يتناول الباحث الجزائري هنا موقف النحاة العرب، ومدارسهم المختلفة، من الاستشهاد بالحديث في الأمور النحوية، وبعد أن يستعرض موقف مدارس البصرة والكوفة ومصر والحجاز منه، يتريث عند نحاة منطقة المغرب العربي، ويعلل الأسباب المختلفة لميل هؤلاء النحاة للاستدلال بالحديث النبوي أكثر من غيرهم.

النحاة العرب وموقفهم من الاستشهاد بالحديث

مصطفاوي عمار

تقديم:
اتفق معظم العلماء المهتمين بالدرس اللغوي العربي على أن الأصول التي يمكن الارتكاز عليها والأستشهاد بها في علوم اللغة هي كلام العرب شعرا ونثرا المنقول عنهم نقلا صحيحا وكثيرا، قد حدّدو فترات اعتماد هذا الكلام (نهاية القرن الثاني بالنسبة للحضر والقرن الرابع بالنسبة للبدو) ثم القرآن الكريم عل اختلاف الترتيب بينه وبين كلام العرب، وقد اختلفوا في الأخذ بالقراءات والحديث الشريف في هذا الخصوص. نحاول في هذا البحث ان نسلط الضوء على موقفهم من الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف.

لم ير كثير من نحاة العرب القدامى؛ أي حرج في الاستشهاد بالحديث النبوي وكانوا يعتبرونه داخلا في كلام العرب؛ وليس قسما من الأصول مستقلا بذاته، ولذلك لم يتعرضوا له في كلامهم عما يصح الاستشهاد به. فسيبويه يورد حديث: «ونخلع ونترك من يفجرك" في معرض كلامه في باب التنازع عن إعمال أحد العاملين المتنازعين دون الآخر: "و مما يقوّي ترك نحو هذا لعلم المخاطب، قوله عز وجل: "والذاكرين الله كثيرا والذاكرات والحافظين فروجهم والحافظات"1، فلم يعمل الآخر فيما أعمل فيه الأول استغناءً عنه، ومثل ذلك "ونخلع ونترك من يفجرك»2.

 وكان أبو عمرو يقول: «إنّ كان لهو العاقل، وأما قولهم: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصرانه"3، ففيه ثلاثة أوجه؛ الرفع من وجهين، والنصب من وجهة واحدة»4. وسيبويه يعتبر إمام نحاة البصرة الذين يتحفظون في قضية الاستشهاد بالحديث ويقدمون شعر العرب ونثرهم عليه في كثير من الحالات، غير أنّ اعتباره الحديث داخل في كلام العرب يزيل اللّبس في الموضوع.

أما الكسائي، وهو زعيم المذهب الكوفي فإنّه يحتج بالحديث الشريف في اللغة والنحو، من ذلك مثلا ما ذكره الأشموني؛ إذ قال: «وشرط جزم بعد نهي أن تضع "إن" الشرطية قبل لا النافية دون تخالف في المعنى يقع، ومن ثم جاز "لا تدن من الأسد تسلم"، وامتنع "لا تدن من الأسد يأكلك" بالجزم، خلافا للكسائي.

وأما قول الصحابي: «"يا رسول الله لا تشرف يصبك سهم"، وقوله عليه الصلاة والسلام "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربنّ مسجدنا يؤذنا بريح الثوم"5، فجزم على الإبدال من فعل النهي لا على الجواب»6.

وكذلك فعل الفراء حيث قال: «جاء في الحديث (أنّه نهى صلى الله عليه وسلم عن قيل وقال وقيل، وقال فعلان ماضيان فأدخل الخافض عليهما وتركهما على ما كانا عليه»7، ذكر هذا أثناء حديثه عن بناء الآن ويستدل ابن جنّي بالحديث الشريف كثيرا من ذلك أورده؛ "ألا ترى قول الرسول عليه الصلاة والسلام، وقد قيل: يا نبيء الله قال: "لست نبيء ولكني نبي الله"، وذلك أنّه عليه الصلاة والسلام أنكر الهمزة في اسمه فرده على قائله؛ لأنّه لم يدر بما سماه فاشفق أن يمسك على ذلك»8. قال ذلك في معرض حديثه عن تلقي العرب للغة غيرهم "و اعلم أن العرب تختلف احوالهم في تلقي الواحد منهم لغة غيرهم،فمنهم من يخف ويسرع إلى قبوله ما سمعه،و منهم من يستعصم فيقيم على لغته البتة، "9 وذكر الحديث

واستشهد أيضا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد "أي لا صلاة كاملة استشهد في المعادلة بالحديث.

استشهد جمهور كبير من علماء المغرب بالحديث الشريف شأنهم في ذلك شأن نحاة المشرق من كوفيين وبغداديين ومصريين ثم من أهل البصرة غير أن أهل المغرب أكثروا منه. وهذا ما يعتبر ميزة في مذهبهم اللغوي؛ أي الإكثار من الأخذ بالحديث، وهذا لا يعني إطلاقا وجود من رفض رفضا قاطعا الاستدلال به، كابن الضائع وأبي حيان وحجّتهم في ذلك ما سبقت الإشارة إليه، وهو جواز نقل الحديث بالمعنى، وإنّه وقع اللحن كثيرا فيما روي من الحديث؛ ولأنّ كثيرا من الرواة كانوا غير عرب بالطبع، ولم يتعلّموا لسان العرب بصناعة النحو، فوقع اللحن في نقلهم وهم لا يعلمون ذلك، ووقع في كلامهم وروايتهم غير الفصيح من لسان العرب10.

وقد ردّ على الرافضين الاستدلال بالحديث منذ القدم، من ذلك ابن خلدون كما نقل عنه الرماني صاحب حاشية المغني يقول: «أسقط أبو حيان الاستدلال على الأحكام النحوية بالأحاديث النبوية لاحتمال رواية من لا يوثق لعربيته إياها بالمعنى، وكثيرا ما تعرّض لابن مالك في استدلاله به؛ ورده شيخنا ابن خلدون بأنّ على تسليم أنّها لا تفيد القطع بالاحكام النحوية، تفيد غلبة الظن بها، لأنّ الأصل عدم التبديل، ولاسيّما والتشديد في ضبط ألفاظها والتحري في نقلها لأعيانها مما شاع بين الرواة. والقائلون منهم بجواز الرواية بالمعى معترفون بأنّها خلاف الأولى، وغلبة الظن كافية في مثل تلك الأحكام؛ بل في الأحكام الشرعية، فلا يؤثّر فيها الاحتمال المخالف للظاهر»11.

وتدوين الأحاديث وقع في الصدر الأول قبل فساد اللغة حين كان كلام أولئك على تقدير تبديلهم يسوغ الاحتجاج به، وغايته يومئذ تبديل لفظ يحتج به بآخر كذلك ثم دون دون البدل، ومنع من تغييره ونقله بالمعنى، حجة في بابه صحيحة ولا يضر توهم ذلك الاحتمال السابق في شيء من استدلالهم المتأخر12.

وفي هذا الصدد؛ أي الردّ على المعترضين، يمكن أن نقول بأنّ كلّهم يعترق بأنّ كلام النبي "صلى الله عليه وسلم" هو أفصح العرب، ويبقى فقط إثبات النص أو الحديث لفظا ومعنى؛ لأنّ جميع حججهم تدور حول جواز الرواية بالمعنى ووقوع اللحن فيه، لكون بعض رواته من غير العرب أصلا. والمطلع على علوم الحديث المختلفة يتبيّن بوضوح ما هي الضوابط التي فرضت على رواته والشروط التي يجب أن يتقيّدوا بها؛ وهي: الورع، والثقة، والعدل، والعلم، (الجرح والتعديل)، ثم إنّه لا تجوز الرواية بالمعنى إلا لمن أحاط بجميع دقائق اللغة وكانت جميع المحسنات الفائقة على ذكر منه، فيراعيها في نظم كلامه وإلا فلا يجوز له روايته بالمعنى13.

وإنّ هذا الجواز عند كثير من الدراسين مقتصر على الصحابة الذين «اجتمع فيهم أمران؛ أحدهما الفصاحة والبلاغة؛ إذ جبلّتهم عربية، ولغتهم سليقة، والثاني أنّهم شهدوا قول النبي "صلى الله عليه وسلم"، وفعله فأفادتهم المشاهدة على المعنى جملة واستيفاءً ومقصد كلمة»14. وقد «قيّدوا الرواية بالمعنى بأحاديث النبي "صلى الله عليه وسلم" المرفوعة إليه، وأجازوها فيما سوى ذلك»15.

وقد حرصوا على اللفظ كثيرا خصوصا فيما تعلّق بالعبادات والأدعية، بحيث إذا شك الراوي في لفظ الحديث أثبت ما شك فيه ... مثلما جاء في قوله "صلى الله عليه وسلم": "سبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض"»16. فإنّ الراوي شكّ في لفظ تملأ فأثبت تملأ وتملآن حرصا على الدقة والأمانة ثم إن كل الرواة والدراسين يقولون بأنّ الرواية باللفظ أولى وأفضل منها بالمعنى التي هي رخصة يعمدون إليها في حال الضرورة.

أما القول بأنّ النحت قد وقع في الحديث لكون بعض الرواة والمشتغلين بالحديث ليسوا عربا، فإنّه من المعروف أنّ من تعلم العربية فأتقنها فهي ملك له، والنسب لا أثر له على اللسان إذا حذق وأتقن غير العربي اللغة العربية. ودعوى وصف الرواة باللحن وتعميم هذه الدعوة أمر غير مقبول منهجيا ومنطقيا، ذلك أنّ طائفة كبيرة من الرواة غير العرب وصفوا بالفصاحة والبلاغة وإتقان اللغة؛ بل إنّهم فاقوا غيرهم، مثل شعبة بن الحجاج الذي قيل إنّه سمع من أربعمائة تابعي وسمع من الأصمعي الذي قال فيه: «لم أر أعلم بالشعر من شعبة»17، وهذه شهادة تعزّز تميز هذا المولى غير العربي. وكحماد بن سلمة أستاذ سيبويه الذي وصفه يوسف بن حبيب بقوله «هو أحسن مني، ومنه تعلّمت العربية»18. ويوسف هذا من الذين يوصفون بالتقدّم والتميز في علوم العربية. فالصواب أن يعمم النحاة دعوى اللحن في الحديث على الجمي ... وإذا وقع اللحن والغلط في بعض الأحاديث فلا يلزم أن يكون ذلك مدعاة لترك الاحتجاج بالحديث بالجملة.

ومن الإنصاف ترك الاستدلال بما وقع فيها اللحن والغلط فقط، وجملة علّة قلّة ضبط أحد الرواة في هذه الألفاظ خاصة19. وبعد هذا نورد ما قاله أبو الطيّب الثعالبي في شأن الاستشهاد بالحديث النبوي: «ذهب إلى الإحتجاج بالحديث الشريف جميع أئمة اللغة منهم ابن مالك وابن هشام والجوهري وصاحب البديع والحريري وابن سيدة وابن فارس وابن خروف وابن جني وابن بري والسهيلي، وغيرهم ممن يطول ذكرهم، وهو الذي ينبغي عليه التعديل والمصير إليه، على أنّنا لا نعلم أحدا من علماء العربية خالف في هذه المسألة إلا ما أبداه الشيخ أبو حيان في شرح التسهيل وأبو الحسن ابن الضائع في شرح الجمل وتابعهما في ذلك السيوطي»20.

ومما يعزز القول بأن الاستشهاد بالحديث الشريف معروف ومعمول به قديما وحديثا من طرف النحاة المتقدّمين والمتأخّرين، وأن المانعين كابن حيان أو ابن الضائع أو السيوطي قد استشهدوا بالحديث النبوي أيضا، مما يعتبر ردّا في منعهم الاستدلال به في تأصيلهم وتقعيدهم للقواعد النحوية، بمعنى أنّهم أقرّوا هذا الأصل في أعمالهم، رغم أنّهم جاهروا في النيل ممن اقتنع وأكثر من الاستشهاد بالحديث، كما فعل أبو حيان مع ابن مالك مثلا في نص سابق»21.

قلنا إنّ المشارقة القدامى قد أخذوا بالحديث واعتبروه داخلا في كلام العرب ولم يعترضوا على الاحتجاج به، ولم يثر الموضوع إلا في مرحلة متأخّرة لما أصبح الحديث موضوعا خاصا يتناوله الرواة والمؤصلون له بدءا من القرن الثاني الهجري؛ بل في السنين الأخيرة من القرن الهجري الأول يشكل أدق لما أشار عمر بن عبد العزيز إلى جمعه، ومع مرور الزمن وتطوّر الدراسة ظهرت استقلالية الاشتغال به وسيج بسياج محكم من الضوابط التي يجب أن يلتزم به متناولوه ورواته؛ مثل منهاج الدقة والنقد والتجريح والتعديل والتمييز بين الضعيف والمنكر والموضوع والمتواتر. قلنا بأنّ الاستشهاد بالحديث النبوي قد عرف مشرقا ومغربا قديما وزمن الفترة المعدة للدراسة وقلنا أيضا بأن الاستدلال به والإكثار من ذلك مما يميّز المذهب المغاربي في الدرس النحوي، ويمكن أن نلخص مرد ذلك إلى العوامل التالية.

1. انتشار المذهب المالكي في المنطقة (المغرب والأندلس) من زمن مبكر، وأنّ هذا المذهب يعتمد الحديث وعمل أهل المدينة الذين توارثوه من عهد النبوة، كل ذلك بعد القرآن الكريم، «كانت مدرسة الحجاز في مكّة والمدينة من أكثر المصادر وبخاصة فيما يتعلّق بالحديث... لأنّ مكة منشأ النبي "صلى الله عليه وسلم"، والمدينة مهجره وكلاهما منسب الصحاب من مهاجرين وأنصار عاشروا النبي "صلى الله عليه وسلم"، وحدّثوا عنه وحكوا ما رأوه من أقوال وأفعال وتناقل التابعون عنهم ما سمعوا»22.  ولم تستطع ثورة الموحدين الظاهرية أن تصمد طويلا رغم محاولات الإرغام والإلزام التي انتهجوها لترسيخه في المنطقة، وفي النهاية ساد المذهب المالكي الذي ينعت بمذهب أهل الحديث23.

2. انتشار الحديث الشريف في المغرب، وكان الاهتمام به بعد القرآن منذ وقت مبكر، بحيث كانت الرحلات إلى زيارة المدينة المنورة وهناك كان أخذ الحديث وتدارسه والعودة به على أساس أنّه ثاني أبرز مصادر التشريع المعتمدة.

3. بعد المغاربة عن مصادر اللغة الأصلية في المشرق: معلوم أن الدرس اللغوي لم تظهر معالمه في المغرب إلا في وقت متأخر، وذلك نتيجة تأخّر الفتح وطول مدة إعمار المنطقة المغاربية، وتثبيت قواعد الدولة العربية وتوحدها الفعلي. ومن ثم تأخّر الدراسات العليمة عموما فكان الاهتمام بالتمكين للتوحيد العقدي ممثلا في تمكين لدين الله في هذه الربوع، ومعه التمكين للتواجد العربي بكل مكوناته اللغوية والحضارية الأخرى.

4. ومعلوم أنّ جمهرة من العلماء قد حدّدوا فترة معينة للاستشهاد بكلام العرب "شعرا ونثرا"، وكان ذلك نهاية القرن الثاني للهجرة بالنسبة للحضر، ونهاية القرن الرابع بالنسبة للبدو24.

5. وأنّ نحاة المغرب في الفترة المعدة للدرس من القرن السادس إلى التاسع الهجريين لم يكن لهم مجال للرواية المباشرة عن العرب المعاصرين لهم. ونتيجة لذلك انقطع عنهم منبع معين متمثلا في كلام العرب، مما جعلهم يعكفون على العلوم الشرعية عموما والاهتمام بالحديث في مجال الدرس اللغوي.

 

جامعة وهران الجزائر

 

هوامش:
1.سورة الاحزاب آية 35.

2.سيبويه الكتاب ج 1 ص50.

3.أخرجه مالك في الموطأ باب الجنائز حديث 53.

4.سيبويه، الكتاب، ج 1 ص395 ط بولاق.

5.أخرجه البخاري في كتاب الأطعمة من صحيحه.

6.الاشموني حاشية الصبان :ح3 ص :311.

7.ابن يعيش، شرح المفصل، ج 4 ص 103.

8.ابن جني : الخصائص ج 1 ص 383.

9.نفسه.

10.ابو حيان :التدلبيل والتكميل ج 5 ص 168.

11.الرماني :حاشية المغني ورقة رقم 22-23.

12.حاشية المغني : سابق.

13.ابن علان شرح الاقتراح ص 94.

14.ابن العربي :احكام القرآن :القسم الاول ص 22.

15.ابن كثير :الباعث الحثيث ص 142.

16.صبحي الصالح :علوم الحديث ص 330.

17.ابن الانباري انزهة الاباء سابق ص 53.

18.نفسه ص 57.

19.مجلة المجمع اللغوي ج 3 ص :207.

20.ابو الطيب الفاسي :شرح كفاية التحفظ ورقة رقم 15

21.يراجع النص ص 2

22.أحمد أمين، ضحى الإسلام ج 2 ص 75.

23.المراكشي، المعجب، ص 203.

24.عباس حسن :اللغة والنحو ص 24.