.

لم يستطع المجريطيّ الاستمرار في القراءة. كانت صورتها تهاجم خياله، تأتي إليه، تظهر بين السطور، يراها في منعطفات الأزقـّة، في الأسواق، في الشبابيك. كانت بلا وجه، كانت امرأة بمليون وجه.

وضع رقعة ابن زريق على وجهه وراح ينظر إلى حروفها المعتمة والى فرجات الضوء الداكنة، التي تتخللها، فيراها مجدداً تسير عابرة من حرف إلى حرف، تقفز بين الكلمات كنقطة ضوء. أهو خبل الهيام؟ قالت ألفيرة، فأجابها وهو ينظر إلى الحروف المعتمة: نعم يا ألفيرة، نعم، خبل الهيام.

دُقّ الباب. استيقظ المجريطيّ من غفوته، فوجد أبا مهديّ يقف على عتبة الباب.

ــ   أتيتك بالحلّ.

ــ   أين هو؟

أجاب أبو مهديّ وهو يشير إلى رأسه:

ــ   الحلّ هنا يا أبا سليمان، هنا.

ــ   عجّل به.

ــ   اسمعني جيداً. أنت قلت لي إنّك تهتمّ بالزراعة، الفلاحة كما تسمونها، وإنّك اقتنيت كتاب ابن باسيل، لأنّك قرأت ترجمته الأندلسيّة.

ــ   نعم، أين الحلّ؟

ــ   ربما سنبدأ من هنا، من ابن باسيل.

ــ   كيف؟

ــ   ابن باسيل يقودنا إلى أبي حنيفة الدينوريّ، وهذا يقودنا إلى التوحيديّ.

ــ   كيف؟

ــ   أنا أشرح لك. كتب التوحيديّ عن الدينوريّ بإعجاب، والدينوريّ كتب بإنصاف عن مقتل الإمامين علي والحسين رضي الله عنهما في كتابه (الأخبار الطوال)، وهو مصدر ثقة عند السيّد الكبير.

ــ   لا أكاد أفهم ما الرابط بين كل هذا؟ التوحيديّ مغضوب عليه ومحظور، لكنّه يمتدح الدينوريّ المقبول.

ــ   لا تهتمّ بالتفاصيل، المهم الأسباب وحلقات الربط.

ــ   وما صلة الدينوريّ بابن باسيل؟

ــ   صلته عميقة، لأنّه مؤلف كتاب (النبات والشجر). هذا يقود إلى ذلك، وذلك يقود إلى تلك. وهكذا نصل من دون أن نثير شكوكاً، ومن دون أن...

ضحك المجريطيّ مقاطعاً:

ــ   هذا ليس حلاًّ يا أبا مهديّ، هذه متاهة. هذه دورة طويلة، طويلة، خالية من البداية والنهاية. المشكلة هي كيف أصل إلى المكتبة الخاصّة؟

ــ   الحلّ هنا، كما قلت لك. الحلّ هنا.

أشار أبو سليمان إلى رأسه الكبير وأضاف:

ــ   السيّد الكبير له مداخل عديدة، لا نستطيع أن نصلها جميعها. لكنّ مدخلين أساسيين يمكن لنا أن ننفذ منهما. الأوّل هو الدنيا، والثاني هو الآخرة.

ــ   وكيف نصل إلى دنياه والى آخرته؟

ــ   الدنيا يصلون إليها  بالمال، أليس كذلك؟ والآخرة من طريق حبّ الذات.

ــ   وهل هو كذلك؟

ــ   لا أعلم، خصومه ينعتونه بذلك، وأنصاره يدّعون أنّه أكمل رجال عصره.

ــ   وأنت؟ ماذا ترى؟

ــ   بعض خصومه يشيعون عنه  أنّ فخر الملك، وزير بهاء الدولة البويهي، الذي بتحريض منه تم خلع الخليفة الطائع، يدّعي أنّ السيّد أرسل له رقعةً طويلة يرجوه فيها أن يعفيه من ضريبة ماليّة زهيدة قدرها دينار واحد !

ــ   وماذا يعني هذا لك؟

ــ   أنا لا يعنيني هذا كلّه، ما يعنيني أنّه رجل ثري، عظيم الثراء. لذلك فهو لا يرفض هديّة نفيسة، ذات قيمة كبيرة من شخص يقدمها إليه بحسن نيّة. وثانياً هو رجل على حظّ عظيم من العلم، لكنّه محدود الموهبة كشاعر. ولهذا هو بحكم وضعه هذا يحتاج إلى المديح والتقريظ والى شهادة رجل مثلك قادم من أقاصي الأرض. هذه الدنيا وتلك الآخرة. ما رأيك؟

 ــ   ولكنّ هذا تخمين، يا أبا سليمان.

ــ   ربّما يبالغ الناس في حبّه للمال وقلّة سخائه، لكنّه معروف بحبّ التجارة، فهو يملك ثمانين قرية بين بغداد وكربلاء. كما أنّه معروف بنفوره من كبار الموهوبين، ممن يبزونه موهبة، كأبي الطيب المتنبي مثلاً؛ حتّى أنه لا يستعذب الإطراء الذي يحظى به أخوه، رحمه الله، الذي هو أشعر منه وأعلى مرتبة في الطائفة. فعلى الرغم من أن المرحوم هو جامع نصوص نهج البلاغة، لم يزل السيّد لا يفصح للناس جهراً حقيقة جامعها، لكي يختلط اسمه باسم أخيه عمداً. هذا لا يُخفى على أحد، لكنّ هذا لا يقلل من علمه ومنزلته ونسبه ومكانته الرفيعة، فهو صاحب كرسي الكلام، لذلك لُقب بـ  "وحيد العصر".

ــ   وكيف نصل إلى هذين الدربين؟

ــ   هذا مرهون بك، بشطارتك. أنت أخبرتني أنّك جلبت معك هدايا ثمينة تليق بالملوك.

ــ   نعم.

ــ   هذه حلّت المعضلة الأولى. أما الثانية فستحلّها أنت بنفسك اليوم، وربّما الآن حينما تذهب معي لأريك شيئاً من معالم بغداد، التي لم تكتب في الكتب بعد.

ــ   ماذا لديك؟

ــ   سنذهب إلى جامع المنصور، هناك ستتعرف على أكثر شعراء بغداد شهرة، مهيار الديلميّ. مهيار بن مرزويه الديلميّ البغداديّ. هذا مفتاحنا الثاني إلى قلب السيّد. لو كسبنا ودّه، وكسبه أمر ليس بالصعب، ستكون في حضرة السيّد قريباً.  مهيار يأتي ليلقي قصائده في الجامع أيام الجمعات. وهو ككلّ الشعراء يحب الإطراء. وحينما يعرف أنّك أندلسيّ مهتمّ به وبشعره، سينجذب إليك فوراً. وحينما يعرف أنّك مولّد سيزداد إعجابه بك، لأنّه من أصل فارسي، وحينما يعرف أنّك مسلم سيجد فيك عصبة يتقوى بها، فهو حديث الإسلام، أسلم على يد الشريف الرضي قبل ستة وعشرين عام فحسب، وقبلها كان مجوسيّاً. وحينما تهديه شيئاً ثميناً مما معك، سيتبسط معك ويكون طوع بنانك، فتكسب ودّه، وحينئذ تستطيع أن تخبره بأنّك جئت إلى الحجّ وعزمت على زيارة دار السلام حبّاً بها، وليس من اللائق أن تعود من دون أن تقدم هديّةّ للسيّد الكبير، الذي هو محطّ احترامك لعلمه ومكانته وأدبه، إلى آخر القصة. مهيار أقرب الأدباء اليه.

ــ   أنت داهية الدواهي يا أبا مهدي ! ولكن، قل لي: ألا يشعر مهيار بالحرج لو ناداه الناس بالديلميّ؟

ــ   الحرج ! مهيار يفتخر بهذا الأصل. ولا تنس أنّ أم كبير الأشراف الطالبيين ديلميّة أيضاً، وابنة أحد ملوكهم.

ــ   أنت بارع يا أبا مهديّ، ولكن، هذه رحلة طويلة.

ــ   هل تملك طريقاً أقصر؟ ولا تنس أنّك ستكون في محفل أدب وثقافة وعلم، وهي طريق لا تتم إلاّ بوسطاء، لكنّها طريق لا خسارة فيها، لأنّك ستمضي وقتاً ممتعاً وتتعرف على رجال لا تجود بمثلهم الأرض كل يوم.

ــ   منذ أن وطئت قدماي أرض بغداد وأنا أشعر أنّ أولها سعد عشته بكل جوارحي، وآخرها وعد، وعد لا بدّ أن يتحقق.

 

(6)

حينما وصلا جامع المنصور كان مهيار يقرأ آخر أبياته. لم يكن يقرأ شعراً فحسب، كان يستعرض خيلاءه، ويرشّ على الحاضرين مشاعر الزهو، أكثر مما كانت كلماته ذاتها قادرة على التعبير عن نفسها. كان كمن يساعد كلماته على تحميل نفسها أحمالاً لا تقوى عليها، يحثها ويشجعها بثقته العالية على النهوض. كان حسن الملبس، في الخمسين من عمره، لكنّه بدا أصغر سناً مقارنة بأبي مهديّ. تعالى المديح من بعض المتطفلين فتعاظمت نشوة مهيار وراح يقول مفاخراً:

ــ   أنا لا أفخر بهذا حسب، أنا أفخر بما هو أهم وأثمن. أنا الأديب الوحيد على سطح البسيطة الذي لم يمجّد حاكماً.

ــ   صادق كبير وكذّاب أكبر !

همس أبو مهديّ، وأضاف:

ــ   صادق لأنّه حقـّاً لم يمدح خليفة عباسيّا، وكاذب لأنّه حينما صعد جلال الدولة البويهيّ من البصرة إلى بغداد عند مبايعته بالملك، كان هو والشريف المرتضى في استقباله منشدين. لقد رأيتهما بعينيّ وسمعتهما بأذنيّ يهتفان لأمير الأمراء !

قال مهيار لجلسائه:

ــ   استودعكم الله، سأراكم الجمعة القادمة هنا في مجلسنا هذا، لأقرأ بعضاً مما تجود به القريحة.

ــ   سأتولى أمره !

همس أبو مهديّ ومضى في إثره مسرعاً. لحق به، عانقه وراح يسارره، ثم أقبل بصحبته.  وقف مهيار أمام المجريطيّ وقال:

ــ   خلتك شيخاً يا أندلسيّ !

ــ   وأنا خلتك أفتى وأنا أقرأ رقـّة شعرك وعذوبته، لكأنّك أندلسيّ مثلي !

ــ   قل: كأنّك لستَ بدويّا، مثل هذا الشيخ الأعرابيّ الهرم.

نطق كلماته وهو يشير إلى أبي مهديّ، ثم أضاف وهو يصافح المجريطيّ، ويتأمل ثيابه الأندلسيّة الفاخرة:

ــ   أعجبني فيك أنّك لم تتبغدد، ولم تزل تحتفظ بزيّك الأندلسيّ الجميل.

رد المجريطيّ بود:

ــ   تبغددت يوماً وفشلت، أما أنت فأراك قد تبغددت تماماً.

ــ   نعم، تبغددت، لكنّني لم ولن أتعرّق. لا تزعل من صراحتي يا أبا مهديّ. بالمناسبة كيف عرفت هذا الرجل الذي لا تكاد حتّى زوجته تعرفه إذا التقته خارج البيت؟

ــ   جمعتنا ألفة الصحراء.

ــ   في هذه أنت على حقّ. الصحراء! معبده المقدّس! لو أنّه يخرج قيد أنمله من صحرائه هذه لوجد أنّ العالم أجمل وأرحب مما يظنّ، لكنّه عبد من عبيد الصحراء الآبدين.

ــ   الصحراء التي تعنيها يا مهيار الديلميّ أنجبت رسولنا محمّداً صلّى الله عليه وسلّم، وأنجبت إمامنا عليّا وأبناءه المعصومين، رضيّ الله عنهم أجمعين.

أحسّ مهيار بأنّه أُخِذ على حين غرّة، فمال بالحديث جانباً، وقال وهو يهزّ ساعد أبي مهديّ بودّ كبير:

ــ   أنتم تفتخرون بكرمكم، لكنّي أبزّكم في هذا أيضاً.

فردّ عليه أبو مهديّ:

ــ   أرنا، لكي نصدّق !

ــ   نذهب إلى بيتي إذاً. سيتذوق المجريطيّ بعضاً من طعام بغداد، الذي أنا واثق أنّك حرمته منه واكتفيت بإطعامه وحشوه بأكلتكم المفضّلة: البلاغة.

ــ   أسمعت يا مجريطيّ ! هذه أولى علامات الانسحاب، ستبدأ سياستهم.

ــ   أنا عند كلمتي، وأنت بين أهلك يا أندلسيّ. انتبه يا أبا مهديّ، أنا قلت له أنت ولم أقل أنتم.

ــ   وهذا نصف الانسحاب. قلت لك يا مجريطيّ ستبدأ السياسة تفعل فعلها.

ــ   السياسة طبع فينا، ألا تذكر قول التوحيديّ، أبي حيّان...

"أبو حيّان ! على لسان مهيار !" خفق قلب المجريطيّ، فقال من دون وعي وهو يحدّق وجه أبي مهديّ:

ــ   وماذا قال؟

ردّ مهيار:

ــ   قال ما معناه، وهو يتحدث عن صفات أهل الأرض: الأمم تشترك في الفطرة الواحدة، وتأتي بعد ذلك أوجه الاختلاف. اليونان يميّزهم الفكر، والهند يميّزهم الوهم، ويعني به الخيال، والعرب تميّزهم الفصاحة، والترك الشجاعة، أمّا الفرس فتميّزهم السياسة.

ــ   إذاً، سنتعشى اليوم  سياسة.

ضحك مهيار ضحكة عالية وقال:

ــ   أنت لي بالمرصاد يا أبا مهديّ، لا تفوّت لي كلمة. اسمعا، أنا أتكلم جادّا، أنا اليوم حرّ طليق، ما رأيكما لو ترافقاني؟ سأكون مسروراً لو شرّفتماني في بيتي. مسكني ليس بعيداً من هنا، في درب رياح، أنت تعرف بيتي يا أبا مهديّ، أليس كذلك؟

ــ   لم أحضر عندك منذ زمن طويل.

ــ   لأنّك متخاصم حتّى مع نفسك.

نطق ذلك وراح يضحك لوحده، ثم أضاف:

ــ    لا يشبهك في التشاؤم سوى أعمى المعرّة.

عقبّ أبو مهديّ متسائلا:

ــ   هل سمعت به يا أبا سليمان؟ إنّه شاعر فيلسوف.

 فردّ مهيار:

ــ   الشعر شعر والفلسفة فلسفة، يا أبا مهديّ.

فكّر مهيار قليلاً ثم أضاف، كما لو أنّه تذكّر شيئاً:

ــ   لكنّه رجل لا غبار عليه، وهو شاعر كبير على أيّة حال.

كان مهيار كريماً حقاً. أظهر قدراً عالياً من الأناقة والذوق في عرض وجبة العشاء المتواضعة، ولكن حسنة الترتيب والتزويق. أعجب المجريطيّ بطريقة طهي الأرز وجودة طعمه، وكثرة ما يوضع فوقه من أصناف الجوز والتوابل اللطيفة الهادئة. أمام حسن الضيافة وجمال ترتيب المائدة اضطرّ أبو مهديّ إلى تعديل فكرة المجريطيّ عن صدق كرم مهيار، فأضاف إليها  عبارة: هذا اليوم فقط. وحينما ابتعد مهيار، لقضاء حاجة في الداخل، عجّل المجريطيّ قائلا بصوت خفيض:

ــ   هل سمعت؟  تحدّث عن التوحيديّ، ربما فاتت الفرصة منّا، ربما نكون قد بالغنا في...

قاطعه أبا مهديّ:

ــ   لا، لم نبالغ. مهيار وأمثاله يأخذون ما يريدون حتّى من أفواه الشياطين.

ــ   ماذا تعني؟

ــ   أعني ما نحن فيه: السياسة، التي يفتخر بها أمامك باعتبارها خصيصة قوميّة، لكنّه ينطقها بلسان التوحيديّ، لكي تكون أبلغ.

ــ   ما الخطأ في قول التوحيديّ؟

ــ   لا خطأ فيه من حيث مطابقته لواقع الحال، لكنّه لا يطابق مطلق الأحوال.

ــ   ماذا تعني؟

دخل مهيار فسكتا، أحسّ أنّهما يدبّران أمراً فقال:

ــ   لماذا سكتّما؟

 ردّ أبو مهديّ ضاحكاً:

ــ   لكي لا تسمعنا.

خفق قلب المجريطيّ، وتعاظم قلقه حينما واصل مهيار الكلام بإلحاح:

ــ   وما الذي تخفيانه عنّي ولا تريداني أن أسمعه؟

ردّ أبو مهديّ:

ــ   قال المجريطيّ عنك: إنّك كريم حقـّاً.

ــ   وما السرّ في هذا؟

ــ   لأننّي أكملت عبارته الناقصة.

ــ   وماذا قلت؟

ــ   قلت: ليوم واحد فقط في العام.

ضحكوا بصفاء. أحسّ المجريطيّ أنّ مهيارَ، على الرغم من غطرسته وحبه لنفسه، يملك صدقاً فريداً لم يره عند كثيرين. اعتداد بالنفس، ورقّـّة، وفطنة. لكنّه كان يخفي قلقاً كبيراً، ويحسب ألف حساب لمن هم أكثر منه تجذراً في هذه الأرض، وغالباً ما  تضطرب مقاييسه معهم. فكّر المجريطيّ في أن يستثمر لحظة الألفة هذه فقال:

ــ   يا أبا الحسن، لم تعجبني موهبتك فحسب، بل أعجبني فيك أنّك شغلت الآخرين بك، على الرغم من أنّك لم تحاول مثل كثيرين التنكّر لأصلك الفارسيّ.

ــ   أنا لا اكتفي بعدم التنكر، أنا أجاهر وأفاخر بهذا، وأذكر حتّى المجوس منهم.

ردّ أبو مهديّ قائلا:

ــ   طبعاً، ومن غيرك يستطيع أن يقول:

لا تخـالي  نسـباً  يـخـفـضـني         أنا  من   يرضـيك  عند  النـسـب

قومي  استولوا  على الدهر   فتى        ومشوا    فوق   الـرؤوس   الحقـب

عـمـموا بالشـمـس هاماتهم        وبـنـوا أبـيـاتــهــم بالشـهب

وأبـي كـسـرى عـلى ـإيوانـه        أيـن  في  النـاس  أب  مثل   أبي؟

سـورة الملـك الــقدامى وعلى         شـرف  الإســلام  لي   والأدب

قـد  قبسـت  المجد من خير أب          وقـبست   الديـن   من  خـير  نبي

وضممت الفـخر من أطرافـه           سـؤدد   الـفرس    ودين   الـعرب

انتشى مهيار زهواً وقال:

ــ   أحسنت وأجدت يا أبا مهديّ، وأنت يا مجريطيّ، قل لي: من يجرؤ على قول مثل هذا؟

ــ   حينما اجتزت المغرب، في طريقي إلى الحجاز، سمعت الناس هناك يتداولون شعر ابن رشيق، أبي علي حسن المسيليّ القيروانيّ، ومما قاله في الدفاع عن أصله الروميّ:

       أما أبي فرشيق لست أنكره         قل لي أبوك وصوره من الخشب

ــ   وهل يجرؤ مولّدوكم في الأندلس على مثل قولي ؟

ــ   مولّدو الأندلس يسعون إلى وحدة ربّما لا تشبه وحدتكم يا أبا الحسن.

ــ   إلى ماذا يسعون؟

ــ   يسعون إلى عصبيّة تقوم على وحدة المصالح.

ــ   وأنا أيضاً أسعى إلى هذا. لكنّني لا أتخلى عن أهلي وعن نسبي. فهذا الدين السمح منحنا الحقّ في أن نكون أخوة، بصرف النظر عن منشئنا وأصلنا. أليس كذلك؟

ــ   ما يصحّ هنا، ربّما لا يصحّ هناك.

ــ   أنا لا أفهمك.

ــ   نحن نتكلم من موقعين مختلفين. الأرض التي أنت عليها الآن ليست أرضك، لذلك تستطيع أن تقول هذا. لكنّ الأندلس أرضي قبل أن تكون أرض جند الفتح الأماجد، لذلك لا يريد المولّدون أن يُشعروا الآخرين بأنّهم غرباء، ولا يريدون أن يذكّروهم بأصولهم الأجنبيّة. لهذا نسعى إلى وحدة جديدة.

ــ   وجهة نظر جديرة بالسماع، لكنّني لا أفهمها. لماذا لا تتحدّث أنت يا أبا مهديّ؟

ــ   أنا أفضل أن أكون صامتاً.

ــ   لا، أنت تخاف أن تقول شيئاً يغضبني، فتخسر ما تبقـّى من العشاء. ولكن قل، فأنا كما تعرف، لا أخشى سماع ما يخالف وجهة نظري.

ــ   أسمعت يا أندلسيّ، يهددنا بعشائه، ألم أقل لك منذ البدء !

ضحكوا مجدداً. من أين يأتي أبو مهديّ بهذه الدعابة كلّها، وهو المحزون المكروب دائماً؟ أيشعر الآن أنّه في موضعه فعادت إليه نفسه؟ عاد إليه ودّه مع ذاته وصلحه مع العالم الذي تنكر له وجافاه. لكنّ المجريطيّ فكّر بقلق في مهيار، في عنجهيته التي تطفو على السطح كلّما خبت نارها، والتي ربّما ستدفع بالأمور إلى وجهة أخرى غير مستحبّة فتفسد خططهم، لذلك قام مسرعاً، وقال:

ــ   هذا منديل من الحرير، مطرّز بالذهب، من أشغال قرطبة، ولا أظن أنّه يليق بأحد سوى مهيار.

ــ   أنت تفسدني يا مجريطيّ.

ــ   لا أفسد عظيماً بما لا قيمة له. أنا رجل في طريقي إلى بلادي، ولا بدّ أن أترك هنا أثراً على قدر مشقـّة رحلتي، على الرغم من أنّني أحسّ بضآلة الهبة أمام عظمة الموهوب.

ــ   والله، لو أنك اكتفيت بهذه الكلمات حسب، لوفيتني حقيّ.

ــ   ليس لعاقل أن يوفي شعراً رائع السبك كشعر مهيار البغداديّ حقّه.

ــ   وهل أعجبتك بغداد؟

ــ   هذا سؤال لا يقال لأندلسيّ يا أبا الحسن.

نطق المجريطيّ وهو يفكّر في جواب يثير  به فضول مهيار، ويهيّج عواطفه أكثر. تذكر أبيات الهمداني فأضاف:

      فــدى لـك يا بغـداد كل قـبيلة                من  الأرض  حتى  خطتي   وديـاريا

      فقد طفت في شرق البلاد   وغربها                وسـيرت  رحـلى   بـيـنها  وركابـيا

      فلـم أر  فيها  مثـل  بغداد  منزلاً                ولم أر  فـيها مــثـل  دجـلة  واديا

      ولا مثل أهـلـيها أرق شمـائـلاً                 وأعذب   ألـفاظـاً  وأحلى    معانيا

      وكـم قـائل لـو كان ودك صادقاً                  لـبغـداد  لـم  ترحـل  فكان جوابيا

        يقيم  الرجال الأغنياء بأرضـهم                 وترمى  النوي   بالمـقترين   المراميا

عقب أبو مهديّ في الحال:

ــ   أجاد الهمدانيّ. لم أجد عشقاً لبغداد يفوق عشقه.

 تذكّر المجريطيّ عبارة البغداديّ: العراق سرّة الدنيا، وهم بأن ينطقها، لكنه رأى وجه مهيار يفارق بعض بشره، عند سماع أبيات الهمداني، فقال:

ــ   بغداد سرّة الدنيا !

هتف مهيار مغتبطاً، كما لو أنّه يريد أن يزيح ثقل القصيدة الذي جثم على المكان:

ــ   أهذا قولك؟

ــ   لا، سمعته يقال، ولا أذكر أين.

ــ   سرّة الدنيا ! ياله من تشبيه ! هل لديك شيء يضاف إلى هذا القول الجميل يا أبا مهديّ؟

ــ   بعد هذا القول لا يوجد قول. ماذا تريد يا مجريطيّ أكثر من هذا ! أمنيتان من أمانيك الثلاث قد تحققتا: زيارة بغداد، ولقاء شاعرها مهيار.

قال مهيار:

ــ   والثالثة؟

ــ   الثالثة سيخبرنا بها حينما تتحقـّق.

ــ   أهي عصيّة إلى هذا الحدّ؟

ــ   لا يا أبا الحسن، هي سهلة، على غاية السهولة كفعل، لكنّها عظيمة المعنى وسامية كهدف، لذلك ادّخرتها كخاتمة لرحلتي.

ــ   بالله عليكما، شوقتماني، وأنا رجل عظيم الفضول. أبو مهديّ يعرف دائي هذا جيداً.

ــ   ربّما لن تكتمل صورة بغداد في عين رجل مثلي إذا لم يتشرف بلقاء سيّد أشراف المدينة وأديبها وحجتها، وحيد عصره.

ــ   صدقت في هذا أيضا، فإذا كانت بغداد سرّة الدنيا، كما تقول، فهو سرّة بغداد.

ــ   سيكون لي شرف عظيم لو أنّني استطعت أن أقدم له بعض ما حملته معي من قرطبة، لكي تكون حجّتي إلى بغداد مكتملة.

ــ   وهل تعرف الطريق اليه؟

ــ   ماذا تعني يا أبا الحسن؟ ومن لا يعرف الطريق إليه !

ــ   أعني هل تعرف من أين تمرّ الطريق اليه؟

ــ   لا.

ــ   اخبره يا أبا مهديّ، اخبره !

تذكّر أبو مهديّ قول أبي القاسم حينما سمع غلو مهيار المذهبيّ فقال له: "أنت تنتقل في النار من زاوية إلى أخرى"، معرضا بانتقاله من المجوسية إلى الإسلام، ثمّ إلى طائفيّة سافرة.  لكنّ أبا مهديّ كبت مشاعره، وردّ قائلا:

ــ   يا أبا سليمان ! أبو الحسن لا يرمي كلماته في الريح عبثاً، هو يعني ما يقول. مهيار رجل الملمّات، وليس رجل الكلمات فحسب.

ــ   أحسنت يا أبا مهديّ، الطريق يا مجريطيّ إلى سرّة بغداد تمرّ من هنا.

نطق الكلمات وأشار إلى صدره، ثم أضاف بفخر:

ــ   من هنا. اختر، متى تشاء، تجد نفسك في حضرته العليـّة.

خرجوا يسبقهم أبو مهديّ، وحينما انفرد المجريطيّ بمهيار قال له، وهو يسعى إلى الاستزادة في إطرائه من أجل تأكيد وتثبيت ما سمعه من وعود:

ــ   يا أبا الحسن، ستكون مثل علم لو وطئت رجلاك أرض الأندلس !

نظر مهيار إليه بتعال وغطرسة وقال:

ــ   قدما مهيار لا تطآن أرضا دنّسها بنو أمية.

رأى مهيار وجه المجريطيّ يزول منه البشر، فسارع يقول:

ــ   كنت أظنّك تشاطرني المشاعر ذاتها.

ــ   لا عليك.

ــ   لا بدّ أن تعرف أنّني أحبّ هذه الأرض حتّى الغلو. هكذا أنا.

أحسّ المجريطيّ أنّه أفسد كلّ شيء بعبارته المتهورة الزائدة، ولم يعد يعرف ماذا يجيب وكيف يخرج من هذا المأزق؛ لكنّ مهيارَ عاجله قائلا، وهو يبتسم بفخر:

ــ   غداً،لن يمر يوم غد، إلاّ وأنت بين يدي السيّد الكبير يا أبا سليمان، هذا وعد.

نطق ذلك وعانق المجريطيّ بحرارة، بينما ظل أبو مهديّ ينظر إليهما من دون أن يعي شيئاً.

***

لم يستطع المجريطيّ أن يصدق أن الأشياء يمكن لها أن تتسارع إلى هذا الحدّ، وأن القيود والظنون والشكوك التي يصنعها الخيال يمكن لها أن تفسد فطرة الإنسان الطيّبة وتشوّه فكره، فتغدو مثل غيمة سوداء تحجب عنه شمس الحقيقة. كلّ شيء تمّ بيسر وودّ، على الرغم من اختلاف الطباع والأفكار والأهواء والمصالح. كلّ الظنون والخطط والاحتمالات وإعمال العقل واستخدام البصيرة والذكاء والحيلة ذهبت أدراج الرياح، كنستها بلمح البصر يد الواقع الصادقة البسيطة، يد الحقيقة. ما أروع بغداد وهي ترفل بهذا القدر العظيم من السلاسة والاستقامة والصفاء والبهاء !

لم ينم المجريطيّ. فالغد أضحى أبعد من أبعد زمان. حاول أن ينام لكنّ النوم أبى أن يقترب من جفنيه.

تذكّر وجه مهيار الغاضب وهو يقول:"انّني أحبّ هذه الأرض حتّى الغلو. هكذا أنا."

وفكّر : "هل أفسدت جملتي الرعناء الأخيرة كلّ ما حققته؟"

أزاح الفكرة من رأسه، لكنّ وجه مهيار لم يفارقه. أضحى  رقيباً خفيّاً يلبد في أعماقه ويقوم بمهمة تدقيق كلماته وتمحيصها: سرّة الدنيا، وسرّة بغداد. فكّر المجريطيّ: "تحريف العبارة حقق وقعه، ولكن ماذا كان يحدث لو أنّ مهيارَ على علم بقائلها أو بأصلها؟ وهل يستسيغها مهيار لو نُطقت على حقيقتها:العراق سرّة الدنيا!"

قرّر المجريطيّ أن يوقف فوراً هذه الأفكار المكدّرة، المقلقة. تناول الرقاع التي حصل عليها من البغداديّ وراح يقرأ.

والإقليم الرابع إقليم بابل وهو الممثل بالدائرة الوسطى التي اكتنفتها سائر الدوائر وهو أوسط الأقاليم وأعمرها وفيه جزيرة العرب وفيه العراق الذي هو سرة الدنيا.

إذا كان العراق سرّة الدنيا، فماذا تكون بغداد؟ وإذا كان السيّد الكبير سرّة بغداد، فماذا تكون هي من بغداد؟

قال أبو مهديّ: لا خطأ فيه من حيث مطابقته لواقع الحال، لكنّه لا يطابق مطلق الأحوال. ماذا تعني يا أبا مهديّ؟ نعم اليونان أهل فكر، والأتراك، ومعهم الصقالبة والمماليك بأنواعهم هم جند المرحلة، والفرس دهاة السياسة هنا في المشرق وحول أرض السواد، أما العرب فلم تتبق لهم سوى الفصاحة. هذا واقع الحال. ولكن لماذا لا يطابق مطلق الأحوال يا أبا مهديّ، ألأنّك سواديّ من أصل عربيّ؟

عاد يقرأ في الرقعة:

قال سمعت ابن مجاهد المقرئ إمام الزمان قال رأيت أبا عمرو بن العلاء في النوم فقلت له ما فعل الله بك فقال لي دعني مما فعل الله بي من أقام ببغداد على السنة والجماعة ومات نقل من جنة إلى جنة.

وقال حدثنا أبو ذكوان قال حدثني من سمع الشافعي يقول ما دخلت بلداً قط إلاّ عددته سفراً إلاّ بغداد فاني حين دخلتها عددتها وطنا.

قال أبو الحسين. .. تركنا ذكر أشياء كثيرة من مناقبها التي افردها الله بها دون سائر الدنيا شرقاً وغرباً وبين ذلك من الأخلاق الكريمة والسجايا المرضية والمياه العذبة الغدقة والفواكه الكثيرة الدمثة والأحوال الجميلة والحذق في كل صنعة والجمع لكل حاجة والأمن من ظهور البدع والاغتباط بكثرة العلماء والمتعلمين والفقهاء والمتفقهين ورؤساء المتكلمين وسادة الحساب والنحوية ومجيدي الشعراء ورواة الأخبار والأنساب وفنون الآداب وحضور كل طرفة واجتماع ثمار الأزمنة في زمن واحد لا يوجد ذلك في بلد من مدن الدنيا إلاّ بها سيما زمن الخريف ثم إن ضاق مسكن بساكن وجد خيراً منه وان لاح له مكان أحب إليه من مكانه لم يتعذر عليه النقلة إليه من أي جانب من جانبيه أراده ومن أي طرف من أطرافه خف عليه ومتى هرب أحد من خصمه وجد من يستره في قرب أو بعد وان آثر أن يستبدل داراً بدار أو سكة بسكة أو شارعاً بشارع أو زقاقاً بزقاق فغير ذلك من التبديل اتسع له الامكان في ذلك حسب الحالة والوقت ثم عيون التجار المجهزين والسلاطين المعظمين وأهل البيوتات المبجلين في ناحية ناحية تنبعث الخيرات بهم الى الذين هم في الحال دونهم غير منقطع ذلك ولا مفقود فهى من خزائن الله العظام التي لا يقف على حقيقتها إلاّ هو وحده ثم هي مع ذلك منصورة محبورة كلما ظن عدو الإسلام انه فائز باستئصال أهلها كبته الله وكبه لمنخريه واستؤصلت قدرته...

وقبل أن يأخذه النوم راح المجريطيّ يقرأ صفحة جديدة، ولكن من دون أن يركز تفكيره في المعاني، فقد أخذ التعب والنوم يسرقان أبصاره من فوق الحروف:

...قال حدثنا خضر بن اليسع البصري عن مسعدة بن اليسع عن أبي يعقوب الإسرائيلي وكان قد قرأ الكتب انه قيل له: ما بال بغداد لا تكاد ترى فيها إلاّ مستعجلاً؟ فقال: لأنها قطعة من بابل، فهي تبلبل بأهلها. واللفظ لحديث هارون قال أبو الحسين بن المنادي، فنظرنا ما في كلام هذا الإسرائيلي فإذا هو كلام لا يصح في المعتبر، وذلك لان الناس في سائر البلدان يبادرون في حوائجهم غدوا ويبادرون الانقلاب إلى أهليهم رواحاً لان طرفي النهار يوجبان ذلك ضرورة؛ فبابل كغيرها من البلدان الآهلة بلا فرق.

 

(7)

قبل أن يدخل المجريطيّ دار العلوم ناداه شخص مجهول باسمه، ثمّ تنحى به جانباً وأخذه بلطف إلى غرفة قيّم المدرسة، من دون أن يترك له فرصة للسلام على أبي مهديّ أو إخباره بوصوله.  كان قيّم المدرسة في انتظاره.

ــ   هل أنت جاهز؟

سأله قيّم المدرسة، فاختلطت الأمور على المجريطيّ وقال:

ــ   جاهز ! لأيّ شيء تريدني أن أكون جاهزاً؟

قام الرجل من مقعده واقترب من المجريطيّ وقال هامسا:

ــ   السيّد الكبير.

ــ   السيّد الكبير !

ــ   في انتظارك.

ــ   الآن؟

ــ   نعم الآن، فوراً.

ــ   ولكنّني...

ــ   أتتردد في مقابلته؟

ــ   لا أتردد، ولكن أتهيب، لست مستعداً لهذا.

ــ   استعد له إذاً.

نطق الرجل كلماته ووضع كفـّه على ساعد المجريطيّ بلطف مصطنع، وهو يشير إلى الطريق. أحسّ المجريطيّ أنّه لا يستطيع الفكاك من هذا الأسر. فكّر في الهدايا. لو أنّه ذهب الآن خالي اليدين، ربّما فسد كلّ شيء وانهارت أحلامه كلّها دفعة واحدة. استجمع جرأته وقال:

ــ   يا أبا محمد، هناك أمور شخصيّة جداً جدّا، تخصّ السيّد الكبير، لا بدّ من إحضارها، وهي ليست معي الآن، لأنّها عندي في الدار.

ــ   لا توجد مشكلة، هو لم يحدّد وقتاً، سنرسل معك من يحضرها فوراً، ما رأيك؟

ــ   نعم العقل.

***

سلّمه قيّم المدرسة إلى شخص طويل القامة، كبير الرأس، محمرّ الوجه، يشبه طفلاً ضخماً. استقبله المرافق بودّ. أخذ منه صندوق الهدايا وأهمل قيّم المدرسة، الذي توقف من تلقاء نفسه وعاد أدراجه.  سار المجريطيّ بمعية المرافق في رواق يشرف على حديقة واسعة، لكنّها فقيرة، شحيحة الخضرة.

دخلا بناية انتشر على بابها وأركانها حرّاس متفرّقون، بملابس سود، جامدو الهيئة، يشبهون النسور؛ هيئاتهم متشابهة، ومظهرهم واحد، يخالهم المرء رجلاً واحداً يختفي في ركن ويعود للظهور في ركن آخر. فتح الرجل باباً كبيراً بوقار ودخل ملتفتاً إلى المجريطيّ، الذي تبعه فواجهه السيّد الكبير جالساً على مقعد وثير، خلف منضدة عظيمة، تتكدس عليها الكتب وتحيط بها رفوف عامرة بالمخطوطات. لم يتفاجأ بمنظر السيّد، فقد كانت المشاهد السابقة تشبه قطعاً من جزئيات صغيرة تكـمّل بعضها بعضا، وتتكاثف جميعها لتغدو في النهاية كائناً واحداً، يجلس الآن أمامه باسترخاء، غالقاً عليه أية فرصة لاختيار الطريقة الفضلى لتحيته: كيف سيقابله، وكيف سيتصرف وهو يقترب منه. سار المرافق أمامه وذهب خلف مقعد السيّد وتناول يده ولثمها وهو يشير إلى المجريطيّ بأن يتقدم، كما لو كان يحثـّه على تقليد فعله. تراجع المرافق ووضع الصندوق على المنضدة وخرج. تقدم المجريطيّ، حيّا السيّد مصافحاً وهو ينحني بوقار، فما كان من السيّد إلاّ أن وقف، ثم خرج من مكمنه وأمسك ساعد المجريطيّ بلطف وأخذه معه إلى مقعد طويل. أشار له أن يجلس، ولم يجلس قبل أن يضع المجريطيّ جسمه على المقعد.

أحسّ المجريطيّ بشيء من الانفراج، لكنّ الارتباك وغرابة الموقف جعلاه يتردد في الحديث. بيد أنّ السيّد بادر متحدّثاً، ببساطة وودّ وأدب لم يكن يتوقعها المجريطيّ:

ــ   مرحباً بك بين أهلك وفي مدينتك. لقد أسعدني أنّك اجتزت الامتحان بتفوق.

أراد المجريطيّ أن يسأل مستفسراً، لكنّ السيّد الكبير واصل يقول:

ــ   هذه شهادة لا يعطيها مهيار لأيّ إنسان. أعجبني وصفك لبغداد، وأكثر ما أعجب مهيار هو طريقة توليدك للمفردات، هذا من أثر المكان، أليس كذلك؟

ــ   من دون شك. حقـّاً، إنّني أشعر كما لو أنّي اجتزت امتحاناً وأنا أحظى بمقابلتك، فأنا لا أعرف من يشرّف الآخر، مقامك ببغداد، أم حيازة بغداد علماً فرداً مثلك.

ــ   هذا الكلام الجميل الشبيه بالحرير هو ما عنيته بتوليد الكلم، الذي خلب لبّ مهيار.

لم يجد المجريطيّ ما يقوله. تذكّر الهديّة: أوشحة ومناديل الحرير، الموشاة بالذهب، فقال بشيء من الخشية:

ــ   هل يأذن لي سيّدي أن أضع بين يديه بعض ما جلبته خصيصاً لشخصه الكريم، أرجو منك أن تقبلها على الرغم من ضآلتها.

نهض المجريطيّ وفتح الصندوق الصغير، وقرّبه من السيّد، الذي نظر فيه، من دون أن يمدّ يده. لكنّ ّالمجريطيّ تشجّع قليلا وأخذ عدداً من الأوشحة وقام بعرضها أمام السيّد، الذي مدّ يده ولمسها برقـّه، ثمّ رفعها وقرّبها منه.  وضع بعضها على ركبته، وهو ينظر إليها بإعجاب. ثمّ أسرع يناولها إلى المجريطيّ. أعادها المجريطيّ إلى الصندوق ووضعه أمام السيّد، الذي سرح خياله بعيداً، لكنّه تنبه إلى ضيفه وقال فجأة:

ــ   أودّ أن تحدثني عن أحوال الأندلس، كيف يعيش الناس؟ كيف يتدبّرون رزقهم؟

ــ   أحوالها مضطربة و...

ــ   أعرف هذا، أودّ أن تحدثني عن معيشة الناس وسبل كسب العيش.

لم يفهم المجريطيّ غرضه فقال:

ــ   في أوقات الاضطراب يشتدّ الوضع على العامة ويزداد قادة الجند تطلبّاً، لما تقتضيه حاجة تسيير الدولة و...

ــ   ماذا تشتغل أنت؟ كيف تكسب رزقك؟

ــ   أنا رجل موسر، أملك ضياعاً ومزارع، بعضها لي والبعض الآخر لزوجتي. لكنّني أميل إلى العلم والأدب.

ــ   حدّثني عن فكرتك الطريفة التي تحدثت بها مع مهيار، عن إدارة المزارع. كيف تدير شؤون الفلاحة وتربية المواشي وغيرها؟

ــ   لست أنا من يقوم بها. لي قريب اسمه راميرو، يتعهدها بالرعاية تحت إشرافي. وهو رجل يجمع بين التجارة والعلم. هو ابن عمّ أشهر عَشّابيّ الأندلس، سليمان أبي داود بن جلجل، الذي صحّح ترجمة ابن باسيل لديسقوريدس وأضاف فصولا قيّمة منها فصل الترياق والسموم.

ــ   هل لك علم بهذا أيضا؟

ــ   لي بعض الإطلاع. يوم أمس عثرت على نسخة من ترجمة ابن باسيل واشتريتها.

ــ   ما كان لك أن تفعل هذا، النسخ الموجودة عندنا موثوقة أكثر من نسخ الورّاقين.

سكت الرجل، فلم يعد المجريطيّ قادراً على إيجاد مدخل للبدء بالحديث. انشغل يفتش عن فكرة ملائمة لا تبعده عن فكرة الزراعة، وتجعل الحديث في الموضوع متواصلاً، لكنّه عجز عن إيجاد ما يفيده. أما السيّد فقد ظلّ ساكتاً، كما لو أنّه ينتظر سؤالاً لكي يجيب عليه، وحينما طال الصمت قال فجأة:

ــ   كنت تقول إنّه يعمل تحت إشرافك أنت؟

شعر المجريطيّ بغبطة وهو يسمع سؤال السيّد، الذي يعني أنّه كان مشغولا بما قاله، وأنّه لا يريد أن يقطع مجراه، فبادر يقول:

ــ   يعمل تحت أبصاري.

ــ   يعجبني تواضعك يا مجريطيّ، تقول إنّه قريب ولا تقول إنّه أجير.

ــ   نعم، لأنّه من العائلة ذاتها.

ــ   وكيف يكون هذا؟

ــ    من فرع العائلة التي لم تسلم.

ــ   هذا واضح على شكلك.

ــ   لقد اتخذ الرسول)ص ( ماريا القبطيّة زوجاً له.

ــ   لنا أسوة في أئمتنا المعصومين أيضا. أمّ إمامنا المنتظر، المهديّ، هي نرجس ابنة يشوع بن قيصر، إمبراطور الروم، وتنتمي من جهة الأمّ إلى شمعون، وصيّ السيّد المسيح عليه السلام، لهذا تجد أهل البيت أكثر تسامحاً وأكثر قبولاً للآخر المختلف عنهم في الأصل.

فجأة، من دون رابط سببيّ، صمت السيّد، ثمّ انتقل إلى فكرة جديدة:

ــ   هل تعرف أنّ بَرْدَ العامين الماضيين ألحق ضرراً كبيراً بالناس. حينما تزور ضياعي ومزارعي سترى ذلك بنفسك. سيكون عماليّ في خدمتك. أنتم بلاد يصيبها الصقيع دائماً، ستكون عوناً لنا لو منحتنا بعضا من معارفك، وشيئاً من علوم الأندلس.

ــ   أنا في خدمة سيّدنا. ولكنّي أودّ أن أعرف ماذا يطلب منّي سيّدنا لكي أقوم بخدمته على أكمل وجه.

ــ   أنا لا أطلب منك، أنت ضيفي، أنا أدعوك لأن تشرّفني في مزارعي، لكي أكرمك وأفخر بك وبعلمك. لكنّني طامع في الاستزادة من معارفك وعلومك، أريدك أن تتوسع في حديثك عن الفلاحة وما يرافقها من سبل للمعيشة تكمّلها وترتبط بها؛ أحسب أنك كنت تتحدث عن هذا، حينما أشرت إلى قريبك النصرانيّ؟

ــ   نعم، بكل تأكيد، كنت أتحدث عن أننا كنّا نعتمد في دباغة الأديم على ما يأتينا من المغرب من منتوج السَلم والوعظ، لكنّنا جرّبنا زراعته في أرضنا فوجدناها تصلح لإنباتها. وبذلك تكونت لدينا حلقة مكتملة، تبدأ بزراعة السَلَم وتربية المواشي ودبغ الجلود وكلّها صناعة متـّحدة، ومثلها زراعة الزيتون وما يرافقها من معاصر للزيت وعلف للحيوان. وبهذا تكتمل الصنعة وتتوحد، فتزيد من عائدها، ولا يعيش الأجراء من دون عمل في موسم ما.

هتف السيّد مثل طفل:

ــ   هذا ما أريده يا مجريطيّ ! أحسنت، وأصبت.

لكنّه سرعان ما تنبه فعاد إلى ما كان عليه، إلى وضع السائل المستفهم:

ــ   والآن قل لي: هل أنت هنا للإقامة أم لغرض آخر؟

ــ   جئت للحجّ، لكنّني وجدت أنّ من الحمق أن أكون على مقربة من دار السلام ولا أزورها. وجدت أنّني سأعود خائباً لو أنّ أحدهم سألني كيف حال بغداد، فأردّ عليه مررت قربها ولم أدخلها.

ــ   وكيف وجدتها؟

ــ   لم أتجول فيها كثيراً، لكنّها عامرة. بيد أنّي وقعت في غرام أهلها. حقاً وقعت في غرامهم، إذا جاز لنا القول، وصل العشق حدّ الهيام، كما يُقال.

 توقف المجريطيّ عن الاسترسال، لكي يصحّح الفكرة، ولكي لا تُفهم كلماته خطأً ويظنّ السيّد أنّه يلمّح إلى غرام حقيقيّ، قد يشي بنيّته الخفيّة. فراح يفسر ما قاله:

ــ    حقـّا أنا لم أكن أتخيل لحظة واحدة أنّني سأجد بشراً على هذا القدر من الكرم والسماحة، لا أعرف كيف أصف الأمور، تخونني الكلمات.

ــ   أنت بين أهلك.

ــ   نعم بين أهلي، لكنّني لم ألق حتّى من أهلي مثل هذا الذي لقيته هنا. في دقائق معدودات حصلت على صديق مثل أخ،  قضيت معه بضع ساعات حسب، لكنّه ترك في نفسي أثراً لم يتركه أخوتي الذين هم من رحم أمي. حتّى أنّه سلمني بيتاً وفرساً وترك من يعني بي، وهو يكاد لا يعرفني حقّ المعرفة.

ــ   وأين ذهب؟

ــ   سافر. هذه قصة أغرب من الخيال. تعرفت عليه في مسجد الدار قطني، وخلال دقائق معدودات...

 انكمش وجه السيّد، لكنّ المجريطيّ لم يتمكن من التوقف، تذكر كلمات أبي مهديّ وهو يحذره من ذكر علاقته بالبغداديّ، لكنّه فشل في تغيير سير الحديث:

ــ   قبل سفره إلى أصبهان، في اليوم التالي أضحى لي بمثابة أخ لم تلده أمي، وربما ولدته من دون علمي.

ضحك السيّد، ولكنّه ازداد فضولاً:

ــ   هل هو تاجر مقتدر لكي يترك لك فرساً وبيتاً ومن يقوم بحاجتك؟

ــ   ليس معسراً، لكنّه أديب كبير متألق ودارس حجّة؛ اسمه أبو بكر أحمد بن علي.

انكمش وجه السيّد مجدداً، لكنّه تدارك الأمر وقال له:

ــ   هذا كرم كبير من رجل شهم، لكنّني أراك تسكن بعيداً عنّا.

ــ   المسافات لا تهمّ كثيرا، المهم أنّني وجدت نفسي بين قوم هم مثل أهلي، بل هم حقـّا أهلي.

ــ   أهلك يريدونك أن تكون أقرب إليهم، أن تكون إلى جوارهم. بما أنّ صديقك قد رحل، ستشكر أهله على كرمهم، وستأتي هنا، عندنا، فتكون إلى جوار دور العلم والعبادة وحلقات الدرس.

لم يصدق المجريطيّ ما سمعه. أيّ عالم غريب هذا! معجزة تتبعها معجزة وتلحقها ثالثة !

ــ   لا تقل شيئا، بما أنّ صاحبك قد سافر فلا حرج عليك، ولا تتعب نفسك، سأرسل من يقوم بكلّ شيء نيابة عنك، سأرسل من يتولون نقل أمتعتك الشخصيّة، وستسكن هنا قريباً منّا، في أحد بيوت المدرسة، وسنجد لك من يعتني بشؤونك. وهذا كلّه ليس بالمجان، سنجعلك تدفع أجرك علماً، لأنّني لا أحسبك تبخل على طلاب المدرسة ببعض معارفك. وإذا وجدت وقتاً زائداً فخصصه لي، تكرم به عليّ شخصيّاً، أنا أيضاً أريد أن تكون قريباً منّي عند الحاجة.

قام السيّد فانبثق المساعد من تحت الأرض. بلمح البصر فتح الباب ودخل، كما لو أنّه كان يجلس بينهما يستمع إلى كلامهما. همس السيّد بضع كلمات في أذن المساعد، وقال للمجريطيّ:

ــ   قم معي لأريك شيئاً أثمن من مكتبة دار العلوم.

سارا في رواق طويل، لم يره المجريطيّ عند دخوله، ثمّ اجتازا ممراً يقود إلى بناية مجاورة. فتح السيّد باباً، فوجد المجريطيّ نفسه بين صفوف هائلة من الكتب.

ــ   هذه مكتبتي الشخصيّة، وهي مكتبة خاصة جداً جدّاً، لا يدخلها سوى قلّة، سأعطي أمراً للقّيّم عليها بأن يسمح لك بالمجيء إلى هنا والانتفاع بموجوداتها، كلّما أحسّست برغبة وحاجة إلى ذلك. هنا تجد الكتب التي لا تجدها في أيّ مكان. في هذا المكان ستعرف أنّ زعماء الطائفة لا يتركون شاردة أو واردة من دون أن يطّلعوا عليها ويتباحثوا فيها.

فجأة عاد المساعد بصحبة الأصلع، الذي انحني بخشوع وقبّل يد السيّد، وراح يصغي إلى أقواله:

ــ   يا عبدالله ! انظر في حاجات ضيفنا المكرّم كلّها، وتصرّف معه من دون الرجوع إليّ، في مكتبة دار العلوم، وفي مكتبة الحوزة، وفي مكتبتي الخاصّة؛ مُر النساخين أن ينسخوا له كلّ ما يطلبه أو يبعث به إليهم من دون حاجة إلى إذن من أحد. جدوا له سكناً يليق بمقامه. وأنا أفضّل أن تكون الدار التي إلى جوار بيتنا القديم. وكذلك جدوا  من يقوم بخدمته طوال إقامته بيننا. لا أريد لأبي سليمان أن يرجع إليّ في طلب، كلّ ما يطلبه ستقومون بتوفيره أنتم بأنفسكم فوراً، من دون إبطاء، ومن دون الرجوع إليّ. أوامر أبي سليمان مطاعة. تفضل، في أمان الله.

انصرف عبد الله الأصلع وهو ينحني إجلالاً، بينما ظلّ المجريطيّ حائراً، فاقد المقدرة على الردّ أو التصرف. ما حدث أمامه فاق حتّى أحلامه وخططه الخياليّة. قبل دقائق معدودات كان يفكّر في الانكسار والخيبة، كما لو كان هو ابن زريق أو التوحيديّ؛ وها هو الآن، بلمحة خاطفة، ينقلب من حال إلى حال. فكّر: "أي سحر لبغداد! نحن، مجتمع الأندلس، لسنا سوى صورة مستنسخة بيد نساخ قليل الخبرة والموهبة! .'' نظر إلى السيّد فرأى فيه أصالة لا تعادلها أصالة. تذكّر أبا عبد الرحمن، وتذكّر صرّة النقود، وخطبة الكرم التافهة عقب موت ابن زريق، ثمّ عاد ينظر إلى مهابة السيّد، حتّى أنّه أوشك أن يفعل كما فعل الأصلع، أن يقبل يده، لكنّه اكتفى  بانحناءة لا تُخفى معانيها، مما جعل السيّد ينظر إليه فرحاً، مفتوناً بما أحدثه من ردود فعل في نفس ضيفه.

ــ   ستذهب الآن لترتاح، وتودع وتشكر أصحابك، وتنتظر رسولاً مني. لا تندهش، سأرسل في طلبك كثيراً. فلا تنزعج من إلحاحي في طلبك. لم أشبع بعد من أخبار الأندلس. أمّا ما يتعلق بمهيار، فلا تحمّل كلامه أكثر مما يحتمل.

ــ   لم أكن...

ــ   أنا أعرف كلّ شيء، أجابك جواباً خالياً من اللياقة، حينما دعوته بنيّة صافية إلى زيارة الأندلس. عليك أن تتعود على طباع مهيار.

ودّعه إلى باب المكتبة الخارجي، وأرسل معه خادماً ليدلّه على الطريق وقال:

ــ   انتظر رسولي ! لديّ أمر هام جداً جدّاً أريد أن أتدارسه معك.

 صمت لحظات ثم أضاف بمرح:

ــ   هذا أمر.

انحنى المجريطيّ وخرج وهو مصاب بالذهول، لا بسبب النجاح فقط، ولكن لهذا التحول الكبير في سلوك السيّد من متحفظ إلى منبسط إلى محذر، ثمّ اختتم اللقاء بعبارة آمرة، ممزوجة بأبوّة صادقة. ماذا يريد السيّد الكبير؟ وهل حقاً هو يقترب من الطريق إليها . أين الطريق؟

الطريق إلى بيت أبي مهديّ أضحت أمراً حتميّاً في هذه اللحظة. توجه إليه في مسجد المدرسة، وقرر أن يصحبه من دون أن يخبره بأمر السيّد.

قال أبو مهديّ:

ــ   كيف الأمور مع الـقيّم؟ هل سارت على ما يرام؟

ــ   أعتقد ذلك.

ــ   ألست واثقاً بعد؟

ــ   لا أدري، ولكن تعال معي لأريك شيئاً، اتبعني فقط ولا تتكلم.

ــ   لا أستطيع الآن، لديّ حلقة درس أديرها، سنذهب معاً حالما أفرغ منها، انتظرني.

ــ   لا أستطيع الانتظار، ولن أنتظر، تعال معي يا أبا مهديّ ولا تنطق بحرف واحد.

سارا معاً. كان المجريطيّ يمشي وأبو مهديّ يتبعه مندهشاً وهو يراه يخطو واثقاً، يسير كما لو أنّه يمشي في بيته، بعد أن كان قبل ساعات فقط ضائعاً، غريباً، مبلبلاً، لا يعرف من أين يبدأ. سار خلفه عابساً، مقاداً بالفضول، أكثر مما كان طائعاً.

توجه نحو غرفة قيّم المدرسة، دخل من غير استئذان ووقف أمام القيّم، الذي قام من مكانه وهرع يصافح المجريطيّ بحرارة، وقال:

ــ   كلّ شيء جاهز، سنرسل معك من يتولى كلّ شيء، ولكن عرّفهم أنت بالمكان، ولا تتعب نفسك، سيقومون بما يلزم، أمّا أنا فقد أتممت كلّ شيء: البيت، والخادم. وسيأتيك سائس من عندنا لترى الفرس الذي يناسبك. كلّ شيء جاهز، أنت تأمر ونحن في خدمتك.

ــ   شكراً على هذا يا أبا محمد، لكنّني جئت لأمر آخر.

ــ   مُرْني !

ــ   سيرافقني أبو مهديّ إلى البيت لكي نراه معاً، ولكنّه لا يستطيع ذلك، لأنّ حلقة درسه تبدأ بعد قليل.

ــ   هذا فقط ! يا أبا مهديّ ما كان لك أن تجعل أبا سليمان يأتي إليّ بنفسه لأمر صغير كهذا. سأبعث من يحلّ محل أبي مهديّ، وسيرافقكما الخادم إلى البيت. على الرحب والسعة.

لم يتمكن أبو مهديّ من تمالك نفسه. جرّ المجريطيّ من ساعده. لكنّ المجريطيّ لم يمهله، عجلّ بإخراجه من الغرفة، وهو يودع قيّم المدرسة شاكراً:

ــ   شكراً لك مرة أخرى، سأكون في البيت لو أنّ أحدا سأل عنّي.

***

حالما أوصلهما الخادم إلى البيت ودخلا، أمسك أبو مهديّ المجريطيّ من ساعده بقوة،كأنّه يعيد مشهداً جرى حدوثه وانقطع تسلسله. هزّه بعنف وقال:

ــ   أتهزأ بي ! ما الذي يحدث؟

ــ   ألم تسمع قول الشاعر:

وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِـن حَيـثُ يَمنَعُـه     إِرثـاً وَيَمنَعُـهُ مِـن حَيـثِ  يُطمِـعُـهُ

كما ترى. بيت وفرس وامتيازات وحظوة وجاه وسلطان.

ــ   لا أكاد أصدق ما أسمع وما أرى.

ــ   صدّق. ولكنّني لا أعرف ماذا يعني السيّد  بالموضوع المهم جداً جدّاً.

ــ   قابلته؟

ــ   وسأقابله مرة ثانية لأمر نعته بالمهم جداً جدّا.

ــ   وقال لك: جداً جدّاً؟ هذا شيء كبير وخطير.

ــ   وما تظنّه يكون؟

ــ   أتسألني؟

لبث أبو مهديّ تحت تأثير الصدمة. لكنّه رغم ذلك أدرك، بما لا يقبل الشك، أن خبراته في الحياة والناس معدومة تماماً. وأنّه لا يساوي شيئاً، لأنّه لا أكثر من معلم مجهول في مدرسة لتلقين علوم ميّتة: نحو وصرف وعروض وأنساب وأحاديث. أمّا دوره كصديق وأخ أكبر، مجرّب وعارف، فربّما يكون على شفير الهاوية؛ دوره كناصح، يدّعي العلم بأحوال الناس وطباعهم انتهى، وآن له أن يقرّ بأنّه لا يفهم شيئاً من أحوال هذه البلاد، وربّما لا يصلح حتّى أن يكون معيناً أو صديقاً.

 ــ   وأسألُ من غيرك؟ ألا تريد أن أسألك؟

ــ   لا أريد، وآن الأوان  أن تكفّ عن سؤالي. فكما ترى أنا لا أفقه في شيء أبداً، ولا أعرف ماذا يجري في عقول الناس وكيف يفكّرون ويتصرّفون. أنا رجل هرم، لا نفع فيه. كأنّني غريب هنا، كأنّني صالح في ثمود. حتّى أنت، الشاب الغريبّ، وصلت بيسر، خلال ساعات، إلى ما لم أصل إليه وأنا أشقى طوال عمري. فلا حاجة لك بي.

ــ   نعم، ربّما لا حاجة لي بنصائحك التي تتعلق بخفايا السادة الكبار. لكنّني أحتاج إلى وجودك يا أبا مهديّ ! ما أحتاجه منك ليس موجودا عندهم، قلبك وعقلك يا أبا مهديّ، وضميرك النقيّ هو ما أحتاجه الآن أكثر من أي شيء آخر، بدونهما سأكون غريباً حقـّاً. أنا لم أشعر لحظة واحدة أنّك كنت صديقاً، كنت أخاً عطوفاً، وليس صديقاً حسب. أمّا المال والعيش الرغد فأنا لست غريباً عليه.

ــ   وما المطلوب منّي الآن؟ الكتب بين يديك، السيّد يتشاور معك، قيّم المدرسة، الذي لا يرد على تحيّتي إلاّ بتكلف وترفـّع، يستمع إليك مثل عبد. ماذا ترجوه مني؟

أخرج المجريطيّ رقعة ابن زريق مبتسما، وقال:

ــ   تأمّل قول الشاعر:

  اِستَودِعُ اللَـهَ فِـي بَغـدادَ لِـي قَمَـراً        بِالكَـرخِ مِـن فَلَـكِ الأَزرارِ   مَطلَـعُـهُ

نحن الآن في قلب الكرخ، أليس كذلك؟

ــ   نعم، ماذا تبحث في الكرخ؟ أتبحث عن رجل لا اسم له ولا وجود؟

ــ   لا، أبحث عن شيء تجيده أنت أكثر مني، أبحث عن صناعة الشعر، عن الكلام والمعاني.

ــ   أليس من الأجدى أن تنتظر قراءة التوحيديّ، الذي أرّقت رأسي به؟

ــ   هذا سبيل آخر، التوحيديّ قد يوصلني إلى حقيقة ابن زريق، وربّما إلى مغزاه كما قلت أنت، لكّننا لو تأمّلنا هذا البيت جيداً سنصل إلى طرق أخرى.

ــ   يا أندلسيّ، بدأت أشعر كما لو أنّك لست جادّا في مسعاك.

ــ   لست جادّاً ! رجل يهجر بلاده، يركب البحار والقفار ولا يكون جادّاً !

ــ   أحسّ كما لو أنّك تريد أن تمارس ترفك وغناك بطريقتك الخاصّة.

ــ   هل تريد أن تقول إنّني مصاب بالهيام؟ لا جديد في هذا القول، لقد قالوه قبلك هناك في الأندلس. هبْ أنّني حقاً كذلك، أتتخلى عنّي؟ أتخذلني؟

ــ   هميّ وهمّك مختلفان، يا أبا سليمان.

ــ   أهي شكوى، أم برم بصداقتي؟

ــ   لا أعرف يا أبا سليمان، كما قلت لك، أحسّ أنّني هرمت، هرمت. وما حدث حيّرني وقلب تفكيري ومشاعري، وربّما أنا  مشلول التفكير الآن، واعتذر لأنّني أسأت إليك.

ــ   أنت لا تسيء لي أو لأحد. أنا مثلك لم أزل تحت تأثير الصدمة، والأكثر من هذا أنا تحت تأثير صدمة ما سيحدث لاحقاً. إذا كانت بدايتها هكذا، فكيف ستكون خاتمتها؟ هناك طريقان: الطريق الأولى أوّلها سعد وآخرها وعد، والطريق الثانية أوّلها شؤم وآخرها لؤم. فما تظنّني سالكاً؟

ــ   لم أعد قادراً على التمييز، كلّ الطرق لدي تقود إلى نهاية واحدة.

ــ   وأنا مثلك، وربّما أكثر منك بلبلة، ولا يغرنّك مظهري ونشوتي، فأنا قلق الآن قلقاً لا يوصف. لهذا أريد أن أبدّد قلقي بما يزيح هذا الثقل عن قلبي، وبما يبعدني عن التفكير في عواقب ما سيحصل. ولا سبيل إلى ذلك سوى هذا.

رفع رقعة ابن زريق، فابتسم أبو مهديّ:

ــ   أنت مصّر على هيامك؟ ما سؤالك، الذي أتعبك؟

ــ   تأمّل قوله: لي قمر. من يكون هذا القمر؟ أعني أهي كلمة وصف، أم هي كلمة تدلّ على اسم معلوم؟

ــ   تريد أن تقول إنّه يتحدث عن امرأة محددة اسمها قمر.

ــ   ألا يجوز هذا؟

ــ   إذا كان بغداديّا حقـّاً، وكوفيّاً كما تقول، فهذا محال. لم يحدث أن شبّب شاعر بحليلته مستخدماً اسمها الصريح.

ــ   ربّما يكون مجدِّداً في هذا الباب !

أراد أن يقول له إنّ هذا الاسم المذكّر لا يقع على المرأة إلاّ لدى الجواري، وما أكثرهن. لكنّه عدل عن ذلك، لكي لا يجعله يصاب بالخذلان، فقال:

ــ   لم يصل التجديد في الكوفة إلى هذا الحدّ.

ضحكا معا، لكنّ المجريطيّ أصرّ على أن يلقي سؤاله، الذي ظلّ يؤرّقه وينخر قلبه:

ــ   هل سمعت بامرأة بهذا الاسم؟

ــ   لا. لو سألنا، كما ستطلب منّي لاحقاً، سنقع، على ما أظنّ، في مشكلة أكبر. سنعثر على آلاف النساء بهذا الاسم.

ــ   أغلقتها مجّددا في وجهي يا أبا مهديّ.

ــ   لهذا السبب قلت لك دعك من سؤالي، لم أعد أصلح لهذا الضرب من الأسئلة.

ــ   لا تقل هذا، أنت تصلح لهذا وغيره، كأنّك لست أنت من أوصلني إلى مهيار. بالمناسبة، لماذا لم تخبرني أنّك على علاقة حميمة بمهيار.

ــ   لأنّني لست كذلك.

ــ   لست كذلك ! كلّ ذلك الودّ ولست كذلك. أنا لم أرك على ذلك القدر من الانشراح والمعاشرة الحارّة مع أحد من قبل يا أبا مهديّ !

ــ   إلاّ معك يا أبا سليمان.

ــ   حتـّى معي، لم تكن لحظة واحدة بهذا المزاج المرح يوماً، خلتك رجلا آخر.

ــ   حتـّى هو، لا يسلك هذا المسلك مع الجميع.

ــ   ولكنّه يفعل ذلك معك، تذهب معه ويذهب معك إلى أبعد الحدود والغايات !

ــ   لأنّني عرفته وخبرته منذ زمن طويل، منذ أن جاء ليعمل في الترجمة من والى الفارسيّة. كنت، بحكم عملي، أراجع ما يكتبه من تراجم بالعربيّة وأصحّحها.

ــ   إذاً هي صحبة قديمة؟

ــ   علاقتنا أعمق من أن نطلق عليها صفة قديمة، علاقتنا تتجاوز حدود الأديان والمذاهب والأزمان والأماكن.

ــ   وكيف يكون هذا؟

ــ   يكون هذا حينما تتعرف على من سيُسلم وهو مجوسيّ بعد، وعلى من يريد أن يكون بغداديّا وهو جيلانيّ بعد، وعلى أديب لم يصبح شاعراً بعد، وعلى مترجم لم تكمل عدّته، وعلى مشهور وهو غريب لا يكاد يعرفه أحد. حينما نلتقي في المرات القليلة ينسى كلانا الزمن والمكان والأديان والمذاهب والشهرة ونعود شابين، كما كنّا قبل ثلاثين عاما. هو يبحث في هذا عن شيء يفتقده، وربّما أنا أفعل الشيء عينه.

ــ   إذا كان الأمر كما تقول، لماذا أخفيت صداقته عنّي؟ أكنت تخشى أن لا يقابلك بودّ أو يتنكر لك؟

ــ   ربّما، هو بشر كالآخرين. لكنّ أحبّ ما في مهيار إلى قلبي أنّه وفيّ وصادق.

ــ   لقد فعل ذلك من أجلك شخصيّاً، كما أحسست.

ــ   وربّما فعله من أجلك، أو من أجله شخصيّاً، أو من أجل طرف ثالث. هذا أمر لا يعرفه أحد سواه.

ــ   وكيف نسمّي هذا الأمر الذي لا يعرفه أحد سواه؟

ــ   نسميه فنّ السياسة، فنّ المحافظة على البقاء، ولكن بأفضل الصور وأقل الخسائر.

ــ   وهل يدخل سؤال السيّد لي عن حديثي مع مهيار في باب السياسة؟

ــ   إلى ماذا تلمّح؟

ــ   حينما كنت خارجا، وأنا على عتبة الباب استوقفني السيّد وقال: أنا أعرف كلّ شيء، أجابك مهيار جواباً خالياً من اللياقة، حينما دعوته بنيّة صافية إلى زيارة الأندلس.

ــ   وهل فعلت هذا؟

ــ   نعم، في لحظة حمق، حينما كنت تتقدمنا ماشياً، بعد خروجنا من داره.

ــ   لقد استغل غيابي لينال منك.

ــ   وهل لهذا أيّة دلالة خاصّة؟ لا أعني حديثي مع مهيار، وإنما وجود الفكرة في رأس السيّد، وتأكيده عليها؟

ــ   لقد قلتَ قبل قليل إنّك لن تستشيرني في أقوال السادة الكبار بعد اليوم، وها أنت تعود إلى هذا مرّة أخرى.

ــ   وتتركني حائراً؟

ــ   أنا أكثر حيرة منك، ولكن لماذا نأخذ الجانب المظلم من الواقعة، ألست راضياً بما حدث؟

ــ   وهل كنـّا نحلم بالوصول إلى هذا، بهذا اليسر ! أتذكر كيف وضعنا خططاً تشبه الدهاليز: الدينوريّ يقود إلى المكتبة، والمكتبة تقود إلى التوحيديّ، والتوحيديّ يقود... كم كنّا خياليين ! لكنّي أرى الآن أنّنا أضعف خيالاً من الواقع، وأكثر تعقيداً والتباساً منه.

ــ   هذا هو الصحيح. العبرة في النتائج يا صديقي، في النتائج، فلا تتعب رأسك بما لا نفع فيه.

الصفاء الذي حلّ في قلب المجريطيّ اليوم لا يوازيه سوى ذلك الصفاء الروحي الخالص، الذي قرأه في رسائل أخوان الصفا وخلاّن الوفا. كم يشعر الآن أنّه قريب منهم، وكم هو في عوز إلى ألفتهم وسكينتهم، فإنّ صداقتهم قرابة رحم، ورحمهم أن يعيش بعضهم لبعض، ويرث بعضهم بعضا، وذلك أنّهم يرون ويعتقدون أنّهم نفس واحدة في أجساد متفرقة، فكيف ما تغيرت حال الأجساد بحقيقتها فالنفس لا تتغير ولا تتبدل... فإذا أسعد الله المرء بمن هذه صفته فعليه أن يبذل له نفسه وماله، ويقي عرضه بعرضه، ويفرش له حاجته ويودعه سرّه ويشاوره في أمره، ويداوي برؤيته عينه ويجعل أنسه إذا غاب عنه ذكره والفكر في أمره، وان هفا هفوة فيغفر له، وان زلّ زلّة فيصغرها عنده ولا يوحشه فيخاف من حقده، ويذكر من سالف إحسانه عند إساءته ليأنس به ويأمن غائلته، فإن ذلك أسلم لودّه وأدوم لإخائه...

فكّر المجريطيّ بأبي مهديّ، بعسر أحواله، وضيق عيشه، بعزلته الإجبارية، بصفاء سريرته وخشيته من الخطأ. ولكن، ما هو الصحيح وما هو الخطأ؟ أين الحدّ بين ما هو صحيح وما هو خاطئ؟ لماذا يختلط الفرح بالقلق هنا؟ لماذا تتداخل الأشياء هذا التداخل العبثي: البساطة بالوعورة، الصدق بالكذب، التكبر بالوضاعة، السرّ بالعلن، الرحمة بالقسوة؟ ما الحدود؟

لماذا يختلط الصفاء والوفاء بالغدر والأحقاد؟

 

(8)

كلـّما اتسعت بغداد ضاقت، وكلـّما ضاقت اتسعت.

بغداد، التي يعنيها المجريطيّ، هي بغداد التي لفـّت ذراعيها القويتين الحانيتين حول كيانه حينما مرّ من تحت أبراج سورها، والتي جمعت مشاعره المضطربة في حزمة محكمة الربط؛ بغداد التي ظلـّت مجرد وجوه يلتقيها وتضيع، مجرد بيوت وغرفات يتنقل فيها من واحدة إلى أخرى مثل عابر سبيل مجهول، مجرد أوهام ومخاوف وأضاليل وصور مبعثرة متضاربة، ملأت خياله وفكره وأحاسيسه؛ بغداد التي جاءها من عدم الصحراء أخذت تضيق، وتضيق، وتضيق حتـّى غدت بيتا صغيراً جميلاً في الكرخ، ومدرسة، وحلقة علم، ومكتبة تضم أكثر من ثمانين ألف مجلد، وصحبة تأتمر بأمره وتبادله الودّ. أسواق عامرة، وشوارع فسيحة، ونفوس أبيّة، صافية، تعلن لك عن وجودها ببسمة خاطفة، بلمسة يد، وبكلمة تخرج من القلب. في بغداد يُحاط المرء  بالتاريخ والحاضر، تحيط به الأزمان والأماكن، الأقوام الغازية العابرة وجيوش الأفكار والمذاهب، خزائن الذهب ومجلدات الكتب، الحراب وعيون المها المستترة خلف البراقع.

ضاقت بغداد بين رصافة وكرخ، بين بيوت بدأت تغدو أليفة، معروفة القسمات، ووجوه أضحت حيوات تنبض بالعواطف والمشاعر والألفة. حتـّى دار البغداديّ عزّ عليه أن يتخلى عنها. احتفظ المجريطيّ بها كمزار، كمتحف يصون فيه بضع ليال لا يريد لها أن تزول من ذاكرته أو تتقادم صورها.

قال له سعيد:

ــ   أبا سليمان لا حاجة لك بالبيت الآن، نستطيع أن نؤجّره، قد يدرّ شيئاً بسيطاً تستفيد منه عائلة أبي بكر.

 أراد المجريطيّ  أن يجيبه بأنّه لم يحسم أموره بعد، وأنه لم يزل معلّقاً بين بيتين، بين ضفـّتين، وأنّه يريد أن يرى بغداد من صوبيها. فكّر في هذا لكنّه أجاب:

ــ   لا يا سعيد، لا تقل مثل هذا، إذا كان الأمر يتعلق بالكراء، فسأدفع ما تريد، وأكثر.

ــ   ليس الكراء يا أبا سليمان ! ما نفع بيت مهجور وأنت تسكن بيتاً يفي بحاجاتك ويقع قرب مصالحك؟

تذّكّر المجريطيّ تحذير البغداديّ من مشاريع سعيد التجاريّة، وقال:

ــ   سيصلك الكراء مدفوعاً مقدماً، إلاّ إذا كنت تريد أن تقصيني عن البيت !

ــ   أقصيك ! كيف تنطقها يا أبا سليمان ! هذا البيت وبيوتنا كلّها بيتك. إذا اشتقت للمكان بيتي جاهز لاستقبالك متى شئت.

ــ   أنا أعرف هذا، ولستَ في حاجة إلى قوله يا سعيد، ستظل مثل أخي، سأحضر إلى مرفئك كلّما اشتدت عليّ الشدائد. أين أجد قلباً رائقاً بهيجاً مثل قلبك، يجدد دمي كلّما أفسدته الأيام.  لكنّني أحسّ أنّني سأتخلى عن قطعة من كياني لو تخليت عن هذا المسكن.

ــ   أنا لا أفهم ما تعنيه !

ــ   وربّما ليس بمقدوري إفهامك. لقد أتعبني الهجر والفراق، تعبت من كثرة ما هجرت وفارقت، لا أريد أن أضيف هجراً على هجر. هذا البيت عندي باختصار هو بغداد.

نظر سعيد إلى ما حوله، إلى بغداد الواسعة الفسيحة بضفـّتيها وابتسم، مشكّكا في صدق ما يسمع.

ــ   لا تنظر حولك باندهاش، هذا البيت هو بغدادي، بغدادي أنا، نظرتي الأولى، عشقي الأوّل.

ــ   كما تشاء.

نطق سعيد وهو غير قادر على فهم رجل مترف جاء من عالم آخر، يفصله عن عالمهم تاريخ وأزمان وبحار وفلوات.

كيف له أن يتخلى عن قطعة حبيبة من وجوده ! ظلّ المجريطيّ ينتقل بين ضفـّتي بغداد، بين كرخ ورصافة، كما ينتقل الدم من القلب واليه. هنا بيت وهنا سكن. وبين الضفـّتين يقع مرفأ سعيد، الذي غداً قنطرة تصل جانبي المدينة، ومعبراً يوحّد أوصال مشاعره، كلّما أحسّ بانقطاع مسالكها.

لكنّ المجريطيّ أخفى عن سعيد ما يكدّره حقاً. لم يشأ أن يقول له كلّ ما في قلبه، لكي لا يجعله يلحّ في عودته إلى بيت أبي بكر وترك بيت الكرخ. لم يتمكن المجريطيّ أن يألف بيته الجديد، ليس بسبب سوئه، ولكن بسبب الرائحة غير المستحبّة التي يجلبها الفتى الخادم، المكلّف بالعناية بشؤون البيت في غياب المجريطيّ. فقد اعتاد الفتى أن يحضر مباشرة إلى البيت قادماً من زريبة الحيوان التي يعمل فيها، فتلبث رائحة البهائم في الدار والأفرشة وتجعل المجريطيّ يحسّ بالنفور من الإقامة فيه. فكّر: لا يوجد كمال، الكمال لله وحده. فرغم كلّ ما حصل عليه من تيسير وحظوة إلاّ أنّ أمراً صغيراً مثل هذا كدّر عليه صفاءه وثلم غبطته !

اشترى المجريطي شيئاً من البخور والطيب، علّها تنفع، وتجعله يهنأ تماماً بما هو فيه.

عاد من بيته القديم وهو يشعر أنّه ضَمِنَ وحدة مشاعره، التي خشي عليها من طمع سعيد ومشاريعه التجارية الخياليّة، ومن عادات الخادم غير المستحبّة.

بغداد بكلّ اتساعها تضيق بين بيتين، تتمركز وتتكثـّف في بقعة صغيرة مستقرّة، ثابتة: بيتين متباعدين، لكنّهما يملآن عقله وروحه، ويسدّان حاجته إلى الهدوء والطمأنينة.

لكنّ بغداد التي تمركزت وتكاثفت مثل غيمة عامرة بالماء، فتحت له مسالك لم يكن يعرفها من قبل، ولم يفكّر فيها من قبل. كوكبه المجهول، الذي يختفي في بقعة ما من سماء الكرخ، أضحى ملايين الأنجم الزاهرة، المتلألئة في وجدانه. أين هي؟ ومن تكون؟ كلّما مرّ بطيف امرأة خفق قلبه، وخالها هي. ولكن من تكون؟ أهي قريبة أم بعيدة؟ أهي حقيقة أم وهم؟ خبل هيام أم لحم ودم وعواطف ووجود؟

حمل المجريطيّ إلى بيت أبي مهديّ سلّة الفاكهة، التي جُلبت يوم أمس من مزارع السيّد. ظلّ أبو  مهديّ ينظر إليه بعينين معاتبتين، لكنّه لم يستطع أن يمنع صغاره من تناول ثمار الرمّان والتمر من يديّ أبي سليمان. يودّ أبو مهدي لو أنّه انتزعها من أفواههم، لكنّه لم يكن قادراً على ذلك، فهم محرومون، وهو سبب حرمانهم، وهم يتلقـّونها من يدّ صادقة النيّة، وفيّة، فلا يقوى على منعها أو ردّها.

قال أبو مهديّ:

ــ   هل تذكر ما قاله لك مهيار، حينما أعطيته المنديل؟

ــ   ولكنّني لا أمنحك منديلاً مطرزاً بالذهب، لكي أفسدك به. أنا أمنحك تمراً ورمّاناً حملوه إلى بيتي من مزارع السيّد ولا أعرف كيف أنفقه.

ــ   ربّما يكون هذا التمر أكثر إفساداً لأولاد فقراء من منديل مطرّز بالذهب !

ــ   لا تشعرني بالذنب يا أبا مهديّ كلّما وضعت قدمي على عتبة بيتك. هؤلاء أولادي، أولادي وفق قوانين المنطق كلّها. أليس لي حقّ فيهم، أم ترانا أصبحنا ننظر إلى بعضنا من شرفات متباعدة؟

الحياة شرفات متباعدة ! فكّر أبو مهديّ، لكنّ المجريطيّ كان يفكّر في أمر آخر.

كان يفكّر في الكذبة البيضاء التي بدأ بها دربه: كتاب الدينوريّ. الكذبة التي غدت مكتبة عامرة، تربو على ثمانين ألفا من المجلدات تملأ القاعات والرفوف؛ يفكّر في الحديث العابر عن قرطبة، الذي  غداً طريقاً من الخضرة العامرة يمتد من بغداد إلى أرض كربلاء، وأضحى قريةً تتلوها قرية، ومزرعةً تتصل بها مزرعة، غداً ثمانين قريةً عامرة من قرى السيّد. لقد بدأ هناك، في قرطبة، بأمر مختلق عن الحج، وها هو يبدأ هنا، في بغداد، بأمر لا يقل اختلاقاً: البحث عن التوحيديّ. فكّر المجريطيّ: "هل يدرك أبو مهدي أنّي لا أبحث عن التوحيديّ، وإنما أبحث عنها، عنها هي، هي وحدها، هي كذبتي الأزليّة ووهمي الدائم !".

بغداد التي ضاقت امتدت فسيحة وأضحت مسالك لا نهاية لها، وهي التي كانت طيفاً واحداً وكوكباً فرداً أضحت ملايين الأقمار.

ــ   كم كنّا واهمين يا أبا مهديّ. ظننا بالرجل الظنون، ظنناه شحيحاً وها هو يضع ثروته كلّها تحت قدميّ، أقطعها طولاً وعرضاً كأنّني مالكها، أو وريثها !

ــ   إذا كان هذا يعني شيئاً، فهو يعني أنّ أخاك، أبا مهديّ، لم يحسن تدبير حياته. فأنا عشت حياتي كلّها ولم أحصل منه على درهم زائد، عدا رحلة للحجّ جاءت بعد ثلاثين سنة من الخدمة المتّصلة، وبعد أن أنهكت نفسي بالعلم وخدمة العقل ولم أملك سوى ثوب الفقر.

ــ   لكنّك أنت من اختار هذا.

ــ   العزلة أنا اخترتها، هذا صحيح؛ لكنّ الفقر هو الذي اختارني.

ــ   يا أبا مهديّ أنت أغنى الجميع بقلبك وبعلمك. فهل أنت نادم على شيء؟

ــ   لا، لو قدر لي أن أعيد حياتي، لما مشيت درباً غير هذا.

ــ   إذاً لا تبكّت نفسك.

ــ   أنا لا أبكّت نفسي، وإنّما أراجع حصادها، أنظر فيه. أنت تقول إنّ الظنون ذهبت بي بعيداً فيما يتعلق بشحّة وبخل السيّد، وفيما يتعلق بمشاعر الحسد التي يكنّها لمن هم أكثر علماً منه. وها أنت ترى عكس هذا تماماً. ماذا أقول سوى أنّني رجل لا يصلح لفهم ما يحيط به. ألا يحقّ لي أن أتساءل مع نفسي قائلا: ما نفع علمي ومعارفي، إذا كنت لا أستطيع إدراك حقائق واضحة كالشمس أدركتها أنت الشاب الغريب في أيام معدودة؟ ألا يحقّ لي هذا؟

ــ   أنت رجل عقل وثقافة يا أبا مهديّ. هذه التخمينات شؤون أقرب إلى السياسة، وأنت بعيد عن هذا، أنت رجل فكر وأدب.

ــ   لا تسرف في مواساتي، فأنا أعرف حجم خيباتي.

ــ   أتسمّي التبحّر في العلم خيبة؟

ــ   حينما يعجز التبحّر عن الإجابة على أسئلة الحياة، يغدو خيبة وأيّة خيبة.

ــ   أنا لم أرك منكسراً كما أراك الآن !

ــ   لأنّك لم تعرفني جيداً. هذا أنا، هذا أنا كما خلقني الله. هذا أنا على حقيقتي. لا تندهش، ربّما لهذا اخترت عزلتي بنفسي.

ــ   لكّنني لا أظن هذا، أنت أكثر حكمة من هذا.

ــ   أنا أعرف إلى ماذا تلمّح.

ــ   أنا لا ألمّح حينما أتحدث مع صديقي وخليّ وأخي الأكبر.

ــ   ها هي ألفاظك تخونك وتفضحك يا مجريطيّ. لو أردت محاكمة ألفاظك، على طريقتك في محاكمة الألفاظ، لأدنتك من فمك.

ــ   إذا كانت كلمة خلّ وأخ قد أوحت لك بشيء، فكن واثقا أنّها جاءت عفو الخاطر ولا صلة لها...

ــ   بما يشاع عنّي، قلها يا أخي وخلّي.

ــ   وهل أنت كذلك حقا؟

ــ   الآن أستطيع أن أجيبك. لا، لست منهم. والعزلة لديّ طبع وليست خطّة أو وسيلة مدبّرة. أنا لا أستتر من أحد. أنا مجرد رجل عاثر الحظّ ولد في زمن غير زمانه.

ــ   ومتى يأتي زمانك؟

ــ   ربّما لا يأتي.  بعض الأزمان تأتي ولا تعود، وبعضها لا يأتي أبداً، بل يظلّ حلم ليل يطارده البشر من مكان إلى مكان، ومن جيل إلى جيل، ولا يدركونه.

ــ   وهل انجذابك إليّ مصادفة محضة؟

ــ   لقد سألني قيّم المدرسة السؤال عينه مقلوبا. قال لي: هل انجذاب المجريطيّ إليك مصادفة محضة !

ــ   لنتكلم بوضوح مطلق يا أبا مهديّ. جماعة أخوان الصفا وخلان الوفا، التي تُتهم بأنّك من بقاياها، يستترون من دون سبب معقول ومعلن. لماذا يستترون إذا كانوا لا أكثر من جماعة تقوم على المحبّة والتسامح، ولا تنشد سوى تحقيق توازن أبدي بين المذاهب والأديان والأنفس والأقوام والأفكار والفلسفات، كما يدّعون؟ لماذا يستترون وهم لا يقفون موقف العداء من الحاكم؟

ــ   هذا سؤال هم يجيبونك عنه.

ــ   يا أبا مهديّ، أنا أندلسيّ، لا خبرة لي في هذا، وأنت ضليع في علمهم.

ــ   الحاكم ! عن أيّ حاكم تتحدث؟ قل حكّاما. أصغر حرسيّ في هذه البلاد يعتقد أنّه حاكم.

ــ   ولهذا يستتر أخوان الصفا؟

ــ   رسائلهم مبثوثة في الورّاقين، موهَبة للناس من دون مقابل، لا فخر لي في هذا، أيّ رجل يقرأ رسائلهم يعرف ما أعرف.

ــ   شرعت في قراءة بعضها.

ــ   وما الذي أثار اهتمامك فيها؟

ــ   أمور كثيرة، أهمّها فلسفتهم التي تتحدث عن  كون الإنسان نشأ في فارس، وتديّن بالإسلام، واعتنق المذهب الحنفي، وعشق أدب العراق، وصار عبرانيّا في مخبره، مسيحيّا في منهجه، شاميّا في نسكه، يونانيّا في علمه، هنديّا في بصيرته، صوفيّا في سيرته، ملكيّا في خلقه، ربانيّا في رأيه، إلهيّا في معرفته. ماذا ترى أنت في هذا؟

ــ   لعنة الله على النسيان ! نسيت أن أسألك عن التوحيديّ. هل عثرت عليه في مكتبة السيّد؟

ــ   أعتقد جازماً أنّه موجود في الجزء الخاص.

ــ   أهو مجرد اعتقاد أم أنّك رأيت كتبه بأمّ عينك؟

ــ   رأيتها ولمستها بأصابعي. لمستها كما لو أنّني ألمس شغاف قلبي.

ــ   ولم تفتحها؟

ــ   لم أفتحهاّ طبعاً، لأنّني لا أريد الآن، أن...

ــ   لا تكمل يا أبا سليمان، لا تكمل.

ــ   أتريد أن تقول إنّني أخون نفسي وحلمي و...

ــ   لا، حاشاك الخيانةُ، ولكنّني أقول ما قلته لمهيار. هذا يسمّونه سياسة، ولا تنس أنّك أندلسيّ وهو فارسيّ. أما أنا فعراقيّ. أنا هذه المرة أكون ابن الأرض، كما كنت أنت في قرطبة.

ــ   وما صلة هذا بالتوحيديّ؟ هل أنت غاضب عليّ لأنّ السيّد أكرمني؟ أو لأنني قبلت هديته؟ أنا أعطيته ذهباً خالصاً، وأنت تعرف أنّني أملك الكثير ولا تغريني عطايا تافهة مثل دار صغيرة وفرس وخادم كريه الرائحة.

ــ   لقد ذهب بك الخيال بعيدا، سأقول لك ما قاله ذلك الذي تركته خلفك في قرطبة، ابن زريق، الذي هجرت أرضك في سبيل البحث عن جواب له، سأقول لك: ستعرف رأيي حينما تقرأ التوحيديّ.

ــ   أعرف ما قاله التوحيديّ في أخوان الصفا، قال في (الامتاع والمؤانسة) : رأيت كتبهم وهي مبثوثة من كلّ فن بلا إشباع ولا كفاية وفيها خرافات، وكنايات وتلفيقات، وتلزيقات...

ــ   وكيف تقول إنّك لمسته ولم تفتحه؟

ــ   لأنّني سمعت هذا الكلام من السيّد.

ــ   السيّد يستعير هذا النص ويحاجج به، لكنّه لا يستعير الفصل الذي يتحدث عن بيعة السقيفة، بل يخفيه. أتعرف ماذا يسمون هذا؟

ــ   أعرف: سياسة، ولكن قل لي من أنت؟

ــ   لا تتعب نفسك. أنا أنا، لا أكثر ولا أقل. هل أعجبك ردّي؟

ــ   أنا أرى في دقّ الطبول عند الأذان بدعة مضحكة، كيف ترى أنت الأمر؟

ــ   ولماذا ترى الأمر بهذه النظرة؟ هذا الأمر يشبه التماثيل التي كانت تزين قبّة قصر الخلافة وأبراج بغداد؛ حسبها البعض أصناماً، وعدّها الناس بدعةً وعدّوا خرابها عدلاً ربانيّاً. لماذا لا تعدّ قرع الطبول تطويعاً مبهجاً للإيمان؟ ألا يعدّ الأذان تنغيماً وتطريباً؟ألا تُقرع النواقيس في الكنائس؟ لماذا لا يكون هذا من ذاك؟ لماذا يُجرّد الإسلام من كل شيء له علاقة بالجمال؟

ــ   أهذا رأيك الشخصيّ؟

ــ   هذا رأي موجود، رأي يتحدث به البعض ويأخذون به، لا يستطيع أحد، لا أنا أو أنت أو غيرنا، أن ينكر وجوده، سواء قبلنا به أم لم نقبل. ولا تنس أنّ  أهمّ أمارات الكاتب حسن الخلق وصفاء الذهن وحبّ العلم وبغية الحقّ وعدم التعصب لرأي معين.

ــ   حسن، ما رأيك بمن يقول بقدم العالم؟ هل هو  قديم أم محدث؟

ــ   لو سألتني عن المسألة الفقهية المتعلّقة بإمكانيّة الخطأ والزلل في أفعال الأنبياء، سأقول لك فوراً، بثقة تامة: إنّ السيّد أرسلك لكي تختبرني وتتأكد من انتسابي إلى أخوان الصفا.

ــ   لا تحقـّر أفكاري يا أبا مهديّ، أنا أسألك عمّا أسمعه وما يدور بين العلماء هنا. أنا حديث عهد بأساليب فكركم، لمن أتوجه غيرك ! هل تريدني أن أكفّ عن سؤالك؟ سأفعل.

ــ   قديم ومحدث.

ــ    يا أبا مهديّ. لا يوجد مثل هذا، إمّا قديم أو محدث. أنت تبتدع ما لم يبتدع. كيف يكون قديماً ومحدثاً في الوقت نفسه؟

ــ   يكون كذلك بحسب ما ننظر إليه.  يكون قديماً لو نظرنا إليه كجزء من كلّ سرمديّ لا انفصال في قوامه وكينونته وعناصره وجوهره، ويكون محدثاً على اعتبار ما نمنحه نحن له من مرتبة.

ــ   وكيف تحدد جوهره؟

ــ   هو كتاب مفتوح يسجّل فيه الدهر وقائعه وأنفاسه.

ــ   أتعرف ماذا يسمّون هذا الجواب؟

ــ   لا.

ــ   هذا يا أبا مهديّ، يا أخي وخلّي، يسمّونه سياسة.

ردّ أبو مهديّ ضاحكاً:

ــ   نسينا أن نشكرك على التمر.

سكت ثم أضاف:

ــ   ربّما تظنّ أنّني أهزل، لا والله. لقد شحّت التمور في السواد، وسبب ذلك يعود إلى أنّ البرد ضرب البلاد في السنة الماضية. تجمدت السواقي وتوقفت النواعير وماتت المزروعات، وشحّت المحاصيل. أنت لا تكرمنا بهذا التمر والرمّان، بل ترفعنا إلى مصاف الأغنياء.

أراد المجريطيّ أن يقول له إنّه رأى هذا بأمّ عينيه في مزارع السيّد، التي تجوّل فيها، لكنّه أحجم عن قول ذلك، خشية أن يجرّه هذا إلى المزيد من التباعد مع أبي مهديّ، الذي أحبّه مثل أخ.

من أنت يا أبا مهديّ؟

ترى هل تباعدا في مشاعرهما؟ هل اقتراب المجريطيّ من السيّد سبّب ذلك لأبي مهديّ؟ هل هي الغيرة، أم إنّه حسد الفقراء؟ وهل ما قاله قيّم المدرسة عن أبي مهديّ صحيح؟ هل يعقل أن يكون من جماعة أخوان الصفا وخلان الوفا المستترين؟ أكان لقاؤهما مصادفة محضة؟ ألا يعد ذلك من طرقهم في جذب الشباب إلى مذهبهم، كما يدّعي قيّم المدرسة؟

تذكّر المجريطيّ اللحظة المرعبة التي وجد نفسه فيها وحيداً في مكتبة السيّد الخاصّة. نظر إلى رفوف الكتب فرأى عيوناً حالكة السواد مبثوثة في كلّ زاوية تنظر إليه، عيوناً في السقوف، بين الكتب، حتـّى يده التي مدّها بخوف ليلمس بها غلاف كتاب التوحيديّ خالها عيناً تراقبه وتسجل أفعاله. جرّ يده بخوف وسار مبتعداً.

"رأيتها ولمستها بأصابعي. لمستها كما لو أنّني ألمس شغاف قلبي"، قال لأبي مهديّ. كم كان غبياً وضعيفاً وهو ينطق ذلك. لكنّ أبا مهديّ رد عليه، بطريقته، التي لا تتغير، قائلا: "أقول ما قلته لمهيار. هذا يسمّونه سياسة، ولا تنس أنت أندلسيّ وهو فارسيّ"  سكت قليلا ثم أضاف: " أمّا أنا فعراقيّ"

"من منّا يخون الآخر؟ من منا يبتعد عن الآخر؟ ولكن كيف يستطيع أن يجمع بين هذا وذاك؟ كيف يجمع بين ضفاف متقابلة؟ كيف يجمع بين ما لا يُجمع ! وكيف يصل إليها ؟ إليها  هي؟ ولكن، من هي، من تكون؟

وأين هي؟ أين هي لكي أنهي هذا العذاب القاهر؟"

رشّ المجريطي بعضاً من الطيب، وأشعل البخور في المجمرة، وأخذ  رسائل أخوان الصفا وشرع يقرأ.

 

(9)

حبس المجريطيّ نفسه في مكتبة السيّد الخاصّة. أنهى كتابة وصف لحالة أشجار الحمضيّات في مزارع السيّد، ووضع ملاحظات تتعلق بطرق الرّيّ وسبل اتقاء حالات البرد المفاجئة. وضع القلم والدواة والقرطاس جانباً وراح يفكّر في ما يمكن أن يضيفه. همّ بأن يكتب ما يتذكره من إضافات ابن جلجل، لكنّه عدل عن الفكرة. من الأفضل التريث وانتظار ردود فعل السيّد.

مرّ قرب الرّفّ الذي يضمّ كتب التوحيديّ، وهو ينظر إلى ما حوله. شجّع نفسه على الاقتراب أكثر فلاحظ أنّها ناقصة؛ بعضها لم يعد موجوداً في موضعه المعتاد. لم يشأ أن يمدّ يده ويلمس ما تبقى على الرّفّ. من الأفضل التريث والانتظار. عاد يجلس خلف المنضدة، المليئة بالكتب، وراح يفكّر في أمر واحد: ما الأسلم أن يعجـّل في قراءتها، أم أن ينتظر حتّى تتعمق صلته بالسيّد وتقوى الثقة بينه وبين القائمين على المكان؟ ولكن من أين يأتي بالصبر؟ مدّ يده وراح يعبث بالمخطوطة القريبة، المفتوحة، الملقاة فوق المنضدة، فاعترته رجفة وهو يقرأ  عنوانا فرعيّا يقول " مناظرة جرت بين أبي سعيد السيرافيّ وبين متى بن يونس القنُنّائيّ الفيلسوف"، قلّب الصفحات على عجل ووقف عند سطر يقول: "إنّي أرى فصاحة لسانك سبباً لعجمة فهمك، وتدرعك بقولك آفة من آفات عقلك"، خفق قلبه بشدّة وهو يقرأ عنواناً على غلاف الرسالة: الإمتاع والمؤانسة، لعلي بن محمد بن العبّاس أبي حيّان التوحيديّ.

نسي المجريطيّ مخاوفه، نسي حذره وتريثه، وراحت عيناه تلتهمان الصفحة تلو الأخرى، وحينما فرغ من الكتاب ذهب إلى الرّفّ بتصميم واستل منه ما وجده من كتب، وانكب على قراءتها، باحثاً فيها عن شيء ما، عن بصيص ما، يمكن أن يدلّه أو يوصله إلى ابن زريق. شرع يقرأ الرسالة تلو الرسالة مثل قاتل مجنون يهوي بمديته على جسد ضحية، ثمّ لا يقوى على التوقف، مدفوعاً بقوة غامضة، لا تردّ، غافلاً عمّا يدور حوله. لكنّه لم يعثر على بغيته. كان أبو حيّان يسرح في عالم آخر، كان غارقاً في عالم بعيد لا يربطه رابط بابن زريق أو بشعره أو بأقماره. قام بتثاقل ويأس. نظر حوله فلم يجد أحداً. أحسّ بسخف مخاوفه. أعاد الكتب التي أنزلها من الرّفّ إلى مكانها، وأبقى الكتاب المفتوح على حاله فوق المنضدة، واستغرق يفكّر في أمر واحد، وهو ينظر إلى كتاب التوحيديّ المفتوح، الموضوع فوق المنضدة: من وضعه هنا ولم يعده إلى مكانه؟ من ورّقه وتركه مفتوحاً؟ نظر حوله مجدداً، فلم يجد أحداً. أهي دعوة مفتوحة للدخول في عالم ظنّه مغلقاً؟ أهو فعل مرّتب أم مصادفةٌ محضة؟ ولكن، ما نفع هذا؟ لم يقده التوحيديّ إلاّ إلى الخيبة. أيريد قدره أن يقول له هذا! أن يعلمه أنّ طرقه مسدودة، وأنّ الوصول إليها  خيال محض !

الخيبة لدى المجريطيّ لها دائماً ألوان وروائح وأشكال خاصة لا تتغير. قد تتغير الأماكن والأزمان والحالات، لكنّ الخيبة واحدة تبدأ دائماً، كما قال ابن زريق، تبدأ بشيء أوّله شؤم وتنتهي بما يشبه اللؤم. ولكن، لماذا بدأ يفقد صبره. قبل ساعات حسب كان مفعماً بالأمل، كانت مشاعره وأحاسيسه تسخر من قلّة حيلة ابن زريق وتطيّره، كان يرى أن من دخل بغداد في يوم سعد لن تنتهي أيامه فيها قبل أن ينال الوعد. لكنّه الآن يفقد صبره، فيشم رائحة الخيبة، الشبيهة بتلك الرائحة، غير المحببة التي يجلبها معه الخادم، المملوك، الذي اسمه كوكب عند دخول منزله. الرائحة التي تلبث مقيمة بعد ذهابه، حاملة معها عفونة رائحة الإسطبلات. هكذا بدأ نهار هذا اليوم، ممزوجا برائحة الإسطبلات.

أحسّ المجريطيّ أنّه لا يرغب في العودة إلى داره، إلى بقعة تذكره رائحتها بالخيبة والخذلان.

فكّر في الذهاب إلى بيته الأول. وربّما إلى مرفأ سعيد، ليتنفـّس بعضاً من هواء النهر.

مرّ بغرفة قيّم المدرسة، سلمّه القرطاس، فاقتنص الأصلع، بفراسته العالية، مسحة التضجّر على ملامح المجريطيّ، وقال:

ــ   أراك مهموماً اليوم يا أبا سليمان؟

ــ   هل أنا كذلك؟

ــ   ما أسهل قراءة وجه مليء بالبشر كوجهك !

هل هو مفضوح إلى هذا الحدّ؟ فكّر المجريطيّ وقال من دون تبصّر:

ــ   الموضوع تافه لا يستحقّ أن أكدّرك به.

ــ   تافه أو عظيم، لا يحقّ لك إخفاءه.

نطق القيّم كلماته بعفويّة، ثم تنبه إلى خشونة عبارته، فقال مبتسماً:

ــ   لا يحقّ لك أن تخفي ما يكدّرك عنّي، لأنّك تجعلني أتحمل مسؤولية عدم رضاك. السيّد لن يغفر. ..

ــ   الموضوع أصغر من هذا.

ــ   أصغر أم أكبر، لا يهمّ، لا بدّ من معالجة الأمر الآن، فوراً، لن أدعك تذهب وأنت غير راض عنّي.

ــ   عنك ! كيف لا أرضى عنك ! الموضوع يتعلق بهذا الفتى الخادم، يا أبا محمد.

ــ   ما به؟ أأزعجك بكثرة كلامه؟ لا تسمح له بالحديث معك !

ــ   ليس كلامه، بل رائحة ثيابه. يأتيني مباشرة من الإسطبل، فيترك بعد ذهابه رائحة تمكث طوال النهار في الدار.

ابتسم القيّم وقال:

ــ   سوف لن يتكرر هذا. هذا وعد، حينما تكون في البيت اليوم ستجد ما يفرحك.

بحث عن أبي مهديّ ولم يجده، فقرر الذهاب إلى البيت لأخذ بعض اللوازم والتوجه إلى الضفـّة الثانية.

حينما دخل داره واجهته رائحة الإسطبل. كانت قوية، كما لو أنّ الفتى لم يبارح الدار. وحينما خطا نحو غرفة النوم تأكد من صدق إحساسه. كان الفتى المملوك نفسه موجوداً في الدار، وليس رائحته فقط.

تفاجأ الفتى بعودة المجريطيّ المبكرة، ارتبك، وراح يعدل من وضع أغطية السرير، وهو يقول:

ــ   سأنتهي حالا من التنظيف يا سيّدي، وعذراً لأنّي جئت مرة ثانية في هذا الوقت، بسبب الإعداد  لسفر سيّدتي؛ سأرافقها غداً،منذ الفجر إلى زيارة أقرباء لها.

 رأى المجريطيّ أطباق الطعام فتقززت نفسه منه وقال:

ــ   لقد أخبرتك من قبل أنّي لا أريد طعاماً، أنا أتناول الأكل في المدرسة، لا تتعب نفسك بإعداده بعد اليوم.

ــ   أنا لا أقوم بإعداد الطعام، يا سيّدي. أنا أتولى مهمّة جلبه، أجلبه من مطبخ السيّد الكبير.

ــ   لا أريده، سواء تجلبه أو تعدّه.

ــ   ولكنّي جلبته هذه المرة من بيت سيّدتي. طبخته الجارية شمس. شمس اسم على مسمّى، طباخة ماهرة.

ــ   ما هذا؟ كوكب وشمس ! هذه ليست داراً يا كوكب، هذه سماء.

ضحك كوكب مثل طفل وقال:

ــ   ما رأيك يا سيّدي لو قلت لك ما هو أعجب من هذا، ولكن ربّما لا يحقّ لي ذلك

كان كوكب يبحث، كعادته، عن وسيلة لاستمرار الحديث، بينما كان المجريطيّ يبحث عن وسيلة لإنهائه والتوجه إلى ضفـّة النهر، إلى مرفأ سعيد، ليتنفس هواء أقلّ فساداً. قرّر أن لا يمنحه فرصة لمواصلة الحديث. شرع يجمع بعض حوائجه، لكي يحثـّه على إنهاء عمله والانصراف. لكنّ الفتى جلس على حافة السرير وقال:

ــ   هل تعرف ما اسم سيّدتي؟ نحن بحقّ كما تقول عبارة عن سماء.

لم يجب المجريطيّ، فقال كوكب مجيباً نفسه:

ــ   ستتعجب يا سيّدي لو عرفت أنّ اسمها قمر !

ــ   قمر !؟

ــ   نعم، قمر، وهي تشبه الـ

توقف كوكب عن الكلام إحساساً منه بأنّه ذهب بعيداً، أمّا قلب المجريطيّ فكاد أن يتوقف أيضاً، إحساساً منه أنّه أُخِذ على حين غرّة. فجأة جلس المجريطيّ وغرق في الصمت، وعيناه تنظران إلى شيء ما قريب، شيء ما يراه بعينيه ولا يراه أحد غيره.

ــ   هل قلت شيئاً ضايقك يا سيدي، ربّما لم يكن لائقا أن أتحدث عن سيّدتي أمام رجل غريب، ولكنّني والله أحببتك، وأحببت أن أسليك، فأنا أعرف وحشة الغربة.

ــ   لا تهتمّ يا كوكب، وقل لي، هل سيّدتك متزوجة؟

ــ   أرملة، مات زوجها منذ وقت قريب.

ــ   هل لديها أطفال؟

ــ   لا أعرف.

ــ   كيف لا تعرف وأنت تعيش في الدار ذاتها؟

ــ   يجوز ولا يجوز.

ــ   أمرك عجيب يا كوكب! دعنا من هذا واخبرني: ما اسم زوجها؟

ــ   وكيف لا تعرفه !

ــ   أنا أسألك: ما اسمه؟

صمت كوكب فأضاف المجريطيّ:

ــ   ربّما لا تريد أن تجيب.

ــ   أريد أن أجيب، لكنّني لا أعرف ماذا أقول. هل أنت تسخر مني يا سيّدي؟

ــ   دعك من هذا أيضاً وقل لي: هل قتل في معركة؟

ــ   لا أحد يعرف، هناك أقاويل كثيرة، منهم من يقول إنّه مرض ومات، ويقال إنّ اللصوص هاجموا قافلتهم الذاهبة إلى الحجّ وقتل هناك، ودفن بأرض فلسطين.

ــ   وما دخل فلسطين بالحجّ؟

ــ   لا أعرف، ربّما في الحجاز، وهناك من يقولون...

ــ   ماذا يقولون؟

ــ   البعض يقول ربّما يكون العيّارون من قتله.

ــ   العيّارون ! وكيف وصل العيّارون إلى هناك؟

ــ   لاحقوه، لأنّه كان قاسياً عليهم، وقتل منهم الكثير في السنتين الماضيتين، حينما عمّت الفوضى ونشط العيّارون في قتل كبار الطالبيين.

ــ   اسمع يا كوكب، أنا لم أفهم شيئاً من كلامك، أنت تخلط الحابل بالنابل.

ــ   ولا أنا يا سيّدي، أنا مثلك، أنا أسمع ما يقال، لكنّني لا  أتعب رأسي في تفسير الأحداث المعقدّة. أتعرف لماذا؟  لأنني لو فسّرتها أو لم أفسّرها، لو كنت على خطأ أو على صواب، لن يتغير شيء من حال الدنيا. هل أنا مخطئ يا سيّدي !

ــ   ولكنّك قلت إنّه ذهب إلى الحجّ، ثم قلت إنّه قتل بفلسطين، ما صلة هذا بهذا؟

ــ   هو ذهب إلى الحجّ، وهناك من يقول إنّه ذهب بعد ذلك في سفارة إلى مصر، رغم أنّني لا أعرف ماذا تعني كلمة سفارة.

ــ   وهل سمعت هذا من سيّدتك قمر؟

ــ   قمر ! لا، سيّدتي لا تسمح لأحد أن ينطق اسمه أمامها. هي لم تنزع ثوب الحزن يوماً واحداً، حتّى في العيد الماضي، بينما نزعت زوجته الأولى وابنة عمته ثياب الحزن منذ عدة أسابيع.

ــ   لماذا؟

ــ   لا أعرف، يقولون غيرة نساء.

ــ   ومن أيّ شيء تغار سيّدتك قمر؟

ــ   تغار لأنّها

ــ   أقل جمالا؟

ــ   أرجوك يا سيّدي أنت

ــ   يا كوكب لا تتحدث بشيء إذا كنت محرجاً أو غير مقتنع، أنت غير ملزم بهذا، لأنّه مجرد فضول. أنا، كما تعرف، غريب في هذه البلاد، وكلّ ما يهمّني هو معرفة ما يحيط بي، إضافة إلى هذا أنا وأنت نتسلى بالحديث، أنت غير مجبر على الإجابة عن أسئلتي.

ــ   ماذا أقول لك يا سيّدي، سيّدتي قمر تغار منها لأنّها... لأنّها، نستطيع أن نقول، أقلّ منزلة من ابنة عمّة زوجها.

ــ   أقلّ منزلة ! كيف ؟

ــ   لأنّ ابنة عمة سيّدي هي  ابنة العائلة الكبيرة.

ــ   إذاً لزوجها اسم تعرفه؟

ــ   يعرفه كلّ الناس.

ــ   لكنّك تعرف أنّني لا أعرفه. ولماذا تغار منها سيّدتك قمر، إذا لم تكن أجمل منها؟

ــ   لأنّ أباها يشتغل في البيت الكبير.

ــ   ماذا يشتغل؟

ــ   هو معلمي، وهو من ربّاني وعلمني الشعر والكتابة العربية، هو بمثابة أبي... أبوها سائس خيلهم، أعني كان سائس خيلهم، أنا الآن سائس خيلهم،لأنّه أصيب حينما هاجم العيّارون حظائر البيت الكبير قبل عامين.

ــ   وهل هذا سبب كاف للغيرة، كما تظنّ؟

ــ   ليس هذا فقط. سيّدتي قمر أنجبت له ولداً ذكراً، بينما لم تنجب له الأخرى سوى الإناث: ثلاث إناث.

ــ   ولكنّك قلت لي قبل قليل إنّك لا تعرف إذا كان لديها أطفال؟

ــ   أنا أقول ما أسمع يا سيّدي.

ــ   أنت تحيّرني يا كوكب، كل شيء لديك جائز وغير جائز في الوقت نفسه.

ــ   هذا صحيح، لأنّ الحياة هكذا، فيها الصحيح وفيها الخطأ.

ــ   ولكن ما رأيك أنت شخصيّاً؟

ــ   أنا ! شخصيّاً ! ليس لي رأي.

ــ   أنا أعني حينما تجلس مع نفسك وتفكّر في الأمور المختلطة، كيف تفرّق بينها، ما الذي تصدّقة أو لا تصدّقه؟

ــ   أنا لا أفعل ذلك يا سيّدي.

ــ   لا تفكر؟

ــ   لا، أفكّر، ولكنّني لا أتعب نفسي في  فرز الأمور كما تقول أنت، لأنّها في النهاية واحدة. فإذا كان عند سيّدتي طفل أو لم يكن عندها، لا يغير من وضعي شيئاً. أنا مجرد سائس في إسطبل، ولن تتغير حياتي سواء كان لديها طفل أو لم يكن، وسواء مات زوجها في بغداد أو في طريقه إلى الحجّ.

ــ   وأنت جزء من أملاك سيّدتك قمر؟

ــ   نعم ولا.

ــ   يا كوكب !

ــ   أنا أقول الحقّ، هل تريد منّي أن أكذب ! أقول نعم لأنّني أعمل في خدمتها وأحبّ أن أكون في خدمتها؛ وأقول لا،  لأنّني جزء من الأملاك التي لم تزل موضع نزاع. لكنّ الجارية شمس والبيت ومزرعة صغيرة تعتاش منها سيّدتي ورثتها عن زوجها، أمّا الأملاك الكبيرة فكانت من نصيب سيّدتي ابنة العمّة وبناتها.

ــ   لماذا؟

ــ   أنت تسألني عن أشياء لا أعرفها يا سيّدي، أنا لا أعرف لماذا فعلوا ذلك ولم أفكّر في ذلك، لكنّهم حينما اقتسموا الميراث أصبحت تابعا للجميع، ولا يمكن لي أن أذهب إليهم وأقول لهم: اسمعوا يجب أن تحدّدوا فوراً من يمتلكني؟ لا يجوز هذا، رغم أنّني أفكّر في هذا الموضوع أحياناً. فأنا أفكّر أيضاً يا سيّدي.

ــ   وهل أفرحك أم أحزنك هذا؟

ــ   أفرحني وأحزنني.

ــ   يا كوكب، إما أن يكون أفرحك أو أحزنك؟

ــ   أنا أتحدث عن مشاعري يا سيدي. أحزنني لأنّني فقدت المكان الواسع والذهاب إلى المزارع العامرة، التي تغطي قرى بأكملها؛ وأفرحني لأنّني بقيت عند سيّدتي قمر وليس هناك، وربّما أفرحني أيضاً شيء لا أستطيع شرحه لأنّك لن تفهمه.

ــ   ولماذا تفترض أنّني لن أفهمه.

ــ   أنا لا أفترض يا سيّدي، أنا واثق، لن تفهم الموضوع مثلي، لأنّك لست مثلي، لست عبداً.

ــ   اشرحه لي سأحاول أن أفهمه على قدر ما أستطيع.

ــ   المشكلة هي أنّني نفسي لا أعرف كيف أشرحه. تستطيع أن تقول إنّني أصبحت، لا أعرف كيف أعبّر، أصبحت أقلّ عبوديّة، لأنّهم لا يعرفون من يملكني.

ــ   لكنّني أرى العكس يا كوكب. أرى أنّ عبوديتك تفرقت بين المالكين، أضحت مشاعة، أصبحت عبداً جماعيّاً.

ــ   صدقت يا سيّدي، هذا بالضبط ما كنت أفكّر فيه، عبداً مشاعاً. حينما يكون العبد مشاعاً يصبح مثل غير العبد.

ــ   يسمّونهم الأحرار يا كوكب.

ــ   نعم الأحرار، اللاعبيد. هل أستطيع أن أذهب الآن يا سيدي، فسيّدتي في انتظاري.

لم يتمكن المجريطيّ من استنطاقه أكثر. ربّما لا يستطيع أن يأخذ منه أكثر الآن. أراد أن يصرخ به قائلا: أين تنتظرك؟ ودّ لو يكون طفلا لتتبّعه خفية ووقف أمامها، ورآها على حقيقتها.

 ظلّ قلبه يرتجف في صدره وهو يسمع اسمها يتكرر على لسان كوكب. هي موجودة، حيّة وليست خيالا محضا، موجودة قربه، على بعد أمتار قليلة. يكاد يسمع حفيف ثوبها وهي تسير. لا يهمّ كيف تكون، يكفي فقط أنّها موجودة، أنّها حقيقة. الوعد يتحقق. كم ضيق هذا العالم الواسع !

ــ   اذهب الآن يا كوكب. ولكن خذ هذا المبلغ. ستشتري به ثياباً جديدةً تلبسها حينما تأتي إليّ، لا تأت بثياب العمل، هل فهمت؟ أريدك هنا غداً منذ مطلع الفجر.

لم يفهم كوكب شيئاً، لكنّه أحسّ للمرّة الأولى منذ أن أبلغه أبو محمد أن يذهب إلى بيت المجريطيّ للتنظيف والمساعدة أنّ الأندلسيّ يستمع إليه ويحاوره محاورة الأصدقاء. وها هو يكرمه بمبلغ لشراء ثياب جديدة. ربّما يكون الأندلسيّ جاهزاً تماماً لقبول فكرته، التي حلم بها منذ أن عرف بمقدم الأندلسيّ، الفكرة التي درّب نفسه عليها كلّ يوم في الإسطبل وفي غرفة نومه وفي البيت: أن يجد نفسه يسير خلف الأندلسيّ، ذاهباً معه إلى الأندلس، عند عودته.

***

لم يتفاجأ أبو مهديّ بمقدم المجريطيّ، لكنّ المجريطيّ تفاجأ حينما قال له أبو مهديّ فور جلوسه:

 ــ   أزعجك الفتى الخادم !

ــ   من أخبرك؟

ــ   أبو محمد، ولكنّني أراك مهموماً أكثر مما يقتضيه حادث ضئيل كهذا؟

لم يعرف المجريطيّ من أين يبدأ. لكنّه أحسّ أنّ الرغبة العارمة التي دفعته إلى الحضور: معرفة مكان وجود قمر، وكلّ تلك الحقائق التي تؤكد أنّها هي التي ينشدها، قد خبت، أو توارت خلف هواجس غامضة. الخشية من الفشل، والخشية من مجهول ما جعلته يتردّد في قول ما جاء ليقوله في هذا الوقت غير الملائم من الليل.

ــ   هل حدث شيء مكدّر؟ أنا لا أظنّ أنّ أمراً صغيراً كهذا يفعل بك كلّ هذا الفعل!

ــ   صدقت يا أبا مهديّ. أنا مخذول بحقّ. اليوم تمكنت من قراءة كلّ ما عثرت عليه من أدب التوحيديّ.

فكّر المجريطيّ: "هل أخون صداقته حينما أداري مشاعري الحقيقيّة، وحينما أضلله بالكلام؟ لقد جئت لأمر وها أنا أذهب إلى أمر آخر، مختلق، وكاذب ! هل هو مختلق؟ ألم يكن هو الحقيقة الوحيدة التي عثرت عليها، أو عثرنا معا عليها، الحقيقة التي ستقود خطاي إليها . ولكن هذه الحقيقة لم تعد قائمة، ما عادت حقيقة، ليس لأنّ أبا حيّان لا يجيب، ولكن لأنّني الآن أسير أبعد من تلك الحقيقة، التي غدت أقلّ من كونها حقيقة. الحقيقة الوحيدة الآن هي أنّني عثرت عليها، عثرت عليها ولن أفقد الطريق الموصلة إليها ."

ــ   وماذا وجدت؟

ــ   وجدت الكثير المثير والمفيد والطريف، لكنّني لم أعثر على كلمة واحدة تربطه بابن زريق.

ــ   هذا مكدّر حقا، ولكن لا تيأس.

ــ   اليأس وعدم اليأس أضحيا متشابهين في حالتي.

ــ   ستعثر عليها، أعني ستعثر عليه. شعور خفيّ في نفسي يقول لي ذلك.

ــ   إن شاء الله.

ــ   وكيف وجدت التوحيديّ؟

ــ   حيّرني فيه أمر واحد، وأعني فيه شخصيّاً وليس في أفكاره. هل تذكر أحاديث الناس عن أصله، فمن قائل إنّه شيرازيّ، ومن قائل إنه نيسابوريّ.

ــ   وماذا وجدت أنت؟

ــ   لم أجد شيئاً سوى الغموض، لقد زادتني قراءته غموضاً على غموض. ففي إحدى رسائله  يشرح سوء الفهم المعروف بينه وبين الوزير الصاحب بن عباد، وكيف أنّ الوزير سأله ساخراً: " بلغني أنّك تتأدب، فقال التوحيديّ: تأدب أهل الزمان. فسأله: أبو حيّان ينصرف أو لا ينصرف؟ فأجاب التوحيديّ: إن قبله مولانا ينصرف. فلما سمع الوزير ردّ أبي حيان هذا تنمّر وكأنه لم يعجبه، وأقبل على واحد إلى جانبه وقال له بالفارسيّة سَفهَا ــ  على ما قيل للتوحيديّ فيما بعد، حينما سأل عن المعنى بالفارسيّة ــ  ثم قال له: الزم دارنا وانسخ هذا الكتاب."

ــ   لم أسمع بهذا من قبل. هذا قول عجب: الوزير يشتم زائره بالفارسيّة !

ــ   قرأته، فاعتاص الأمر عليّ ولبُس. لو كان التوحيديّ فارسيّا كيف لم يفهم قول الوزير؟

ــ   لي رأي في هذا يا أبا سليمان. أنا أرى أن لا لبس في هذا. العديد من أهل السواد يولدون بعيداً عن أرض العراق، بحكم المصالح والعمل. بعضهم يولد في شيراز أو نيسابور أو جرجان، لكنّه يظلّ عراقيّ الأصل والنسب.

ــ   ولماذا نشأ عند الناس هذا الرأي الفاسد عن نسبه؟

ــ   لأنّ الناس أخذوا صورة ناقصة عن العراق، خلط ضعافهم وجهلاؤهم بين العراق وأرض السواد. والسواد ليس العراق، كما يشاع بين العامة. السواد بعض من العراق. أمّا العراق فيشمل أرض السواد والجزيرة وعراق الجبال. وهناك من يبالغ فيضيف إليه عراق العجم. كلّ ذلك عراق، فلا غرابة أن يقع خلط في نسبه.

ــ   هذا تفسير راجح يا أبا مهديّ.

ــ   وكيف رأيت ضياع السيّد وبساتينه؟

ــ   عامرة، لكنّها بأيد سيئة، لا تحسن العمل.

ــ   وعشرته؟

ــ   لقد ظلمناه، ولم نمنحه حقّ قدره.

ــ   عدا خادمه، لو أحسن تنظيفه !

ضحكا، فاغتنم المجريطيّ الحديث وقال:

ــ   لقد تجولت في الحقول والقرى بمفردي، كما لو أنّي أسير في ضياعي، لكنّ القلق ساورني حينما سمعت من الناس أخبار الحوادث والقتل التي طالت كبار الطالبيين، ألم يزل الخطر قائما؟

ــ   لا، لا تخف، حدث هذا في العامين السابقين.

ــ   قيل أنّه وصل إلى بيت السيّد الكبير؟

ــ   نعم، فقدوا بعض رجالهم.

ــ   قيل فقد أحد أعزّ أقربائه وورثته؟

ــ   هذه حكاية لا تقل غموضا عن نسب التوحيديّ ونسب صاحبك الذي اسمه ابن زريق.

ــ   لكنّ موت الرجل لم يزل حديث الناس في القرى.

ــ   موته، نعم. ولكن كيف حدث؟ هذا أمر يختلف فيه الناس. هناك من يتحدث عن أنّه سقط بيد العيّارين، لا حقوه  في قافلة الحجّ، لأنّه أثخن فيهم، ومنهم من يقول غير ذلك.

ــ   ماذا تعني بغير ذلك؟

ــ   هناك من يرى أنّه خلاف داخلي، يتعلق بزعامة الجماعة؟

ــ   زعامة الجماعةّ !

ــ   الأمور مختلطة، لا يستطيع المرء فصل ملكيّة الضياع عن رئاسة الجماعة. هذا أمر غامض، لا تتعب رأسك به، لأنّه يزداد غموضا مع الأيام.

ــ   وهل مرجعيّة الجماعة منقسمة على نفسها؟

ــ   لم تكن مرجعيّة الجماعة موحّدة يوماً ما. لا توجد مرجعيّة، توجد مرجعيات. وهذا سرّ من أسرار قوّة الجماعة وديمومتها. لقد وجدت سبيلها الخاص للتكيّف مع الأوقات الرديئة. ففي كلّ الأزمان هناك جماعة تتبع الحاكم وأخرى يطاردها الحاكم ذاته، وهناك من يقف في الوسط.

ــ   والى أي فريق يعود هذا؟ فهو من جهة قاتل العيّارين لأنّهم استهدفوا رأس الجماعة، ومن جهة ثانية يغمزون بأنّ بعض الرؤوس الكبيرة تقف وراء اختفائه، وهناك من يتحدث عن اختفاء ذريته من بعده.

ــ   نحن أرض الأساطير، فلا تتعب نفسك بأمور لا حلّ لها.

تذكّر المجريطيّ أفكار كوكب ومحاججاته الغريبة. حتّى أبو مهديّ، بكل علمه ودرايته ينقلب أحيانا، في لحظات، إلى نسخة مكررة من منطق كوكب. عقّب ّالمجريطيّ قائلا:

ــ   ربّما تحلّها الأيام !

ــ   وربّما تعقدّها أكثر. بعض هذه الأمور لا تحلّ هنا، بل تصبح ألغازاً مستعصية على الحلّ مع مرور الأيّام. فلا تتعب نفسك بها. ولا أنصحك أن تناقش هذا الموضوع مع أحد. ربّما سيفسد هذا صفو حياتك.

صفو حياته ! كيف تصفو حياته من دونها، وكيف يصل إليها  من دون أن يغرق في ما يعكّر صفو حياته !

أأصبح الوصول إليها  لا يمرّ إلاّ بدروب تقود إلى الابتعاد عنها؟ أأصبح اقترابه منها وسيلة للنأي عنها؟

أأصبح فقدان صفو حياته ثمنا للوصول إليها ؟

أغلقها أبو مهديّ في وجهه. جاء إليه لكي يعينه على فتحها، لكنّه لم يفعل سوى مساعدته على إغلاقها. فرحة اكتشاف قمر قتلها أبو مهديّ بتطيّره وتنظيراته ووساوسه، وكثرة بحثه عن الاحتمالات. حسناً فعل حينما أخفى الأمر عنه، عليه أن يشقّ طريقه بنفسه، بعيداً عن نظرة أبي مهديّ المثبطة للعزائم.

عاد إلى البيت. في طريقه إلى بيته أصرّت قدماه على حمله حملاً، لكي يمرّ خلسه بالبيت الكبير وما يحيط به من منازل العائلة. في مكان ما من هذا الجزء الصغير من بغداد توجد هي. ماذا عساها تفعل الآن؟ أتشعر هي بوجوده، بدبيب قدميه قرب ضفافها؟

كلّما اتسعت ضاقت. فكّر المجريطيّ " لقد أغلقها أبو مهديّ في وجهي. لا بدّ لي أن أبدأ من دون مساعدته، أبدأ خطوة خطوة بنفسي. فما أوّله سعد آخره وعد !"

تناول مخطوطة البغدادي وراح يقرأ:

أخبرني محمد بن جرير أن أبا جعفر المنصور بويع له سنة ست وثلاثين ومائة وأنه ابتدأ أساس المدينة سنة خمس وأربعين ومائة واستتم البناء سنة ست وأربعين ومائة وسماها مدينة السلام.

أنبأنا أبو القاسم المظفر بن عاصم بن أبي الأغر قال دخلت إلى بغداد وهي أجمة ليس فيها إلاّ كوخ واحد وفيه رجل من الأولين ينظر مبقلة له فلما أن جاء المنصور ووضع الاساس قال ما اسم هذا الموضع قالوا لا ندري، ولكن ها هنا رجل من الأولين سله. فبعث إليه فقال له: ما اسمك؟ فقال: اسمي داذ، فقال له : وما يقال لهذا الموضع؟ فقال: هذا باغ لي، يعني البستان. فقال : سموه باغ لداذ. فسميت بغداذ.

وقال سمعت عبد الله بن المبارك يقول: لا يقال بغداذ بالذال فان بغ شيطان وداذ عطيته وإنها شرك ولكن تقول بغداد وبغدان.

وقال أيضا: أنبأنا سلمة  بن عاصم عن أبي زكريا يحيى بن زياد الفراء مولى بني عبس قال يقال بغداد بالباء والدال ويقال بغدان أيضاً بالباء في أولها والنون في آخرها ومغدان بالميم أولا وبالنون آخرا.

 

(10)

فرغ المجريطيّ من تدوين بعض ملاحظاته، وضع القلم والقرطاس جانباً، وأخذ مخطوطة البغداديّ مجدداً وراح يقرأ فيها:

حدثني أبو عبد الله أحمد بن يوسف بن الضحاك قال سمعت أبي يقول سمعت بشر بن الحارث يقول بغداد ضيقة على المتقين ما ينبغي لمؤمن أن يقيم فيها، قلت له فهذا أحمد بن حنبل فما تقول؟ قال: دفعتنا الضرورة إلى المقام بها كما دفعت الضرورة المضطر إلى أكل الميتة.

اختلف الفقهاء في الأرض التي يغنمها المسلمون ويقهرون العدو عليها فذهب بعضهم إلى أن الإمام بالخيار بين أن يقسمها على خمسة أسهم فيعزل منها السهم الذي ذكره الله تعالى في آية الغنيمة فقال واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه الآية ويقسم السهام الأربعة الباقية بين الذين افتتحوها فإن لم يختر ذلك وقف جميعها كما فعل عمر بن الخطاب في أرض السواد، وممن ذهب إلى هذا القول أبو حنيفة النعمان بن ثابت وسفيان بن سعيد الثوري.

لما افتتح المسلمون السواد قالوا لعمر بن الخطاب: اقسمه بيننا فأبى فقالوا إنا افتتحناها عنوة. قال: فما لمن جاء بعدكم من المسلمين؟ فأخاف أن تفاسدوا بينكم في المياه وأخاف أن تقتتلوا. فاقر أهل السواد في أرضهم، وضرب على رؤوسهم الضرائب يعنى الجزية، وعلى أرضهم الطسق يعنى الخراج، ولم يقسمها بينهم.

 وقال وكيع القاضي لم تزل بغداد مثل أرض السواد إلى سنة خمس وأربعين ومائة.  قال الخطيب يعني إنها كانت تمسح ويؤخذ عنها الخراج حتى بناها أبو جعفر المنصور ومصرها ونزلها وأنزلها الناس معه.

توقف المجريطيّ عن القراءة وهو يراها تخرج من بين السطور، قويّة جبّارة، تمتطي أسداً هصوراً وتحمل سوطاً، كلّما ضربت به الأرض تطاير الشرر؛ حاجباها سيفان، وسواد عينيها الواسعتين  يفتت صلابة الحجر الصوان، وقوامها المتين يرهب أعتى الفرسان.

دُقّ الباب. تنبّه المجريطيّ. من يأتي في هذا الليل؟ أهو أبو مهديّ أدرك أمراً فاته وجاء به قبل أن يُنسيه النوم إيّاه؟

فتح الباب فوجد الفتى كوكبا يقف باسما بحياء، وحلّة جديدة بيضاء،عطرة تكسو جسده، وتحيل لون بشرته السوداء، إلى معركة متخاصمة الألوان.

ــ   مساء الخير يا سيّدي، واعذرني لأنّني جئت في مثل هذا الوقت.

ــ   هل تريد شيئا؟

ــ   لا يا سيّدي، لا أريد شيئا، لكنّني لم أستطع تأجيل الأمر إلى يوم غد، ربّما هذا حمق منّي، لكنّني أردت أن أريك أنّني...

أوقفه المجريطيّ وهو يرى ارتباكه وخجله، وأفسح له المجال للمرور وقال:

ــ   لي عينان يا كوكب، أنا أرى ثيابك الجميلة، وأشم هذا العطر الزكيّ، فلا داعي لأن تخجل...

فكّر المجريطيّ في كلامه الجارح ووعيد القيّم وسخرية أبي مهديّ. لا حدود لمكرك يا بغداد، ولا منطق يستطيع الإحاطة بانفعالاتك الظاهرة والمستترة.

ــ   لا أريد أن أشغلك يا سيّدي، ولكنّي أريد فقط أن أعيد إليك هذه.

نطق كلماته بعسر، ووضع النقود التي منحها له المجريطيّ يوم أمس على المنضدة.

ــ   ما هذا يا كوكب ! هذه لك، منّي، أترفضها؟

ــ   لا، ولكن اعذرني يا سيّدي.

ــ   إذاً، ضايقك أبو محمد.

 ــ   لا يا سيّدي،؛ لكنّ سّيدتي وبّختني حينما عرفت أنّي أخذت منك النقود، وغضبت حينما عرفت أنّي أزورك بملابس العمل.

ــ   أي السيّدتين؟

ــ   ليس لي سوى سيّدة واحدة، يا سيّدي. وقد وبّختني بحضور الجارية شمس، فراحت شمس تسخر منّي طوال الوقت، لذلك قرّرت أن أراك لكي أعتذر منك، حتّى تكف شمس...

ــ   اجلس يا كوكب ! لا تهتم بشمس ! وقل لي كيف، أعني صف لي ماذا قالت سيّدتك على وجه التحديد؟

ــ   طلبت منّي أن أمتنع عن المجيء إليك.

ــ   تمتنع !

ــ   نعم، فأنا  في رأيها لا أصلح أن أكون خادماً لرجل مثلك، جاء من الأندلس.

ــ   قالت من الأندلس؟ أم أنّك...

ــ   قالت من قرطبة.

قفز المجريطيّ بخفة إلى خزانة قريبة، فتحها وأخرج منها منديلاً حريرياً، مطرزاً بخيوط الذهب، وضعه حول رقبة كوكب، وقال:

ــ   هذا منديل لا يهدى إلاّ للملوك وللشعراء العظام. أنت اليوم ملك هذا المكان وشاعره الأكبر.

دهش الفتى، وظنّ أنّ المجريطيّ يسخر منه، فانكمش جسده وقال:

ــ   أنا لم أفعل ذلك عن قصد. وإذا سامحتـَني ستسامحني هي أيضا.

ــ   من دون شك أنا أسامحك، خاصّة أنت تلبس هذه الثياب العطرة. ولكن لنترك هذا الموضوع، وقل لي: ما الفرق بين سيّدتك قمر وتلك التي هناك؟

ــ   سيّدتي قمر بسيطة، لكنّ السيّدة هناك ابنة أناس كبار، وهي قوّية وصارمة وشديدة التدين.

ــ   وما شأنك أنت بشدّة تدينها؟

ــ   ليس هذا ما أعنيه، وإنّما أعني أنّ سيّدتي قمر قبل أن تفقد زوجها كانت مرحة وودودة، ولم يكن يمضي يوم من دون أن أجلس معها على مقعد واحد أغنّي لها. أما تلك، حينما سمعت يوماً بأنّني أجيد الغناء، هدّدت أن أكوى بالنار، لو أنّني لن أكف عن هذه الموبقات.

ــ   هذا فقط؟

ــ   هذا كثير عندي، فانا لا أستطيع أن أحيا بلا غناء. الغناء في دمي.

ــ   لهذا كنت أسمعك تدندن وأنت تشتغل.

ــ   كنت واثقاً أنّك تصغي إليّ، وأنّك ستعجب بصوتي، كما أعجبت سيّدتي.

ــ   الآن اخبرني لماذا لم تستطع تأجيل اعتذارك للغد؟

ــ   لقد قلت لك، تلك الخبيثة شمس، لم تكفّ عن مناكدتي ولن تكفّ.

 ــ   لا أظنّ أنّها ستستمر لأنّي سامحتك، وبيتي مفتوح لك في الأوقات كلّها. ولكن، هناك أمر آخر غير هذا، أليس كذلك؟

ــ   سأقوله لك،  ولكن لا تسخر منّي.

ــ   أعدك.

ــ   متى تعود إلى الأندلس؟

ــ   هل ضجرت منّي؟

ــ   لا يا سيدي، ليس هذا.

ــ   هل يرضيك لو قلت لك: لا أعرف متى أعود.

ــ   لا تعرف ! ماذا تعني لا تعرف يا سيّدي؟ هل أنت عبد مثلي؟

ــ   ربّما، كلّ واحد منّا عبد لظروفه وضرورات حياته.

ــ   لا أفهم ماذا تعني يا سيّدي.

ــ   ولن تستطيع، لكنّي أعدك بأنّني سأخبرك حينما أنوي العودة. ولكن، لماذا تسأل عن هذا؟

ــ   هذا ما جئت من أجله. لقد فكّرت في الأمر مليّاً، وربّما لا أستطيع أن أفكّر في شيء آخر سواه. وحينما غضبتَ عليّ وغضبت سيّدتي اسودّت الدنيا في عينيّ، وقلت يا كوكب ضاعت أحلامك كلّها، وضاعت معها حياتك سدى.

ــ   وكيف أستطيع مساعدتك؟

ــ   أن تسمح لي بالذهاب معك إلى الأندلس.

ــ   كيف؟ وهل توافق سيّدتك؟

ــ   طبعا لا.

ــ   كيف تسافر إذاً؟

ــ   أهرب.

ــ   أنت مجنون يا كوكب ! ألا تعرف عقوبة الهروب ! ماذا ستفعل لو قبضوا عليك؟

ــ   معك لن يقبضوا عليّ.

ــ   هل فكّرت حقـّا في هذا؟

ــ   في كلّ ساعة، وفي كلّ لحظة منذ رأيتك.

ضحك المجريطيّ كما لم يضحك من قبل. هذا يريد أن يهرب إلى الأندلس التي هرب هو منها ! هذا العبد يريد أن يجد حريته هناك، وهو الحرّ يبحث عن عبودية مختارة هنا ! أيّ أقدار عجيبة هذه !

ــ   وماذا ستفعل في الأندلس؟

ــ   أريهم غناء المشرق يا سيّدي والأدوار البغداديّة. أنت لا تصدق أنّني. ..

ــ   أنا أصدق، ولكن ألا تعتقد أن هذه خيانة لسيّدتك.

ــ   ولكنّني لست مملوكاً لأحد بعينه.

ــ   في هذه الحالة أنت مملوك لعائلة السيّد الكبير.

فجأة قفز كوكب وأمسك يد المجريطيّ وراح يقبّل كفه.

ــ   سامحني يا سيّدي، لا تخبرهم بما قلت، فأنا أكذب، أنا أردت أن أسليّك لا أكثر...

ــ   لا تخف يا كوكب ! أنا لست ضد أحلامك حتّى لو كانت مهلكة، لكنّني خشيت أن تقول مثل هذا لأحد غيري.

ــ   أعدك لن أفعل، حتّى معك.

ــ   معي تستطيع أن تفعل هذا.

ــ   تعني أنّني أستطيع أن أسألك من حين إلى آخر متى نويت السفر؟

ــ   نعم، افعل هذا. ولكن لديّ طلب بسيط أرجو أن تحققه لي.

ــ   اطلب ماشئت.

ــ   أنت قلت إنّك تغنّي لسيّدتك دائماً، ولكن هل تستمع إليك الآن وهي لم تزل حزينة؟

ــ   نعم، إذا كانت الكلمات جيدة  وخالية من الميوعة. وغالباً ما يؤنسها أن تغنّي معي هذه الأبيات:

سأحفظ غساناً على  بعد  داره                وأرعاه حتى الملتقى يوم   نحشر

 وإني لفي شغل عن الناس كلهم              فكفوا فما مثلي بمن مات يغدر

 سأبكي  عليه  ما  حييت بعبرة              تجول  على  الخـدين   مني  وتحدر

ما رأيك بهذا؟

انكمش المجريطيّ وانقبض قلبه، لكنّه قال:

ــ   جميل ! ولكن ألا تراه حزينا جداً يا كوكب؟

ــ   نعم، حينما أسمعها تردده تتقطع أوتار قلبي وأبكي.

ــ   سأقرأ لك بعض الأبيات، وقل رأيك إذا كانت مناسبة.

اسمع هذه الأبيات:

        لا تَعـذَلِيـه  فَـإِنَّ العَذلَ  يُـولِـعُـهُ        قَد  قُلـت  حَقـاً، وَلَكِـن  لَيـسَ   يَسمَعُه

       جاوَزتِ فِـي نصحه   حَدّاً   أَضَرّ بِـهِ        مِـن حَيـثُ قَـدّرتِ أَنَّ النصح يَنفَـــعُـهُ

         قَد كانَ مُضطَلَعاً بِالخَطب يَحمِلُـهُ        فَضُلـّعَـتْ  بِـخُـطُـوبِ الـبين أَضلُـعُـهُ

        ما  آبَ مِن سَـفَرٍ   إلاّ   وَأَزعَـجَــهُ       عزم   إلى    سَـفَـرٍ   بِـالـرغـمِ    يُـزمِـعُـهُ

      كَأَنَّما  هُـوَ  فِي  حِـلِّ    وَمُرتـحلٍ       مُـوَكَّل      بِـفَـضاءِ     الـلَـهِ   يَــذرعــهُ

ــ   هذا الكلام الذي أبحث عنه يا سيّدي، أعدك بأنّني سأسمعك إياه غناء يوم غد. أعدك، لن تمر هذه الليلة إلاّ وأنت ترى كلماتك مغناة بأجمل لحن.

ــ   سأسمعه منك، ولكنّني أريد قبل ذلك أن أسمع وقعه على نفس سيّدتك، ربّما سيخفف بعض أحزانها.

أهو في الطريق إليها ؟ أهي حقاً قريبة إلى هذا الحدّ، يكاد أن يسمع أنفاسها ويشم عطرها؟ ولو اتضح له أن ما يقوم به ليس سوى وهم، ماذا تراه سيفعل بنفسه وبأوهامه؟ إلى أين ستقوده؟ ولكن، من يدري ماذا تخبّئ الأيّام ! وماذا تخبّئ له النجوم.

 فتح مخطوطة الرسائل وراح يقرأ كلمات إخوان الصفا: اثنان منها ــ  الكواكب السيارة ــ  نيّران وهما الشمس والقمر، واثنان منها سعدان وهما المشترى والزهرة، واثنان منها نحسان وهما زحل والمريخ، وواحد ممتزج وهو عطارد...

أهو مطوق بالنيران والنحس؟ مطوق بين فلكين حارقين وفلك ثالث، تائه في الفضاء، بلا هدف ولا مسار؟

عاد كوكب في اليوم التالي .كانت علامات النجاح واضحة على وجهه. قبل أن يأذن له المجريطيّ بالدخول بادره قائلا:

ــ   استحسنت سيّدتي القصيدة، بل عشقتها وحفظتها دفعة  واحدة.

ــ   هل سألتك عن صاحبها؟

ــ   طبعاً، وأخبرتها. قلت لها إنّها  للأندلسيّ، أعني لك، فوقعت في غرامها فوراً.

ــ   غرام من؟

ــ   قصيدتك.

ــ   ولكنّها ليست لي.

ــ   كنت أظنّها لك.

ــ   يجب أن تصحح الأمر لها، وتخبرها بأنّي لست سوى ناقل.

ــ   وهل هذا ضروري؟

ــ   بكل تأكيد، وهل يرضيك أن نكذب وندلّس في أمر كهذا؟

ــ   ولماذا لا ! دعها تفرح بها، إنّها في حاجة إلى شيء يسلّيها.

ــ   تستطيع أن تتسلى بها، من دون أن نكذب عليها.

ــ   ولكن، ربّما كان اهتمامها أبعد من القصيدة، أبعد من الكلمات.

ــ   ماذا تعني يا كوكب؟

ــ   حقيقة هي سألتني كثيراً عنك شخصيّاً، طبعاً من خلال القصيدة، حتّى أني...

ــ   حتّى ماذا يا كوكب؟

ــ   لا، هذا تفكير سخيف. لا شيء يا سيّدي. هي سألتني عن معاني القصيدة وقالت إنّها رقيقة، وإنّ رقتها دليل عن بيئة حضرية وألفاظها صادقة، ومعانيها معبّرة.

ــ   ما رأيك لو أسمعتك شيئاً جديداً.

اسمع هذه الأبيات:

   أستَودِعُ  اللَـه، فِـي بَغـداد،لِـي قَمَـراً        بِالكَـرخِ مِـن فَلَـكِ الأَزرارِ مَطلَـعُـهُ

  وكـم  تشفـّعَ  بـي  أن  لا أفــارقــــــهُ،                   وللـضـروراتِ     حـال     لا تُـشَـفـّعُــهُ

وَكَم تَشبَّثَ بـي يَـومَ الرَحيـلِ   ضُحَـىً،       وَأَدمُـعِـي  مُسـتَـهِلّاتٍ  وَأَدمُعُـــهُ

أعطيتُ مُلكـاً  فَلَم أَحسِـن سِياسَـتَهُ،       وَكُـلُّ مَـن لا يُسُـوسُ المُلـكَ يَخلَعُـهُ

حينما ذهب كوكب لبث المجريطيّ يفكّر في أمر واحد ظلّ يسيطر على تفكيره: "ربما كان اهتمامها أبعد من القصيدة، أبعد من الكلمات."  هل يعني كوكب شيئاً محدداً؟ أهي لعبة فنية من ألاعيب كوكب يريد أن يشتري بها قربه،  أم أنّها حقيقة؟ لماذا غيّر رأيه ولم يكمل؟ هل هي حقاً مهتمّة بالنصّ إلى هذا الحد؟ هل أرادت أن تخفي معرفتها بالنص وتموه لكي لا يكتشف صلتها الحقيقيّة بالقصيدة، ولا يتيقن من إدراكها أنّها قيلت فيها، وأنّها قصيدتها شخصيّا؟

في اليوم التالي، حضر كوكب وهو قلق، وأخبره أنّ سيّدته استحسنت الشعر، لكنّها أخبرته أنّها لا تود منه أن يغني مثل هذه الأبيات، لأنّها ربّما تخصّ بعض حرمات الناس.

ــ   ماذا تعني بحرمات الناس؟ أيّ ناس؟

ــ   لا أدري. أنا لا أسأل مثل هذه الأسئلة، أنا أطيع فقط.

حاول المجريطيّ النبش أكثر في ما قاله كوكب سابقاً عن القصيدة. حاول معرفة تأثيرها على نفس قمر. هل تحاول أن تستر مشاعرها، لكي لا تنفضح أمام خادمها؟

لم يعد المجريطيّ يعيش في مرحلة الشك أو مرحلة عدم اليقين. بهذه التفاصيل القاطعة والحاسمة تأكد تماماً أنّه وصل إلى هدفه، وأنّ قمرَ هي ذاتها قمر التي كتب عنها ابن زريق. وأنّه ما من أمرأة أخرى في الكون يمكن أن تنطبق عليها كلّ هذه الوقائع.

ولكن، ما شكلها؟ ما وضعها؟ والأهم كيف السبيل إليها ، وكيف السبيل إلى قلبها؟

وللمرّة الأولى في حياته يحسّ المجريطيّ أنّ الجنّة لم تكن قريبة يوماً ما من قدميه، كما هي الآن.

أمارات كثيرة غير محسوسة بدأت تظهر على عجل وتمنحه اليقين بأنّها هي. إنّها قمر، قمر التي بحث عنها وهاجر من أجلها وعبَرَ الفلوات وقطع البحار. هي.

لمسات أنثويّة جميلة شرعت تظهر في بيته: أرغم كوكب على عدم المجيء من دون نظافة وعطور، وبدأت تظهر روح نسائيّة ناعمة وأنيقة على المائدة والملابس والأفرشة، أمّا الأكل فأضحى يأتي من مطبخ قمر، وبعضه مطبوخ بيديها.

أدرك المجريطيّ أنّها تريد أن تدسّ دسّاً أنثويّاً رقيقاً روحَها وتبثُ أنفاسها في كيانه، تريد أن تُنبت ورودها السحريّة في كلّ زاوية من زوايا بيته. لم تعد وهماً أو حلماً، لم تعد طيفاً يصرع العشّاق ويورثهم خبل الهيام. لم تعد موجودة في مكان خفيّ ما، هي موجودة هنا، موجودة في تفاصيل يومه وفي تفاصيل أشيائه البيتيّة، مبثوثة في هواء غرفة نومه، فوق أغطية سريره، على وسادته، في أنفاسه، في أبصاره، في فمه، وفي دمه.

ظلّ كوكب يخبر المجريطيّ بهذا أولاً بأوّل، حينما تفوته ملاحظة ما هو جديد، حتّى ظنّ أنّ كوكباً نفسه ربّما يفعل ذلك لكي يتقرب منه ويتظاهر بأنّه يفعل ذلك لصالح سيّدته. أهي ترشوه؟ أما حانت اللحظة المناسبة التي سيكاشفها بالأمر؟ ولكن، لماذا تتأخر بالإعلان عن نفسها لو أنّها هي؟ لماذا ينكر الجميع صلتها بهذا الاسم: ابن زريق؟

كم تختلف خبرات الخيال عن خبرات الحياة!

  بقدر ما كان المجريطيّ يحسن ويجيد التلاعب بصورها، وبمجرى أخيلته عنها، يجد نفسه الآن عاجزاً عجزاً تاماً عن القيام بأيّة خطوة نحوها. كأنّه ما عاد قادراً على التفكير، كأنّ مقدرته على الفعل شُلت، وأضحى عاجزاً عن التقدم. لكنّه رغم ذلك بدأ يشعر أنّ عواطفه السخيّة وأخيلته الجامحة أخذت تتجه إلى نقطة محددة، والى هدف شديد التعيين، يضاعف من رغباته، لكنّه يزرع في نفسه الخوف والرهبة والإحساس بالخطر: أن لا تكون هي، أن يكون مخدوعاً، أن تصدمه برفضها، أن تكون قد اختارت حياة أخرى؟ آلاف الأسئلة القاتلة ظهرت فجأة من حيث لا يدري. أسئلة لم تخطر على باله من قبل تهاجم رغبته في الاقتراب منها، وتؤجج في نفسه الخوف من الهزيمة، والخشية من ضربات الخيبة.  لم يترك وسيلة لم يفكّر فيها، حتّى أنّه قرّر أن يفاجئ كوكباً، ويحاول شراءه بالوعود، وأن يرسل إليها  مزيداً من الرسائل المباشرة، الموثوقة.

طلب من كوكب أن يغنّي له بعضاً من قصيدة ابن زريق، وحينما انتهى منها قام ووضع الخاتم ذا الفص الأحمر في إصبع كوكب، وقال له:

ــ   هذا الخاتم لا يصلح إلاّ ليد مغن سيطرب الكون كلّه.

تقبّل كوكب الخاتم بفرح، وطار به من فوره، لكنّه عاد مساء ووضعه خلسة على المنضدة فوق الرقعة التي كُتبت عليها قصيدة ابن زريق.

لم يستفسر المجريطيّ عن سبب إرجاع الخاتم، وعن مغزى وضعه على قصيدة ابن زريق، خشية أن تكون تلك بداية نهاية حلمه. فضّل أن يحتفظ بالوهم أطول فترة ممكنة.

حينما غنّى له كوكب، أحسّ المجريطيّ أنّه كاد ينسى تلك البلاد الرائعة التي تركها هناك خلف البحار. ولكنّ إعادة الخاتم أثارت أشجانه، وجعلته يفكّر في أنّه ربما نسج بيتا من بيوت العنكبوت، بيتاً واهياً من الكلمات والأخيلة والعواطف المتأجّجة.

قال المجريطيّ في لحظة شجن عارمة:

ــ   لو تعرف يا كوكب كم أهفو إلى قرطبة !

ــ   وأنا مثلك يا سيّدي.

ــ   ولكن، كلّ شيء في أوانه يا كوكب، فقرطبة ليست على ما يرام؟

ــ   أأصابها البرد والعيّارون؟

ــ   لكلّ مدينة عيّاروها وبردها...

ــ   ألم تنس وعدك لي؟

ــ   أنا لا أنسى يا كوكب، لا أنسى أبداً. أنا أستطيع أن أذكّرك بكلّ كلمة قلتها لي.

ــ   وأنا مثلك، أنا أحفظ... أعني أنّني أستطيع أن أحفظ بعض ما يردّد أمامي من أشعار تصلح للغناء.

ــ   لكنّني أتذكر كل كلمة تقال أمامي، كما لو أنّها نطقت الآن. هل تذكر حديثنا عن القصيدة؟

ــ   نعم.

ــ   وهل تذكر قولك إنّ سيّدتك استحسنت ألفاظها ومعانيها؟

ــ   نعم سيّدي أذكر، ولكن ما الذي ذكّرك بهذا؟

ــ   قرطبة يا كوكب، والحنين إلى قرطبة.

قفز  كوكب فرحاً:

ــ   هل اقترب أوان الرحيل يا سيّدي؟

ــ   ليس بعد، ولكنّ الفراق قاس.

ــ   نعم قاسٍ، قاسٍ جدّاً، ولو أنّني في مكانك لعدت فوراٍ، ماذا يفعل المرء هنا في مدينة أحوالها مضطربة وناسها مختلفون مختصمون ! الأندلس هي حاضرة الدنيا الآن يا سيّدي.

ــ   أنا أتحدث عن الحنين يا كوكب، المرء يحنّ إلى بيته حتّى لو كان عشّاً من قشّ.

ــ   ولكنّك على أيّة حال لا تملك بيتاً من القشّ، لقد أخبرتني أنّك تملك ضياعاً واسعة قرب الجبال. وربّما لهذا يا سيّدي تشعر أنّ الحنين قاس ! هل تريد أن أسمعك شيئاً عن الحنين؟

ــ   سأسمعك بعد أن تجيبني عن سؤالي: ألم تقل لي إنّ سيّدتك استحسنت كلمات القصيدة ومعانيها؟

ــ   نعم، قلتُ هذا.

ــ   وإنّها قالت فيها...

ــ   تريد الحقّ، لم تقل ما قلته لك، قالت غير ذلك.

ــ   وقمت بتحريفه؟

ــ   أستميحك عذراً، يجب  أن أعترف بهذا، نعم لقد غيّرت الكلام.

ــ   لماذا يا كوكب؟ نحن أصدقاء، وسنكون رفاق طريق طويلة. تخيّل طول الرحلة إلى الأندلس ! كيف تخفي على من يقاسمك طريقاً كهذه بعض الكلمات العابرة؟

ــ   لكنّها ليست عابرة.

ــ   لم أعد أفهمك يا كوكب، هل تخفي شيئا؟

أحسّ المجريطيّ فجأة أنّه على خطأ مطلق، وأنّه يئس من دون سبب معقول، وأنّه عثر عليها، على قمر، وأنّ إحساسه بأنّها هي لم يخنه، وأنّها لا بدّ أن تعترف عاجلاً أم آجلاً بحقيقتها. لن تستطيع أن تخفي نفسها عنه أكثر. ولن تقاوم أكثر. سترفع راية الاستسلام. قلبه يخبره بذلك.

ــ   أنت لا تحترم صداقتي يا كوكب.

ــ   بالعكس سيّدي، أنا غّيرت الكلام لأنّني أحترمكما معاً، أنت وسيّدتي، بنفس المقدار.

ــ   غّيرت كلامها وأسمعتني كلاماً محرّفاً، أهكذا يكون الوفاء؟

ــ   كنت أريد أن لا أجعلك تفسر كلامها تفسيراً، قد يضرّك أو يضرّها.

ــ  كيف يا كوكب، ماذا قالت؟ قل ودعني أكون مسؤولاً عن نفسي وعن تفسيراتي.

أظهر المجريطيّ شيئاً من الغضب، وهو انفعال لم يستطع السيطرة عليه، لكنّه انفعال نافع،لأنّه حقق غرضه.

ــ   قالت سيّدتي، إن كاتبها من بيئة حضريّة، وإنّه رقيق النفس، عميق التفكير، ومحبّ صادق.

ــ   هذا صحيح، لا بدّ أن يكون كاتبها كذلك. ولماذا أخفيت الأمر عنّي، ما العيب في هذا القول؟

ــ   ليس في هذا القول، ولكن في أقوال أخرى؟

ــ   مثلا؟

ــ  حقيقة هي بدأت منذ أن سمعت القصيدة تسألني عنك كثيراً، عن حياتك الشخصيّة هنا، وحتّى عن أحوالك في الأندلس، وسبب سفرك من الأندلس، وسبب اختيار بغداد، وعن عائلتك ومزاجك، وحتّى عن شكلك. أقول بصراحة سألتني حتّى عن شكلك، وهي غير معتادة على الاهتمام بمثل هذه الأمور.

ــ   ولهذا السبب كنت تسألني عن الأندلس وعن حياتي و أهل بيتي، ولكنّني أخشى أن تكون. ..

ــ   لا، والله لم أختلق شيئاً من عندي، كنت أنقل ما أسمعه منك.

ــ   وماذا رأيت منّي وعرفت عنّي؟

ــ   كلّ ما هو طيب وجميل.

ــ   وهل أخبرتها بمشروعك الأندلسيّ؟

ــ   لا، ولكنّني لمّحت لها بأنّني سأكون سعيداً لو خدمتك أثناء رحلة العودة.

ــ   وماذا قالت؟

ــ   قالت ضاحكة: وهل سيشتريك منّي؟

ــ   لقد ذهبت في الأحلام بعيداً يا كوكب.

ــ   يا سيّدي، ربّما أنت لا تعرف أنّني أقضي يومي كلّه  في الأحلام، أنا أحلم وأحلم وأحلم وأحلم وأحلم.

ــ   وماذا حلمت حينما قالت لك ذلك الكلام الجميل عن صاحب القصيدة؟

ــ   حلمتُ أنّها يمكن أن تجعلك تؤخر العودة إلى الأندلس.

ــ   هذا حلم خائب يا كوكب، أرجو أن لا تحلم لي مثل هذه الأحلام.

ــ   لو أنك رأيت سيّدتي لحلمت بما هو أبعد من هذا.

ــ   وهل هي جميلة إلى هذا الحدّ؟

ــ   كلمة جميلة ربّما لا تكفي لوصفها. ولو لم تكن كذلك لما وقع سيّدي المرحوم في حبّها وهو متزوج من أجمل بنات بغداد وأعلاهن مقاماً وأصلاً؟ لماذا اختصم مع أهله كلّهم بسببها؟ لماذا فضّل ابنة سائس خيل على ابنة كبار الطالبيين وأقرب أقربائه؟ لماذا إذا لم تكن بهذا الجمال؟

ــ   وربّما لهذا السبب هي حزينة من أجله ولم تنزع ثوب الحداد.

ــ   ليس فقط لهذا  السبب، لأنّها امرأة وفيّة إلى أبعد الحدود.

ــ   إذا كانت هي كذلك، لماذا قلت إنّك خشيت من كلماتها عليّ وخشيت من كلمات القصيدة عليها؟

ــ   هذا خيال يا سيّدي، خيال عبيد، لا أكثر.

بهذه الطريقة يستطيع كوكب أن يهرب. فبالحلم يهرب من قيود العبودية القاسية والصارمة، وبالعبودية يهرب من قيود الواقع وأسره. لعبة ماكرة لا يجيدها إلاّ كائن صادر الآخرون حقـّه الطبيعيّ في إدارة وتصريف شؤون وجوده الشخصيّ.

لكنّ هذا المكر كلّه لا يستطيع أن يخفي حقيقتها عنه، حقيقتها التي تحتجزها تحت أغطية سميكة من الخلافات العائليّة والسياسيّة والاجتماعيّة والنفسيّة، ولن يستطيع أن يقتل جنين الصدق المزروع في رحم وجودها.  ولن تستطيع هي أن تنجو من ثورة العاطفة، مهما مكرت وقست وبالغت في إنكارها. لن تستطيع.

إنّه يراها قادمة نحوه، مندفعة بقوّة المشاعر الصادقة، بقوّة سحر العشق الذي لا يقاوم. آتية إليه قريباً. آتية لا محالة.

 

(11)

لم ينتظر المجريطيّ طويلا.

 المجريطيّ الذي غدا خبيراً ببغداد، بفنونها وشوارعها، بشِعرها ومساجدها، ببساتينها وغنائها، بنهرها، بضفـّتيها، لم ينتظر طويلاً قدوم قمر. كان واثقاً تماماً من أنّها ستأتي. وقد جاءته بنفسها. جاءته فجأة، كما تأتي الأحلام، حتّى أنّه كاد أن يجنّ.

حينما فتح المجريطيّ باب داره صباحاً، لم يكن الطارق كوكباً، كالعادة. كانت امرأة تقف في الباب.

كاد قلبه أن يتوقف.

لو أنّها لم تنطق لهجم عليها وضمّها إلى صدره.

قالت المرأة:

ــ   أنا شمس، هل أستطيع الدخول يا سيّدي؟

 ردّ بخيبة، ولكن بفضول عظيم:

ــ   نعم، تفضلي  يا شمس.

دخلت شمس وراحت تنظر إلى أرجاء البيت، تتفحصه بعناية:

ــ   طلبت منّي سيّدتي أن آتي إليك.

ما أوسع رحمتك يا رب ! شهق المجريطيّ في أعماقه، وقال:

ــ   أهلاً بها وبك.

ــ   طلبت منّي أن أخبرك بأنّها تريد أن تقابلك بأسرع وقت، ولكن يجب أن لا يعلم أحد بمجيئي، حتّى كوكب؛ وأن لا يعلم أحد بهذا اللقاء البتـّة.

ــ   وأين نلتقي؟

ــ   هذا هو الأمر الذي تريد أن تعرفه منك.

فكّر المجريطيّ في بيت الضفـّة الثانيّة وقال:

ــ   هذا عنوان بيتي، وهو بعيد عن الكرخ، سأكون هناك قبل الظهر.

ودعته وخرجت.

أغلق الباب، وأسند كتفه عليه، وهو مأخوذ تماما، يكاد لا يصدق أنّ ما حدث توّا كان حقيقة. إنّها هنا. قمر هنا يا ألفيرة، قمر وليس خبل الهيام. قمر يا ألفيرة البعيدة الغارقة في الوهم، أتسمعين ! قمر، قمر الكرخ.

لبس المجريطيّ ملابس ابن زريق. وتذكّر عبارات سعيد: عراقيّ أصيل، هذه الملابس تقلل من فضول الناس. لكنّه لم يلبس ملابس ابن زريق خشية من العيون؛ على العكس، كان يريد من العيون أن تراه، ولكن ليس كلّ العيون، عيونها هي، عيونها وحدها.

انتظر في بيت أبي بكر وهو يعدّ اللحظات، حتّى سمع طرقاً على الباب. فتح الباب فرآها. كانت بصحبة شمس. لكنّه لم ير أحداً سواها، ولم يعرف من أوصلها وكيف جاءت. لبث منشباً أنظاره فيها، يرتجف هلعاً وهو يراها تمشي أمامه، مثل طيف امرأة يخرج من الحلم ويسير أمام المرء.

ومن خلف الخمار جاءه صوتها ناعماً، مختلجاً:

ــ   ليس لدي وقت طويل، سنتحدث على عجل وأنصرف.

ردّ وهو يشير إلى غرفة الضيوف:

ــ   تفضلي.

لكنّ قمرَ لم تتحرك، أشارت إلى شمس أن تبتعد، وقالت:

ــ   سنجلس هنا، ولكنّي أريد أن تجلس شمس على مبعدة، لأنّني سأقول لك كلاماً لا أريد أن تسمعه.

جلسا في باحة الدار، وجلست شمس في ركن بعيد تنظر إليهما، كما لو أنّها تحرسهما. اهتزّت مشاعر المجريطيّ قليلاً. على الرغم من جرأتها الجنونيّة، إلاّ أنّها ليست واثقة منه بعد. فكرّ كمن يتلقى طعنةً مفاجئة،  لكنّه راح يواسي نفسه، معتبراً  سلوك قمر تصرفاً حكيماً من امرأة حرّة، نبيلة.

ــ   اسمعني يا أندلسيّ وأرجو أن لا تسيء فهمي. لم أكن راغبةً في مقابلتك لولا حرصي الشديد وإدراكي لخطورة ما يحدث. أنا أعرف مقدار اهتمامك بي، من كثرة ما ينقله كوكب عنك. وأقدّر بحثك عن آخرين تريد مساعدتهم، وأنّك جشّمت نفسك عناء السفر بسببهم. هذه شهامة ما بعدها شهامة. لكنّني جئت لأمر مختلف تماماً. أرجو أن لا تتفاجأ به.

لم يشأ المجريطيّ أن يقاطعها، وفي حقيقة الأمر لم يكن باستطاعته مقاطعتها، لأنّه لا يعرف ماذا سينطق لو أراد فعل ذلك. لبث صامتاً كأخرس.

ــ   ما جئت من أجله عاجلٌ جدّاً، وقد يأخذ منحى خطيراً لو لم يتم تداركه فوراً.

غامت الدنيا في عينيه، ونطق بفم يابس:

ــ   أهذه الخطورة بسبب بحثي عن الاسم، أم  الغيرة عليك، أم لأسباب أخرى؟

ــ   الأسباب هنا ليست مهمة جدّاً، لأنّها تخلق بعضها بعضاً. الأسباب هنا تتناسل وتلد بعضها البعض. كلّ شيء يمكن أن يكون سبباً ويمكن أن يكون نتيجة في الوقت نفسه، لذلك لا ضرورة للغوص كثيراً في هذا. المهم أن تتنبه وأن تكون حريصاً في ما تكتبه من ملاحظات خاصة.

ــ   أتعنين تقاريري إلى السيّد عن أحوال مزارعه؟

ــ   لا أعرف ماذا تكتب له، ولكنّي أعني ملاحظاتك حول ما تقرأه وما تسمعه من أمور جدليّة وسياسيّة خلافيّة.

ــ   ولكنّ جلّ ما أكتبه موجود في بيتي في خزانة كتبي.

ــ   نعم، هذا ما أعنيه على وجه التحديد.

ــ   هل تعنين أنّ كوكباً...؟

ــ   نعم، أعني هذا.

ــ   وكيف سأتصرف معه؟

ــ   هذا هو السؤال الأهم، وهو الذي دفعني لمقابلتك وجهاً لوجه، لكي لا يساء فهم ما أريد قوله، فالحديث عن كوكب يعني الحديث عن أخطر جزء من الاحتمالات.

ــ   لكنّكِ لم تقولي لي كيف سأتصرف.

ــ   سأقول لك كيف، ولكن انصت إليّ جيّداً. لقد فكّرت في منعه من المجيء إليك، ولديّ حجج كثيرة يمكن استخدامها، ولكنّي وجدت أنّها لن تجدي نفعا، لأنّ من استخدم كوكباً سيستخدم غيره.

ــ   ولكن، ربّما يكون إبعاده مفيداً.

ــ   لا، الأمور هنا لا تقاس بهذا المنطق. لو أبعدت كوكباً سيجدون وسيلة أخرى، أليس كذلك؟

ــ   من دون شك.

ــ   السؤال هنا: ما الوسيلة التي سيستخدمونها؟ لا أحد يعرف سوى من يستخدمها. لكنّني لو أبقيت كوكباً سأجنبك عناء البحث عن مجهول يراقبك، وستجعلهم يطمئنّون إلى أنّ مهمّة مراقبتك تسير على ما يرام.

لذلك من الأفضل أن يظلّ كوكب في خدمتك.

ــ   ولكنّني، ربّما  لن أقدر على مداراة مشاعري، فهو خائن في نظري.

رقّ صوتها، وامتزج بضحكة ناعمة خفيفة تخلع القلب:

ــ   خائن ! كوكب لا يخون. ما يفعله مجرد تنفيذ لأمر تلّقّاه من شخص متنفذ لا يستطيع رفض طلبه.

ــ   ولكنّه يدرك أنّه يغدر بالآخرين...

ــ   ربّما لا يدرك الأمر بالطريقة التي تفهمها أنت. فهو لا يمكن أن يخونني، لذلك لا يخون أحداً يهمني أمره.

أراد أن يقول وهل أهمّك حقا ! والى أيّ حدّ؟ لكنّه أحسّ بخراقة السؤال، فقال:

ــ   وهل يؤثـّر هذا الأمر على وضعك الشخصيّ؟

ــ   لو لم يكن كذلك،  لما جرؤت على فعل ما أفعله الآن. كيف أحضر مع جاريتي إلى بيت غريب، مع رجل وحيد !

ــ   لكنّي لم أفهم بعد كيف يمكن لي أن أتعامل معه.

ــ   أرجو أن تفهم دوافعه جيداً، لأنّ فهمك هذا سيعينك على إيجاد طريقة صحيحة للتعامل معه. وكما قلت لك هو لا يخون، لكنّه ينفـّذ أمراً، وهو يعتقد أنّه غير مذنب لأنّ الأمر الذي ينفـّذه لا يخصّه، وهو غير مسؤول عن دوافعه ونتائجه واحتمالاته. فهو مرتاح الضمير.

ــ   كلّ المذنبين المحترفين يفعلون ذلك.

ــ   هكذا هي أحوال البشر، وهو واحد منهم.

ــ   ولكنّي لا أظنّ أنّي كتبت كلاماً يخرج عن المألوف.

ــ   هنا يكمن الخطر، في ظنّك هذا. لهذا السبب وجدت نفسي مضطرة لكي أحضر بنفسي وأوضح لك أنّ ظنّك الخاطئ هذا قد يصبح مصدرا للأذى والخطر.

ــ   وكيف عرفت كلّ هذا؟

ــ   طباع كوكب أعرفها، فهو مولود في بيتنا وقد تربى ونشأ عندنا. أما استغلال الآخرين لصفاته فهذا شأن أعرفه، لأنّني جزء من البيت الكبير.

ــ   هل تعنين أنّه يقرأ...؟

ــ   يملك كوكب حافظة مدهشة، يعرفها أهل البيت، ودرّبوه منذ طفولته على استخدامها لأغراضهم الشخصيّة. وحينما أصرّوا على أن يكون الشخص الذي يقوم بخدمتك أثاروا شكوكي، فهو شخص غير ملائم لمثل هذه المهمّات. لكنّ إصرارهم جعلني أفكّر في أنّ وراء هذا الاختيار غاية، فأخذت من حين إلى آخر أقوم باستنطاقه؛ وهو بالمناسبة يحبّك حبّاً لا يوازيه سوى حبّه لي.

ــ   مع هذا يخونني، يخوننا !

ــ   كما قلت لك هو لا يشعر بهذه الخيانة التي تراها أنت. هو ينقل ما يقرأه في ملاحظاتك. ومنها ما قد يستخدم ضدك، وقد يغدو دليلاً لاتهامك يوماً ما، لو أراد أحدهم ذلك.

ــ   هل لي أن أعرف بعض الأمور الخطيرة في ملاحظاتي؟

ــ   الكثير. المفاضلة بين الرضي والمرتضى لصالح الأوّل، التساؤل عن سبب تولية الرضي نقابة الطالبيين وهو الأصغر سنّا يثير علامات استفهام حول الثاني. الحديث عن تداخل المُلك والصراع بين الخليفة والمَلِك قد يقود إلى ما لا يُسر. هناك أمور صغيرة ربّما لا يلحظها غريب، حديث العهد ببغداد، وقد يمرّ عليها كشيء طريف، لكنّها قد تفسر تفسيراً ضاراً: كالحديث عن دق الطبول عند الأذان، والاحتفال بعيد الغدير، والحديث عن حرمة أرض السواد، وغرور مهيار، أو حتّى الإعجاب بشاعرية المتنبي.

ــ   وكيف تؤثر هذه الأمور على وضعك الشخصيّ؟

ــ   لا تؤثر فيّ بحدّ ذاتها، لكنّها قد تستخدم كذريعة، لو أنّها قـُرنت بغيرها من الأفعال، كبحثك عن شخص ما لا يعرف أحد صفته ووضعه.

ــ   وهل تنصحين بأن أكفّ عن كتابة ملاحظاتي، وأن أحذر كوكباً عند الكتابة؟

ــ   لا تبالغ في الحذر، ولكن كن يقظاً ! أما كوكب فلا تتخذ منه موقفاً عدائيّاً، لأنّه مسلوب الإرادة، وأنا واثقة من أنّه لا يفعل ذلك بدوافع الشرّ. لذلك أقترح أن تظلّ تعنى به وتظهر له الودّ، ولكن عليك أن تقوم فوراً بأمرين: أن تحرّف أقوالك وتجعلها تجميعاً لآراء طريفة تستحق النقد والمناقشة، وتناقشها وتحاججها، بما يُظهر أنّك مجرد ناقل، وأنّك تملك موقفاً نقديّاً يتعلق بما تنقله. كما يجب أن تقوم بأمر عمليّ أهمّ من كلّ هذا، هو أن تجعل كوكباً مرافقاً لك في رحلاتك إلى مزارع السيّد. فهو فارس ماهر أوّلا، ومصدر ثقة من قبل أسياده، وسيوفر لك وعليهم مهمّة تكليف مراقب آخر لا تعرفه. وبهذا تضمن وجوده معك في البيت وخارجه.

ــ   سيدتي الكريمة، هناك أمر لا بدّ من قوله الآن، بما أنّكِ هنا...

لم تدعه يكمل، قاطعته قائلة:

ــ   وأنا أيضاً لديّ ما أقوله لك، فدعني أفرغ من قولي لأنّني في عجلة من أمري...

دقّ الباب. أصيبت قمر بالذعر. ربّما كان الطارق سعيداً. دقّ الباب مرّة ثانية. فكّر المجريطيّ إذا لم يفتح الباب بنفسه، ربّما سيدخل سعيد بالمفتاح الذي لديه؛ ولكن، لو فتح له الباب لا يعرف كيف سيمنعه من الدخول، وإذا أدخله قد يثير شكوكه وتقع قمر في الفخّ.

أدخل المجريطيّ قمرَ وشمساً إلى غرفة نومه وانتظر قرب الباب، وفكّر: ربما سيشم عطرها وتغدو الجريمة أكبر، لو ظنّ سعيد أنّه يستخدم بيت العائلة لما يخالف الشرع والأعراف. دُقّ الباب مرّة ثالثة، ثم سمع المجريطيّ خطوات تبتعد.

تنفـّس بعمق وفكّر في الخطوة التالية: ماذا يجيبها؟

شعر المجريطيّ أنّه حبيس في داره، وأنّها حبيسة في غرفة نومه. كيف تشعر الآن وهي تقبع في محبس مضاعف؟ وكيف ستقابله وماذا سيقول لها، وهو الذي قادها إلى هنا! جاءت لكي تنقذه من عدو يراقبه فوضعها في سجن مرعب.

لم يعد الطارق، ربّما لم يكن سعيداً، ربّما كان أحد أفراد عائلة البغداديّ جاء يتفقـّد البيت.

فتح الباب ونظر إلى الاتجاهات كافـّة فلم ير أحداً. عاد إلى الغرفة وقال هامساً:

ــ   الطريق آمنة الآن.

خرجت قمر وشمس مسرعتين. مرّت قمر إلى جواره فشعر أنّها كانت ترتجف مثل سعفة، وأنّها تغادره بلا عودة.

خرجتا وأغلقتا الباب، فأحسّ كما لو أنّهما تغلقان عليه غطاء تابوت.

أيّ عقل يصدق ما حدث؟ جاءت بنفسها، جاءت ثمّ اختفت بلمح البصر من دون أن يتمكن حتّى من التأكد من حقيقة وجودها !

لبث المجريطيّ ينظر إلى الفراغ الذي خلّفته وراءها، إلى العدم الذي نبت على أنقاض وجودها المفاجئ وغيابها الأكثر فجاءة. هل حضرت حقـّا، أم أنّه انتقل من الوهم إلى الخبل الحقيقيّ ! أين هي؟ لا شيء منها هنا، لا شيء، سوى كلمات سمعها من خلف حجاب. أهي مجرد كلمات على ورق وكلمات منطوقة ! أهو الجنون؟

لا، هو يشمّ بقاياها، يشمّ ضوعها، يشمّ وجودها المخفيّ تحت طبقات الخوف والريبة والتملّك الأنانيّ.

هل فقدها؟ ألم يكن أنانيّا حينما أحضرها إلى هنا، من دون أن يفكّر في العواقب ! أهو يخون ثقتها، أم أنّه استجاب لعاطفته واستسهل الخطر واستهان به ! الخطر ! كم  سيصيبها منه لو افتضح أمرها؟ كم ستخسر امرأة مثلها تخرج من بيت مرجع كبير وتعود إليه بعد ساعة واحدة حسب، ولكن مدنّسة بالإثم والخيانة ! بماذا يختلف سلوكه عن سلوك كوكب؟ كلاهما يخون نفسه ! كلاهما لا يفكّر إلاّ في ما يعنيه مباشرة، كلاهما يستجيب لضغط قاهر يظنّه قدراً لا يمكن الخلاص منه، كلاهما عبد لأوهامه وأنانيته ورغباته الصغيرة. هل يمكن له أن يصلح ما فسد؟

ظلّ المجريطيّ يبكّت نفسه ويلومها ولم يجرؤ على العودة إلى دار الكرخ. لم يجرؤ على مواجهة عواقب واحتمالات ما قد يحدث. لبث خائفاً من عواقب ما حدث. ربّما تكون بداية التهلكة.

لكنّه لم يتمكن من البقاء طويلا. قرّر الذهاب إلى دار الكرخ فلربّما يسمع شيئاً من كوكب ينبئه بما حصل.

عاد إلى الدار وشرع من فوره يكتب أفكاراً ناقدة مصانعة ومفتعلة تتعلق بموقف المتنبي من مادحيه، وتقارنه بموقف مهيار من الحكام، الذي رفعه إلى منزلة الشعراء الكبار غير المتكسبين، ثم وضع ملاحظات مطوّلة على كتاب الدينوريّ (الاخبار الطوال)، وعدّه مرجعاً صادقاً يثبـّت تأريخ الخلاف بين الإمام عليّ ومعاوية وسبب خروج الإمام الحسين وظروف استشهاده. اكتفى بهذا القدر لكي لا تبدو ردوده مصطنعة. ثمّ  أخفى القراطيس جيّداً، لكي لا يعطي كوكباً الانطباع بأنّه يريد إثارة انتباهه، ولكي يزيد فضوله.

في الصباح حضر كوكب كعادته. لم يلحظ المجريطيّ أيّ تغيير أو تبدّل في سلوك وتصرفات كوكب. نظّف الدار، جلب زيتاً للوقيد، نظف فتيلة النفـّاطة، وراح يرتب الكتب والوسائد، وهو ينتقل من موضوع إلى آخر من دون رابط أو مغزى، كعادته.

أراد المجريطيّ أن يقول لكوكب شيئاً يفرحه ويجعله يطمئـّن إلى أنّه لم يزل غافلاً عمّا يفعله في داره. همّ بأن يقول له: لدي مفاجأة لك ! لكنّه توقف وراح يفكّر في احتمالات تأويلها، ولم يتمكن من معرفة إذا كانت مفيدة أو ضارة. فكّر: كل ما هو غير مفيد قد يغدو ضاراً. أأصبح ريبيّا إلى هذا الحدّ في ليلة واحدة؟ أأصيب بالعدوى؟ لكنّه قال لكوكب:

ــ   أريد منك أن تشتري لي بعض الحاجات، التي أنوي التصدّق بها في عاشوراء، تركت لك قائمة هنا وهذا المبلغ.

نظر كوكب في القائمة وقال:

ــ   هذا يكلـّف كثيراً يا سيّدي.

ــ   لا يهمّ، سنوزعه على الفقراء، سنقسّمها إلى حصص، تكفي الحصّة الواحدة عائلة كاملة لبضعة أيّام.

ــ   لكنّ الفقراء غير معتادين على مثل هذا، يا سيّدي.

ــ   لهذا السبب أريد أن تكون في متناولهم في هذه المناسبة.

ــ   أعني أنّ الناس غير معتادين على توزيع مثل هذه الحاجات. الواهبون هنا يقومون بطبخ الأكل وتوزيعه على الناس جاهزاً.

ــ   سنبتدع بدعة.

ــ   ربّما لن تكون مقبولة.

ــ   سيعذرني الناس، لأنّني غريب ولا أعرف عادات أهل بغداد.

ــ   ولكنّني أخبرتك ما هي عاداتهم.

ــ   أأنت معي أم ضدي؟ أألغي ما نويت؟

ردّ كوكب مسرعاً وهو يشرع في حساب قيمة المشتريات:

ــ   لا يا سيّدي سنشتري أربعة كباش بأربع دراهم، وأربعة حملان بستة عشر دانقاً، وستين رطلاً  من التمر بدرهم، وستين رطلاً من الزيت بأربعة دراهم،  ستين رطلاً من السمن بسبعة دراهم، وعشرين كيساً من الأرز ومن دقيق البِرّ بستين درهماً.

أخذ كوكب القائمة والمبلغ وخرج، وترك المجريطيّ وحيداً تتناهبه أفكار متضاربة. تذكر قولها: "... تستخدم كذريعة، لو أنّها قـُرنت بغيرها من الأفعال، كبحثك عن شخص ما لا يعرف أحد صفته ووضعه". ماذا تعني بقولها هذا؟ هل تريد منه أن يكفّ عن ملاحقتها؟ لماذا جاءت بنفسها إذاً؟ هل يمكن لامرأة في وضعها ومكانتها أن تفعل ذلك، أن تزور بيتاً غريباً، من غير أن تكون واثقةً تماماً من نفسها ومن أفعالها ومن صحة دوافعها ومشاعرها؟ ما معنى هذا كله؟

 أراد أن يطرد هواجسه ووساوسه، فتناول كتاب البغداديّ.

شرع يقرأ  في المخطوطة، فعادت صورة قمر تطارده. ظلت هيئتها المبهمة  وهي ترتجف خلف الخمار، تأبى أن تفارق خياله. فكّر: جاءت من أجل أن تحميه، لكنّه خذلها، ولم يتمكن من حمايتها كما يجب، لم يصنها كما يجب. هل لم تزل...؟ لا، لو حدث أمر مكروه لأخبره كوكب، فمن المحال أن يخفي كوكب أمراً كهذا.

ربّما أضاع كل شيء؟ لم يهنأ بها. لم يتمكن حتّى من معرفة شعورها وهي تراه يلبس ملابس ابن زريق، ولم يتمكن حتّى من رؤية وجهها. لكنّ عطرها الناعم لم يزل عالقاً بحواسه كلّها، يأبى أن يفارقها.

وكأنه يستجيب لها، راح المجريطيّ من دون وعي يستنسخ الصفحة الأخيرة التي قرأها في المخطوطة، ثم بدأ يحوّرها، لكي تبدو كأنّها جزء من أفكاره الخاصة. وضع القلم في الدواة، ثم شرع يخطّ على القرطاس:

ولم يمت بمدينة السلام خليفة مذ بنيت إلاّ محمد الأمين فإنه قتل في شارع باب الأنبار وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين وهو في معسكره بين بطاطيا وباب الأنبار. فأما المنصور وهو الذي بناها فمات حاجاً وقد دخل الحرم ومات المهدى بما سبذان ومات الهادي بعيساباذ ومات هارون بطوس، ومات المأمون بالبذندون من بلاد الروم وحمل فيما قيل الي طرطوس فدفن بها، ومات المعتصم بسر من رأى وكل من ولي الخلافة بعده من ولده وَوِلْد ولده إلاّ المعتمد والمعتضد والمكتفى فإنهم ماتوا بالقصور من الزندورد، فحمل المعتمد ميتاً إلى سر من رأى ودفن المعتضد في موضع من دار محمد بن عبد الله بن طاهر المكتفي في موضع من دار بن طاهر. قال الشيخ أبو بكر ذُكر هذا الخبر للقاضي أبى القاسم علي بن المحسن التنوخي رحمه الله فقال محمد الامين أيضاً لم يقتل في المدينة وإنما كان قد نزل في سفينة إلى دجلة ليتنزه فقبض عليه في وسط دجلة وقيل هناك ذكر ذلك الصولي وغيره وقال أحمد بن يعقوب الكاتب وقتل الامين خارج باب الأنبار عند بستان طاهر بن الحسين.

 

(12)

هل كانت قمر صادقة، أم أنّها تستـّرت بهذا الموضوع واتخذته حجّة، لأنّها هي نفسها لم تستطع احتمال قسوة الكتمان أيضا؟ ربّما انفجرت عواطفها دفعة واحدة، حينما وجدت سبباً، رأته من زاويتها منطقياً ومقبولاً، ومدخلاً طبيعيّاً للقاء قلبين. ربّما وجدت في هذا ما  يمنحها شرعيّة أن تلتقي رجلاً لم تقابله من قبل، لكنّها تعرف أنّه يتتبع خطواتها، ويسير خلفها كظلها، فراحت هي الأخرى تبادله الاهتمام وتتبع خطواته.

" لا تبالغ في الحذر، ولكن كن يقظاً ! أما كوكب فلا تتخذ منه موقفاً عدائيّاً، لأنّه مسلوب الإرادة، ولكنّني واثقة أنّه لا يفعل ذلك كخيانة"

لم يأخذ المجريطيّ موضوع الرقابة إلاّ على سبيل المبالغة العاطفيّة. ربّما كان عذراً اصطنعته لكي تبلغه رسالتها وتقول له إنّها هي، هي التي يبحث عنها، لكنّها لا تريد أن تفصح عن ذلك، تريد أن تشعره وتترك ما تبقى له، لفهمه وإدراكه. نعم، جاءت لأنّها تريد أن تتصل به، تريد أن تراه، ولا تكتفي بأن تسمع عنه. وبصرف النظر عن هذا كلّه، ما يهمّه الآن منها سوى أمر واحد فحسب: أنّها هنا، هنا، إلى جواره، تعي وجوده، تحسّه، تفكر فيه، مشغولة بحياته ومصيره ووضعه، كما هو مشغول بها. وهذا هو الأهمّ، سواء راقبوا ما كتبه بالفعل أم أنّها بالغت في التحذير.  هذا أمر لا قيمة له، مقارنة بخطوتها الجريئة الواثقة.

 أحقاً أن الأمور بهذه البساطة واليسر؟ أحقا أن ما اعتبره أبعد من حلم وأكبر من تهلكة أصبح حقيقة، حقيقة تأتي إليه بنفسها، تأتي سائرة على قدميها وتضع نفسها بين يديه، قائلة له: لم تعد في حاجة إلى بحث، لم تعد في عوز إلى أخيلة وأوهام، أنا ماثلة أمامك كامرأة وليس ككلمة، كإنسان وليس كألفاظ في قصيدة.

سيقوم بتعديل ما أشارت إليه، لكنّه لا يقيم لذلك وزناً، فليراقبوا ما شاء لهم. المهم أنّه وصل. وصل إليها ، وهي ملكه، ملكه، فلم يعد الحلم حلماً، ولم يعد الوهم وهماً. ولماذا يخشى وهو في حماية السيد الكبير ! من يكون الآخرون أمام مكانة السيد؟

ظلّ المجريطيّ يراقب سلوك كوكب بدقة، ويستفيض في محادثته علّه يصطاد كلمة ما تنبئه بردود فعل قمر على ما حدث. لكنّ كوكباً، كان على غير عادته، أضحى أميل إلى الصمت. مرّت أياّم قاسية، كاد المجريطي في حالات عديدة أن يفقد السيطرة على مشاعره ويهّم بسؤال كوكب سؤالاً مباشراً عنها، لكنه ظل يتجلد، موقناً أنّها ستعطيه الإشارة الحاسمة، الإشارة الفاصلة، التي تنقله من ضفـّة الشك إلى ضفـّة اليقين.

أغرق المجريطيّ نفسه في القراءة وواصل تعديل بعض وجهات نظره، التي ربما تثير حفيظة الآخرين عليه، كما أشارت عليه قمر.

ظل المجريطيّ يقاتل القلق بالكتابة والبحث، حتى اليوم الذي عاد فيه مساء، فسمع قبل أن يفتح باب الدار، صوتاً يأتي من الداخل. كان كوكب يغني. توقف لحظات يستمع إلى الصوت يأتي خافتاً حزيناً فانقبض قلبه. خشي أن يخطو فيواجه الحقيقة المرعبة التي لم يستبعد حدوثها في أيّة لحظة. فتح الباب فهرع كوكب لاستقباله وهو يقول:

ــ   انتظرت عودتك بفارع الصبر يا سيّدي، وقررت أن أمكث هنا حتّى تأتي.

دقّ قلب المجريطيّ بعنف. هي النهاية إذاً. وقف حائراً، لكنّه تنبه إلى اضطرابه، فقال محاولاً تأجيل سماع الخبر الذي سيصرع أوهام عشقه:

ــ   على الرحب بك يا كوكب في أيّ وقت.

ــ   أنا أعرف أنّك متعب من كثرة القراءة، لكنّني أطمع في أن أسمعك شيئاً، لم أستطع تأجيله.

توقف كوكب عن الكلام، كما لو أنّه كان يريد من المجريطيّ كلمة تشجّعه على المضيّ، لكنّ المجريطي كان يحاول العكس، كان يسعى إلى تأجيل وقوع الكارثة إلى أطول وقت ممكن.

ــ   أريد أن أسمعك أغنية جديدة لي.

ابتسم المجريطيّ وهو يشعر بانفراج مؤقت، وقال:

ــ   أغنية ! جئت في وقتك يا كوكب، ربما أنا أحتاج إلى أغانيك الآن أكثر من أيّ وقت آخر.

ــ   أنا واثق تماماً أنّها ستعجبك وتسليك. لقد ظللت طوال الأيام الثلاث الماضية أعيد صياغة لحنها وأدائها، حتى استوت جاهزة. ربما لاحظت أنّني كنتُ مهموما إلى حد ما في الأيّام الماضية، بسبب انشغال بالي، لذلك أعتذر منك لو أنني كنت مزعجاً، فأنت تعرف طبيعتي و...

ــ   الأغنية يا كوكب، الأغنية.

ــ   سمعاً وطاعة يا سيدي.

شرع كوكب يغني:

لا تَعذَلِـيـه فَــإِنَّ الـعَـذلَ   يُولِـعُـهُ      قَـد قُلتِ حَقـاً، وَلَكِـن لَيـسَ يَسمَعُـه

ــ   هذا جميل يا كوكب ! ولكن ما الجديد في الأمر؟ لقد سمعت هذا منك من قبل.

ــ   سمعت الكلام منّي، لكنّ اللحن جديد، وأرجو منك أن تسمع ما سيأتي.

عاد كوكب إلى الغناء من جديد:

 إِنّــي   لأقـطَــعُ   أيّــامِـي  وَأنــــفِــذهــا        بِحَســرَةٍ  مِنـهُ فِـي قَلـبِـي تُـقَطِّـعُـهُ

 بمَـن  إِذا  هَجَــعَ  الـنُـــوّامُ  أبِـــتُّ  لَــهُ        بِلَوعَـةٍ مِنـهُ لَيلـي لَسـتُ  أَهـجَــعُـهُ

لا يَطمِئـنُّ  بجَنبـي مَضـجَـعُ  وَكَـذا       لا يَطمَئِـنُّ لَـهُ مُـذ بِنـتُ مَــضجَـعُـهُ

وحالما توقف كوكب، رفع رأسه إلى المجريطيّ وهو واثق تماماً أنّه أحدث فيه الأثر الذي توقعه: هزّه من الأعماق وأفقده رشده.

ــ   هذا كلام جميل، ربما لا يرقى إلى مستوى لا تعذليه، لكنـّه إضافة جميلة. من أين لك هذا أيّها الجنيّ؟

ــ   قبل ثلاثة أيام عادت سيدتي قمر من زيارة أقرباء لها. كانت حزينة ومهمومة، فغنيت لها لكي أسلّيها؛ غنيت لها الشعر الذي أعطيتني إيّاه من قبل. وحينما انتهيت من الغناء قالت لي أريد منك أن تزيد عليه هذه الأبيات، فقرأتها لي، ورحت من فوري أغنّيها.

ــ   من أين جاءت سيّدتك بهذه الأبيات؟

ــ   لا أعرف. لكنّني، والله، جعلتها تبكي من شدة الفرح والطرب. هل أعجبتك أنت؟

***

اليوم، اليوم فقط، شعر المجريطيّ من أعماقه أنّ بغداد كلّها أصبحت ملكاً خاصاً له، له وحده.

لم ينم، ولم يتمكن من القراءة، خرج منذ الفجر وسار على غير هدي. هام وحيداً في شوارع بغداد، كأنّه يتعرف إليها  أوّل مرّة، يراها بعيون جديدة، يراها بغير صورتها، يراها تزداد بهاء. كم هو حرّ، حر ! أخيراً تحقق الوعد.

انتظر بفارع الصبر مجيء كوكب. لم يمهله حتّى يدخل. استوقفه عند الباب وقال له:

ــ   احضر فرسك واتبعني.

ــ   إلى الأندلس؟

ــ   لا تكن مجنوناً يا كوكب، احضر فرسك واتبعني بصمت.

ذهب كوكب مسرعاً وعاد على ظهر فرس وسار إلى جواره صامتاً، وهو يرى سعادة عجيبة على وجه المجريطيّ، لم ير مثلها على وجه إنسان من قبل. سعادة تشعّ من وجهه وتملأ المكان كلّه.

سارا بمحاذاة النهر. رائحة النهر، وحركة طائر الغاق العابثة، العصبيّة، باحثاً عن صيد، أو مستغرقاً في لهو، جعلت المجريطيّ يحسّ أنّه حرّ، حرّ كطائر عاشق يحلّق فوق نهر. كان مزاجه رائقاً إلى حدّ العبث. كان يحسّ أنّ حرّيّته في هذه اللحظة تضاهي عبودية كوكب في شدة لا منطقيتها. وأن هذه الأرض، التي لا يملك شبراً واحداً فيها، تمتد تحت قدميه باسطة له كنوزها كلّها، مانحةً نفسها، طوعاً، بملء إرادتها. ها هو يرى أحلامه المستحيلة تبدو له قريبة، قريبة. لم يدر بخلده لحظةً واحدة أنّ أبواب بغداد أوسع من أبواب الخيال، وأنّها على هذا القدر الرحيب من الكرم والودّ والحنوّ.

تملّكه إحساس عارم بالبراءة، فقال لكوكب مداعباً:

ــ   عبد من أنت اليوم يا كوكب؟

ــ   لا أعرف.

ــ   هل تريد أن تكون حرّاً اليوم، اليوم حسب؟

ــ   كيف؟

ــ   لا أدري كيف.  لكنّني أدعوك أن ترافقني إلى مزارع السيّد، القريبة من أرباض بغداد الجنوبية.

ــ   هل تدعوني أم تأمرني؟

ــ   ما الفرق؟ لقد سرت معي ربع الطريق، ولم تسألني إلى أين نحن ذاهبان !

ــ   لكنّك لا تعرف أنّني ظلّلت طوال الطريق أفكّر في أنّي لم أخبر سيّدتي قبل ذهابي معك.

ــ  لا تقلق، حصلت على أمر بهذا من السيّد الكبير.

ــ   إذاً أنا عبده لهذا اليوم.

ــ   لكنّك ستكون معي، برفقتي أنا.

ــ   إذاً أنا عبدك.

ــ   ولكنّي أريدك أن تكون حرّاً، أن تشعر بهواء الحرّيّة يملأ أنفاسك، أن تمشي من دون قيود، حرّاً خالصاً، مثلي، مثل الطيور، مثل البرابري، حرّاً، حرّاً، ألا تفهم معنى أن يكون المرء حرّا !

ــ   هل تعني أنّه يحقّ لي أن أهرب؟

ــ   إلى أين؟

ــ   لا يهمّ إلى أين، المهم هل تطاردني إذا هربت؟

ــ   لا أدري، لم أختبر نفسي بعد، جرّب وسأرى.

ــ   لا، لن أفعل هذا، لأنّني لو فعلت سيتـّهمونك بالتقصير، وأنا لا أحبّ أن يلومك أحد بسببي.

ــ   أنت عبد شريف يا كوكب، عبد حقيقيّ، حرّ وأصيل.

ــ   أعرف هذا يا سيّدي.

من بعيد، في الضفة الثانية للنهر، لاحت للمجريطي أفياء الحي الذي يقع فيه بيت أبي بكر. لم يذهب إلى هناك منذ أيّام. منذ أن التقى قمرَ فيه. عواطفه الملتهبة كادت أن تنسيه بيته الأوّل. "هذا البيت عندي باختصار هو بغداد". تذكرالمجريطيّ  ابتسامة سعيد الساخرة، وهو ينظر إلى ما حوله، إلى بغداد الواسعة بضفـّتيها، مشكّكاً في صدق ما يسمع، وتذكّر ردّه على شكوك سعيد: "لا تنظر حولك باندهاش، إنّه بغدادي، بغدادي أنا، نظرتي الأولى، عشقي الأوّل" . عشقي الأوّل! هل مسحته  يد النسيان الماكرة، حينما غرق في  لجج الترقب والانتظار وتبادل الرسائل الخفية والعلنية مع قمر؟ وربما هو الخوف من تذكّر تلك اللحظات المرعبة، التي عاشها مع قمر.

حينما اقتربا من الجهة المقابلة لمرفأ سعيد حدث ما هو غير متوقع. رأى المجريطيّ  سعيداً واقفاً بصحبة عدد من شغيلة زوارقه يتفاوضون مع بعض الزبائن. لم يعرف المجريطيّ كيف يتصرف وكيف يبرر سبب غيابه. لكنّ سعيداً  ترك زبائنه وتقدّم لاستقباله بفرح، على الرغم من انشغاله، ظانّاً أنّه جاء يقصده. رحّب بالمجريطيّ بحرارة، وقال ضاحكاً:

ــ   ما هذا؟ هل اشتريت عبداً؟

سكت ثم أضاف:

ــ   ألم تجد أفضل من هذا الولد الهزيل؟ ربّما سيموت هذا العبد عليك في الطريق.

لم يتأثر كوكب، ظل ينظر إلى سعيد بشيء من اللامبالاة، كأنّ ما قاله سعيد لا يعنيه. فكّر المجريطيّ: الدخول إلى عالم سعيد لا يحتاج إلى مقدمات وأسباب. عالم سعيد مثل كتاب مفتوح، في مقابل عالم كوكب، الذي يشبه كتاباً بلا علامات ترقيم، تختلط كلماته وجمله ببعضها. أدرك المجريطيّ، الذي لمح خشية كوكب، أنّ شهيّة عارمة  تتملك سعيداً، تحثـّه على افتراس خصم ضعيف وصيد سهل وقع بين مخالبه، لذلك قرر فوراً وضع الأمور في نصابها الصحيح، والمبادرة إلى التوفيق بين مشروع عدوين محتملين، فردّ قائلا:

ــ   لا يجوز هذا يا سعيد، حتـّى مزاحاً، لأنّ الفتى برفقتي.

أجاب سعيد بخجل:

ــ   أنا أعتذر، وشكراً لك لأنّك تتذكرنا من حين لآخر.

ــ   هل هناك أخبار من أبي بكر؟

ــ   ألم تستلم رسالته؟

ــ   لا، أين هي؟

ــ   تركتها لك في مسكنك، فوق سريرك. كنت أظن أنّك استلمتها. كأنّك  لم تر البيت منذ أيام !

ــ   لأنّني مشغول في حلقة الدرس.

ــ   سرقتك منّا الضفـّة الثانية ! أهي أجمل؟

ــ   يا سعيد، انظر أمامك ! انظر إلى النهر، نهركم، واعلم أنّه لا نهر في الكون بضفـّة واحدة.

ــ   صدقت، هل تريد أن أجلب لك الرسالة؟

ــ   لا، سأذهب الآن بنفسي.

التفت المجريطيّ إلى كوكب، لكنّ سعيداً سبقه قائلا:

ــ   دعه هنا عندي، لا تخف، لن أشغـّله بأعمال السخرة.

نطق عباراته بسخرية، ثم انقلب جاداً وأضاف:

ــ   لا تقلق ! أريد أن أصالحه، سأجعله يستمتع بالنهر.

ــ   لا تبتعدوا كثيراً، لأنّني سأعود في الحال، وأمامنا طريق طويل.

توجه المجريطيّ إلى الدار. فتح المجريطيّ الباب وصورة قمر الخائفة تملأ خياله. ظلّ يراها بكامل حضورها أمامه، وعبق وجودها الحيّ يستفزّ أنفاسه ومشاعره. دخل غرفة النوم، حيث اختبأت قمر مرتجفة، مذعورة، فارتعد كما لو أنّه يعيش مجدداً تناقضات اللحظة الغريبة تلك: فرحة اللقاء المثير، غير المتوقع، ومخاوف الفشل والفضيحة والخيبة. نظر إلى السرير فوقعت أبصاره على رسالة البغداديّ.  أخذ الرسالة وجلس على حافة السرير. قرأها على عجل. لا جديد في خرائط أبي بكر. بحث لا نهائيّ عن سلاسل الإسناد، وتوق أبديّ إلى ربط الأزمان والأماكن والمصائر ببعضها. هو في سباق محموم مع زمنه الشخصيّ ! أيخشى البغداديّ أن يموت فيفقد التاريخ ذاكرته؟ "أكتب إليك من واسط، سأكمل غداً رحلتي. وأنت؟ أين وصلت؟ هل عثرت عليه؟".

ودّ لو أنّه قال: هل عثرت عليها؟ وودّ لو أنّه يسمعه، لهتف قائلا: نعم، نعم يا أخي وصديقي، نعم يا حبيب روحي وعقلي، أنا قاب قوسين أو أدنى منها. أنا أتنزه تحت شرفة منزلها المزيّنة بالجوريّ. أكاد أشم عبقها البغداديّ الفاتن. وصلت، وصلت إلى أسوارها، إلى أبواب حصونها المنيعة، إلى منبع أسرارها.

ترك الرسالة في الغرفة، وخرج مملوءاً بأمل غامض. لكنّه حالما أغلق باب البيت دهمه إحساس مؤلم، شعر أنّ معبد عشقه الأوّل أضحى موحشاً، ً بعض الشيء، وساكناً، كما لو أنّه فقد بعض حميميّته.

عاد إلى المرفأ، فوجد كوكباً يتنافس على الغطس مع عمّال سعيد من المجذفين. خرج كوكب من النهر حينما رأى المجريطيّ قادماً وقال:

ــ   فزت عليهم كلّهم، غصت حتّى ظنّوا أنّني لزقت في قاع النهر.

قال سعيد ضاحكاً:

ــ   هذا ليس عبداً عاديّاً يا أبا سليمان، هذا جنّي الماء، الذي اسمه عبد الشطّ.

سار كوكب مسرعاً مصحوباً بتوديع حار من عمّال القوارب. ارتدى ملابسه من دون أن يجفف جسده. عبرا إلى الضفة الثانية.  ركب المجريطيّ فرسه، بينما لبث كوكب يلوّح للجميع من بعيد، ثم قفز على ظهر الفرس ولحق بالمجريطيّ.

" سرقتك منا الضفـّة الثانية؟ أهي أجمل؟"  فكّر المجريطيّ في عبارة سعيد. عالم سعيد يتم ترتيبه على هيئه ضفاف: ضفاف تتقابل، تتوازى، تتبادل النظرات، تتبادل العناد والمناكدة، لكنّها لا تذوب ببعضها ولا تنفصل.

لا أحد يوحّد الضفاف المتقابلة يا سعيد، لا أحد. النهر وحده، النهر بمياهه الدفـّاقة يستطيع.

قال كوكب:

ــ   صديقك الذي اسمه سعيد شخصيّة مضحكة.

ــ   تعني مرحة.

ــ   لا، أعني مضحكة.

ــ   كيف؟

ــ   لأنّه مثل لصّ يقول للناس: اغمضوا عيونكم لكي أسرق أموالكم.

ــ   وهل سرق منك شيئا؟

ــ   لا، هذا مثل يقال.

ــ   هل تعرف أنّ هذه الفكرة، بحذافيرها، خطرت على بالي يوماً، حينما كنت مع سعيد في أحد أسواق بغداد.

ــ   لماذا تخالطه إذاً؟

ــ   لأنّه طيّب، على سجيّته.

ــ   أيّة سجيّة؟

ــ   هذه أمور لا تستطيع فهمها يا كوكب، ولا أستطيع شرحها لك، لأنّك لن تفهمها.

ــ   لماذا؟

ــ   لأنك لا تريد أن تكون حرّاً، للحظة واحدة.

أمال كوكب ظهره إلى الوراء، بحركة مثيرة وبارعة، أطبق ظهره على ظهر الفرس، وأمال رأسه إلى الأسفل وراح ينظر إلى السماء وهو يضحك بصوت عال.

ــ   لماذا تضحك بهذه الطريقة الوقحة؟

ــ   لأنّك أخطأت هذه المرّة يا سيّدي، العبيد يفهمون ذلك أفضل من غير العبيد.

ــ   اسمهم الأحرار، وليس غير العبيد.

اعتدل في جلسته، وقال بصوت جاد:

ــ   من قال ذلك؟

ــ   اللغويون.

ــ   يبدو أن اللغويين يا سيّدي مثل سعيد،  يقولون للناس أغمضوا عيونكم لكي نسرقكم.

ــ   يا كوكب، أنا على استعداد لأن أمنحك حرّيّتي كلّها مقابل أمر واحد.

ــ   ما هو؟

ــ   أن أعرف حدود العبث والجدّ في أقولك.

ــ   لا أحد يستطيع ذلك، حتّى أنا. أتعرف لماذا؟

ــ   لا.

ــ   ولا أنا.

هكذا كانت تنتهي حواراتهما. كان كوكب بلحمه وشحمه يبدو للمجريطيّ، في أحوال كثيرة، مثل ورقة في كتاب، وليس مخلوقاً حقيقيّاً من لحم ودم. كان مجرد كلمات تبدأ بعبث وتنهي عبثاً. لغوّ يجرّ بعضه بعضاً. لغوّ قد يكون نافعاً، مسليّاً، لكنّه قد يغدو قاتلاً في لحظات أخرى.  لكنّ المجريطيّ، الذي وجد في عبث كوكب قدراً من الترويح عن النفس، وقدراً من التقاط عناصر الدهشة والمفاجأة المسليّة، وما هو غير متوقع من سلوك وأفكار، وجد  فيه أيضاً نافذة تشرف على الجزء اللامرئيّ من حياة قمر. وعلى الرغم من أنّه نافذة بزجاج يخدع البصر، إلاّ أنّه أضحى عينه الخفيّة المزروعة في تفاصيل وجود قمر. ولا ضرر لو أنّه كان عيناً لأحد آخر عليه. فهو لا يخشى شيئاً، لأنّه لم يرتكب ما هو مسيئ لأحد، والأهم أنّه الآن في حماية السيّد الكبير وتحت رعايته.

ــ   يا سيّدي سمعت من الناس، أنّ حاجب الملك كان عبداً مملوكاً، هل يعقل هذا؟

ــ   ولماذا لا !

ــ   هل أنت موافق على هذا؟

ــ   ولماذا لا أوافق؟

ــ   وهل يعني هذا أنّني أستطيع أن أكون حاجبك يوماً ما؟

ــ   من دون شك، حينما أغدو ملكاً.

نظر كوكب إلى المجريطيّ وقد أدهشته مقدرة المجريطي الخارقة على تفسير أفكاره قبل أن ينطقها، وأحياناً قبل أن يفكّر فيها.

ــ   وكيف عرفت أنّني أفكر فيك ملكاً؟

ــ   ليس بيدك، أنت مرغم على هذا، وبخلاف ذلك لن تكون حاجباً. من أجل أن تحلم بموقع الحاجب لنفسك، لا بدّ لك أن تحلم لي بموقع الملك.

ــ   وإذا حلمت أن أكون أنا الملك.

ــ   سأكون شاعرك.

ابتسم كوكب للفكرة وغرق يحلم في تفاصيلها. ففي الأحلام لا شيء يستعصي على الحدوث. فكّر كوكب: "أحيانا تكون الأحلام أغرب من الواقع !" 

انشغل المجريطيّ يراقب أشجار الحمضيات في المزارع القريبة من أرباض بغداد، وراح يسأل الفلاحين عن أحوالها وعن أمور بدت مبهمة وخالية من الأهمّيّة لدى كوكب. لكنّ كوكباً ظلّ مستمتعاً بصحبة المجريطيّ أعظم استمتاع. لأنّ المجريطيّ يعامله بلطف تام لم يجده عند أحد سوى سيّدته، وربّما فاقها لطفاً؛ فإذا كانت سيّدته تعامله كطفل مشاكس ومخلص، فإن المجريطيّ لا يعامله كفتى وإنما كصديق بلغ سن الرشد. لذلك لا يستطيع كوكب أن يجد في المجريطيّ سوى بحر كبير تصب فيه قنوات آماله كلّها.  وفي هذه اللحظة  أضحى المجريطيّ النقطة المركزيّة التي يتكثف فيها وجوده الشخصيّ، بل يتكثف فيها مصيره ومسار حياته القادمة كلّها. هو يشعر أنّ صلة خفيّة، مجهولة، غير معروفة الدوافع والأسباب تربط بين المجريطيّ وسيّدته قمر؛ وهو رغم إحساسه الدائم بالغيرة من اقتراب رجل غريب منها، لكنّه لا يستطيع إلاّ أن يفرح لما يفرحها. وسيكون لفرحه طعم خاص لو أنّ سعادتها هذه جاءت من علاقة ما، برجل كالمجريطيّ، يأمل فيه أن يكون منقذه، ويكون سلّم الأمان الذي يرتقي به إلى مجد يحلم به، والى عالم آخر يرجو الوصول إليه.

ــ   ماذا تشبه النخلة في خيالك يا كوكب؟

ــ   النخلة مباركة.

ــ   هذا صحيح، ولكن ماذا تشبه هذه المباركة؟

ــ   تشبه منارة الجامع الكبير، لو جرى تزيين رأسها بالسعف. ترى، لماذا لا يزيّنون المنائر؟ لماذا يكون قرع الطبول مباحاً وهذا غير مباح يا سيّدي؟

ــ   ذهب بك الخيال بعيداً يا كوكب. النخلة تشبه الإنسان، لأنّها تموت إذا قطع رأسها، ولأنّ قلبها يقع في أعلى صدرها، قرب رأسها، ولأنّها منتصبة الجذع، ولأنّها تتناسل من ذكر وأنثى منفصلين.

ــ   الآن فقط عرفت لماذا قالوا إنّها عمّتنا.

عمّتنا النخلة لا تقع ضمن معارف المجريطيّ عن النبات، وحالة النخيل لا يستطيع أن يقول عنها شيئاً، فأهل البلاد أدرى منه بها. وما قرأه من رأي للمشرقيين عن النخلة جعله يزداد اعتقادا أنّ البشر يمنحون الأشياء بعض خصائصهم. فالمشرقيّون جعلوها عمّة لهم، وجعلوها أقرب المزروعات شبهاً بالإنسان، وراحوا يحدّدون بدقـّة عجيبة مواطن الشبه. الفكرة التي خرج بها المجريطيّ عن النخيل لا تتعلق بزراعته، فهو يجهل أسرارها، ولكن بصناعتها، بسبل الانتفاع بها، وسبل إخراج مزارعها من صفتها الانتاجيّة المحدودة؛ أي عدم الاكتفاء بزراعة التمور والى جوارها بعض الحمضيات والبقول، وإنما إرفاقها بمكابس للتمور، تشغّل العمّال الموسميين وتستفيد من خصائص النخلة المتعددة، وتقلل تكلفة النقل والتخزين: مكابس ومعاصر، وصناعة مكمّلة. شحّة التمر التي تعيشها الأسواق، بسبب برد السنتين الماضيتين، أوحت للمجريطيّ أن يصار إلى الارتقاء بمخزون التمر، عالي الجودة خاصة، ليس من طريق تخزينه، وإنّما من طريق تطوير سبل كبسه وتحويله إلى بضاعة محسّنة. وقرى السيّد الثمانون أصلح بيئة لهذه الصناعة، لأنّها تربط المزارع ببعضها، وتوحد إنتاجها وتجعله كتلة تجارية عظيمة، تستطيع التحكم بغيرها من مراكز الزراعة والتجارة. ربّما ستخلب هذه الفكرة لبّ السيّد: تركيز المال والقوة ! حينما أحسّ المجريطيّ أن تقريره عن التمر الذي سيكتبه للسيّد قد اكتملت أفكاره في رأسه، قرّر العودة فورا، لغرض تحرير أفكاره وإرسالها إلى السيّد.

ــ   لم تقل لي إنّك تعرف القراءة؟

ــ   لأنّك لم تسألني يا سيّدي. ولكن، كيف عرفت؟

ــ   لن أقول لك، لأنّني لو قلت لك ستظنّ أنّني أتجسّس عليك.

ــ   لن أقول هذا يا سيّدي، أعدك بشرفي.

ــ   لأنّك أعدت ترتيب الرقع المبعثرة على الأرض يوم أمس بالتسلسل الصحيح.

ــ   وهل قمتَ ببعثرتها عمداً لكي تختبرني؟

ــ   لماذا أختبرك؟ أستطيع أن أسألك لو شئت.

ــ   ربّما تظنّ أنّني أقرأ كتبك وقراطيسك؟

ــ   وما المانع، يفرحني هذا ! وسأكون سعيداً لو أنّك فعلت ذلك، على الرغم من أنّ مخطوطاتي ليست مسليّة، أليس كذلك؟ النبات والفلسفة والتاريخ أمور مملّة. لكنّك تستطيع قراءة كتب الشعر، ربّما سيعجبك ديوان المتنبي.

ــ   لا أحبّه.

ــ   هل قرأته؟

ــ   لا  أريد أن أقرأه.

ــ   لماذا؟

ــ   لأنّه يستعلي على الناس ويسبّهم.

ــ   ربّما لأنّه يشعر بعلو مكانته.

ــ   حتّى لو كان هذا صحيحاً، لا يحقّ له أن يقول:

لا تشتر العبد إلاّ والعصا معه...

ــ حينما رفضت أن تأكل الطعام الذي كنت أجلبه لك أحسست بما يشبه هذا أيضا.

ــ   ولكنّك تجلب لي الطعام دائماً وآكله، وها أنت معي الآن مثل أخ أصغر. ولكن، قل لي أين قرأت هذا البيت؟

ــ   في كتابك طبعاً.

ــ   هذه القصيدة غير موجودة في كتابي.

ــ   ربّما سمعته من أحدهم فعلق ببالي.

ــ   ولا تعرف من المتنبي غير هذا البيت؟

ــ   لا حاجة لي به، إذا كان يراني نجساً، منكوداً، لا أصلح إلاّ للسوط، فلماذا أقرأ له !

ــ   لكنّه لا يعنيك، يعني أولئك الذين أنت نفسك شكوت منهم؛ ألم تسألني عن الحاجب؟ هل نسيت؟ إنّه يعني أولئك الذين نسوا أصلهم ونسوا أصحابهم وناسهم، وأنت لست منهم.

ــ أنا أحبّ الشعر. أعجبتني قصيدتك التي مطلعها: لا تَعذَلِـيـه فَــإِنَّ الـعَـذلَ يُولِـعُـهُ

ــ  لكنّني أخبرتك أنّها ليست لي. شاعرها اسمه ابن زريق البغداديّ.

ــ سيّدتي تقول لا يوجد شاعر في بغداد اسمه ابن زريق. هل هو من بغداد، بغدادنا؟

ــ لا أدري، يقال.

لماذا تنكر كلّ هذا الإنكار؟ ماذا تريد أن تفهمه وتفهم كوكباً؟ أتريد أن تقول إنّها قبلت به، لكنّها لا تقبل أن تكون شريكة لأكثر من شخص في عين الوقت؟ لا يهمّ ما تقوله لخادم، ما يهمه هو  أن يقبل هو بما تقول، لأنّ قولها يؤكّد إحساسه المتعاظم بأنّه يعيش حالة سعد. ولن يفسّر إشاراتها إلاّ على أنّها وعد، وجزء من طالع السعد، حتّى ما هو منغصّ منها، كهذه الإشارة؛ وحتـّى تفتيش كتبه من قبل كوكب، سيرى فيه فعلاً طبيعيّاً، وفضولاً من شخص ما، يريد الحفاظ على ملك أو سلطان أو سيادة تخصّه وله حقّ تامّ فيه.

***

في طريق العودة قرر المجريطيّ أنّ يمرّ بقطعة الأرض التي كانت بعض امتدادات مزارع البيت الكبير، لكنّها أضحت جزءاً من ممتلكات قمر. لم يشأ أن يذهب إليها  فوراً. عرّجا قربها في طريق العودة وسارا بمحاذاتها وهو يدرك أنّ كوكباً سيبادر إلى الحديث عنها. لكنّه لم يفعل، فحدس المجريطيّ أنّ كوكبا  يحاول اختباره، ويريد أن يعرف إذا كان هو على علم بهذا أم لا. لكنّ كوكباً لم يتمالك نفسه وهو يرى أنّهما شرعا يجتازان حدودها. توقف وقال:

ــ   هذا أحبّ مكان إلى قلبي يا سيّدي، أتعرف لماذا؟ لأنّه الجزء الوحيد الذي امتلكته سيّدتي بعد موت زوجها. هل نستطيع التوقف قليلاً هنا؟

ــ   ولكنّي أرى الأرض مهملة.

ــ   ربّما بسبب البرد يا سيّدي. لقد جمد كلّ شيء، السواقي والأنهار، ونزل بَرَدٌ بحجم البيض. ولكن، رغم هذا، هذه الأرض أحبّ مكان إلى قلبي، لأنّها أرض سيّدتي. فهل تأذن لي بالتوقف برهة هنا، يا سيّدي؟

ترجلا عن فرسيهما. توجها نحو كوخ قريب. سمعا نباحاً يقترب.  ولم تلبث أن أحاطت بهما ثلاثة كلاب مغبّرة، غاضبة، ثمّ ظهر فلاح لم  يتمكن المجريطيّ من تحديد عمره،  يسبقه طفل صغير، رثّ الثياب، جاء راكضاً، وراح يطرد الكلاب. كفـّت الكلاب عن النباح،  ثم بدأت بالتراجع إلى الخلف وأقعت قربهم صامتة.

ــ   هذا كوكب يا أبي !

صاح الطفل واندفع نحو كوكب فعانقه كوكب، وراح يسّلم على  الأب، وهو يقول:

ــ   كنّا في أرض السيّد الكبير، وهذا الرجل من بلاد الأندلس يشرف على مزارع السيّد.

حيّاهما الرجل، وأرسل ابنه لكي يأتي ببعض اللبن. وحينما عاد الطفل ترك كوكب المجريطيّ مع الرجل وراح يتمازح مع ابن الفلاح مثل طفل، ثمّ قال وهو يتجه مع الطفل إلى كوخ قريب:

ــ   سأذهب لأسلّم على خالتي أم حيدر وأعود سريعاً.

اقتلع المجريطيّ حزمة من الحشائش من الأرض وتلمّس جذورها، ثم رفع حفنة من التراب وقال:

ــ   يبدو أنّ حال الأرض ليست على ما يرام !

ــ   ليست كما كانت عليه.

ــ   أبسبب سوء طقس العامين المنصرمين؟

ــ   نعم كان برد السنة الماضية قاسياً جداً، ماتت المزروعات ونفقت البهائم وكاد البشر أن يهلكوا أيضاً، واضطر الناس إلى اقتلاع الأشجار لغرض الوقود، فأضحت المشكلة مضاعفة. ولكنّ الأمر لا يتعلق بالبرد وحده. كان للشغب الذي قطع الطرقات وزرع الخوف أثر أكبر، تضاعف أذاه حينما كثر الجند وكثر الوسطاء وازدادت طلباتهم. لم تعد الأرض قادرة على الوفاء بكلّ هذا الحمل الثقيل. الأرض مثل الإنسان لها قدر محدود ومعلوم من الصبر والاحتمال.

ــ   كلامك صحيح، وسأحاول أن أعينك في الأيّام القادمة، ماذا تحتاج، وماذا يقلقك؟

ــ   لقد أخبرت السيدة عن احتياجات الأرض. سنتغلب هذا العام على المشكلات، إذا لم يعد الشغب ولم تضطرب الأحوال مجدّدا. أنا لا أعرف أيّهما يسبب الآخر: شحّة المحصول تسبّب الطمع والفوضى، أم أن الفوضى والجشع يسبّبان إهدار المحصول وإملاق الناس.

لم تكن هيئة الفلاح البائسة تتطابق مع عمق إدراكه لأهمية الأرض للإنسان وللجماعة، ولم تكن تشي أيضاً بهذا القدر من الكرم وعزّة النفس.

شمّ المجريطيّ رائحة الخبز ورائحة شواء السمك، ولم يلبث أن جاء الطفل وكوكب يحملان طبقا من الخوص فيه خبز وسمك وبقول.

قال الرجل:

ــ   باسم الله، هذا بعض فضل السيّدة علينا.

بعد تناول الطعام، ذهب الفلاح وابنه إلى مساطب طويلة بين أشجار النخيل، وراحوا يجمعون بعض غلالها. أمّا كوكب فقد مدّ رجليه على الأرض وأسند  قفاه ورأسه إلى جذع نخلة، وهو يشعر بالشبع والخدر. أغمض عينيه، وقال:

ــ   هل تعرف يا سيّدي أنّني رأيت هنا، في هذا الموضع، العام الماضي، أعجب شيء في الدنيا.

جئت مع سيّدتي وقضينا النهار هنا، حينما جاءت أمها وأهلها لزيارتها. لم نتمكن من العودة مساء، بسبب اضطراب الأحوال. وحينما ناموا جميعاً خرجت وحدي وجلست بين النخيل أتأمّل الظلام وأستمع إلى نباح الكلاب. وبينا أنا سارح أصغي إلى صوت الليل، أضاءت الدنيا فجأة. ولكن ليس كما تضيء في النهار. أضاءت، كما لو أنّها قذفت  نوراً من أحشائها. نور خرج من الأرض  وصعد إلى السماء، حتـّى أنّ جذوع النخيل ورؤوسها بدت كما لو أنّها تشتعل بلهب أبيض وورديّ. انحبست أنفاسي وكاد الدم يجفّ في عروقي، وحينما فتحت عينيّ وجدت الظلمة تحيط بي. لكنّها لم تكن ظلمة كظلمة الليل، كانت تشبه ظلمة العمى، ظلمة حالكة، تقدح فيها شرارات وامضة.

ــ   هكذا يحدث للبشر ً في الحلم.

ــ   لا، لم يكن حلما يا سيّدي ! لقد رأى الناس جميعهم ما رأيت. ركضت فزعاً فرأيت الكلاب واجمة مبهورة الأنفاس مثلي، حتـّى الأبقار كانت ساكنة، كأنّها أصيبت بالعمى. رأيت الجميع يفيق من نومه مذعوراً. قال العارفون إنّ شهاباً خرّ من السماء وضرب الأرض. لكنّ خطباء المساجد قالوا إنّ الله أرسل نيازكه لكي يرجم بها الشياطين. لبث الناس خائفين فترة طويلة، وراحوا يقولون إن ما حدث ربّما من علامات الساعة.

ربّما كانت حقـّا علامة من علامات الساعة ! فبعد يومين من هذا التاريخ تسمّم الرضيع، ابن سيّدتي، وكاد أن يموت، ولم أره بعدها منذ ذلك اليوم.

جمع الفلاح وابنه بعضاً من غلال البستان في أوعية صغيرة من الخوص، حملها كوكب على ظهر فرسه إلى سيّدته.

حينما عادا من رحلتهما ذهب كوكب إلى بيت سيّدته، وجلس المجريطيّ يكتب تقريره إلى السيّد. قرّر أن يؤجل إلى وقت آخر كتابة الإضافات على ترجمة ابن باسيل، التي شغلت بال السيّد.

عاد كوكب مسرعاً وهو يحمل أطباقاً مليئة بالخضراوات والتمور والورود. وضع الأطباق بعناية، وقال:

ــ   غضبت سيّدتي لأنّني ذهبت ولم أخبرها، كنت أعرف أنّها ستغضب.

ــ   ولكنّك لم تقل لي إنّك كنت عبدها اليوم.

ــ   أنا لا أمزح يا سيدي. فهي تقلق حينما أغيب من دون علمها.

ــ   ألأنّها تحبّك، أم لأنّك عبدها؟

ــ   ربّما لأنّني أحبّها، ولأنّها سيّدتي. بالمناسبة أنا عبدها سواء شاءت أم أبت.

ــ   أنت ظالم يا كوكب، هذا لا يجوز، لا يمكن لك أن ترغمها على أن تكون مستعبـِدة، هي أطيب من هذا، أليس كذلك؟

ضحك كوكب بجذل، وهو يحسّ أنّه رسول مخلص، وربّما يحسّ أنّه يطهّر نفسه من بعض ما يرتكبه من هفوات، وبعض ما يحسّه من ضعف في مواجهة ضغط عالم أقوى منه، لا يستطيع احتمال ثقله.

***

فكّر المجريطيّ: .لن يخبر أبا مهديّ بما حدث، لن يثقل عليه ثانية، ولن يسمح لأبي مهديّ أن يبلبل رأسه بأفكاره المتشائمة والغامضة عن الناس والحياة. قرّر المجريطيّ أن يسير ما تبقى من الطريق وحده، يقطع المسافة القريبة، المتبقيّة بنفسه.

مدّ يده وتناول المخطوطة، فتحها:

... وفي هذا الباب رويت هذه الأبيات لمنصور النمري والله أعلم:

أعاينت في طول من الأرض والعرض            كبغــداد  دارا  أنـّهـا  جنــة  الأرض

   صفا العيش في بغـداد  واخضر  عوده            وعيش  سواها   غير  صاف   ولا   غض

تطول بها  الأعمار  إن غذاءها  مريء             وبعــض   الأرض   امرؤ   مـن   بعض

   قضى  ربها  أن  لا يموت  خـلـيـفـة             بها   أنّه   ما  شاء   في  خلقه   يقــضى

   تنام  بها   عين   الغريب  ولن    ترى             غريباً  بأرض  الشام  يطمع   في غمض

     فان   خربت   بغداد   منهم    بقرضـها            فما  أسلفت   إلاّ  الجميل   من   القرض

     وان    رميت   بالهجر    منهم   وبالقلى            فما   أصبحـت   أهلاً   لهجر  ولا   بغض

وهذا القول جاء تأكيداً من الشعراء يطابق دلائل النجوم القائلة باستحالة موت خليفة في دار السلام.

فقد روي عن بعض المنجمين قال: قال لي أبو جعفر المنصور لما فرغ من بناء  مدينة السلام: خذ الطالع.  فنظرت في طالعها وكان المشتري في القوس، فأخبرته بما تدل عليه النجوم من طول زمانها، وكثرة عمارتها، وانصباب الدنيا إليها ، وفقر الناس إلى ما فيها؛ ثم قلت له: وأبشرك يا أمير المؤمنين أكرمك الله بخلّة أخرى من دلائل النجوم: لا يموت فيها خليفة من الخلفاء أبداً. فرأيته تبسم لذلك.

 

(13)

قال قيّم المدرسة وهو يستقبل المجريطيّ:

 ــ   أرى القلق بادياً على محيّاك يا أبا سليمان !

ردّ المجريطيّ  عليه قائلاً:

ــ   هل تصدق أنني تصنّعت القلق تصنّعاً، لكي أمنحك فرصة جديدة لقراءة مشاعري، ولكي أمنح نفسي حقّ تقييم مهارتك جيداً !

ــ   وماذا وجدت؟

ــ   لم أجد فراسة أصدق من فراستك. فأنا كما تراني الآن في غاية الاطمئنان والراحة لأنّي أنجزت ما كلّفني به السيّد، تفضل.

قدم المجريطيّ  القراطيس لأبي محمد، الذي قام من مقعده واقترب من المجريطيّ، وأخذ التقرير وراح يقرأ فيه على عجل، كما لو أنّه كان يمسحه مسحاً، ثم طوى القراطيس ووضعها بيد المجريطيّ  وهو يقول:

ــ   ستسلمها بنفسك.

ــ   ربّما يحتاجها السيّد سريعاً.

ــ   نعم، ربّما يحتاجها الآن، لأنـّه في انتظارك.

لم يكن المجريطيّ  مهيّئاً لمثل هذه المقابلة. جاء مسترخياً، فارغاً من أيّة فكرة تخص علاقته بالسيّد، سوى القلق الذي أحدثه تحذير قمر، وما تلا ذلك من أحداث مكدّرة.

ــ   ربّما يكون مشغولاً.

ــ   حقـّا هو مشغول اليوم، لأنّ وفديّ نيسابور وشيراز هنا، ينتظران مقابلته. ولكنـّه ألحّ منذ الصباح في طلبك، وقد أرسلت إليك من يخبرك، وظنّنت أنّك جئت لهذا السبب.

ــ   لم يخبرني أحد.

ــ   ربّما تكون خرجت قبل أن يصل رسولي، تفضل معي.

سار القيّم وتبعه المجريطيّ، وفي الممر الداخلي قابلهم الرجل الضخم ذو الملامح الطفليّة، الذي يشرف على إدارة مكتب السيّد. توقف القّيّم ثم استدار عائداً، بينما واصل المجريطيّ  والرجل السير.

دخلا المكتبة الشخصيّة للسيّد، فرأى السيّد جالساً في الموضع ذاته الذي وجد فيه كتاب التوحيديّ. بدا السيّد مشغولا في القراءة، لكنـّه قام هاشّاً وهو يرى المجريطيّ  قادماً، صافحه بحرارة وأجلسه إلى جواره، تناول الرقعة التي كان يقرأ فيها ووضعها أمام المجريطيّ  وقال:

ــ   اقرأ.

قرأ المجريطيّ  الرقعة، ورفع رأسه مستفسراً، فوجد السيّد ينتظر فراغه من القراءة، ليقول:

ــ   هذه الرسالة وصلتني ووصلت إلى خليفة المسلمين والى الملك المعظّم، وقد عُرضت عليّ للمشورة، وأنا أعرضها عليك. أريد أن أعرف منك كيف عومل اليهود فقهيّاً في الأندلس، وكيف حُددت الجزية شرعاً. أنت غير مطالب الآن بالجواب، لكنّك تستطيع أن تكتب لي رأيك في الموضوع فيما بعد. فكّر برويّة ومن دون اجتهاد.

توقف عن الكلام ثم استأنف قائلا:

ــ   اخبرني كيف كانت إقامتك ببغداد؟ أنا واثق أنّ بغداد طابت لك يا مجريطيّ.

ــ   صدق سيّدنا.

ــ   وهذا ما يثلج صدورنا، غايتنا هي أن نراك مطمئّناً بيننا.

ــ   هذا بفضلكم وبمشورتكم وعنايتكم.

ــ   لقد انتظرت بفارغ الصبر سماع رأيك، فقد وصل إلى علمي أنّك زرت عدداً من مزارعي.

قدّم المجريطيّ  القراطيس للسيّد وهو يقول:

ــ   هذا ما كتبته، أرجو أن يكون مقدّمة مفيدة.

قرأ السيّد ما كتبه المجريطيّ  وهو يهز رأسه بين الفينة والأخرى استحساناً، وحينما فرغ من القراءة قال:

ــ   لم أتفاجأ بهذا، فقد كانت ثقتي في موضعها. أنا لا أخطئ الرجال يا مجريطيّ، لا أخطئ مطلقاً.

ــ   هذه ثقة غالية، لا تصدر إلاّ من رجل علم وكرم مثلك.

ــ   وما الخطوة التالية؟

ــ   أنا أعدّ الآن قائمة بما هو غير موجود هنا من النباتات المفيدة، التي تزرع في الأندلس.

ــ   هذا هو الأمر العظيم الذي خطر على بالي وأنت تتحدث معي حينما كنّا في مكتبتي الخاصة. أحسنت يا مجريطيّ. وأخبرني كيف يعاملك عبد الله؟ أرجو أن لا يكون مقصّرا معك. والأهم أرجو أن يكون قد كفّ عن بعض عاداته البغيضة ولم يستخدمها ضدّك.

ــ   لم أر منه إلاّ الخير.

ــ   ولم يسمح لنفسه بالتدخل في شؤونك الخاصّة أو حياتك الشخصيّة؟

ــ   عدا موضوع الفراسة.

ابتسم السيّد وأجاب:

ــ   لم أسمع عنه من قبل أنّه خبير بالفراسة !

ــ   كلّما رآني قرأ مشاعري من تعابير وجهي، حتـّى بتّ أصاب بالاضطراب كلّما اقتربت من غرفته.

ــ   ربّما هذه وسيلته للممازحة. اخبرني عن ترجمة ابن باسيل لديسقوريدس، كيف رأيتها؟

فجأة دخل المشرف على مكتب السيّد، انحنى وهمس بصوت مسموع قائلا:

 ــ    وفد علماء نيسابور وصل الآن وهو عند الباب يا سيّدي.

 أشار السيّد إليه بيده علامة التريث، ونظر إلى المجريطيّ  وقال:

ــ   أنت ترى الحال بنفسك، لم نتمكن مرّة أخرى من الحديث في الأدب والثقافة، ولكن أعدك بأنّنا سنفعل ذلك حينما نذهب معاً إلى المزارع، سنتفقدها معاً ونروّح عن أنفسنا فيها قليلاً. ما رأيك؟

ــ   أنا تحت تصرف السيّد في أي وقت.

ــ   واصل جهودك في تقديم العون لنا، ولا تتأخر. نريد أن نفيد من علمك قبل رحيلك، فخير البرّ عاجله.

تململ السيّد في جلسته وهو يرمى المجريطيّ  بالحدق، كما لو كان يحذره، وقال:

ــ   يا مجريطيّ دخلت قلوبنا لأنّك دخلت بيوتنا من أبوابها. هل تعرف ماذا قال الأمام عليّ رضي الله عنه وهو يذم الدنيا: قال: غذاؤها سِمام. وهو يعني أنّ الإنسان مجبول على البحث عن صغائر الأمور، التي تقود إلى المهالك، ولا ينظر إلى ما فيه خيره وصلاحه إلاّ إذا مسّه الضرر. وفي طريقنا الكثير مما لا يسرّ، ولا تظنّ أنّ الناس جميعهم حسنو النيّات، مثلك أو مثلي.

لم يفهم المجريطيّ  إلى ماذا يريد السيّد الوصول. توقف السيّد عن الكلام ثم ابتسم وأضاف:

ــ   لهذا قررت أن أضع تحت تصرفك حرسيّا من حرّاسنا المسلّحين، يرافقك ويحميك من الأذى. فما يؤذيك يؤذينا وما يؤذينا يؤذيك.

قام السيّد فقام المجريطيّ  احتراماً. ابتسم السيّد للمجريطيّ وغادر المكتبة وهو يقول:

ــ   تفضل بالجلوس، سأتركك هنا في أمان الله.

ظلّ المجريطيّ  واقفاً، مبلبل الفكر، حائراً، لا يعرف إذا كان سيستمر في المكوث في المكتبة أم يغادرها. لكنّ دخول المشرف على مكتب السيّد حرّره من تردده. أشار إليه الرجل أن يجلس، وقال:

ــ   السيّد يعتذر منك لأنّ حديثكما الشيّق انقطع. ولكن هكذا هي الأمور هنا. على أيّة حال أخبرني السيّد أنّه يريدك أن تكمل الموضوع مع وكيله وكاتم أسراه، السيّد أبي باقر. سيأتي حالا لمقابلتك فاسترح هنا.

خرج الرجل، ثم عاد برفقة رجل يلبس ملابساً سوداً، حسن المنظر، قلق العينين، بلحية مصبوغة بالحنّاء. أقبل إليه مبتسماً وصافحه بودّ، وأشار إلى الرجل الضخم بالخروج.

جلس وكيل السيّد في الموضع ذاته الذي كان السيّد يجلس فيه وقال فور جلوسه:

ــ   مرحباً بك يا مجريطيّ.

رد المجريطيّ  بدهشة:

ــ   مرحباً بك.

ــ   أين وصلنا في الموضوع؟ آ، أخبرني عن ترجمة ابن باسيل لديسقوريدس، كيف رأيتها؟

ــ   أيّة ترجمة؟

ــ   الكتاب الذي اشتريته من سوق الوراقين.

نطق الرجل كلماته كما لو أنّه كان يواصل ما انقطع من أفكار السيّد، أو أنّه يتقمص شخصه، حتـّى أنّه كان يقلّده تماماً في طريقة هزّ الرأس.

ــ   لا بأس بها.

ــ   يا مجريطيّ، أنا أريد تقييماً، فأنا أسألك الآن نيابة عن السيّد. من هذه اللحظة سيكون تعاملك معي مباشرة، واجعل اتصالك محصوراً بي في كلّ ما يخصّ شؤون السيّد، فهو كما ترى مشغول إلى أبعد الحدود. ولا بدّ أن تعرف أنّ الموضوعات العمليّة من اختصاصي أنا. أنا من يقوم بتصريف أعماله، لذلك أرجو منك أن تعتبرني في مقام السيّد.

لم يتمكن المجريطيّ  من الردّ، فقد بهت، وعجز عن لمّ شتات أفكاره، لشدة المفاجأة. أراد أن يستوضح من الرجل أكثر، لكنّ الوكيل قاطعه قائلا:

ــ   يا مجريطيّ ! السيّد لا يستطيع الخوض في الجوانب العمليّة والتفصيليّة، لأنـّها تتطلب اتصالاً يوميّاً وطلبات ومشاورات، ولا أظنّك تجهل أنّه لا يملك وقتاً لهذا، لذلك أنا هنا أنوب عنه.

ــ   وما الذي تود معرفته؟

ــ   اخبرني عن ترجمة ابن باسيل لديسقوريدس، كيف رأيتها؟

أعاد الرجل تكرار السؤال ذاته، بالطريقة عينها التي سأله بها السيّد. تردّد المجريطيّ  قليلاً ثم أجاب، كما لو أنّه يجيب السيّد:

ــ   بالضبط كما وصفها ابن جلجل، فيها نقص كبير، بسبب الجهل ببعض أوجه الكلام، فالنقل عن اليونانيّ، لا يشبه النقل عن الأصل. وقد حصل الأندلسيون على الأصل عندما أهدى قسطنطين السابع إمبراطور الروم في القسطنطينيّة الخليفة عبدَ الرحمن الناصر نسخة أخرى من الكتاب باليونانيّة مزينة بالرسوم، وبعث بالراهب نقولا الذي ترجمه ترجمة دقيقة بمساعدة أطباء محليين يجمعون بين العربيّة واللاتينيّة.

ــ   والمباحث التي أضافها ابن جلجل؟

ازدادت دهشة المجريطيّ، وهو يسمع الرجل يستكمل الحوار كما لو أنّه السيّد نفسه بلحمه وشحمه. ولم يتردد المجريطيّ أيضاً، أجاب وهو يشعر أنه يخاطب السيّد شخصيّاً، لا وكيله:

ــ    كثيرة، أهمّها فصل الترياق والسموم.

ــ   هل تعتقد أنّها إضافة لها قيمة ما؟

ــ   من دون شك، باعتراف علماء الأندلس كلّهم.

ــ   وهل هي إضافة عمليّة أم مجرد تفوق نظريّ؟

ــ   كلاهما، وجانبها التطبيقيّ أعظم، فقد جُربت وأثبتت صلاحها ومنافعها عند التطبيق، ولو لم تختطف المنيّة ابنَ جلجل وهو في الثلاثين من عمره لقلب موازين العلم البشري.

ــ   وهل يمكن الإفادة من هذا الجانب هنا، عندنا؟

ــ   ولماذا لا.

ــ   هل بيئتنا تساعد على ذلك؟

ــ   إنّ ما موجود ومستعمل من قبل النطاسيين والعشّابين عندكم ليس بالقليل، فكما رأيت وسمعت توجد أصناف عديدة من النباتات تستخدم هنا منذ زمن طويل: الخشخاش موجود بنوعيه الأبيض والأسود، واللاعية، وهي شجيرة لها ورد أبيض طيب الرائحة رأيتها بنفسي، والحنظل ثمر معروف لدى الجميع. لكنّ العبرة في الخلائط لا في الأشياء المفردة؛ لأنّ العشّاب الماهر لا يجمع فحسب، بل يخلط الأشياء المختلفة لكي يصنع شيئاً يجمع غير صفة في قوامه.

ــ   رائع يا مجريطيّ، هل فكّرت أن تبدأ بهذا؟

ــ   ولكنّ مقامكم يعرف أنّ هذا الأمر لا يتطلب علماً، بل يتطلب إرادةً وعنايةً خاصّة وحرصاً مسؤولاً. لأنّ هذا الجانب فيه نفع عظيم، لكنـّه في عين الوقت على درجة عالية من الخطورة؛ لأنـّه سيف ذو شفرتين، إحداهما للشفاء والأخرى للهلاك.

ــ   كيف عالج علماء الأندلس هذا الأمر فقهيّاً؟

ــ   هم لا يختلفون في هذا عن غيرهم من علماء المسلمين، كما أحسب، والله أعلم. جرى وصف الترياق على أنّه ما يستعمل لدفع السمّ من الأدوية والمعاجين، وقد جاء في الحديث أنّ في عجوة العالية ترياقاً. وفي حديث ابن عمر: ما أبالي ما أتيت إن شربت ترياقا؛ إنّما كرهه من أجل ما يقع فيه من لحوم الأفاعي والخمر وهي حرام نجسة. لكنّ الترياق أنواع مختلفة، فإذا لم يكن فيه شيء من الحرام أو النجاسة فلا بأس به. وقيل إنّ الحديث يقتضي اجتنابه، لأنـّه قول مطلق لا تخصيص فيه.

ــ   وهل يشمل هذا الاجتناب عملَ النطاسيّ والعشّاب؟

ــ   لا، هذا أمر آخر. وهو ما تحدثت عنه بقولي إنّه سيف ذو حدّين.

ــ   ألم تجد في مزارعنا مكانا يصلح لهذا؟

ــ   ليست المزارع هي ما يحتاجه المرء، بل الصنّاع الذين يديرونها ويرعونها، والأغراض والغايات والمقاصد التي ينشدونها.

ــ   ولكنّك تستطيع أن تفعل ذلك كلّه بنفسك، إذا وجدت في نفسك الرغبة. أما أنا فسأضع كلّ ما في وسعي في خدمتك.

ــ  الكتمان المطلق وعدم وجود أكثر من إرادة شرط أساسي لا يمكن التّفريط فيه،  حتّى لا يصبح العلم وسيلة مخالفة لأغراضه وغاياته، ولا يستخدم لأغراض تبيح الظلم أو توقع في الضلال والحرام. وهذا يتطلب أن لا يعرف بالموضوع سوى أولي الأمر.

ــ   كلّ كلمة قلتها صائبة تماماً يا مجريطيّ. لن يعرف بهذا سوى رجلين، رجلين فقط لا ثالث لهما، الأوّل أنا، والثاني أبي سليمان المجريطيّ.  ما رأيك؟

أراد المجريطيّ أن يسأل إذا كان هذا رأي السيّد أم أنّه مجرد اقتراح من وكيله، وهل للسيّد علم بهذا. لكنّه تردد وخشي أن يحسبه النائب مشكّكاً في سلطاته. ربّما سيجلب له هذا الشك عدوّاً ثقيل العيار كأبي باقر. همّ بأن يسأله بشكل ملطّف عن رأي السيّد الفقهيّ في هذا، لكنّ أبا باقر لم يمنحه فرصة لقول ما أراد قوله، أو حتـّى للإجابة عن سؤاله، فقد أضاف قائلا:

ــ   لا مكاتبات ولا وسطاء بيننا في هذا الأمر. تطرق بابي كلّما أحسست أنّك في حاجة إلى مساعدتي أو مشورتي. أمّا تنقلاتك ومساعدوك فهذه أمور أنت تقررها، وإذا علمت أنّ هناك من يتدخل أو يحاول التدخل في ما لا يجب أن يعرفه من شؤون عملك سيلقى ما لا يسرّه فوراً. وحتّى هذا المتجهّم، قيّم المدرسة، سأجعله يكف عن قراءة مشاعرك، ولا يتدخل في شؤونك الشخصيّة، إذا كانت في حدود شريعة الله، ولا تتعارض مع إرادة أولي الأمر.

قال جملته الأخيرة ساخراً وهو يضحك، فشاركه المجريطيّ  في الضحك، وهو غير قادر على تمييز فحوى ما يقوله الرجل، فلم يستطع الفصل بين الوعد والوعيد، بين الظاهر والباطن.

رافق الرجلُ المجريطيّ  حتّى الباب وحيّاه وابتسم له مودعاً وقال:

ــ   أرجو أن تناديني أبا باقر، يا أبا سليمان.

سار معه حتـّى نهاية الممر، ثم توقف مشيراً إلى الطريق، جرّ يد المجريطيّ بلطف وصافحه، وهو يقول:

ــ   أما موضوع الحرسيّ، الذي سيرافقك فاتركه لي، سأختار لك أفضل حرّاسنا. طبعاً أنت تقدّر ضرورة ذلك، وتعرف ما تعرضنا له في السنتين الماضيتين. الاحتياط واجب، خاصة لرجل مثلك أصبح قريباً جداً من بيت السيّد وممتلكاته وشؤونه الشخصيّة.

 

(14)

لم يعد المجريطيّ إلى الدار، ذهب فورا إلى مرفأ سعيد، وطلب منه حرّاقة وجلس فيها وحيداً، بعد أن استأذن سعيداً، الذي أدرك أنّ المجريطيّ ليس على ما يرام.

ــ   سأتركك تخلو بنفسك يا أبا سليمان، ربّما ستبهجك صورة بغداد من الجهة التي لا يراها السائرون فيها !

قال سعيد ثمّ التفت إلى المجذفين وأضاف:

ــ   لا تبتعدوا كثيراً، سيروا أولا صوب باب خراسان ثم عودوا مع التيار، وافعلوا ما يأمركم به أبو سليمان.

شدّة انهماك المجريطيّ  بأقوال السيّد ووكيله، لم تمكنه من أن يلحظ  أنّ سعيدا كان مختلفاً هو الآخر اليوم.

تحركت الحرّاقة ضد التيّار. أخذت تشقّ طريقها بعسر، لكنّها ظلّت تتقدم مرتجّة، تتمايل مع كلّ دفعة تتلقاها من مسيّريها. بيوت بغداد وسككها الفسيحة بدت من هنا، من حافة النهر، هادئة ولكن غامضة، ساكنة ولكن مليئة بالأسرار.

... لا يتدخل في شؤونك الشخصيّة إذا كانت في حدود شريعة الله، ولا تتعارض مع إرادة أولي الأمر. دخلت قلوبنا لأنّك دخلت بيوتنا من أبوابها.  الدنيا غذاؤها سِمام. الإنسان مجبول على البحث عن صغائر الأمور، التي تقود إلى المهالك، ولا ينظر إلى ما فيه خيره وصلاحه إلاّ إذا مسّه الضرر. في طريقنا الكثير مما لا يسرّ، ولا تظنّ أنّ الناس جميعهم حسنو النيّات، مثلك أو مثلي. لهذا قررت أن أضع تحت تصرفك حرسيّا من حرّاسنا المسلحين، يرافقك ويحميك من الأذى. ما يؤذيك يؤذينا وما يؤذينا يؤذيك...

هل كان السيّد يلمّح إلى شيء ما، محدّد؟ لماذا تكرّرت كلمة العائلة؟ هل جاءت كلماته عفو الخاطر: دخول البيوت من أبوابها، شريعة الله، إرادة أولي الأمر، وصغائر الأمور؟ لماذا السمّ؟ ما القوة التي دفعت خياله إلى هذا الاستشهاد؟ والحرسيّ، والمهالك، والضرر، والأذى ! ما الذي دفعها إلى لسانه؟

هل افتضح أمره؟ أأخبرهم كوكب؟ وكيف لكوكب أن يعرف؟ أتكون شمس ! وربّما هي، ربّما تريد أن تبرئ نفسها من تهمة قد تلحقها؟ لا يمكن لها أن تفعل مثل هذا، مهما حدث. لكنّه لم يكن مخطئاً، ولم يكن سيئ النيّة حينما قابلها في بيت البغدادي.

لماذا تركه السيّد بيد وكيله؟ وهل يمكن للوكيل أن يتصرف من دون اتفاق معه ومن دون مشورته؟ ولكن لماذا زراعة السموم؟ وهل للسيّد علاقة مباشرة بهذا، أم أنّها من أفكار الوكيل الخاصة؟ غذاؤها سمام ! ! أيكمل أحدهما الآخر؟

تذكّر وجه الوكيل الجاف، وعينيه القلقتين، اللتين تدوران في محجريهما باحثتين عبثا عن مستقر: " سأختار لك أفضل حرّاسنا... الاحتياط واجب"

أهو تهديد حقيقيّ، أم أنّه شك ووسواس؟ هل أصيب بعدوى المكان، فما عاد يفرّق بين صديق وعدو، ما عاد يستطيع أن يميّز بين الوعد والوعيد؟ أأضحى مثل من يعاشرهم، لا تقود الحياةُ خطاهم وآمالهم، بل يصرّون على أن تقود وساوسُهم الحياةَ، ولا يتركون للحياة فرصة أن تسير إلى مستقرها بحرّيّة مشيئتها الخاصة، الفطريّة، بل يتدخلون حتـّى في تفاصيلها المهملة، جاعلين منها ظنوناً تخلق ظنونا.  هل معاشرة القوم أربعين يوما هي التي جعلته مثلهم يجيد اختراع  شرعيّات موهومة لذنوبه، ويحترف تحويل أخطائه إلى تهم موجّهة ضد الآخرين؟ أهو اليقين أم فقدان اليقين؟ اليقين بماذا؟ اليقين الوحيد هنا هو الإيمان القاطع بعدم اليقين.

لكنّ المجريطيّ لم يلبث أن تذكّر كلام السيّد المعسول وحسن استقباله له، فقرّر العودة إلى البيت ومراجعة نفسه جيداً. قرّر أن يعيد النظر في مشاعره وحساباته.  فكّر في موضوع الجزية والجواب الفقهي، وقرّر أن يبدأ فوراً بكتابة جواب رصين وشاف عن الموضوع. انكبّ يسطر أفكاره وعقله مشغول بهذا التناقض الحادّ في شخصيّة السيّد، بين استقباله الوديّ العاطفيّ الرائع وبين خاتمته المليئة بالوعيد والألغاز ! أيّهما هو؟ وهل كان وكيله مكملاً طبيعيّاً لهذا التناقض: حرّيّة الاختيار مقرونة بأفضل الحرّاس، حرّيّة التصرف مقرونة بواجب الاحتياط. ماذا يعني هذا؟

اختتم تقريره، أعاد قراءته، ثم طوى القرطاس ووضعه على المنضدة واستغرق يفكّر في هذا التداخل الغريب في مشاعره: عدم مقدرته على فصل الأفكار المشتبكة في رأسه، وفشله في تحديد أحاسيسه ومشاعره، التي يتداخل فيها الأمل بالخوف، الثقة بالنفس بالقلق، الأوهام بالحقائق. فكّر في أن يتخلص من هذا كلّه بالذهاب إلى قيّم المدرسة، وتسليمه رأيه في موضع الجزية المقررة على اليهود،  ليشعر السيّد أنّه حسن النيّة حقا وأهل للثقة، وأنّه مشغول بما يكلّف به، وأنّه يضع ملكاته في خدمة السيّد، وأنّه حريص على بيت وممتلكات السيّد وشؤونه الشخصيّة. ربّما سيكون هذا التقرير جسراً جديداً يعزّز مشاعر الأمل والثقة في نفسه، ويطرد هذا القلق والاضطراب المفاجئ، والطارئ، الذي أخذ يتعاظم في أعماقه.

طرق خفيف على الباب جرّه من لجج تفكيره وأعاده إلى الواقع. تكرّر الطرق على الباب، سار نحو الباب وفتحه فوجد أبا باقر في مواجهته باسماً، بعينيه القلقتين ووجهه الناشف. حيّاه المجريطيّ وأذن له بالدخول.  أشار أبو باقر إلى حرّاسه أن ينتشروا حول البيت، ورافق المجريطيّ إلى الداخل؛ ومن دون استئذان راح يدور في البيت، وينظر إلى كلّ زاوية فيه بهدوء ورويّة، وحينما فرغ من جولته، التفت إلى المجريطيّ وقال:

ــ   كان ظنّي في موضعه. هذا البيت لا يصلح لك يا مجريطيّ. لأنّ موقعه متطرّف، فهو قريب من السوق والخانات، تصعب علينا حمايته. أنت لا تعرف كم بيتاً أُحرق في العامين الماضيين. أظنّ أنّ من اللائق أن تسكن في بيت من  بيوت المدرسة، فهي تحت أنظارنا من جهة، ولا يجرؤ العابثون على الاقتراب منها.

ــ   شكرا لأنّك مهتم بي إلى هذا الحدّ.

ــ   لا تشكرني، حمايتك واجبي. لقد أخبرتك من قبل أنّك قريب جداً من بيت السيّد ومن ممتلكاته وشؤونه الشخصيّة، لذلك فإن حمايتك جزء من حمايته، وهذه مسؤوليتي الشخصيّة، فلا تقلق من هذه الناحية البتـّة.

جلس أبو باقر من دون استئذان وراح يقلّب القراطيس الموضوعة على المنضدة، وحينما وقع بصره على رسالة الجزية، قال بانبهار:

ــ   أيعقل هذا؟ أنت ثروة كبيرة يا مجريطيّ ! متى تسنّى لك كتابة هذه الخلاصة المتقنة؟

ــ   فرغت منها تواً.

ــ   هل تعرف لو أنّني أخذتها الآن إلى السيّد ماذا سيحدث؟

ــ   لا.

ــ   ربّما سيستغني عن خدماتي ويجعلك مساعده بدلا منّي.

قال جملته ضاحكاً ووجهه المتيبس لا يضحك، بل ظل محتفظاً بهيئته الصخريّة الجافة. سكت لحظات ثم أضاف:

ــ   ربّما أنت لا تعرف كم هم خبثاء هؤلاء، ولماذا يثيرون هذا الأمر الآن !

ــ   ليست لديّ فكرةً واضحةً عن دوافعهم وأسبابها.

ــ   الموضوع باختصار أنّهم قدّموا الطلب ذاته إلى مراجع الطرفين، وقدموه أيضاً إلى طرفيّ الحكم، الخليفة والملك، وهم بذلك يريدون خلق منافسة بين الفريقين، واستحصال الرأي الأنسب لهم. هل رأيت مكراً كمكرهم؟

ــ   لكنّ اليهودي البسيط لا ينتفع بهذا كثيراً.

ــ   هذا هو بيت القصيد. كبار تجارهم يريدون أن يشتروا ضمائر البعض، لكي يكسبوا هم في النهاية. الخبثاء قاموا بحسابها جيداً قبل عرضها. إنّهم يراهنون على الأنانية ومشاعر الضعف وشراء الذمم.  لكنّ رأيك متقن ورائع، هل تأذن لي بأن أحمله إلى السيّد؟

ــ   من دون شك، فقد كنت أوشك أن أسلمه إلى القيّم بنفسي.

ــ   القيّم ! لا، لا تفعل هذا. سيكون طريقك مباشراً إلى ديواني يا أبا سليمان. الحرّاس جميعهم على علم بهذا. حينما تأتي إلى ديواني تصرّف كأنّك في بيتك.

أحسّ المجريطيّ أنّ الرجل ربّما جاء لأمر آخر لم يفصح عنه بعد، وأنّه في سبيل إعداد نفسه لقوله، فقد ظلّ يتحدث وهو يتململ في جلسته. نظر إلى المجريطي بودّ وعطف وقال:

ــ   لديّ أخبار غير سارّة يا مجريطيّ.

فكّر المجريطيّ بأنّ الرجل وصل إلى ما كان يهيئ نفسه إلى قوله، فلم يجب. خشي أن يكون الرجل يريد معرفة ردود فعله عن حدث لم يزل مجهولاً. وحينما طال سكوته قال أبو باقر:

ــ   وصلنا من طريق رسلنا أنّ دولة الخلافة في قرطبة على وشك السقوط.

ــ   هل سقطت؟

ــ   تترنح. لكنّ هشاماً، المستكفي بالله، لم يزل خليفة في دولة مضطربة.

ــ   لا جديد في هذا يا أبا باقر.

ــ   هناك من بني أميّة أنفسهم من يحرّض على هشام، وهناك فريق يرأسه الوزير ابن جهور يفكّر في إقامة مجلس للحكم، باسم الجماعة.

ــ   لا جديد في هذا أيضاً.

ــ   وما رأيك أنت؟

ــ   رأيي ! أنا أنظر إلى صلاح وخير الأمّة قبل كلّ شيء.

ــ   ولكنّ الطمع وحبّ السلطة وصلا إلى حدّ أنّ الجميع يتقاتل من أجل الفوز بالحكم، حتـّى أنّ أحد بني أميّة، يقال أنّ اسمه أميّة بن عبد الرحمن العراقيّ، أخبر الناس بأنّه على استعداد لتولي الخلافة بأبخس الأثمان، تحت شعار: " بايعوني اليوم واقتلوني غداً !". إنّ شهوة السلطة وصلت حدوداً لا تطاق.

لم يجب المجريطيّ، لأنـّه لم يزل يفكّر في أمر واحد: هل هذا الخبر هو الرسالة التي جاء بها أبو باقر، أم أنّه مقدمة.

ــ   بالمناسبة تذكّرك مهيار حينما وصلتنا الأخبار. طبعاً هو يكره بني أميّة كما تعرف، لذلك طرب للخبر، لكنّه قال إنّه حزين من أجلك، لأنّ مثل هذا الخبر قد يجعلك تقلق على أوضاع أهلك.

ــ   هو يعرف رأيي جيداً، أنا أميل إلى ما فيه صلاح الأمّة.

أراد المجريطيّ أن يغلق أيّة إمكانية لتأويل جوابه، وأن يغلق مجرى الحديث الذي جعله يشعر بالقلق حقـّا، وهو يفكر في عبارة " بايعوني اليوم واقتلوني غدا" . هل وصل الطمع والشهوة وحبّ التسلـّط إلى هذه الحدود البشعة !

وخلافا لتوقعات المجريطيّ، ابتسم أبو باقر وهو ينظر إلى المنضدة، ثم مدّ يده وأخذ كتاب المتنبي وقال:

ــ   وتهتمّ بالشعر أيضاً؟

 ثمّ رفع الرقعة التي كتبت عليها قصيدة ابن زريق وهو ينهض من مجلسه وقال:

ــ   أراك مغرما بكلّ ما هو جميل: الماء، والخضراء و....

استودعك الله.

خرج الرجل، لكنّه ترك خلفه رائحة تشبه رائحة المدافن المنتهكة.

هل جاء ليطمئنه، بعد تهديد السيّد؟ أم أنّه جاء ليعمّق مخاوفه ويزعزع آخر ما تبقى لديه من الثقة بالنفس؟

لماذا لا ينظر إلى الأمر من زاويتهم الخاصّة؟ ألا يعيشون حقـّاً حالة قلق واضطراب بعد أحداث العامين الماضيين؟ ألا يحقّ لهم أن يُوفروا لأنفسهم سبل الأمان والحماية؟ لماذا لا يرى الأمر من هذه الزاوية؟ ولكن ماذا بقى من حرّيّته؟ كوكب يفتش بيته من الداخل، وحرسيّ يصاحبه من الخارج، وهم يحرسون مسكنه ويحصون خطواته. أهو في قبضتهم؟ أقاد نفسه بنفسه  إلى سجن بلا أصفاد، سجن عريض، يجول فيه كما يشاء ولكن تحت عيونهم ورقابتهم؟ ما الخطوة القادمة؟

هل كان حديث قرطبة وأميّة العراقيّ مجرد خبر أم أنّه رسالة؟ وإذا كان رسالة، فأيّ مضمون تحمل؟ هو لا يستطيع معرفة كيف ينظر الناس إلى ما يجري في الأندلس. فالجماعة ضد دولة الخلافة العباسيّة، والعباسيّون ضد بني أميّة، ولكن ما الجامع المشترك بين هذه التناقضات؟ هذا أمر محيّر ! وربّما هي رسالة شخصيّة خالصة. نعم، هي كذلك. قول مهيار يؤكد ذلك. فرحهم بقرب سقوط دولة الخلافة معلن وصريح، ولكنّ، ربّما يكون بثّ القلق في نفسه هو الهدف. هل اكتمل الطوق؟ اكتملت عدّة الحصار؟

 كلّ شيء جائز هنا. كلّ شيء. "إنّهم يراهنون على الأنانية ومشاعر الضعف وشراء الذمم" . هل وضع قدميه طوعاً في مصيدة أعدّها لنفسه إعداداً محكماً، وها هو يجد نفسه في كمّاشتها؟ ولكن، ماذا عن تلك التي بحث عنها في كلّ مكان، في كلّ سبيل وسكن، في كلّ زقاق وسكّة، أتراها تغيب عنه وهو يوشك أن يلمس يدها الرقيقة، ويقترب من وجهها الفاتن؟ أتضيع منه حالما يعثر عليها، وتموت أمام ناظريه في اللحظة التي تولد كحقيقة؟ أمن أجل هذا جاء؟ لِمَ يحدث هذا؟ لِمَ يحدث الآن، في هذه اللحظة؟

يجب أن يحسم أمره. سواء حصل عليها أو خسرها فعلا، لا بدّ أن يحسم أمره معها، أن يقابلها، أن يقف أمامها وجهاً لوجه.

 خبر اضطراب أحوال قرطبة الذي استقبله المجريطيّ ببرود مصطنع زلزل كيانه، وهزّه من الأعماق على الرغم من أنّه كان يتكهن منذ وقت بإمكانيّة حدوثه. ولكن، هناك فرق كبير بين أن تتوقع الشيء وأن يحدث. لم يعد يعرف إن كان هذا فاتحة خير أم أنّه بداية النهاية، وهل هو بداية سجن جديد أم نهاية لرحلة الفرار والهروب من المجهول؟ قالت أم سليمان": ولكنّك دائماً هكذا، تتصرف على هذا النحو، لا تهمك سوى انتصاراتك في معاركك الخياليّة ضد أعدائك الوهميين. يخيّل لي أحياناً أنّك تصنع أعداءك بنفسك"،

أجابها: " لا أحد يصنع أعداءه بنفسه أو ينتقيهم انتقاء سوى القتلة. أنا لا أريد أن أحارب أحداً أو أصنع منه عدوا، لكنّي  أملك الحقّ في أن أحفظ رقبتي من سيوف حروبهم وعداواتهم"، ردّت علي:  "لم تأت بجديد، هذه طريقتك المعتادة في الحرب"، فأجابها ساخراً مستهزئاً: " وليس لديّ طريقة أخرى."

ليس هو من يختار ميادين قتاله يا أم سليمان، ليس هو من يختار أزمان قتاله يا قمر! هم الذين يختارونها له، هم الذين يخططون ميدان المعركة. أمّا هو فلا يملك سوى حقّ اختيار طريقة استقبال الطعنات. لا طرق أمامه، لا طرق مفتوحة سوى الأتياه، البحر من ورائه والبحر أمامه.

قرّر المجريطيّ أن يفعل أيّ شيء لكي يقابلها، حتـّى لو اقتضى الأمر أن يذهب إليها  ويطرق بابها.

سار المجريطيّ مثل هائم على وجهه، يجول من غير هدف، تختلط في مشاعره دروب بغداد بدروب قرطبة، تتمازج الأخيلة والصور، حتّى  لا يكاد يعثر على نفسه. أهو هنا، أم هناك؟ وما هو الـ "هنا"، وماذا يكون الـ "هناك"؟ ظلّ يشعر أنّ هناك من يحصي عليه خطواته، وربّما من يفتش في رأسه بحثاً عن أفكاره، بحثاً عن مساقط بصره.

***

عاد المجريطيّ إلى بيته متعباً، حائراً، متردداً، تتنازعه أفكار لا يستطيع ضبط مساراتها وخطوط سيرها، لكنّها كانت جميعها تصب في نقطة واحدة لا تستطيع مشاعره أن تحيد عنها: أن يراها فوراً، بأيّ ثمن ووسيلة.

حينما فتح الباب أحسّ أنّ أحداً في الدار. وحالما خطا إلى الداخل هبّ كوكب للقائه:

ــ   انتظرتك يا سيّدي هنا، لأنّ رسولاً جاء يسأل عنك، وقال إنّه لن يذهب إلاّ بعد أن يبلغك رسالةً عاجلة.

ــ   وماذا قلت له؟

ــ   لم أقل شيئاً، انتظر ثمّ انصرف، وذهبت بعد ذلك إلى البيت. لكنّ شمساً أخذت تسخر منّي حينما أخبرتها بأنّني عدت ولم أبلغك بأمر السيّد. ظلّت  تناكدني قائلة إنّني عبد عديم الوفاء وسيئ الخلق، بل قالت أكثر من هذا، قالت: لماذأ أرسل السيّد في طلبه في هذا الوقت؟ ربّما يريده في أمر مهمّ لا يقبل التأجيل.

ــ   أرسل في طلبي مبكراً، لأنـّه كان مشغولاً مع زوّار قدموا من أماكن بعيدة. وهذه، من جلبها؟

سأل وهو يشير إلى عدد من أغطية الوسائد والمقاعد، لم يرها من قبل، كانت موضوعة على  المنضدة.

لم يجب كوكب، ترك للمجريطيّ حرّيّة أن يجد جواباً بنفسه. اقترب المجريطيّ من الأقمشة وراح يقلّبها وينظر إلى تطريزها الجميل وألوانها الزاهية. تركّزت أنظاره في الصورة، التي تكررت في كلّ قطعة: قمر كبير يلتمع فوق مئذنة عالية.

ارتجف قلبه، وغامت عيناه. لكنّ صوت كوكب جاءه، وهو في غيابه العاطفي، ليكمل الغياب:

ــ   طرّزتها لك شمس خِصّيصاً. قالت فيها صورة قمر بغداد، وحينما تذهب إلى الأندلس ستأخذها معك لتكون ذكرى جميلة من بغداد.

أصبح الغياب موتاً. أهي إشارة ترسلها إليه؟ أهذا عالم الإشارات المميتة والمنقذة؟ قبل وقت قصير تلقى أسئلة السيّد القاتلة، وها هو يتلقى جواب الرحمة. أيّ عالم هذا؟ وهل حقا أنّ شمساً هي التي أرسلتها من دون معرفة سيّدتها؟ ولماذا القمر؟ ولماذا يأخذها معه إلى الأندلس؟ ولماذا الآن؟ الآن في هذه اللحظة؟ أهو جواب على رسائل السيّد؟ أم جواب على رسائله الصامتة القاتلة التي يختزنها في قلبه؟ أتكون هي مثله الآن تنتظر على أحرّ من الجمر لقاءه ! ولماذا لا تكون مثله ! نعم، هي في انتظاره وهذه رسالتها الصريحة.

رسالتها صريحة ورسائلهم أكثر صراحة: الماء والخضراء، و... !  لماذا لم يكمل أبو باقر جملته؟ والوجه الحسن. نعم هي كذلك، لا تفسير آخر لها. سعيد هو الماء، ومزارع السيّد هي الخضراء، وهي الوجه الحسن. نعم، هي، ومن يكون غيرها ! ليس في حياته وجه سوى وجهها، الذي لا يعرف ملامحه.

هم يتبادلون الرسائل. نعم، يتبادلونها بطرقهم الخاصة، التي لا يجيد أحدٌ فهم بواطنها سواهم. آن الأوان أن يفهم كيف يفكّ غوامض رسائلهم السريّة.

نظر إلى كوكب فرآه صامتاً ينتظر منه إشارة لكي يفتح خزانة العبث.

ــ   اسمع يا كوكب، أريد المزيد من هذه القطع الجميلة، ستكون هداياً قيّمة نحملها معنا إلى قرطبة.

ــ   لقد فكرت في هذا طوال الطريق يا سيّدي.

ــ   أريد من شمس أن تصنع لي مثلها، ولكن مطرزة بالذهب على قماش من الحرير.

ــ   هذا باهظ الثمن.

ــ   نعم أريدها أن تكون أغلى ما أحمله معي من بغداد.

ــ   سأخبرها يا سيّدي.

ــ   ستخبرها الآن، الآن.

ــ   سأذهب إليها  فورا.

ــ   وتأتي بها إلى هنا.

ــ   الآن، إلى هنا ! كيف؟

ــ   لا تسأل كثيراً، أريد أن أهدي السيّد بعضها كدليل شكر ومحبة، وأريد أن يكون بعضها جاهزاً كهدايا، تحت اليد.

ــ   سأفعل ما تريد يا سيّدي، لكنّي لا أعرف إذا كانت سيّدتي...

ــ   لا تحشر سيّدتك في كلّ شيء يا كوكب! رحلتنا تقتضي المغامرة، تقتضي الجرأة، أليس كذلك؟

ــ   لا أدري، لكنّي سأحاول.

خرج كوكب، وراح المجريطيّ يتنفس الصعداء. للمرّة الأولى يجد المجريطيّ أنّ العبث لا يقل خطورة عن الجدّ، وقد يتفوق عليه حينما يصبح المنطق عقيماً، وتنغلق مسامات الحياة.

عادت شمس مع كوكب. اختلى بها المجريطيّ وأخبرها أنّه سينتظر سيّدتها في بيت أبي مهديّ. وأعطاها العنوان، وقال لها ستكون في مأمن هذه المرّة.

***

جلس برفقة أبي مهديّ في انتظارها. شغل نفسه وقاتل قلقه بالحديث عن خبر اضطراب أحوال دولة الخلافة في قرطبة. لبث يسهب في الوصف والشرح وهما يستمعان إلى قرع طبول آتية من بعيد. طبول حرب قامت يوماً ما في بقعة من الأرض، لكنّها لم تنته، ظلّت تُقرع مردّدة في النفوس صوت الموت القادم من أعماق التاريخ.

العزاء على قتلى كربلاء ومواكبه السائرة في سكك بغداد أصبحت عزاءً شخصيّاً يشهد على مقتل أحلامه، على ذبح حبّه الذي لم يهنأ به. كلّ دقـّة طبل صارت تختلط بدقـّات قلبه، لكأنّها تُعوِل في كيانه، وتصرخ في شرايينه.

جاءت قمر بصحبة شمس، سلمتا عليهما، وقالتا ما اتفقا عليه. تقدمت شمس، التي عرفها المجريطيّ من هيئتها وقالت:

ــ   جئت تصحبني أختي، ولديّ الدليل. أنا قمر التي ذهب زوجها ولم يعد. وهذه أختي ستكون شاهداً على ما أقول.

أشار أبو مهديّ إلى غرفة قريبة فتوجهتا إليها  ولحق بهما المجريطيّ.

 أغلق المجريطيّ  الباب وواجه قمرَ.

للمرّة الثانية تقف قمر أمامه، بكلّ حضورها الآسر، تقف أمامه لتجرّده من حضوره ومن أسلحة العقل والمقاومة، وتجعله تائها يبحث عن كلمة يبدأ بها حربه غير المتكافئة، حرب الجنون والحقيقة، حرب الوهم القاتل والأمل الأكثر مرارة من القتل.

تحرّكت شفتاها خلف الخمار، اهتزّت ستارة الروح المعتمة، واندفع صوتها، كمدية باترة خشّت عميقاً في أحشائه:

ــ   يجب أن ننهي هذا العبث فوراً.

ــ   نعم، لا بدّ من هذا، طلبتك لهذا الغرض وحده، ولكن كيف؟ لم أعد أعرف أي سبيل أسلك ! هل تعرفين أنت؟

ــ   كيف لي أن أعرف وأنا لا أكاد أعرف نفسي ! أنت تظنّ أنّك تعرفني لأنّك تعتقد ذلك، ولكنّني لا أعرف من أنا، لأنّني حقاً لا أعرف لمن أكون، وكيف أكون.

ــ   أنا لا أتحدث عن بلاغة أو عن شأن فلسفيّ، أنا أتحدث عنك أنت، عنك وعنّي. لقد استدعاني السيّد على عجل وراح يمطرني بالوعيد والتهديد. لماذا انقلب عليّ في لحظة واحدة؟ أريد أنّ أعرف هل حدث هذا بسبب لقائنا ؟

ــ   وهل هذا سبب هيّن؟

ــ    وربّما لسبب آخر، سبب سياسيّ؟

ــ    كيف يكون السبب سياسيّا؟ كلّ شيء هنا يصبح سياسيّا حينما يريد المرء ذلك. حتـّى لقاؤنا العابر.

ــ   هل تعدّينه كذلك؟

ــ    وكيف تراه أنت؟ لماذا نحن هنا الآن؟

ــ   ليس لي أيّ غرض سياسيّ، أنت تعرفين هذا، والجميع يعرف هذا.

ــ   وأيّ غرض يدفعك للتحرّيّ عنّي، وعن عائلتي؟ وما سرّ  هذا البحث الجنونيّ؟

ــ   أنتِ، أنتِ.

ــ   أنا ! وكيف لامرأة أرمل، قابعة في بيتها، لم تخرج إلاّ لسوق أو زيارة ضريح أو عيادة مريض أن تكون هدفاً لرجل في قرطبة؟ كيف؟

ــ   وماذا تظنين؟

ــ   لست أنا من يظنّ أو يحدّد الأهداف، صاحب الهدف يفعل ذلك.

ــ   ولكنّني جئت مقاداً بجنون حبّي.

ــ   هل رأيتني من قبل؟

ــ   لا.

ــ   هل أخبرك أحد عنّي؟

ــ   لا.

ــ   هل لي أن أعرف كيف همت بي؟

ــ   لا أعرف.

ــ   حسن، سأقبل الأمر كما تصفه أنت: خبل الهيام. أنت رجل قرأ اسماً في قصيدة أعجبته، فاندفع لسبب سياسيّ يتحدى شخصاً ما، وأضحى هذا التحدي غرضاً وهدفا راح يسعى إليه، فتضخم في قلبه ووجد أنه حتّى كاد يخلط بين الوهم والحقيقة؛ وأنّه، لسبب ما، وجد أنّني أحمل الاسم نفسه، فاعتقد أنّه يحبّني أنا، أنا شخصيّا. قل لي: ما ذنبي أنا، ما صلتي بهذا العبث كلّه؟ لو أنّني لا أحمل هذا الاسم لبحثتَ عن امرأة أخرى تحمل الاسم أو الوهم نفسه ! أنت لا تبحث عنّي يا مجريطيّ ! أنت لا تعرف ما هو شكلي؟ ربّما تكون سألت كوكباً أو غيره؟

ــ    لا، لم أفعل، ولن أفعل.

ــ   سأعيد عليك سؤالي مجدداً، ولكن من وجهة نظرهم هم. وأعني بهم، كلّهم، سواء هنا، أو أولئك الذين حاصرونا في الضفـّة الأخرى: هل عرضت عليهم رواية حبّك؟

ــ   ماذا تعنين؟ أتريدين أن تقولي إنّني شهّرت بك؟

ــ    لا، سؤالي يقول كيف سيفسر هؤلاء روايتك التي تحتفظ بها لنفسك عنّي وعن وقوعك في حبّي؟ هل يمكن لهم أن يعقلوا ذلك؟ وإذا قبلوه ألا تراهم سيذهبون في تفسيره تفسيراً مختلفاً. هنا تأتي السياسة.

ــ    لكنّني غير معنيّ بتفسيراتهم، هذا ليس غرضي وليس تفسيري.

ــ    وهم أيضاً غير معنيين بك وبغرضك وبتفسيرك. أنت تفسّر الأمور كما تشاء، وأنا أفسّرها كما أشاء، وهم يفسّرونها كما يشاؤون. أنت مرغم على قبول تفسير الآخر كاحتمال قائم، ولا تستطيع مهما أوتيت من قوّة أن تمسح من أرض الحياة ما يفكّر فيه الآخر، لأنـّه حقيقة موجودة خارجك. قد تقلق الآخر، قد تثير عطفه، قد تكسب بعض مودته وفهمه، لكنّك لن تقدر على تغيير ما يؤمن به لو أراد تفسير الأمر بطريقته ولمصلحته، أي تفسيره سياسيّا. فلا تجعلني جزءا من أوهامك، أو من خططك. أنتَ جئت لغرض معين، وما عليك سوى مواصلة البحث عنه.

ــ   لكنّي وجدته.

ــ   إذا كنت تعنيني أنا، فأنت في المكان الخطأ. أنت لم تأت من أجلي، جئت من أجل غرض آخر، وها أنت تحيد عن الطريق وتتشبث بوهم جديد.

ــ   أنا أعرف طريقي جيّداً.

ــ   هذا شأنك أنت، وأنا أيضاً أعرف طُرقي جيداً أيضاً. كن على ثقة تامة أنّ طريقينا لا تلتقيان.

ــ   لماذا؟

ــ   لأنّك تبحث عن وهم، وأنا لست وهماً.

ــ   كيف تكونين وهماً وأنت تجلسين أمامي الآن بكلّ حضورك الآسر؟

ــ   أتعرف حقاً من أنا؟

ــ   وكيف لا.

ــ   ما رأيك لو قلت لك إنّني أنا  نفسي لا أعرف من أنا، وفي الأقل لا أعرف ماذا يخبئ الغد لي.

ــ   لست جاهلاً إلى هذا الحد. أنا أعرف خلاف العائلة وأعرف حتّى موضوع الطفل...

ــ   وكيف تستطيع فصلي عن هذا كلّه؟

ــ   لا يهمّني هذا كلّه.

ــ   لكنّه يهمّني، وهو جزء منّي، جزء لا يمكن لك فصلي عنه أو فصله عنّي. حينما تفعل ذلك لن تجدني.

ــ   أنت تعقـّدين الأمر تعقيداً لا رحمة فيه.

ــ   وأنت تبسّطه تبسيطاً لا خلاص فيه.

ــ   لنفترض جدلاً أنّ هذا كلّه صحيح، ما موقفك أنت شخصيّاً منّي؟ وكيف تفسرين وضعي؟

ــ   لا أريد أن أجيبك فأزيد في إيهامك، أو أزيد في تضليلك لنفسك.

ــ   هل تستهينين بعواطفي إلى هذا الحدّ؟

ــ   كيف تظن هذا وأنا الآن أمامك، أنا الآن في بيت غريب، في مكان غريب، مع رجل غريب، أخوض حواراً أغرب من الخيال. لماذا؟

ــ   أنا أسأل السؤال ذاته، لأنّني  لم أعد أفهم شيئاً، ولن أدعك تنصرفين قبل أن أعرف أمراً محدداً، من غير مراوغة ولا بلاغة: ما رأيك أنت؟

ــ   أنا ! من أجل أن أجيب لا بدّ أن تعرف من أنا. أن تعرف باطني وظاهري، مظهري ومخبري.

ــ   لا يهمني شكلك ومظهرك.

ــ   لقد بدأت بتجزئتي مجدّداً.

ــ   أنا لا أراك سوى واحد.

ــ   إذا كان الأمر كذلك قل لي من هو هذا الواحد الذي هو أنا؟ وماذا ستختار منه من أجزاء؟ وكيف ستفعل؟

ــ   أنا لا أحتاج إلى اختيار، أنا أختارك مغمض العينين.

ــ   تستطيع، تستطيع لو أنّني وإيّاك المخلوقان الوحيدان اللذان يعيشان على سطح الكون.  ولكن حتـّى لو كنت أنت سيّدنا آدم عليه السلام وأنا سيّدتنا حواء، لما استطعنا هذا. حتـّى هناك كان  معهم شيء اسمه الشيطان ورب اسمه الله. لا يمكن لك أن تفصلني عمّا أنا فيه، لا يمكن أن تختارني مجزّأة. وحالما تختارني بكلّ حمولاتي العائليّة والشخصيّة والاجتماعيّة ستختار معي آخرين لم تعقد معهم صفقة، ولم يكونوا ضمن خططك. هل تعرف لماذا يراقبوننا الآن؟ هل تعرف لماذا استدعاك السيّد؟

ــ   لم أفهم أكان ناصحاً أم مهدّداً.

ــ   هذا يتوقف على ما قاله لك.

ــ   كنت أظنّ أنّه سيتحاور معي في شؤون الفكر، لكنّه تركني إلى وكيله، الذي توقف عند أمر واحد ولم يتزحزح منه. توقف عند الترياق والسموم.

ــ   السموم ! كم أكره هذه الكلمة !

ــ   أعرف، بسبب تسمم. .. الطفل !

ــ   وما صلتك أنت بالسموم؟

ــ   هذا موضوع يطول شرحه. بدأ بحكاية تشبه اللعب، حكاية اخترعناها أنا وأبو مهديّ للوصول إلى مؤلفات  الدينوريّ والتوحيديّ، ومن ثمّ إلى  التوحيديّ وابن زريق. لم يكن الأمر سوى محاولة يائسة، وسعي خائب من رجل أخذه الهيام. لكنّي وجدت نفسي أتحدث عن فصل من كتاب الأعشاب، وقادني هذا إلى ما قادني. كان حديثي عابراً، لكنّه لبث في عقل السيّد، وحينما قابلت وكيله أصرّ هذا على جعله مشروعاً للتطبيق، وأوكل مهمّة تنفيذه لي، ومنحني سلطات لا يصدّقها عقل.

ــ   ومن هو وكيله؟

ــ   اسمه أبو باقر. كان يتحدث باسمه، بل كان يردّد عباراته ويقلّد حركاته.  ولا أعرف هل حقاً أنّه يملك كل هذه الصلاحيات ! وهل يفعل ذلك بأمر السيّد، أم أنّه يتصرف على هواه ! لقد خشيت أن أسأله، لأنني فكرت في أنّه ربّما سيعاديني لو شككت في نيّاته ودوره. أنا خاسر في كلا الاحتمالين.

ــ   حسناً فعلت.

ــ   كيف لي أن أتأكد من أنّ السيّد على علم بهذا؟ وهل يتصرف وكيله على هواه، من خلف ظهره؟

ــ   يتصرف على هواه ! لا أدري ! ولكن حينما يبدأ الكبير بمنح الأدوار للصغار يعني أنّه يريد أن يخلي نفسه من مسؤولية ما. وهذا أخطر ما في الأمر. أبو با قر هذا هو المكلّف بشؤون الأمن والاستخبارات.

ــ   أنا مبلبل الفكر، ظللت أقلّب الأمر من دون أن أستطيع معرفة حقيقة وضعي، ولم أتمكن من تحديد موقع الخطورة بشكل ملموس.

ــ   سأخبرك، ولكن قل لي ما دورك في مشروع السموم والترياق؟

ــ   أنا أشرف على زراعة الأعشاب وإنتاجها وتحويلها. أنتِ الشخص الثالث الذي يعرف بهذا الأمر.

صمتت.

ــ   لماذا تصمتين؟

ــ   لأنـّه موضوع محيّر. محيّر ليس لأنـّه خطير ومميت فحسب، بل لأنـّه شأن معروف هنا. ما الجديد  في هذا؟  وهل تظنّ أنّهم يجهلون هذه الصناعة؟

ــ   هناك ما هو جديد، لكنّني حسبت أنّ بعضهم ربّما يريد أن يحتكر صناعة هذا الضرب من الأعشاب.

ــ   لا أحد يحتكر صناعة الترياق والسموم هنا. ألا تعرف أنّ ستة من خلفاء بني العباس ماتوا بالسم ! أحدهم قتله طبيبه المداوي، وآخر قتلته عشيقته وهي تخطط لقتل منافستها. السموم والترياق يعيشان في جسد واحد. هل تعرف ماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنّك أدخلت نفسك في جحر الأفاعي.

ــ   أتريدين إخافتي لكي أهرب؟

ــ   يجب  أن تهرب، لا بدّ أن تهرب في الحال ومن دون إبطاء .أنت وضعت رأسك في فم الأفعى. خروجك مميت وبقاؤك مهلك، وعليك أن تختار بين مقتلين.

صمت المجريطيّ وأوشك أن يتهاوى. كلّ شيء بدأ بسيطاً سلساً إلى حدّ لم يكن عقله يصدّقه، لكنّ كلّ شيء اندفع سائراً نحو نهاية مفجعة. كلّ شيء بدأ ينهار في لحظة واحدة. يوم أمس الأوّل كان قريباً من سماء الحرّيّة، كان قريباً منها، من أنفاسها، كان يذرع بغداد طولاً وعرضاً مثل طائر. لكنّه الآن لم يعد مهدّداً في حبّه حسب، أضحى الآن مهدّداً في حياته، في وجوده أيضا.

ــ   وماذا قال أيضاً؟

ــ   قال كلاما كثيراً، وحينما انتهى من منحي أوسع السلطات والحرّيّات، شرع يلقي كلاماً يشبه التهديد المباشر.

ــ   أنا واثقة من أنّهم يردّون على ما تحدثنا به في لقائنا، على أفكارنا، يريدون إشعارنا بأنّهم موجودون في أدمغتنا، أنا أعرفهم أكثر منك.

ــ   أخشى أننا نبالغ في ظنوننا !

ــ   هذه ليست ظنوناً، أنا أتحدث عن شيء أعرفه وأعيشه كلّ يوم.

ــ   لكنّي لا أستطيع أن أفهم كيف قرأوا ما كتبته من تعديل يوم أمس ورسولهم جاء منذ الصباح يبحث عني. كيف؟

ــ   وهل تعتقد أنّهم يكتفون بما يقدّمه كوكب لهم؟

ــ   ما حيّرني أنّ الرجل اختتم حديثه قائلا...

ــ   لا تكمل، لا تقل ! اختتمه بالدنيا التي تشبه السمّ، ثمّ انتهى بحرسيّ مسلح يجيد الطعن ويطيع أولي الأمر، لأنّ البيوت لا تُدخل إلاّ من أبوابها، ومن يؤذي البيت المقدّس يتلقى عقاب الله فوراً.

ــ   كأنكِ كنتِ معي.

ــ   وأين تحسبني موجودة إن لم أكن معك؟ لقد تلقيت الرسائل ذاتها. تلقيت النصف الثاني، المكمّل، من رسالتهم.

ــ   أمّا أبو باقر فقد اختتم كلامه بما هو أغرب، تحدث عن ضرورة وجود الحرسيّ، ووجوب الاحتياط، وقربي من بيت السيّد وممتلكاته وشؤونه الشخصيّة.

ــ   رسائلهم وصلت مكتملة. الآن ما عاد أيّ شيء خافياً عليّ وعليهم. هم يختارون لك أنت أفضل الحرّاس وأنا كذلك، أنت تذهب إلى مزارع السموم، وأنا يبحثون لي عن رجل يسترني.

ــ   ماذا تعنين؟

ــ   هل تعتقد أنّها محض مصادفة أن تزورني امرأة زوجي يوم أمس بعد جفوة طويلة، لتخبرني بأنّ المرأة الحرّة تحتاج إلى رجل حالما تنتهي عدّتها. ظننت أنّها تتحدث عن نفسها، بيد أنّها أخبرتني بأنّها ليست مضطرّة إلى ذلك في الوقت الحاضر، لكنّ امرأة مثلي جميلةً ووحيدةً تحتاج إلى رجل يسترها ويصون عفافها ويحميها من طمع الطامعين. أنا أفهم جيداً رسائلهم. ما يحدث لا أكثر من مقدمات أولى، لا أكثر من نغزات صغيرة ستتبعها طعنات.

ــ   لا أكاد أصدّق ! هل يمكن لي أن أخرج من تهلكة إلى أخرى، هذا نفق مليء بالأفاعي السامّة، كما تقولين. أنا لا أكاد أحلّ مشكلة حتـّى أجد نفسي غارقاً في أخرى.

أراد أن يخبرها عن قرطبة، فلم تكن مصادفة أيضاً أن يزوره أبو باقر ليخبره بنبأ اضطراب أحوال قرطبة، لكنّه امتنع عن قول ذلك، فلا صلة لقمر بهذا الشأن البعيد، حتـّى لو كان يخصّه. انتظر جواب قمر، التي قالت بحزن ولكن بثقة غريبة لا يعرف من أين تستمدها امرأة على هذا القدر من الرقـّة والوداعة:

ــ   هذه الأرض مثل طمي النهرين، كلّما تحركت فوقه ازددت غوصاً فيه. لا نجاة إلاّ من طريق قطع السلسلة التي تربطك بهذه الدورة المغلقة من الأحقاد. ولا نجاة لي من دون ذلك أيضاً.

لم يكن المجريطيّ يفكّر في هذه الأرض تحديداً، كان يفكّر في الأراضيّ كلّها، فالأرض كلّها أرضه. أمّا هي، في لحظة القتال هذه، فهي أرضه الوحيدة، التي لا أرض بعدها. هي الأرض، وهي الطميّ، وهي الغرق، وهي سلم النجاة. هي لا تريد أن تجزّئ نفسها، وهو لا يريد ذلك أيضاً، لا يريد أن يفصل موته عن حياته، خياله عن واقعه، هروبه عن بقائه، انتصاراته عن هزائمه، وجوده عن غيابه. لا يستطيع، لا يستطيع.

ــ   عن أيّة سلسلة تتحدثين؟ أأنت جادة؟ أتريدين منّي أن أتخلى عنك ! كيف؟ قولي لي كيف؟ أنا لم أكد أعثر عليك، أنا لا أعرف حتـّى لون وجهك بعد، كيف لي أن أقتل نفسي بيدي؟ وكيف لك أن تقولي هذا في وجهي، وأنا في هذه الحال، التي لا تسرّ ! أهكذا تقابلين مُعزّاً، مُحبّاً؟

ــ   أنت بحثت عن كلمة ووجدت امرأة. ولكنّك الآن لا تقف أمام وهم، أنت الآن تقف وجهاً لوجه أمام إنسان من لحم ودم، أمام حقيقة واقعة وليس خيالاً.

ــ   أألقي أسلحتي كلّها وأرفع راية الهزيمة، وأقول لنفسي: لقد خسرت معركة يا مجريطيّ، فاذهب في حال سبيلك؟

ــ   يجب أن نواجه أنفسنا، لكي نستطيع أن نقرّر ما نريد، ولا سبيل إلى ذلك سوى أن نلتقي بعيداً عن عيون أبي باقر. سنذهب إلى مكان لا تصله يداه، هناك نستطيع أن نقول كلمتنا من دون خوف أو قلق. لقد جئتَ من أقصى الأرض تبحث عن سراب كلمة، فما عليك الآن سوى أن تمضي إلى حيث أشير عليك، اقطع هذه الطريق ستجدني هناك جاهزة كحقيقة، كامرأة. هذا اختبار لي ولك. حينما تفعل هذا ستعرف أنت وأعرف أنا معك حقيقة نفسي، وحقيقة كوني لم أعد وهماً محضاً. ماذا أستطيع أن أقدم لك أكثر من هذا؟ ماذا أستطيع؟

انتظرتْ أن يجيب، لكنه لم يجب، سكت وهو يطيل النظر إليها ، يتأمل شارداً وجودها الغامض، المبهم، وهي تجلس  قربه، يكاد يلمسها، تكاد أن تخترق كيانه بقوة حضورها، لكنها في ذات الوقت تنأى عنه، تتبدد من بين فرجات أصابعه كالماء. طال سكوته وهو يفكر في المتاهة التي أدخل نفسه فيها، والتي توجب عليه أن يجد لنفسه مخرجاً منها، مخرجاً يحفظ رقبته ويحفظ حبّه. وحينما وجدته لا يجيب أضافت:

ــ   وحتـّى لو وهبتك نفسي الآن؟ كيف سأكون لك؟ من أيّ باب ستدخل إليّ وأنت محاط بكلّ هذه العيون والسموم؟ كيف؟

ــ   أريد أن أعرف شيئاً عن حقيقة زوجك. هل ذهب إلى الحجّ، أم في سفارة، أم ذهب لأمر آخر؟

ــ   ما أهمية هذا الآن؟ ومن أين أتيت بهذا؟

ــ   كثيرون يتحدثون في الأمر.

ــ   كيف يعرفون وأنا زوجته وأم ولده لا أعرف هذا. كلّ ما أعرفه هو أنّه ذهب مسافراً، كعادته. كان يغيب شهراً أو شهرين ثمّ يعود. الإنسان الوحيد الذي يعرف بأموره هو الرجل المسؤول عن ديوان الدولة. ذهب زوجي ولم يعد. حدث ذلك أثناء إبعاد الرجل الكبير من منصبه. لماذا لم يعد؟ لماذا قـُتل؟ لماذا ولماذا ولماذا؟ هذه أمور لا يعرفها سوى شخصين: هو ومن أوكل المهمّة اليه.

ــ   ألم تحاولي مرّة أن تسأليه عن رحلاته؟

ــ   ولد زوجي في بيت زعامة. تربى منذ أن كان رضيعاً على تهجّي أسماء الشهداء. تاريخ عائلته مليء بالخيلاء والدماء، بالرفعة والنكبات. هكذا نشأ. لم يكن يحقّ لي أن أسأله، ولم أسأله لأنّ ذلك جزء منه، ليس كعمل فحسب، بل كدور مرسوم له. لماذا استشهد الإمام الحسين رضي الله عنه؟ لماذا استشهد الإمام  زيد رضوان الله عليه؟ أما كان بمقدورهما التراجع وحفظ النفس؟ لم يفعلا ذلك، لأنـّهما كانا يمارسان دوراً مرسوماً لهما من قبل آخرين، وكانا على قناعة مطلقة بهذا الدور القاتل. هنا تكمن قيمتهما كرموز عظيمة، خالدة، رموز روحيّة وأخلاقيّة، وليس سياسيّة. لم يكن بمقدورهما الإفلات من هذا أبداً، إذا فلتا منه نجيا كأفراد وماتا كرموز. وهذا ما يسمّى بالقدر. زوجي كان يعمل في ديوان الدولة وينفـّذ المهمّات الأكثر صعوبة وسرّيّة، التي لا يعرف بها أحد سوى رئيسه المباشر.  طلبني الشيخ، رئيس الديوان السابق، وألح في طلبي، لأنـّه يشعر بدنو الأجل. يجب أن أستمع إليه، إن وفـّقت في لقائه قبل موته. وأنا واثقة أنّه سيفرحك أن تعرف أن هذا الرجل أحد الرواة وعلماء الأنساب والأخبار المهملين عن قصد، ولكن المتفردين؛ ستجد لديه أجوبة شافية عن كلّ ما يشغل فكرك، لو أنك حظيت بمعرفته قبل رحيله.

 أما أنا، فحينما أحسم هذا الأمر، أستطيع أن أجيب عن أسئلتك وعن أسئلة قلبي وعواطفي من دون إكراه أو خوف.

سنرحل إليه، أنا وأنت، كلّ واحد منّا بطريقته، وسنلتقي هناك. ما سيقوله الشيخ سيقرّر أموراً كثيرةً تتعلق بولدي ووضعي، وحتـّى  بي وبك. كلّ شي يتوقف على هذا اللقاء. عليك أن تستغل الحرّيّة التي منحك السيّد إياها للوصول إلى هناك، قبل أن يتمّ فرض من يحرسك. هناك تكون أنت أقرب إلى الحقيقة، وأكون أنا أقرب إلى الحرّيّة. وحينما نلتقي هناك، ستلتقي الحرّيّة بالحقيقة، فنكون أكثر صدقاً مع أنفسنا، ونكون أكثر قدرة على اتخاذ القرار الصحيح.

نظر المجريطيّ إلى وجهها وشرد وهو يغوص في عينيها المحتجبتين خلف الخمار. ظلّ يصغي وهو غير مصدق. عبراتها ومكابراتها وأحزانها كانت تنقله من شعور إلى شعور، من خيال إلى خيال، لكنّه في كلّ كلمة تنطقها كان يوغل في الوهم. سبحان الله، هل يمكن أن تكون هي. ولماذا لا. أليست هي من الكرخ، أليست هي القمر الخارج من بين الأزرار؟ ألم تتشبث به؟ ألم تسحره برقـّتها وجمالها وعذوبة طبعها؟ وزوجها ! ألم يكن هو من ارتحل إلى بلاد بعيدة وغاب أثره؟ ألم يمت موتاً غامضاً؟

أحسّ المجريطيّ كما لو أنّ قلبه يشق صدره من فرط اللهفة ويحاول أن يخرج إليها ، ليصرخ نابضاً بين كفـّيها.

إنّها هي، لكنّها تكابر. هي هي بلحمها ودمها، بعواطفها ورائحتها، بحضورها وغيابها. هي. هو واثق منها كما يثق بنفسه ووجوده. أوقفت كلامها. ابتسمت. تنبه لها. تساءلت فجأة، لكي تقطع شروده:

ــ   أنا أعرف في أيّ شيء تفكّر ! لا تسألني عن ابن زريقك. أنا أتحدث عن زوجي وليس عن وهم شعريّ.

سكت خجلا، ثمّ قال ليطرد من ذهنه هزيمة أخيلته العنيدة:

ــ   لم أكن أتصور أنّك قاسية القلب إلى هذا الحدّ !

ــ   لست قاسية القلب، أنا قاسية على قلبي حسب، شديدة القسوة عليه.

ــ   وعلى قلبي أيضا.

ــ   ربّما، لأنّ لقلبينا معبراً واحداً.

ــ   أهذا رأيك؟

هزّت رأسها بالإيجاب، فهتف قائلا:

ــ   إذاً أذهب، حتـّى إلى الجحيم.

حينما خرجتا قرّر أن يتبعهما. اختلطتا بالحشود، التي تلبس السواد، وهما تترقبان مرور مواكب العزاء الحسينيّة. كانت النسوة يقفن في صفوف متراصّة، لا يُسمح لأحد أن يقترب منها. خرج مع أبي مهديّ، وسارا خلفهما.

توقفتا وحشرتا نفسيهما وسط الحشد. وكما لو أنّها كانت تشعر أنّه يسير خلفها، التفتت إلى الوراء وأزاحت خمارها قليلا، كأنما تسوّيه، فلمح وجهها في الظلمة. كانت مشاعل الوقيد المتحركة في موكب العزاء تبرق من بعيد، والطبول تدقّ بعنف، واللاطمون يضربون صدورهم وظهورهم ورؤوسهم حينما لمح وجهها الغامض. أطبق عينيه على صورتها المعتمة، التي لم تش بغير ظلال داكنة، برقت بعض أجزائها مثل ومضة، ثمّ اختفت في الظلمة وتحت الخمار الأسود.

ليتني لم أرها ! فكّر المجريطيّ، وهو يحسّ أنّها تسلّمه نصف نفسها، نصفها المعتم، الغامض. ربّما هي رسالتها الأخيرة إليه قبل أن يلتقيها وتكون له كاملة، تكون له مضيئة، كما تضيء الكون كلّ يوم وهي في سمائها العالية.

جرّه أبو مهديّ وقال:

ــ   ربّما أنت تسير في طريق خاطئة.

ــ   كيف؟

ــ   هناك آلاف النساء باسم قمر، كيف تستطيع أن تميزها من بينهن؟

ــ   بقلبي.

ــ   لا يا أبا سليمان، هذه أمانة عليك أن تصونها، وأنت رجل شهم وأبيّ، جئت من آخر الدنيا، ضحّيت ببيتك ومالك وسنيّ عمرك، فمن العبث أن تهدرها بهذه الطريقة الخاطئة.

ــ   وماذا عليّ أن أفعل؟

ــ   لو فتحت هذا الباب لن تنجو من فخاخ النصّابين. كثيرون سيطمعون بك وبالمال.

ــ   ربّما أنت على حقّ، ولكنّي لا أملك وسيلة أخرى.

نطق ذلك وهو لا يعرف إن كان أبو مهديّ على حقّ أو على باطل، لا يعرف إذا كان ناصحاً أو ناقداً. لا يعرف إذا كان هو نفسه يعرف ماذا يريد.

 

(15)

سعى المجريطيّ بكلّ طاقاته إلى كبت قلقه العميق، وعدم تمكين كوكب من قراءة شيء من أفكاره أو أحاسيسه أو تعابير وجهه. قرّر أن يهزم كوكباً عن طريق تجريده من سلاحه الوحيد: العبث، واستخدام هذا السلاح ضدّه.

قال المجريطيّ وهو يحثّ فرسه على التباطؤ والسير إلى جوار فرس كوكب:

ــ   يا كوكب هل تذكر رحلتنا إلى المزارع؟ لم أجد مرافقاً أمتع منك! ما رأيك لو ترافقني في جولاتي القادمة كلّها؟.

رمق كوكب الكيسَ المنتفخ الذي يحمله المجريطي على ظهر فرسه وأجاب:

ــ   كعبد أم كصديق؟

ــ   كما تحبّ.

ــ   إذاً كعبد.

ــ   لماذا يا كوكب؟ طلبت منك أن تختار بحرّيّة.

ــ   وقد اخترت. لكي لا أخسر صداقتك. كعبد أعرف جيداً كيف أتعامل مع المواقف الجديدة، فأنت تعرف أنّني لا خبرة لي بحياة اللاعبودية.

ــ   لو كنتَ شيخاً هرماً لقلت إنّك فيلسوف.

ــ   ألا يمكن للعبيد الفتيان أن يكونوا فلاسفة؟

ــ   حتـّى الفتيان اللاعبيد لا يستطيعون.

ــ   تعني الفتيان الأحرار!.

يمّما صوب الجنوب. كان المجريطيّ يصغي إلى كوكب وإحساس قوي يخبره بأنّه لن يراه مرّة ثانية بعد الآن. فحينما يعود كوكب إلى بغداد تكون قمر قد تحركت باتجاه عين التمر. وحينما تلتحق به يكونان معاً على حافة العراق، في قلب الصحراء.

تباطأ المجريطيّ مجدداً وهو يرى حدود مزرعة قمر. أحسّ كوكب بأنّ المجريطيّ راغب في الثرثرة، فتباطأ واستعدّ للسؤال:

ــ   كيف تعلمت كلّ هذه اللغات يا كوكب؟

ــ   تعلمت الكرديّة من أم قمر، والفارسيّة من بيت السّيد الكبير، والتركيّة من الجند. أبو سيّدتي كان عربيا خالصاً، ضليعاً باللغة والحكايات فعلّمني الكثير.  أستطيع الغناء بالتركيّة والكرديّة والفارسيّة، ولو لم تأت أنت لهربت إلى بلاد فارس.

ــ   لماذا إلى فارس؟

ــ   لا أعرف، الأرض كلّها متشابهة، كلّها مقسمّة إلى أسياد وعبيد.

ــ   قلت لي في رحلتنا السابقة إنّك تحبّ الفـَرَس "جؤذر"، لأنّك تعتقد أنّكما توأمان.

ــ   حتـّى لو لم نكن توأمين، فنحن أخوان، لأنّنا تربينا معاً. ألا تعرف أنني ولدت في الإسطبل القديم في بيت السيّد، حينما كان والد سيّدتي يرعاه !

ــ    أنت تعيش في بيت دين وعلم ومرجعية وتريد أن تكون مغنـّيا!.

ــ   لقد فقدت الأمل في ذلك منذ زمن طويل، فمن يتربى في بيت سيّدنا الكبير يفقد مثل هذا الأمل؛ كان من الممكن أن أكون مؤذناً في أحسن الأحوال. لكنّ الأمل عاد إليّ ثانية حينما أصبحت جزءا من أملاك سيّدي زوج قمر، ثمّ ضاع الأمل مجدّداً بموته.

ــ   لماذا ضاع الأمل؟

ــ   لأنّني لا يمكن أن أترك سيّدتي.

ــ   لكنّك قلت لي إنّك تريد الهرب معي إلى  الأندلس.

ــ   أنا لم أقل أريد الهرب، قلت أذهب معك، فربّما تعتقني سيّدتي.

لا يعرف المجريطيّ إن كان كوكب يحلم أم يكذب ! أكان يصنع أحلاماً من الأكاذيب التي يمليها على نفسه ويمنّي نفسه بها، أم أنّه كان يحلم ثمّ ينسج لنفسه أكاذيب تترجم هذه الأحلام !

قال له المجريطيّ ليباغته ولكيلا يمنحه فرصة كافية للتفكير والمراوغة:

ــ   أنت  تحلم طوال الوقت أن تكون مغنياً...

ــ   نعم.

ــ   دعني أكمل سؤالي: كيف تحلم أن تكون مغنـّياً وأنت لا تقوم بغسل ملابسك من روائح الإسطبل؟ هذا لا يتفق مع طموحك كمغنّ يا كوكب. أنت سائس أصيل ومغنّ زائف.

ضحك كوكب بصوت عال.

ــ   ما الذي يضحكك؟

ــ   هذا ما أريد أن يعرفه الناس جميعاً عنّي.

ــ   ماذا يعرفون؟

ــ   ما تفكّر فيه، سائس أصيل.

ــ   أليست هذه هي حقيقتك؟

ضحك مجدّدا وقال:

ــ   لا، أنا أفعل هذا لكي لا يعرف البعض خططي، فلو تهندمت لظنّوا بي الظنون !

ــ   لا أظنّ أنّك ماكر إلى هذا الحد.

ــ   لماذا؟ ألا يحق للعبيد أن يكونوا ماكرين؟

ــ   لو كنت ماكراً حقـّاً لما أخبرتني.

ــ    صدقت.

ــ   لا تتشاطر، هل تريد أن تخدعني بأنّك لست ماكراً.

ــ   لقد حيّرتني يا سيّدي، هل تريدني أن أكون ماكراً أم غير ماكر؟.

ــ   والله العظيم، أنت من حيّرني يا كوكب، لم أعد أعرف كيف أحلّ ألغازك. اسمع لماذا نتعب أنفسنا بحلّ أمور لا تنفعنا ولا تضرنا.

ــ   الآن فقط أستطيع أن أقول إنّك تسير في الطريق الصحيحة يا سيّدي.

أصبحا على مقربة من مزرعة قمر، فقال كوكب:

ــ   تلك حدود مزرعة سيّدتي.

 لم يعقـّب المجريطيّ، كان مشغولا بترتيب ما سيقوله لكوكب، لكي يبدو كلامه خاليا من المفاجأة. وحينما لاحت الطريق الفرعية المؤدّية إلى المزرعة،  قال المجريطيّ وهو يشير إلى الكيس الموضوع خلفه.

ــ   هذا كيس من البذور ستسلمه لأبي حيدر وفيه أيضاً بعض الملابس اشتريتها لأولاد أبي حيدر، كنت أرغب في تسليمه بنفسي أثناء عودتي، لكنّني أفضلّ أن تقوم أنت بتسليمه له. عليك أن تقرأ له القراطيس المرفقة بكلّ كيس. يجب أن تقرأها له جيّداً، لكي لا تختلط الأمور عليه.

لم يعقـّب كوكب، وظلّ ينتظر أن يكمل المجريطيّ فكرته. لكنّ المجريطيّ لبث يرتـّب أفكاره على مهل ثمّ قال:

ــ   اسمعني جيداً يا كوكب ! أريد أن تكون هذه الزيارة سرّاً، لا يعرف بها أحد، حتّى شمس وحتّى سيّدتك.

ــ   لماذا؟ أنا لا أستطيع أن أخفي شيئاً عن سيّدتي.

ــ    يعتقد البعض أنّني أهتمّ بهذه الأرض أكثر من غيرها لسبب ما، قد يساء تفسيره. لكنّني وعدت أبا حيدر، كما تعرف، بأن أمدّه ببعض البذور.

ــ   وهل سنمضي الليل هنا؟

ــ   ستمضي أنت الليلة هنا، ثمّ تعود بمفردك إلى بغداد  صباحاً، أمّا أنا فسأتجه إلى مزارع كربلاء، وسأبقى مع الفلاّحين هناك حتّى يكملوا عملهم.

لم يجب كوكب، ولم يبد علامة ما على الاستحسان أو الرفض. فقد اعتاد كوكب ألاّ ينفعل قبل الأوان. أمامهما  بعض الوقت قبل أن يفترقا، وحتّى يحين موعد الافتراق سيظل كوكب غير معني بانفعال اللحظة المقبلة.

ــ   أنت تجيد ركوب الخيل يا كوكب.

ردّ ضاحكاً:

ــ   أجيدها ! وكيف لا وقد ولدت في إسطبل يا سيّدي. حينما فتحت عينيّ للمرّة الأولى لم أر وجه أمّي، وإنما رأيت فرساً. أنا والخيول مثل الأهل، أو إنّنا أهل. حينما تغضب عليّ سيّدتي قمر وأحزن أذهب إلى الإسطبل وأبكي، لأنّني أعرف أنّ الخيول تواسيني.

ــ   ما الأمور التي تغضبها؟

ــ   أيّ شيء قد يخطر على بالك.

ــ   مثلاً؟

ــ   حينما أناكد الجارية شمس وأغنّي أدواراً هزليّة تسخر من طبخها تشكوني إلى سيّدتي، فتغضب عليّ.

ــ   أتضربك؟

ضحك كوكب بنشوة وصوت مرتفع:

ــ   لا، السيّدة الكبيرة تفعل ذلك، أما سيّدتي قمر فتفعل ما هو أقسى.

ــ   ماذا تفعل؟

ــ   تقاطعني، ولا تتكلم معي. وأحياناً تمشي أمامي كأنّها لا تراني. وأحياناً تتحدث معي وهي توشك على البكاء، لأنّني أسأت إلى جارية لا قيمة لها مثل شمس، تصوّر! وحينما أهجم على يدها لأقبـّلها معتذراً، ترفض أن ألمس يدها، تسحب يدها  وتقول: لن تخدعني هذه المرّة مجدّداً، وعندما تفعل ذلك لا أجد مكاناً سوى الإسطبل أذهب إليه.  أذهب إلى هناك وأحدث الفرس "جؤذر"، فرسها الذي تحبّه، فهو يسمعني، يبدأ بالبكاء معي، وأحياناً يسخر منّي ضاحكاً. أقسى شيء في الوجود خصام سيّدتي !

ــ   هنا تنتهي طرقنا يا كوكب. يجب أن نفترق، أنت تعود إلى سيّدتك غداً،وأنا أسير لأنّجز ما أراده السيّد الكبير منّي.

صافحه المجريطيّ بقوة وهو يكاد أن يضعف ويفشل في كبت مشاعر حزنه لهذا الفراق المفاجئ، لكنّ كوكباً صاح متأوهاً:

ــ   كسرت عظام كفيّ يا مجريطيّ !

 ضحك المجريطيّ بقوة، دامع العينين، وقال:

ــ   قل يا عامر !

ــ   لا أجرؤ.

ــ   قلها يا كوكب !

ــ   لا، لن أفعل. سأنطقها في المرّة القادمة يا سيّدي.

هل هناك مرّة قادمة! لوّح المجريطيّ له وراح يتتبع أثره وهو يختفي بين ظلال النخيل.

***

حالما ودّع كوكباً انطلق المجريطيّ ميمماً صوب الفرات، ثمّ منحدراً جنوبي غرب بساتين النخيل الواقعة على أرباض مدينة كربلاء، وشرع يوغل في الصحراء.

جاء من طريق الصحراء وها هو يعود إليها . لكنـّها ليست كتلك الصحراء. هو الآن فارس بلا دليل، سوى نجمة وحيدة تلتمع فوق رأسه، مشيرة إلى أفق غامض، يحيط به كالطوق. كانت قافلة العراق رحيلاً جماعيّاً في الرمل، كانت دبيباً نحو هدف مرسوم على الأرض وفي خرائط أدلّة القوافل. لكنـّه الآن يوغل في أعماق التيه وحيداً، تدفعه قوّة عارمة، قوّة الحبّ، وقوّة الأمل، وقوّة الإحساس بالنصر الشهيّ، المرتجى. كان كمن يعدو على أرض تتحرك متراكضة تحت قدميه.

ظلّ يسابق الريح ماضياً نحو قدر قرّر أن يرسمه بنفسه، وأن يصنع تفاصيله الصغيرة وألوانه بقوّة إرادته وبقوّة إحساسه بالتحدي.

كان مدفوعاً بسطوة الهيام، بفورة الحبّ الذي يشبه الجنون.

وكانت الأرض تتلون تحت حوافر فرسه، تكتسي لون الصدأ تارة، ولون الطحالب تارة ثانية، ولون الملح تارة ثالثة. أرض متقلبة المزاج، تختزن في أعماقها عصوراً مطمورة بين ذرّات الرمل. مرّ بأكمات وحصون تركها خلفهم بشر عمّروها، ثمّ أسرعوا يمضون نحو النسيان.

عين التمر ! لماذا عين التمر؟ تذكّر المجريطيّ أسئلته ودهشته، التي قابلتها قمر بأسئلة أكثر حدّة، وبدهشة لا تقل عن دهشته عمقاً.

عين التمر !  ثمّرة جوز سرمديّة، قذفها الله  في لحظة عبث على صفحة الدهر.

لم يتمكن عقل المجريطيّ أن يتصور للحظة واحدة وجود بقعة صغيرة كهذه يتكدس فيها الزمان على هذا النحو المثير. ولم يخطر بباله يوما أنّه سيقف على أرض تتقاطع فيها الطرقات والمذاهب والأديان والأعراق والطبيعة كتقاطعها في هذه البقعة الصغيرة النائية، المغروسة على أطراف البريّة.

من هنا مرّت أقوام، من هنا مرّ جند الفرس، ومرّ جند خالد بن الوليد، واقتربت أطياف  الإمام عليّ بن أبي طالب وابنه الإمام الحسن. من هنا مرّت سبايا كربلاء، هنا توقفوا عند عودتهم من الشام إلى الحجاز. توقفوا وهم يبحثون عن رجال المدينة المختفية في البيداء، الذين تولوا مهمّة العناية بابن بنت نبيّ الإسلام، حينما حُزّ رأسه وتُرك جسده وحيداً مخذولاً، كي يغرق في رمل النسيان، ويُمحى أثره وذكره. لكأن جوزة الله العابثة وعاء سرّيّ، خبّأه الزمان هنا، ليكسر قشرتها رجال مجهولون، خلقوا لكي يصونوا الدم المخذول قبل أن يشربه صلف الصحراء. لم يجد المجريطيّ قطّ أرضاً تملك ذاكرة يقظة كهذه، ذاكرة قادرة على سماع أجراس كنائس العرب النصارى وهم يتوجهون إلى صلواتهم المقدّسة، قبل أن تتناولهم سيوف الفتح الباترة، وتمحو أثرهم.

بقعة صغيرة مرميّة على حافة البريّة، تحيط بها الأتياه من كلّ صوب، ويطوقها العدم الرمليّ من كلّ جانب، لكأنّها تسخر من النسيان والموت ومن الانقراض.

فجأة لا تظهر المدينة فحسب، ولا تظهر واحة ظليلة كما يتوهم خيال القادمين من بحر الرمال. فجأة تنفجر في وجه السماء عيون ماء صافية، كأنها طبقة من زجاج رقيق، تتململ ثمّ تسيل سائبة في الأرض مثل أفاع بلّوريّة، تلتمع تحت وهج الشمس، تخترق بساتين الرمّان والنخيل، فتُنبت الوجود، وتُخرج شوكة الحياة من قدم الموت الثقيلة.

التفت المجريطيّ إلى الخلف، ليرى الفراغ الفسيح الذي خلّفه وراءه، فلم ير خلفاً. كلّ الزوايا والاتجاهات خلف! في عين التمر لا يوجد سوى اتجاهين: أرض وسماء، تحيط بهما آفاق لا وجهة لها ولا مسار.

نقطة في التيه، أو قطرة ماء شفيفة فوق كفّ العدم.

يا ربّ كم تشبهني هذه البقعة المترعة بالأسرار ! فكّر المجريطيّ، وهو يتخيل نفسه قطرة ماء صغيرة، تتحرك مترجرجة، مرتعشة، فوق كفّ قمر الملساء، الناعمة.

***

مضت الليلة الأولى وهم ينتظرون أن يصحو الأب، أو أن لا يفيق إلى الأبد. وبين الصحو المؤقت والنوم الأبديّ كانوا جميعاً يبحثون لأنفسهم عن مساحة لترتيب الأوراق وتنظيم ما اختلط وتداخل وتقاتل من أفكار وخطط.

وصل المجريطيّ عصراً، ولم يكن عسيراً عليه الاهتداء إلى البيت، الذي اتفق مع قمر على المكوث فيه وانتظارها. استقبله أبو علي أكبر أبناء الشيخ العليل، وربّ العائلة. كان البيت مستعدّاً أتمّ الاستعداد لسماع صرخة النهاية، التي كان الجميع يتوقعون صدورها من فم جفتّ عروقه منذ زمن، منذ أن رقد الأب الكبير منتظراً رحيله، الذي تأجل كثيراً. كان الرجل يصحو بضع دقائق، يبدو فيها أحياناً كما لو أنّه أفاق من نوم وليس من رحلة موت، يفيق ويأخذ بالتحدث والسؤال عن الصغار والكبار، وعن أدقّ التفاصيل وأعقدها، ثمّ يأخذه الموت لفترات تطول أو تقصر، كما لو أنّه كان يقوم باستلافه منهم، ثمّ لا يلبث أن يعيده إليهم.

لبث على هذه الحال منذ أن جُرّد من منصبه الرفيع، من دون سبب سياسي معلوم، سوى الحسد والطمع، والاصطدام المستمر بشخصه المستقلّ، العصيّ على الاتـّساخ والامتهان والترويض.

من حين لآخر، في صحواته، كان اسم قمر وابنها وزوجها يخطر على باله، وبين صحو وصحو يتساءل إن كانت قد حضرت. وحينما جرأ أبو علي وسأله مرّة، راجياً أن يخبره بما يريد لكي يقوم بإخبار قمر، أبى وأسف، وقال له: "لا يحقّ لك أن تطلب مثل هذا. هذا حقـّها هي وحدها وسرّها هي وحدها." وحينما اعتذر أبو عليّ مبرراً طلبه بسبب خشيته من... قاطعه الأب قائلا: "خشيتك من أن يأخذني الموت قبل وصولها، أليس كذلك؟"، هزّ أبو عليّ رأسه مؤيداً كلام أبيه، فردّ عليه: "هذا حقّ الدهر علينا. فلو أنّني ذهبت، فمن حقّ السر أن يذهب معي، وما عليها سوى أن تتدبر حالها، بما يمليه عليها ضميرها ومسؤولياتها كزوجة وكأمّ وكحاملة لسرّ له حساب في اعتبارات الأيّام".

قال المجريطيّ لأبي عليّ:

ــ   هل سمعت شاعراً يقول:

لا تعذليه فإن العذل يولعه     قد قلت صدقاً ولكن ليس يسمعه

ــ   قول جميل؟ لمن؟

ــ   لابن زريق.

ــ   أهو أندلسيّ؟ لا يكتب شعراً رقيقاً كهذا سوى أندلسيّ.

لم يجب المجريطيّ، أحس بغصّة عظيمة في حلقه وموجة خذلان في فؤاده. فكّر فوراً في زوج قمر، لكنّ أبا عليّ عاجله قائلاً:

ــ   من يكون ابن زريق؟

ــ   شاعر مجهول الهويّة. جاء إلى الأندلس ومدح بعض رجالها فعومل بخسّة، مات على إثرها ولم يخلّف سوى هذه القصيدة.

لم يضف أبو عليّ شيئاً وانشغل يفكّر. ربّما يكون مصير ابن زريق قد شغله كما  شغل المجريطيّ ونغّص عليه حياته. استجمع المجريطيّ شجاعته وصاغ سؤالاً مباشراً، خالياً من اللف والدوران، سؤالاً كان لا بدّ أن يوجهه بوضوح تام لكلّ من التقاه وأوّلهم قمر:

 ــ   قل لي يا أبا عليّ كيف مات زوج السيدة؟

ــ   لا أحد يعرف. وكما أخبرتك ربّما يكون أبي يعرف بعض أسرار موته.

ــ   وكيف كان؟

ــ   كان رجلاً نادر الوجود، وحيد عصره في الشجاعة وعمق التفكير والاستقامة، وربّما تكون هذه الأسباب هي التي خلقت له عدداً كبيراً من الأعداء في كلّ مكان، حتـّى في بيته. كان الجميع يخاف من طموحه، وتعمق هذا الخوف داخل العائلة نفسها بعد زواجه ضد رغبة العائلة، وبعد مجيء ولده الذكر.

ــ   وهل كان الناس يرون فيه رجل دولة؟

ــ   كان الناس يرون فيه جامعاً للزعامات كلّها: زعامة الروح، فقد كان كريماً، صادقاً، أبيّاً؛ وزعامة البشر، لأنّه كان رجل المهمّات الصعبة، كما يسمّيه أبي؛ وزعامة العقيدة، فهو وريث أفضل خصال المرجعية؛ وزعامة الأدب، فقد كان حافظاً مدهشاً، وكان مريداً لا ينازع للمتنبي.

ــ   أكان يقول الشعر؟

ــ   لم يكن شاعراً، لكنـّه كان يرتجل أحياناً، أو يردد ما يأتيه عفو الخاطر، كما نفعل نحن جميعاً.

ــ   أحسبه كان رجلاً فريداً !

ــ   جدّاً. وهذا سر إعجاب أبي به. لذلك كان يعتبر أبي أباه الروحي. أما زوجته فتعتبر أبي أباها الحقيقيّ، لأنه هو الذي وقف معها شخصيّاً في محنة زواجها، وعُدّت مساندته لها تدخلاً في شؤون العائلة، ثم أوّلوا الأمر سياسيّاً. لكنّ أبي لم يتخلّ عنّها، ظلّ يعاملها بحبّ فاق حبّه لنا نحن أهل بيته، حتّى أنّه ما انفك يسأل عنها، وأضحى لا يفيق من غيبوبة إلاّ وينطق باسمها، طالبا منّا أن لا ننسى "أختنا".

ــ   وهي تبادله حبّاً بحبّ. حتّى أنّني ظننت أنّ إلحاحها عليّ بالمجيء إلى هنا ضرب من التعجيز لي. وحينما أخذت تغريني بمواهبه كمؤرخ حسبت أنّها تريد إلهائي به وإبعادي من طريقها.

ــ   على العكس، ربما كانت تريد أن تريك الوجه الآخر للحقيقة. فأبي لم يكن سياسيّاً  ورجل حكم فحسب، بل هو رجل رواية من طبقة الثقاة، وهو عالم أنساب أيضاً. ولكن، شغلته الأحداث السياسيّة عن شؤون التاريخ، ولم يكن راغباً في ذلك قطّ.

ــ   قل لي يا أبا عليّ، ألم تستشفّ شيئاً خاصاً من إلحاح أبيك في طلبها؟

ــ   أبداً، تلك هي منزلتها الحقيقيّة في  قلبه. ولكن، ربما هو يشعر، في قرارة نفسه، أنه ساهم في محنتها أيضاً من حيث لا يقصد.

ــ   موت زوجها؟

ــ   كل شيء، بدءاً من فكرة زواجها، التي عارضتها العائلة بشدّة، لأسباب شخصيّة واجتماعيّة، إلى تقويته لطموح زوجها وإسناده ضد خصومه، وربما يقع سفره وموته ضمن هذه الدائرة أيضا.

هو. وربّ الكعبة هو ! ومن غيره يحمل هذه الصفات ! أأرادت قمر إنكار ذلك، لكي تزيد من شدّة تعلّقه بها؟ أأرادت ادّخار هذا للـّحظة الأخيرة، حينما تتأكد أنّها لن تخسر معركة جديدة، كما قالت؟ إنّه هو يا قمر، هو، لا يمكن لكِ أن تنكري ذلك. فمهما حاولتِ لن تقدري على انتزاع هذا اليقين الصادق والحاسم. لن تتمكن من الإنكار. إلاّ إذا كانت… لا، لن تكون. امرأة مثلها لن تلعب بعواطفها، ولن تقامر بمصيرها وسمعتها من أجل لا شيء ! لا يمكن لها أن تشكّ فيه أو تخطط لاختباره، لا يمكن. ليس هناك سوى تفسير واحد: إنّه هو، هو ولا أحد غيره.

كان المجريطيّ راغباً في معرفة بعض ما يدور حوله، لكنـّه وجد أنّه دخل سرداباً له ملايين الأبواب والمخارج، ولا مخرج أو باب منها يصل إلى البر الذي يريده.

الآن فقط فهم ما كانت قمر تعنيه، ويتفهم تماماً تبريراتها، التي بدت له ملفقة، وربّما مجرد أعذار وحجج، تستخدمها امرأة تريد أن توفر لنفسها قدراً من الأمان، وأن لا تخسر ما تملكه في صفقة مجهولة، مبعثها الخيال والترف والشهوة البشريّة العابرة.

كم أنتِ قويّة يا قمر ! وكم تستطيعين الاحتمال !

لم تكن دار أبي عليّ تختلف عن غيرها من دور عامة الناس، إلاّ بسعة وتعدد غرفها. فالرجل العجوز جُرّد تماماً من كل ما يملك، ووصلت به الحال حدّاً لا يصدقه عقل؛ حتّى أنه رهن آخر ما يملك لقاء بقـعة صغيرة من الأرض، تقع تحت التراب، لا فوقها؛ بقـعة قرب مشهد الإمام عليّ، اشتراها كقبر له ودفع ثمنها سلفاً.

لكنّ جو الموت والفاقة والانتظار القاسي والأسرار الثقيلة لم يطفئ نار الوقيد في الغرفة الفسيحة التي احتلت أوسع مكان من الدار: المكتبة. المكتبة المضاءة دائماً. هنا وجد المجريطيّ ما لم يجده في مكان آخر. هنا ظلّ يقلّب الصفحات تلو الصفحات وهو ينتظر مجيء قمر أو صحوة الأب. ولكنـّهما لم يحضرا، لم يصح الرجل من سكرة موته، ولم يأت ما ينبئ بقدوم قمر.

قال أبو عليّ:

ــ   هذه المكتبة مرجع لا يجد المرء مثيلاً له في أيّ مكان. لم يوافق أبي على بيعها، ولم نوافق نحن على ذلك أيضا. لكنـّه خشي منها علينا. فهو يعتقد أنّها مصدر خطر على الجميع. كما أنّها تحتاج إلى من يحميها، ونحن لا نقدر على ذلك. فبسببها يمكن أن تضيع حياتنا، وبسبب قلّة حيلتنا يمكن لها أن تضيع وتتلف.

ــ   كلّ شيء هنا لديكم معلّق بمعادلات مختلّة الأطراف.

ــ   لأنّنا في عالم مختلّ الأطراف، عالم لم يجد قاعدة توازنه. بسببه هو ذاتيّا، وبسبب ضغط ما يحيط به. فحينما يفقد أهله السيطرة على توازنهم، الذي هو قوّتهم الكبرى، يندفع الطوق المحيط بهم معتصراً قلوبهم، قبل أن يقوم بتمزيقهم  وجرّ أشلائهم إلى غير جهة.

ــ   ولكن كيف سيحفظ الأب هذا الإرث وهو. ..

ــ   على وشك الرحيل. هو قد رحل منذ زمن طويل، ولم يتبق منه هنا سوى كلمات يريد أن يقولها لأحد ما، لكي تستمر الحكاية ولا تموت. أمّا طريقة حفظ المكتبة فلم تخطر على بال أحد قطّ، ولا يعرفها أحد غيري، لأنّني كنت الوسيط فيها.

في واحدة من لحظات صحوه طلب منّي أن أعجّل بالمجيء إليه.  قال لي على غير عادته: " اغلق الباب  يا بني واستمع إليّ ونفذّ ما أقوله، ولكن قبل ذلك أجبني: هل تستطيع أن تصون هذه الكتب من عبث الأيدي وعبث الحاكم وعبث الفاقة؟" أجبته من دون تردّد:  "لا يا أبي، ولكن يعزّ عليّ أن أفقد شيئاً عزيزاً عليك كهذه المكتبة التي جعلتها آخر ما تملك"، فقال لي: "إذا كنتَ واثقاً من كلامك، وإذا كنتَ صادقاً كلّ الصدق مع نفسك في هذا القول، فما عليك سوى أن تقوم بما سأشير به عليك. اذهب إلى الكوفة، اتصل بفلان، واخبره أنّنا على استعداد لبيعه المكتبة بشرط واحد، سيكون لمصلحته ولفائدته"، قال لي: "اخبره بأنّني لا أريد منه أن يشتريها منّي مقابل ثمّن، لكي لا يعرّض نفسه للمساءلة والعقاب، ولكنّي أبيعه المكتبة مقابل قطعة صغيرة من الأرض، بحجم قامة الإنسان، قرب مشهد الإمام علي ّرضي الله عنه، أريدها قبراً لي" . ذهبت إلى الكوفة وقابلت الرجل وعرضت عليه ما قاله أبي، فاستحسنه، لأنّني عرفت فيما بعد أنّه لن يخسر شيئاً من جيبه، فهو كبير العائلة القيّمة على شؤون المقبرة. لكنّ الرجل قال لي: "أبوك راجح العقل، يريد أن يخلّصني من تهمة شراء المكتبة، ولكن كيف سأتخلص من التهمة الأكبر، تهمة دفنه؟"، عدت إلى أبي وأخبرته بالأمر حينما صحا، فأجابني جواباً عجيباً، قال: "كنت أتوقع مثل هذا السؤال، لذلك لم أعرض الحلّ عليه، لأنّني أعرف شدّة طمعه، ولو عرضته عليه مسبقاً لساومنا على أمر آخر. وجوابي جاهز وواضح وبسيط: حينما أموت لا تخبروا أحداً، وأشيعوا أنّ قريبة لي ماتت، واطلبوا منه أن يحرر أمراً بدفنها، كشرط للبيع". وبالفعل حصلنا على ما نريد. فهذه المكتبة لم تعد لنا، بعناها مقابل قبر باسم امرأة لم تمت بعد، ومقابل قبر لرجل لم يزل على قيد الحياة.

لم يعد المجريطيّ قادراً على سماع المزيد. لم يعد قادراً على حمل سرّ آخر، ولم يعد قادراً على التصريح بأنّه جاء ينتظر قدوم امرأة مجهولة، لأنّه عشق اسمها وارتحل باحثاً عنه، عابراً البحار قاطعاً الفلوات والمهامه، وحينما التقى أوّل امرأة تحمل هذا الاسم وقع في حبّها، ناقلاً حبّه من لفظ إلى جسد، من حروف مكتوبة على رقعة إلى مخلوق مزروع في أرض مليئة بالأسرار والمعجزات، أرض مليئة بالدماء والكتب، مليئة بالحراب والقصائد، مليئة باللؤم والحبّ العارم.

قال المجريطيّ لأبي عليّ:

ــ   هل تأذن لي يا أبا عليّ أن أنام ليلتي هنا، بين الكتب.

ــ   هذا لا يصح، خذ معك ما تشاء من الكتب إلى غرفتك، فنحن لا نسمح لضيوفنا أن يختنقوا برائحة الكتب.

ــ   سأكون ممتنا لو أنّكم نقلتم فراشي إلى هنا. سأكون معزّزاً هنا.

ــ   كما تشاء يا أبا سليمان.

ــ   هل تعرف يا أبا عليّ أنّني شرعت في قراءة تاريخ بغداد فور دخولي بغداد.

ــ   وماذا وجدت؟

ــ   عجب العجاب !

لم يعقـّب أبو عليّ. قام بتثاقل كما لو أنّه يقوم بعمل أرغم على فعله، سار إلى رفّ قريب واستل كتاباً ووضعه بين يديّ المجريطيّ وقال:

ــ   خذ يا أبا سليمان، هذا عن بغداد ذاتها التي قرأتها وأنت تدخل أبوابها. سنلتقي صباحا بإذن الله.

فتح المجريطيّ الكتاب وشرع يقرأ:

عجائب الزمان في موت أولي المكان

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من عجائب الزمان أنّه لم يمت خليفة عباسيّ ميتة تشبه أختها. فمن قُتل منهم مات متفرداً في طريقة مقتله، حتّى يكاد المرء يميّزهم لا من طريقة حكمهم، ولكن من طريقة ذهابهم إلى دار حقـّهم. والله وحده العليم.

قيل إن السفّاح والمهدي ماتا مسمومين، لكن الأول مات على يد كاره والثاني على يد محب.

وقيل مات الهاديّ، الخليفة العباسيّ الرابع في سريره. وقيل في وفاته أنّه حقـّا مات في سريره، لكنّ موته كان بتدبير من الخيزران، أم هارون الرشيد. لأنّها علمت أنّ الهاديّ ينوي إبعاد ابنها عن الخلافة، فأمرت جواريها، فقمن بخنق خليفة المسلمين، وضعن الوسائد على وجهه، وجلسن فوقها حتـّى مات في سريره.

وقيل، حينما هُزم الخليفة السادس، محمد الأمين، على يد أخيه المأمون، حاول الهرب، لكنّ الجند تمكّنوا منه وأسروه، وقاموا بقطع رأسه. حُمل الرأس إلى معسكر طاهر بن الحسين، الذي أبلغ المأمون النبأ السعيد. وقيل إنّ الأمين قتل وهو في السادسة والعشرين أو في الثامنة والعشرين من عمره.

ويقال أيضاً إنّ الخليفة العباسيّ العاشر، الملقب بالمتوكل، لم يمت حتف أنفه، كما أشيع، بل قتل اغتيالا؛ وقد تمّ ذلك بتدبير من قادة جنده الأتراك، وبمشاركة من أكبر أولاده.

ولم يكن الخليفة الحادي عشر، الملقب بالمنتصر بالله، غافلا عمّن قتل أباه. لذلك لم يخف كرهه للأتراك، وقيل إنّه كان يسبّهم ويقول فيهم ما لا يقال، حتـّى أنّه لم يتورع عن القول بأنّ " هؤلاء قتلة الخلفاء"، ويعني بـ "هؤلاء" قادة الجند الترك. وقد ضاق القادة الأتراك ذرعاً بهذا الخليفة المتذمّر، فسعوا للنيل منه؛ لكنـّه كان شديد الحذر، جريئاً، فلم يتمكّنوا منه. وحينما مرض قاموا برشوة طبيبه المسمى ابن طيفور. قيل إنّهم منحوه ثلاثين ألف دينار، فقام بوضع السمّ في ريشة الفصد، وحينما فُصد المنتصر بالله مات مسموما.

ومما يحكى أنّ المستعين بالله، خليفة المسلمين الثاني عشر، ترك سامراء وقرّر التوجه إلى بغداد وجعلها مركزاً لحكمه، ضد رغبة قادة الجند من الأتراك. لكنـّه لم يفلح، فألـّب المعتزّ عليه ونودي به خلفاً له، فتحاربا، وهُزم المستعين بالله، فأرسل المعتزّ سعيد الحاجب فتولى ذبحه، وكان له من العمر إحدى وثلاثون سنة.

ومن عجائب الزمان أنّ الخليفة الثالث عشر، المعتزّ بالله، الذي استولى على حكم  المستعين من طريق ذبحه، قام بخلع أخيه وولي عهده وجلده حتـّى الموت، خشية أن يقوم هذا بنفس ما قام به هو ضد المستعين. لكنّ الأتراك، الذين جلبوه إلى كرسي الخلافة راحوا يزيدون من مطالبهم، حتـّى أفلس، فتوجه إلى أمه طالباً العون منها. لكنـّها، كما قيل، كانت بخيله، فخذلته؛ ولم يجد القادة الأتراك بدّاً من صلبه وقتله. وقيل فيما قيل إنّه كان أوّل خليفة يموت عطشاً، فقد صلب وترك معلّقاً يذوي، وهو يرى ملكه وحياته يزولان معا أمام ناظريه.

أما الخليفة الرابع عشر، المهتدي بالله، فقد قتله الأتراك أيضاً، وقد تميز عمّن سلفه ومن لحقه من الخلفاء المقتولين في أنّه خسر معركة حربية مع قادة جنده الأتراك، ولم يدافع عنه سوى الفراغنة والمغاربة، ولمّا أسر تمّ عصر خصيتيه حتـّى مات. ولم يُعرف حتـّى يومنا هذا سبب لجوء قادة الجند الأتراك إلى هذه الوسيلة البدائيّة، التي هجر الإنسان استخدامها منذ أن اكتشف الآلات والأدوات. وهناك من يرجّح أنّ سبب ذلك يعود إلى أنّ واقعة قتل المعتزّ لأخيه جلداً تركت أثراً على البعض، فقد حاول المعتزّ أن يثبت أنّ أخاه توفـّاه الله في أجله المقرر، وجلب الشهود على ذلك، لكنّ السياط التي خلفها الجلد كذبت روايته. فأخذ بعضهم يجدّد في طرائق الموت، حتـّى لا يُتهم زوراً من يأتي إلى الخلافة بقتل سابقه. ولله وحده العلم.

وتذكر الأخبار أنّ أوّل من أعاد مركز الحكم إلى بغداد هو الخليفة الخامس عشر، الملقب بالمعتمد على الله. وقيل إنّه تمّ له ذلك واستطاع أن يبعد مركز الحكم عن التأثير المباشر للقادة الترك، وأن يريح نفسه من شدة تحكمهم به. وقيل أيضاً إنّه ثبُت باليقين أنّ المعتمد بالله كان واهما حينما ظنّ أنّه تمتع بالأمان في بغداد. فبعد سنة واحدة من انتقاله إلى بغداد مات مسموما. وقيل في موته أنّهم صبوا الرصاص المذاب في حلقه.

وكان أصغر من تولى الحكم هو الخليفة الثامن عشر، الملقب بالمقتدر بالله. وقد عانى هذا الخليفة الأمرّين في حكمه وفي موته، بسبب صغر سنه وتحكّم نساء القصر وقادة الجند. وقيل إنّه عُزل من قبل حاشيته البربر، ثمّ أعاده مؤنس إلى الحكم مقابل الحصول على لقب أمير الأمراء. وحينما أراد الخليفة استرداد بعض نفوذه اضطر إلى مقاتلة مؤنس، الذي انتصر عليه في معركة حاسمة وتمّ قتل الخليفة، وقيل سمّه فتاه مسرور. وبموته على يد مؤنس تخلص الخليفة إلى الأبد من ضغط الحاشية عليه، ومن تحكم قادة الجند في شؤون حياته.

وقيل فيما قيل إن الخليفة التاسع عشر، القاهر، كان محبّا للدماء، ورغم ذلك لم يمت مقتولا. فحينما رفض التنازل عن الخلافة اضطر قادة جنده إلى إرغامه على ذلك، وحينما امتنع قاموا بسمل عينيه، ولم يعد صالحاً لإدارة شؤون دولة الخلافة. وظل مسمول العينين ما يقرب من سبع سنوات، حتّى توفـّاه الله مسمولاً مخلوعا.

وقيل إنّه لا يعرف حتـّى يومنا هذا لماذا قام القائد التركي توزون بتكرار ما فعله سابقوه بالخليفة القاهر، فقام هو أيضاً بسمل عينيّ المتقي بالله، الخليفة الحادي والعشرين. لكنـّه لم يكتف بسمله وخلعه، فقد آثر توزون أن يودعه السجن حتـّى وفاته. فقد مات مسمولاً سجيناً، وهو بذلك لم يعد يشبه القاهر، كما يدّعي بعض الرواة.

ولم يتمتع الخليفة الثاني والعشرون، الملقب بالمستكفي بالله، بالحكم سوى ستّة عشر شهراً، أودع بعدها السجن حتـّى مات في سجنه، من دون أن يُسمل. وهذا ما ميّزه عن سابقيه، فقد مات محتفظاً بعينيه، وقيل أنه مات مسموماً.

ويقال إنّ الخليفة العباسيّ الرابع والعشرين، الملقـّب بالطائع، لم يُقتل أيضاً، ولم يصلب، ولم يسمل، ولم يفصد، ولم يسمم، ولم تعصر خصيتيه، ولم يخنق، ولم يسجن. فقد عاش معزّزاً مكرّماً في بيت الخليفة القادر بالله. كان يتمتع بكلّ ما لذّ وطاب في قصر القادر، الذي خلعه بمساعدة الديلم وأخذ الخلافة منه عنوة. وظل مكرّماً منعّماً، يرفل بالأمان الذي كان يفتقده وهو خليفة، حتّى ذهب إلى بارئه قبل سبع سنوات من يومنا هذا، ودفن كما يليق ببني البشر من المؤمنين، فعاش مكرّماً ومات مكرّماً.

أما القادر بالله، خليفة المسلمين الخامس والعشرون، فلا يعلم إلاّ الله ماذا تخبيء له الأيّام. ومن المشكوك فيه أن يكون الملك البويهي ركن الدولة، الذي يتولى الحكم في بغداد الآن، جاحداً وناكراً للجميل، فينسى أنّ القادر هو الذي توجه ملكاً عند قدومه من البصرة، بعد أن خلع القادة الأتراك بيعته، وسعوا إلى منحها إلى عمّه أبي كاليجار، وأنّه هو الذي أعاد الأمور إلى مجاريها، حينما حاول القادة الأتراك النيل منه فحاصروا قصره واعتدوا على أهل بيته وكادوا أن يفتكوا به، لولا لطف الله ونصرة من كان معه من الخدم.

نام المجريطيّ وهو جالس، نام تـَعَباً أو عجباً، ولكنـّه لم ينم كما ينام النائمون. كانت عيناه مغمضتين، بيد أنّ سنابك الخيل كانت تضرب قاع عينيه. كانت عروش تتساقط، وأمم تزحف من كلّ صوب، جيوش تتقاتل، وبشر يفرّون إلى كلّ اتجاه تحت أجفانه المطبقة، ولم يكن هناك أثر لقمر، كانت ظلمة الحلم دامسة.

حينما فتح المجريطيّ أجفانه رأى أوّل الأمر شعلة من النار، تشبه نيزكاً يخرّ من السماء، انقذفت في الظلام المحيط به. ثمّ رأى بريقاً حينما سقط السراج، وانسكب زيته على الكتب،  وراحت النيران تمسك بالرفوف وتلتهم  الكتب. رأى المجريطيّ وجهاً لفتى، يهمّ بقذف شعلة أخرى، فعاجله صائحاً بصوت لا يعرف من أيّ جزء من أعماقه انبثق:

ــ   قف ! لعنك الله !

لكنّ الشبح اختفى في الظلام.

هرع المجريطيّ وأيقظ أبا عليّ، ثمّ عاد إلى المكتبة وشرع يحاول مع من في البيت إخماد النار. ثمّ راحوا يفتـّشون عبثاً في الأزقة المجاورة، ولم يعثروا على أثر للفاعل. هرع الناس من كلّ صوب فساعدوا في إخماد النيران، وشرعوا يبحثون عن الجناة المجهولين في المدينة، التي أفاقت من نومها مذعورة.

كان المجريطيّ يشرح لأبي عليّ وابن أخيه هاشم ما شاهده، حينما جاء الصبي عليّ، الذي لم يتعد الثانية عشرة من العمر، وجرّ أبيه من يده وتنحى به جانباً، فقال له أبوه:

ــ   أنا مشغول كما ترى يا بنيّ، سنتكلم بعد أن أفرغ.

ــ   هذا مهمّ جداً يا أبي.

ــ   قل إذاً.

نظر الصبي إلى هاشم ابن عمه، والى المجريطيّ، كما لو أنّه يطلب الإذن، فأشار له أبوه أن يفعل، فقال:

ــ   مات جدي.

ركض هاشم، لكنّ أبا عليّ أوقفه وقال له ولعليّ:

ــ   اسمعا، لا أريد أن يعرف أحد بالأمر. وأنت يا عليّ ابق مع جدك ولا تسمح لأحد أن يعرف أو يدخل، وسأذهب أنا إلى النساء لأخبرهن بما يجب عمله. أمّا أنت يا ابن أخي فقم بإعداد لوازم الدفن، نريد كفناً إضافيّاً فوراً، وأشيعوا بين الناس أن ابنتي ماتت في الحريق.

ــ   ماذا تقول يا عماه !

ــ   افعل ما أقوله على عجل، لا وقت لدينا، يجب أن نغادر فوراً.

ــ   ولكنّي لا أفهم.

ــ   سأفهِمُك، ولكن عجلّ.

ظلّ المجريطيّ واقفاً مثل ثمِّل أخذه السكر ولم يعد يعي ما يدور من حوله. لم يعد قادراً حتـّى على صوغ سؤال. وفي حقيقة الأمر لم يكن رأسه يحمل سؤالاً محدّداً، كانت حزمة الأسئلة التي ترابطت وتشابكت في رأسه أصعب من أن تصاغ في سؤال. لكنّ أبا عليّ جرّه إلى الجزء السليم من المكتبة وقال:

ــ   سنرحل فوراً.  يجب أن ننفـّذ وصية أبي. سنضع ابنتي في التابوت، وسنحمل أبي بملابسه المعتادة، كما لو أنّه في غيبوبة. لأنّ الناس اعتادوا على رؤيته كالميت، فلن يفطنوا، وسنشيع أنّنا ذاهبون لدفن ابنتي أريج. سنعمل على إتمام كلّ شيء في الظلام، قبل طلوع الفجر. وحينما نصبح خارج عين التمر سنقوم بإخراج أريج وتكفين أبي ووضعه في التابوت.

تمّ كلّ شيء بدقـّة تامة قبل طلوع الفجر. ساروا جميعاً في قافلة صغيرة حزينة يتقدمهم دليل من أقرباء العائلة، سار خلفه تابوت أريج، تحيط به عمتاها وأخواتها الثلاث وأمها وزوجة ابن عمها، وخلفهنّ سار أبو عليّ والمجريطيّ والصبيّ عليّ، وكانت جثة الأب الهزيلة، المربوطة ربطاً محكماً والمغطاة بعناية، محاطة بذراع هاشم.

" ماذا سيحدث لقمر لو أنّها وصلت بعد رحيلهم؟ وماذا يحدث لو أنّها جاءت من طريق مغايرة ووقعت في الأسر؟"

القلق على مصير قمر والطريق أضحيا عدويه الراهنين. هكذا أحسّ المجريطيّ.

سعى المجريطيّ إلى التخفيف من وحشة الطريق، ومن ثقل مشهد الموت، وشدّة قلقه على قمر، التي لم تصل ولم يصله خبر عنها، فقال مخاطبا أبا عليّ:

ــ   هل يعني هذا أنّ سرّ مجيئها سيدفن برحيل الوالد يرحمه الله؟

ــ   من دون شك.

ــ   أنا قلق عليها.

ــ   وأنا أيضا. كنت أفكـّر في الأمر نفسه وأتساءل مع نفسي: كيف يمكن لامرأة رقيقة مثلها أن تقاوم كلّ هذا؟

ــ   هل هي قوّية؟ هل هي قادرة على الاحتمال؟

ــ   أنا أعرف أنّها عنيدة، لكنّ العناد وحده لا يكفي أمام قدر غاشم. وهذا ما كان يقلق أبي. كان يحسّ في قرارة نفسه أنّها محاصرة، محاصرة من جميع الجهات، من الداخل ومن الخارج: كره العائلة لها وخشيتهم منها، وحدتها بسبب موت زوجها، نكبة أبي، جمالها الآسر وشبابها، طيبتها المفرطة، عزلتها الإجباريّة، يومها وغدها، ضغط العامّة عليها. كان يشعر أنّها ربّما لا تقوى على حمل كلّ هذا، وأنّه ساهم، بحسن نيّة، في صناعة ذلك الحصار المفروض حولها.

ــ   ألهذا السبب اشترطت أن تكون موافقتها على ارتباطي بها مرهونة برأي المرحوم أبيك؟

ــ   ربّما كانت تريد أن ترفع عن كاهله الإحساس بتأنيب الضمير، وتخفف عن نفسها شدّة الحصار.

"الحصار! وأنا! ما نصيبي من صناعة هذا الحصار"، فكـّر المجريطيّ. هل هو جزء إضافيّ من الحصار؟ هل جاء من أقصى الأرض ليضيف محاصِراً جديداً إلى قائمة محاصريها؟ هل يمكن له أن يكون منقذاً، بدلا من أن يكون محاصِراً ومطارِداً؟ منقذاً ! منقذاً من ماذا وكيف؟

"أتهرب من التهلكة بالذهاب إليها  يا أبا سليمان؟"، " نعم، هذا ما أفكّر فيه يا ألفيرة. هناك أكون أمام خصم واحد. لكنّني هنا أمام خصوم لا عدد لهم، ولا أعرف احتمالات أفعالهم".

 أيّ خصم تواجه الآن يا عامر؟ أيّ خصم؟ أنت في أرض لا تعرف شرقها من غربها، لا تعرف عدوّها من صديقها، كيف تعرف احتمالات الأفعال؟ أيّ أفعال وأيّ احتمالات وأنت تسبح في بحر الحروب والأسرار الدائمة !

ليست العائلة وحدها، وليست ضربات القدر وحدها، أنت أيضاً صنعت بشطط خيالك أصفاداً تغلّ يديها ورجليها، صنعت بأوهامك سجناً يطوق حياتها ويحاصر مصيرها. ليس القبح والكره والغيرة وحدها ما يحاصرها، حتّى" جمالها الآسر وشبابها " أضحى عدواً يهاجم حرّيتها، ووحشاً يلتهم جسدها وروحها.

" جمالها الآسر !"، أهي جميلة إلى هذا الحدّ حقاً ! هو لم ير جمالها. لكنّه واثق تماماً أنّها أجمل الأقمار، وأجلّ المحاصرات. ماذا تراها تفعل الآن وسط هذا الطوق المرعب؟ وماذا عساه هو أن يفعل، وهو مغلول اليدين مثلها؟

بدأت الطريق تشير إلى منعطفات جديدة. مفترق طريق ذاهب إلى عمق الصحراء، وطريق أخرى تتجه نحو أرض السواد. هنا تنشطر الأقدار انشطاراً لا لحمة فيه. أي الطرقات يسلك؟

التفت أبو عليّ إلى المجريطيّ وقال:

ــ   بعد مفترق الطريق هذا ستقطع معنا جزءاً من الطريق، ولا أعرف أيّ سبيل ستختار بعد ذلك يا أبا سليمان.

فكـّر المجريطيّ: وهل هناك سبيل آخر؟ كلّ الاتجاهات لا تقود إلاّ إليها . أينما توجه ستحمله قدماه إليها . ولكن، أين هي الآن؟

ردّ المجريطيّ:

ــ   كنت أودّ أن أسير معكم إلى آخر الطريق، وأشارككم في تقاسم  المحنة.

ــ   أنت معنا، وفي قلوبنا، وسنكون سعداء وأقوياء بك حينما تكون في أمان.

قال هاشم وهو يحتضن جثـّة جدّه ويشدّها إليه بقوة:

ــ   هل تعرف الطريق جيداً يا أبا سليمان؟

ردّ المجريطيّ بثقة:

ــ   لا تقلقوا، خرائط أرض السواد أضحت مطبوعة هنا، في دماغي.

 

(16)

طلع الفجر وهم سائرون باتجاه أرض النجف. تركوا خلفهم المدينة تستقبل الفجر بالتماعات مياه السواقي الشفيفة ورائحة البساتين، وساروا في أرض شاسعة، عارية، تكسوها الرمال والأسباخ. كان التابوت في المقدمة، تلاه موكب النسوة والأطفال، وخلفهم سار الرجال. كان فرس المجريطيّ يجاور فرسيّ أبي عليّ وهاشم، يتبعهم الصبيّ عليّ. لبث المجريطيّ مشغولا يفكّر في الطريق الأقصر، الذاهبة إلى بغداد، التي سيسلكها حينما يفترق عن الجماعة.

مرأى الجنازة: التابوت الملفوف بقماش أخضر، والنسوة المتّشحات بالسواد في هذا التيه الأجرد ضاعف من حدّة الإحساس بالوحشة وفقدان المعنى. أيّ معنى يستخلصه المجريطيّ وهو يجد  نفسه سائرا في جنازة رجل لا يعرفه، رجل ميت يحمل رسالة مجهولة الكلمات عن رجل مجهول ! أحسّ أنّه رسول من رجل ميت، يحمل وصيّة مبهمة، عن سرّ لا يخصّه، لكنّ حياته كلّها تتعلق به، ومصيره بأكمله يرتبط بمعانيه ودلالاته ويتوقف عليه. فكّر في قمر، في لقائهما الأخير، في الأمل الذي زرعته في قلبه، في اللقاء المرتقب بها،  في كشف الحقيقة المتعلقة بزوجها وابنها وحياتها الخاصّة، الحقيقة التي كان مؤملا لها أن تفتح الطريق أمامه لكي يفوز بها.

قالت قمر:

ــ   لا أستطيع أن أقرّر شيئاً قبل أن أعرف حقيقة ما حدث. لا أريد أن أرتكب خطيئة بحقّ نفسي، وبحقّ ابني وبحقـّك أيضا.

أجاب المجريطيّ بانفعال، وهو غير قادر على تفسير دوافعها وفهم تبريراتها الغامضة:

ــ   لكنّه مات، مات وأنت تعرفين ذلك.

ــ   نعم مات. لم أعد أشكّ في هذا، لكنّني أمّ ولده، أمّ ولد تتنازعه الطائفة، وقد وضعه أمانة في عنقي. كيف لي أن أهجره إلى رجل آخر قبل أن أعرف حقيقة وضعه، التي هي حقيقة وجودي ومصيري ومصير ابني !

ــ   لا توجد حقائق، لا شرعاً ولا أخلاقاً ولا عرفاً، تلغي كونك امرأة حرّة، يحقّ لها أن تختار من تشاء، على سنّة الله ورسوله.

ــ   كيف أكون حرّة، وأنا لا أشعر بهذه الحرّيّة في أعماقي ! لن أكون حرّة، ولن أستطيع منح نفسي  لأحد جسداً وروحاً، قبل أن أحرّر نفسي من كلّ دين له برقبتي.

ــ   أتحبّين ميّتا؟

ــ   الوفاء غير الحبّ يا أبا سليمان.

ــ   هذا امتحان عسير لي.

ــ   وامتحان أكثر عسراً لي. أنتَ تمتحن قلبك، تمتحن رجولتك، لكنّ امتحاني هو امتحان الأمّ والزوجة والمرأة والحبيبة، امتحان القلب والعقل والواجب والضمير. امتحان أكثر عسرا يا مجريطيّ؟ ولكن لا تبتئس، نحن نقترب من نهاية الطريق، فاصبر، إنّ الله مع الصابرين.

سكت المجريطي وهو ينظر إلى وجهها المختفي تحت ظلمة الخمار، هذه الظلمة العدوانيّة الباغية، التي تحجب عنه سبيل الوصول إلى أعماقها القلقة، المرتبكة. لم يعد يعرف ماذا يقول وهو يسمع كلماتها الغامضة، الضبابيّة، التي لا يستطيع فهم رسالاتها جيداً. شيء ظالم، كهذا الخمار اللئيم، يسدّ عليه أفق الرؤية ويقتل فيه فورة الأمل.

لم يعد أمامه سوى الصبر. هل هي حقـّا تحبّه كما يحبّها؟ أم أنّها امرأة لاحقتها المكائد والشدائد فأرادت أن تحتمي به؟ هل تحمي أسرارها به؟ هل تحمي وجود طفلها به؟ هل تتخذ منه ستراً يحمي وجوداً مهدّداً، قد يضيع منها في حمّى التدافع من أجل الزعامات؟ وما صلته هو بهذا؟ لقد هرب من قدره السياسيّ، هرب  من تكالب قرطبة على العرش والحكم، هرب  من أعداء  يعرفهم وها هو يصنع لنفسه، أو يصنع بحبّه  لقمر، أعداء لم يكونوا ضمن قائمة الأعداء يوم أمس !

ــ   هل سمعت بآل نصير؟

نطق أبو عليّ فقطع على المجريطيّ حبل أفكاره وأعاده إلى موكب العزاء.

ــ   لا، من هم؟

ــ   بين النسوة واحدة منهم.

ــ   من تكون؟

ــ   أم عليّ، زوجتي. حينما سمِعَت أوّل أمس أنّ أندلسيّا حلّ في بيتنا ضيفا أجهشت، وحينما أخبرتها بأنّك من المولّدين صار بكاؤها نحيبا.

ــ   لم؟

ــ   أنا مثلك تساءلت ولم  أستطع أن أجد جوابا شافيا. فهل يعقل أن تثور في نفس المرء أسئلة نائمة منذ قرون؟

ــ   حيّرتني أسئلتك.

ــ   وحيّرتني أنا أيضا. آل نصير بعض أقدم أبناء هذه المدينة، جدهم الأكبر رجل اسمه نصير، من العرب النصارى، الذين أسروا في عين التمر بعد فتحها. هل فهمت؟

ــ   كان أبو مهديّ يردّد قائلا: كلّما اتسعت ضاقت، وها أنت تضيّقها عليّ بشرحك، فكلّما أفضت في الحكاية ازدادت حيرتي وتعاظمت دهشتي.

ــ   نصير هذا، هو أبو الفاتح العربيّ موسى بن نصير.

ــ   فاتح الأندلس ! ما أعجب الأياّم، وما أعجب حدثان الزمان !

ــ   من يصدق أن أندلسيّا من أصل اسبانيّ، يأتي مسلما، ويحلّ ضيفا على دار في آخر الدنيا، ويكتشف أنّه ضيف ابنة فاتح بلاده، وأن آباء هذا الفاتح كانوا على دين القوم الذين ذهب الابن لفتح بلادهم ! حينما سألتها هل تتعاطفين معه لأنّه غريب وفي محنة؟ قالت لي: لا أدري، ولكنّني أحسست أنّي لا أقوى على إيقاف جيشان نفسي وثورتها، شيء خفيّ، لم ولن أدركه يحملني على البكاء.

ــ   ما أوسع العالم وما أضيقه !

ــ   في معركة عين التمر التي خاضتها جيوش الفتح بقيادة خالد بن الوليد هنا، على هذه الرمال، ارتكب القائد العربي النصرانيّ  عقـّة بن أبي عقـّة عدداً من الأخطاء المميتة، وهي أخطاء فنيّة وأخلاقيّة وسياسيّة وثقافيّة حينما ناصر الفرس على العرب، وحينما بالغ في الولاء طالباً من الفرس أن يتركوا العرب له لأنه، كما ادّعى، أدرى من الفرس بقتال أبناء قومه؛ وقد أثبت عكس ذلك تماماً.

ــ   كم شربت هذه الرمال من الدماء !

منظر التابوت السائر في هذا التيه الواسع، ومن خلفه نسوة متشحات بالسواد،  يليهنّ رجال يملأ الحزن والقلق نفوسهم، جعل المجريطيّ يغرق في  لجّة سوداء، ويفكّر في أنّ القدر قدم  رعناء، لا تتوانى عن دوس كلّ ما يقابلها أو يقطع عليها طريق سيرها.

فجأة توقف الدليل، الذي يقود المقدمة. جفلت الخيول والبغال واضطربت. اندفع أبو عليّ إلى المقدمة وراح ينظر إلى حيث يشير الدليل. عاد مسرعا وهو يقول:

ــ   تجمعوا في كتلة متراصّة حول التابوت.

أسرعوا جميعهم يحيطون بالتابوت، بينما انطلق الدليل في اتجاه الأفق. قال أبو عليّ:

ــ   لا تخافوا، ربما لا يكونون قطاع طرق، قد يكونون بعض الجند في طريقهم إلى مكان ما.

توقف الدليل في الأفق العاري، ثم استدار منطلقا، عائداً صوبهم، لكنّه لم يعد وحيداً. كان فرسه يعدو تتبعه أعداد كبيرة من الخيول تثير خلفها الغبار. وسرعان ما ابتلعته سحابة الغبار ولم يعد يُرى له أثر وسط تقدم الخيول السريع والمباغت.

في لحظات معدودات وجدوا أنفسهم محاطين بأعداد غير قليلة من المقاتلين. عجز المجريطيّ عن إيجاد فكرة محددة، عدا فكرة واحدة: أنّهم واقعون في الأسر، بينما كان أبو عليّ يحاول مع هاشم تعيين عدد وطبيعة المهاجمين، لكنّهما عجزا عن ذلك فهمسا بخوف:

ــ   خليط عجيب من مرتزقة وجند ومدنيين.

تقدم أحد المهاجمين وقال:

ــ   لا نريد بكم شراً، ولكن سيروا حيث نسير، ولا تثيروا المشاكل.

ساروا بصمت وخوف، يحيط بهم عدد يقرب من أربعين مقاتلا، بعضهم لا يحمل سوى السيوف، ومنهم من كان مدجّجاً بالسلاح.

انحرفوا عن طريق القوافل وأوغلوا في طريق لم تسلكها الأقدام، حتـّى أشرفوا على قرية صغيرة مهجورة،  هي عبارة عن بقايا بيوت طينيّة دارسة. توقفوا وهجموا على التابوت، أنزلوه إلى الأرض، وفتحوا غطاءه، ثمّ رفعوا الجثة وأعادوها إلى الصندوق. وحينما فرغوا من ذلك فصلوا النسوة عن الرجال وراحوا يدققون في هيئاتهن.

اجتمع بعضهم وراحوا يتشاورون. وحينما فرغوا من الكلام أشار أحدهم إلى بعض المقاتلين فترجل بعضهم وشرعوا يجرّون النساء إلى بناية مهدّمة مجاورة.  لكنّ النسوة تمكنّ من أخذ الصبيّ عليّ معهنّ. حاول بعض المسلحين منعه من الذهاب معهنّ، لكنّ أخته الصبيّة  تشبّثت بملابسه.  قفز أحد المسلحين وجر الفتاة بعنف فانزاح خمارها عن وجه جميل، باك وعنيد.

ــ   اتركيه يا أريج، اتركيه يا بنيّتي !

صاح أبو عليّ، لكنّ أريجا تشبثت بأخيها وتمكنت من سحبه اليهن.

 أخذته النسوة معهنّ. بينما بقي الرجال الثلاثة في الأسر، مجردين من السلاح، محاطين بجمع كبير من المسلحين، يتحركون بعصبية على خيول غاضبة.

انفصلت مجموعة من المسلحين على عجل وذهبوا في اتجاه البناية، فأخذت تصل إلى مسامع الرجال أصوات النسوة الصارخات.

فجأة تحرك أحد المسلحين مسرعاً، وهو فتى لم يبلغ سن الرجولة، ووقف في منتصف الطوق. أحسّ المجريطيّ أنّه يعرف هذا الوجه، لكنّه لا يتذكر من هو. قال الفتى:

ــ   إنّهم يغتصبون النسوة.

ردّ مقاتل مدجّج بالسلاح، شرس الوجه، يبدو أنّه زعيمهم:

ــ   لا، أيها الولد، هؤلاء الرافضيات يرفضن تسليم مصوغاتهن، نحن نعرف مكر الرافضيات، ونعرف أين يخبئن مجوهراتهن.

ــ   هل أنت متأكد؟

ــ   وهل أنت رافضيّ؟

رد الفتى الغاضب:

ــ   اسكت أيها التركيّ، أنا أشرف من أن أكون رافضيّا، لكنّني أسمع. ..

ما كاد الفتى يكمل جملته حتّى رأوا امرأة تخرج من البناية ممزقة الملابس، منكوشة الشعر، لكنّ رجلين من المسلحين تلقفاها وحملاها مجدّدا إلى البناية، فاشتد صراخ النسوة.

صاح الفتى مجدّدا:

ــ   هذا ليس تفتيشاً !

فرد الرجل الذي نعته الفتى بالتركي قائلا:

ــ   وماذا تسمّيه؟

ــ   هذا اغتصاب، نحن لا نرضى أن تغتصب امرأة، حتّى لو كانت رافضيّة.

أجابه التركيّ:

ــ   اسمع، أنا لا أحبّ أن أتجادل مع فتى غرّ مثلك، دع أخاك يتحدث. لماذا لا تتحدث يا منصور وتقول لأخيك أن يدع الشهامة والشرف الآن. مهمتنا الآن هي أن نأخذ الرافضيّ بأسرع وقت، واتركوا ما هو غير مهم الآن، سنتحاسب في الأمور الثانويّة فيما بعد.

تقدم الرجل التركيّ، الذي هو قائدهم من الرجال المطوّقين، نزل من حصانه واقترب من أبي عليّ وقال له بصوت خافت جداً:

ــ   من منكم الرافضيّ؟ وأين أخفيتم الطفل؟

ردّ أبو عليّ:

ــ   لا يوجد عندنا طفل نخفيه، الأطفال الذين معنا أمامكم.

فقال الرجل بغضب وبصوت خفيض:

ــ   لا تتحدث بصوت عال، أنا لا أعني أطفالك، أعني الطفل الرضيع، سلمونا الطفل والرافضيّ تسلموا.

ــ   قلت لك لا يوجد في عائلتي طفل غير هؤلاء، أما الرافضيّ فهو أمامك، أنا.

ــ   أنا لا أعنيكما أنت وابن أخيك، أعني الجاسوس الرافضيّ.

ردّ أبو عليّ بصوت غاضب:

ــ   لا يوجد جاسوس بيننا، ويبدو أنّكم تعرفون جيداً من نحن، لا يوجد شيعيّ هنا غيرنا أنا وابن أخي.

فرد قائدهم صائحاً بصوت مسموع للجميع:

ــ   تنحيا جانباً واتركاه، فهو مطلبنا.

صاح أبو عليّ:

ــ   ولكنّه ليس شيعيّا، هذا أبو سليمان المجريطيّ.

تساءل الفتى:

ــ   وماذا يعني هذا؟

همهم غير واحد من الفريقين، فرّد قائدهم:

ــ   المجريطيّ أو العضريطيّ، لا يهمنا هذا، تنحيا ! لا نريد أن نسبب الأذى لأحد.

اطمأن أبو عليّ إلى كلام الرجل. فلو أنّهم أرادوا بهم شراً لهاجموهم فورا. هذا الإحساس ولد في نفس المجريطيّ وفي نفس أبي عليّ في اللحظة ذاتها. همسّ أبو علي في أذن المجريطيّ:

ــ   لا أظن أنّهم يريدون بك شرّاً، ماذا تظن؟

ــ   أنت على حق، ولكن ماذا عنكما، وماذا عن النسوة؟

ــ   سنلتقي إذا كتبت لنا حياة، أما النسوة فلا تخف عليهن، فلو كانوا من العيارين حقـّاً، لن يؤذوهنّ. لأنّ الفتيان يسرقون ويقتلون، ولكنّهم لا يستبيحون الحرمات.

شرع أبو عليّ وابن أخيه يتراجعان إلى الخلف؛ أمسك أبو عليّ كفّ المجريطيّ مودعاً وهو يقول:

ــ   كنت أخا حقيقّيّا يا عامر.

ــ    وسأظل يا أبا عليّ، أعدك أنّنـ...

قبل أن يكملا كلامهما اندفع بضعة مقاتلين صوبهم من غير اتجاه، واستطاعوا أن يفرقوا بينهم. أسرع خمسة منهم بعزل المجريطيّ عن أبي عليّ وابن أخيه، وحينما تمّ لهم ذلك اندفعوا نحو أبي عليّ وابن أخيه وأعملوا فيهما طعناً، حتـّى تمزق جسداهما تمزيقا. خرّ أبو عليّ وهو ينظر إلى المجريطيّ، كما لو أنّه كان يريد أن يوصيه بأمر ما.

ترجلت مجموعة من المهاجمين. أحاطوا بالمجريطيّ، ثم قاموا بتكتيفه بغلظة شديدة بحبل. ومن باب البناية الخربة رأى المجريطيّ جسداً صغيراً ينطلق راكضاً نحوهم، يثير الغبار وبيده سيف بطول قامته. كان الصبي  عليّ قد بقي حياّ، وربّما كان مختبئاً يشهد عملية اغتصاب عائلته. اندفع نحوهم كالمجنون. لكنّه ما كاد يخطو بضع خطوات حتـّى انطلق إليه عدد من الفرسان في صفيّن متوازيين شاهرين سيوفهم. لم يتوقف الفرسان، مرّوا صفين بجوار الجسد الصغير، وحينما تجاوزوه رأى المجريطيّ ما لا تكاد عيناه أن تصدقاه. رأى جسد الصبي يسير راكضاً إلى الأمام من دون رأس. أغمض المجريطيّ عينيه وهو يرى الصبيّ ينكفيء إلى الأرض. حاول المجريطيّ الانتفاض، ساعياً إلى تحرير جسده الموثوق من قبضاتهم، لكي يبعد عنه أنفاسهم وروائح أجسادهم العفنة، لكنّ قبضات الفرسان كانت أقوى منه.

ساد صمت قاتل.

لم يُسمع للنسوة صوت. أشار كبيرهم إلى التابوت. تقدم أحدهم ورفع الغطاء مجدداً، ولم يكتف بإخراج الجثة، بل شرع بتمزيق الكفن، وقال:

ــ   هذا رجل وليس امرأة.

ردّ زعيمهم:

ــ   هذا ليس شغلنا، رجل أو امرأة.

لكنّ بعض الفرسان قرروا، لسبب ما، أن يترجلوا ويلقوا نظرة على الميت.

أصبح الارتباك بادياً على الجميع. صمت النساء أخرس نوبة الاحتجاج في نفس الذين اعترضوا على اغتصابهن، وبريق الذهب الذي حمله المغتصبون عزز الثقة بين الجماعات المختلفة؛ إلاّ أن شيئاً غامضاً ظلّ يسود المكان. كانوا كما لو أنّهم لا يعرفون كيف يبدأون الخطوة القادمة، أو كما لو أنّهم لم يتفقوا على تفاصيل الحدث.

أشار قائدهم إليهم بالرحيل. وضعوا المجريطيّ على صهوة جواد وشرعوا برفع جثة الميت، لكنّ القائد أشار إلى بعضهم فأسرعوا في اتجاه البناية. وحالما دخلوا وصلت إلى مسامع المنتظرين بضع صرخات نسائيّة وأنّات مكتومة.

ــ   لماذا تقتلوهن؟

صاح الفتى  متسائلا وهو يقترب من المجريطيّ، الذي تذكر وجه الفتى فوراً، فأجابه قائدهم:

ــ   هذه أمور لا يفهمها صغير، قليل الخبرة مثلك، لا يصح أن نتركهن جريحات ينزفنّ في العراء.

قال آخر:

ــ   لكنّكم قلتم إنّكم قمتم بتفتيشهن حسب؟

ــ   أردنا أن نفعل ذلك، لكنهنّ أبين وقاومن فجرحن بعض رجالنا. الذنب يقع عليهنّ، الرجال قاموا بواجبهم، نفـّذوا المهمّة، ودافعوا عن أنفسهم.

ــ   وماذا يعني المجريطيّ؟

تساءل الفتى ذاته، الذي اعترض على قتل النسوة.

 أجاب قائدهم:

ــ   وما أدراني !

التفت الفتى إلى المجريطيّ وقال:

ــ   أنت ! ماذا يعني المجريطيّ؟

أجاب المجريطيّ:

ــ   تعني الأندلسيّ، أي من مكان ما في بلاد الأندلس.

ــ   أسمعت يا منصور من الأندلس.

نطق الفتى موجهاً كلامه إلى شخص أكبر منه سناً، فاقترب هذا من المجريطيّ وسأله:

ــ   هل أنت رافضيّ؟

ــ   لا.

ــ   من أي قوم أنت؟

ــ   أنا عربيّ من الأندلس.

 نطق المجريطيّ جملته ليس حبّا في التوضيح، ولكن رغبة غامضة في معرفة ماذا يدور في رؤوسهم، رأس الفتى الصغير خاصة. ولسبب مجهول أضاف قائلا:

ــ   عربيّ أمويّ.

 نطق العبارة وهو يدرك تماماً أنّه في بقعة لا يجوز له أن ينطق فيها مثل هذه الكلمات  القاتلة.

فجأة اضطرب الجمع، كما لو أنّ زلزالاً أصاب المكان. بلمح البصر انقسم الفرسان إلى فريقين متقابلين، ووقفا صفاً في مواجهة الآخر، فأضحى المجريطيّ في وسطهم. تراجع الفريقان خطوات إلى الخلف.

بدا الفريق الذي انضم إلى مجموعة القائد متماسكاً، صامتاً، هادئاً، ولكن بحذر شديد، بينما اضطرب الفريق الآخر وراحوا يتهامسون ويتشاورون بانفعال بيّن، ثم عادوا إلى وضع التقابل. منح هذا التقسيم المجريطيّ صورة مشوشة عن الفريقين، لكنّه لاحظ بوضوح أنّ الفريقين يختلفان في درجة التسليح وفي الهيئات. كان أفراد الفريق الذي انضم للقائد مدجّجين بالسيوف والرماح والنبال،  خشني الوجوه، بينما كان أفراد الفريق الآخر يرتدون ثيابا مدنيّة اعتياديّة ولا يحملون سوى السيوف وبعض النبل. أهُمْ من العيّارين؟ فكّر المجريطيّ. تقدم الشاب، الذي اسمه منصور، والذي يبدو أنه زعيم المعترضين، وقال:

ــ   لماذا قلتم إنّه رافضيّ يا توجاي؟

رد القائد توجاي  من الجهة المقابلة:

ــ   وماذا يهمكم إذا كان رافضيّا أو لم يكن. لقد اتفقنا على أنّ الغنائم ستكون من نصيبكم والرجل من نصيبنا.

ــ   ولكنّكم كذبتم. نحن لا نستطيع تسليمه إليكم إذا لم توضحوا لنا لماذا كذبتم علينا؟

بحركة سريعة ومباغتة قام ثلاثة ممن يطوقون المجريطيّ بدفع الرجلين اللذين يحيطان بالمجريطيّ، وجروه باتجاه الصف المعترض وهم يشهرون سيوفهم.

صاح التركيّ قائد المسلحين:

ــ   أتشهرون سيوفكم في وجوهنا؟

ــ   لا.

ردّ الشاب، زعيم المجموعة المعترضة، فأعاد أصحابه سيوفهم إلى أغمادها. ثم أضاف:

ــ    لكنّنا لن نرتضي أن تستغل ثقتنا بك يا توجاي.

ــ   لا أحد يستغلكم، هذه بعض أسرار مهنتنا لا أكثر، لماذا تحمّلون الأمور أكثر مما تحتمل. لكنّني أرى أنّكم طمعتم حينما أدركتم أنّكم تمتلكون أسيراً ثميناً.

ــ   نحن أشرف من هذا أيّها التركي.

ــ   وأنا أشرف منك أيّها البغداديّ، لأنّني لم أخن عهدي.

فجأة استل الجميع سيوفهم. أشار زعيم العيّارين إلى مجموعته، فبدأوا بالتراجع إلى الوراء بحذر، بينما بقى رجال الصف المقابل يراقبون بصمت وهم على أهبة الاستعداد للقتال.

صاح توجاي:

ــ   إلى أين تذهبون؟

ردّ زعيم العيّارين:

ــ   لن نذهب إلى مكان، سننتظر حتـّى توضحوا لنا سبب كذبكم علينا، لأنّنا لن نسلم أمويّا لكم، إذا لم توضحوا لنا ما هي نيّاتكم الحقيقيّة؟

ــ   وماذا تكون نيّاتنا؟ أنتم تعلمون لمن نعمل، فماذا يمكن أن تكون نيّاتنا !

ــ   لا ندري. هذا أمر متروك لكم.

ــ   إذاً دعونا نسير، ونحسم الأمر في الطريق، وبهذا نكون قد وفقنا بيننا وأنجزنا مهمتنا.

ــ   لسنا في عجلة من أمرنا. فالجميع الآن موتى، وهذا الأسير بحوزتنا وحيدا أعزل. سننتظر ردكم. حينما تكونون جاهزين للإجابة نادوا علينا، سنمكث في هذه الدار الخربة.

ــ   هذا عين العقل. نحن أيضاً نحتاج إلى قليل من الراحة.

نطق توجاي بصوت وديّ، وأشار إلى رجاله أن يترجلوا، فنزلوا من على صهواتهم، بينما توجه الفريق الآخر نحو الدار.

حالما دخلوا واجهتهم رائحة الدم والعفونة. أجساد النسوة عارية، منتهكة، مبقورة البطون، بعضها مقطوعة الأيديّ. لم يتمكن المجريطيّ من معرفة أمّ عليّ، فقد كانت أجساد أمّ عليّ وزوجة هاشم وأختيّ أبي عليّ تتجاور منقوعة بالدم. نظر في وجوه النسوة الأربع فأدرك أن وجوه القتلى تشبه بعضها، كلّها تنظر إلى السماء بريبة، متسائلة عن مغزى ما يحدث. كانت الصبيّة أريج تستلقي على ظهرها، بوجه مدمى، مفتوحة الساقين وطعنة قاتلة تمزق أسفل عينها اليسرى. أسرع الفتى إليها  وراح يسترها دامع العينين. ثم شرعوا بدفن الجثث صامتين. وحينما فرغوا قال أحدهم:

ــ   ماذا يدبّر التركيّ؟

ــ   ربّما يدبّر عذراً يقنعنا به، فعقله لا يشتغل سريعاً.

ــ   وما نفع الأعذار وقد حدث ما حدث.

ــ   ماذا تعني ! هل نسلّم الأمويّ؟

ــ   ماذا تقول!؟ على أجسادنا. لكنّني أفكّر في أمر آخر. أنا أظنّ أنّ توجاي يدبّر شيئاً.

ــ   وأنا أيضاً أعتقد هذا، فقد سمعتم قوله إنّهم يريدون أيضاً أن يأخذوا قسطاً من الراحة، وإنّنا جميعاً نعرف أنّهم لم يبذلوا  جهدا يتطلب الراحة.

ــ   إلى أيّ شيء تريد أن تصل؟

ــ   أظن أنّهم يحاولون الحصول على مزيد من الوقت.

ــ   نعم، ربّما هم ينتظرون مدداً.

قدّموا للمجريطيّ ماء وبعض التمر، فرفض أن يأكل، لكنّه شرب جرعة صغيرة من الماء حينما ألحّ عليه الفتى وهو يجلس إلى جواره، ناظراً إليه بإعجاب:

ــ   أنا اسمي ياسر، وذلك أخي منصور، هل حقـّا أنت أمويّ؟

ــ   نعم.

ــ   جئت من الأندلس؟

ــ   نعم.

ــ   ولماذا إلى بغداد؟

ــ   لأنّ الناس يسمّونها سرّة الدنيا.

ــ   سرّة الدنيا، وهل للدنيا سرّة؟

ــ   لماذا اختصمتم مع أصحابكم؟

ــ   ليسوا أصحابنا، هم من المرتزقة الأتراك، الذين يتعاونون مع قادة الجند، ونحن نتعاون معهم في أعمال مشتركة، لكنّنا نادراً ما نخرج إلى القتال خارج المدن.

ــ   ولكنّكم تقاتلون الآن خارج المدن.

ــ   لقد استغفلونا، قالوا إنّنا سنساعدهم باختطاف رافضيّ كبير.

ــ   هل تعرف يا ياسر أنّني رأيتك يوم أمس أثناء الحريق.

ــ   صدقت، كنت هناك، وذلك كان اتفاقنا مع الأتراك. أن نتسلل إلى البيت ونحرقه. قرّرنا أن نبدأ الحريق من المكتبة، لأنّنا وعدنا متنفذاً كبيرا بحرقها لصالحه. كنا نريد أن نضرب عصفورين بحجر واحد. بعد حرق المكتبة يندلع الحريق في البيت، فيتمكن جماعة توجاي من أسرك، وبذلك تكون أنت العصفور الثاني. لكنّنا كما تعرف لم ننجح في الأمر، فاضطررنا إلى متابعتكم بصحبة جماعة توجاي إلى العراء.

ــ   ولمن تعملون؟

ــ   بالنسبة لقتل الرافضة نفعله لأنّنا ضقنا ذرعا بممالأتهم الملك البويهي ضد خليفة المسلمين، وبالنسبة للسلب فهو مهنة، نتكسب منها.

ــ   ضقتم ذرعا بملك بويهي، لكنّكم تتحالفون مع جند أتراك.

ــ   أحيانا تختلط الأمور عليّ، لكنّ أخي منصوراً يعرف أكثر منّي.

كان منصور يصغي باستمتاع إلى حديث المجريطيّ وأخيه، وحينما سمع اسمه يتردد، قال:

ــ   لا تندهش يا أمويّ، أحيانا تختلط الأمور إلى حد لا يصدق، فحريق المكتبة قمنا به لصالح رافضيّ كبير.

ــ   لماذا؟

ــ   لا يهمنا هذا. نارهم تأكل حطبهم !

ــ   لكنّكم قتلتم أبرياء اليوم.

ــ   لم نقتل أحداً، ولم نوافق على اغتصاب النسوة.

ــ   لكنّهن اغتصبن وقتلن.

ــ   لا تنس كم قتلوا منا !

أحسّ المجريطيّ أنّ الانتقام هو الحيّ الوحيد في هذه البقعة الدامية. في بيئة الثأر لا شيء يموت، كل شيء يحيا ويُبعث من جديد.

قال منصور:

ــ   قل لي يا أمويّ، ماذا كان توجاي يهمس في أذن الرجل الشيعيّ؟

ــ   لم أفهم الحديث كلّه، لكنّي سمعته يسأل عن رافضيّ.

اقترب أحد العيارين منهم وهمس في أذن منصور قائلا:

ــ   الأتراك بدؤوا يأكلون.

قفز منصور فجأة وراح يتشاور مع بعض أصحابه.

تحرك العيّارون بخفة وحذر إلى جيادهم، ثم أرسلوا شخصاً إلى المجموعة التي ظلّت تحرس البناية من الخارج.  طلبوا من الحرّاس أن يراقبوا حركة فريق توجاي، ثمّ ينسحبوا بهدوء واحداً بعد الآخر بعد تحرك المجموعة كلّها.

نفـّذ الجميع الخطة بدقـّة. شرعت المجموعة بالتسلل من الجهة الخلفية، وحينما أصبح جلّ الفريق في الخارج انطلق الجمع باتجاه الطريق الذاهبة إلى صوب النهر، ولم يلبث من تبقى منهم أن انطلقوا في إثرهم.

قال الفتي:

ــ   نجونا ! هل أفك رباط الأمويّ؟

ــ   ليس بعد.

 رد منصور، وأضاف:

ــ   لا بدّ أن نترك العراء، لكي لا نظلّ مكشوفين. علينا أن نتجه نحو المزارع القريبة.

انطلقوا في اتجاه بساتين نخيل، تحاذي مجرى النهر. أصبح مسيرهم مجهداً، لكنّه أكثر أماناً من مسيرهم في العراء.

ــ   ربّما نستطيع الآن أن نقول نجونا.

نطق منصور بثقة وفرح، فتهللت وجوه الجميع. لكنّهم لم يستمتعوا بنشوة النجاة طويلاً. فجأة خرّ الفارس المتقدم في الطليعة على الأرض هو وفرسه، كما لو أنّه وقع في حفرة. توقفوا جميعهم  بارتباك واضطراب، ثمّ انكفأوا إلى الخلف. وحينما استداروا على أعقابهم رأوا فريق توجاي في مواجهتهم. صاح منصور:

ــ   إلى القتال !

اندفعوا صوب جماعة توجاي، لكنّهم واجهوا حشداً كبيرا من الجند الترك، يفوقهم عدداً هبّ لمساندة جماعة توجاي. أراد زعيم العيّارين التراجع لكنّه أدرك أنّه وقع في الفخ، فصاح:

ــ   إلى النهر !

اندفع الفريق إلى النهر، لكنّهم لم يبلغوه، فقد أخذت النبال تنالهم واحدا إثر الآخر؛ وحتـّى من تمكنوا من الوصول إلى النهر خرّوا صرعى، وعادت الخيول من دونهم أو عادت بهم إلى الشاطئ قتلى، عدا الفتى ياسر. نجا ياسر بأعجوبة من قاذفي الرماح، ثمّ راح يخوض في النهر مبتعدا، لكنّ سهما أصابه في ظهره أوقعه على وجهه. عاد فرسه، أمّا هو فأضحى هدفا لرماة النبل. انحدر جسده غاطسا لا يرى منه سوى رأس الرمح وبقعة الدم التي تحيط بالجسد. توقف الرماة برهة، وراحوا يمشّطون المناطق القريبة من النهر بحذر وصمت. فجأة قطع أحدهم الصمت صارخا:

ــ   أدركوا ياسراً !

نطق ذلك وهو يشير إلى بقعة معتمة في الماء أخذت تبتعد منحدرة مع انسياب النهر باتجاه الضفـّة الثانية. تراكض الرماة يخوضون في النهر وهم يطلقون السهام. لكنّ جسد الفتى ياسر ظلّ يبتعد، وهو يحمل في قفاه سهما يشقّ سطح الماء.

في المنعطف غاب ياسر عن الأنظار، فكفّ الرماة عن قذف السهام.

سلّم توجاي المجريطيّ إلى القائد التركي، الذي وصل للنجدة، فأحسّ المجريطيّ بشيء من الأمان وهو يتخلص من قبضة عصابة المرتزقة.

 

(17)

حينما اقتربوا من بغداد، بدأت علامات القلق تظهر واضحة على سلوك قائد فصيلة الجند المكلّف بتسليم المجريطيّ إلى حامية بغداد. لكنـّه لم يتخل عن دماثته وحسن تعامله مع المجريطيّ. لذلك لم يتمكن المجريطيّ من إدراك حقيقة ما يدور حوله. مشاهد الموت: مقتل أبي عليّ وابن أخيه، وصورة عليّ راكضاً من دون رأس، ورأس أريج المفلوج، ووجوه النسوة المغتصبات القتيلات لم تزل تنثال على ذاكرة المجريطيّ بقوّة، مستنفرة حواسّه كلّها، مختلطة  بصور العيّارين الذين قضوا عند النهر. ظلّ يراقب كلّ ما يجري حوله بدقـّة وخوف ويحاول تفسيره قدر ما يستطيع. الاختلاف بين همجيّة مقاتلي توجاي وانضباط جند قائد الفصيل كبير جدّا، لكنّ هذا لم يقلل من خشية وحذر واضطراب المجريطيّ.

اقترب قائد الفصيل من المجريطيّ وقال هامسا، بوقار تامّ:

ــ   أيّها الأندلسيّ ! بدأنا نقترب من أسوار بغداد... ولكنّ، لم نزل خارجها.

لم يردّ المجريطيّ، لأنـّه لم يكن في حاجة إلى معرفة أمر يعرفه جيّدا. لكنّ قائد الفصيل بدا نافد الصبر، فاقترب مجدّدا من المجريطيّ وقال:

ــ   إذا اقتربنا أكثر ستقابلنا مواقع حراسة كثيرة.

لم يجب المجريطيّ أيضاً، فأضاف قائد الفصيل:

ــ   حينذاك يصبح طريق الصحراء مستحيلاً عليك.

فجأة حسب المجريطيّ أنّه التقط الإشارة، فقال وهو متردد:

ــ   والثمن؟

ــ   الطفل الصغير.

ــ   أيّ طفل؟

ــ   الذي قمت بتهريبه، والذي كان في التابوت، مع الميّت.

ــ   اسمع أيّها الرجل، كنت لطيفا معي طوال الرحلة، وأريد أن أبادلك الودّ.

ــ   إفعل ! هذا ما كنت أنتظره بفارغ الصبر. واعلم أنّه من هنا تستطيع العودة من حيث أتيت.

قال كلماته بأدب جمّ، وهو يشير إلى الطريق المؤدّية إلى الصحراء.

ــ   لا تتعجل. أنا لم أكمل كلامي. أقسم بالله العظيم أنّي لا أعرف أيّ شيء عن موضوع الطفل، الذي تتحدثون عنه.

ــ   أنا أصدّقك يا أندلسيّ، وأثق بك.

نطق الرجل كلماته بخيبة وحزن عميقين وأمر جنوده بالإسراع في المسير.

***

ما كاد المجريطيّ يستقر في محبس تابع  لحامية الجند المرابطة حول قصر الخليفة، حتـّى توافد عليه المحققون. بعضهم كان عربيّ الهيئة، ومنهم من كان لا يخفي تركيّته.

وحينما وصله المحقق الأخير كان المجريطيّ جاهزاً لتلقي السؤال المعاد وإعطاء الجواب نفسه. بدأ المحقق استنطاقه كما توقع المجريطيّ:

ــ   قل لي يا أندلسيّ، أنت تدّعي أنّه لا علم لك بأمر الطفل، وأنا أصدقك، ولكن أين يمكن أن يكون في ظنّك؟

ــ   وكيف لي أن أعرف !

ــ   رجل ثقة مثلك لا بدّ أن يعرف. ولو لم يكن الأمر كذلك لماذا كنت ترافق الجنازة؟

ــ   رافقتهم بعض الطريق لا أكثر.

ــ   لماذا؟

لم يجب المجريطيّ، فهذه الأسئلة لم تكن ضمن قائمة الأسئلة التي تناوب على طرحها المحققون السابقون، ولم يهيء نفسه للتفكير فيها وللتفكير في سبل الإجابة عنها. باغته السؤال، فعجز عن الإجابة.

ــ   حينما أقول لماذا أعني أنّك كنت في الطريق إلى النجف، لماذا ذهبت إلى عين التمر ولماذا عدت؟ هذا هو السؤال.

ــ   ذهبت لأنّني كنت مهتمّا بأمر المكتبة، لما تحويه من نفائس تاريخيّة.

ــ   بأمر المكتبة فقط؟

ــ   وبشأن الرواية، فأنا جامع أخبار أيضا.

ــ   وهل لهذا الاهتمام علاقة ما بكونك من سلالة ملوك الإسبان؟

تذكّر المجريطيّ وجه سعيد. رآه يقف ساخراً أمام قيّم المدرسة وهو يقول: إنّه من ملوك الروم الإسبان، جاء في وفادة إلى بغداد. ثم جاءه وجه قيّم المدرسة وهو يسأله: عجبت من قوله عن الروم، هل الإسبان من الروم؟

 هل يمكن لمزحة تافهة مثل هذه أن تغدو دليلا سياسيّا؟ خفـّف المجريطيّ من حدّة ثورته وأحسن السيطرة على مشاعره وقال:

ــ   ليس لي صلة قريبة أو بعيدة بملك ما على الإطلاق.

ــ   ألهذا الأمر صلة ما باتصال اليهود بك؟ أعني رقعة الاحتجاج على نسبة الجزية الموضوعة عليهم.

 ــ   أنا مسلم أبا عن جد، ومن عائلة عربيّة عريقة.

ــ   أموية؟

ــ   نعم، أموية.

ــ   أرجو منك أن لا تنفعل كثيراً، فنحن لا نقصد على الإطلاق إلحاق الأذى بك، ولكن يجب عليك أن تقدّر تماماً وظيفتنا. لو كنت في مكاني لفعلت الأمر عينه، أليس كذلك؟

ــ   لو كنت في مكانك.

ــ   حسن، أنت جئت تبحث عن شاعر اسمه ابن زريق، لكنّك توقفت عن البحث حينما دخلت بيت السيّد، ثمّ انقطعت تماماً عن البحث حينما استطعت أن تصل إلى سيّدة من سيّدات البيت، لماذا؟

ــ   أنا لا أفهم ما صلة هذا السؤال بوجودي هنا؟

ــ   ربّما لا يكون مهمّاً أن تفهم، لكنّ غيرك يريدون أن يفهموا منك طبيعة أفعالك، حتـّى يعاملوك بعدل.

ــ   من هم غيري؟

 ابتسم الرجل بود، وقال:

ــ   هذا سؤال. أنت هنا لا لتسأل، أنت هنا لتجيب. أرجو منك أن لا تنسى هذا. ليس لديّ أسئلة أكثر، وأرجو لك حظاً سعيداً.

بدا الرجل صادقاً، رغم أنّ المجريطيّ لم يعد قادراً على التمييز بين الصدق والغش، بين المصانعة والصراحة. شدّ الرجل على كتف المجريطيّ وأضاف:

ــ   لديك زائر يريد أن يسلّم عليك. استودعك الله.

زائر ! من يكون ! فكّر المجريطيّ ولم يصدق عقله أنّ أبا مهديّ يمكن أن يصل إلى هذا المحبس المحاط بالجند والعسس.

ولم يطل انتظاره، فقبل أن يحلّ المساء، رأى زائره يقترب. فرك عينيه لكي يطرد غشاوة الظلمة التي سببها المكوث تحت الأرض في غرفة ضيقة مكبلاً بالأصفاد، فشاهد زائره على حقيقته، حقيقته التي تشبه الوهم. اقترب سعيد حزينا، مهموما. دنا فبدا وجهه غريباً، كما لو أنّ المجريطي لم يره من قبل. لم ينطق سعيد، بل هجم على المجريطيّ وراح يعانقه ويقبّله.

ــ   ما كنت أود أن أراك هنا، ولكن ما كان لي أن أتأخر في المجيء لمساعدتك يا أبا سليمان.

ابتسم وأضاف وهو يضرب عنقه بكفه:

ــ   أنت دين في رقبتي.

تعانقا مجدداً:

ــ   كم أنا في حاجة إليك، إلى دعاباتك الممتعة يا أبا حامد.

ــ   جئت لكي أطمئنك. لا تقلق، كلّ شيء على ما يرام، وموضوعك في حكم المنتهي تقريبا.

ــ   منتهي، أم في حكم المنتهي، أم في حكم المنتهي تقريبا؟

ضحك سعيد بجذل وراح يهزّ يد المجريطيّ المكبّلة:

ــ   لا تحزن ! هذا القيد سيأتي من يفكّه عاجلاً. فلا تقلق، ولا تتعب رأسك بالأسئلة.

ــ   الأسئلة ! على ذكر الأسئلة، هل ستسألني عن الطفل؟

ــ   إذا أحببت.

ــ   نعم، أحبّ بكلّ جوارحي. لم كان الجميع مشغولاً به إلى هذا الحدّ؟

ــ   لسبب بسيط: لأنـّه صفقة تجارية رابحة. ولا تزعل لو قلت لك إنّه صفقة مضحكة.

ــ   لماذا مضحكة؟

ــ   لأنـّه، في هذه اللحظة، في نظر القادة الأتراك صفقة تجاريّة خالصة، وفي نظر الطرف الآخر صفقة سياسيّة خالصة. لكنـّه لو وقع بأيدي الطرف الآخر سيغدو بضاعة يتصرفون بها، وسيتحول إلى قضيّة سياسيّة من وجهة نظر القادة الأتراك.

ــ   أهذه واحدة من دعاباتك يا سعيد؟

ــ   لا، واحدة من دعابات المتخاصمين القاتلة.

ــ   وهل وجوده مهمّ إلى هذا الحدّ؟

ــ   ستظل يا أبا سليمان أندلسيّا، حتـّى لو عشت في بغداد العمر كلّه.

ــ   وكيف يفهم بغداديّ مثلك هذا اللغز؟

ــ   الطفل في حدّ ذاته ليس له قيمة، حتـّى قضية الميراث والغيرة والنسب يمكن أن تسوّى، بل حتـّى قضية الأرض المتنازع عليها بعنف، والتي يصرّ كبار العائلة على بقائها ضمن مملكتهم الكبيرة، والتي تجولّت أنت فيها شخصيّا وغصت في تفاصيلها، من دون أن تعرف حجم الخلاف عليها، يمكن لهذه القضية أن تُحلّ. وسأقول لك ما هو أبعد من هذا، حتـّى الخلافات المذهبيّة والسياسيّة يمكن أن تكون قواسم مشتركة للاتفاق، مثل قضية البحث عن الطفل، ومثل قضيتك الآن، التي نحن بصدد إيجاد حلّ لها. لا توجد حواجز عقليّة وأخلاقيّة بين البشر حينما نتحدث عن تبادل المصالح الخاصّة.

ــ   ولماذا يثير وجود الطفل إذاً كلّ هذه الأسئلة؟

ــ   يا أبا سليمان، ليس وجود الطفل هو ما يثير الأسئلة. ما يثير الأسئلة هو عدم وجود الطفل. أي غيابه، الذي يسمّيه الناس استتاره، أو تخفـّيه، أو احتجابه، لك أن تختار ما يناسبك من التسميات. غيابه هو الذي يثير الأسئلة، لأنـّه يصنع للطفل وجودا آخر، غير وجوده الحقيقيّ، أي يجعله خطراً محتملاً، ولكنـّه خطر غامض.

ــ   خطر على من؟

ــ   هنا بيت القصيد. بما أنّه قوّة غير محددة وغير مشخّصة وغير منظورة، سيعلق الجميع عليه مخاوفهم ومشاعر الذنب، الناشئة جرّاء التقصير أو الخطأ أو الظلم وغيرها.

ــ   وما حصّتك أنت من هذا؟

ضحك سعيد بارتياح وأنفة، ورفع يده ثمّ مدّ إصبعه مشيراً إلى المجريطيّ وقال:

ــ   في هذه اللحظة، هذه حصّتي، أنت.

اكتست ملامحه معنى الصرامة والجدّ وأضاف:

ــ   الأخوّة لا تباع ولا تشترى، يا أبا سليمان.

ــ   هل تعرف يا أبا حامد أنّي تذكّرتك أثناء التحقيق؟

ــ   حينما سألوك عن بيت أبي بكر، أو عن مجيء قمر إلى دارنا.

ــ   لا، هذا الأمر لم يكن تذكّرا، كان سؤالا إرغاميّاً مباشراً؛ تذكّرتك حينما سألني أحدهم عن أصلي، وهل أنتسب إلى طبقة الملوك الإسبان.

أطلق سعيد ضحكة مجلجلة وقال:

ــ   الآن أستطيع القول إنّك، ولله الحمد، بدأت تفكّر على طريقتنا. صديقك الأصلع يعتقد أنّه باع لهم سرّا ثميناً من أسرار الممالك البعيدة.

ــ   ليس هذا ما يحيّرني الآن يا سعيد، ما يحيّرني هنا هو أنّني الآن محتجز لدى رجال الخليفة والأتراك، والرجل الذي تحدثت عنه من الفريق الآخر. كيف؟

ــ   إذا كنت تتحدث عن الأصلع فهو لا يتعدى أن يكون واشياً صغيراً. هناك قوى أكبر منه لها خطوط اتصال مشتركة بحكم التوازنات. خذ مثلا قضيّتك. لماذا يعاملك الجميع بلطف؟ لأنـّهم جميعاً يدركون أنّك بريء، وأنّك مجرد صفقة، وكلّ طرف يريد الإفادة منها.

ــ   هل تعني بالجميع، كلّ الجميع من دون استثناء؟

ــ   ماذا تقصد بهذا؟

ــ   حتـّى هي؟

ــ   لا أستطيع أن أجزم يا أبا سليمان. لو أبديت رأيا في هذا الموضوع ربّما خدعتك. هذا الموضوع فيه جانب عاطفي إلى جانب كلّ ما ذكرنا سابقا، وهذا أمر له حساباته الخاصة جدّا. ولكنّني ألاحظ أنّك حقـّا بدأت تصاب بعدوى المكان. حينما يصل الشكّ إلى هذا الحدّ، أن تشكّ في أعمق بقعة من أحلامك، يعني أنّك بدأت تشكّ في ذاتك. وهذا ما يريد البعض أن تصل إليه، وهذا ما أسمّيه عدوى المكان، التي ينكرها الجميع هنا، لأنـّهم غارقون فيها من دون تأنيب ضمير.

ــ   لن أصل إلى هذا الحدّ.

عاد سعيد إلى سخريته المرحة:

ــ   سنرى، لا تتعجل، كلّ شيء يأتي في أوانه.

ــ   وهل هذا تبرير لوجودك هنا؟ هل وجودك معي الآن نوع من تأنيب الضمير يا سعيد؟

فجأة عادت تعابير الجدّ والصرامة تغزو وجهه وهو يردّ:

ــ   لا، لا أظنّ. لكنّني كما قلت لك أوصلتني تجارتي إلى ما أنا عليه. لماذا يحقّ لمن هم في الأعلى أن يختصموا ويقتتلوا ثمّ لا يترددون أو يخجلون من أن يتحالفوا مع خصومهم؟ لماذا لا يحقّ لمن هم أدنى منهم ذلك؟ هذا سؤال حيّرني كثيرا، وأكثر ما حيّرني فيه جانبه المضحك لا المبكي.

ــ   أنت دائما تأخذ الأمور من جانبها المضحك.

قفز سعيد بحركة مباغتة إلى الباب، نظر في غير اتجاه، ثم عاد مسرعا وجلس ملتصقا بالمجريطيّ وهمس مبتسما:

ــ   لأنـّها كذلك. أنت سألتني عن تداخل المصالح وتبرير الأفعال. وأنا أجيب عن هذا بحادثة إنقاذ حياة الملك، جلال الدولة. أنا من أنقذه، لي الفضل الأوّل والأخير في وجوده في الحكم الآن. لماذا لا أفيد من هذه الهبة.

ــ   لم يكن بفضلك أنت يا سعيد، كان بفضل أولاد الكلب.

ضحك سعيد، ونطق بصوت مرتفع:

ــ   بالضبط بفضل عمّالي أولاد الكلب. هذا ما أعنيه بالجانب المضحك.

ــ   على أيّة ضفـّة تعمل يا سعيد؟

ــ   الضفـّة التي أستطيع الوصول إليها . فأنا جيّد الذاكرة، ولم أنس قولك الجميل عن النهر: لا نهر بضفـّة واحدة. لقد ألهمتك الحكمة وحبّ الأدب هذه الفكرة السديدة، أمّا أنا فقد تعلمتها بحكم مهنتي، من طريق التجارة.

أحسّ المجريطيّ أنّ سعيداً جاء ليؤدي دوراً محدّداً في الحكاية، وأن حضوره بهذه الروح الجديدة، التي تمزج بين العلم بالشيء والانتفاع به، بين التجارة والسياسة، بين الدعابة والجدّ، ضرب من الحكمة الخفيّة، التي تسبغها الأحداث على نفسها، لكي يستطيع البشر احتمال قسوة الحياة وشدّة تقلبات الواقع. أكان سعيد فاصلاً للإمتاع والمؤانسة في قصة مأساته الشخصيّة المهلكة؟

ــ   سأتركك الآن، وسأعود بعد ساعات لكي أرافقك عند خروجك. أنا أرى أنّ عودتك إلى دار أبي بكر أضحت ضرورة الآن، لكي تتحرر تماماً من هذه الورطة؛ طبعا إذا لم يكن لك رأي آخر. وقبل أن أذهب أريد أن أسألك إذا كنت قد تفاجأت بوجودي هنا؟ طبعا تفاجأت، لقد رأيت الدهشة في عينيك.

توقف سعيد عن الحديث، ثم اقترب أكثر من المجريطيّ وقال بصوت خفيض:

ــ   لذلك أعددت لك مفاجأة أكبر منها، مفاجأة ستقلب خططك كلّها، وتجعلك ملكاً من ملوك الإسبان بحقّ وحقيق، رغم أنف الأصلع، ورغم أنف الديلم والأتراك والعباسيين، والأمويين أيضاً.

ألقى سعيد كلماته أو دعاباته ضاحكاً ومضى، تاركاً المجريطيّ يتخبط في تفسير هذا العالم الغريب الذي أدخل نفسه فيه من حيث لا يدري. عالم بملايين الأبواب وملايين المخارج، عالم لا يعرف من أين يدخل إليه وكيف يخرج منه.

لم يمض وقت طويل على ذهاب سعيد حينما عاد آخر المحقـّقين مرة ثانية. جاء برفقة عدد من الحرّاس. أشار إلى الحرّاس أن يفتحوا باب الغرفة، وأمرهم بالوقوف في بابها. دخل وهو يقول:

ــ   لن أزعجك هذه المرّة بأسئلتي، وأرجو منك أن ترافقنا، ستذهب معي إلى مكان قريب ونعود في الحال.

نهض المجريطيّ وسار بمرافقة المحـّقق والحرّاس وهو مشتت الفكر، لا يعرف إلى أين يمضون به. أراد أن يسأل، لكنّه قرّر أن يصمت وينتظر ما سيحدث. بيد أنّ المحقـّق، الذي لمح اضطرابه، أشفق عليه وقال:

ــ   أرجو أن لا تسألني عن مكان وسبب ذهابنا، لأنّني لا أعرف شيئا؛ لكنّني أريد أن أطمئنك أن ما يحدث مجرد إجراء اعتياديّ يخضع له الموقوف احترازيّاً.

توجهوا نحو بناية مجاورة، تقع خارج الثكنة، ملحقة ببناية دار القضاء. ساروا في ممر قصير، ثمّ توقفوا عند غرفة تشبه الزنزانة، فتح الحرّاس الباب، وأدخلوا المجريطيّ. التفت المحقـّق إليه وقال:

ــ   ستبقى هنا لبعض الوقت وسأعود لاصطحابك مرّة أخرى، فلا تقلق.

على الرغم من التطمينات إلاّ أن نفس المجريطيّ لم تهدأ، وراح يفكّر في المفاجأة التي أخبره سعيد بها. ماذا تكون !

جاء حرسيّ مسرعا، وضع مشعلا إضافيّا في الممر ونفـّاطة مشتعلة الفتيلة، وراح على عجل يعّدل من فتيلة النفـّاطة الموضوعة في جدار الغرفة ويصلح من وضع غطاء السرير. أهو السيّد؟ أم  هو رجل آخر من الضفـّة الثانية؟ من يكون؟ اهتمام الحرسيّ الزائد بترتيب الغرفة جعل المجريطيّ يحاول أن يجعل تخميناته تطابق تماماً منطق حدوث الأشياء هنا، ولا تتناقض مع ما يفكّر فيه الآخرون. من يكون؟

عاد الحرسيّ مجددا، فتح باب الغرفة ووقف ينتظر عند الباب، فاختلج قلب المجريطيّ وهو يشاهد غيمة من الحرير قادمة نحوه، شاهد قوامها الناعم يقترب منه بخطوات سريعة، متغلغلا في أعماقه. عاجلها قائلا:

ــ   ظننت أنّي لن أراكِ مرّة أخرى.

التفتت قمر إلى الحرسيّ، الذي فهم نظرتها فابتعد عن المكان مختفيا في إحدى الزوايا. تحركت قمر وجعلت ظهرها في مواجهة باب الغرفة وردّت قائلة:

ــ   ستراني كثيرا، حتـّى تملّ رؤيتي.

ــ   كيف وصلت إليّ؟

ــ   ليس لدينا وقت طويل للحديث عن هذا. وفي الواقع أنا لا أعرف كم سيسمحون لنا بالحديث، يجب أن نستغل هذا الوقت لأقول لك ما هو ضروريّ، وسنترك ما تبقى حتـّى نلتقي مجدّدا.

ــ   ولكن، ألا يُلحق مجيؤك إليّ هنا ضرراً شخصيّا بك؟

ــ   هذا المكان تابع لدار القضاء. أما السجن فهو أأمن مكان لي ولك. والأهمّ من هذا أنّ القائمين عليه رتـّبوا لقاءنا كجزء من الصفقة، بمعرفتهم، لغاية ما هم ينشدونها، وما علينا سوى استغلالها، ولا تسأل أكثر، ستفهم كلّ شيء حينما نلتقي.

سكتت ثم همست بصوت خافت:

ــ   ربما يريد بعضهم معرفة وتتبع حدود حركتي.

ــ  مجيؤك أزاح عن قلبي غمـّاً كبيراً. أنا مطمئنّ لأنّكِ لم تذهبي إلى عين التمر. لقد خشيت عليك، وظللت قلقاً أفكّر في ما حدث هناك.

ــ   ما حدث كان مرعباً. وصلني الخبر قبل أن أتحرك. كدت أفقد عقلي، لأنّني جعلتك تذهب إلى هناك، وظننتك قتلت معهم.

ــ   لكنّي حيّ الآن، فلا تلومي نفسك.

ــ   كانت مشورة مهلكة من قبلي، ما كان لي أن أفعل ذلك.

ــ   لا تبكّتي نفسك يا...

أراد أن ينطق اسمها، لكنّه خشي أن يتلعثم، أو أن تخرج حروف اسمها من فمه باردة، لا تطابق حجم ما تكتنزه نفسه من مشاعر ورغبات وأوجاع. لبث ينظر إليها  مثل أعمى، يغرق في الثمالة، أما هي فكانت يقظة تنظر إليه من خلف خمارها بحرّيّة تامة. كانت تتجول في تفاصيله وتراقب تعابيره وحركة مشاعره باقتدار وهيمنة. هي تدرك أنّها الآن غدت المسيّر الوحيد لعواطفه وسلوكه. ورغم أنّها  لا تستلذ بمثل هذا الدور، لأنّه يتناقض مع طبيعتها الأنثويّة الرقيقة ومع مشاعرها البريئة، إلاّ أنّها وجدت نفسها مرغمة على ممارسة ما تمليه عليها اللحظة القاهرة، وما تفرضه الأحداث المتسارعة. حينما رأت اضطرابه عجّلت تقول، مشجّعة:

ــ   قمر.

تغلّب على جبنه، نطق اسمها وهو يحسّ أنّه لا ينطق حروفا، وأنّها لا تشجّعه على نطق اسمها فحسب، بل تستلقي أمامه عارية من كل شيء، وتدعوه إلى امتلاكها امتلاكا تاما:

ــ   يا قمر... لا تبكّتي نفسك، فنحن أحياء.

ــ   نعم أحياء. وأيّ أحياء ! لقد ظللت طوال الأيّام الماضية أحدّث نفسي قائلة كيف سوّلت لي نفسي ذلك، كيف دفعتك إلى هذا !

ــ   أنتِ لم تدفعيني إلى هذا، أنا جئت بنفسي.

ــ   أنتَ سجين هنا، في هذا المحبس بسبب امرأة لم تر وجهها.

ــ   لا، أنت واهمة.

ــ   أنا لا أمزح. كدت أجنّ وأنا أفكّر في أنّني أرسلتك إلى التهلكة، من دون أن تعرف حتـّى كيف أكون، وما شكل وجهي !

ــ   أنت مخطئة يا قمر. رأيت نصف وجهك، رأيته معتما. التمعت بعضُ ملامحه حينما مرّت مشاعل موكب التعازي قربك يوم عاشوراء، فقلت لنفسي ليتني لم أرها، ليتني لم أر نصف وجه محيّر، نصف وجه يدمّر الصورة التي كونتها لبنة لبنة في خيالي، واختزنتها لمثل هذا اليوم، الصورة التي لا يستطيع أقوى واقع أن ينتزعها من عينيّ. حينما رأيت وجهك نصف مضاء ونصف مظلم، اختلطت صور النساء جميعها في صورتك، ولم أعد أقوى على إيجاد صورة محدّدة لك. كما لو أنّكِ فقدتِ وجهك وأضحيت امرأة بملايين الوجوه، امرأة تحمل وجوه نساء الأرض كلّها.

ــ   لا تسرف في خيالك. أنا هنا أمامك؛ ولكي تراني على حقيقتي، لا يتطلب هذا منّي سوى أن أرفع يدي وأميل خماري قليلا. لكنّي بعد كلّ هذا الخيال المجنون، أخشى أن أخذلك، بل إنّني أصبحت واثقة تماماً من أنّني سأخذلك. فلا يمكن لوجه امرأة، مهما كان جميلا، أن يرضي خيالا كخيالك. لقد رسمتني رسما لا يقود إلاّ إلى تدمير صورتي الحقيقيّة، صورتي التي أنا فيها، لأنّك تمنيتني على هيئة ما. إنّي أخشى أن أرفع خماري فتفقدني إلى الأبد.

رفعت يدها الناعمة، نظرت إليه بتحدّ، ثمّ أزاحت خمارها، فهاجمته جيوش البهاء: منابع العسل في عينيها الآسرتين، وهدأة الورد في شفتيها الناعمتين، اللتين راحتا تهمسان أصواتاً تشبه الحرير الأزرق المطرّز بالذهب:

ــ   أهذه من بحثت عنها؟

لم يجب المجريطيّ.

ــ   ماذا وجدت؟

لم يجب. اختلج قلبه مرتجفاً، مثل طائر يحاول الطيران لأوّل مرّة. رفّ جناحاه ثمّ هوى منكبّاً على وجهه. ماذا يجيبّ ! ماذا يقول لها؟ أيقول لها: لا، لستِ قمرَ التي في خيالي، لم أجد قمرَ، لستِ هي، لا أراها.

 نعم، لا يراها، ليست هي، لا تشبهها البتـّة. لا تشبهها من قريب أو بعيد. ليست هي. فليس لهذه التي تجلس أمامه الآن وجه البغداديّة القاهرة المستبدّة، التي ما انفكّ يتخيلها تنزل من السماء ممتطية ظهر أسد؛ حاجباها كالسيف، وعيناها تقدحان قوّة وكبرياء، وقوامها يستفزّ المحاربين. لم يتصورها قطّ على هذا القدر من الليونة والرقـّة، يكاد قوامها الصغير، الناعم، أن يخّر سائلا إلى الأرض مثل عجينة الحلوى.

ــ   أأنت مخذول؟

لم تكن الصورة الناعمة الرقيقة، التي حلّت بغتة بدلا من الصورة الحلم، صورة المرأة القويّة، ذات الجسد الثائر والوجه الفاتن المستبدّ، هي ما بلبل عقل المجريطيّ. صورة قمر الوديعة، الناعسة جاءت مثل مفارقة مفاجئة خلخلت أحاسيسه. بهتهُ مرأى وجهها. أحسّ المجريطيّ وهي تكشف عن وجهها بارتباك، يشبه الخجل الذي يشعره من يضع كفـّه على كتف شخص سائر أمامه، ظانّاً أنّه شخص قريب إليه، وحينما يستدير الآخر يرى وجها غير الذي كان ينشده.  نظر إليها  بعيون من يطرق بابا، ثم يكتشف فجأة أنّه يطرق سهواً باباً لا يعرفه. فتحت قمر أبوابها له، وضعته أمام وجهها، الذي تمنى طويلاً  طويلا رؤيته ولو في منام، لكنـّه لم يتمكن من الدخول بيسر. ظلّت أنظاره تقف حائرة، متردّدة على عتبات عينيها العسليّتين وشفتيها الناعمتين وحيائها البكر.

ــ   أنت مخذول إذاً !

لم يكن المجريطيّ مخذولا. شيء ما  أكبر من الخذلان يهزّه هزّاً، شيء لم تُخترع كلمة بعد تعبّر عن محتواه يقف أمامه متحدّيا مقدرته على الإدراك والفهم. ابتسم المجريطيّ من دون وعي، وهو شارد تماما، وراح يستبدل العينين العسليّتين بعينيّ ألفيرة الخضراوين، وخصلة الشعر الكستنائيّة بخصلة شعر ألفيرة المائلة إلى الشقرة فيجد نفسه أمام ألفيرة، ألفيرة الفتيّة، ألفيرة في أوج أنوثتها وذروة تفتح مفاتنها، ألفيرة التي رآها يوما في طفولته البعيدة. ما أوسع حلمك يا رب العالمين ! لكأنـّها هي ! فكّر المجريطيّ، ثمّ ضحك في سرّه،  لكي يداري ارتباكه، ويخفي سعي ذاكرته إلى تزوير صورة قمر الجديدة، غير المتوقعة، التي لم يألفها خياله بعد. أراد أن يقول: بحثت عن قمر فوجدت وردة أندلسيّة، لكنـّه خشي أن تفضحه كلماته، فقال:

ــ   أنت أكبر من مجرد شكل.

لم يجد كلمة مناسبة، لم يجد سوى كلمات فارغة من أيّ معنى. نطقها وهو يغصّ بحروف لها طعم التراب. يا رب العالمين ! تمنحه نفسها هنا، هنا في سجن ! تمنحه حرية امتلاكها وهو مقيد اليدين معتقل الروح والبدن ! أحسّ كما لو أنّه حيوان ضعيف ينظر إلى العالم المحيط به وهو مهصور بين فكيّ وحش مفترس. الأنياب الجارحة تنغرز في جسده، والدماء تسيل منه، ودوامة من الارتجاجات تلّفه وهو يشعر أنّه معلق في الهواء بين فكيّ مفترسه. لم يعد يعرف أيّ عضو فيها كان ينطق، ومن أيّة مسامة من مسامات جسدها تخرج الكلمات؛ ظلّ يصغي إليها  وهو ينتظر أن يزدرده الوحش ازدراداً تاماً. تحركت شفتاها، ومن خلفهما لمح لساناً دقيقاً، مثل سيخ ملتهب، يغور في أعماقه، ويضرب قاع روحه:

ــ   أنا قضيّة؟ أليس كذلك؟ قضيّة تشبه قضيّة بحثكَ عن ابن زريق، الذي حالما اختلط اسمه باسم أبي عبد الرحمن، تحول في لحظة واحدة من قصيدة حبّ إلى قضّية. ثمّ لم يعد بحثا عن كلمات، بل أضحى قضيّة صراع على المبادئ، قضيّة حياة أو موت. كل شيء لديك قضّية: الحب والحرب، المرأة والحاكم، الموت والحياة، الجدّ والهزل.

ــ   أنتِ تعرفين كلّ شيء عنّي !

ــ   أعرف ألفيرة وأم سليمان  وقمر الكرخ، أعرف كلّ شيء. وكيف لا،  أنا  أسكن  هناك في ذلك البيت الكبير الذي يشرف على رقعة واسعة من العالم ويديرها في الخفاء هل ازداد خذلانك؟

ألفيرة وأم سليمان ! منذ متى غابت صورتاهما عنه ! لم يستطع المجريطيّ أن يصدق أحاسيسه حينما حضرت فجأة صورتاهما أمامه. في هذه اللحظة الحاسمة ! في اللحظة التي يكتشفها ويرى وجهها تعود به الذاكرة إلى الوراء، اليهن ! من أين انبثقتا؟ من أيّ ثقب في خياله نبعتا؟ هل هي من أرغم خياله وقاده اليهن؟  أم أنّ شيئاً فيه ألحّ عليه وجعل أمّ سليمان تقول: لكنّك دائما هكذا، تتصرف على هذا النحو، لا تهمّك سوى انتصاراتك في معاركك الخياليّة ضد أعدائك الوهميين. يخيّل لي أحيانا أنّك تصنع أعداءك بنفسك. لم تأت بجديد، هذه طريقتك المعتادة في الحرب.

لبث ينظر إلى وجه قمر وهو يفكـّر قائلا: ليس لديّ طريقة أخرى يا أمّ سليمان. جاءه صوت قمر لينتزعه من شروده:

ــ   هل ازداد خذلانك؟

تنبّه إلى جمال ثغرها الصغير، إلى انفراج شفتيها الناعمتين، وتكرار سؤالها همسا، فقال:

ــ   بل أضحى هلاكاً مؤكّدا.

ــ   وكلّ هذا يجعل قراري صعباً. ليتني كنت أخفّ حملا.

ــ   لماذا؟

ــ   لو عدت بي إلى الأندلس سيقولون لك مثلها تجد كثيرات، من دون حاجة إلى الرحيل إلى آخر الدنيا للبحث عنها؛ وإذا عدت من دوني، فلن يصدق أحد أنّك بحثتَ عن وهم ووجدتَ إنسانا، وحينما أمسكتَ به تحول إلى ضباب. أنت خاسر، خاسر في الحالتين، وأنا خاسرة مثلك.

ــ   أهذا جوابك؟

ــ   لا، هذا مقدمة للأحزان، لأنّني مثلك  مجبرة على الاختيار. والخياران المعروضان أمامي، كلاهما، قاسيان وقاتلان. ولهذا لا بدّ أن أختار أحد المقتلين.

ــ   وماذا تختارين؟

ــ   لو نظرت إلى الأمر من زاويتي أنا فقط، سأجد أنّني مرغمة على مقتلين: مقتل معك ومقتل بدونك. وعاقلة مثلي لن ترتضي أن تقتل من دون أن تحصل على ثمن.

مدّ يده ليمسك يدها. لكنـّها سحبتها، ولم تمكّنه من لمسها:

ــ   لا تخطئ بحقـّيّ. لقد رأيت وجهي. وهذا بعض الثمن.

ــ   هذا أقسى الأثمان وأبهضها، ليتك لم تفعلي هذا. قبل أن أراك كنت أحتفظ ببعض عناصر الندم والتراجع. أمّا الآن فقد أغلقت عيناك عليّ طرقات الانسحاب، وسدّت أنفاسك ممرات الحياة، حيث لا تراجع، ولا سبيل إلاّ الموت تحت أهدابك.

دمعت عيناه، مدت يدها ومسحت دموعه، وقالت:

ــ   كان المفترض أنّني التي تبكي، لا أنت.

ــ   لا يمكن لي أن أرغمك على ذلك.

ــ   ربّما سيأتي دوري في وقت آخر، فانا والبكاء توأمان.

أراد المجريطيّ أن يوقف تدفـّق أحزانها، خشي أن تبدأ ولا تستطيع التوقف عند حدّ، آثر أن يحافظ عليها، على صورتها أقلّ حزناً، فقال:

ــ   هل دفعت شيئاً لسعيد؟

ــ   لماذا تهتمّ بهذه الأمور العابرة ! لدينا ما هو أهمّ من نزوات سعيد.

ــ   لكنّ هذا يقلقني.

ــ   أريدك أن تركز تفكيرك في أمر واحد: كيف نخلص أنفسنا من هذا المحبس الكبير، وما الخطوة القادمة؟

ــ   هل هروبك من السؤال تأكيد على ظنّي؟

ــ   لا تسرف في الظنّ. سعيد مالك زوارق نهريّة، مهنته تتطلب منه أن يكون جسرا لعبور الجميع. ولو أردت أن تسألني السؤال ذاته، بطريقة مفيدة وقلت لي من أعانكِ في الوصول اليّ؟ سأجيبك قائلة: هذا.

نطقت كلماتها وهي تريه صرّة مملؤة بالنقود وأضافت:

ــ   بهذا يتم شراء كلّ شيء هنا، حتـّى رأس الخليفة.

تذكّر المجريطيّ نقودَ أبي عبد الرحمن، فسأل:

ــ   تذكرت أمراً كدت أنساه، نقود أبي عبد الرحمن، صرّته.

ابتسمت عينا قمر ابتسامة مشرقة. الفرح والأسى يظهران في وجه قمر أول ما يظهران في عينيها. يفور النبعان العسليّان أوّلا، ثم يفيضان على الضفاف.

ــ   أنا التي جعلتك تنسى وأنا التي جعلتك تتذكر.

ــ   لأنّك كلّ شيء.

ــ   ولأنّني كلّ شيء أنصحك بتوزيع المبلغ على الفقراء.

ــ   هل أنت يائسة أم خائفة من ...

ــ   لا أريد أن أقلقك وأقول خائفة، لكنّني حقيقة خائفة، ولن يزول خوفي قبل أن أراك تخرج من هذا الوكر ومن هذه الورطة، التي سبّبتها لك.

لم يرغب المجريطيّ في الخوض أكثر في هذا الجانب، لكي لا يعكّر مزاجها مجدداً، ولكي لا يفقد إشراقة عينيها الباسمتين.

ــ   لكنّني فكّرت في ما هو أهمّ، سأهبها إلى عائلة أبي مهديّ.

ــ   لن يقبلها منك.

ــ   أعرف، لذلك سأهبها إلى زوجته من دون علمه.

ــ   لو فعلتها ستقوم بتدميره.

ــ   سيغنيهم المبلغ عن السؤال والحاجة.

ــ   وقد تخرّب وحدتهم وصفاءهم. المال الطارئ يكون أحيانا نقمة لا نعمة. ولا تنس أنّ أمّ مهديّ قبلت العيش مقتنعة بالأمر الواقع في ظرف محدّد، حينما تتغير الظروف تنشأ احتمالات جديدة، قد لا تكون في صالح صديقك. فاحذر !

جاء أحد الحرّاس، فأسرعت قمر إلى إخفاء وجهها، ولبثت ساكتة حتـّى ذهب.

همست:

ــ   يجب أن ننهي كلامنا على عجل، فربّما سيبدأ المبتزّون الصغار يطالبون بحصصهم.

أراد أن يقول: أزيحي الخمار يا قمر، لم أعد قادرا على رؤيتك محتجبة، فقالت، كما لو أنّها تقرأ أفكاره:

ــ   لا تكن شديد الطمع، أخشى أن يرانا أحد. كلّ شيء تمّ ترتيبه. لقد أفهمت كوكبا كلّ شيء، سيدلك على مكان لقائنا.

قرّبت رأسها من رأسه وهمست في أذنه، فاختلطت كلماتها بأنفاسها، بدمه، بعواطفه، بوجوده، بضياعه، اختلط كلّ شيء في كيانه، وودّ لو أنّها تبقى تهمس في أذنه إلى أبد الآبدبن:

ــ   لا تترك المكان مهما حدث. إذا حدث شيء من طرفي سأرسل من يخبرك، أمّا أنت فلا تبرح مكانك.

انقطع همسها، أبعدت رأسها عنه، فتنبه إلى أنّه سجين في محبس يبعد آلاف الفراسخ عن بيته، وأنّه لم يعد كائنا حيّا يبحث عن كلمة، أحسّ أنّه كلمة عارية تحملها الريح إلى غير مستقر. تنبه إلى أنّها كانت تنتظر جوابا منه، فردّ عليها وهو يفيق من غيبوبته المفاجئة:

ــ   وهل أثق بكوكب بعد الذي حدث؟

ــ   بالطبع، لا مفرّ من هذا، لا مفرّ. الخطوة التالية تتعلق بمصيره هو أيضا. الآن هو لا يدافع عنك أو عنّي، الآن يدافع عن وجوده الشخصيّ. ولكن لا تجعله يعرف أكثر مما يجب. مهمّته هي أن يعرّفك على الدليل الذي سيوصلك إلى البيت. ستكون في ضيافة رجالنا، الذين نثق بهم، كما نثق بأنفسنا. لا تمنح كوكبا أيّة فكرة غير ضرورية عن الأماكن والاتجاهات، التي تنوي الوصول إليها .

ــ   ومتى تعتقدين أنّهم سيفرجون عنّي؟

ــ   أنت حرّ، طليق، الآن.

ــ   هل أستطيع الخروج الآن؟

ــ   نعم، لو شئنا.

ــ   ولماذا الانتظار إذاً !

ــ   ستبقى هنا. هذا رأيي، وقد اتفقت معهم على ذلك. هنا أنت آمن. لأنّ القائمين على الأمر هنا أخذوا حصتهم كاملة. وبقاؤك هنا يطمئن الجانب الآخر أيضاً. سأغتنم أنا هذه الفسحة لترتيب أموري الشخصيّة، لكي أستطيع تدبير أمر خروجي من بغداد.

ــ   وإذا عارضت العائلة؟

ــ   لن يعارضوا.

ــ   أأنت واثقة؟

ــ   كلّ الثقة، لأنّ بعضهم يودّ من كلّ قلبه التخلص منّي إلى الأبد بأسرع ما يكون، ليستولي على إرث ولدي، وليمسح ذكراي من سجل حياتهم.

ــ   رائع ! نجحنا إذاً !

ــ   ولكنّ المشكلة الكبرى ستظل قائمة، لا حلّ لها. لأنـّها ليست فيّ شخصيّا.

ــ   ماذا تعنين؟

ــ   هذا الطفل سيظل طريداً أينما حللنا. حتـّى لو ذهبنا به إلى أقصى الأرض، سيظلّ  دمه يطارده.

ــ   وجوده أم استتاره؟

ــ   ماذا تقول؟

ــ   أعني هل وجوده هو ما يقلقهم أم لأنـّه مستتر عنهم؟

ــ   لا تتعب رأسك في ألغاز هذه الأرض، التي لن تقدر على حلّها، يا عامر...

وقعت كلمة عامر وقعاً جارحاً في نفسه: لقاء أم فراق، أم كلاهما ! ابتلع سمّ الكلمة وهو يصغي إليها  ثائر النفس.

ــ   وجوده واستتاره واحد. لا استتار بلا وجود، ولن يكون له وجود  إذا لم  يستتر. أمّا أنا فأتحمل عبء وجوده واستتاره. وها أنت تجد نفسك من حيث لا تدري مشمولاً ومشغولاً بمعادلة الوجود والاستتار هذه. صرت طرفاً فيها، من دون أن ترغب أو تخطط. وهذا ما يسمونه القدر. أنا قدر بالنسبة لك، وأنت قدر بالنسبة لي، وهذا الطفل اليتيم قدري وقدرك. إذا رضيت بي يجب أن تقبلني بكلّ ما أحمل من أعباء وتقلّبات المصير.

وسأقول لك للمرة الأخيرة: ما زال أمامك وقت كافٍ للتفكير في كلّ شيء، ووقت لاتخاذ القرار الذي تراه صحيحا. لن أعدك بشيء، ولن أمنّيك بشيء، ولن أرغمك على شيء.

ــ   ومتى سنلتقي؟

ــ   ستذهب فوراً حالما يخبرك القائمون على السجن بأمر المغادرة. تذهب فوراً إلى كوكب في كلّ الأحوال.

توقفت عن الكلام، ثم قالت بصوت سمع اختلاجته:

 ــ   إلاّ إذا اكتشفت قمراً جديداً.

القيد يغلّ يديه، وجدران السجن تعتقل جسده، وعيون الحرّاس، حرّاس أبي باقر، وحرّاس سجن الخليفة تطارد خطواته، وعيون القيّم تتلصص على مشاعره، وهذا الخمار الرقيق، الشفيف، ينزل مثل كفن مظلم فيحجبها عنه وهي بين يديه !

نظر المجريطيّ إليها  محاولاً اختراق عتمة الخمار، محاولاً الوصول إلى طيف وجهها المستتر، إلى منابع العسل في عينيها. وعلى الرغم من أنّه لم يعد يرى وجهها جيداً من خلف الخمار، إلاّ أنه يعرف أنّ نبعاها فاضا، يدرك هذا تماما، ويدرك أنّها لا تريد أن ترفع يديها وتمسح حرقة الأسى. ستظلّ تكابر وتكابر كعادتها. كم ودّ أن يراها تبتسم بأسى، تبتسم دامعة العينين، يختلط في نبعيهما الفرح والشجن. هل لشفتيها المبلّلتين بالدمع طعم الملح والمسك؟

طال صمتها، وحينما وجدته غارقاً في التفكير، أضافت بصوت ساخر حزين:

ــ   ما أدرانى إلى أيّة ضفـّة يشرد خيالك ! كيف لامرأة مثلي أن  تحيط بأوهامك يا عامر.

لقاء أم فراق ! لقاء أم فراق يا قمر الكرخ ! لقاء أم فراق يا أجمل الأقمار !

مسحت دمعة خرّت من عينه، بدلا من أن تمسح دموعها.

ــ   كنت أظنك عصيّ الدمع ككلّ الرجال ! أتبكي من أجلي؟ للمرّة الثانية تفعل هذا، لم أر رجلا يبكي من قبل !

ــ   ودّدت أن أرى وجهك؟

ــ   قل وددت أن ترى دمعي.

لم يجب، فأضافت:

ــ   لا تتعجل يا عامر، ستراه، وستبهض قلبَك غزارةُ دموعه.

دنا أحد الحراس فانتصبت قمر واقفة. ارتعش قلب المجريطيّ. أحسّ كما لو أنها تقف مترنحة أمامه، تكاد أن تهوي عليه. أطبق عينيه وهو يراها تختفي وتتركه وحيداً مثل قبر نديّ.

 

(18)

جاء سعيد فرحاً، حضر معه أحد السجّانين وراح يفكّ قيود المجريطيّ. تحسّس سعيد الأثر الذي تركه القيد على معصميّ المجريطيّ وقال:

ــ   سيصبح هذا من الماضي. الآن ستذهب معي إلى البيت، لن أدعك تذهب إلى مكان آخر.

ــ   يجب أن أذهب إلى داري في الكرخ، لأنّني أحتاج إلى أن أخلو إلى نفسي بعض الوقت يا سعيد.

ــ   سأرافقك.

رافقه سعيد حتـّى داره، ثم ودّعه، على أمل اللقاء به في بيت أبي بكر.

حينما دخل المجريطيّ وجد كوكباً في انتظاره. كان كوكب قلقا، مضطرباً، يراقب حركة المجريطيّ  بصمت غير معهود فيه، مما جعل المجريطيّ يفكّر في الجواب الذي سيقوله له لو أنّه فتح فمه ونطق قائلا: هل نحن ذاهبون إلى الأندلس؟ شرع المجريطيّ يلمّ بعض لوازمه على عجل، ثمّ توقف فجأة. تناول صرّة أبي عبد الرحمن وخبّأها في قميصه، وقال لكوكب:

ــ   انتظرني هنا، سأعود حالاً، ولا تبرح المكان، لأنّنا سنمضي فور عودتي.

توجه المجريطيّ إلى بيت أبي مهديّ، وقد قرّ قراره أن لا يفارقه إلاّ بعد أن يقنعه باستلام المبلغ.

دقّ الباب، فلم يُفتح، لكنّه واصل الدقّ حتـّى ظهر أحد أولاد أبي مهديّ الصغار، وقال له:

ــ   أبي ليس موجوداً.

ــ   اذهب إلى أمّك وأخبرها أنّ الاندلسيّ يريد أن يكلّمها.

دخل الطفل ثم ظهر مجدّداً وظهرت خلفه أمّ مهديّ مترددة، فأحسّ المجريطيّ أنّها لا تريد مقابلته. بادرها قائلا:

ــ   حيّاك الله يا أمّ مهديّ؟

ــ   حيّاك.

ــ   جئت أسأل عن أبي مهديّ.

ــ   لم يعد بعد.

ــ   أنا أعرف أنّه في البيت، وأعرف أنّه لا يريد أن يراني.

ــ   لماذا جئت إذاً؟

ــ   في ذمّتي دين أريد تسديده.

ــ   لا يملك زوجي ديناً على أحد، وإذا كان له فأنت معفيّ منه.

ــ   يا أمّ مهديّ، أنا وزوجك مثل أخوة...

ــ   يا أندلسيّ أخوّتك جلبت له المصائب.

ــ   ولهذا السبب جئت الآن.

ــ   جزاك الله خيراً، ولكن كفّ عنّا أذاك، نحن قوم فقراء، لا نستحق كلّ هذا منك. لقد عشنا بأمان، فاتركنا في حالنا.

ــ   لن أترككم وقد سببت لكم الضرر كما تقولين، ولن أذهب قبل أن يخرج أبو مهديّ ويكلّمني. أنا مصرّ، وأنا عنيد أكثر منه، فلا يحاول. أما عن مبلغ الدين، فهذا هو.

أخرج المجريطيّ الصرّة ووضعها بيد زوجة أبي مهديّ وقال:

ــ   هذا المبلغ أتركه أمانة لديك، تتصرفين به بضمير وعدالة، هو ملك لأبنائك. لك أن تخبري زوجك عنه أو لا تخبريه، وإذا قرّرت إخباره افعلي هذا بعد أن أنصرف. وأرجو أن يوفقك الله في أن تعيني أبا مهديّ لو ضاقت به الحال.

فجأة رقّ قلبها وشرعت تبكي.

ــ   لا تبكي  يا أمّ مهديّ، أنا أعرف أنّني جلبت له الأذى.

ــ   لا، لست أنت، حاشاك السوء.

ــ   ماذا حدث؟

ــ   لا أعرف، طلبوه وهددوه وأوقفوه عن العمل. لكنّه لم يرضخ لهم، قال لهم في وجوههم إنّه لن يموت جوعاً إذا لم يأكل لقمتهم الشحيحة. لكنّهم عادوا مرّة أخرى، وأخبروه بأن يعود إلى عمله، فعاد، وحينما رجع إلى البيت أضحى شخصاً آخر، كأنّني لا أعرفه ولم أعش معه كلّ تلك السنين.

ــ   لهذا السبب أريد أن أراه. أعدك بأنّني لن أكلمه، سأعانقه وأذهب، لأنّني راحل الساعة. وإذا لم يوافق على رؤيتي سأضطر إلى الدخول عنوة لكي أعانقه وأذهب إلى حال سبيلي.

تنحّت، وأشارت إليه أن يدخل. دخل وجـِلاً فواجه أبا مهديّ يجلس في العتمة، حزيناً، كمِداً:

ــ   لماذا يا أبا مهديّ؟

ــ   لم أعد أثق بأحد.

ــ   ليس جديداً هذا، لم تكن تثق بأحد من قبل يا أبا مهديّ.

ــ   ربّما، ولكنّي وثقت بك...

لبثا صامتين برهة.

ــ  . .. وأحببتك.

ــ   يا أبا مهديّ اغضب عليّ كما تشاء، ولكن يجب أن أعرف السبب. ألا يحقّ لي هذا؟

ــ   هل استخدمتني طُعْما؟

ــ   لمن؟ ولماذا؟

ــ   ابن زريق وأبي حيان ثمّ السيّد الكبير، والحكاية كلّها.

ــ   لكنّك أنت الذي أشار عليّ وأوصلني إليهم.

ــ   لأنّني لم أكن أعرف ماذا كنت تريد. كنتُ أحسبك عاشقاً، محبّاً، حالماً.

ــ   وماذا وجدت غير ذلك؟

ــ   حتـّى لقاؤك بالبغدادي ناقشتني فيه وجعلته مصادفة محضة.

ــ   وهو كذلك يا أبا مهديّ.

ــ   وقمر؟

ــ   الكتمان كان شرطها، ولم أجد مكاناً أكثر أمناً من بيتك. لم أخدعك، وما غششتك.

ــ   ولم تقل لي بأنّك تهتمّ بشأن سياسيّ.

ــ   وكيف لي أن لا أهتمّ ! لكنّني لم أكن طرفاً، حالي كحالك. أنا مجرد مطّلع وجامع أحاديث وأخبار، ولم أكن تابعاً أو موالياً لأحد أو طرفاً في معركة.

ــ   ولم تخبر أحداً بأنك قابلت عدداً من وجوه اليهود في بغداد وتباحثت معهم في شأن الجزية.

ــ   لم أقابل أحداً. أحد العلماء اليهود، وهو طبيب مشهور، يضع أكبر رؤوس الدولة والحكم حياتهم بين يديه بثقة تامة، سألني بعض الأسئلة في مجلس ضمني بعدد كبير من الأدباء والعلماء. وهذا أمر مباح كما أظن، وجزء من طبيعة حياة أهل السواد.

ــ   لكنّني قرأت رقعة عن الجزية بخط يدك؟

ــ   هذا أمر تباحث معي السيّد شخصيّا فيه، وطلب مشورتي فيه، ورجاني أن أكتب له شخصيا ففعلت.

ــ   وما سرّ ذهابك إلى عين التمر، ومرافقتك الجنازة والقتال في صفهم؟ أحدث كلّ هذا مصادفة أيضا؟

ــ   سأجيبك بكلّ صدق، ولكن بشرط واحد، أن تجيبني باسم الأخوّة التي ربطت بيننا عن سؤال واحد ليس له قيمة كبيرة، لكنّه قد يفسّر لي أموراً كثيرة: كيف عرفت هذا كلّه؟ ومن أخبرك؟

ــ   ما قيمة هذا؟

ــ   ربما تكون قيمته رأسي، الذي أحمله فوق كتفي الآن يا أبا مهديّ. أنا مطارد من دون ذنب من قبل خصوم متصارعين يتـّخذون من جثتي موقعاً للقتال.

ــ   من يكون سوى أبي باقر !

ــ   أنت الآن جعلتني أرى الصورة على حقيقتها.

ــ   لكنّك لم تجبني عن سؤالي.

ــ   جوابي واضح وصريح. أنا لا أعرف أحداً في عين التمر، ولست على صلة بالرجل المتوفي لا من قريب ولا من بعيد. على الرغم من أني كنت راغباً في مقابلته لأنّه مصدر منسي من مصادر الأنساب والرواية.

سكت المجريطيّ، وانتظر تعقيباً من أبي مهديّ، الذي ظل ساكناً، جامداً، يحتفظ بتعابير وجهه المستنكرة، المستهجنة؛ فأدرك المجريطيّ أنّه لن يحصل على عون عاطفيّ من أبي مهديّ يساعده على توضيح موقفه، وأنّه ملزم بأن يفعل ذلك بنفسه، ملزم بأن يذهب إلى الحقيقة المرّة، التي اضطر إلى إخفائها عنه، فأضاف:

ــ   ولأنّك أخي، ولأنني أثق بك كما أثق بنفسي، سأقول لك حتـّى لو قادني هذا إلى حتفي، ذهبت بناء على رغبة قمر.

ــ   وما صلة قمر بهذا؟

ــ   قالت إنّ زوجها كان يعمل تحت إمرة الرجل، وسبق له أن قضى بأمر منه سفارات عديدة في أكثر من  بلد.

ــ   هذا أمر يعرفه الناس كلّهم، لو أنّك سألتني لكنت أجبتك بما هو أهم من هذا. ولكن ما صلة هذا بما نحن فيه الآن؟ ولماذا أرسلتك قمر إليه؟

ــ   لأنّه يعرف على وجه التحديد كيف ولماذا وأين قتل زوجها.

ــ   وما نفع هذا لك؟ ولماذا لم تذهب هي إليه؟

ــ   لأنّهم يراقبون حركتها.

ــ   من؟

ــ   الذي أبلغك عنـّي، والطرف الآخر أيضاً.

ــ   لا أكاد أفهم.

ــ   ولا أنا، لكنّني...

ــ   لكنّك لم تقنعني بعد.

ــ   أعرف يا أبا مهديّ، لأنّني لم أقل كلمتي الأخيرة. لقد اتفقت معي على أن تغادر بغداد بصحبتي.

ــ   بأيّة صفة؟

ــ   لن أقبل أن تكون أقلّ من زوجة.

ــ   زوجة ! والعائلة الكبيرة، والمرجعيات؟

ــ   وعدتني أنّها ستدبر أمورها بنفسها.

فكـّر أبو مهديّ قليلا ثم سأل بسخرية وحزن:

ــ   وهل أنت واثق تماماً أنّها  تقبل بأن تضحي برسالة ابنها، الرسالة المقدسة، المكتوبة على لوح الغيب، مثل القدر؟

ــ   أتعرف هذا أيضا؟

ــ   إذا لم تحسبني جاهلا !

ــ   ولكنّ أعظم ما حيّرني أنّهم جميعاً يسألون عن مكان وجود الطفل، في حين أنّهم على صلة بأمّه ! كيف تفسّر هذا؟

ــ   أمر محير، أليس كذلك؟

فاجأه سؤال أبي مهديّ، الذي لم يعتد من قبل أن يجيب عن سؤال بسؤال، فاجأه حجم ما يحمله السؤال  القاتل من سخرية مميتة، فاضطر المجريطيّ إلى الاحتماء بآخر ما يملكه من حصون: الغموض، فقال:

ــ   ربّما تستطيع هي أن تجيب عنه.

ــ   هناك شيء لا تريد أن تقوله.

ــ   نعم، ولن أقوله.

ــ   لماذا؟

ــ   لأنّني لا أريد أن أحمّلك ما لا تطيق، وما لا ذنب لك في حمله أو تحمّله، فأنت أخي. هل يحقّ لي أن أكتفي بهذا؟

أصيب أبو مهديّ بالحيرة والعجز والقهر. لم يعد يعرف إذا كان من المفيد له وللمجريطيّ أن يعرف أكثر. وما نفع ذلك؟ ما نفع أن يعرف أو لا يعرف؟ كلّ شيء سار كما قررته حراب قادة الجند وخصومات الطوائف المتناحرة. ما نفع أن يقف الآن يحاكم نياّت فرد لا صلة له بكلّ ما يحدث، صلته الوحيد أنّه سار خلف خياله، انقاد  إلى أوهام قلبه، وسار إلى حتفه برجليه. لم يجد أبو مهديّ ما يمكن أن يضيفه. لبث يغالب عواطفه، يغالب جيشان نفسه، يتقوى بالعناد، لكي لا تنفجر براكين روحه، التي يحسّ أنّها الآن في طريقها إلى الهيجان.

ــ   يا أبا سليمان لم أعد أعرف شيئاً. ربّما يكون المنطق وعويص الفلسفة أهون وأيسر على فهمي من هذا الذي أراه وأسمعه.

تقدّم المجريطيّ، ومدّ له ذراعيه يروم عناقه، وهو يقول:

ــ   هذا فراق يا أبا مهديّ.

ظلّ أبو مهديّ جامداً، لا يردّ، فأضاف المجريطيّ:

ــ   إنّه الفراق.

لم يستجب أبو مهديّ، فأضاف المجريطيّ بحزن:

ــ   أتعرف ماذا قالت لي أمّ سليمان في لحظة الوداع حينما قلت لها: الموت يشبه الفراق؟

ــ   قالت لك: لا، الفراق يشبه الموت يا عامر.

قام أبو مهديّ من زاويته المعتمة، وواجه المجريطيّ، فأحسّ كلاهما بعِظَم ما يجيش في نفسيهما. تعانقا وهما يكبحان حمم عواطفهما الملتهبة، الموشكة على الانفجار.

 

(19)

انحدر المجريطيّ وكوكب في عتمة الليل من الطريق الموصلة إلى قنطرة البردان. سارا بمحاذاة الجسر، وتوقفا في قرية تعرف بالأثلة على فرسخ من الجانب الشرقيّ. أخفى المجريطيّ فرسه خلف حائط طينيّ تغطيه أشجار النخيل، ولبث ينتظر عودة كوكب، الذي ذهب يبحث عن رجل من معارف زوج قمر. عاد كوكب بصحبة الرجل، الذي قادهما إلى منزل له بالحطمية، على ميلين من بغداد.

ما أثقل صمت ليل بغداد ! فكّر المجريطيّ، وهو يقتفي أثر دليل مجهول الهوية، يقوده إلى مصير أكثر غموضاً. دخل المجريطيّ بغداد يوماً من بابها الكبير في وضح النهار، وها هو يتسلل منها تحت جنح الليل مثل طريد.

هو الآن خارج أسوار بغداد، لكنّه لم يزل يشعر أنّه  ليس خارج طوقها وحصارها. لم تزل بغداد تأبى أن تفكّ ساعديها القويين عن جسده.

استقرا في بيت على أطراف الحطمية.

لبثا ينتظران يوما بعد يوم.

لم تأت قمر. مرّ اليوم العاشر وهما يتواريان عن الأعين، في انتظار وصول قمر.

كان اتفاق المجريطيّ مع قمر واضحاً، لا لبس فيه: الانتظار حتـّى تصل هي؛ همست في أذنه قائلة: "لا تترك المكان مهما حدث، إذا حدث شيء من طرفي سأرسل من يخبرك، أمّا أنت فلا تبرح مكانك".

وها هو ينتظر، ها هو ثابت لا يتحرك، لكنّها لم تأت، ولم ترسل أحداً يخبره بما حدث.

تضاعف قلق كوكب، وبدأ اختلال مشاعره ينقلب إلى سلسلة من الأفعال الغريبة. فطوال الوقت ظلّ يهذي بحكايات لا يعرف المجريطيّ صدقها أو كذبها، مبالغاتها أو واقعيتها. لكنّ المجريطيّ يدرك أنّ قلق كوكب لا يختلف عن قلقه، عدا أنّ كوكبا يعبّر عن نفسه بطريقته الخياليّة، المنفلتة من كلّ منطق.

ــ   يا كوكب، إذا وجدت أنّك غير قادر على الاحتمال والصبر تستطيع أن تعود.

نطق المجريطيّ ذلك مصانعاً، فهو يريد أن يختبر مقدرة كوكب على الصمود والانتظار، لا أن يحثـّه على الهرب أو العودة، لما في ذلك من مخاطر عليهم جميعاً؛ فمن المحال التيقـّن من طبيعة سلوك كوكب وسلامة ردود أفعاله. كلّ شيء ممكن لدى كوكب، كلّ شيء.

لم يجب كوكب. انخرط في موجة بكاء حادّة، ثمّ توقف فجأة ومسح عينيه وقال ضاحكاً:

ــ   أنا أعرف سبب سؤالك، تريد أن تختبرني، أليس كذلك؟

ــ   أختبر ماذا؟

ــ   تختبر مقدرتي على الاحتمال.

ــ   أنا أعرض عليك الاحتمالات، لا أختبر مقدرتك على الاحتمال. أعرض عليك أن تختار بحرّيّة.

ــ   لكنّك تعرف أنّني عبد.

ــ   توقف عن هذا العبث يا كوكب، توقف رحمة بنا جميعاً، فأنا غير قادر على سماع مثل هذا الاستخفاف المهلك بالحياة.

ــ   لا تغضب، أنا أريد أن أسلّيك لا أكثر.

ــ   المرء لا يتسلى بالموت ! هذا السبيل، الذي نسلكه، يقود إلى الموت لو لم نحسن اختياره.

ــ   هل يحلم الموتى؟ قل لي بربك يا سيّدي، أنا لا أمزح: هل يحلم الموتى؟

تركه المجريطيّ يلهو بأحلامه العبثيّة، أحلام الموتى، وراح يفكّر في أمر واحد: أن يحسم الأمر، فلم يعد الانتظار مجدياً، أصبح الانتظار ضرباً من العبث القاتل، يتفوق على عبث كوكب بلا منطقيته.

لم يتمكن المجريطيّ من النوم. نظر إلى كوكب فوجده مستغرقاً في النوم وعلى شفتيه ابتسامة تختفي وتعود، مثل ابتسامة طفل سعيد يحلم بوجه أمّه. هزّه بعنف، فاستفاق مذعوراً، لكنّه تماسك وقال:

ــ   هل وصلت سيّدتي؟

ــ   لا.

ــ   أحسست أنّهم قربي. ألم يطلع النهار بعد ! هل حصل شيء؟

ــ   لقد قررت، وأرجو منك أن تسمع قراري جيداً، ولا تناقشني. لك أن تقبل أو ترفض.

ــ   أنا مصغ.

ــ   ستنطلق إلى بغداد الآن، ستذهب للبحث عنهم. ليس لنا طريق سوى هذه. وإذا لم تجدهم حاول أن تستفسر من بيت أبي مهديّ، ربّما يعرفون شيئاً. لا، لا تفعل هذا. أذهب إلى الأماكن التي تعتقد أنّ سيّدتك يمكن أن تكون فيها، وعد إليّ فورا، بها أو بدونها.

ــ   ولكنّ هذا خطر عليّ، ماذا أفعل لو قبضوا عليّ؟

ــ   لماذا يقبضون عليك ! وإذا حدث مكروه قل لهم إنّك لا تعرف شيئاً. شغّل خيالك الخصب تعثر على آلاف الحكايات العبثيّة الملفـّقة.

ابتسم كوكب وقال:

ــ   ربّما أدبّر أمري، ولكن ماذا بشأنك؟

ــ   سأنتظر هنا، ولن أتحرك من مكاني.

ــ   وماذا لو حدث...

ــ   سأنتظر هنا، ولن أغادر إلاّ ميتاً.

ــ   وكيف تعرف سيّدتي  لو...

ــ   لا توجد لو يا كوكب، لو عدتم ستجدوني هنا مهما طال الانتظار، ولو متّ سيخبركم الناس بموتي.

ــ   ولكن هذا انتحار، عبث.

ــ   كفّ عن هذا الجنون يا كوكب، وقل لي: هل ستمضي أم لا؟

ــ   الآن، قبل الفجر؟

ــ   نعم، الآن قبل أن يطلع الفجر.

لم يكن ذهاب كوكب حلاً سيئاً كما ظنّ المجريطيّ. فلم يكن حلاً صادراً عن يأس، وحتـّى لو كان كذلك فإنّه منح نفسه أملاً جديداً بالعثور عليها، وفي الأقل منح نفسه أملاً لمعرفة مصيرها. لكنّ الأهم من هذا كلّه أنّه في حاجة ماسّة إلى هذه الاستراحة الإجباريّة، استراحة يتخلص فيها من ضغط مشاعر كوكب المضطربة وسلوكه الغامض المتقلب والمشوّش، الذي أخذ يربك عليه تفكيره. هو الآن يختلي بنفسه. لا يفصله عن ذاته فاصل. يفكّر من دون ضغط من أحد. لكنّه لا يريد أن يقوم بجرد حسابات. لا،  لن يفعل هذا. لا حساب مع أحد ومع أيّ شيء. لا يريد أن ينظر إلى الخلف، لا يريد أن يرى أبعد من عينيها العسليتين، الغارقتين في الطيبة والوداعة والرقـّة والمشاعر البريئة، المثاليّة.

ــ   اسمع يا عامر، هل تسمح لي أن أناديك بعامر؟

وجع ما بعده وجع أمسك تلابيب قلبه. لم تصدر هذه الكلمة من فم امرأة إلاّ في لحظة قاهرة: لحظة حبّ عارم أو لحظة موت غادر. ها هي تنطقها وقد اختلطت فيها الأقدار، اختلط الحبّ بالموت. أوشك أن يبكي وهو يرى عينيها الناعستين تتلونان بلون العسل، المجتنى من زهر السفرجل.

ــ   كنت أنتظر هذا بفارغ الصبر؛ هجرت الأندلس وأتيت إلى بغداد لكي أسمع هذا النداء يخرج من فمك يا قمر الكرخ.

ــ   أرجو أن تترك العواطف الآن وتصغي إليّ جيداً.

ــ   أنا أصغي إليك، أصغي بعواطفي كلّها.

ــ   أنا أمرأة لا تملك من العالم سوى طفل يتيم.

ــ   يا قمر، لا تعيدي هذا الكلام مرّة أخرى. لقد تحدثنا في هذا وحسمناه، أنت وطفلك. ..

ــ   يجب أن تصغي. أنا لا أتحدث عن عواطفك، لأنّني واثقة منها ثقتي بنفسي، ولكن عليك أن تتأكد من عواطفي أنا.

ــ   ماذا تعنين؟ هل...؟

ــ   لا تبدأ بالظنون. اسمع ما أقوله جيّداً، فهذا أخطر مما تظن. هذا ليس بحثاً عن قصيدة أو عن شاعر، وليس بحثاً عن جملة في كتاب. هذا الولد ليس طفلاً مثل أيّ طفل. هو ابني حقاً وشرعاً، لكنّه ليس ابني أيضاً.

ــ   أنا أعرف هذا، هو ابن الجماعة، وإنّ استتاره ضرورة تتجاوز حدود كونه ابنك. وأنا مستعد تماماً لأن أخفيه في عينيّ.

ــ   هنا يكمن الخطأ. أنا لا أتحدث عنك، لا تأخذ الأشياء كلّها من طرفك، أنا أتحدث عن الطرف الآخر، عنّي أنا.

ــ   أنا وأنت واحد يا قمر، مصيرنا واحد، وطفلنا واحد.

ــ   أنت تخطىِء ثانية. أنا لست كذلك، لست كما تظنّني. يجب أن تفهمني جيّداً، لكي تستطيع أن تقرر بحرّيّة تامة كيف تتصرف.

ــ   أتتخلين عني؟ أتتخلين عن رجل جاء من أقصى الأرض يبحث عنك...

ــ   أرجوك للمرّة الأخيرة أن تسمعني. لا أريد أن أتخلى عنك، لكنّني أريد منك أن تتخلى عن أضاليل الخيال،  أن تتحرر من وهمي، لكي تحرّر نفسك من أوهامك. انظر إليّ كما أنا، كامرأة من لحم ودم، كإنسان !

ــ   أتسمّين حبّي وهماً وأضاليل خيال؟ 

ــ   لا تسترسل في الأوهام يا عامر. لا توجد امرأة على وجه الأرض لا تطربها هذه الكلمات الجميلة، ولا تغريها هذه العواطف الفيّاضة. ولكنّني لست كلمة تبحث عنها في قصيدة، وهذا الطفل ليس طفلاً لأمّ هي ابنة سائس أو أم هي قريبة كبير المراجع، هذا الطفل ابنُ أهله، ابنُ تاريخ يجب أن يظلّ متصلاً، ولا ينقطع.

ــ   ولكنّ الجماعة موجودة، وستستمر موجودة، بنا أو بغيرنا.

ــ   هذا هو جوهر خلافي معك، الذي لا تريد أن تفهمه. الجماعة موجودة، لكنّ هذا الذي أتحدث عنه روحها، هو إكسير حياتها، حينما تنضب طاقاتها الخيّرة. هو القبس الأزلي الخالد، الذي يمنح الجماعة أفق سيرها نحو نور الحقيقة؛ بضياعه يختلط الخير بالشر، يختلط الظلم بالعدل، يختلط الحسن بالقبيح. بغيابه يصبح الجميع غرباء. هل تفهم الآن عن أيّ طفل أتحدث أنا الآن؟

ــ   أنت على حقّ في هذا. ولكن، ما المطلوب منيّ؟

ــ   المطلوب أمر واحد، هو أن تفهمني أنا. أما أنت فأنا أفهمك، سواء أكنت تنظر إليّ ككلمة وجدتها في قصيدة وعشقتها، أم تنظر الي كإنسان من لحم ودم. لا يهمني هذا كثيرا، لأنّني أثق بأنّك تحبّني في الأحوال كلّها. هل أرضاك كلامي؟

ــ   نعم، أنت الآن قمري الذي أحببته.

ــ   إذاً اسمع كلام قمر التي لم تحببها بعد.

ــ   تكلمي.

ــ   ماذا تعتقد أنّ قمرَ فاعلة لو خيّروها بين طفلها وقلبها؟ أيّهما ستختار؟

ــ  ستختار  كليهما.

ــ   وإذا ضاقت الاختيارت وأضحت واحداً من أمرين.

صمت المجريطيّ.

ــ   أجبني يا عامر. لكي تحصل عليّ، لكي تحصل على عقلي وعلى قلبي، وتحصل عليّ جسداً وروحاً. إذا لم تجبني لن أسير معك خطوة واحدة. الأمانة التي في عنقي تقتضي منّي أن أصونها، وتقتضي منّي أن لا أخون أحداً، لا نفسي ولا ابني ولا الآخرين، ولا قلبي. فأجب.

طال صمت المجريطيّ وأوشك أن ينفجر غاضباً أو باكياً أو هارباً. اختلطت في أعماقه مشاعر مضطربة، فأصابه خرس أشد مضاء من سيف باتر.

قالت قمر: "سأكرر عليك ما قلته تواً مرّة ثانية: لن أعدك بشيء، ولن أمنّيك بشيء، ولن أرغمك على شيء."

أصغى المجريطيّ إلى ثقل الصمت في فجر بغداد فتذكّر وجه أبي مهديّ المتشكك، وتذكّر سؤاله الأخير:" هل أنت متأكد من أنّها  تقبل بأن تضحّي برسالة ابنها، الرسالة المقدسة، المكتوبة على لوح الغيب، مثل القدر؟"

مجدّدا جاءه صوتها مشككا في مقدرته على حمل السرّ:

ــ   هل أنت حائر، أم عاجز، أم أنّك رافض؟

ربّاه، هل يمكن لهذه المرأة الناعمة الرقيقة، هل يمكن لكومة العسل هذه أن تغدو بطرفة عين ذئبة شرسة إلى هذا الحد !

فكّر المجريطيّ وهو ينظر إلى وجهها. كيف يمكن  لوجه كوجه قمر أن يحتمل ظهور مثل هذه المشاعر الجبّارة على صفحته الناعمة، الوادعة ! كانت كما لو أنّ شخصاً آخر غيرها هو الذي يتحدث بلسانها، نيابة عنها ! ابتسمت بحزن شفيف، وقالت وهي تعود، مثل نبتة حبق، إلى رقتها البكر:

ــ   يا عامر هذا العجز، وهذه الحيرة، وهذا الرفض حقّ لي، أنا، وحدي. لا يحقّ لي نقله إليك، مستغلة حبّك لي. أنت أرغمتني على أن أضعك في هذا الموضع، لكي أفهمك أنّني لا أفرّط بمن أحبّ بسهولة. أنت وطفلي قدراي. لكلّ إنسان حيّ قدر واحد. أما أنا، يا للمصيبة ! فلي قدران، قدران متخاصمان.

مدّ يده المقيّدة بالأصفاد ليلمس يدها ويجرها إليه ليلثمها، فلم توافق. سحبت يدها برقـّة وعتب. أحسّ بخيبة وهو يتمنى أن يلمس بشرتها الرقيقة الصافية ولو لمسا. لكنّها رأت حزناً جياشاً يفيض من عينيه، فلم تقو على الاحتمال. مدّت يدها ومسحت دمعته بكف رقيقة، حانية، وهي تنظر إليه بعينين متوسلتين، ترجوانه ألا يرفع يده ويلمسها. مرّت أصابعها على جفنيه كما تمر الأحلام.

لم ير أصابعها، رأى حلمة نهد أمه وهي تزرق حليباً دافئاً تملأ به عينيه. مرت أناملها شاخبة فيه دفقة بلسم، كتلك التي منحتها له حلمة أمه حينما أصابه رمد في طفولته. ودّ لو يفتح فمه الآن ويلتقم أناملها مثل رضيع.

تنبّه المجريطيّ إلى صوت قادم من الخارج. فصيلة من الجند مرّت مسرعة فأثارت الذعر فيه، لكنّها لم تتوقف. كانت منطلقة إلى مكان مجهول.

***

عاد كوكب بعد منتصف الليل. جاء يحمل معه مفاجأة لم تخطر على بال المجريطيّ. دخل البيت ثمّ دخلت خلفه شمس تحمل طفلاً. وقبل أن ينطق المجريطيّ هاتفاً باسم قمر، أغلق كوكب الباب، فقتل هتافه ومزّق أحشاءه شرّ ممزق. قال المجريطيّ:

ــ   أين سيّدتك يا شمس؟

ــ   لا أعرف،لا أحد يعرف، لكنّها طلبت منّي أن أهرب مع الطفل، وأحضر إلى هنا.

ــ   طفل من؟

ــ   طفلها، أحضرته أمّها معها من قرية نائية من قرى عراق الجبل، حيث كانوا يخفونه هناك.

جمدت أنظار المجريطيّ وهو يرى طفلة ملفوفة بقماش يستر جسدها ويكشف عن رأسها. كانت شمس تحتضنها بقوة، تلتف ذراعاها حولها، كما لو أنّهما تطوقان سرّا تخشيان عليه الإفلات من أسره  والانتشار في الهواء.

ــ   وأين هي؟ أما التقيتِ  بها؟

ــ   التقينا، واتفقنا كما قلت لك توا أن أجلب الطفل من أمّها وألحق بكما، أما هي فقد أخبرت أمّها بأن تسلمني الطفل وتخبرني بما يجب أن أفعل. لأنـّها لم تكن تحبّذ أن يكون الطفل بصحبتها.

ــ   لكنّها لم تحضر إلى هنا.

بكت شمس وراحت تنوح:

ــ   يا ولي !

ــ   لا تنوحي يا شمس واخبريني: هل ذهبت سيّدتك برفقة أحد؟

ــ   لا أعرف، لكنّها رتبت كلّ شيء كما يجب. وحينما التقيتها آخر مرّة كانت قلقة، لكنّها لم تكن خائفة، كانت تشجعني لأنّني نفسي كنت خائفة.

توقفت عن الكلام، ثم اقتربت من المجريطيّ وقالت بصوت هامس، لكي لا يسمعها كوكب:

ــ   أخشى أن تكون قد ذهبت إلى المدائن؟

ــ   إلى المدائن ! هذا ليس اتفاقنا. قالت لي أن أبقى هنا ولا أتحرك.

ــ   لكنّها قالت لي أن أخبرك بأن تغير المكان إلى المدائن، وقد رتبت كلّ شيء هناك.

ــ   أتعرفين أين ستكون؟

ــ   نعم، إذا وصلنا طيسفون سيكون سهلاً الاهتداء إليها ، لأنّني أعرف عند من ستكون.

ــ   نرحل فوراً.

ساروا قبل أن يحلّ الفجر. وحينما طلع الفجر كانوا على أطراف المدائن، ومن هناك قادوهم إلى بيت طينيّ، في زقاق شعبيّ.

ــ   هل أنت واثقة من أصحاب البيت يا شمس؟

ــ   كلّ الثقة،هذه العائلة تنتسب إلى الصحابيّ الجليل سلمان الفارسيّ، وهم يعتبرون أنفسهم من شيعة الإمام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، لا من شيعة الطوائف.

ظلّ المجريطيّ يستفسر من شمس ويُكثر من معرفة التفاصيل الدقيقة كلّما ذهب كوكب لقضاء حاجة في الخارج. لكنّه ظل طوال الوقت ينتظر اللحظة التي يفيق فيها الطفل من نومه فيراه وجهاً لوجه، بعد أن رافقه غيابيّاً، رافقه سرّه واسمه وخبره طوال الأياّم الماضية في حلـّه وترحاله، في سجنه وفي حريته، في نومه وفي يقظته، وأضحى موضوعا للسؤال والاتهام والاستفسار من قبل كثيرين. ها هو الطفل اللغز أمامه، على بعد أشبار منه، ينام بعمق، ملفوفاً بعناية من قبل شمس، التي كانت تسهر عليه وتتحرك صوبه مع كل حركة يبديها. تململ الطفل، رفع يده اليسرى مبعداً الغطاء الرقيق الذي يستر وجهه، أدار رأسه محاولاً التعرف على المكان، ثم التقت عيناه السفرجليّتان الجميلتان بعيني المجريطيّ. نظر إلى المجريطيّ بتمعن، ولم يبد علامة دهشة لوجود رجل غريب أمامه. جلس أولا ثم نهض فجأة. حينما انتصب رأى المجريطيّ طفلة صغيرة، بضفائر كستنائيّة، وثياب أنثويّة. رأى أمامه طفلة رائعة الجمال تنهض من نومها، وتنظر بثقة وهدوء مدهشين إلى العالم الغريب الذي يحيط بها. لم يستفهم المجريطيّ، ولم يعبّر عن دهشته الكبيرة وانبهاره، بل اكتفى بأن نظر إلى ابتسامة شمس المؤكّـِدة، التي  أوحت له بأنّها تجيبه قائلة: نعم، صدق ظنّك، الاستتار يعني الاستتار.

بلاط الأسرار والرسل والأئمة ! بلاد الحبر والدم والسموم ! فكـّر المجريطي ّ وهو يرى الطفل يخطو بألفة مدهشة على أرض غريبة،  ويحفظ دوره عن ظهر قلب، ويتحرك من دون خوف، ومن دون حاجة إلى اسم أو تعريف. خيّل إليه أنّه يرى مشهداً إلهيّاً حيّاً، مشهداً يُجسّد الشيء وضدّه في اللحظة ذاتها، يجسّد التناقض العظيم الذي يفرّق الأشياء عن بعضها ويجمعها بغيرها. كان الطفل أمام عينيه، لكنّه بدا له كائناً سمويّا، غامضاً مشخّصاً، حاضراً غائباً، ضعيفاً قوياً، معرّفاً مجهولاً، ذكراً أنثى، طفلا شيخاً، بشراً ملاكاً، منقذاً ومهلكاً، غاية ووسيلة، بداية ونهاية. بعد برهة، بعد أن اطمأنّ الطفل إلى وجوده، شرع يتنقل بينهم،  بملامحه وثيابه الأنثويّة، برفعة واقتدار وخيلاء، مثل إمام محتمل رسمت الحياة له درباً محدداً، وألزمته بأن يسير فيه، أو مثل شهيد مرتقب، يعي حجم الأثر الذي سيخلفه دمه المهدور على صفحة الزمان.

أمّا كوكب فقد انقلبت موازينه انقلاباً تاماً. مضت ساعات وهو لا يكفّ عن الحركة، لكنّه لم ينطق بحرف. ربّما ملّ  عليه الانتظار! كأنه نسى لسانه في الحطمية. وحالما فتح فمه أدرك المجريطيّ أنّه كان يقوم بمراجعة حساباته وإعادة تنظيم خططه الخياليّة، على ضوء هذا التطور المفاجئ، الذي لم يكن ضمن مخططاته وأخيلته. اقترب أكثر من المجريطيّ وقال:

ــ   أما زالت وجهتنا الأندلس يا سيّدي؟

ــ   لا أعرف، هذا مرهون بقرار سيّدتك؟

ــ   وما الذي يمنعها من الموافقة؟

ــ   ليست الأمور بهذه السهولة يا كوكب.

ــ   لماذا؟

ــ   لأنّ قرطبة على وشك أن تسقط في المجهول.

ــ   وماذا يعني هذا؟

ــ   قد تكون الفوضى والحرب في انتظارنا.

ــ   أرض الله واسعة.

ــ   ليست واسعة دائماً يا كوكب، أحياناً تضيق حتـّى تصبح مثل خرم الإبرة.

ــ   كيف؟

ــ   الشام واقعة الآن تحت تأثير العبيديين في مصر، ومصر الفاطميّة متحالفة سراً مع البويهيين.

ــ   وما دخلنا نحن في كلّ هؤلاء؟

ــ   لا دخل لنا فيهم، لكنّهم هم لهم دخل في حياتنا.

ــ   لا أفهم يا سيدي.

ــ   لماذا تريد أن تفهم؟

ضحك كوكب وقال:

ــ   غباء محض. صحيح لماذا يجب أن أفهم !

في متاهة مثل هذه، يكون الفهم وعدم الفهم واحداً. ما نفع أن تفهم ولا تجد طريقا تقودك إلى برّ السلامة والأمان ! ربّما تكون لعبة الحظ العمياء أكثر نفعاً من علم لا يقود إلى نتيجة. تذكّر المجريطيّ أبا مهديّ. أكان يسخر حينما قال: "لا تسرف في مواساتي، فأنا أعرف حجم خيباتي !"، وحينما قال له: " أتسمي التبحّر في العلم خيبة؟"، أجاب: "حينما يعجز التبحّر عن الإجابة على أسئلة الحياة، يغدو خيبة وأيّ خيبة".  أهو نبيّ مستتر، نبيّ يعرف ما بطن وغمض، لكنّه يتظاهر بعدم اليقين وبقلـّة الحيلة !

شرع كوكب يغنّي أغاني هازلة، لإضحاك الطفل. وبالفعل اجتذبه إليه وأخرجه من حالة الاستتار ومن وقار الرمز، وأعاده إلى طبيعته الطفليّة، كائناً بشرياً خالصاً. وشيئاً فشيئاً بدأت أغاني كوكب تتحول إلى نغم حزين باك، فأبكى شمساً حينما بدأ يغنّي لا تعذليه. كان يعرف أنّه سيفعل ذلك، يُضحك الطفل أوّلا ثم يُبكيها. أمّا المجريطيّ، الذي دهمه الحزن بعمق وهو يستمع إلى شعر ابن زريق، فكان ينظر إلى اللعبة كلّها ويحاول أن يجد لها معنى محدداً، وأن يجد، في الوقت نفسه، لحياته وأفكاره ونزواته ناظماً منطقيّاً، وسط هذا البحر المتلاطم من الفوضى.

فكـّر المجريطيّ في كوكب، في بساطة مشاعره، وغرابتها، وهو يراه يعود مسرعا إلى عاداته التي ألفها: مناكدة شمس والدخول معها في معارك تنافسيّة صغيرة في كلّ شيء.

قال المجريطيّ وهو يدنو من شمس:

ــ   ماذا سنفعل يا شمس لو لم تحضر سيّدتك؟

ــ   لا أعرف، الشيء الوحيد الذي أعرفه هو أنني لن أذهب إلى أي مكان من دون الطفل.

تدخـّل كوكب قائلا:

ــ   وإذا لم تحضر؟ أو إذا حدث لها مكروه، لا سمح الله؟

ــ   لا بارك الله فيك أيّها العبد العاقّ ! كيف تجرؤ؟

ــ   أنا أقول إذا.

ــ   لا تفترض أيّها النحس.

ــ   ولكنّ هذا ممكن، ماذا تفعلين حينئذ؟

ــ   أمنحها عمري.

ــ   امنحيها عمرك، ولكنّي أتساءل عن الطفل اليتيم هذا، وعنّا نحن !

ــ   سأفديه بروحي، سأكون أمّه. لن أتخلى عنه، ولن أهرب إلى أيّ مكان قبل أن تحضر سيّدتي.

نامت شمس وهي تحتضن الطفل، بينما ظلّ كوكب يدندن بصوت خافت، وهو ينظر إلى السقف المعتم، أمّا المجريطي فراح يتأمل الهيئة الغامضة للطفل وهو نائم، غافل عمّا يحيط به، لا يعرف أنّ سياسيين وقادة جند ومرجعيات وحكّاما يبحثون عنه بجنون في كل مكان. كان الطفل يتنفس بهدوء غير مكترث البتة بكل أولئك، غير مكترث بحرابهم، بمؤامراتهم، بأطماعهم، بحصارهم.

فكـّر المجريطيّ وهو يحسّ بطعم المرارة يملأ فمه: " إلى أيّ الفريقين انتسب أنا؟ هل أنا منقِذ أم محاصِر؟". نظر مجددا إلى وجه الطفل، الهادئ، المحاصر بالظلام.

***

في الصباح قرّر المجريطيّ ارسال كوكب مرّة ثانية إلى بغداد، وطلب منه التحري عن قمر.

 وبعد يومين عاد كوكب خائباً: لا أثر لقمر.

سأله المجريطيّ حالما أغلق الباب وراءه:

ــ   هل وقعت سيّدتك في قبضتهم؟

أجابه كوكب جواباً، بدا جاهزاً، أو مرتبّاً من شخص توقع أن يُسأل هذا السؤال:

ــ   أنا متأكد وواثق جداً جدّا من أنّها حرّة طليقة في مكان ما.

ــ   كيف عرفت؟

 ــ   لأنـّهم يبحثون عنها في كلّ مكان.

ــ   لا تصدّقه يا سيّدي ! أقسم أنّ هذا كذاب ماكر، وأشكّ في أنّه ذهب للبحث عن سيّدتي، أو أنّه دخل بغداد.

ــ   إذا كنتم تشكـّون فيّ اذهبوا إلى الحطمية واسألوا هناك، اسألوهم، ألم أمرّ بهم عند الذهاب والعودة.

ــ   أنا أعرفك وأعرف حيلك. ربّما تكون مررت بالحطمية، ولكنّك لم تذهب إلى بغداد، ولم تبحث عنها، وأنّك تريد أن تخيفنا.

ــ   أقسم بالله أنّهم يبحثون عن سيّدتي في كلّ مكان. حتـّى أنّهم سألوا عنها في الأثلة حيث توقفنا أنا والمجريطيّ عند خروجنا من بغداد.

ــ    هذا العبد اللئيم  كاذب يا سيّدي. إنّه يضخّم الأمور، لأنـّه يريد أن يهرب بأيّ ثمن. أنا أعرفه أكثر منك، هو يفكـّر في الهرب دائماً.

ــ   يا كوكب، إذا كان كلامك صحيحاً، وإذا كانوا سألوا عنها في الأثلة، هذا يعني أنّهم يقتفون أثرنا، وأنّهم قد يتمكـّنون منّا هنا.

ــ   هذا أمر مؤكد، أنا واثق من هذا كلّ الثقة.

ــ   أنت واثق أنّهم يقتفون أثرنا ولا تخبرنا !

ــ   لأنّني خفت أن تسخر شمس منّي.

ــ   أتخاف من سخريتها ولا تخاف على حياتنا؟

لم يجب، فزاد من غضب المجريطيّ، الذي أضاف:

ــ    اشرح لي كيف أصبحت متأكداً من أنّهم يقتفون أثرنا؟

ــ   أخبرتني الأرملة صاحبة البيت، قالت: هناك جماعات مسلحة غريبة مرّت.

ــ   وما الغرابة في ذلك؟

ــ   قالت إنّهم يفتشون النسوة وينظرون في وجوه الأطفال الصغار.

لا يعرف المجريطيّ صحّة ما يقوله كوكب، ولا يستطيع هو أو غيره أن يتأكد من قول كهذا، لكنّه أضحى واثقاً من أمر واحد، هو أنّ الشكوك لم تعد شكوكاً، وأنّ أمرهم انكشف، ولا بدّ أن يقرر فوراً الخطوة التالية.

في المساء تلقوا ضربة جديدة لم تكن في الحسبان. بدأت الحمى تستولي على الطفل، واشتدت حرارته. وخلال بضع ساعات أخذ بالذبول.

قال المجريطيّ:

ــ   ربّما سنكون مضطرين إلى العودة إلى الأندلس.

ردّ كوكب:

ــ   لكنّك يا سيّدي قلت إنّها مضطربة الأحوال.

ــ   مضطربة لي وحدي. خطّتي هي أن نقسّم أنفسنا إلى ثلاث مجموعات. تذهب شمس والطفل إلى الأندلس، وأنا أنتظر في القيروان، أما أنت يا كوكب فتظلّ هنا، تبحث عن سيّدتك، وحينما تجدها تصحبها إلى القيروان، حيث أكون في انتظاركم.

ــ   وإذا لم أجدها؟

ــ   نكون نحن قد نجونا منهم.

ــ   وأنا؟

ــ   ستلحق بنا، سأرسلك إلى شخص يعينك، فلا تقلق.

ــ   وإذا وقعت في أيديهم؟ من يضمن أنني سأصمد أمام قسوتهم، أنا لا أضمن نفسي، لست قوياً، أنا ضعيف البنية، أنا أخاف أن يشوهوا وجهي بالنار. وربّما يقطعون لساني.

ــ   أنت أقوى مما تظن يا كوكب، أما أنت يا شمس فستدّعين أنّك زوجتي والطفل طفلي، سنتفق على التفاصيل الآن، ولكن بعد أن يوافق كوكب على خطّتي.

ــ    حتـّى لو وافق هذا على البقاء لن أرحل من دون سيّدتي. لن أذهب إلى أي مكان إلاّ مع الطفل، لأنّ سيّدتي وضعته أمانة في عنقي أنا. لن أتخلى عنه إلاّ ميتة.

للمرّة الأولى يرى المجريطيّ فورة غضب مفاجئة تصدر من كوكب، غضب يشبه اللعب، اللعب بالعواطف والمشاعر والأرواح، غضب يشبه غضب طفل يلعب بالنار، مناكداً خصماً له، مهدداً إياه بالحريق:

ــ   ستميته هذه الخادمة الغبيّة، ستميته وتميتنا بهذا العناد، هذا ليس حبّاً ووفاء.

ــ   أنت  لست سوى عبد، لا يحلم إلاّ  بالهروب من عبوديته، أنت مخلص لأنانيتك، التي تملأ قلبك ورأسك الأسود. انظر إلى هذا، كيف يمكن له أن يتحمّل سفراً !

كانوا بين أمل كاذب ويأس محتمل. أمّا الآن فأصبح اليأس من مجيء قمر مؤكداً، والأمل بالعثور على حلّ، يخرجهم من وكرهم هذا، أكثر من مستحيل. لم يكونوا سوى خليط عجيب يثير الريبة: عبد أسود يافع، وشابّة من أرض السواد، وطفل مجهول الهوية، ورجل من الأندلس. كانوا خليطا يخلو من التجانس يختبئ في جحر، بانتظار أمل لا يعرفون كيف يتحقق، بينما تحوم حولهم دوريات يقظة، مستفـَزّة، حانقة.  كان أكثر ما يوجع المجريطيّ وشمس أنّهما لا يستطيعان أن يتأكدا من صحة ما ينقله كوكب من أخبار. كانا لا يعرفان إذا كان صادقاً أو كاذباً، فكاد ضغط القلق والشكّ يشلّ إرادتهما ويقتل مقدرتهما على التفكير واتخاذ القرار. قرّرت شمس أن تذهب بنفسها وتسأل، لتعرف حقيقة ما يجري، بدلا من أن يظلا أسيرين لما ياتيهما به كوكب من أخبار، لا يعلم إلاّ الله فحواها. ذهبت شمس إلى ربّة البيت الذي يختبئون فيه، وقبل أن تبدأ بالسؤال أخبرتها المرأة بأنّ ابنها، الذي يعمل في خدمة جيش جلال الدولة، سمع من بعض أصحابه أنّ أفرادا من الشرطة الخاصّة، يبحثون في المناطق القريبة عن شيء ما، لا يفصحون عنه. عادت شمس وأسرّت بذلك إلى المجريطيّ، الذي يعرف أكثر من غيره من هم الخاصّة، وكيف يتصرفون مع خصومهم. فبادر  إلى سؤالها:

ــ   أتظنين أنّهم سيصلون إلينا !

ــ   أخشى مما هو أكثر من هذا.

ــ   ما هو؟

ــ   أحسست أنّ المرأة خائفة من شيء ما، كما لو أنّها تحثّنا على الهرب. وقد أكدّت غير مرّة على أنّ ابنها وأصحابه من حرّاس الخاصّة، وهذا ما يقلقني. كنت أرى في عينيها شيئاً يشبه الاعتذار الحزين.

من دون تفكير قرّر المجريطيّ أن يجد حلاً عاجلاً وفورياً:

ــ   ما رأيك يا شمس أن تعودي مع الطفل إلى بغداد، لديّ بيت هناك، وهناك ستجدون من يعتني بكم حتـّى تجدوا طريقاً تربطكم بسيّدتك.

ــ   مستحيل، إذا كنت تعني عند سعيد ! سيسلمنا فوراً، سيبيعنا إذا اكتشف أمر الطفل، وسيعرف هذا عاجلاً أم آجلاً.

ــ   لن ندعه يشكّ، لأننا لن ندعه يخمّن، سنخبره نحن بالحقيقة كلّها، سنضعه أمام واجب أخلاقيّ، وليس أمام واجب رسميّ.

ــ   سعيد غير مأمون. أنا أعرفه شخصيّاً، لأنّني أنا التي ذهبت إلى بيته واتصلت به عند لقائه بسيّدتي  حينما توسط لفكّ أسرك.  أنا التي  ساومته. سيبيعنا لأكثر من مشتر.

ــ   سأغريه.

ــ   ومن يضمن أنّه لن يحصل على عرض أكبر؟

ــ   لا توجد ضمانات أكيدة، كلّ الاحتمالات سيّئة وممكنة، وكلّ الطرق خطيرة، لكنّ هذه الطريق تقلـّل من حجم الخطر، بما أنّك لا تريدين أن تأتي معنا، وبسبب وضع الطفل، لقد بدأت أخشى عليه.

ــ   نعم، يجب أن نفكـّر في الطفل. هذا الطفل هو طفل الناس كلّهم، ولن أتخلى عنه إلاّ ميتة.

يخالها المجريطيّ قمرَ، يخال أنّها تتحدث بلسان سيّدتها، أو أنّ روح قمر حلّت فيها، فيستجيب لها مرغماً.

ــ   لن أفعل شيئاً يضرّ سيّدتك.

ــ   أنا أعرف سيّدتي جيّداً، لو ضاع الطفل من يديها، أو خسرته، لن ترحم نفسها.

تذكـّر المجريطيّ قولها: "ماذا تعتقد أنّ قمرَ فاعلة لو خيّروها بين طفلها وقلبها؟ أيّهما ستختار؟

وإذا ضاقت الاختيارت وأضحت واحداً من أمرين".

فكـّر المجريطيّ في أنّها لم تكن  تفاضل بينه وبين طفلها، كانت ترى ما لا يراه. كانت تقرأ في صفحة من كتاب تحفظه عن ظهر قلب. كانت ترى ما هو فيه الآن. وها هو الآن يخسرهما معا، وربّما هي أيضاً تخسرهما معا. ولكن، على الرغم من خناق اليأس، عليه أن لا يستسلم، يجب أن يحاول العثور على أمل، حتـّى وإن بدا له كاذباً، أو واهياً.

ــ   لكنّي لا أظنّ أنّ سعيداً سيخون إذا استجرنا به كصديق كمنقذ، حينما نخبره بالأمر نكون قد وضعنا أمانة كبيرة في عنقه. وخلال هذه الفترة ستجدين طريقا إلى سيّدتك. ومن هناك يمكن ترتيب كلّ شيء مجدداً، ما رأيك؟

شرع المجريطيّ في كتابة رسالة إلى سعيد.  وحينما فرغ المجريطيّ من كتابة رسالته تنحّت به شمس جانبا وقالت هامسة:

ــ   أبعد هذا الأحمق من هنا، أريد أن أتحدث معك في أمرّ مهمّ.

لم ينتظر كوكب حتـّى يأمره المجريطيّ. نظر إلى شمس باستخفاف وخرج وهو ينحني للمجريطيّ، الذي هزّ رأسه مشجعاً، وهو يقول:

ــ   استطلع لنا المكان جيّدا، وأخبر صاحبة الدار بأنّنا جاهزون للرحيل.

وحالما أغلق كوكب الباب انتفضت شمس، وراحت تحمل الطفل المعروق وهي تنظر إلى وجهه. تشبثت به بقوة، ضمته إلى صدرها وقالت بحزم:

ــ   يا سيّدي أنت تفكر بطريقة لا أفهمها. أنت تبحث عن حل لنا، لكنّك كمن يبحث عن حل في أرض  أخرى وبعيون مختلفة.  لن أطمئن لسعيد هذا.  وحتـّى لو قدّر لك الوثوق به، فمن يضمن لنا أنّ الرسالة لن تقع بيد أحد. ربّما يكونون في انتظارنا، كما يدّعي هذا العبد.

ــ   لا تنفعلي ! لقد فهمت قصدك منذ البدء. لم أكن أريد أن يعرف كوكب إلى أين أنتم ذاهبون لا أكثر. لن تذهبي إلى سعيد، لست جاهلا إلى هذا الحدّ.

تذكـّر المجريطيّ قول الشاب في معركة النهر: "باعوهم لنا مقابل صفقة لا علاقة لنا بها".

ــ   ولكن. هل أنتِ قادرة حقـّا على حمايته؟ هذا ما يؤرّقني الآن !

ــ   أنا لا أحميه فحسب، أنا أحمي نفسي به، وأحمي حلم سيّدتي، وأحمي الأمل في نفوس كثيرين ببقائه حيّا.

ــ   أأنتِ واثقة من نفسك؟

ــ   لست واثقة فحسب، بل أنا مصرّة على أن أجد هذه الثقة في نفسي. أما المبلغ الذي تريد أن ترشو به رجلا مثل سعيد، فتستطيع أن تهبه للطفل؛ به نستطيع تدبير أمورنا من دون حاجة إلى سعيد أوغيره. كن واثقا أنّني سأحفظ الأمانة بروحي.

ــ   أنا لا أتحدث عن الثقة، ولكن عن قلـّة الحيلة.

ــ   هذه أرضي وأنا أدرى من غيري كيف أخطو على ترابها. إذا توفر لي ما يكفيني للقوت والمأوى، لا توجد قوة على الأرض تستطيع الوصول اليّ.

 وضع المجريطيّ في يدها مبلغا من المال والرسالة التي ادّعى أنّه كتبها لسعيد.

ــ   حينما تلتقين سيّدتك سلّميها هذه الرسالة.

فتحت شمس الرقعة فوجدتها لا تحتوي إلاّ على بيتين من الشعر:

عَسى اللَيالـي الَّتـي أَضنَـت بِفُرقَتَنـا    جِسمـي سَتَجمَعُنِـي يَومـاً وَتَجمَـعُــهُ

وَإِن  تُـغِــلُّ  أَحَــدَاً  مِـنّـا   مَنـيَّـتَـهُ     فَمـا الذي  بِقَضــاءِ  الـلَـهِ   يَصنَـعُـه

بكت شمس، فقال المجريطيّ لها:

ــ   قولي لها: يقول لك عامر إنّه ينتظرك سواء فوق الأرض أو في أعالي السماء، سينتظرك كامرأة على أرض، وكجرم في سماء، سينتظرك كحقيقة أو كوهم.

أحسّ المجريطيّ أن الأفعال أضحت غامضة، وأخذت تفقد معانيها، تفقد ترابطها، تفقد التسلسل الطبيعيّ الذي ظنّ أنّه يسيّرها. لم يتبق له الآن سوى بعض بقايا قمر. بعض بقايا وجودها الضائع منه، الذي لا أمل لديه  باستعادته. نظر إلى الطفل وهو يطوّق عنق شمس بيديه ويدفن وجهه المعروق الذابل في صدرها، فأدرك أنّ عالماً كاملاً حلم به، واقترب منه، وكاد أن يلمسه بيديه العاريتين قد ضاع منه إلى الأبد. أحسّ أنّه يقف الآن أمام خساراته كلّها، أمام رحلات الوداع كلّها، أمام النأي كلّه، وأمام غرباته كلّها.

اقترب المجريطيّ من الطفل. أراد أن يأخذه من شمس ليحتضنه، يشمّه، يقبّل عينيه. لكنّ الطفل أبى أن  يرفع رأسه، وراح يحفر وجهه في صدر شمس، ويتشبث برقبتها تشبث الغرقى. أمّا شمس فقد أحسّت أنّ المجريطيّ يتلقى آخر الطعنات بتجلد وشجاعة، فرفعت رأس الطفل إليه بحنان.  نظر المجريطيّ في عينيّ الطفل العسليّتين الواهنتين، قرّب وجهه منه ليقبـّله، لكنّ الطفل جفل مرتجفاً، مثل طائر خائف. لمس المجريطيّ وجهه الخائف، ثمّ عدل عن فكرته وقرر أن يصافحه. أخذ كفـّه الصغيرة الساخنة المعروقة وهزّها برجولة قائلا وهو يبتسم بحزن: إلى اللقاء، يا … آخر الكلمات السحريّة !

همّ بأن ينطق اسمه. لكنّه عدل عن ذلك خشية أن تسمع الظلمات اسمه.

انفتح الباب. عاد كوكب وهو يقول:

ــ   كلّ شيء هاديء، ستأتي امرأة من معارفنا لكي ترافقهما.

صمَتَ لحظة ثمّ قال:

ــ   وهل سنمضي أنا وأنت إلى الأندلس يا سيّدي؟

ــ   لست سيّدك يا كوكب، ولا أدري إلى أين نولـّي وجوهنا؟

ــ   لكنّك وعدت.

ــ   نعم وعدت، لكنّها هي التي أخلفت وعدها.

ــ   من؟

ــ   قرطبة. لقد أخبرتك أنّ الوضع هناك يشبه الوضع هنا، يشبه ما نحن فيه تماما، ولو أنّني هناك في هذه اللحظة لفعلت مثلما نفعل أنا وأنت الآن.

ــ   ولكنّنا لا نفعل شيئا، نحن نختبئ لا أكثر ولا أقلّ.

ــ   نحن نتخبط، نتخبط. نحن نفرفر مثل الذبائح، لأنّنا لا نعرف إلى أين نتجه.

نظر المجريطيّ إلى شمس وفجأة تذكـّر الخاتم. أخرجه من الخرج ووضعه في كفّ شمس.

نظرت شمس إليه باندهاش وحيرة، ثمّ راحت تنظر إلى وجه كوكب، الذي ارتسمت عليه ابتسامة ملؤها التشفـّي والسخرية.

قال المجريطيّ:

ــ   ربّما ينفعك هذا.

لم تفهم شمس سبب هذا التصرف المفاجئ، لكنّها امتثلت للأمر ووضعت الخاتم في جيبها، وهي تواصل الاستماع إلى كلام المجريطيّ:

ــ   ربّما ينفع...

توقف المجريطيّ عن الكلام حينما سمع طرقاً على الباب.

ازداد الطرق على الباب. خرج كوكب ثم عاد مسرعاً، محبوس الأنفاس:

ــ   الدوريات تقترب. بدأت تفتش الحيّ المجاور. ولا أحد يعرف من هم، ولأيّة فئة ينتسبون، وعن أيّ شيء يبحثون ! أتراهم يبحثون عنّا؟

ــ   لا يهمّ هذا، لا يهمّ من يكونون، وسواء كانوا يبحثون عنّا أو عن غيرنا، سنكون فريسة لهم لو وجدوا الطفل معنا.

فتح المجريطيّ الباب بحذر وحثّ شمس على الخروج. ذهبت شمس والطفل بصحبة المرأة، وحينما تواروا عن الأنظار، أدرك المجريطيّ أنّ اللحظة الفاصلة قد حانت.

قال المجريطي:

ــ   سننتظر لحظات، حتـّى يغيبوا عن الأنظار وننطلق.

فردّ كوكب بهدوء، كما لو أنّه يعيش في مكان آخر غير هذا المكان المملوء بالرعب والترقب والقلق، نطق ساخرا وهو يبتسم:

ــ   حينما أعطيتها أنا الخاتم رفضته، بينما قبلته منك. غبيّة ! قالت لي إنّه ثمين، ربّما تكون سرقته.

صُعق المجريطيّ وهو يحسّ برودة أعصاب كوكب، لكنـّه تذكّر وجه قمر فقال:

ــ   وماذا قالت سيّدتك قمر حينما رأت الخاتم؟

ــ   لم تره. لذلك أرجعته إليك، خفت أن يتهمني أحد بالسرقة.

فكـّر المجريطيّ في أنّه لا يقف أمام إنسان، وإنّما يقف وجهاً لوجه أمام قدر عابث. أمام هامش لا مرئيّ من استخفاف الحياة بمصائر البشر، هامش مكتوب بحروف خالية من المنطق، خالية من كلّ دلالة أو مغزى، سوى الهزء بسخافات الوجود وبمفارقاته المميتة.

 آن له الآن أن يقرر: هل يصطحب معه هذا القدر الجنونيّ الساخر، أو يمضي وحده؟ وإذا أراد أن يصحبه فإلى أين؟  فكـّر المجريطيّ على عجل وهو ينظر إلى كوكب، من دون أن يستطيع تخمين ماذا يدور في هذا الرأس، الذي يريد منافسة حتـّى الموتى على أحلامهم.  نظر المجريطيّ في عينيّ كوكب فرأى في بريقهما وعيدا وخوفا مزمنا وأحلاما مهدورة، وأدرك أنّ هاتين العينين المستلبتين تعيدان تكرار ما قاله صاحبهما حينما طلب منه أن يذهب إلى بغداد: " من يضمن أنني سأصمد أمام قسوتهم، أنا لا أضمن نفسي، لست قويا، أنا ضعيف البنية، أنا أخاف أن يشوهوا وجهي بالنار. ربّما يقطعون لساني..."

لو أنّ قمرَ هنا لقالت له: أن يكون معنا أكثر أماناً لنا من أن نتركه خلفنا. أنا أعرفه أكثر منك، لا تثق به، لا تطلعه على سرّ، ولا تأتمن جانبه. فهو لا يخون بإرادته، لا يخون بمعنى الخيانة، لكنّه لا يمانع من أن يقدّم أيّ شيء لمن يأمره. قد يفعل كلّ شيء وأيّ شيء. لأنـّه لا يعتبر ما يفعله جزءا من سلوكه الشخصيّ، وإنّما هو جزء من مسؤولية من يأمره. لا أظنه ينام مرتاح الضمير، لكنّه ينام على أيّة حال وهو يلقي مسؤولية  ذنوبه على أكتاف الآخرين. إنه يحتمي بعبوديته ضد مزالق حرّيته المتاحة أو الممكنة.  وحينما يشعر أنّ ما يقوم به يخلو من المنطق، يستكمل لا منطقيّة سلوكه بالعبث. العبث هو حرّيته الوحيدة الممكنه، التي يستخدمها كرُقَعٍ يستر بها ثقوب عبوديته، ويدافع بها عن نفسه ضد خلل الإرادة.

 وسواء أكان عبثه كذباً أو تصنعاً، فإن هذا قد يدفعه إلى ما هو أخطر من الكذب. ربّما يفعل أيّ شيء في لحظة ضعف أو في لحظة عبث صادق أو مفتعل !

أحسّ المجريطيّ أنّه يحتفظ بكوكب أسيرا لديه. هو أسير أكثر مما هو رفيق درب.

نعم أسير، ولكن كيف يضمن صمته؟ إذا كانت قمر تأسر كوكباً بجمالها وبهالة البراءة التي تكلّل وجهها، فبأيّ قيد يمكن له أن يأسره؟

قد يغدو كوكب خطراً على الجميع، على الطفل أولا، وعليه، وعلى قمر أيضاً. لا يمكن له أن يترك إنساناً مجرداً من الحرّيّة، إنساناً كسيراً، مخذولاً، خلفه؛ ربّما سيبيعهم بثمن بخس. فلا أحد يستطيع التمييز بين صدقه وكذبه، ولا أحد يعرف ما سيحدث لو أنّه تركه وراءه وقبضوا عليه. وفوق هذا وذاك لقد وعده يوماً ما، وعده وزرع في أعماقه حلماً لم يزل حيّاً في نفسه.

لا مناص من أخذه معه، لا مفرّ من ذلك. لا مفرّ من قدر يلتصق به التصاق الجنين برحم أمّه. لم يعد بمقدوره أن يملص نفسه من هذا القدر الذي يلتفّ حول رقبته.

ترى من يأسر من؟ أيّهما يأسر الآخر؟ هل تستطيع حرّيّته العصيّة على الاسترقاق أن تأسر عبداً، وهل يستطيع عبد أن يكبّل إرادة رجل حرّ مثله؟

ربّما  هما يحرّران  بعضهما من أسرهما المشترك !

أليس من العدل أن يُمكـّن كوكباً من إكمال حلمه بالهروب ! ربّما يكون كوكب وفيّا للهروب أكثر من وفائه لعبوديته، ربّما ينجح في ما لم يتمكن هو شخصياً من تحقيقه، ربّما يصل هذا المملوك، المقيد، إلى برّ نجاة ما، رغم أنّه شخصيّاً لا يعرف إلى أين يهرب، وماذا ينتظره في الخطوة القادمة. ألم يصبح المملوك حاجباً وملكاً؟

  قرّر المجازفة بأن يجتذبه إليه، فقال له:

ــ   لم تعد لنا خيارات.

ــ   وما الحل، يا سيّدي؟

ــ   هذا هو الحل.

 لكز المجريطيّ فرسه وانطلق وهو يقول خائفاً، قلقاً من احتمال تمرّد كوكب عليه:

ــ   هذا هو الحل الوحيد ! امض ورائي، إذا أحببت، ولكن،لا تسأل: إلى أين !

تردد كوكب، نظر وراءه، ثمّ لكز فرسه وراح يتبع غيمة الغبار التي أثارتها حوافر فرس المجريطيّ المنطلقة نحو المجهول.

 

من أعمال المؤلف

سماء من حجر                                                             رواية 

أمير الأقحوان                                                             رواية

الإله الأعور، غزل سويديّ                                            رواية

ذبابةالقيامة                                                                  رواية

يمامة                                                                          رواية

زهرة الرازقيّ                                                             رواية

نشوء وتطور القصة القصيرة في اليمن                            تاريخ أدبيّ

خطوات على البحر الميّت                                             سيناريو سينمائيّ

جريمة من أجل التلاؤم                                                  بحث اجتماعيّ

ضباب أفريقيّ                                                              قصص قصيرة

العودة إلى آل ازيرج                                                    قصص قصيرة

ثقافة العنف في العراق                                                  بحث أخلاقيّ

من يصنع الديكتاتور                                                     بحث اجتماعيّ

جلجامش: لا أحد في انتظار المخلص                              مسرحية

إعلان سياحي عن أم الدنيا                                             نص تسجيلي