يعود باب علامات لمقالة نشرت سنة 1909 في دورية المقتبس لصاحبها محمد كرد علي، وفيها يؤكد كاتبها أهمية فن المسرح في الحياة الثقافية للشعوب، ويدعو لمسرح عربي متواشج مع ثقافته، كما يسلط الضوء على أهمية الوظيفة الأخلاقية والتربوية التنويرية لهذا الفن ودورها المؤثر في سبيل مجتمع جديد.

التمثيــل الأدبــي

أبو العلاء الدمشقي

إعداد أثير محمد علي

 

التمثيل ركن من أركان الحضارة قديماً وحديثاً. وهو من الفنون الجميلة التي تسير مع سير الآداب والمعارف عند الأمم كالشعر والموسيقى والنقش والتصوير فبحسب ارتقاء الآداب ورقة الشعور. وسمو المدارك في أمة يكون ارتقاء هذه الفنون على الغالب فتجد أعواناً يميلون إليها وأنصاراً يقبلون عليها.

والناظر إلى التارخ يعلم أن التمثيل قديم عند الأمم وجد منذ وجدت العقول الراقية ومنذ أخذت البشرية تنفض عنها غبار التوحش والتفرد ومنذ ارتقت المشاعر والمدارك. وأن القارئ ليعجب إذ علم أن مسارح اليونان وملاعب الرومان كانت تسع عشرات المئات من الناس وأن تمثيل المشهد الواحد وقتئذ كان يتجاوز الأسبوع وأعجب من ذلك الملوك كانت هي بنفسها تتولى تمثيل بعض الفصول حتى المضحكة منها وهذا التمثيل كان عندهم من قبيل المعتقدات الدينية.

وهذه الأمم الغربية فإن لها من الاهتمام والعناية به شأناً عظيماً وإن لكبار الممثلين عندهم مكانة عالية فإن الممثل البارع لا يقل اعتباراً وإجلالاً عن العلماء، كشكسبير وارفنغ وغيرهما. وهذا الأخير –ممثل الانكليز المشهور– حينما توفي لم يدفنوه إلا في مقبرة ملوكهم اعترافاً بفضله واحتراماً لفنه ونبوغه.

وفي أميركا مسرحاً خاصاً لتمثيل الروايات المدرسية للشبيبة دعوه (مسرح تربية البنين والناشئة) ولا عجب فإن التمثيل الأدبي هو المدرسة العامة للناس على اختلاف طبقاتهم فإنه يصور لهم الفضيلة وقد أشرقت أشعتها فأبادت جراثيم الفساد وجعلتها هباءً منثوراً.

وأنارت المدلج وقد كان على شفا هاوية عميقة لا يخرج منها إلا وهو فاقد الحياة فانقذته من السقوط ورفعته إلى منصات المكال وهكذا حتى يتمكن حبها من جميع النفوس.

ثم يصور لهم الرزيلة وقد قادت صاحبها إلى أعظم المهالك والرزايا وأسوأ الحالات فيبغضونها ويفرون منها فرار السليم من الأجرب.

وهذه التأثير في النفوس لا يكون إلا من ممثل متأثر حساس يعلم كيف يلقي ويتكلم ويبرهن ويومئ إذ يخلب الأسماع بحسن الإلقاء ويدهش الأبصار بمواقع الحركات والسكنات مع انتقاءٍ للروايات المفيدة. وإتقان في الملابس التاريخية.

أقول التاريخية وأتمنى كل التمني أن تكون جميع رواياتنا التي تمثل على مسارحنا في هذه البلاد عصرية اجتماعية لا نحتاج فيها لملابس تاريخية فنحن في حاجة إلى بث هذه الروايات الوطنية لتمثل لنا نظاماتنا وأسرنا ومعيشتنا ومدارسنا ومجتمعاتنا ومحيطنا وأخلاقنا فنعلم الضار من النافع. والحسن من القبيح في جميع هذه الأمور. ولكن الذنب كل الذنب على الكتبة والأدباء والمفكرين منا لأنهم مطالبون بسد هذه الثلمة الكبيرة. وذلك لأن المطلع على أغلب ما طبع من الرويات العربية لا يكاد يجد بينها رواية عصرية وطنية تامة الأدوات إلا في الأقل النادر وكثيراً ما ننظر بعض روايات معربة عن الإفرنجية وهي خالية من كل فائدة، تعب معربها وأبرزها وطبعها ليفيد على زعمه ولكنه لم يجن ولن يجن ثمرة نصبه وسهره لأنه لم ينتق رواية ذات قيمة حقيقية. دع عنك الروايات الغرامية والهزلية المنتشرة بيننا انتشاراً هائلاً فإن ضررها أكثر من نفعها على الغالب.

يقولون: إن الروايات الافرنجية هي جامعة لشروط الروايات الحقيقية من مثل قوة اختراع الحوادث والجمال وتنوع الموضوع مع وحدة السياق واشتمالها على كثير من المسائل المهمة الاجتماعية والأخلاقية إلى غير ذلك. وهذا البرهان الذي يقدمه بعضهم من الأدلة الكافية على إنا لم نزل ضعيفي الثقة بأنفسنا فاقدي الاستقلال في أفكارنا حتى في تأليف رواية اجتماعية عصرية أقول هذا للذين يجهدون أنفسهم في تعريب ما هم في غنى عنه لو نظروا إلى محيطهم وفكروا في مجتمعهم ثم كتبوا فيما يتراءى لهم من المعائب والنقائص.

وهنا لا بد من استثناء مؤلفات كبار مؤلفي الرويات والقصص من الافرنج وعندي أن تعريب هذه يفيد كثيراً.

ومما لا مشاحة فيه أن تأليف الرويات التي تمثل حاجات الأمة وآمالها وشعورها وعواطفها هي من الأدلة على إرتقاء مدارك مؤلفيها ورقة شعور الأمة التي تقبل عليها ويدلك على هذا ما كتبه المقتبس النافع عن أحد علماء الاجتماع (م3–ج6). قال: "إن الأمم الكبرى المتمدنة في آسيا ترتاح إلى التمثيل ارتياح الأمم الأوربية إليه ومع هذا فإن رواياتها التمثيلية منحطة عن روايات الغرب اللهم إلا اليابان، ففي الهند والصين لا ترى في الروايات التمثيلة أثراً من الآثار التي تشير إلى المطامع الكبيرة التي تسوق أصحابها إلى الفتن ولا أبطالها يقدمون على المصاعب ويعاندون الأأقدار في أحكامها بل أنهم يكتفون هناك بتمثيل فاجعات عامية تصور اضطراب الحياة اليومية أو عيشة العملة إلا أن الرويات الأوربية قد اثرت الآن في الهند وإن كان بعض أدبائها يريدون حباً بوطنيتهم أن يحيوا ما كاد يندثر من آدابهم القديمة مما يدعو إلى الأمل بأن التمثيل الهندي سيرجع عما قريب إلى صورته السالفة التي كان عليها أما الصين فإن الذي يغلب عليها في التشخيص ذكر الحياة اليومية وأحوالها والفقر ومشاكله المؤثرة وتصوير الصدق والخديعة ويرجى للتمثيل في الصين إرتقاء لا سيما إذا دخلت البلاد بفضل الحركة الثورية التي تهز الآن أعصابها في فتن وطنية كبرى. والتمثيل في سيام يجمع إلى تمثيل الحقائق كما تمثلها الصين والأفكار الدينية والفنية كما هي في الهند وكوريا ممتازة بموسيقاها.

أما يابان فإن التمثيل فيها صورة صحيحة من صور المطامع التي تجول في صدور اليابانيين والأعمال التي تدور عليها حياتهم فتجده مثالاً من تقاتل الأفكار وعراك الرجال وتأثيرات الجمال والشرف يظهز كل مرة بمظهر أمام المتفرجين.

قال: ومتى أكثر المترجمون في أوربا من روايات يابان أكثر مما ترجموا تتمثل للأنظار شعور ذاك العنصر الذي هو أعظم مثال في ايتقلاله كيف يقترب من تمدننا وشعرنا وشعورنا".

من هنا نعلم أن التمثيل تابع للأمم من حيث رقيها وانحطاطها ففي الهند والصين وسيام أحط منه في اليابان وفي أوربا أرقى منه في غيرها وإنه إذا أتيح لنا تأليف روايات تمثل آمالنا وتنتقد معائبنا لا تلبث أن تأثر على الشعب وتأسره بجمالها الوطني وفائدتها فضلاً عن أنا نكون نهضتنا بأدبياتنا نهضة تستحق الذكر ذهذه الروايات يجب أن تكون حقيقية لا خيالية تمثل حوادث حدثت أو ليس من الممكن حدوثها وفي أثنائها ندمج ما نشاء من القواعد الاجتماعية والأخلاقية فنصور الفضيلة سائرة مع النور! والرذيلة مع الظلام! والأخلاق الفاضلة تتمكن من النفوس وتسمو في الشعور بمشاهدة آثارها الحسنة ونتائجها المرضية والتمثيل من الأسباب التي توصل هذه الغاية الشريفة إلى النفوس ومثلها الأخلاق السافلة تنفر منها الطباع وتأباها النفوس عند مشاهدة أفاعيلها الضارة بصاحبها وبالناس.

ولا يخالنّ امرؤ أن مشاهدة الروايات الأدبية مما يحظره الأدب كما يدعي بعض السذج البسطاء إذ لا يوجد هناك إلا حكم تلقى وأدوار متنوعة وحوادث تمثل يلوح من تضاعيفها برق حكمة وموعظة واعتبار ولكنه متألق يضيء للنفوس الشاعرة فتتهلل له الوجوه وتسر به القلوب على أن التمثيل من طبائع الحضارة ونتائج العمران وما هو إلا مهذب للأخلاق على اختلافها.

ولا أبلغ من الأدبيات الراقية في التأثير في النفوس وتهذيب الناس فكيف بها إذا تلاها ممثل بارع على نسق شائق؟

(المقتبس، س1، ع89، السبت 3 نيسان 1909)