يعرض الشاعر الفلسطيني هذه الدراسة عن الشاعر الفلسطيني الكبير سميح القاسم الذي تنبثق قصائده عن رؤيا واقعية تعي المعاناة الفلسطينية حيث يجد الإنسان نفسه مطاردا من الجميع، قاتلا أو مقتولا، في مشهد قاتم لكنه ليس مغلقا ولا سوداويا. كما يعي أنه لا يخوض مغامرة عبثية بل انه يدق على جدران الخزان بأدواته الفنية الخاصة.

قراءة حميمة لشعر سميح القاسم

قراءة في كتاب نبيه القاسم

أحمد دحبور

اعترف مبدئيا بإشكالية دراسة الدراسة، حيث تزدحم على الورق المحايد، ثلاث شخصيات على الاقل، تتعلق بالمدروس والدارس وعلاقة الناقد بهما معا. لكن هذا ما حدث، إذ أقدم د. نبيه القاسم على انجاز كتاب «سميح القاسم، مبدع لا يستأذن احدا» في ثماني عشرة وثلاثمئة صفحة، وعلى ما بين الدارس والمدروس من صلة قربى واضحة، نجح د. نبيه كعادته في تقديم بحث موضوعي مدقق بالاستنتاجات والشواهد، مبرأ من الانحياز العشوائي.
فهو يبدأ، منذ العنوان، بتوظيف لغة الشاعر سميح القاسم في عرض خطته النقدية، حيث ان لسميح مجموعة شعرية بعنوان «لا استأذن أحدا» ليأتي كتاب د. نبيه هذا قولا على قول، فهو «سميح القاسم مبدع لا يستأذن أحدا».
وضمن خطته المتأنية في عرض موضوعه، يبدأ د. نبيه بإشارات خاطفة لكن ضرورية، في سيرة الشاعر ومسيرته، وبعد تقديم اسم الشاعر الخماسي: سميح محمد القاسم محمد الحسين، يخبرنا بأنه من مواليد الشهر الخامس للعام 1939، وانه متزوج وله اربعة ابناء اما عن اولاده بالروح، اي كتبه المتنوعة بين شعر ورواية ومسرحية ومقالة فقد وصلت الى الثمانين ان لم تكن قد تجاوزتها مؤخرا.
فعلى سبيل المثال العشوائي، اذكر من مجموعاته الشعرية: «مواكب الشمس - اغاني الدروب - طائر الرعد - ديوان الحماسة - الجانب المعتم من التفاحة، الجانب المضيء من القلب - جهات الروح - لا استأذن احدا - كتاب القدس - حزام الورد الناسف - وغيرها كثير».
وقد اقترح سميح شكلا من التعبير الشعري، سماه السربية، وهي القصيدة الطويلة المركبة من اصوات متعددة، واذكر من سربياته: «اسكندرون في رحلة الخارج ورحلة الداخل - مراثي سميح القاسم - الهي الهي لماذا قتلتني؟ - ثالث اكسيد الكربون - عجائب قانا الجديدة - وغيرها». وله في الرواية «الى الجحيم ايها الليلك - الصورة الاخيرة في الالبوم».
ولا يمكن ان نغادر سيرة هذا الشاعر المتنوع من غير الاشارة الى كتابين هامين في سجله الحاشد، الاول هو «مطالع من انثولوجيا الشعر الفلسطيني في الف عام - بحث وتوثيق» والثاني كتاب «الرسائل» حيث عمل جادا - في الكتاب الاول - على تقديم تصوره لمسيرة الشعر في بلادنا، وعرض في الكتاب الثاني رسائله المتبادلة مع محمود درويش وكانت هذه الرسائل تنشر تباعا في مجلة اليوم السابع التي كان يديرها بلال الحسن الذي يقف شخصيا وراء فكرة الرسائل.

جحيم الليلك
يقف د. نبيه القاسم، متمعنا دارسا امام رواية سميح «الى الجحيم ايها الليلك» فيعتبرها انتصارا لمشروع الرواية الفلسطينية في الداخل، بعد القفزة النوعية التي حققها متشائل إميل حبيبي في هذا المجال، فهذا الفضاء الروائي مكرس للشعب الفلسطيني في عمق الوطن، حيث يرى د. نبيه ان سميح القاسم فنان معماري في الرواية كما هو في الشعر، حيث تناول الوضع في الداخل من الانشطار الى الهاوية فالمواجهة فالمستحيل وصولا الى القيامة، مازجا اساليب مختلفة لتقديم نصه الروائي النوعي، معتمدا على الرمز الايحائي الجميل ضمن لغة مطواعة حيث اقتربت الفصحى من كلام الناس محافظة على نسقها الجمالي، بتنكبها لمأساة الانشطار الفلسطيني بعيد النكبة من غير انقطاع عن مسيرة الخلاص والمقاومة بأشكالها الشعبية، محددا بالدقة شكل الكارثة بأنه هاوية ولكنه ليس نكبة ما دامت ارادة النهوض تجد مفردات التعبير عنها في مختلف اشكال النشاط الانساني والوطني، ما دام الفلسطيني قد اتخذ قرار المواجهة ورفض مبدأ الاستسلام، فالمستحيل ليس مستحيلا ما دام القائم عليه شعبا يختار الحياة بمختلف التبعات المترتبة على هذا الاختيار. ويتابع الناقد مسيرة المبدع من خلال حركته الروائية، وصولا الى فكرة القيامة. منحازا الى حقيقة ان الوجود الفلسطيني واقع لا يستطيع المحتل ان يمحوه او حتى ان يتجاهله. ويرى د. نبيه ان سميحا قد اختار في رواية «الى الجحيم ايها الليلك» اسلوب الدوائر المتداخلة المتتابعة والمتولدة المنتهية الى وجوب تسليم المحتل بوجود شعب عريق هو صاحب هذه الارض. ليخلص الى ان هذه الرواية هي سيرة ذاتية صادقة نجحت في ان تكون وثيقة ادبية شاهدة على موضوع شديد التعقيد، هو باختصار جوهر الصراع العربي الصهيوني، حيث نجح سميح في رأي د. نبيه «في المحافظة على الرابط الانساني بين الدوائر المتداخلة منذ الكلمات الاولى حتى الاخيرة».
ويحاول ان يأخذ دور الناقد الموضوعي، فيقول اننا قد نأخذ على رواية سميح بعض المآخذ، لكنه لا يشير الى هذه المآخذ كما يقتضي النقد الميداني، بل يكتفي بالإشارة إلى أن الخلاصة ظلت ثابتة، وهي ان حكاية الليلك كانت العمل الذي انتظرناه طويلا من سميح، ونرجو الا يكون الاخير. والواقع ان هذا رأي احتفالي اكثر منه تقويما موضوعيا في كتاب مخصص لقراءة التجربة الاستثنائية التي خاضها سميح القاسم شاعرا وروائيا.

الرحلة المتواصلة
وينجح د. نبيه في استدراك الملاحظة السابقة، عندما يقوم لاحقا بقراءة متأنية لمجموعتي سميح «لا استأذن احدا» و«سبحة للسجلات».
يرى د. نبيه ان قصائد «لا استأذن احدا» قد تبدو خارجة عن المألوف، الا ان هذا في رأيه لا يسبب صدمة او مفاجأة، ربما لان تجربة هذا الشاعر المتحفز قائمة على المفاجآت بابتعادها عن الخطابية، فيما تبرز خلالها مسحة من الحزن تحيط بمعظم قصائد الديوان، مع نزعة الى المقطع الشعري المركز. خلافا لتجاربه السابقة مع القصائد المطولة، ولكن مع استمرار الهم الوطني الذي هو شغله الشاغل. وتتضافر هذه الرؤية الفنية لتجربة الشاعر، مع كينونته كشاعر ثوري «ينطلق من نقطة جذب الموقف الفكري والاجتماعي والفهم الموضوعي للتناقضات».
من جماع هذه الملاحظات يخلص الدارس الى انه هذه القصائد «هي مزيج من السريالية والفرويدية والتجريدية» لكنها منبثقةعن رؤيا واقعية تعي المعاناة الفلسطينية حيث يجد الانسان نفسه مطاردا من الجميع، قاتلا او مقتولا، في مشهد قاتم لكنه ليس مغلقا ولا سوداويا:
زهرة في جمجمة
ويد مبتورة في مزهرية
آه يا زنبقتي السوداء،
اخفي كاتم الصوت قليلا
ولا يكتفي الشاعر - كما يقول الدارس - بالرحيل الى الداخل وخلق الواقع الذي يريد، بل يشتبك مع الواقع المعيش بما فيه من تناقضات وخيبات، ولكن متخففا من الضياع، يعرف ما يريد والى اين يتجه:
لا استأذن احدا
بهدوء ورويّة
اقطف وردة حزني الجورية
واغني
ولهذا يظل هناك وقت للحب حتى ليلتبس الامر على بعض النقاد، بالمعنى الجميل للالتباس، هل يقصد الشاعر حبيبته الشخصية ام ان محبوبته الاولى دائما هي فلسطين حتى لو لم تكن حياتنا الصعبة تسمح للشاعر بالحب الانساني الفردي، والعزاء بل الرد على هذا الوضع الصعب هو ان الشاعر قادر على ان يحمل القارئ المتلقي على استشفاف معنى الحياة من وجوهها المختلفة «فالمحبوبة صهوة العاشق وهو دراجتها النارية، بمعنى ان الحب هو رافعة المشهد وضمانة الخاتمة المضيئة لهذه الملحمة المركبة».
سبحة للسجلات
يواصل الدارس نظريته في ان قصائد سميح حلقات متواصلة متكاملة، بما يفسر عنوانه الغريب هذا: سبحة للسجلات، فكما حبات المسبحة تكمل بعضها بعضا كذلك تفعل قصائده ويربط الدارس بين تكامل هذه القصائد وتوترها التصاعدي وبين لحظة النهوض التي عبرت عنها الثورة الفلسطينية فالنقلة ملحوظة بالعين المجردة من عنوان المراثي إلى عنوان «وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم». من غير ان يغيب عن الشاعر عنوانه اللافت «برسونا نون غراتا» اي شخص غير مرغوب فيه، فهي يدرك فاجعة كونه مرفوضا كفلسطيني، لكنه معزز بـ «عنف النسور ورقة المتفائل» حسب تعبير نظيره ورفيق عمره محمود درويش، وليس هذا تفاؤلا ساذجا، بل وعي محارب معزز بايمانه العربي وفكره الاشتراكي المستند الى حتمية انتصار الشعوب، على ما يقدمه الواقع العربي من صدمات وبعض الخذلان احيانا.
ويرى الدارس في الشاعر، بما هو فلسطيني ملتزم، نبي للعصر، بحيث نفهم اشارات الشاعر الى واقعة خطاب النبي لخديجة: زمليني يا خديجة - فلقد ابصرت وجهي - في حراء الموت محمولا على رؤيا بهيجة.
اذ ليس هذا المقطع مجرد استشهاد بسيرة صانع هذه الامة، بقدر ما هو انتاج جديد لهذه السيرة كدليل عمل تبشيري في قضية مصيرية:
سقطت كل الاسانيد التي تزعم موتي
ويواصل الشاعر قراءة تجارب الرسل، من عصا موسى التي شقت البحر، الى فكرة الرسالة التي صنعت الاسلام، الى الصرخة الاشتراكية المعاصرة المرسلة الى عمال العالم: يا عمال العالم اتحدوا.. بل ان الدارس ليتابع رحلة الشاعر من مناجاة النبي، الى سلالة الحسين، بما يعمق مغزى اللغة الرسولية التي يتسلح بها لتوكيد فكرته العابرة للزمن..
فالشاعر يطور مواقفه وتقمصه الفكرة الرسولية وابعادها الاستشهادية والصوفية:
خيوطك ام شراييني؟
سألتك لا تجيبيني
وحين يصل به الوجد الى درجة التماهي بين شرايينه وبين خيوط المسبحة، فإنه يكرز باسم الحياة باعتبارها شكلا من اشكال العبادة، فأن تحيا فلسطينيا، يعني انك تسير في مرضاة الله:
هيأت في بيتي الحرام مناسكي
فمتى يعود من المتى حجاجي؟
بل انه ليستخدم التعابير الدينية الوصفية ويتمثل دلالاتها بلا مواربة حين يقول:
ملك الملوك يعود بعد غيابه
يا بنت فانتظري الحبيب ببابه
وفي يقيني انه سبق لنبيه القاسم ان ينتبه الى هذا البهاء الرسولي الذي يشغل لغة سميح القاسم مضافا اليه استخدام الرموز الباطنية كالإسماعيلية وغيرها وصولا الى لحظة الكشف والعرفان.
ملعقة السم
وعلى طريقته باستخدام المفارقة «يوصي» سميح القاسم بتناول ملعقة من السم، ثلاث مرات يوميا، في محاكاة لوصفة الطبيب المعالج، وغني عن القول ان هذه الوصفة المجازية المفارقة، تريد ان توحي بأن المضطر يركب الصعب، بمعنى انه يلجأ الى اشد الاساليب تعقيدا في البحث عن الخلاص.
فالمواجهة مع الآخر شكل من اشكال المواجهة مع خطر الموت، لا بالمعنى العبثي المجاني، بل على النقيض من ذلك بالإيمان بالحياة الكريمة حتى لو كان الاستشهاد طريقا اليها.
وحتى يوضح د. نبيه دلالة هذه الفكرة المعقدة، يلجأ الى السرد، فيروي نتفا من مذكرات سميح وذكرياته، ومتاعبه مع السلطات الصهيونية، كأنما مزاولة العيش في تلك الظروف الاستثنائية تشبه جرعات السم اليومية.. وقد شاركه في ذلك صديق عمره محمود درويش.
بدأ سم تلك التجربة بالوضع المادي الصعب، حيث عانى الشاعر من عوز مدقع، لكنه - وهو صاحب الرؤيا السياسية - رضي بالتحدي، وتصدى لقضايا بالغة الحساسية، سواء كان ذلك على المستوى الاجتماعي كتبني قضية حرية المرأة، ام المستوى الوطني المباشر كالتصدي لبيع الارض وسرقتها، ومواجهته المبدئية والميدانية للفكر الصهيوني بأدواته وحسب قدرته.
هذه المعادلة تفسر لنا، نحن الذين نعيش خارج سلطة الاحتلال المباشر، دهشتنا الايجابية مما رأيناها ثنائية المرأة والوطن في شعر الارض المحتلة، وسميح بطبيعة الحال من الرموز الكبيرة المضيئة لهذا الشعر، ولا نحسبن انه لا يدفع ثمن هذا الاختيار بل انه ليعترف لنفسه بالمعاناة والالم:
صغير هو وطني يا الهي الكبير
وحزين هو وطني يا الهي الطيب
وضعيف انا يا الهي القوي
اهدني الى الصراط المستقيم
ولا يخفى على القارئ مغزى النص الغائب من هذا البوح الاليم، فالوطن صغير بمعنى ضيق المساحة والفرصة، والشاعر ضعيف بمعنى حدود القدرة البشرية، والصراط المستقيم المشتق من اللغة الروحية، انما هو المعادل الموضوعي لشرف الالتزام بكل ما يترتب عليه من مسؤولياته تطول الاخلاق والمواقف المبدئية.. وبهذا المعنى فهو شاعر درامي من الطراز الاول.

تميز الكولاج
والكولاج كلمة وافدة الى خطابنا اليومي مستوحاة من الصحافة العملية، حيث القص واللصق وما الى ذلك من ترميم الورق لتقويم الصفحة، ولعل سميحا قد استخدم هذه الكلمة عنوانا لاحد نصوصه المتميزة، في اشارة تشمل معاني الكولاج كما تقدم الى جانب التعامل مع مفردات العصر، فضلا عن معايشة وضعه المعقد بالتدبير والحسابات والدراسات بما لا يتعارض مع اختياره الوجودي الوطني المستقيم.
وعندما نتذكر - وكيف ننسى؟ - ان هذا الشاعر قد الف بين مختلف اشكال التعبير لتقديم رسالته ندرك انه كان يعيش داخل الكولاج مجازا في مجمل عمله الكتابي الذي شكل الشعر والرواية والمسرحية والسيرة الذاتية والمقالة والخطاب السياسي، وفي كل هذا كان هو نفسه: ابدا على هذي الطريق!!
كثيرة حوادث الطرق
كثيرة في هذه الايام
ويل والف ويل
لكل من يصحو ومن ينام
فهو منذور للخطر في احواله كلها، ولكنه يذهب عميقا في هذا الاختيار، ولسان حاله ما قال الشاعر الاممي نيرودا: لا تتوقعوا مني عودة، فلست ممن ينكصون عن طريق النور. يدعمه في ذلك حسه القومي، اذ هو ابن امة شاسعة وليس مجرد لقيط حضاري كالمحتلين، فهو حسب تعبيره، يولد في دمشق، وفي بغداد، وفي بيروت، وفي ارض الكنانة مصر العظيمة، وفي مختلف العواصم العربية، لان اسمه القدس.. والقدس هي كلمة السر العربية..
وينتبه د. نبيه القاسم بعين الناقد الدارس الى ان سميحا باختياره الصعب المصيري هذا ليس مجرد خطيب يحدو الجموع، بل هو في صلب الحداثة التي تفيد من منجزات الابداع العربي، وقد اعتمد في ذلك خطا بيانيا متصاعدا، وفي روحه القى التحدي:
انا يائس منك يا يأس،
انت تريد الكثير ولا استطيع القليل،
فدعني وتأني
وشاعر يعرض عن هذا اليأس بهذا التعالي الوجودي، يعي انه لا يخوض مغامرة عبثية بل انه يدق على جدران الخزان - حسب تعبير الشهيد غسان كنفاني - بأدواته الفنية الخاصة، فهو يحذف ويضيف.. ولا يتناقض، الم يقل منذ بداياته: كلفني عذابي بالمهمة؟..
وبعد.. ليس هذا الا طوافا مختزلا على تجربة شاسعة، سعتها عمر الشاعر سميح القاسم، وقد نجح د. نبيه في تقصي هذه التجربة واستقصائها، فعاد بقطاف ثمين