يقدم الباحث المصري في هذا الفصل الثاني من كتاب عن ضمير المخاطب في السرد العربي دراسة لاستخدامات طه حسين المختلفة لهذه التقنية السردية ودلالاتها المتعددة عنده.

طه حسين: الراوي المحدث

خيري دومة

كنت أحدِّث الناس بقلمي كما أحدِّثهم بلساني، فإذا جلست  إلى منضدتي خُيِّل إليَّ أن بين يديَّ رجلا من عامة الناس مُقبلا عليّ بوجهه ..

مصطفى لطفي المنفلوطي
مقدمة كتاب "النظرات"

"إني لا أضع قصة، وإنما أسوق
حديثًا"
طه حسين
المعذبون في الأرض


الراوي المحدِّث نوعية من رواة القصص تسعى إلى اختراق العالم القصصي المتخيل؛ فتنتهك وهْمَ القص لتدخل في حوار أو حديث مع القارئ ، بدرجات متفاوتة، تبدأ من مجرد توجيه الخطاب إلى مخاطَب غير محدد، ملقيةً عليه تساؤلات وتأملات، وتصل في حالات تطرفها إلى التطابق الكامل بين المؤلف التاريخي الحقيقي والراوي القصصي المتخيل. إنها نوعية من الرواة تستدعي حتمًا صورة القارئ/المروي عليه، وتجعله جزءًا لا يتجزأ من مبنى العالم القصصي ومعناه، فتصبح كل المسافات المفترضة بين الأشياء مراوغة ومنتهكة: المسافة بين العالم القصصي والعالم الحقيقي من ناحية، والمسافة بين المؤلف التاريخي والمؤلف الضمني والراوي من ناحية أخرى، وبين القارئ التاريخي والقارئ الضمني والمروي عليه من ناحية ثالثة(1)، وبين القصة والمقالة والبحث من ناحية رابعة. ورغم أن العنوان يشير إلى دراسة "الراوي"، فإن "للمروي عليه" هنا أهمية قد تفوق أهمية الراوي، ولكننا ألفنا كما يقول جيرالد برنس Prince "أن نجعل مسئولية الراوي أكبر من مسئولية المروي عليه، فيما يتصل بشكل الحكاية وطابعها وملامحها الأخرى"، وإن كان فصل دراسة الراوي عن المروي عليه يبدو أمرًا متعسفًا وعسيرًا؛ "فالشخص الذي يروي الحكاية في آخر الأمر، والشخص الذي تروى من أجله، يعتمد كل منهما على الآخر بطريقة أو بأخرى، في كل سرد"(2).

والحق أن هذه النوعية من الرواة لها حضور دال ومكثف في أدبنا العربي الحديث بمختلف مراحله، بحيث تشكل ظاهرة تستحق أن تُدرَس ويُكشَف عن دلالاتها، وعلاقتها بالطابع الشفهي إلى حد ما للثقافة العربية، ودورها في فنون القص العربي الحديثة التي لم تحدث قطيعة مع ذلك الطابع الشفهي ولم تتخلَّ عنه. ودرْس هذه الظاهرة قد يسمح بإدخال مساحة كبيرة من أدبنا العربي الحديث، تسقط من حساب المؤرخين والنقاد عادةً، إما بصفتها أدبًا من الدرجة الثانية، أو بصفتها داخلةً في نوع أدبي أدنى، أعني المقالة، وهي نوع يُدرَس عادةً - إن دُرِسَ من جانبه الفكري والمضموني، ونادرًا ما ينظر أحد إلى ملامحه الأدبية أو الفنية أو السردية. ولقد لعبت هذه النوعية من الرواة أدوارًا متعددةً وبارزةً في كل مراحل تطور القص العربي الحديث، بدءًا مما أسماه عبد المحسن بدر بالرواية التعليمية ورواية التسلية، إلى أعمال جيل الرومانسيين، الذين وجدوا في قص "الحديث" و"المقالة" نموذجًا يحقق ما طمحوا إليه، كما فعل المنفلوطي والمازني وطه حسين وهيكل والعقاد والرافعي وغيرهم، إلى يوسف إدريس الذي أصبح في قَصِّهِ كما سنرى، محدِّثًا من طراز واقعي فريد، لدرجة أنه اقتصر في سنواته الأخيرة على كتابة المقال، وصولاً إلى كتاب الستينيات ومن تلاهم حتى الآن، وهم الذين حوَّلوا ضمير المخاطب - كما سنرى في النهاية - إلى لعبة مراوغة تعكس انقسام الذات وتفتتها في عالمنا المعاصر.

(2)

غير أن لطه حسين ـ في هذا السياق ـ وضعًا شديد التفرد، يجعله نموذجًا لامعًا لما أسميه "الراوي المحدِّث" في الأدب العربي الحديث. ويمكن أن نتأمل مظاهر ثلاثة في كتابات طه حسين تؤكد هذه الوضعية الخاصة بين "محدِّثينا" الكبار: مركزية الصوت، واللغة ذات الطابع الشفهي، وهاجس الحديث والمحدث الذي لا يفتأ يلحّ عليه. الصوت في عالم طه حسين وسيلته الأولى لاستيعاب العالم من ناحية، وللتأثير فيه من ناحية أخرى، ولم تكن مصادفة أن يكون لصوت طه حسين، حين يحاضر أو حين يتحدث، أثره الساحر في نفوس معاصريه. ولا تنفصل مركزية الصوت هذه عن لغة طه حسين ذات الطابع الشفهي، بإيقاعها المعهود، وتكراريتها الملحة، وصيغها التي يسهل حفظها، وذلك المخاطَب الذي يمثل أمامنا في كل جملة(3)، وهي لغة تمتح بوضوح من منبعين مختلفين: من لغة التراث العربي التي ثقفها طه حسين في الأزهر، ومن الجاحظ على وجه الخصوص: ذلك المحدث القديم الذي يتعلم منه طه حسين ويحاكيه؛ ومن منهجية الفكر الغربي، ومنطقية لغته التي اتصل بها طه حسين اتصالاً عميقًا. ومن هذا المزيج اكتسبت لغته ظاهرها الإيقاعي الرنان، وباطنها الماكر المليء بالصراعات والتفاوضات.

لقد كان من الطبيعي أن نجد في كتابات طه حسين ، النقدية والإبداعية على السواء، غلبة واضحة لصيغة الحديث، بحيث تحولت لفظة "الحديث" ومشتقاتها إلى هاجس ضاغط يتكرر مئات المرات في الكتاب الواحد، ويحتل مكانه في عناوين كتبه ومقدماتها وإهداءاتها، وبحيث تحولت معظم كتبه إلى "أحاديث" أو "قصص". هذا ما يلاحظه المازني مثلاً منذ وقت مبكر، حين يرى في طه حسين قصاصًا من الطراز الرفيع، حتى في كتبه النقدية، "وهل "ذكرى أبي العلاء"، و"ابن خلدون"، إلا قصص تمثيلية؟ و"الأدب الجاهلي" بحث حر، ولكنه على هذا رواية ممتعة"(4). ومنذ وقت مبكر كذلك، وغير بعيد عن ملاحظة المازني هذه، لاحظ حسين نصار أن "طه حسين قد دخل القصة متأثرًا بمنهج التاريخ الأدبي، فاقترب مفهوم الفنين عنده، واقتربت الكتب التي أخرجها في التاريخ الأدبي أن تكون قصصًا، واقتربت القصص التي صورها أن تكون تاريخًا أدبيًا"(5) وقد حظيت مسألة "الحديث" إلى القارئ هذه، باهتمام نقاد طه حسين ودارسيه؛ ففي ختام كتابه الضخم عن نقد طه حسين، يعقد جابر عصفور فصلاً بعنوان "طبيعة الحديث النقدي"، موضحًا أن راوي القصة ـ عند طه حسين القاص ـ يفر من القصة، وينفي صفة القص ليؤكد صفة الحديث؛ وأن ناقد الأدب ـ عند طه حسين الناقد ـ يفر من النقد، وينفي صفة الدرس ليؤكد صفة الحديث. ويرى جابر عصفور في صفة "الحديث" هذه ، صفة تجمع بين الناقد والأديب وتوحد بينهما عند طه حسين(6).وكان شكري عياد قد لاحظ من قبل في سياق دراسته عن القصة القصيرة في مصر، أن طه حسين رفض مصطلح القصة الذي لوثته رومانسية الثلاثينيات، وأصر بدلاً من ذلك على مصطلح"حديث"، أو "مقالة"(7). أما سيد النساج فقد نظر إلى "أحاديث"طه حسين بصفتها شكلاً أدبيًا جديدًا من ابتكاره، لا هو بالقصة ولا هو بالرواية ولا بالمقالة، وحاول- من خلال كتاب "المعذبون في الأرض" أن يستخلص سمات لهذا الشكل الأدبي الذي ابتكره طه حسين، فوجد أن أهم هذه السمات : الذاتية المفرطة، والحديث إلى القارئ، والنهاية الرومانسية الفاجعة(8).
تدور كلمة "الحديث" ومشتقاتها في أعمال طه حسين دورانًا لافتًا، تصل معه إلى حد الهاجس الملحاح، فكل شيء في عالم طه حسين يعبر عن نفسه بفعل الحديث قبل أي فعل آخر. إنها شهوة الحديث التي تجعل الكلمة تتكرر في كل صفحة، وتصنع أحاديث للفتى، والشيخ، والمرأة، والشاعر، والفقراء المعذبين في الأرض، والكائنات والموجودات، والنهر والحيوان..إلخ. وفوق ذلك كله حديث الراوي/ المؤلف/ طه حسين. كانت المسافة بين طه حسين الدارس من ناحية، وطه حسين الراوي القصاص من ناحية أخرى، غير قائمة من البداية كما لاحظنا؛ فقد بدأ دارسًا يستخدم القص في كتبه وبحوثه عن الشعر الجاهلي وابن خلدون وأبي العلاء، ثم أصبح قصاصًا يستخدم الدرس والبحث في قصصه ورواياته، وهو في الحالين يتكئ على راو محدِّث يحاور القراء ولا يمل الحديث إليهم ومعهم. وهكذا ظهرت كلمة "الحديث" وصفًا لكتبه ودروسه النقدية أولاً، وعنوانًا لبعض أهم هذه الكتب، مثل "حديث الأربعاء" و "من حديث الشعر والنثر"، ثم ما لبثت أن ظهرت وصفًا لكتبه القصصية بعد قليل. لقد اختلف الدارسون مثلاً في وصف كتاب "الأيام" وتصنيفه، هل هو رواية أم سيرة ذاتية أم بحث اجتماعي؟ أم هو كل هذا مجتمعًا؟ انتبهوا جميعًا إلى مشكلة النوع الأدبي الذي ينتمي إليه الكتاب(9)، لكن أحدًا لم يلتفت إلى أن طه حسين نفسه كان قد أطلق وصف "الحديث" على الكتاب، جاء ذلك في الصفحة الأخيرة من الجزء الثاني، حيث يتوجه الراوي بالخطاب إلى ولده فيقول: " فدعني أهدي إليك هذا الحديث، لعلك ترتاح إليه بين حين وحين إذا أجهدك درسك"(10)

كانت الكلمة تتشكل مصطلحًا في وعي طه حسين منذ وقت مبكر، وتتردد أصداؤها في صفحات كتبه خلال الثلاثينيات، وعلى وجه الخصوص في كتاب "أديب" الذي يعلو فيه فعل الحديث على كل فعل، حيث يستخدم الراوي حديث صديقه، الشفهي المباشر حينًا، ورسائله المكتوبة حينًا آخر(وهي رسائل لا تختلف كثيرًا عن الأحاديث الشفهية). وهكذا يتحول الكتاب كله إلى مجموعة من الأحاديث المتصلة الأقرب إلى المونولوج الاعترافي الطويل، الذي تقطعه بعض الأحداث. ويهيمن ضمير المخاطب على الكتاب كله، وإن أشار ضمير المخاطب هنا إلى الراوي /طه حسين، لا إلى القارئ؛ إذ يعطي الراوي الحديثَ لصديقه الأديب، ويقوم هو بدور المستمع/أو المروي عليه، فيتبادلان الأدوار: "..وأنا أسمعه وأتبعه وهو يسرع في الحديث، وكأنه يسرع في الحركة، حتى يعييني سماعه، ويعجزني اتباعه، ولكنه ماض في حديثه، ماض في حلمه، لا يقف عند شيء ولا يلوي على شيء، والغريب أنه كان يتحدث فيثير في نفسي مثل ما يثير في نفسه من الذكرى، ثم يتحدث عني وعما أحب فكأنما أنا أتحدث عن نفسي"(11)

إنه تبادل شكلي للأدوار بين المتحدثين والمستمعين، لكن المتحدث الوحيد دائمًا هو الراوي /طه حسين، سواءً كان الذي يتحدث هو صاحبنا الأديب الذي "يندفع في الحديث، كأنه السيل لا يرده شيء"(ص 40)، أو كان الذي يتحدث هو فتاة الفندق الفرنسية التي يصف صاحبنا الأديب حديثها في إحدى رسائله فيقول :".. والفتاة تتحدث، تتحدث والحديث ينبعث من فمها حلوًا وعذبًا ورقيقًا، أحاول الآن أن ألتمس له تشبيهًا فلا أظفر بما ألتمس، وإنما أصور لك الشعور الذي وجدته حين كان يصل هذا الحديث إليَّ ويغمرني، فيملؤني دعةً وراحةً ولذةً وهدوءًا. كنت أشعر كأن إنسانًا يرسل إليَّ نفحات متصلة من الطيب تأخذني من كل مكان"(ص 138) إنه "طِيبُ" الحديث أو "لذة" الحديث، أو لذة إدارة الحديث التي تهيمن على الراوي وصاحبه، فتغير الكون في عينيهما، وتتحول إلى فكرة محورية من أفكار الكتاب :".. لم يتقدم هو في درس المنطق، ولم أتقدم أنا في درس الفرنسية، ولكننا تقدمنا في إدارة هذه الأحاديث الطويلة المختلفة التي تلم بكل شيء، ولا تكاد تتقن شيئًا، ولكنها تفتح القلوب لألوان من العواطف، وتهيئ النفوس لضروب من الخواطر، وتغير الطريق التي كان كل واحد منا قد رسمها لنفسه في الحياة.."(ص 45)
لم يكن الحديث مجرد شكل أو نوع أدبي ابتكره طه حسين في "المعذبون في الأرض"، وأضافه إلى الأشكال التي كانت قائمة، كما قال سيد النساج، بل كان استراتيجية بلاغية تتشكل في وعيه، وتتخلل خطابه كله منذ وقت مبكر جدًا، تمرد بها على كل الأشكال السابقة، واستخدمها في السخرية من قواعد النقاد وأصولهم المبتذلة، فانتهك  الحدود المتعارف عليها للأنواع الأدبية في زمنه، بما فيها النقد الأدبي الذي كان عنده نوعًا من أنواع الأدب. ومن المؤكد أن طه حسين ـ المثقف الأزهري ـ لم يكن ببعيد عن التراث العربي الواسع الذي جعل من كل كتابة حديثًا كما رأينا. ومن ناحية أخرى، كان طه حسين ـ الذي انفتح وعيه على الثقافة الأوروبية ـ قد نظر في آداب الأوروبيين، وعرف أشكالها وأنواعها الفنية التي لم يعرفها تراثه العربي، فترجم عنها وهضمها، لكنه نظر إلى هذه الأنواع الغربية بعيون عربي مشبع  بتقاليد التراث العربي، الرسمي والشعبي، واستفاد في كل هذا من تكوينه الشخصي الخاص، بصفته محدِّثًا يملي على صاحبه قبل أن يكون كاتبًا يمسك بقلمه ويكتب إلى قارئ مجهول. وكانت نتيجة كل ذلك سخريةً لاذعةً من القواعد الجامدة التي يضعها النفاد لنوع القصة، ووعيًا خاصًّا بمرونة ذلك النوع واتساعه.  

(3)

ولقد بلغ ذلك الوعي ذروته في أواسط الأربعينيات، حينما أصدر طه حسين مجلته "الكاتب المصري" في أكتوبر عام 1945، ودعا فيها إلى أدب جديد. وعلى صفحات هذه المجلة ظهرت مجموعة من الـ"فصول" والـ"مقالات" والـ"أحاديث" (وهذه مصطلحات طه حسين نفسه)، شكل بعضها فيما بعد كتابيه الشهيرين "المعذبون في الأرض" و "ما وراء النهر" فضلا عن كتابه الصغير "ثورتان" والحق أن هذه الكتب الثلاثة تكاد تكون نسيجًا واحدًا(12)؛ حيث تنضوي ـ في موضوعها ـ تحت العنوان الدال "المعذبون في الأرض"، وتهيمن عليها ـ في شكلها ـ استراتيجية الراوي المحدث، بصورة واعية ومقصودة ومبالغ فيها أحيانًا. كان كتابا "المعذبون في الأرض" و "ما وراء النهر" حصادًا لتجربة ممتدة خاضها طه حسين مع القص السائد، ومحاولة متعمدة لتجاوز مرحلة القص الرومانسي بكل مشكلاتها، وكانت أولى هذه المشكلات هي الشكل الذي أُفرِغ من مضمونه. في هذه الكتب بدا طه حسين واعيًا تمام الوعي أنه يتجاوز الوعي الاجتماعي والفني والنقدي السائد، وأنه يؤسس لخطاب قصصي من نوع خاص، يتلاعب بذلك الفاصل المتوهم بين الكاتب وجمهوره، بين المؤلف والقارئ؛ إذ يشتركان كلاهما، يختلفان ويتحاوران (أو هكذا يوهمنا الراوي المحدث طه حسين) في صياغة القصة وبناء عالمها.
يقول الراوي المحدث ، في نهاية الفصل الثاني من كتاب "ما وراء النهر" :" ولعل القارئ يظن، وهو معذور إن ظن، أن هذا الحديث قد طال وأسرف في الطول قبل أن يصل إلى أول القصة"(ص29)، ثم يبدأ الفصل الثالث على هذا النحو :"قد كدنا نصل إلى أول القصة، وإن كنا لم نخط فيها خطوات واسعة فيما أعتقد؛ فليست القصة حكاية للأحداث وسردًا للوقائع كما استقر على ذلك عرف النقاد والكتاب، وإنما القصة فقه لحياة الناس وما يحيط بها من الظروف، وما يتتابع فيها من الأحداث، وإذا كان الأمر كذلك- وهو عندي كذلك فنحن قد بدأنا القصة من الكلمة الأولى في هذا الحديث"(ص 30)(13)

القصة والحديث ليسا شيئًا واحدًا عند طه حسين؛ فهو يقدم هنا تفرقة واضحة بينهما، تمامًا كتلك التفرقة التي يقيمها النقاد المعاصرون بين القصة والخطاب(14) فالحديث هو خطاب الراوي الذي يبدأ من أول كلمة في النص، ويملك فيه الراوي حريةً كاملةً في صياغة القصة وتقديم حدث ما أو تأخيره، ويتمتع بالقدرة على التعليق والاستطراد بعيدًا عن أحداث القصة وشخصياتها. أما القصة فهي صورة الوقائع والأحداث كما يستنتجها القارئ وفق ترتيب معين. والحديث كما يتصوره طه حسين، هو القصة بمعناها الحقيقي، أي فقه حياة الناس، والنظر فيها، وفي معناها وما يحيط بها، وليس مجرد حكي الأحداث وحبكها في نظام محكم. وكان من الطبيعي والحالة هذه، ألا يتردد طه حسين في وضع المعنى على لسان راويه المحدث بما يتمتع به من حرية تكسر الحدود التقليدية للقصة، وكان من الطبيعي أن يتمرد على قواعد الشكل التي يلهج بذكرها النقاد.
وإذا أصر النقد والنقاد على وضع قواعد للقصة، فسيتخلى المؤلف/ الراوي تمامًا عن زعم كتابة القصة، ويتبرأ من هذا الشكل ليختار شكل الحديث الحر. إنه بعلن ذلك في وضوح صارم وساخر داخل النص الفني نفسه. يقول في أحد "أحاديث" المعذبون في الأرض: "لا أضع قصة فأخضعها لأصول الفن، ولو كنت أضع قصة لما التزمت إخضاعها لهذه الأصول؛ لأني لا أؤمن بها ولا أذعن لها، ولا أعترف بأن للنقاد مهما يكونوا أن يرسموا لي القواعد والقوانين مهما تكن"(المعذبون في الأرض، ص 22) وما يلبث الراوي أن يكرر بعد صفحات، وفي سياق حجاجه الطويل مع القراء والنقاد : ".. ولكني أعيد على القارئ ما قلته آنفًا من أني لا أضع قصة، وإنما أسوق حديثًا، وأضيف إلى ذلك أن الذين يسوقون الأحاديث لا يقدمون بين يديها هذه المقدمات التي يبينون فيها الموطن والبيئة والأسرة والزمان والمكان، إلى آخر هذا الكلام الكثير الفارغ الذي يلهج به النقاد"(ص 35) ولا ينبغي أن تخدعنا هذه اللهجة، فنتصور أن طه حسين ينبذ فن القصة، أو لا يتمنى أن يكون قصاصًا، أو يهرب من كتـابة القصة لقلة شأنها، ربما كان العكس هو الصحيح؛ فلهجة الغضب والمخاصمة مع القراء والنقاد والسخرية المريرة التي كانت جزءًا من أسلوب طه حسين، كل هذا يقف وراءه رغبة عارمة فى الدفاع عن موهبته قاصًّا من طراز فريد(15)، هذا بالإضافة إلى التمرد على القصة الرومانتيكية السائدة، واختراق أوهامها الشكلية، وتأسيس رؤية وخطاب قصصيين جديدين،  ينطويان على مضمون اجتماعي جديد، وإرهاصات بلاغة شعبية ستجد تجلّيها الأوضح والأنضج عند يوسف إدريس، الذي أعجب طه حسين فيما بعد بمجموعته "أرخص ليالي"، ومجموعته الثانية "جمهورية فرحات" (16). يمكننا إذن أن نتّخذ كتابي "المعذبون فى الأرض"، و"ما وراء النهر"، نموذجًا بلور فيه طه حسين ولو بشكل تعليمي وبدائي- تصوّره عن استراتيجية "الراوي المحدّث"، التي نحاول الآن أن نحدّد ملامحها وأركانها . 

(4)

أول الأركان التي تنهض عليها استراتيجية "الراوي المحدّث" عند طه حسين، عدم وجود مسافة ملموسة وفاصلة بين خيال الفنان وحريته وقوانين الواقع وقيوده، بين الراوي المتخيل الذي يبتدع أحداثًا ووقائع وشخوصًا، والذي هو جزء من عالم  القصة الورقي، والراوي الملتبس بالمؤلف التاريخي الحقيقي الذي يزعم أنه يقدم حقائق وينقل تاريخًا. ما يحكيه الراوي فى "المعذبون فى الأرض" و"ما وراء النهر" خيال فى خيال، شئ من ابتداعه الكامل، وهو حر فى اختياره وترتيب وقائعه، ولكنه فى الوقت نفسه يمثل الحقيقة كاملة ولا شئ سواها، والأمانة كاملة فى نقل التاريخ الحرفي، ويلعب الراوي بطريقة ساخرة على هذا الخيط الرهيف الذي يقع بين الحقيقة والخيال . وعلى هذا النحو، يصبح خطاب المؤلف/الراوي مع القارئ جزءًا من القصة لا ينفصم عنها، ويصبح فى الوقت نفسه خروجًا عن إطار القصة ودخولاً فى منطقة المقال أو الدرس النقدي أو فلسفة الفن، أو قل منطقة الحديث الحر(17) .

فى قصة "صالح"، وهى القصة الأولى أو الحديث الأول من "المعذبون فى الأرض"، يعلن الراوي عن حريته المطلقة إزاء القارئ وإزاء أحداث القصة وتوجيهها كيفما يشاء، ويلعب بتوقعات القارئ : "... وبعد ، فمن أنبأ القارئ بأن صالحًا يتيم ، وبأن أمه قد ماتت؟ الشيء الذي لا أشك فيه ولا ينبغي أن يشك فيه القارئ أن صالحًا لم يكن يتيمًا، وأن أمه لم تكن ميتة، وإنما كانت حية أكثر مما ينبغي أن يحيا الناس، إن صح أن تكثر الحياة وتقل ، وسواء رضى القارئ أو لم يرض فقد كانت أم صالح حية من غير شك، لأني أنا أريد ذلك، وليس يعنيني ما يريده غيري من الناس، فأنا الذي أخترع صالحًا من لا شئ، أو آخذ صالحًا من عرض الطريق فأنا إذن وحدي كما كان يقال أيضًا- أعرف من أمر صالح ما لا يعرف غيري من الناس، وأقرر أن أمه لم تترك الدار لأنها ماتت، وإنما تركت الدار لأنها طلّقت، وأنا أستطيع أن أفعل بها بعد هذا الطلاق ما أشاء : أستطيع أن ادعها مطلّقة تعمل خادمًا فى بعض الدور، وأستطيع أن أجد لها زوجًا تعيش معه سعيدة موفورة، وأستطيع أن أسخّرها لعمل من هذه الأعمال التي يعيش منها أمثالها من البائسات، فقد أسخّرها لبيع الخضار، وقد أسخرها لبيع الفاكهة، وقد أكلفها أن تصنع الخبز فى بيوت الأغنياء الخ" (المعذبون فى الأرض، ص 36) . غير أن الراوي، بعد أن يطرح على قارئه كل الاحتمالات التي من الممكن أن تدخل القصة فيها بحرية مطلقة، يعود فى الفقرة التالية ليقرر أنه لم يختر وما كان له أن يختار شيئًا من هذا؛ لأنه يؤثر الأمانة مع التاريخ، ويقول : والواقع من الأمر أنى لا أكلّف أم صالح شيئًا من هذه الأعمال التي ذكرتها ولا أفرض شيئًا من هذه الخطط التي رسمتها، لأني على حريتي في أن أصنع بها ما أشاء- أوثر الأمانة في رواية التاريخ، وقد حدّثني التاريخ بأن خديجة أم صالح قد كانت شاذة الخلق سيئة العشرة الخ (ص 37) . وبعد أن يحدّد الراوي مصير أم صالح التي فقدت ابنها، لأن أباه اشترى القاضي بأرطال من اللبن، يتدخل الراوي مرة أخرى موجّهًا حديثه إلى القارئ و"ماذا تريد أن أصنع وقد كانت الحياة تجرى على هذا النحو في ذلك العهد القديم (ص 37) .

إنه الصراع الدائم بين الفنان من ناحية، ومادة فنه من ناحية أخرى، بين المؤلف من ناحية والواقع أو الحياة (وهي الكلمة المقابلة للواقع عند طه حسين ورفاقه من التعبيريين) من ناحية أخرى. المؤلف/الراوي المحدِّث هو مخترع كل شيء في القصة، وهناك تأكيد دائم على حريته المطلقة، ومع ذلك، وفي اللحظة نفسها، فإن كل شيء يحدث وحده بعيدًا عن يدي الراوي وسيطرته، بقوانين الحياة التي لا تخضع لمنطق؛ "فالقارئ يخطئ أشد الخطأ إن ظن أن الحياة تجري دائمًا على النحو المألوف من المنطق، وتلائم دائمًا ما ألف الناس من التفكير والتقدير، فليست الحياة أقل مني ثورة على الأصول الموضوعة والقواعد المرسومة والخطط المدبرة، وإنما الحياة تمضي كما تريد هي لا كما يريد الناس"(المعذبون في الأرض ض 40 )

في القصة الثانية من المعذبون في الأرض، وعنوانها "قاسم"، ويعد ثماني صفحات من القص، يتوقف الراوي فجأةً، ويلتفت متحدِّثًا إلى القارئ، مؤكدًا من جديد حريته في صياغة الحدث واختيار الوقائع : ".. والقارئ يستطيع أن يلاحظ أننا قد انتهينا إلى مفرق طرق في هذا الحديث؛ فأنا أستطيع أن أذهب معه إلى السوق التي ذهب إليها قاسم الصياد، وأنا أستطيع أن أذهب إلى هذه الدور التي يلم بها سيدنا كل صباح ليقرأ القرآن، ويشرب فيها القهوة ويجاذب أهلها أطراف الحديث، لا يضعف صوته، ولا يضيق جوفه بما يلقى فيه من أقداح القهوة المرة، ثم أذهب معه إلى الكتاب الذي ينتهي إليه سيدنا حين يرتفع الضحى وتوشك الشمس أن تزول، وأنا أستطيع أن أترك قاسمًا يشتري في السوق ما يشاء، وأن أترك سيدنا يطوف بالدور وينتهي إلى الكتاب، وأن أقيم في الدار لا أبرحها، ولكني لن أقيم في الدار ولن أتبع قاسمًا، ولن أتبع سيدنا، وإنما سأخرج من الدار، وسأنحرف إلى الشمال إلخ" (ص ص50-55) وهكذا يوهمنا المؤلف/الراوي المحدِّث الذي يتحول إلى جزء عضوي من العالم الخيالي للقصة أنه حر تمامًا في توجيه الحدث وابتكار الوقائع والشخصيات، لكنه في اللحظة نفسها ينبئنا أنها حرية من نوع خاص؛ إذ لا يكاد الفنان يختار شيئًا، إنما هي "طبيعة الأشياء" على حد تعبيره في قصة "صفاء"، يقول: ".. والشيء الذي أؤكده للقارئ هو أني لم أختر، ولم أكن أستطيع أن أختار، زمان هذه القصة ومكانها، كما أني لم أختر ولم أكن أستطيع أن أختار أشخاص هذه القصة وأحداثها، وإنما اختارت طبيعة الأشياء هؤلاء الأشخاص، وأجرت طبيعة الأشياء عليهم ما أجرت من الأحداث.. بل أكاد أقطع بأني لم أختر، ولم أكن أستطيع أن أختار، أن أتخذ هذه القصة موضوعًا لهذا الحديث، وإنما هي التي اختارتني لتصل من طريقي إلى القراء.."(ص 123)   

لا يكاد هذا الراوي المحدِّث يمل من تكرار أنه حر، وأنه هو الذي يملك كل شيء في عالم القصة، ويلعب مع القراء لعبة الممكنات وكسر التوقعات دون خضوع لقواعد النقاد وأصولهم؛ ففي قصة "ما وراء النهر"، وفي بداية الفصل السابع يقول الراوي: " القراء بالطبع ينتظرون أن أرقى وأن يرقوا معي في صحبة الشاعر إلى القصر، لنرى صاحبه العظيم في مكتبه ذاك الذي اتخذه لنفسه سجنًا عند آخر الليل، ولكنني لن أفعل، ولن يفعلوا، فهم لا يستطيعون أن يدخلوا القصر، ولا أن ينظروا إلى أبهائه الضخمة وأثاثه المترف الجميل، إلا إذا أتحت أنا لهم ذلك؛ فالربوة كلها بما عليها ومن عليها، والقصر كله بما فيه ومن فيه، سر من أسراري أبيح منهما للقراء ما أشاء وأخفي منهما على القراء ما أشاء، ليس لهم أن ينازعوا في ذلك أو ينكروا منه شيئًا، وقد أزمعت ألا أرقى معهم إلى القصر ولا أبقى معهم على الربوة، استجابةً لأصل من أصول الفن كما أراه أنا، لا كما يراه النقاد.."(ما وراء النهر، ص 60) الفنان، والقصاص على وجه الخصوص، يملك قلنسوة سحرية، تنقله في الزمان والمكان، وتتجاوز به الأسباب والمعقولات والقواعد والأصول، لكنه مع ذلك ينقل بأمانة عن التاريخ، ويحتكم إلى طبيعة الحياة ومنطق والواقع، ولن يمل الراوي أبدًا من تكرار ذلك (راجع ما وراء النهر ص63-87-88 )

يؤكد طه حسين/ الراوي المحدِّث على الدوام، أنه يحكي حكاية متخيلة، ومن ثم فإنه حر في توجيهها كما يريد هو، وبالطريقة التي تخطر له. لكنه في الوقت نفسه حريص على أن تظل علاقة هذه الحكاية المتخيلة وثيقة مع نموذج الواقع الذي أنتجها، ولا مانع عنده من أن يكسر وهم القص المصطنع، ويخاطب قراءه التاريخيين مباشرة ليصل إلى هذا الهدف، وليعمم أحكام حكايته على الوطن، أو على أرض "المملكة المصرية" كلها، كما يحدث في قصة "صالح"؛ إذ يقطع الراوي حكايته متجهًا إلى قرائه: "وأكبر الظن أن صالحًا هذا لم يوجد قط، لأنه يملأ المملكة المصرية من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، يوجد في القرى ويوجد في المدن ويوجد في كل مكان، يملأ مصر نعمةً وخيرًا، وهو مع ذلك يُشعِر الناسَ بأن مصر هي بلد البؤس والشقاء، وأنا أزعم أن قارئ هذا الحديث مهما يكن، لا يستطيع أن يقضي يومًا من دهره أو ساعة من يومه دون أن يرى صالحًا هذا .."(المعذبون في الأرص24 ، وراجع كذلك ص64) ولأن طه حسين يخشى أن يستغرق قراءَه شكلُ القصة وحبكتُها الرومانتيكية ونهايتها المأساوية، فإنه لا يجد مانعًا من أن يكسرها وأن يبدو تعليميًا تمامًا، لدرجة أنه يتحول مع نهاية "المعذبون في الأرض"، ليكتب مقالاً بعنوان "مصر المريضة"، لا يخاطب فيه القارئ، لأنه هذه المرة لا يكتب حكاية رومانتيكية، بل يتجه بمقالة صريحة واضحة إلى القراء، معلنًا عن خلاصة كتابه كله.
وفي أحاديث "الحب الضائع" مثال آخر على هذا الخيط الرهيف الذي يصل ويفصل بين عالم الحقيقة وعالم الخيال؛ إذ يقطع الراوي حديث بطلته مرات متعددة متجها إلى القارئ، مرةً ليؤكد حريته، ومرة أخرى ليؤكد أن حديثه حق وصدق وليس فيه من الخيال شيء : "لم أحدثك عن هذه الراهبة البائسة السعيدة، إلا لأن حديثها أعجبني وراقني وأثر في نفسي أبلغ التأثير، وإياك أن تظن أنه حديث مصطنع قد ابتكره الخيال ابتكارًا، فلو كان الأمر خيالاً لأنبأتك بذلك، ولكنه حديث كله حق وصدق، ولا لك من أن تقبل مني ذلك، لا لشيء إلا لأني أنبئك به، والأصل في الكاتب أنه صديق القارئ ينصح له ولا ينبئه إلا بالحق، أليس كذلك؟ .."(16) 

(5)

وهذا هو الركن الثاني، وربما كان الركن الأول في استراتيجية الراوي المحدِّث عند طه حسين، أعني "الصداقة" بين راوي القصة وسامعها، أو بين كاتبها وقارئها. ولقد أعلن الراوي عن هذا الركن أكثر من مرة وبصورة أشد وضوحًا، فيما أسماه "الزمالة بين الراوي والقارئ"،حين يحب للقراء أن يشتركوا في صياغة القصة، وملء ما يتركه الراوي من فراغات ربما كانت متعمدة، وهو لا يحب أن يهيئ الأدب لقرائه كما يُهَيَّأ الطعام .. يقول : ".. وإنما أحب أن أنشئ بيني وبين القراء نوعًا من الزمالة، بحيث نبدأ القصة معًا، ونمضي فيها معًا، وننتهي منها معًا، نتفق أحيانًا، ونختلف أحيانًا ، ويشجر بيننا الخصام أحيانًا أخرى .."(ما وراء النهر ص 29 ) الراوي والقارئ في عمل طه حسين القصصي، كما هما في أعمال غيره، ليسا كائنين تاريخيين حقيقيين، بقدر ما هما كائنان من ورق يصطنعهما الكاتب، يتحكم فيهما ويلعب بهما؛ فالراوي الذي يروي الوقائع ويتحدث إلى القراء ليس طه حسين (وإن ظل على علاقة معه) بل راوٍ متخيل أو مؤلف ضمني؛ والقارئ الذي يتحدث إليه الراوي ليس قارئًا تاريخيًا أو حقيقيًا، بل قارئ من صناعة الكاتب، يخلقه ليتحدث إليه ويحاوره، ومن الأجدى أن يُنظَر إليه في إطار دراسة المروي عليه (وإن ظل من الضروري أن نربط هذا القارئ الضمني بالقارئ التاريخي الحقيقي، أي القارئ المصري الذي كان يقرأ مقالات طه حسين هذه في مجلة الكاتب المصري أواسط الأربعينيات، وفي ظل ظروف اجتماعية وسياسية وأدبية مخصوصة)

ونقاد طه حسين يقفون موقفًا سلبيًا ـ في الغالب ـ من قصصه، بسبب هذا الحديث المتكرر إلى القارئ، إما لأنه يوقف حركة الحدث، أو لأنه يؤدي إلى الاستطراد الذي لا تحتمله بنية القصة، أو لأنه قبل هذا وذاك يخرق الخيال القصصي الضروري، ويحول القصة إلى مقالة تنقل الفكرة إلى القارئ دون وسيط خيالي، فتبدو شكلاً تعليميًا أو وعظيًّا(17)

ويختلف هؤلاء النقاد كثيرًا حول هذا الحديث الملح إلى القارئ، وقد يلتمسون له تفسيرًا أو مبررًا، في نغمة أقرب إلى الاعتذار عن طه حسين، وقد ينسبون لهذا الحديث وظائف معينة، كل حسب نهجه في تناول النص. ترى سهير القلماوي في إحساس طه حسين بضغط وجود القارئ معه، نوعًا من الحرج من كتابة القصة، التي لم تكن قد أصبحت شكلاً مقبولاً بعد في أدبنا العربي، وترى في وجود القارئ أيضًا نوعًا من التزام موقف المعلم الذي لم يتخل عنه طه حسين حتى في كتابة القصة(18). أما حسين نصار ، فيرى في الالتفاتات الكثيرة التي تقطع القصة وتحادث القارئ، نوعًا من التقاط الأنفاس انتظارًا لتوالي الصور القصصية على الذاكرة، وربما ابتعاثًا لهذه الصور(19). وليس هذا ببعيد عما ذهب إليه سيد النساج، حين رأى في مخاطبة القارئ وسيلة من وسائل التشويق، ورغبةً من الكاتب في عقد صلة وثيقة بينه وبين قارئه لاصطناع علاقة بينهما، بل إنها قد تكون وسيلة من وسائل تقسيم الحديث إلى عناصر متنوعة، يتوسل بها الكاتب للانتقال من موقف إلى موقف، أو من شخصية إلى شخصية، أو من مكان إلى مكان(20)

وينظر عز الدين إسماعيل إلى هذه الاستراتيجية بصفتها إبرازًا لـ"أنا" المتكلم/ طه حسين؛ "فاستحضار الـ"أنت" فيما يبدو _ مجرد تكأة لإبراز الـ"أنا" المتكلم، الثقة والمطمئن.. لقد ألقى على ذلك المخاطَب مهمة الاندهاش لما يستمع إليه واستنكاره، ولم يكن المخاطَب نفسه في حاجة إلى شيء من ذلك، والأمر كله لا يعدو تلبس طه حسين لحالة الخطاب، التي تسمح ببروز "أنا" المتكلم والإعلان عن حضورها"(21). ومن اللافت حقًا أن هذه الوظائف المتعددة التي التقطها نقاد مختلفون في سياقات مختلفة، ونسبوها لمسالة الحديث إلى القارئ، هي ذاتها الوظائف التي سيعزوها جيرالد برنس إلى ما يسميه "المروي عليه"؛ إذ يمكن للمروي عليه كما يقول أن يؤدي سلسلة كاملة من الوظائف في السرد :"إنه يؤسس توسطًا بين الراوي والقارئ، ويساعدنا في إقامة إطار للسرد، ويفيد في تشخيص الراوي ويؤكد موضوعات بعينها، ويسهم في تطوير الحبكة، ويصبح المتحدث باسم الجانب الأخلاقي من العمل".(22)

غير أن طه حسين لا يترك للدارسين مهمة استكشاف مؤشرات المروي عليه، وهي مؤشرات كثيرة في نصوصه، مثل ضمير المخاطب، وضمير المتكلم الجمع الذي يضم المتحدث وسامعيه معًا، والجمل الطلبية، وغيرها من المؤشرات الخفية التي نجدها في دراسة برنس. ما يفعله طه حسين شيء آخر: إنه يعلن عن حضور القارئ إعلانًا مستفزًا لنقاد القصة، ويكرر هذا الإعلان إلى حد يقترب من السخرية. ولو أنك سألت طه حسين عن الدافع وراء هذا الحديث المتكرر الملح عن القارئ ومعه، فسيكون الجواب حاضرًا كما يقول هو : "لا تسألني هذا السؤال فإن جوابه حاضر، وهو أني أريد أن أذهب في هذا أيضًا مذهب جماعة من الكتاب المحدثين الذين يريدون أن يظهروك لا على القصة التي يحبون أن يقصوها عليك فحسب، بل على مذهبهم في القصص وطريقتهم في التفكير أثناء القصص، ويريدون أن يظهروك على أنفسهم حين يتحدثون إليك، لتراها واضحةً جليةً، ولترى أنهم يصدقونك ويكبرونك كل الإكبار، فلا يعبثون بك ولا يتكلفون لك، ولا يكذبون عليك.."(الحب الضائع ص 114 )  ومهما يكن من صحة هذه الإجابة أو خطئها، فإن الشيء المؤكد أن استراتيجية الراوي المحدث تتخذ في عمل طه حسين شكلاً محددًا، يختلف إلى حد بعيد عن شكلها عند غيره من الكتاب. ويقوم هذا الشكل في جوهره على فكرة"الصداقة" أو "الزمالة" أو "المعية" الدائمة بين الكاتب والقارئ.  الراوي والقارئ "صديقان" أو "زميلان"، يتعرفان "معًا" على عالم القصة، الذي يبدو عالمًا سابقًا عليهما معًا. يصطحب الراوي القارئَ إلى عالم القصة، ويوهمه أن هذا العالم يتشكل تحت عينيه، ولا يتردد الراوي في إشراك القارئ معه في حيرته إزاء بعض ظواهر هذا العالم، فيستشيره ويخيره، وربما يترك له الأشياء دون حسم، زاعمًا أنه لا يعرف شيئًا عن هذه النقطة.

عادةً ما يبدأ النص بالحكي، بضمير الغائب العليم أحيانًا، أو بضمير المتكلم أحيانًا أخرى، ولكن سرعان ما يبرز الراوي المتكلم، ويعلن عن حضوره متجهًا بخطابه إلى "الأنت" أو إلى القارئ، بعدها يظهر ضمير المتكلم الجمع الذي يعلن الصحبة التي بدأت بين الراوي وقارئه. وما إن تبدأ الصحبة يتحول الراوي والقارئ إلى شخصيتين من داخل القصة، يشتركان في أحداثها، وليس مجرد أدوات خارجية لنقل الوقائع أو تلقيها.

تبدأ "ما وراء النهر" على سبيل المثال براوٍ متكلم، يحاول أن يقنع قراءه بكل ما أوتي من منطق، أن هذه القصة التي يحكيها وقعت في مكان ما غير القاهرة وغير مصر كلها : ".. لست أدري أين وقعت أحداث هذه القصة، ولكني أقطع بأنها لم تقع في مدينة القاهرة.. إلخ". وفي الصفحة الأولى نفسها يبدأ توجيه الخطاب إلى مخاطَب مجهول (يُفترض أنه القارئ) ، وذلك حين يقول الراوي فجأةً : "فما أظنك تخالفني في..إلخ"، وفي الصفحة التالية يظهر ضمير المتكلم الجمع : "..وقد علمنا النقاد.. إلخ". هنا نغادر عالم القصة قليلاً، وندخل إلى عالم المقال الذي لا يقوم على عالم قصصي متخيل Fictional يتفاعل القارئ مع علاماته، بقدر ما يقوم على حجاج منطقي بين الكاتب والقارئ مباشرةً، وليس عبر ذلك الوسيط، القصصي المتخيل. يقول الراوي : " وإذن فلابد لهذه القصة من ربوة عظيمة الارتفاع والاتساع، ومن قصر شاهق، وشجر باسق، وزهر رائق، ونجم شائق، ونهر دافق يجري من تحت كل هذا في أناة حينًا وفي عنف حينًا آخر، فإذا فُقِد شيء من هذا ضاعت القصة، وما أظنك ترغب في أن تضيع؛ فأنت محتاج إليها لتنفق الوقت في القراءة، وأنا محتاج إليها لأنفق الوقت في الإملاء، والمجلة محتاجة إليها لتملأ عددًا من صفحاتها قليلاً أو كثيرًا. كل شيء يضطرني إلى أن أملي، وكل شيء يضطر المجلة إلى أن تنشر، وكل شيء يضطرك إلى أن تقرأ، وكل أولئك يفرض علينا جميعًا أن نقبل هذه الربوة وما فيها وما عليها.. إلخ"(ما وراء النهر ص21 ). هنا يتحول الراوي المتخيل إلى كاتب تاريخي حقيقي هو طه حسين نفسه، كاتب المقال الذي يملى للنشر في المجلة، ويتحول المروي عليه إلى قارئ تاريخي حقيقي محكوم بزمان ومكان ومطالب، وتتحول القصة نفسها إلى مقالة خالصة.

بيد أن الراوي سرعان ما يعود بخفة ( كما يمكن أن نلاحظ في ختام الاقتباس السابق) إلى عالم القصة والربوة التي بدأ بها الكلام، فيصل ما انقطع، ولكن بعد أن يكون مبدأ الصحبة قد استقر، وأصبح من حق الراوي أن يخترق عالم القصة الخيالي في أي وقت، وينزل إلى عالم المقالة أو الحديث، وهو عالم تاريخي حقيقي يجمعه بقارئه. وسيتكرر هذا الانتقال بين الخيال والحقيقة، بين القصة والمقالة، مرات كثيرة على مدار الكتاب الصغير.

ويشرك الراوي زميله القارئ مغه في ارتداء قلنسوة الفن السحرية، التي تمكنهما معًا من الدخول إلى عالم القصة والانخراط فيه، شخصيتين من الشخصيات الفنية لا مجرد أطراف خارجية، أو كاتب وقارئ يقعان خارج إطار القصة المتخيلة. يقول الراوي لقارئه : "ما احب أن اقتحم الباب الذي لم يقتحمه الشاعر، وأن أدخل بك على صاحب القصر خاليًا إلى ضيفه؛ لا لأني أخشى أن يردنا الخادم عن هذا الباب مكبرًا لنا حفيًا بنا كما أراد الشاعر، أو ناهرًا لنا متعللاً علينا كما كان خليقًا أن يصنع بكل من يحاول اقتحام هذا الباب، فأنت وأنا مطمئنان إلى أننا نستطيع أن نقتحم الباب دون أن يشعر بنا الحاجب، لأن الفن قد منحنا القلنسوة السحرية التي تخفينا.. إلخ"(ما وراء النهر ص87) ويصعب أن تكون هذه الالتفاتات المتكررة إلى القارئ مجرد نوع من "التقاط الأنفاس"، لاستكمال الحدث أو لاستدعاء الوقائع، ذلك أن هذه الالتفاتات مليئة بالحكي والقص والوصف، ولا يمكن حذفها أو استبعادها من العالم الخيالي للقصة. الالتفات للقارئ واستكمال الحدث عمليتان متكاملتان ومتداخلتان تمامًا في قصص طه حسين، كل منهما تقطع الأخرى ؛ فمن قلب الحديث إلى القارئ وأثناءه نستكمل أحداث القصة ووقائعها، ومن قلب الأحداث يفاجئنا الحديث إلى القارئ مذكِّرًا بالوجود الدائم للراوي المحدث. والأمثلة على هذا كثيرة في نصوص طه حسين. في الفصل الثاني عشر من "ما وراء النهر"، يستكمل الراوي حديثه ورحلته مع القارئ على هذا النحو : "قد كنت خليقًا أن أمضي معك في الحديث عن حياة رءوف في شيء من التفصيل، وعن نشأة نعيم في شيء من الإطناب، لولا أن باب المكتب يُفتح ويخرج منه رءوف متضاحكًا، يشيع ضيفه إلى سلم القصر، ثم يعود وهو لا يكاد يملك نفسه من ضحك يريد أن يملأ أبهاء القصر، فيصرف الشاعر عن كتابه ويصرفني أنا عما كنت أقص عليك من حديث، وها هو ذا قد أقبل الشاعر .. إلخ"(ما وراء النهر ص 91 ) هكذا ينقطع حديث الراوي إلى قارئه (وهو الحديث الذي يبدو كأنه جزء من القصة) بواقعة من وقائع القصة نفسها، هي فتح الباب وخروج رءوف.. إلخ. وما أسهل أن تنقطع هذه الوقائع بعد قليل باستكمال الحديث إلى القارئ.

ولقد رأينا فيما سبق من اقتباسات مطولة، كيف كان التفات الراوي إلى القارئ - في قصتي "صالح" و"قاسم" على سبيل المثال - عامرًا بالوصف والتخييل لعالم القرية، وذلك حين يعدد الراوي الاحتمالات المختلفة لحركة الشخصية القصصية، وهي احتمالات يقول الراوي إنها لم تحدث، لكنها مع ذلك ترسم عالمًا لقرية مخصوصة في صعيد مصر، وهو العالم الذي تمارس فيه شخصيات القصة فعلها. وما دام الراوي والقارئ صديقين أو زميلين، تجمعهما صحبة اكتشاف العالم القصصي المستقل عنهما معًا؛ فلا مانع من أن يصحب الراوي قارئه في كل ركن وان يلعب بتوقعاته، وأن يعرض عليه أحيانًا حيرته إزاء بعض أمور هذا العالم القصصي. من ذلك مثلاً أن يعرض الراوي في قصة "المعتزلة" على القارئ حيرته في اختيار عنوان القصة، ودوافع هذه الحيرة بين عنوانين : "المعتزلة" و "أبو تمام". يقول : ".. ومهما يكن من أمر فقد ترددت بين هذين العنوانين : المعتزلة، وأبو تمام، كما ترددت في إهداء هذا الحديث بين المترفين والبائسين، ثم آثرت آخر الأمر أن أخير القارئ بين العنوانين، وأن أهذي الحديث إلى الفريفين..إلخ"(المعذبون في الأرض ص83) ومن ذلك أيضًا أن يعرض راوي "ما وراء النهر" حيرته على القارئ، بشأن بطل قصته والربوة وسكانها، وبشأن تسمية الشخصيات.. إلخ . يقول "ولست أخفي على القارئ أني حائر أشد الحيرة في أمر أهل الربوة جميعًا.. فكلهم يلح عليَّ في أن أجد له اسمًا يتسمى به ويميزه عن غيره من الناس"(ما وراء النهر ص 14 )

هناك زمالة مطلقة بين الراوي والقارئ في سرد طه حسين، والراوي يدرك تمامًا دور القارئ المكمل لدوره، ولذلك فهو يخلق القارئ ويضعه نصب عينيه دائمًا، بل إنه يكاد يقدم نظرية باكرة عن دور القارئ في الأدب، فيقول : ".. فهذا الوصف شركة دائمة بين الأديب المنتج والقارئ المستهلك، وليس من المحقق أن الأشياء التي يعرضها الأدباء تقع في نفوس القراء كما يعرضونها عليهم، وإنما الشيء الذي ليس فيه شك أن القراء يشاركون في الخلق والإنشاء، ويسبغون من ذات أنفسهم على ما يجلو لهم الكتاب من صور، ألوانًا لعل الكتاب أنفسهم لم يروها، ولعلها لم تخطر لهم على بال، فهذه الربوة .. إلخ"(ما وراء النهر ص 28 )

لكننا هنا يجب أن نميز بين نوعين من القراء في قصص طه حسين، أولاً ذلك القارئ الضمني المتخيل الذي يصحبه الراوي، ويمنحه قلنسوة الفن السحرية، ويحب أن يدير معه حوارًا ويعقد معه صداقة، يختلفان ويتفقان وقد يتشاجران، وهذا قارئ أقرب إلى المروي عليه. ثانيًا أولئك القراء الذين يتربصون بالراوي ويقفون خارج عالم القصة، فيخرج الراوي إليهم بصفتهم نقادًا، وهؤلاء أقرب إلى القراء التاريخيين الذين انتقدوا قصص طه حسين، وقللوا من قيمتها الفنية ومن قيمته قصاصًا، وهم من سيتجه إليهم بالنقد المرير الساخر حتى في كتبه النقدية، كما في "خصام ونقد" حين يقول : "فما زعمت في يوم من الأيام أني قاص أجيد فن القصص أو أقارب إجادته، ومن أين لي إتقان هذا الفن أو مقاربة إتقانه، وأنا لم أدرسه في مدرسة، ولم أتلق أصوله عن أستاذ من أساتذة النقد، ولم احفظ هذه الشروط العشرة أو العشرين، والتي ليس من حفظها بدٌّ، وليس من رعايتها بدٌّ أيضًا، ليكون الكاتب قصاصًا متقنًا لفنه، ولتكون القصة التي ينتجها رائعة بارعة تستحق أن تسمى قصة..إلخ"(23)  

(6)

نخطئ إذا تصورنا أن الحافز وراء هذا الإلحاح على استراتيجية الراوي المحدَّث من قِبَل طه حسين، هو مجرد تكوينه الخاص كرجل فاقد للبصر، مضطر أن يستخدم الحديث وسيلة تأثير أساسية؛ فالحق أن حافزه إلى اختيار شكل الحديث وتبنّيه حافزٌ مركب، جانب منه بطبيعة الحال يعود إلى فقدان البصر ومركزية الصوت والسماع، أما الجانب الأكبر فيعود إلى تكوين طه حسين الثقافي والفني، وهو تكوين لعبت فيه الثقافة العربية القديمة، خاصة الرافد الشعبي منها، دورًا عميقًا، وهذا الرافد الشعبي هو الركن الثالث في تصوره لهذه الاستراتيجية ومعناها وتاثيرها. لم يكن طه حسين بعيدًا عن التراث العربي الرسمي والشعبي، الذي لعبت فيه استراتيجية الحديث إلى القارئ دورًا محوريًا. لم يكن طه حسين المثقف الأزهري المنحاز للفصحى بعيدًا عن "ألف ليلة وليلة"؛ فقد استلهمها أكثر من مرة في قصصه، في "القصر المسحور"(24) 1936 أولاً، بالاشتراك مع توفيق الحكيم، رفيقه في حب شهر زاد وأحاديثها، ثم في "أحلام شهر زاد"(25) 1943، هذا فضلاً عن إشرافه على أولى الرسائل العلمية العربية عن ألف ليلة، وهي رسالة سهير القلماوي. ومن المؤكد أن هذا يشي بحالة العشق والاحترام التي حملها طه حسين لألف ليلة وما تمثله.

ولم يكن الرجل ببعيد أيضًا عن السيرة الشعبية، التي يستدعيها ويستدعي تأثيرها العميق في أولى صفحات "الأيام"، حين يبتعث الراوي بعض الصور البعيدة الباقية في قاع ذاكرته ، وأهمها صورة الراوي المنشد الذي ينشد الذي يتغنى بالسيرة وقد تحلق حوله جمهوره، والصبي الذي عشق الجلوس إليه حتى لو كانت النتيجة هي الضرب والإيذاء(26). وإشارات طه حسين إلى أحاديث الصبا هذه متكررة في مواضع كثيرة من كتبه، وعلى لسان راويه المحدث؛ ففي قصة "ما وراء النهر" نفسها يقول الراوي : "والأيام تمضي مسرعةً أو مبطئةً، وأكبر الظن أنها تمضي مسرعة بالنسبة لنا نحن، لأن أيام القصص مسرعة دائمًا، كما كان يقول لنا الذين يقصون علينا الأحاديث في أثناء الصبا"(ما وراء النهر ص 106 ). تلك إذن هي أيام القصص، كما استوعبها طه حسين، وكما تشربها عن محدِّثيه الشعبيين أيام الصبا. إن تفاعل الراوي مع جمهوره جزء من تكوين الأداء الشعبي الشفهي، بل إن هذا التفاعل هو مكمن الاختلاف بين الأداء الشفهي والأداء المكتوب، وصورة القارئ التي يقدمها طه حسين في أحاديثه لا تكاد تختلف عن صورة الجمهور المستمع هذه، الجمهور الذي يتدخل في القصة معلقًا وموجهًا ومحتجًا ومصفقًا أحيانًا، وهو أمر يفترض فيه أن يعدل من أداء الراوي ويوجهه.

لكن ما يفعله راوي طه حسين المحدث أمر مختلف إلى حد كبير، إذ يخلق هو تدخلات القارئ/المستمع، تم ما يلبث أن يقوم بنوع من الاحتجاج عليها، ويتشبث بحريته المطلقة في امتلاك كل شيء وتوجيهه، على نحو يكون من نتيجته حضور "أنا" الراوي واستعلاؤها على القراء/النقاد، وبطريقة قد تنسينا المنطق المختلف الجديد لتتابع الوقائع والأحداث في قصص طه حسين. فالأحداث والوقائع في قصص طه حسين لا تتتابع وفقًا لمنطق الحبكة الآرسطية، وهي الحبكة القائمة على المنطق السببي المالوف الذي تؤدي فيه "أ" إلى "ب"، وإنما يقع التتابع وفقًا لارتجالية العلاقة بين الراوي وقرائه/مستمعيه الحاضرين، وهي ارتجالية يمكن أن تؤدي إلى استطرادات مطولة، وتسمح للراوي أن يتقدم أو يتأخر بتلقائية كاملة وأن ينظر في كل الزمن: الماضي والحاضر والمستقبل، ما دام هدفه في النهاية هو إفهام القارئ. لن يتردد الراوي في أن يقول لقارئه مثلاً:"فقد رأينا في ما مضى من الحديث.."(ما وراء النهر ص62 ) أو:"حتى انتهى المر إلى ما علمتَ.."؛ فطبيعة هذا الخطاب تسمح للراوي  بالتقديم والتأخير والاستئناف والتكرار، في تلقائية أقرب ما تكون إلى راوي السيرة الشعبية.

ولسوف يسخر طه حسين كثيرًا من المنطق السببي الذي تنهض عليه القصة في نظر النقاد، ويكرر مقولته الشهيرة : أنا لا أكتب قصة، وإنما أسوق حديثًا . يقول:"ولكنني أجيب القارئ إن خطرت له هذه الأسئلة، كما كان الكاتب الفرنسي ديدرو يجيب قراءه حين يخيل إليه أنهم يسألونه أو يهمون أن يسالوه عن بعض الأمر في قصصه، أجيب القارئ بأنه سوف يسرف على نفسه وعليَّ بهذه الأسئلة التي قد يكون الرد عليها مفيدًا لتكون القصة منسقة حسنة البناء ملتئمة الجزاء يأخذ بعضها برقاب بعض كما كان النقاد القدماء يقولون، ولكني لا أحاول أن أضع قصة فأخضعها لما ينبغي أن تخضع له القصة من أصول الفن كما رسمها كبار النقاد." (المعذبون في الأرض ص 22) غير أننا نعرف أن طه حسين ليس راويًا شعبيًا يتحدث إلى جمهور من المستمعين، بل كاتب حديث يكتب لقراء مجهولين (وإن كانت وسيلته هي الإملاء)، ونعرف أن قراءه لم يستمعوا منه لهذه القصص بل قرؤوها في الصحف والكتب، ونعرف أيضًا أنه يتعلم من كتاب الرواية الأوروبية في القرنين الثامن والتاسع عشر، تمامًا كما تعلم من كتاب التراث العربي الكبار. وقد أشار في الاقتباس السابق إلى نقله فكرة اختلاق الحديث إلى القارئ من ديدرو على وجه الخصوص؛ ولا عجب فقد كان الحديث إلى القارئ مسألة شائعة في الرواية الأوروبية في القرنين الثامن والتاسع عشر كما يلاحظ النقاد(27)  ولا شك أن هذا الحديث المرتجل إلى القارئ، يضع نصوص طه حسين القصصية في موضع شائك؛ لأنها في الوقت الذي تتخلى فيه عن تشويق الحبكة التقليدية وقوتها، لابد أن تبحث عن وسائل أخرى لتشويق القراء وجذبهم.
والمصدر الأول للتشويق في نصوص طه حسين، يتخلق عبر عملية التواصل الشفهي بين راويه/ المحدث وقرائه/المستمعين الحاضرين في نصوصه على الدوام؛ ذلك أن أبرز مناطق التشويق والحركة في هذه النصوص لا تكمن في الأحداث المحكية وتطوراتها، أو مآسي الشخوص ومفارقات الواقع، بقدر ما تكمن في تجسيد صورة القارئ/المستمع المتربص بالراوي المحدث، وفي الحوار المتوتر الساخر الدائم بينهما.
هذا الحوار الساخر المتوتر الدائم بين الراوي/المحدث وقارئه/المستمع، الذي نظر إليه دارسونا بصفته خروجًا عن إطار القص المتخيل وقوانينه، وتجريدًا تعليميًا مباشرًا للحقائق والشخصيات الحية(وهو كذلك فعلاً في جانب منه)، يمكن النظر إليه بصفته جزءًا من عملية القص، لا باعتباره جزءًا مهمًا من الحديث فحسب، يهتم بفهم حياة الناس ويتفقه في حكمة تتابع الأحداث، كما نبهنا الراوي في أكثر من مرة، ولكن أيضًا بصفته جزءًا دراميًا من وقائع القصة المروية، يقطع فيه الراوي الحدث ويوقفه، ليشوق القراء ويلعب بتوقعاتهم، ويتحدث إليهم في شئون هذا العالم القصصي المتخيل وعلاقته مع عالم الواقع الخارجي.

وربما لا نغالي إذا قلنا إن هذا الجانب الخاص بقطع الحدث، والدخول في علاقة مباشرة مع القارئ، كان شيئًا أقرب إلى الوعي البريختي القائم على التغريب وإسقاط الحائط الرابع في المسرح،  وهو وعي متوقع من رجل مثل طه حسين، قاد تطورات طليعية في كتابة الأدب ودرسه، منذ "الشعر الجاهلي" ومناهج دراسته، إلى "جنة الشوك" التي يجرب فيها فن الإبيجراما(28).

ويمكن أن يزداد فهمنا لذلك الوعي إذا أضفنا أن طه حسين كان، كما لاحظت سهير القلماوي، ذا حسٍّ تعليمي، يريد أن يتجاوز القصص الخيالية إلى ما وراءها من عبرة وعظة، رغم أنه سينفي ذلك عن نفسه وبقوة، ويرفض - على لسان راويه في "المعذبون في الأرض" - أن يكون واعظًا. وقد وجد طه حسين أقرب تجسيد لهذا الوعي التغريبي في القصص الشعبي، حيث يحب لك الراوي أن تندمج في أحداثه ومآسيه وخيالاته وتبكي معه، لكنه في الوقت نفسه يتدخل بينك وبين هذا الاندماج، لينبهك وينقلك إلى العالم الحقيقي لذي يجمعك وإياه في لعبة الفن، ولا مانع من أن يستخلص لك العبرة. ومن السهل أن نلاحظ أن هذا الوعي التعليمي وعي نقيض للوعي الحديث الذي تنهض عليه فنون القص الحديثة كالقصة القصيرة والرواية، في مراحل النشأة على الأقل، حيث يتم نفي المؤلف من عالم القصة، ويتقلص وجوده تمامًا وكأن القصة تحكي نفسها. وكان من الطبيعي والحالة هذه أن يتمرد طه حسين وراويه على أصول القصة كما تصورها أولئك النقاد المحدثون، وأن يعلن في النهاية أنه بريء من كتابة هذا النوع من "القصة" الذي لا يلائم وعيه ذاك. وإذا كان الوعي الحديث الكامن في القصة القصيرة والرواية يفترض لغة جديدة، يمكن أن نسميها لغة النثر الحديث، التي تتخلى إلى أبعد حد عن الاستطرادات والتكرارات والزينة البلاغية، وتقترب في صورها وفي معجمها من لغة الحياة ، فإن لغة طه حسين - بما هي لغة ذات طابع شفهي تقف على الطرف النقيض تمامًا، تحرص على التكرار والزينة والصيغ الثابتة المتوازية، إلى آخر ما هو معروف عن لغة طه حسين في كل ما كتب.
وقد جاهد الرجل جهادًا عنيفًا من أجل تطويع لغة النثر الفني تلك، للغة الرواية والقصة القصيرة، أو قل من أجل تطويع القصة القصيرة والرواية للوعي الذي تحمله لغة النثر الفني. وحينما كان يستشعر فشل محاولته كان يكرر مقولته ولا يمل من تكرارها : أنا لا أكتب قصة، وإنما أسوق حديثًا. ولكي يخفف طه حسين من عبء التكرار والاستطراد في لغة أحاديثه القصصية، كان يستخدم الوسيلة المعتمدة في النثر الفني، وهي السخرية. في أحاديث طه حسين يسخر الراوي من نقاد القصة ومن أصولهم المزعومة، ويسخر من النقاد القدماء وأقوالهم، وذلك في جمل من قبيل :"كما قيل أيضًا" أو "كما قيل" أو "كما كان النقاد القدماء يقولون". بل إنه قد يسخر حتى من نفسه، حين يدعي عدم المعرفة، وعدم القدرة على فهم ما يقوله النقاد الكبار(وإن كانت سخريته هنا بهدف إبراز أناه وتعظيمها). حتى هذا الحديث المستمر الملح مع القارئ، كان ينطوي - ربما بسبب هذه الدرجة الغريبة من التكرار والإلحاح - على نوع من السخرية. 
 ____________

(1) "لقد أضحى التمييز لدى علماء السرد بين المؤلف والراوي من جهة، والمروي له والقارئ من جهة اخرى، واضحًا إلى حد بعيد؛ فالراوي والمروي له كائنان متخيلان يقتضيهما الخطاب ويوجدان معًا في وضعية سردية واحدة، أما المؤلف والقارئ فهما كائنان تاريخيان. والمسافة التي تقوم بين المؤلف وراويه، أو المروي له والقارئ، تستدعي بين هذه الأطراف جميعًا حوارًا ضمنيًا قد يكون على أساس الائتلاف أو الاختلاف.." راجع: شكري المبخوت، سيرة الغائب ..سيرة الآتي، السيرة الذاتية في كتاب الأيام لطه حسين، دار الجنوب للنشر، تونس1992،ص121. غير أن علماء السرد يلحون على التمييز بين هذه الاصطلاحات إلحاحًا ينسيهم تمامًا ما قد يكون بينها من صلات بديهية؛ إذ من المؤكد أن هناك وشائج بين المؤلف الحقيقي أو التاريخي(طه حسين مثلاً) الذي ولد وعاش وكتب في فترة معينة، والمؤلف الضمني المتخيل المستخلص من كتاب معين(الأيام ، أو المعذبون في الأرض مثلاً)، والراوي الذي يحكي داخل هذا العمل .
وكما يقول وليم نيلز، فإن فشل منظري السرد في تقديم تعريفات مكتملة لهذه المصطلحات ، وفشلهم في توضيح الفروق بينها ، كان مصدرًا دائمًا للخلط في نظريات السرد وفي تطبيقاتها 0
ومعنى هذه المصطلحات عندي عند نيلز - يمكن الإشارة إليه بإيجاز من خلال افتراض أن كل مصطلح له وظيفة محددة ؛ فالمؤلف التاريخي يكتب ، والقاريْ التاريخي يقرأ ، والمؤلف الضمني يقدم المعنى ، والقاريْ الضمني يؤول. الراوي يتكلم ، والمروي عليه يسمع ، وهذان المصطلحان الأخيران يفهمان هنا على نحو مجازي ؛ فنحن نتصور الراوي والمروي عليه من خطاب النص ، وعبر الاستنتاج ، إذ لا يوجد كلام أو سماع بالمعنى الحرفي، ويمكن النظر إلى الأمرين باعتبارهما تفكيرًا ، أو كتابة وقراءة صامتة ، لا كلامًا وسماعًا.
وقد تقع درجة معينة من التداخل على المستوى العملي ، بين هذه الفصائل جميعًا ؛ فالمؤلف التاريخي قد يعمد إلى إيصال معنى ما بعمله ، والقاريْ التاريخي ( نمط معين من نقاد الأدب على وجه الخصوص ) سيسعى إلى ( وسيجد حتمًا ) معنى العمل 0 وكثير من الرواة يقدمون أنفسهم أيضًا باعتبار أن لهم عناية بالمعنى 0
ولكن من الممكن على المستوى النظري ، أن يتم  تحديد هذه الفصائل بوضوح ، والتمييز بينها ؛ فمهمة إنتاج النص فعل فيزيقي يقوم به المؤلف التاريخي لا الراوي ، والمصدر المحدد للمعنى في النص هو المقاصد الضمنية للمؤلف الضمني ، لا تلك التي يعبر عنها المؤلف التاريخي أو الراوي ، وهذه المقاصد لا يصل إليها وصولا كاملا إلا القاريْ الضمني ، رغم أن القاريْ التاريخي قد تكون له تأملات حولها .."
ولكن هل الأمور على هذا القدر من الوضوح دائمًا ، ربما تكشف دراسة ما كتبه طه حسين ورفاقه عن بعض ملامح هذه المشكلة. حول هذه المصطلحات وتضاربها في النقد القصصي راجع:
William Nelles. Historical and Implied Authors and Readers, Comparative Literature (V:45 N:1, 1993)
(2) جيرالد برنس: مقدمة لدراسة المروي عليه، ترجمة علي عفيفي، مجلة فصول، صيف 1993، ص76. وراجع أيضًا كتابه عن علم السرد، خاصة حين يتحدث عن مؤشرات الأنت التي تتداخل وتتفاعل مع الأنا. إن بعض هذه المؤشرات قد يلعب دوره بشكل غير مباشر؛ إن أي "أنت" مخصصة للمروي عليه، لكنها تتضمن الراوي في الوقت ذاته، و أي "أنا" مخصصة للراوي، لكنها تتضمن المروي عليه في الوقت ذاته. راجع:
Gerald  Prince. Narratology: The Form and Functioning of Narrative, Mouton Publishers, Berlin. New York. Amsterdam, 1982, p: 17
(3) راجع سمات الشفاهية كما رصدها والتر أونج في كتابه "الشفاهية والكتابية"، ترجمة حسن البنا عز الدين(عالم المعرفة182) الكويت1994، د.ت ، ص ص90-100.
وراجع كذلك مقالة عز الدين اسماعيل : أنا المتكلم طه حسين، مجلة فصول ، القاهرة، اكتوبر 1999.
(4) نقلاً عن سامي الكيالي: مع طه حسين، سلسلة إقرأ112، دار المعارف، القاهرة د.ت، 76-77
(5) حسين نصار: فن القصة عند طه حسين، مجلة القصة، القاهرة يناير 1964، ص46. وراجع هنا أيضًا ما كتبه جابر عصفور في "المرايا المتجاورة" تحت عنوان "الأدب النقدي"، ص ص 321-407.
(6) جابر عصفور: المرايا المتجاورة، دراسة في نقد طه حسين، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1983 ،ص 415.
(7) شكري عياد: القصة القصيرة في مصر، دراسة في تأصيل فن أدبي، دار المعرفة، القاهرة1979، ص:
(8) سيد النساج: أحاديث طه حسين في المعذبون في الأرض، مجلة فكر، عدد خاص عن طه حسين بإشراف عبد المنعم تليمة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، مارس1989، ص ص 308-309.
(9) راجع على وجه الخصوص ما كتبه عبد المحسن بدر عن النوع الأدبي للأيام في "تطور الرواية العربية الحديثة".
(10) طه حسين : الأيام ج2، دار المعارف ، القاهرة 1984، ص184. (ط1 1939)
(11) طه حسين : أديب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1998، ص34. (ط1 1935)
(12) لاحظ مجمد حسن الزيات ، في تقديمه لكتاب "ما وراء النهر" الذي نشر بعد وفاة طه حسين، أن هناك بالضرورة جوامع خفية بين هذه الكتب الثلاثة، وأشار إلى مسألة النقد والإصلاح الاجتماعي المهيمنة على الكتب الثلاثة. راجع التقديم في طه حسين: ما وراء النهر، دار المعارف، ط1 1975، ص ص 7-10.
(13) الأمر نفسه يتكرر في "المعذبون في الأرض"؛ ففي قصة "صالح"، وبعد أن يستطرد الراوي في حديثه مع القراء، وفي حكاياه الجانبية، وتأملاته الفلسفية والاجتماعية، يقول: "وهنا يرتفع رأس القارئ، وقد ظهرت على وجهه ابتسامة ساخرة، وبرقت عيناه بريق الانتصار والفوز، وهو يسألني في صوت فاتر ساحر: لقد أردتَ أن تتجنب الإطالة بالإجابة على أسئلتنا، فهل أنت إلا ممعن في الإطالة بهذا الكلام الكثير الذي لا يغني ولا يفيد. معذرةً يا سيدي القارئ الكريم! بل إن هذا الكلام الكثير يغني كل الغناء ويفيد كل الفائدة.." المعذبون في الأرض، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1996، ص 25.
(14) أصبحت هذه تفرقة شائعة لدى نقاد القص المعاصرين، وأصبحت هناك كتب كاملة في هذه التفرقة التي ابتدأها الشكلانيون الروس، راجع مقالة جوناثان كلر
Story and Discourse in The Analysis  of Narrative in The Pursuit of Signs , Routledge & Kegan Paul, London 1981, p: 169.
(15) هذا ما يلاحظه حسين نصار في فن القصة عند طه حسين، مرجع سابق، صص42-43.
(16) راجع هنا تقديم طه حسين لمجموعة "جمهورية فرحات" عام1956،وهو التقديم المنشور ضمن المجلد الضخم الذي نشرته الهيئة المصرية العامة للكتاب عن يوسف إدريس : "يوسف إدريس 1927-1991"، إشراف سمير سرحان، إعداد اعتدال عثمان، القاهرة 1991
وراجع أيضًا ما كتبه شكري عياد في كتاب "القصة القصيرة في مصر، دراسة في تأصيل فن أدبي" عن دور كتاب "المعذبون في الأرض"  في الانتقال بالقصة المصرية القصيرة إلى الواقعية، عبر تدمير الشكل الرومانسي الذي استقر في الثلاثينيات.
(17) من اللافت حقًا أن يستخدم حسين نصار حديث الراوي القصصي المتخيل إلى القارئ، في دراسة عن الإبداع الفني عند طه حسين، ناظرًا إلى أقوال الراوي وتعريفاته باعتبارها أقوال المؤلف الحقيقي/ طه حسين. راجع حسين نصار: دراسات حول طه حسين، دار الكتب للطباعة والنشر، جامعة الموصل، العراق 1976.
(16) طه حسين : الحب الضائع، دار المعارف، القاهرة 1994، ص 114(ط1 1942)
(17) راجع هنا على سبيل المثال:
-      
 جابر عصفور: المرايا المتجاورة، مرجع سابق، ص ص 391-407.
-        سيد حامد النساج: بانوراما الرواية العربية، دار المعارف، القاهرة، 1980، ص 42.
-        حسين نصار: فن القصة عند طه حسين مرجع سابق.
-        محمود الحسيني المرسي: الاتجاهات الواقعية في القصة المصرية القصيرة، منشأة المعارف بالاسكندرية، 1984، ص 288.
-        عبد الرحمن أبو عوف: إشكالية أسلوب وبناء(؟) الرواية عند طه حسين، مجلة القاهرة، أبريل 1995.
(18)سهير القلماوي : ذكرى طه حسين، دار المعارف(سلسلة اقرأ 388)، القاهرة 1974، ص ص 111-121.
(19)حسين نصار : دراسات حول طه حسين، مرجع سابق، ص ص 43-44.
(20) سيد حامد النساج : أحاديث طه حسين، مرجع سابق، ص 309.
(21) عز الدين إسماعيل : أنا المتكلم طه حسين، مجلة فصول، اكتوبر 1990، ص 15.
(22) جيرالد برنس : مقدمة لدراسة المروي عليه، مرجع سابق، ص 89.
(23) طه حسين : خصام ونقد، دار العلم للملايين، بيروت 1955، ص 129.
(24) طه حسين، توفيق الحكيم : القصر المسحور، دار المعارف، سلسلة اقرأ 356، أغسطس 1972(ط1 1936)
(25) طه حسين : أحلام شهر زاد، الطبعة السابعة، دار المعارف، (ط1 العدد الأول من سلسلة اقرأ يناير 1943)
(26) راجع وصف هذا الشاعر وجمهوره وعلاقة الصبي بمجلسه، ص 5 و ص16، من الجزء الول من كتاب الأيام، دار المعارف، الطبعة الحادية والستون1986، (ط1 1929)
(27) يقول روجر فاولر : "في القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، كان شخص "الأنا"، مؤلفًا كان أو راويًا على السواء يفترض انه في حوار مفتوح يتجه فيه إلى القارئ ويوجه إليه الكلام مباشرةً، ويلفت انتباهه إلى نشاطه كراوٍ للقصة، وإلى آرائه كإنسان. وكان أول الأمثلة على ذلك، هو الراوي/ الكاتب ذو الطابع الدرامي في رواية لورنس شتيرن "ترسترام شاندي". إنه كراوٍ يحارب معركة خاسرة على الدوام، في محاولة مستميتة لوضع حياته وآرائه على الورق، فضمير الأنا يؤكد الحضور الدائم للراوي، وعلامات الترقيم المضطربة توحي بنبرة الصوت المتكلم، والتوجه المباشر إلى المتلقي وضمير المخاطب "أنت" والتساؤلات البلاغية والجمل الطلبية.. كل أولئك ينطوي على حوار بين الكاتب والقارئ، أما ضمير الـ "نحن" فأقرب إلى الجمع بينهما.. وهكذا تؤكد هذه السمات نزوع الخطاب إلى أن يكون علاقة بين المتحدث والقارئ.." راجع :
Roger Fowler, Linguistics and The Novel, Methuen, London, 1977, pp : 81-82.

أما ولفجانج آيزر فيعقد فصلين كاملين من كتابه "القارئ الضمني" ، أحدهما لمناقشة دور القارئ في روايات فيلدنج، و الفصل الآخر يرى في القارئ جزءًا لا يتجزأ من بناء الرواية الواقعية في القرن التاسع عشر. راجع الفصلين الثاني والخامس من :

Wolfgang  Iser, The Implied Reader, The Johns Hopkins University Press, 1974.
(28) راجع المقدمة المطولة التي كتبها طه حسين لكتابه "جنة الشوك" ن وتحدث فيها عن الإبيجراما كفن عربي مهجور. وتجربة طه حسين في كتابة الإبيجراما تجربة غريبة ربما لم تتكرر في الدب العربي الحديث إلا في السنوات الأخيرة، في بعض القصص القصيرة جدًا، وفي كتاب نجيب محفوظ "أصداء السيرة الذاتية". راجع مقدمة "جنة الشوك"، الطبعة الحادية عشرة، دار المعارف القاهرة، 1986.

هذه المقالة هي الفصل الثاني من كتاب يصدر قريبًا بعنوان( "أنت" : ضمير المخاطَب ودلالاته في السرد العربي(