تكشف هذه الدراسة الجديدة في تحليلها لوظائف الاستعارة في الخطاب السياسي مدي إسهام السادات في ترسيخ خطاب إسلامي، يرتد بالجدل السياسي من الخطاب النقدي والعقلاني إلى إطلاقات الخطاب الديني ومصادراته.

التأريخ عبر الاستعارة

مصر قبل الثورة في خطب الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات (1970 ـ 1981(

عماد عبداللطيف

 

«علينا أن نحكي التاريخ الحقيقي لشعبنا». السادات

«الخطباء يقتلون من يشاؤون، كما يفعل الطغاة». أفلاطون

«إن الاستعارة تلعب دورا دالا في تحديد ما هو واقعي و حقيقي» لايكوف وجونسون

«من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي». جورج أورويل

 تعالج هذه الورقة وظيفة الاستعارة في خطاب تأريخي هو الخطاب الرئاسي. استناداً إلى افتراض مسبق مؤداه أن الخطاب التأريخى يمثل نوعاً من الخطابات البلاغية التي تستهدف تحقيق الإقناع أو التأثير أو كليهما. وأن البعد البلاغى للخطاب التأريخى يتجاوز كونه تجميلاً للغة إلى أن يكون مكونًا بنائياً للخطاب التأريخى، يكشف عن طبيعة هذا الخطاب ودوافعه، والأسس التي يقوم عليها، والأهداف التي يسعى لتحقيقها، انطلاقاً من تصور يرى أن جوهر الخطاب يكمن في الطريقة التي يتشكل بها. إن تأريخا ما ليس إلا فعلا لغويا. وفي الوقت الذي يستجيب فيه التأريخ للطبيعة الخاصة باللغة التي يكتب بها فإنه يجتهد في توظيف إمكانات هذه اللغة في تحقيق أغراضه هو. بصياغة آخرى؛ يكون التأريخ محكوما باللغة في الوقت الذي يوظفها بوصفها أداة لتحقيق أغراضه. إن الخطاب التأريخي يقوم بسرد أحداث وقعت في زمن معين، ووصف شخصيات وأماكن حقيقية. هذه الأحداث والشخصيات والأماكن نراها من خلال عين المؤرخ، التي لها زاوية تبئيرها الخاصة، التي تمثل وجهة نظر. هذا الخطاب يستهدف الإقناع، ويتشكل عبر اللغة التي يشكل الاستخدام الفردي لها أسلوبا. أي أن الخطاب التأريخي هو خطاب سردي إقناعي أسلوبي؛ أي خطاب بلاغي. وعلى ذلك فإن دراسة خطاب تأريخي ما لا تكتمل دون دراسة تكوينه البلاغي (كاربنترCarpenter 1995: 1-13). ونستخدم مصطلح التأريخ ليشير إلى فعل تسجيل التاريخ شفاهة أو كتابة. ونسمي مؤرخا كل من يقوم بفعل التأريخ عبر المشافهة أو الكتابة. ووفق هذا المفهوم فإن خطب السادات التي تتناول مصر قبل الثورة هي نوع من أنواع التأريخ نسميه تأريخ القادة. ونقصد به التأريخ الذي يصدر عن المسئولين السياسيين مثل الملوك والرؤساء.

موضوع هذه الدراسة هو الصورة التي يقدمها رئيس دولة هو السادات لمصر في عهد ما قبل ثورة يوليو 1952. هذه الصورة تقدم بوصفها "تاريخ مصر في تلك الفترة"، مكونةً خطابا تأريخيا. إن تحليل هذه الصورة يتحقق من خلال تحليل أدوات تكوينها وتشكيلها. من هنا كانت ضرورة دراسة الاستعارات التصورية المبنينة لإدراك السادات لصورة مصر قبل الثورة، استنادا إلى طرح لايكوف وجونسون الذي يذهب إلى أن النسق التصوري البشري مبنين استعارياً. (لايكوف وجونسون 1980). وكذلك دراسة الاستعارة بوصفها أداة من الأدوات التي يستخدمها السادات ـ بوعي أو دون وعي ـ لتحقيق أغراض تأريخه في حال تحول هذا التأريخ إلى خطاب. وعلى ذلك تحاول الدراسة، من خلال تحليل الاستعارات التصورية المتعلقة بصورة مصر قبل الثورة في خطب السادات، أن تكشف عن طبيعة هذه الصورة، وكيفية تشكلها. كما تدرس كيفية تضام الاستعارات المكونة للصورة والمصادر التي استمدت منها. وقد أولت الدراسة اهتمامًا كبيرًا لتحليل السياقات التي استخدمت فيها هذه الاستعارات، لتعميق الوعي بطبيعة الاستعارات من ناحية، ومحاولة الوقوف على الوظائف التي تسعى لإنجازها من ناحية ثانية. إن تحليل صورة مصر قبل الثورة ـ كما تتبدى في خطاب أحد رجال الثورة، التي أطاحت بها ـ يتيح لنا دراسة الكيفيات التي تصاغ من خلالها صورة للعهد البائد، تختلف بدرجة كبيرة قد تصل إلى حد التناقض عن الصورة التي كان يقدمها العصر لنفسه، قبل أن يكون بائدا. كما يمنحنا إمكانية دراسة الصورة التي يقدمها العصر الجديد لنفسه بوصفه مغايرا للعصر البائد.

1ـ1: مقدمة في تاريخ القادة

إن القادة لا يشتركون في صنع التاريخ فحسب بل يشتركون في كتابته أيضاً. وفي الوقت الذي يكتسب فيه شخص ما لقب الرئيس أو الملك يكتسب لقباً آخر هو "المؤرخ". ويضاف إلى التاريخ تأريخاً جديداً ينعت نفسه دائماً، وبقوة، بأنه "التاريخ الحقيقي". هذا التاريخ المنطوق، وأحياناً المكتوب، سرعان ما يوثق وينشر ـ بقدر الحاجة إليه ـ من خلال كتبة التاريخ، الذين يحملون على عاتقهم ـ لأسباب مختلفة ـ ترسيخ هذا "التاريخ الحقيقي" بين الناس وفي المؤسسة الأكاديمية. ولأن التاريخ صامت ينطق به المؤرخون فسرعان ما يصبح هذا التأريخ هو النسخة المتداولة والمقبولة والآمنة وبالطبع "الحقيقية".

لتأريخ القادة، في الوقت الراهن، خصوصيات عدة منها أولاً: كونه واسع الانتشار والتأثير بين فئات المجتمع المختلفة نتيجة لتعدد وسائط الاتصال التي تقوم بتقديمه. فهو ينتشر عبر وسائل الاتصال الجماهيري من قبيل التليفزيون والإذاعة والصحف. هذا الانتشار يعطيه خصوصية أخرى هي قدرته على صياغة الوعي التاريخي للفئات الاجتماعية غير المتعلمة. فهو قد يمثل التاريخ الوحيد المتاح. حيث لا تتوفر في الغالب إمكانية وصول أي تاريخ بديل إليهم. ويؤثر انتشار هذا التأريخ عبر وسائل الاتصال الجماهيري في لغته المستخدمة التي تنحو إلى الشائع والمستخدم من المفردات، والبسيط من التراكيب، وتوظف المتداول من التعبيرات الاصطلاحية والمصاحبات اللفظية والأمثال. ثانياً: يكتسب هذا التأريخ قوةً ونفوذاً استثنائيين، خاصة بين غالبية المؤرخين الذين يؤيدونه أو يسكتون عنه لأسباب لا ترجع إلى التاريخ ذاته، وإنما إلى الصفة الرسمية لمن صدر عنه. ثالثاً: براجماتية هذا التأريخ. فهو يستهدف، غالباً، التأثير في جماعة معينة في لحظة زمنية/ تاريخية معينة. وهو ما يكسبه صفات من قبيل الانتقائية؛ لكونه يختار من الأحداث ما يحقق الهدف المرجو، والطبيعة الأمثولاتية، فالحدث التاريخي يقدم، غالباً، مسبوقاً ومتبوعاً ومتخللاً بالعظة والمعنى والدلالة والحكمة التي يجب أن يتعلمها "الشعب". ويُكْسِبُ ذلك بدوره التأريخ طابعاً تعليمياً واضحاً. كذلك يتحول فعل التأريخ إلى حكي شفاهي غالباً، مكتوب أحياناً. يحقق هذا التحول وظيفتين؛ الأولى: تقريب التاريخ إلى الجماهير عبر الاستفادة من النزوع البشرى الطبيعي نحو تقبل الحكي والاستمتاع به، وتحويل التاريخ إلى حكاية أمثولاتية من السهل أن تفهمها الجماهير، وأن تعيد روايتها لآخرين. والثانية: تهميش الحاجة إلى التوثيق في سياق الحكي الشعبي. رابعاً: أن المؤرخ/القائد حين يؤرخ لأحداث كان شريكاً فيها يصبح هو الراوي والمؤلف والبطل. وهو مالا يتسنى ـ غالبا ًـ للتأريخ الأكاديمي الذي يكون المؤرخ فيه هو المؤلف والراوى، ولكن دون إمكانية لأن يصبح "البطل". وهو ما يكسب تأريخ القادة صفتي الشهود والمعاينة اللتين ينظر إليهما المدافعون عن هذا التأريخ بوصفهما مرادفين للـ "المصداقية". خامساً: أن هذا التأريخ يمثل سياقاً فرعياً في إطار سياق أكبر يحتويه، قد يكون خطبة أو حواراً صحفياً أو مقابلة تليفزيونية أو كلمة أو حديثاً أو رسالة أو بياناً أو سيرة ذاتية، أو غيرها من السياقات التي يقدم فيها القائد تسجيله للتاريخ. ومن الطبيعي أن يتأثر تأريخ القادة بالطبيعة النوعية للسياقات الكبرى التي تحتويه لنكون أمام تأريخات متباينة أسلوبياً، لكنها تشكل تأريخاً واحداً من حيث الرؤى التي تؤطرها والأهداف التي تبتغيها، وقدرتها على نعت أى تأريخ مختلف بأنه "مزيف" لأنها تملك القوة لقول ذلك.

يقوم اختيار خطب الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات مادة لهذه الدراسة على عدة أسباب؛ الأول يتعلق بطبيعة الخطب بوصفها أكثر الممارسات اللغوية الرئاسية اتصالاً بالجماهير، وكون بنيتها تتيح مجالاً فسيحاً للتأريخ سواء المعد سلفاً أم المرتجل. الثاني يتعلق بالسادات نفسه الذي كان يولي اهتماماً كبيراً لعملية التأريخ، وكان لديه وعي نظري بدور التأريخ في تشكيل اتجاهات الجماهير وسلوكياتهم، وكانت خطبه مجلى لوعيه بأهمية التاريخ و أبرز وسائل ممارسة هذا الوعي في الوقت ذاته.

يربط السادات بين وعي المواطن بالتاريخ وقدرته على القيام بمسئولياته؛ لذا فقد أخذ على عاتقه تقديم "حقائق التاريخ" للشعب، حتى يتفهم الشعب مسئولياته، يقول فى خطبته فى 23/11/1978 ( ص347 )، "هذه هى حقائق التاريخ عن الديمقراطية السائدة قبل ثورة 23 يوليو .. لقد تقدمت لكم بهذا العرض التاريخى السريع لكى نتفهم معاً كل مسئولياتنا حاكمين ومحكومين." وبذلك يفعَّل التاريخ ليصبح تبريراً لفعل أو تحريضاً عليه. ولكى يؤتى التأريخ ثماره فإنه ينعت نفسه دائماً بـ "الحقيقى" وتصبح الروايات الأخرى "تزييفاً للتاريخ" من الواجب القضاء عليها حتى لا تستخدم فى "تضليل أجيالنا المقبلة". لقد كانت "الأجيال المقبلة" هى المستهدفة بالتأريخ لذلك فهو دائم التوجه إلى الشباب يطلب منهم أن يعرفوا "الحقيقة" منه. يقول فى نفس الخطبة ص343 "أستعيد معكم اليوم هذه الحقائق المؤلمة ... لكي يعرف ولكي يعي شبابنا مدى الخداع والتبجح لتلك الأصوات التى حاولت أن ترتفع بالأمس القريب لتضيف تزييفاً جديداً للتاريخ".

تنبع مصداقية تأريخ السادات من وجود صفة شخصية فيه ـ أعنى السادات ـ فقد أكد أنه قد أخذ عن ربه بعض صفاته فغدا لا يبدل القول لديه وليس بظلام للعبيد يقول "لا يجب أن نخفى الحقائق عن شعبنا، ولا أن نضلله، ولا أن نزيف التاريخ أبداً. لا أقبل هذا. وسمعتمونى وأنا فى الجيش الثانى أقول: علمنى ربى ألا يبدل القول لدى، وعلمنى ربى ألا أكون ظلاماً للعبيد." هذه العطايا الإلهية عضدها كون السادات شاهداً وشريكاً فى كثير من الأحداث التى يؤرخ لها. وقد غدا من الطبيعى فى ختام نص تأريخى أن يقول "لا يستطيع إنسان أن ينكر ذلك [يشير إلى تأريخه] لأن التاريخ لا يزيف، ولو أنهم حاولوا ببجاحة حقيقية من وقت من الأوقات أن يزيفوا التاريخ علانية، ونحن شهود وأحياء".

يرى السادات أنه من الواجب أن "نحكى التاريخ الحقيقى لشعبنا" حتى لا تتاح فرصة لهؤلاء "المتبجحين" "المخادعين" "المزيفين"، الذين يحاولون أن يقدموا رواية تاريخية مغايرة تضلل الشعب والأجيال القادمة. ولتحقيق هذه المهمة الوطنية، أعنى "حماية تاريخ مصر من التزييف" يجد لزاماً عليه أن يستمر فى الحكم بعد انتهاء فترة رئاسته الدستورية الثانية، رغم أنه فى الحكم لمن الزاهدين. يقول فى خطابه فى 8/12/1978 "كان لابد أن أنزل إلى الشارع السياسى حيث وجدت أن أمراً رهيباً يحدث، هو أن تاريخ مصر يزيف. نزلت لأقول لكل واحد منهم مكانك .. كنت أكتفى بأنه متى تنتهى مدة الرئاسة الحالية تتولى الأجيال التالية المسئولية، ولكن للأسف وجدت البعض عاوز يزيف تاريخ مصر" ص365 وهكذا اضطر الرئيس السادات إزاء هذا الخطر أن يتولى رئاسة البلاد مدة رئاسية جديدة، حتى يستطيع القيام بالمهمة الجليلة؛ أعنى تنظيم حركة المؤرخين؛ فهؤلاء الذين يقدمون "التاريخ الحقيقى" يقول لهم "تحركوا"، وهذا الذى يريد تزييف تاريخ مصر يقول له "مكانك".

1ـ2: سياقات الحديث عن مصر قبل الثورة في خطب الرئيس السادات

جاء حديث السادات عن مصر قبل الثورة في ثلاثة سياقات أساسية: الأول: سياق الاستدعاء المناسباتى المقترن بذكرى ليلة التحول من "العهد البائد" إلى "العهد الجديد"؛ أعنى ذكرى الثالث والعشرين من شهر يوليو. وهي ذكرى سنوية كانت خطبة الرئيس أحد طقوسها الأساسية. هذه الخطبة السنوية كانت تدعم الصورة النمطية لمصر قبل الثورة التي قدمها جمال عبد الناصر. واقترن فيها استدعاء الماضي باستعراض الحاضر، في واحدة من المقارنات الأثيرة لدى الزعيمين. ونلاحظ أن الخطب التي ألقاها السادات في هذه الذكرى قبل حرب أكتوبر كان الاستعراض فيها مهيمناً على الاستدعاء. أما ما بعدها فقد أصبح الاستدعاء غالباً. بعد أن أضاف السادات "ثورة" مايو، و"انتصار" أكتوبر إلى قائمة المستدعيات. باستثناء خطب ما بعد العام 1976 كان السادات يقدم مشهداً بانورامياً للحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مصر قبل الثورة. كان يقدم هذا المشهد عبر جمل وصفية طويلة مشبعة بالمجازات الأدبية، مستخدماً ـ في الغالب ـ اللغة الفصحى التي تختزن بلاغتها التقليدية. هذه المشاهد تمثل نموذجاً للتأريخ عبر الوصف؛ أي التأريخ المقدم من خلال وصف العناصر المكونة لعصر ما. هذا الوصف يكون قيمياً وذاتياً وفي الغالب تستخدم لغة أدبية في تكوينه، ويستهدف تكوين صورة نمطية يقوم المجاز بإضفاء الطابع الكاريكاتورى عليها، بما يجعلها أكثر قابلية للثبات وقدرة على التأثير. ويقوم المؤرخ/ الخطيب، ببناء تأريخه عبر سلسلة متصلة من الاصطفاءات والإقصاءات للأحداث والأزمنة والأمكنة والشخوص الموصوفة. وتبدو عملية الاصطفاء والإقصاء ذات طبيعة حتمية نتيجة للانهائية الأحداث المكونة لعصر ما، ولانهائية التفاصيل المكونة للحدث الواحد وتشابكها وارتباطها. إضافة إلى غرضية التأريخ المقدم. ويتيح ذلك للمؤرخ/ الخطيب الاختيار من بين هذه التفاصيل والأحداث وفق معايير يصطنعها مثل قوة التعالق بين العناصر المختارة، ويدخل فيها علاقات المشابهة والسببية، والاستلزام، والاتساق، والتزامن، أو مدى موثوقيتها، ولكن بشكل أساس مدى تحقيق هذه المختارات لأغراض التأريخ.

يقوم التأريخ عبر الوصف بتسكين التاريخ في لحظة معينة تمثل مشهداً يعمد المؤرخ/الراوي إلى تصويره. ولأن المشهد ليس إلا ما يراه "الراوي"، فإن التأريخ ليس إلا وجهة نظر. ولكن ـ ولأنها تمتلك القوة ـ فسرعان ما تتحول "وجهة النظر" إلى "الحقيقة"، أو "الواقع"، أو "ما حدث بالفعل"، أو "التاريخ الحقيقى". والخطوة التالية على ذلك هي سحب المشهد التاريخى الذي تم تكوينه بواسطة الراوي، وتشكيله عبر المجاز على الفترة التاريخية المستهدفة ليصبح التاريخ مشهداً متكرراً. وهو ما يعنى إغفال دينامية التاريخ وتطوره. إن الصورة النمطية التي يكونها المشهد هي صورة لا زمنية، وبذلك تصبح لا تاريخية أيضاً، رغم أنها تقدم نفسها دوماً بوصفها "التاريخ الحقيقى". تهيمن هذه الصور النمطية المشهدية لمصر قبل الثورة على نصوص السياق الاحتفالى بثورة يوليو، وعلى نصوص السياق الثاني الاحتفالي أيضاً، لكنه احتفال رثائى؛ أعنى ذكرى جمال عبد الناصر الذي اقترن اسمه بثورة يوليو، وكان التأريخ لمصر قبل الثورة أحد الأهداف الدائمة لخطب تأبينه. في هذا السياق أيضاً نرى نفس المشهد البانورامي، ولا نكاد نرى اختلافاً جوهرياً إلا أن خطب هذه المناسبة في السنوات الأولى من وفاة عبد الناصر كانت تركز بشكل كبير على دور عبد الناصر في صنع الثورة وتحمله مسئوليتها، ولكن بعد العام 1974 تراجع تركيز السادات على هذا الدور واتجه إلى نقد حكم عبد الناصر ذاته، ولم تتعرض الصورة النمطية المقدمة لمصر قبل الثورة للتغيير في بنائها أو في إجراءات تشكيلها. السياق الثالث لحديث السادات عن مصر قبل الثورة، اقترن بنقد السادات للأحزاب القديمة، خاصة ما أعيد تشكيله منها بعد السماح بتعدد الأحزاب. وتمثل نصوص هذا السياق غالبية النصوص المؤرخة لمصر قبل الثورة.

تقدم هذه النصوص سرداً شبه تفصيلي لبعض الأحداث التاريخية المتعلقة بنشأة الأحزاب وتطورها منذ عشرينيات القرن الماضي وحتى قيام الثورة. هذه الأحداث لا تقدم في خط زمني متصل، بل تتجاور أحداث تنتمي إلى أزمنة مختلفة، وربما يرجع ذلك إلى الطبيعة الانتقائية لهذه الأحداث، وكون معظم الخطب التي كونت هذا السياق خطباً ارتجالية. واللغة المستخدمة في هذا السياق غالباً ما تكون اللغة العامية الساخرة، التي تختزن بدورها بلاغتها الخاصة. ولم أفصل في تحليلي بين نصوص كل سياق، فقد تعاملت مع خطب السادات كخطاب واحد متصل.

تتضمن لائحة الاستعارات التي استخدمها السادات استعارات متعددة، تخص مختلف مناحي الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مصر قبل الثورة، من قبيل: مصر/ جسد نجس، إنسان في غيبوبة، ناقة منفلتة الزمام. نظام الحكم السابق على الثورة/ حيوان فاسد، فرس هائج، جسد متعفن، سجن، رحى، بناء منهار. أحزاب ما قبل الثورة/ جسد مدنس، جسد مهترئ، جسد منتن، وحوش. حياة مصر قبل الثورة/ جاهلية. وغيرها من الاستعارات التي تعالجها الدراسة. وقد اعتمدت الدراسة على النسخة الخطية لخطب الرئيس السادات والتي أصدرتها الهيئة العامة للاستعلامات بمصر. ولم ترجع إلى النسختين المسموعة والمرئية إلا في المواضع التي تضمنت مشكلات في كتابة النص، واقتصر دورهما على إقامة النص.

2ـ1: ما قبل الثورة وما بعدها: مصر من الجاهلية إلى الإسلام

قدم السادات تأريخه للعهد السابق على الثورة استناداً إلى استعارة مركبة غدت حياة مصر ما قبل الثورة وفقها مطابقة للحياة الجاهلية، التي ترسخت صورتها في أذهان المصريين في شكل صورة نمطية استقرت منذ قرون طويلة عبر الخطاب الديني الشعبي والرسمي. تتكون هذه الاستعارة من أجزاء مترابطة. كل جزء يمثل جانباً من جوانب الحياة في المجتمع المصري قبل الثورة. كل جزء له اكتماله الداخلي، ويمكن قراءته مستقلاً. لكنه يتشارك مع الأجزاء الأخرى في تكوين الصورة الكلية أعنى: مصر قبل الثورة/ جاهلية. يكشف اكتمال هذه الاستعارة وبراعة نسجها وانتشار جزئياتها وتكرارها عن إلحاح السادات على غرسها في أذهان الشعب. وسوف يكون عرض أجزاء الاستعارة خطوة أولى نحو تركيب المشهد الاستعاري كاملاً.

2 ـ 1 ـ 1: دولة الثالوث والطاغوت: مصر من الإشراك إلى التوحيد

 ينعت السادات مصر قبل الثورة بأنها "دولة الثالوث". وينعت الحكم المهيمن وقت الثورة بأنه "حكم الثالوث". على سبيل المثال، يقول في خطابه في الاجتماع الطارئ للجنة المركزية في يونيو 1978".. أقصى اليمين عايز يرجعنا للفساد وما كان يحدث في دولة الثالوث إياه" ص753، ويعرف في خطابه في المؤتمر الشعبي بتلا في أغسطس من نفس العام هذا الثالوث بقوله "تخلصت ثورة يوليو من الثالوث أي الملك والاستعمار والأحزاب بزعاماتها التقليدية التي نخرها السوس" ص134. أما في خطابه في الاجتماع الأول للجنة التأسيسية للحزب الوطني فيؤكد أن "هؤلاء الثالوث الذي كان يتحكم في شعب مصر، انتهى أمرهم إلى غير رجعة" ص 95. يربط المصريون ربطاً شبه آلي بين "الثالوث" والديانة المسيحية، حيث تستخدم الكلمة للإشارة إلى "الأب والابن والروح القدس". واستخدام الكلمة في غير هذا السياق نادر. وعلى ذلك فإن استخدامها في سياق جديد ربما يستدعى بعض معاني السياق الأصلي المستقر في الأذهان. إن استخدام هذه المفردة بدلالاتها الدينية المسيحية في مخاطبة جمهور ذي أغلبية مسلمة "موحدة" من قبل رئيس ينعت نفسه بـ "الرئيس المؤمن" ربما يكون له بعض الدلالة. فمن وجهة نظر المسلمين "الأغلبية" تعد عقيدة التثليث أي عبادة الثالوث إشراكاً وكفراً بالله> وتقوم بإزائها عقيدة التوحيد أي عبادة الواحد. ويؤدى استخدام مفردة الثالوث وصفاً للحكم وللدولة وللعهد السابق على الثورة إلى نقل صفات المجال الأول؛ أعنى الإله، إلى المجال الثاني؛ أعنى الحكم. ويُفعِّل التراث المصري القديم عملية النقل، من جهة انطوائه على ممارسات عبادة الحاكم أو اكتساب الحاكم بعض صفات الآلهة. وينتج عن عملية النقل أن مؤسسات الحكم الثالوثي فيما قبل الثورة "الأحزاب خاصة" تصبح كافرة ومشركة. في مقابل الحاكم الفرد والحكم الفرداني بعد الثورة، الذي يمثل "الوحدانية". في خطابه في يونيو 1978 يضع السادات حكم الفرد في مقابل حكم الثالوث "..والنهارده لما العمال والفلاحين خدوا حقوقهم. وقام حكم وطنى. لأول مرة يحكم مصر حاكم مصرى منذ ألفين سنةK يبقى ده أصبح الديكتاتوري و. و. و. غريبة" يربط السادات في هذا النص بين فردية الحكم وحقوق العمال والفلاحين، وينعت الحكم الفردي بأنه حكم وطني في مقابل حكم الثالوث الذي كان فيه الفلاحون والعمال طبقة منبوذة، والذي يمثل بدوره حكماً غير وطني.

ظهرت هذه الاستعارة في عامي 1977، 1978، في الوقت الذي تصاعدت فيه جماهيرية حزب الوفد الجديد، وهو ما كان يمثل تهديداً للحكم الفردي للسادات، الذي كان يسعى في ذلك الوقت للحفاظ على مقاليد السلطة كاملة بين يديه. وقد حقق ذلك باستخدام إجراءين، الأول: إنشاء الحزب الوطني الديمقراطي، وتوليه رئاسته، ليصبح رئيس الدولة هو رئيس الحزب الحاكم الذي يمثل أغلبية في مجلس الشعب، وهو ما يعنى امتلاك السلطتين التنفيذية والتشريعية كاملتين. الإجراء الثاني: التخلص من الأحزاب المعارضة ذات الشعبية عن طريق تقويض شعبيتها تمهيداً لوقف أنشطتها. وكان من وسائل تقويض هذه الشعبية تقديم تأريخ للفترات التي كانت تحكم فيها هذه الأحزاب، يقوم بتشويهها عبر استعارات مؤثرة في المواطن المصري البسيط من قبيل: تعدد أطراف الحكم/ شرك، وفردانية الحكم/ وحدانية. مستفيداً بدرجة ما من وحدانية غالبية الشعب المصري بما يؤدى إلى حدوث عملية توحد لا إرادية بين الشعب والنظام الحاكم الوحدانيين في مواجهة الثالوث حكماً ودولة. وربما كان مما يدعم هذه الاستعارة أن حزب الوفد، منذ نشأته، احتضن المواطنين المصريين دون أي تمييز ديني. وقد لعبت شخصيات قبطية عديدة دورا كبيرا في تأسيسه واستمراره في الفترة الواقعة بين ثورة 1919 وثورة 1952.

تتشارك استعارة: تعدد أطراف الحكم/ شرك، مع استعارة: حكم فاروق/ وثنية في تكريس جاهلية مصر قبل الثورة. يصف السادات الحكم السابق على الثورة بأنه "بناء الطاغوت". ويصف الملك بأنه "طاغوت". خطاب السادات في 22 يوليو 1977 ص 540ـ542. الطاغوت هو "الصنم" و "الشيطان". وتتأسس وفق هذه المعاني استعارات يكون الملك فاروق بموجبها "شيطاناً" أو "صنماً معبوداً" ويكون حكمه بناءً شيطانياً أو صنمياً. ويصبح التحول من حكم فاروق إلى حكم الثورة هو تحول من حكم الأصنام والشيطان إلى حكم "جاء مع انبلاج الصبح". وهو ما يمثل وجهاً للتحول من الجاهلية/ الظلام إلى الإسلام/ النور، من عبادة الأوثان/ حكم الطاغوت/ فاروق إلى عبادة الله/ حكم عبد الناصر والسادات.

2ـ1ـ2: اقتراف الآثام وغلبة الشهوات والبلاغة: مناقب الجاهليين والحزبيين

تقدم معظم الكتابات المؤرخة للعصر الجاهلي صورة نمطية للجاهليين، يظهرون فيها رجالاً تأسرهم الشهوات. يقضون نهارهم في البغي والتناحر فيما بينهم. أما ليلهم فخالص للهو والمقامرة. يقترفون الآثام ولا يعرفون لشر حرمة، وأخيراً يحسنون الكلام ويَفتنون ويُفتنون بالبلاغة. هذه الصورة النمطية تكاد تنطبق حرفياً على نعت السادات لرجال أحزاب ما قبل الثورة، خاصة من كوّن منهم أحزاباً في عهد السادات. ففي خطابه في 14 مايو 1978 يؤرخ لأحزاب ما قبل الثورة، ويصفها بقوله "قعدوا يتخانقوا مع بعض وينقسموا على نفسهم. لما شفنا عدد الأحزاب اللى كان موجود قبل الثورة، واللى بيتبادل الحكم في ذلك الوقت، وكلهم أصلهم حزب واحد إنما المناصب وشهوة الظهور وشهوة الأنانية والذاتية، كل ده. نسيو الإنجليز وقعدوا يتخانقوا مع بعض لغاية ما قمنا في سنة 52 وقلنا لهم كفاية بقه". في هذا الخطاب يصور السادات رجال الأحزاب على أنهم دائمو التناحر، تأسرهم المناصب والشهوات، أما في خطابه في الاجتماع الأول للجنة التأسيسية للحزب الوطني فإنه يجعلهم مقترفي آثام "صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بإلغاء الأحزاب والحزبية لمدة ثلاث سنوات حتى تتطهر البلاد من كل تلك الآثام التي سبقت قيام ثورة 23 يوليو" ص101. هؤلاء الحزبيون، مقترفو الآثام أنجاس لابد وأن يتطهروا إذا أرادوا أن يدخلوا العهد الجديد "ونقول يا أحزاب طهرى نفسك، واتفضلى استلمى الحكم.. يا أحزاب طهروا أنفسكم لأنه الريحة.. نتنت، يا جماعة طهروا نفسكم" مايو  1978ص 442-443. إن فعل التطهر الذي وضعته الثورة شرطاً لدخول الحزبيين إلى عهدها يماثل فعل التطهر الذي وضعه الإسلام شرطاً لاكتمال دخول الكافر، الذي يرغب في أن يسلم، في الإسلام. أي اكتمال انتقاله من مجتمع الجاهلية وديانته إلى مجتمع الإسلام وديانته. إن شرط التطهر مبنى على تصور للآخر، الكفار/ الأحزاب والحزبيين، بوصفهم نجسا بينما يمثل الطرف الذي يمتلك مفاتيح العهد الجديد "رمز الطهارة". وسوف يكون شعار الطهارة والتطهر واجهة حزب العهد الجديد، ففي الاجتماع الأول للجنة التأسيسية للحزب الوطني يقول السادات "ليكن الحزب الوطني تراث الطهارة الثورية".

تكتمل استعارة رجال الأحزاب جاهليين عبر إسقاط ممارسات الجاهليين الترفيهية المشكِّلة لصورتهم النمطية عند الشعب على رجال الأحزاب، خاصة ترددهم على دور اللهو وموائد القمار. ويجعل السادات من حياة الملك ورجال الأحزاب لهواً خالصاً. فالأحداث السياسية المحورية مثل تشكيل الوزارات تتم في دور اللهو، وعلى موائد القمار "أرجو أن يعرف شباب اليوم.. أن الوزارات التي كانت تحكم مصر بشعارات الديمقراطية الزائفة كانت تؤلف في دور اللهو.. وعلى موائد القمار.." نوفمبر 1978ص344. يلح السادات عبر خطابات متعددة على نشر هذه الصورة لرجال الأحزاب والحكام، ففي مقدمة النص السابق يتقدم برجاء للشباب أن يكوِّنوا هذه الصورة، أما في خطابه بمناسبة الاحتفال باليوبيل الفضي لثورة يوليو فيتحول الرجاء إلى أمر ".. كلنا يعرف أو يجب أن يعرف كيف كانت أخطر القرارات تتخذ حول موائد القمار، وكيف كان الوزراء يحلفون اليمين ويستصدرون القرارات في جزيرة كابري الإيطالية المخصصة للهو" خطب السادات يناير ـ ديسمبر 1977 ص542. إن حياة اللهو والميسر ترتبط في أذهان العامة بالعصر الجاهلي، عصر اللهو والميسر، بينما يرتبط الإسلام بتحريمهما. وعبر عملية استبدال ثنائية يصبح رجال الأحزاب/ الجاهليين مستحقين ليس للإقصاء فحسب، بل للمحو تماماً.

يضيف السادات لاستعارته بعداً جديداً عن طريق نعت الأحزاب السابقة على الثورة، الساعية إلى تكوين أرضية شعبية إبان إعلانه تعدد الأحزاب، بصفة من صفات الجاهليين هي البلاغة. لقد نُعت العرب الجاهليون في الكتابات التي تؤرخ لحياتهم بالبلاغة. وكان اختيار القرآن الذي يمثل أعلى مستويات البلاغة ليكون معجزة محمد "ص" يستند إلى أن المعجزة يجب أن تكون من جنس ما يتقنه القوم المستهدفون بالرسالة، وما يبرعون فيه، حتى يدركوا تميز المنتج الإلهي المعجز/ القرآن عن المنتج البشرى مضمار تميزهم، أعنى بلاغة الجاهليين. وعبر نصوص متعددة ينعت السادات أحزاب ما قبل الثورة بأنها قائمة على البلاغة. يقول، "بدلاً من أن تأخذ الأحزاب بذلك [يشير إلى وضع خطط تفصيلية للعمل الحزبي] وتضع البرامج على هذا الأساس بالتفصيل أخذت بالمفهوم القديم ما قبل ثورة 23 يوليو أي بالانفعال وبالحماس والخطب والوعود والكلام المنمق في البرامج دون تحديد.. إذا ذهبنا إلى إنجلترا أو إلى أمريكا، إلى كل الدول، وبحثنا في برامج أحزابها لن تقرأوا الاستقلال التام أو الموت الزؤام، أو الخطب الحماسية أو الكلام المنمق كما كان يأتي في خطب العرش أبداً" يوليو 1978 ص64. ينتقد السادات أحزاب العهد السابق ورجالها البلاغيين/ خطباءً وشعراءً، الذين يقولون مالا يفعلون، ينمقون الكلام ولا يحسنون العمل، إنهم كشعراء الجاهلية يقولون مالا يفعلون، ومن يتبعهم هم الغاوون. أما حزب العهد الجديد، أعنى الحزب الوطني الديمقراطي فإنه يفعل دون أن يقول، لا يتوسل ببلاغة الشعر والخطابة وما ينبغى له. إذ "العمل السياسي لم يعد كما كان يمارسه البعض في الماضي، خطابة، زلاقة لسان.... أبداً" (من خطاب السادات في الاجتماع الأول للجنة التأسيسية للحزب الوطني ص95.)

2ـ1ـ3: المخضرمون: شهود العصر البائد والعصر الجديد

يُستخدم لفظ "المخضرمين" في الكتابات المؤرخة للعصر الإسلامي للإشارة إلى من شهد العصرين الجاهلي والإسلامي. وقد استخدم السادات نفس اللفظ للإشارة إلى من شهد عصر ما قبل الثورة وعصر ما بعدها. يقول في خطابه في الاجتماع الأول للجنة التأسيسية للحزب الوطني "كانت المعتقلات مفتوحة ما قبل وما بعد 23 يوليو، ولا يستطيع إنسان أن ينكر ذلك لأن التاريخ لا يزيف، ولو أنهم حاولوا ببجاحة حقيقية من وقت من الأوقات أن يزيفوا التاريخ علانية، ونحن شهود وأحياء وفيكم مخضرمين". يحاول السادات في هذا النص أن يكشف زيف ادعاء الأحزاب الجديدة بأنه لم توجد قبل الثورة معتقلات. ولتأكيد رأيه يستشهد بـ "المخضرمين" الذين لحقوا ما قبل الثورة وما بعدها. وعلى الرغم من أن الكلمة قد تعنى كل من شهد عهدين مطلقاً فإن المعنى الأول بإيحاءاته التاريخية يبدو الأقرب لمقصود المخاطِب وفهم المخاطَب لأنه الأكثر استقراراً في الاستخدام وشيوعاً في التداول، كما أنه ينسجم مع مجمل الصورة المقدمة لمصر قبل الثورة بوصفها/ جاهلية.

2ـ1ـ4: الأحزاب/ إطلاق الاسم لتدعيم المشابهة

قليلاً ما تعين خطب السادات حزباً محدداً، أو تصف الأحزاب بوصف تقييدي، بل تُستخدم فيها صيغة الجمع غير الموصوفة؛ أعنى: الأحزاب. والأحزاب هي تلك الطوائف الجاهلية التي تحزبت للقضاء على الإسلام. إن إطلاق الاسم دون تقييده يجعله مفتوحاً على الدلالات التاريخية له، والتي لحسن الحظ تخدم أغراض منشئ الخطاب. فالأحزاب قامت لتسقط دولة النبي (ص)، وتقضي على مستقبل المسلمين، ولكن الله شتت شملهم وردهم خائبين. وخطاب السادات حول الأحزاب السياسية لا يخرج عن ذلك؛ فالأحزاب "راغبة في الارتداد بالوطن إلى أيام عجاف، كانت الديمقراطية فيها محنة، والقانون في غيبة، والعدالة بعيدة عن الأذهان، والإقطاع سائداً، والشعب معانياً قاسياً." (رسالة السادات لمجلس الشعب 24/ 6/ 1978.) إنها تريده أن يرتد إلى حياة اللهو والمقامرة، إلى اقتراف الآثام وسيادة الشهوات، إلى من يقولون مالا يفعلون، إلى الجاهلية. هؤلاء الذين يخططون للارتداد إلى العهد السابق هم مرتدون، والمرتد ليس له إلا حد السيف؛ لذا فإن "الرئيس المؤمن" يواجه الأحزاب، ويشتت شملهم ليحفظ الدين والدولة من عبثهم.

يؤدي إطلاق الاسم "الأحزاب" إلى إنشاء استعارةٍ مؤسسةٍ تاريخيا. في هذه الاستعارة يتم إسقاط صفات جماعة تاريخية وأحداث تاريخية محددة على جماعة وأحداث معاصرة. وفق هذه الاستعارة، تأخذ الأحزاب السياسية صفة القبائل والجماعات التي حاربت محمد (ص)، ويأخذ الشخص والجماعة الذين يواجهون " الأحزاب" صفة النبي وجماعة الصحابة الذين يواجهون الأحزاب. ومن هنا يتولد التحريض عبر المشابهة التي تؤسسها الاستعارة. لكن هذا التحريض لا تُنتجه الاستعارة بمفردها؛ إنه كامن في معتقدات شريحة كبيرة من المصريين المسلمين. وهو بالأحرى كامن في الطريقة التي تفهم بها هذه الشريحة النص الإسلامي المقدس؛ أعني القرآن الكريم. ففي إطار قراءة لا تاريخية يمكن أن نصادف عبارة مثل العبارة الآتية "لقد جاءت كلمة الأحزاب في القرآن يحوطها الشر والعدوان، لقد بُلونا بالأحزاب والهيئات في مصر طوال نصف قرن فلم نلق فيها إلا العلقم والمر..إذا كانت الأحزاب قد زالت من مصر حينا فقد عادت بمثل ما تحمله معها من أثقال"(نقلا عن هالة مصطفى 1995: 207). هذه العبارة التحريضية ضد الأحزاب، قيلت في سياق هجوم السادات على الأحزاب. وصاحبها ليس مجرد رجل دين؛ إنه المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، كبرى جماعات الإسلام السياسي في مصر، وربما في العالم، والحليف الرئيس للسادات في معظم مدة رئاسته. هذا الربط بين أحزاب الجاهلية و"الأحزاب السياسية المعاصرة" يؤدي إلى قلب فعل التحريض. الخطاب السياسي، بداية، يدشن إطلاق التسمية بما يؤدي إلى علاقة المشابهة، وهو ما يتضمن تحريضا استعاريا ضد "الأحزاب السياسية". هذا التحريض الاستعاري يتحول إلى تحريض مادي من قبل الجماعات الدينية التي وقعت في شرك المشابهة الاستعارية، إن عمدا أو من غير قصد. وهو ما يؤدي إلى نشوء خطاب تحريضي مادي صريح، موجه من هذه الجماعات إلى الرئيس من ناحية وإلى أتباعها من ناحية أخرى. هذا التحريض يتم صياغته دون مجاز، وعبر تراكيب تحفيزية مثل السؤال. ومن ثم سوف لا نتعجب أن يقول عمر التلمساني في نفس سياق الصراع بين السادات والأحزاب " لماذا يمنح العهد الحالي للشيوعيين شرعية قانونية تبدو في شكل أحزاب يحترم الحكم وجودها ويوطد لهم قواعدها، ويمهد لهم الطريق للوصول إلى ما يهدفون".

2ـ1ـ5: القلة الباغية والبعث الجديد: صراع الظلم والإيمان

في خطابه في العاشر من يونيو 1978، يصف السادات عهد ما قبل الثورة بأنه "عهد المترفين الذين أفسدوا في الأرض. وكنا نحن الشعب الكادح بملايينه لا ننال نصيباً، أي نصيب من أرضنا، ولا مستقبل بلادنا.. لأن المستقبل كان للقلة.. لن نعود إلى الوراء.. لن نعود أبداً إلى عهود كان يستمتع فيها القلة الباغية.. كانت تستمتع بكل شيء في هذا البلد، وانتهى بها الأمر إلى أن أفسدت مترفين أفسدوها فحق علينا كلنا العذاب، ولكن إرادة الله لنا سبحانه وتعالى أن يكون هذا بعثاً جديداً" ص696. تتماس القلة الباغية في خطاب السادات بالفئة الباغية في النص القرآني، المهيمن أسلوبياً على نص السادات. والفئة الباغية في النص القرآني توضع في مقابل الفئة المبغي عليها التي يتعاطف معها "المسلمون". وعبر عملية النقل الاستعارية تأخذ الأحزاب والملك صفات الفئة الباغية بينما تضم الفئة المبغي عليها بقية الشعب. وتتعمق الاستعارة من خلال وصف القلة الباغية بالترف والفساد والإفساد المقترن بالصورة النمطية لكفار قريش، وبالوصف القرآني للمفسدين في كل الأمم، وهو ما يجعل الفئة الباغية/ الملك والأحزاب تستحق العذاب الذي كان سوف ينزل على الشعب أيضاً. ولكن الله ينقذ البلاد عبر "البعث الجديد". جلية ما تحمله كلمة "البعث" من إيحاءات تربط الثورة بالنبوة، وتجعل ممن قاموا بها-والسادات أحدهم-أنبياء. وهكذا تقدم صورة للعهد السابق على الثورة تشبهه بمجتمع قريش قبل الإسلام، وكل المجتمعات التي تستحق عذاب الله، فيه قلة فاسدة تبغي على كثرة مستضعفة/ الأحزاب والملك يبغون على الشعب، ثم تأتى الثورة/ البعث، ومعها قوادها/ أنبياؤها فيحطمون القلة الباغية، ويرجعون الحق للكثرة المستضعفة. إن الشعب المتدين بطبعه ينحاز دون وعي للكثرة المستضعفة، ويرفض القلة الباغية، ويقدس الأنبياء.

تستفيد استعارة مصر قبل الثورة/ جاهلية من الصورة النمطية للعصر الجاهلي في أذهان المصريين، والتي ترسخت عبر مئات السنين من خلال الخطاب الديني الرسمي والشعبي. الجاهلي وفق هذه الصورة النمطية هو مجلى كل النقائص البشرية، والعصر الجاهلي هو عصر الفظائع الوحشية والغرائز البهيمية في مقابل العصر الإسلامي ذي الوداعة والرهافة الملائكيتين. إن إقامة علاقة مشابهة استعارية بين نظام الحكم السابق على الثورة والحياة الجاهلية تؤدى إلى إسقاط الصفات المائزة للمستعار على المستعار له، فالاستعارة تلغي الحدود بين عنصريها تمهيداً لأن يحل أحدهما في الآخر. وعلى ذلك يصبح لعصر ما قبل الثورة، الذي يستهدف منشئ الخطاب تكوين صورة نمطية له، نفس الصورة النمطية للعصر الجاهلي. وهو ما يحول دون تحقيق وعي موضوعي تاريخي به. لا تكمن فعالية الاستعارة في استدعاء الصورة النمطية للعصر الجاهلي فحسب، بل في المشاعر والمواقف والاتجاهات التي تصاحب عملية الاستدعاء. فالشعب المصري المسلم يكره الجاهليين الكفار، ويتوحد مع المسلمين الأوائل في صراعهم مع الجاهليين. وعلى ذلك فإن إقامة علاقة المشابهة بين الأحزاب الجديدة والجاهليين تمثل تحريضاً غير مباشر على هذه الأحزاب، حيث يجد المصري المسلم نفسه في مواجهة كفار يريدون أن يحطموا دينه ووطنه. كما أن إسقاط نعت "الجاهليين" على رجال ما قبل الثورة يتضمن تبريراً مقبولاً إلى درجة كبيرة بين أوساط الشعب لما يمكن أن تكون الثورة قد فعلته بهؤلاء "الجاهليين"، وما ينوى السادات أن يفعله بمن بقي منهم، خاصة الوفديين الجدد الذين كانوا أحد المنافسين الفعليين للحزب الوطني الديمقراطي الذي كان يتزعمه الرئيس السادات في ذلك الوقت، وقد حظي حزبهم القديم "الوفد" بنصيب الأسد من نعوت الجاهلية.

إن وصف عهد ما بأنه جاهلي يستلزم فعل تحول إلى الإسلام. وبذلك تستمد الثورة مشروعية دينية، تجعل منها حدثاً مقدساً، وتخلع على القائمين بها وعليها صفات الأنبياء، وعلى أتباعهم بعض صفات الصحابة والأنصار، وتدشن قداسة الشخص التي تستمد من قداسة الفعل. كما تخلع على الخارجين عنها أو المعارضين لها بعض صفات الكفار والمشركين. والأنبياء لهم حق الطاعة المطلقة إذ يستمدون رأيهم من الله. أما المعارضون فليس لأحد أن يتعاطف مع مشرك. تٌدعِّم هذه الاستعارة صورة "الرئيس المؤمن" الذي اشترك في تحويل البلاد من عصر ما قبل الثورة إلى ما بعدها، والذي لم يدخر وسعاً في القضاء على الثالوث وتشتيت الأحزاب، والحفاظ على الدين والدولة.

2ـ2: الحكم/ حقيبة أو طرد

يصور السادات في خطابه في مايو 1978 الحكم على أنه حقيبة أو طرد، يحمله شخص ليسلمه للآخرين. هذه الاستعارة تشكل جزءاً من التصور الديمقراطي للحكم على أنه قابل للتبادل. لكن السادات يضع شرطاً لعملية "تسليم الحكم" هو أن تطهر الأحزاب نفسها. وهي استعارة تكون الأحزاب بموجبها جسداً دنساً. إن الطرف الذي يمتلك الحقيبة/ الحكم، يضع شرطاً لتسليمها، ويجعل من نفسه الحكم في وفاء الطرف الآخر/ الأحزاب، بالشرط المطلوب. وهي لن تستطيع، وفقاً لما صرح به، الوفاء بالشرط لأنها "مهترئة" "منتنة الرائحة" "ميتة ينخرها السوس"، وبذلك فهي غير كفء لأن "تتسلم" الحكم. إن ما يستوقفنا هنا أن التبادل يتم بين الأحزاب و "نحن" السادات و مجلس قيادة الثورة، فالشعب غائب كلية ليس له دور، إنه مجرد متفرج على عملية التبادل المشروطة، ولا يتجاوز دوره أن يكون شاهداً على العملية. يقول السادات "ونقول: يا أحزاب طهروا أنفسكم لأنه الريحة، والشعب موجود كله، شهود العملية موجودين، الريحة نتنت، يا جماعة طهروا أنفسكم، واتفضلوا استلموا الحكم" ص442-443. وهكذا فإن استعارة الحكم/ حقيبة تكتمل بأن تكون: الحكم حقيبة مملوكة لـ "نحن" التي تشير دوماً إلى من يمتلكها، والتي لا تحيل مطلقا إلى الشعب. أما تداول الحكم فهو وعد مشروط. ومن يمتلك الحكم له، وحده، الحق في تحري تحقق الشرط من عدمه.

2ـ3: هز الغربال(6) والمنخل(7): الشعب من الشوائب إلى النخالة(8)

تختص هذه الاستعارة بوصف عملية اختيار من يشغلون الوظائف الحكومية، ومن يُقبلون في الكليات العسكرية في عهد ما قبل الثورة. يقول السادات في حديثه في التليفزيون المصري في 24/7/1977 "قبل هذا الوقت (يعنى الثورة) كان أنت مين.. أبوك مين.. يملك إيه.. واسطتك مين. فده غربال.. وده منخل ماكانش بيفوت حاجة.. قعدوا يهزوا في الوسطات اللى جايه.. كنا داخلين حوالي ألفين مقدمين للكلية الحربية.. يهزوا. فضلوا الوسايط يرتبوها.. وكانت مبتدية من ولي العهد.. ولى العهد موصي على طلبة. وولي العهد كان أيامها البرنس محمد على اللى كان له دقن زى زمان.. قعدوا بقى يهزوا في الوسايط.. وبيرتبوا فينا.. لما طلعت أنا نمرة اثنين وخمسين" ص566.

ثمة استعارتان جزئيتان تكونان هذه الاستعارة، تمثلان مرحلتي عملية الاختيار، الأولى يكون الاختيار فيها هزاً لغربال ممتلئ بالطلاب الراغبين في الالتحاق بالكليات العسكرية، بهدف تنقيتهم. وتكون هذه الاستعارة مشهداً حركياً يتكون بدوره من عدة عناصر: فعل الاختيار/غربلة، أداة الاختيار/غربال، البشر ذو النفوذ/ حبوب، السلطة/ أيد قوية تهز الغربال. حركة/ هز الغربال. هذا المشهد الحركي مأخوذ عن عملية تنقية الحبوب التي تمثل طقساً شائعاً في حياة الفلاح المصري. ويتكون بذلك تشبيه تمثيلي تكون فيه عملية الاختيار هزا لغربال ممتلئ بالحبوب، والفلاح المصري يعرف أن عملية الغربلة تكتمل بـأن تلقى الشوائب/ البشر الذين لا يملكون نفوذاً، بعيداً، حيث لا يلتفت إليهم أحد. إن غربلة القوم ليست إلا "قتلهم وطحنهم." (المعجم الوسيط ج2 ص672) ويمكننا أن نرى في الشوائب/ القتلى، وفي الحبوب/ المطحونين. وبعد الطحن تبدأ العملية الثانية وهي عملية النخل التي تستهدف الفصل بين الدقيق/ ذوي النفوذ القوي، والنخالة/ ذوي النفوذ غير القوى. ليستخدم ذوو النفوذ خبزاً لعملية الحكم، وتستخدم النخالة لأغراض أخرى. ورغم أن العمليتين تستهدفان عزل غير المرغوب فيه فإن الشوائب مصيرها الإقصاء الكلى، أما النخالة فإنها تستخدم في أفعال أدنى. وتنطوى هذه العملية بدورها على مشهد حركى مأخوذ من الريف المصري، وعبر عملية الاستبدال التي تقدم بها العناصر يتكون لدينا مشهد جديد يتألف من عدة عناصر هي؛ فعل الاختيار/ نخل، أداة الاختيار/ منخل، البشر ذوو النفوذ القوى/ دقيق، البشر ذوو النفوذ غير القوى/ نخالة، والسلطة/ أيد قوية تهز الجميع لتغربلهم وتنخلهم. ومن هاتين الاستعارتين الجزئيتين تتشكل استعارة كبرى، تتكون من مشهدين حركيين؛ الأول: هز الغربال، والثاني: هز المنخل، هي عملية اختيار الضباط في الجيش/غربلة ونخل. إن اختيار فعلي الغربلة والنخل اللذين يعرفهما كل فلاح مصري في سياق التأريخ لأحد ممارسات النظام الحاكم قبل الثورة يسهم في خلق أرضية مشتركة بين منشئ الخطاب والمستهدفين به، وهم عامة الشعب، بما يجعلهم أكثر تهيؤا لقبول ما يتضمنه الخطاب. كما أنه ينطوي على تعريض بالنظام السابق على الثورة لأنه لا يوفر اختيارا عادلا، وهو ما ينطوي على معنى ضمني، هو أن العصر الحالي (أعني عصر السادات) يوفر هذا الاختيار العادل.

2-4: تاريخ أحزاب ما قبل الثورة: من وحوش مفترسة إلى أشباح كريهة

يمكن التمييز بين مرحلتين أساسيتين في تأريخ الرئيس السادات للأحزاب؛ الأولى تبدأ من توليه الحكم حتى العام 1976. ولم يتعرض فيها لأحزاب ما قبل الثورة إلا في جمل معدودة جاءت في إطار نقد عام للسلطة الحاكمة قبل الثورة. ولكن منذ العام 1976 تحولت الأحزاب القديمة لتصبح بؤرة الخطاب الساداتى حول مصر قبل الثورة. يظهر ذلك من مقارنة المساحة التي يشغلها حديثه عن الأحزاب القديمة في مقابل المساحة التي يشغلها حديثه عن مؤسسات الحكم الأخرى (الملك والإنجليز). وتخصيصه خطباً كاملة للحديث عن أحزاب ما قبل الثورة.(10) وأخيراً تصويره للأحزاب بوصفها مركز نظام الحكم قبل الثورة. وليس للمؤسسات الأخرى وجود في خطب هذه المرحلة إلا من حيث علاقتها بالأحزاب.

لقد تواكب تحول أحزاب ما قبل الثورة من موضوع هامشى مناسباتى إلى موضوع محوري مقصود لذاته مع تحول مصر من نظام الحزب الواحد إلى نظام تعدد الأحزاب. ففي محاولته تأسيس نظام حكم مغاير لنظام عبد الناصر، يتسق مع توطيد علاقاته بالغرب الذي يقدم نفسه بوصفه "ديمقراطياً"، سمح السادات بتكوين الأحزاب. وتكونت الأحزاب الجديدة مستندة في بعض ممارساتها وتصوراتها على تراث العمل الحزبي السابق على الثورة. وكان بعض رجال الأحزاب القديمة من مؤسسي الأحزاب الجديدة. واحتفظت بعض الأحزاب باسمها القديم. ولما كانت بعض هذه الأحزاب تحظى بسجل تاريخى جيد بما يعنى أنها يمكن أن تحقق أرضية جماهيرية، فقد عمد السادات إلى إعادة التأريخ لأحزاب ما قبل الثورة عموماً، وما أعيد تأسيسه منها بشكل خاص. تشكل تأريخ السادات لأحزاب ما قبل الثورة عبر آليات منها تجسيد الأحزاب في صور استعارية تسهم في خلق موقف نفسي جماهيرى منها، ويتدعم تأثير هذه الصور من خلال توليدها لتصورات ذهنية تستقر في عقل المخاطب وتعمل بعد ذلك دون وعي منه. وقد جسَّد السادات الأحزاب مستخدما استعارة كبرى هي الأحزاب/ حيوان، وحياة الأحزاب هي حياة هذا الحيوان. وتشكلت الاستعارة من استعارات جزئية بينت أطوار حياة هذا الحيوان وموته وأخيراً ظهور أشباحه.

في نص سابق تعرضنا للاستعارة الواردة في خطاب السادات في 22/8/1978، والتي يصور فيها الأحزاب في صورة وحش مفترس يعيش على دماء الشعب. وتظهر الأحزاب في هذه الاستعارة كما لو كانت دراكولا الشعب الذي يعيش "السنوات العجاف". لكن هذا الوحش سرعان ما يتحول، وفق استعارة السادات، إلى قطة متذللة إذا كان بحضرة الإنجليز أو الملك، لتقوم بـ " التمرغ في أعتاب المستعمر والقصر " نوفمبر 1978 ص351. وهكذا نكون أمام الطبيعة المتحولة للأحزاب، الطبيعة المفترسة أمام الشعب والطبيعة الوادعة أمام الإنجليز والملك. يجسد السادات عبر نصوص متعددة الأحزاب القديمة في صورة كيان مهترئ، ففي خطابه في 23 مايو 1978 يقول "وكأنه كان فيه وفد،(يقصد حزب الوفد)، وقتها واللا حزب تانى.. هم كانوا اهترأوا نهائياً.. وفساد حزب الوفد هو الذي عجل بالثورة.. يوم أن فسد الوفد واهترأ" ص 495. الفساد والاهتراء يدلان على فقدان الكيان لصفاته الطبيعية، وهو ما يؤدى إلى فقدانه القدرة على أداء الوظيفة المنوطة به بالشكل "الصحيح"، فإذا كانت الأحزاب قد اهترأت فليس ثمة مبرر لوجودها ثانية. وينطبق هذا خاصة على حزب الوفد المنافس، حيث ينطوى الوصف بالفساد والاهتراء على تحريض الشعب على نبذه، تمهيداً لحظر نشاطه من قبل السادات.

ُيستخدم لفظا "الفساد" و "الاهتراء" في سياق الحياة اليومية المصرية ليشيرا إلى فقدان القدرة على إشباع حاجتين بيولوجيتين أساسيتين هما "الغذاء" و "الكساء"، فكلمة "فساد" تكون مصاحباً لفظياً مع كلمة "طعام"، وبالمثل تكون كلمة "اهترأ" مصاحباً لفظياً مع الملبس/ الكساء. الغذاء الفاسد يقترن بالموت جوعاً أو تسمماً، والكساء المهترئ يقترن بالموت عاراً أو برداً. وهكذا ينطوى الحزب الفاسد المهترئ على هذه التهديدات مجتمعة. هذا الكائن المهترى شكلاً، الفاسد مكونات، يصفه السادات بالنتن الرائحة. ففي خطابه في مايو 1978 م يعيد على أسماع الحاضرين النداء الذي وجهته الثورة للأحزاب "يا أحزاب طهروا أنفسكم.. الريحة نتنت، يـا جماعـة طهروا نفسكـم " ص442 ـ 443. يتضافر اهتراء الشكل وفساد المكونات ونتن الرائحة في تكوين استعارة الأحزاب/رمم. ومن هنا تبدو مفارقة الدعوة لتسلم الحكم، فكيف يتسنى لكائن ميت أن يطهر نفسه؟ ومن هنا فقد استأثرت الثورة بالحكم، لأن الأحزاب، التي هي رمم في نظرهم، لم تستطع أن تطهر نفسها. وقد جاء اختيار فعل التطهر ليضيف موقفاً دينياً من الجسد/ الرمة، أعنى الأحزاب، تكون بمقتضاه دنساً ينجِّس من يقترب منها، وهي دائمة النجاسة لأنها لا تستطيع أن تطهر نفسها، ببساطة لأنها ميتة. هذه الرمة التي تخلصت منها ثورة يوليو كان السوس قد نخر عظامها، بحسب الصورة التي يقدمها السادات في خطابه في المؤتمر الشعبي بتلا 22 أغسطس 1978م ".. لم يعد العمل الحزبي يقبل مثل هذه المفاهيم بعد أن تخلصت ثورة يوليو من الثالوث أي الملك والاستعمار والأحزاب بزعاماتها التقليدية التي نخرها السوس" ص134. وبذلك تكتمل صورة الأحزاب القديمة التي نرى فيها شكلها المهترئ، ونشم رائحتها المنتنة، وندرك تكوينها الفاسد، ونشاهد السوس الذي ينخر عظامها بينما الدنس يغلفها. لكن الجسد الدنس الذي نخره السوس لا يتورع عن معاداة الحزب الوطني ممثل "الطهارة الثورية" وليس له من غاية إلا إعادة "أشباح الماضى الحزبية الكريهة" 1978، ص95. وهكذا تعيش الأحزاب وحوشاً، وتموت رمماً، ولا يتبقى منها سوى الأشباح، وعلى ذلك فقد "صدر قرار من مجلس قيادة الثورة بإلغاء الأحزاب والحزبية لمدة ثلاث سنوات حتى تتطهر البلاد من كل تلك الآثام التي سبقت قيام ثورة 23 يوليو" 1978، ص101. وقد كانت لدى السادات بعد خمس وعشرين سنة نفس الرغبة في تطهير البلاد من آثام الأحزاب. ففي مايو 1978 قام بـ "تطهير حياتنا السياسية.. ممن أفسدوا هذه الحياة قبل 23 يوليو وبعدها، وأرادوا للإنسان المصري.. عودة الديمقراطية المزيفة.. ديمقراطية المهاترات وشهوات فلول الإقطاع"نوفمبر 1978ص340.

تشكل تأريخ السادات للأحزاب القديمة عبر استعارة تجسيدية هي الأحزاب/ حيوان. وقُدمت الحياة الحزبية بوصفها حياة هذا الحيوان الذي نراه يتحول من وحش كاسر إلى رمة، ثم نتابع أشباحه التي تتجول في الوطن ساعية لهدمه، قبل أن يقيدها السادات باستفتاء مايو 1978. وعبر هذه الحياة يختار السادات من الصفات ما يزكى بغض الجماهير وخوفها واحتقارها لهذا الحيوان المفترس حياً، المفزع ميتاً؛ أعنى أحزاب ما قبل الثورة التي تجرأت مرة ثانية على الظهور.

2 ـ 5: مجتمع ما قبل الثورة/ غابة

تظهر هذه الاستعارة فى خطاب السادات بتنويعات مختلفة، ففى خطابه الذى ألقاه فى المؤتمر الشعبى بتلا فى الثانى والعشرين من أغسطس 1978 يجعل من الأحزاب وحشاً يحكمه الإنجليز، بينما يعيش على دم الشعب يقول "لم يعد العمل الحزبى حكراً على فئة لا تمثل إلا 1% يعيشون فى القاهرة على دم هذا الشعب كله،..، يعيشون على دم الشعب ويحكمهم موظف من السفارة البريطانية" ص134. أما فى حديثه للتليفزيون المصرى فى عيد ميلاده عام 1980 فقد حول الاستعارة إلى أمثولة يقول "انتهى الحكم/ الملكى اللى كان للأسف، يعنى، كانت السفارة البريطانية بتخوف الملك زى ما بتخوف زعماء الأحزاب، الباشوات إياهم دول، انتهى هذا الحكم، كانوا أسود على الشعب لكن كلهم زي القطط أمام السفارة البريطانية.

تضم غابة السادات الاستعارية ثلاثة كائنات؛ أ ) الملك والأحزاب، ب) بريطانيا، ج) الشعب. قام السادات بحيونة أحدها، أعنى الملك والأحزاب، الذين وصفهم بأنهم أسود على الشعب، قطط أمام بريطانيا، وسكت عن الطرفين الأخريين. لكن استكمال عملية الحيونة يأتى من طبيعة الدور الذى تلعبه الحيوانات المذكورة فى العالم الواقعى، فالأسد "الملك والأحزاب" حيوان مفترس. والشعب بدوره يصبح الفريسة، ويتحدد نمط العلاقة بين الطرفين بأنها "افتراس". لكن هذه الأسود ليست دائمة الأسدية، وإنما هى ذات طبيعة متحولة. فهي تصبح "قططاً" أمام السفارة البريطانية. هذا التشبيه التمثيلى الذى يجعل من الأحزاب والملك قططاً تنتظر أن يلقى إليها بالفتات يشي بتبعية القطط وتذللها، ويصبح الاستعمار أقرب إلى مروض الحيوانات الذى يحول الأسود إلى قطط تقوم بأفعال بهلوانية يدربها عليها مسبقاً لخدمة مصالحه.

هذه الأسود/ القطط تكون أليفة مادامت فى حضرة المروِّض، ولكنها سرعان ما تسترد أسديتها/ شهوة الافتراس إذا انفردت بالحيوانات الأخرى الضعيفة؛ أي (الشعب). هذه الحكاية الرمزية التى تصور وضع الشعب بالقياس إلى القوة الموجودة قبل الثورة تستهدف أمرين، الأول: إبراز أهمية الثورة للشعب لكونها، وفقا للاستعارة، المخلص الذى أنهى عملية "افتراسه"، والثانى: تكوين اتجاه شعبى معارض للأحزاب التى "افترست" الشعب فى فترة سابقة. والخطيب/الراوى/المؤرخ يستند إلى شغف الشعب بحكايات الحيوانات الرمزية التى تجعل الهدف أخفى والأثر أنجع وأبقى.

2 ـ 6: نظام الحكم قبل الثورة: سيرة حياة

تضم لائحة الاستعارات التي استخدمها السادات لوصف نظام الحكم السابق على الثورة استعارات هي، نظام الحكم السابق:

1-                رحى يطحن الشعب: 3 إبريل 1974، ص148، و16/ 7/ 1977، ص508.

2-                فرس جموح: 23 يوليو 1974 ص494.

3-                بناء منهار محترق: ذكرى ثورة التصحيح 1978 ص437.

4-                ميت ينخر فيه السوس: 22 أغسطس 1978ص134.

5-                جسد مهترئ: 16/ 7/ 1977 ص508.

6-                جسد متعفن: 23/ 7/ 1974 ص494.

7-                ميت خلَّف تركة من الأزمات: 28/ 9/ 1974 ص610.

يمكن تصنيف هذه الاستعارات في ثلاث مجموعات، الأولى: تصف علاقة النظام السابق على الثورة بالشعب، وتضم الاستعارات 1، 2. الثانية تصف حالة النظام الداخلية. وتضم الاستعارات 3، 4، 5، 6. أما الثالثة فتصف علاقة النظام السابق على الثورة بنظام الثورة وتضم الاستعارة رقم 7. الاستعارتان 1، 2 تقدمان مشهدين حركيين؛ الأول: مشهد الرحى وهي تطحن الحبوب. الثاني: مشهد الفرس الجموح الذي يهرس كل ما/من يقف أمامه. المشهدان يبدوان متباعدين للوهلة الأولى، لكنهما في الواقع متقاربان. ففي المشهدين ثمة قوة جبارة تتحرك بغير إرادتها لتقوم بطحن أو هرس شئ واحد هو الشعب. في المشهد الأول تأخذ السلطة شكل الرحى، ذلك الحجر الضخم الذي تحركه يد غير منظورة. وفي المشهد الثاني تأخذ السلطة شكل الفرس الجموح الذي أفلتته يد غير منظورة. والشعب الذي يُطحن بين شقى الرحى هو ذاته الذي يُهرس تحت سنابك الفرس الجموح. وإذا كانت الرحى جماد لا يعقل فإن الفرس الجموح هو أيضاً حيوان لا يعقل.

تختزل الاستعارتان السابقتان العلاقة بين النظام السابق على الثورة والشعب في علاقة طحن أو هرس. وحين يركز خطاب السادات الموجه نحو الشعب على هذه العلاقة وحدها فإن إحدى الوظائف المتوقعة لهذا الخطاب تكون التحريض؛ أعنى تحريض الطرف المطحون المهروس على الانتقام من الطاحن/ الهارس. والسلطة الجديدة تقدم نفسها بوصفها أداة الشعب التي تقوم بالانتقام باسم الشعب ولمصلحته. ويمثل بذلك البناء المجازى الذي قدمته الخطب للعلاقة بين الشعب والنظام الحاكم السابق على الثورة سندًا قويًا لنظام الثورة يدعم ممارساته ضد من كانوا يمتلكون مقاليد الأمور أو تنازعهم أنفسهم لاستعادتها. المجموعة الثانية تتضمن الاستعارات التي تصف الحالة الداخلية للنظام الحاكم قبل ثورة يوليو. تكون هذه الاستعارات استعارتين كبريين؛ الأولى: النظام السابق/ جسد. الثانية: النظام السابق/ بناء. النظام السابق في الاستعارة الأولى منعوت بالتهرؤ والعفن ونخر السوس؛ إنها صفات الجسد الميت. وبذلك لم يكن على الثورة إلا إعلان الوفاة. أما الاستعارة الثانية فيكون النظام السابق فيها بناءً منهارًا محترقًا. وقدر الثورة أن تشيِّد البناء من جديد. إن وظائف هذه الاستعارات تتعدى الإخبار عن الهيئة عن طريق الوصف، وما يتضمنه هذا الوصف من مبالغة مرجعها اكتساب شبه المجرد/ النظام الحاكم، صفات المادي/ الجسد أو البناء؛ إذ تنطوي الاستعارة على ما يمكن تسميته بقوة الفعل، فاستعارة الهدم تتطلب وتنجز في الوقت ذاته استعارة البناء، واستعارة الموت تتطلب وتنجز استعارة التوريث. وهكذا يولد النظام الجديد استعاريًا من رحم النظام القديم.

إن الاستعارة الوحيدة التي عثر عليها الباحث في خطب السادات والتي تتعرض للعلاقة بين النظام الحاكم قبل الثورة ونظام الثورة هي استعارة التوريث. حيث النظام القديم يخلف تركة قبيحة من "التخلف والاستغلال والتفاوت الاجتماعي الرهيب". وعلى النظام الجديد أن يرثها، أو بمعنى أدق، أن يقضي عليها. إن استعارة التوريث المنبثقة من استعارة الموت السابقة لا تثبت نسبًا بقدر ما تبرهن على قطعية. إذ إن ما خلَّفه النظام السابق لم يكن دينًا مستحقًا أو عملاً غير منجز، بل قوى مدمرة، يحدد نظام الثورة علاقتها بنظام ما قبل الثورة بأنها هي/ هو. وهكذا فعلى نظام الثورة أن يقضي على "تركة" النظام السابق التي ليست ـ من وجهة نظره ـ إلا نسله وبنيه.

المجموعات الثلاث تحكي حياة النظام القديم أو تاريخه. وتختزل الحياة والتاريخ في علاقتين وهيئة. ويصبح-وفق هذا التأريخ ـ النظام القديم باغيًا في علاقتيه، وميتًا في هيئته. إنه حكى يفعل أكثر مما يقول. يحرض الشعب على ما يُقدَّم لهم بوصفه عدوًا. ويؤسس لشرعية النظام الجديد.

 

ملاحظات

1-        "الغربال: أداة تشبه الدف، ذات ثقوب، ينقى بها الحب من الشوائب." المعجم الوسيط ج2ص 672.

2-        "المنخل: أداة لغربلة الدقيق وتصفيته من الشوائب". المعجم الوسيط ج2 ص 946.

3-        "النخالة: ما يتبقى في الغربال بعد هزه من طوب وحصى وقشور تكون مختلطة بالحبوب، والنخالة أيضاً هي البقايا التي تتبقى في المنخل بعد هزه". المعجم الوسيط ج2 ص946.

4-         على سبيل المثال: انظر خطاب السادات في اجتماع الهيئة البرلمانية للحزب الوطني 23/11/1978 م.

 

مصادر البحث ومراجعه:

السادات، محمد أنور. خطب وأحاديث الرئيس محمد أنور السادات، 1970-1981، الهيئة العامة للاستعلامات. القاهرة.

جورج لايكوف ومارك جونسن(1980). الاستعارات التي نحيا بها. ترجمة: عبد المجيد جحفة، نشر دار توبقال، المغرب، 1996.

مصطفى، هالة.(1995). النظام السياسي والمعارضة الإسلامية في مصر. مركز المحروسة للنشر، القاهرة.

المعجم الوسيط. مجمع اللغة العربية. 1985.

Carpenter, R, H. (1995). History as Rhetoric: Style, Narrative and Persuasion. University of South Carolina Press. USA.