تطرح الباحثة السورية في تلك المختارات الذكية التي تموضعها مقدمتها في سياقها الذاكرة التاريخية كمرآة لمراحلها المختلفة، وكيف رأت قاهرة الثلاثينات ما جرى في قاهرة القرن التاسع عشر، وكأنها تضع تلك المرآة القديمة / الجديدة في مواجهة الحاضر المأساوي اليوم، فيبدو أننا لازلنا نراوح مكاننا، وأنه لو ظهر فينا جمال الدين الأفغاني فسيضرب بالنعال من جديد، ولن يجد من يستنكر ذلك اليوم كما جرى في ثلاثينات القرن الماضي.

قاهرة القرن التاسع عشر عام 1930

أثير محمد على

في عقد الثلاثينات من القرن العشرين أفسحت عدة دوريات مصرية المجال فوق صفحاتها للذاكرة البعيدة كي تستعيد مجريات سُطرت تواريخها في القرن التاسع عشر والسنوات الأولى من القرن العشرين. لعل في فعل التدوين الصحفي والسعي لمعرفة "عجائب" الأخبار السالفة محاولة لإعاقة إرتحال حقيقة اليومي العابر إلى أصقاع النسيان من جهة، واجتهاد لفهم راهن الحاضر الجديد، وتأكيد على المرجع التاريخي لقيمه من جهة أخرى. يرى البعض في الميل لسرد وقائع من الماضي رجاء في مواجهة الفناء، إلا أنه في نهاية الأمر إعلان عن نهاية فعلية لحقبة أخذت تغور بعيداً أكثر فأكثر.

من بين هذه الدوريات، وفي عام 1930 نشرت مجلة "كل شيء والعالم" لصاحبيها اميل وشكري زيدان مقالتين تناولت فيهما ذكريات تخص الأولى منهما الزعيم سعد زغلول (1860 - 1927)، والثانية الشيخ جمال الدين الأفغاني (1838 - 1897). المقالة الأولى تحمل عنوان: ذكرى سعد، دار الفـوال تنجـب إمامـاً فـي الديـن وإمامـاً فـي الوطنيـة، أيـن كـان سـعد يتلقـى دروسـه على السـيـد جـمـال الديـن الأفغـانـي؟. بينما حملت المقالة الثانية عنوان: جـمـال الديـن الأفغانـي يصفـع بالنعـال فـي الأزهـر، الحجـرة التـي دوى فيهـا أول صـوت للتفكيـر الحـر فـي مصـر.

تتغلغل كل من هاتين المادتين الصحفيتين في تفاصيل عرضية صغيرة لا أهمية لها في مطلق التاريخ الكلي، وتركزان - ربما دون قصد - على فتات "اليومي والجزئي والمرتجل"، رغم ذلك يلتقي جوهر هذه النثريات مع خلاصة "التاريخي" الشامل. تأخذ كلمات المقالتين القارئ المفترض من يده وتبتعد به عن الشوارع العامة والرئيسية لعام 1930، وتقوده عبر متاهة أزقة الحارة القاهرية، وترتد به خلفاً في رحلة إلى عصر لازالت شواهده قائمة في الدروب الظليلة الخفية الضيقة. وكأن تلافيف الدروب وتعرجاتها وعطفات النواصي استعارات تشير إلى أن خط التاريخ ليس متصلاً ولا مستقيماً، وإنما أشبه ما يكون بمسار متغيرالاتجاهات، كل محطة فيه لها إيقاعها وأناسها وحركتها وصراعاتها.

الواقع الإسمي في المقالتين يتسم بصبغة زمانية لارتباطه بأحداث التاريخ وآثار شخوص الماضي، فعطفة البرقوقية، وشارع الخرنفش، وخان أبي طاقية، والمسجد الأزهر، ودار الفوال، وشارع القصاصين، والصاغة، وحارة السبع قاعات، وشارع الموسكي، وحديقة الأزبكية، وشارع الدراسة، والحسين ... ليست إلا تجل مادي وتمظهر عياني لحضور ووجود غير مرئي آن كتابة النصين.

تعتمد كل من المقالتين في استعادتها التاريخية أسلوباً حكائياً مدعماً بنظرة سينمائية تصويرية. وكأن عين آلة التصوير التقت مصادفة مع الشخصيات المستحضرة والمنبعثة من الزمان في المكان، فأخذت تتابعهم و"تبصبص" عليهم لتبوح بأكثر مما أرادت أن تقول. لذلك تفيض من المادة الصحفية إشارات جمالية تصويرية تصف مجريات تبدو عفوية تلقائية وحية للحدث الماضي، مما يمكّن القارئ من تخيل الصورة وتكهن الصوت الداخلي المرافق لها، كما لو كانت شريطاً سينمائياً توثيقياً يعرض أمامه.

يعتني كاتب المقالة بتقديم وصف دقيق لزي وغطاء رأس شخصياته التي يضعها تحت بقعة الضوء، مبرزاً اللباس كهوية اجتماعية ومرجع فكري يمايز فرداً عن آخر. إن إلحاح الكلمات على رسم الملامح النفسية والقسمات الشخصية فيه تأكيد على الإختلافات الفردية بين شخوص نصي المجلة: المثقف، الزعيم، المحامي، المصلح الديني. لعل في ذلك إشارة لأهمية الفرد ضمن الجماعة وتميزه حتى في نطاقها.

من تلك العقود المنطوية مع القرن التاسع عشر تحضر رمزية حلقة الشيخ جمال الدين الأفغاني التنويرية وتنقلاتها المختلفة من حيز لآخر في "المدينة المعزية"، كذلك دلالة الموكب اليومي لعدد من طلبة الأزهر وتجاوزهم لشارع القصاصين باتجاه "خان أبي طاقية" للقاء إمامهم الشيخ، والإصغاء لتعاليمه الاستشرافية المختلفة عما اعتادوا سماعه. وكأن الفرد الشاب منهم، سواء كان من سكان المدينة أم وافد من الأرياف البعيدة، يتوق لاحتمال مجتمعي يفارق ذلك الذي يلقن جبريته في المؤسسة الشرعية النقلية.

توحي المقالة بهيمنة جاذبية المثقف الشيخ الأفغاني بين الناس وفي حلقته، وتصفه مع "مريديه" بأنه محاط بنور المعرفة وهالة العلم والبحث. ألا يمكن القول بأن مثقف الحداثة بعلومه التنويرية أخذ يزاحم ليحل محل "النبي" وحراس لاهوت القديم بعلومهم اليقينية اللازمنية؟. تعرض كل من المقالتين طباقاً بين حالتين اجتماعيتين أو فكرين متعارضين ومتصارعين: المؤسسية اللاهوتية الرسمية تنقسم إلى أزهر الشيخ عليش المحافظ، وأزهر فتي آخر يتفتح في عقول شبان حلقة الأفغاني.

تكثف المساجلة بين الشيخين مبارزة بين فكرين، وينقلب الجدل العنيف وإلى عنف لا يجادل. كلمات الأفغاني لا تهادن في الحوار، وبلاغة مركوب الشيخ عليش الأصفر المقذوف في وجه الأول تحت قبة الأزهر هي إهانة وإقصاء وإلغاء للآخر. تهمة "الزندقة" و"الإلحاد" و"تسميم العقول"، تستند إلى قول تفتيشي بامتياز يعمد ما استطاع إلى إصدار حكم الإعدام على الممكن المغاير أوالمحتمل المختلف.

يلجأ الأفغاني مع تلامذته وبينهم زعيم المستقبل سعد زغلول إلى منزل تاجرٍ للفول المدمس، إلا أن "الغوغاء" المسخرة للتنكيل بهم ترميهم بحجارة "تعوذ بالله من شيطان رجيم". وأخيراً في هذه الرحلة التي تحاصرها قيود أصحاب "الإتباع" يلوح في الأفق "المقهى" كفضاء لا تطاله سطوة الأزهر. هو فضاء مفتوح لأهل الحي ولكل عابر سبيل، وفيه يجد المثقف المدان مكاناً يطمأن له بين جموع الفئات الشعبية وممارساتها اليومية. وفي هذا المقهى يخلق المثقف المصلح بعداً فكرياً ثقافياً جديداً، وتزال حواجز العزلة وتتداعى الجدران التي تفصل بين الأفغاني وتلامذته من جانب وبين الناس أجمعين من جانب آخر.

هكذا يحضر "العوام" كخلفية في لوحة تصويرية نهضوية تشغل بعدها الأول حلقة المثقف بمشروعه الحداثي، ومن هذه الحلقة يتخرج طالب المعرفة سعد زغلول، ويغدو "ابن الشعب" زعيم الأمة. من جانب آخر لا يفوتنا التنويه إلى أن النص الصحفي يقابل يومية و"سوقية" وشعبية "دار الفوال" ومقاهي "استانبول" و"عبد المنعم" و"أفندية"...بالتعارض مع مركزية "خاصة" الجامع الأزهر المؤسساتية الدينية.

قبل أن تترك المقالتين للقارئ ننوه إلى أن المعلومات التي ترد حول الشخصيات ربما لم تكن لتطابق الحقيقة التاريخية، ولكن ما يهم هنا هو الاقتراب من الصيغة والآلية التي صورت فيها هذه الشخصيات والتي توافق بلا شك منظار عام 1930 الحكائي إلى ماضيه. من جهة أخرى لا ننسى أن الفترة الزمنية التي كتب فيها كل من النصين تقع بين ثورة 1919 وانتفاضة طلبة الجامعة المصرية عام 1935، وفي نفس السنة التي ألغي فيها دستور 1923 ووضع دستور 1930 الذي أراد منه الملك توسيع صلاحياته على حساب القوى النيابية التشريعية. بمعنى أن الذكريات المستعادة تستبطن قولاً وطنياً يحاور القراء، خاصة الشباب منهم، ويقدم لهم شهادة تاريخية لجذور الحراك الوطني عامة وبذور تحرك الطلبة المصريين في دروب "الفسطاط".

في ما يلي نص المقالتين المنشورتين في مجلة "كل شيء والعالم":
ملاحظة: الهوامش المدرجة في نصي المقالتين هي لمعدة ومقدمة "قاهرة القرن التاسع عشر عام 1930".

ذكـرى سـعـد 2
دار الفـوال تنجـب إمامـاً فـي الديـن وإمامـاً فـي الوطنيـة

أيـن كـان سـعد يتلقـى دروسـه على السـيـد جـمـال الديـن الأفغـانـي؟

حيث "الخان" الذي اقترض نابوليون من صاحبه قدراً وافراً من المال احتاج إليه. وفي الحي الذي بويع فيه محمد علي الكبير بالولاية على مصر من أعيانها وعلمائها وتجارها في منزل المحروقي، فنزلت الدولة العثمانية عند مشيئة الشعب المصري ممثلاً في وجوهه وأصحاب الرأي فيه. وإلى جوار العطفة التي تنهض فيها حتى يومنا هذا دار "أبي المسرح المصري" محمد عثمان جلال بك ونعني بها عطفة البرقوقية التي تتفرع من شارع الخرنفش حيث لاتزال تسكن هذه الدار السيدة الشريفة حرمه وهي تناهز المائة عام في زعم أهل الحي ... وأخيراً في الشارع المعروف بـ "خان أبي طاقية" كان يفد جماعة من الطلبة الأزهريين، كلهم معمم إلا فتى كان يلبس طربوشاً، وكلهم كان يحتذي "مركوباً" لأن "الجزمة" لم تكن شائعة وقتذاك، وكلهم كان يرتدي "قفطاناً" تحت "جلابية" من الجوخ ما عدا اثنين: أحدهما ذلك الذي يتميز عنهم بلبس الطربوش برغم أنه أزهري مثلهم، فقد كان يرتدي جلابية فوقها "بالطو"، والآخر يرتدي "زعبوطاً" ، وكلهم مقصوص شعر الرأس أمرد لما تنبت لحيته ويطر شاربه.

كان هؤلاء الطلبة يجيئون من الأزهر عصر كل يوم من طريق شارع القصاصين الذي يوصل "الصاغة" بـ "خان أبي طاقية" . ولم يكن يربو عددهم عن السبعة عشر، ولا ينقص عن الخمسة عشر على وجه التقريب. يتأبط كل منهم محفظة تشبه تلك التي يتأبطها طلبة الأزهر اليوم، فيها "ملازم" من كتب معينة. وقبل أن يفدوا على دار هناك تقع على يمين القادم من "القصاصين" متجهاً ناحية "الخرنفش" كان يسبقهم إليها شيخ في زي علماء الأتراك يرتدي سروالاً وصدرية وجبة، ويلف شالاً أبيضاً على طربوشه كالذي نلبسه ، وقد تدلى شعره الغزير فوق كتفيه وعلى ظهره، كث الحاجبين، عريض الجبهة مسترسل اللحية، ويكاد يتطاير الشرر من نظراته ... يمشي بخطوات الواثق بأنه إن لم يحدث حدثاً، فإنه سيملأ الدنيا ضجيجاً ويغمرها صيتاً ونباهة ذكر. لا يحمل الأستاذ محفظة ولا يصطحب أحداً وهو قادم، ويتفرق الناس من ملاقاته، فيتصنعون عدم رؤيته ويتلهون بعمل يخلقونه، ومشغلة ينتحلون أهميتها، إجلالاً لهذا الرجل الذي يؤمنون بعظمته، ويعرفون أنه مسموع الكلمة عند "الحكام"، نافذ الرجاء، جليل الخطر عند رجال الدولة المصرية، بل لدى رجال الدولة العثمانية، ويعلمون أنه شخص إلى مصر، بعد أن لفت أنظار السلطان والرعية في الأستانة، فإذا خرج من الدار قبل أذان المغرب بنحو نصف ساعة سار خلفه وفي معيته أولئك الطلبة الأزهريون خشعاً تحيط بهم هالة من نور المعرفة ...

فأما الشيخ، فكان السيد جمال الدين الأفغاني. وأما الدار، فكانت دار "الفوّال" أحد التجار المعروفين بتدميس الفول وبيع أصناف البقالة. وأما الطلبة الأزهريون فتلاميذ الأفغاني الذين صاروا فيما بعد زعماء في القضاء والمحاماة والعلوم الشرعية، وزعماء في الإصلاح، ثم صاروا إلى مكانة الزعامة السياسية حتى الثورة العرابية وبعد الاحتلال، وفي الثورة الأخيرة . فأما الفتى الذي يلبس طربوشاً، فصار أشهر محام في وقته، وصار كاتباً وخطيباً، هو ابراهيم بك اللقاني رحمة الله عليه. وأما الفتى الذي كان يلبس زعبوطاً ويهمل شعره من الفقر ويسير خافض الرأس ولكن في هيبة ووقار، فقد صار مفتي الديار المصرية وأحد المغضوب عليهم ممن نفوا عن بلادهم وشردوا عن أوطانهم بسبب الثورة العرابية، نعم صار مفتي الديار ومحط الرحال، مقصوداً من الوزراء والكبراء وذوي الحاجات بعد أن صدر العفو عنه. هو منشئ أكبر جمعية خيرية، هو المرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.

كان الفتى محمد عبده طالباً في الأزهر ينفق عليه شيخ أعمى كان خاله يعمل في فدادينه الثلاثة بإحدى قرى الغربية. وما كان يزيد ما ينفقه عليه في الشهر عن أكثر من ثلاثين قرشاً و"منشة" عيش، لعله الخبز المعروف عند الفلاحين بـ "البتاو" وقليلاً من أقراص الجبن "القريش" يغمرها "المش" ... ولم يكن الشيخ محمد عبده بعد أن صار إلى ما صار إليه من جاه العلم وسطوة الفكر ومكانة الإصلاح والزعامة لينقطع سنة واحدة عن زيارة الشيخ الأعمى في بلدته، ولا انقطع مرة عن لثم يده ولا رد له طلباً أو شفاعة أو واسطة.

وبين هؤلاء الطلبة كانت تمتد قامة تتوجها هامة عظيمة، ينظر صاحبها إلى ما حواليه كما ينظر العملاق إلى الأقزام.. عريض المنكبين، متين الكيان، وقور على ندرة الوقار في الشبان، تدل مشيته وملامحه على العزم والحزم وقوة الإرادة .
ذلك الفتى هو الخطيب الأزهر المشار إليه بالبنان...
هو محرر الوقائع المصرية فيما بعد .

هو أحد الثوار العرابيين الذي أتهم، ثم برئ من تهمة أنه أحد أفراد جمعية "الانتقام" التي قيل أنها جعلت برنامجها وغايتها اغتيال خصوم "عرابي" بعد أن نفي الزعيم المنكود الحظ .
هو المحامي الذي بزَّ المحامين، وكانت تهرع لسماع دفاعه البليغ المؤثر، والمنطق القويم والرأي الصائب والحجة التي لا تدفع كالقدر.

هو القاضي الذي كرمه إخوانه المحامون حين وقع عليه الاختيار.
هو المستشار الذي أعلى قدر المستشارين أمام القضاة الانجليز وكبير مستشاري الحقانية.
هو واضع أساس الجامعة المصرية والمساعد على إنشاء الجمعية الخيرية الاسلامية.

جـمـال الديـن الأفغانـي يصفـع بالنعـال فـي الأزهـر

الحجـرة التـي دوى فيهـا أول صـوت للتفكيـر الحـر فـي مصـر

تعود من جديد فكرة البحث في تخليد ذكرى الأستاذ الإمام بعد أن رقدت تلك الضجة التي أثيرت من أجل هذا الغرض في مثل هذه الأيام من العام المنصرم.
وإذا كان من حق المصريين أن يخلدوا ذكرى إمامهم الكبير وأن يقيموا له أثراً ينطق بما له من فضل على العلم والدين وأهلهما فإنه من حق الشرق أن يخلد أيضاً ذكرى ذلك الرجل المصلح العظيم والعلامة الكبير السيد جمال الدين الأفغاني أستاذ الشيخ محمد عبده وغيره ممن صاروا زعماء الشرق في العلم والدين والاجتماع.
وإذا كانت تعاليم السيد الأفغاني قد ذاعت في كل مكان وشعّ نورها على كل جانب فإنه ككل مصلح نابه قد لقي في دعوته عنتاً وعسفاً كبيراً .

على أن أفظع ما أصاب الأفغاني في دعوته من إساءة كان أيام تخلفه إلى الأزهر ليلقي في بعض جوانبه دروسه وتعاليمه على من يشاء من طلبته، فكان يلتف حوله جمع غفير من التلاميذ والشيوخ ما بين مصغ لدروسه وناقم على آرائه وبحثه. ولعل تلك الضغينة التي كان يحملها له بعض الشيوخ إنما ترجع أسبابها إلى أن تعاليم السيد جمال الدين كانت حديثة لا تتفق وما امتلأت به رؤوسهم من التعاليم القديمة العتيقة.
وازداد مقت هذه الفئة له وحقدهم عليه وأخذوا يذيعون عنه أنه زنديق ملحد يريد أن يسمم أذهان طلبة الأزهر بما يلقيه عليهم من دروس .

وشاءت الصدف أن تسوق الأفغاني إلى مساجلة المرحوم الأستاذ الشيخ عليش أحد كبار العلماء في عهده، وجد الشيخ عبد الرحمن عليش أحد رجال هيئة كبار العلماء اليوم ، وشاءت الصدف كذلك أن تكون المساجلة على صورة عنيفة وأن يكون الأفغاني محتداً بقدر ما يحيط العالم الأزهري الكبير من حدة فكانت ثمة عاصفة هوجاء قام فيها الأستاذ عليش واستل مركوبه الأصفر من قدمه ودفعه إلى وحه الفيلسوف دفعاً وحذا حذوه كثيرون من الجالسين .

ولم تقف الإساءة والتنكيل بالأفغاني عند ذلك الحد بل أجلاه الأزهريون من معهدهم وحالوا بينه وبين حلقته الدراسية الكبيرة وتعمقوا في إهانته واساءته حتى باعدوا بين الفيلسوف والحي الأزهري بأسره.
على أن تلاميذ السيد جمال الدين ومريديه لم تحل هذه الفعال والافتراءات بينهم وبين أستاذهم، فاستأجروا لهم حجرة في إحدى الدور القائمة في حارة السبع قاعات بشارع المسكي. وأخذ الأستاذ الأفغاني يختلف إلى حجرته في الليل ويدرس لتلاميذه تلك التعاليم التي كانوا يقبلون عليها في كثير من الشغف والاخلاص حتى أصبحت لها في ذلك الحين شهرة ذائعة وصيت بعيد.

على أن الصدفة السيئة قد ساقت إليه فريقاً من المتحاملين عليه فأخذوا يحرضون بعض الغوغاء على رجم نوافذ الحجرة بالحجارة، وتشييعه بالسب والتعريض كلما دخل إلى المنزل أو خرج منه.
ولم يجد الأفغاني مناصاً من أن يقلل من اختلافه إلى الحجرة وأن يتلمس بث دعايته في موطن جديد وأخذ مع تلاميذه ينقب عن دار أخرى أو مكان يبعد عن الحي الأزهري وما يجاوره. على أنهم قد أبقوا على الحجرة ولم يتركوها حتى لا يتفهم أحد بأن شيخهم قد انتهى به الأمر إلى اليأس وقد أثرت فيه ضربات الخصوم.
وقد استطاعوا في النهاية أن يصلوا بشيخهم إلى نواح لا يد لخصومه عليها ولا شأن لهم فيها، تلك هي نواحي القهوات يجلسون إليها في مواعيد معينة.

وقد وضع الأفغاني لهم برنامجاً خاصاً ساروا على منهاجه واحتفظوا به جاهدين. فإذا شاءوا أن يحضروا درس الصباح نفروا إلى قهوة استانبول التي تواجه حديقة الأزبكية حيث يجدون السيد الأفغاني في انتظارهم، وحيث تنقلب القهوة بعدئذ إلى حلقة علمية تنبعث فيها أصوات الجدل فتغطي على أصوات النرد وضجات الجالسين، وما يزالون في ذلك الدرس ساعة أو ساعتين يتفرقون بعدهما إلى أن يلتئم جمعهم بعد انطواء الظهيرة في قهوة عبد المنعم التي يقوم مكانها الآن مكتب بريد الأزهر في شارع الدراسة، ثم يحتشدون بالليل في قهوة "أفندية" التي تقوم في جوار الحسين .

وهكذا صمد الفيلسوف الكبير لنكبات الزمن فاحتمل صفعات المركوب ومطاردة الغوغاء واستطاع أن يتخذ من المقاهي دوراً علمية خلق فيها ما خلق من حياة جديدة في البحث وانطلاق حديث في التفكير.


1- أسست الجامعة المصرية "الأهلية" سنة 1908، و صدر قانون الجامعة المصرية "الحكومية" عام 1925.
2- نشرت المقالة في: كل شيء والعالم، ع 250، السبت 23 أغسطس 1930.
3- قام عثمان جلال بـ "تمصير" المسرحيات التي ترجمها محاولاً منحها الهوية المحلية، وصدرت مسرحياته هذه مطبوعة عام 1889 تحت عنوان "الأربع روايات من نخب التياترات". لعل نعته في المقالة بـ "أبي المسرح المصري" يلتقي مع رأي لويس عوض في أن ما يدعى "بالتمصير" يعود للسبعينات أو الستينات من القرن التاسع عشر. بمعنى أن عثمان جلال فيما إذا ثبتت هذه الأطروحة هو الرائد الذي عبد الطريق ليعقوب صنوع أولاً ثم لعبد الله النديم ثانياً نحو الأدب الوطني المحلي والتعبير بالعامية في المسرح المصري.
4- الزعبوط هو رداء من الصوف الأسمر، مشقوق فيما بين العنق والخصر وله أكمام فضفاضة، وهو زي شعبي يلبسه القروي المصري في فصل الشتاء.
5- كما هو معروف قيل الكثير حول نشاط الشيخ الأفغاني "المثير للتساؤل"، وتبديله للقبه، وتغييره لزيه، ولون عمامة رأسه وطرزها في كل بلد كان يحل فيه.
6- أي ثورة 1919.
7- التحق محمد عبده (1849 - 1905) للدراسة في الأزهر عام 1877 وحصل على العالمية سنة 1879.
8- "عيش البتاو" هو نوع من الخبز المحضر من حبوب الذرة، يمتاز "البتاو" بطول فترة تخزينه ولونه الداكن ورخص تكلفته مقارنة مع غيره من أنواع الخبز. أما "الجبن القريش" فهو نوع من الأجبان الطرية البيضاء ذات الدسامة المعتدلة، بينما "المش" هو الجبن المحضر من تجفيف "الجبن القريش" المملح والمعبأ بعد ذلك في "البلاص"، مضافاً إليه سائل التخليل (لبن كامل أو لبن خض أو ماء)، والمواد المنكهة (مثل حبة البركة، أو الشطة)، وخميرة مكونة من "مش" مصنع في فترة سابقة دون نسيان الملح.
9- بالطبع المقصود هو سعد زغلول الذي التحق بالأزهر لدراسة العلوم الدينية عام 1871.
10- عمل سعد زغلول في جريدة "الوقائع المصرية" التي كان محمد عبده يشرف على رئاسة تحريرها في عام 1880 أي قبل الثورة العرابية.
11- اتهم سعد زغلول مع حسين صقر بتأليف "جماعة الانتقام"، وحوكم من قبل المحكة الانكليزية التي برأته من هذه التهمة، إلا أن الشائعات ما برحت تهمس بأن لسعد زغلول يد قوية في هذه الجماعة المذكورة.
12- نشرت المقالة في: كل شيء والعالم، ع 251، السبت 30 أغسطس 1930.
13- يقصد بالأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده.
14- أقام الشيخ جمال الدين الأفغاني في مصر خلال الفترة الممتدة بين عامي 1871 و1879.
15- أشار الدمشقي سليم عنحوري صاحب صحيفة "مرآة الشرق" وأحد تلامذة الشيخ الأفغاني بأن هذا الأخير كان يؤمن بـ "قدم العالم" و"وحدة الوجود"، وفي أحد الدروس استرسل في رأيه حول الصناعات التي يمكن أن تكتسب وشمل فيها "النبوة"، مما مهد الطريق لتكفيره.
16- الحفيد هو الشيخ عبد الرحمن عليش رئيس الطريقة الشاذلية. أما الجد فعلى الأرجح هو محمد بن أحمد بن محمد عليش(1802 - 1882) المعروف بـ الشيخ عليش الكبير، وقد تقلد مشيخة "السادة المالكية" والإفتاء، وتوفي في السجن بعد اتهامه بمناصرة الثورة العرابية.
17- في إحدى الحوارات مال الشيخ محمد عبده للأخذ برأي المعتزلة، فقامت قيامة الأزهر وهوجم من قبل الشيخ عليش وأتباعه. كما أنه نعت عام 1903 من بـ "الزنديق" لإصداره فتوى يحل فيها عمارة "البرنيطة" أو "قلنسوة النصارى".
18- ينسى كاتب المقالة في معرض حديثه ذكر قهوة "ماتاتيا" في حي الموسكي والتي اشتهرت باحتضان اجتماع الأفغاني مع شبان الإصلاح والنهضة العربية.