يكشف الباحث المغربي المرموق هنا العلاقة الجدلية بين البلاغة والأيديولوجيا، ويميط اللثام عن الصلة بين العتاد البلاغي والممارسة الأيديولوجية، وتسخير الأيديولوجيا للبلاغة في خدمة مقولاتها منذ بدايات البلاغة في التراث العربي، وكيف أن "القراءات" البلاغية لإعجاز القرآن مثلا تصدر عن قصدية إيديولوجية.

البلاغة والإيديولوجيا

مصطفى الغرافي

لعلنا نتفق جميعا على أنه لا توجد معرفة بريئة، فالحياد النصي وهم إيديولوجي والبراءة الفكرية ضرب من المستحيل، ما دام كل خطاب معرفي يهدف -بالضرورة- إلى تمرير حمولة إيديولوجية. إن الإيديولوجيا، بمقتضى هذا الفهم،  ثاوية في الخطابات جميعها،  فليس ثمة خطاب – من وجهة النظر هاته- يمكن أن يعرى تماما من الإيديولوجيا. في ضوء هذا الفهم سنحاول في هذا المطلب إجلاء العلاقة بين المعرفة البلاغية والإيديولوجيا.

إن المتتبع لنظرية الأدب وتاريخ الأفكار يستطيع أن يستخلص أن ارتباط البلاغة بالخطابات الإيديولوجيا عامة، يمكن أن يرتد إلى السفسطائيين الذين اشتهر عنهم استخدام "العتاد البلاغي" من أجل استغواء المخاطبين واستقطابهم(1) . وهذا التلازم بين البلاغي والإيديولوجي ليس منفكا عن الرغبة في السيطرة وبسط النفوذ، ذلك أن هاجس السلطة أي سلطة إنما يتمثل في تحصيل "الشرعية"، التي تضمن لسلطانها الاستقرار والاستمرار. وهو مطلب عزيز ليس يسلم للسلطة إلا بكثير من القوة والعنف، ثم ما تلبث السلطة أن تدرك –بتوجيه من حدسها الطبيعي وتجربتها الواقعية- أن السلطة لا تستطيع الاستمرار إذا اقتصرت على القوة والعنف لانتزاع الاعتراف بشرعيتها، فتتوجه –من ثم- إلى البحث عن أساس مكين يسند استقرارها ويضمن استمرارها. وليس من سبيل إلى ذلك إلا بتقبل الذوات السياسية تلقائيا للسلطة ومصادقتهم عليها على سبيل الرضا والموافقة، وليس على سبيل القهر والإرغام. وهو ما تفطن إليه جاك روسو – أبرز المنظرين لـ"النظرية التعاقدية" بين الحاكمين والمحكومين، فقد قرر في كتابه "العقد الاجتماعي" أن "الأقوى لا يبقى أبدا على جانب كاف من القوة ليكون دائما هو السيد إن لم يحول قوته إلى حق والطاعة إلى واجب.)1)

وبما أن هذا الصنف العميق من الاعتقاد في شرعية السلطة القائمة لا يمكن تحصيله بالقهر والعنف الماديين، فإنه يصبح "من الضروري اللجوء إلى نوع آخر من العنف، نوع أكثر لطفا وتهذيبا وخفاء هو "العنف اللفظي" أو "العنف الرمزي"، وقد ارتبط خطاب السلطة دوما بسلطة الخطاب، وكلمات السلطة بسلطة الكلمات، وبهذا المعنى فالبلاغة ليست مجرد حلية ترفيه جمالية في الخطاب الإيديولوجي، بل هي براعات ذات وظيفة".(3) إن البلاغة واجدة في الإيديولوجيا حقلا تطبيقيا خصيبا للعديد من سماتها ووظائفها. ومن هنا وجدنا الصلة تنعقد وثيقة بين الايديولوجيا والبلاغة، إذ الايديولوجيا –في المطلق- ليست سوى مجلى من مجالي البلاغة. وليس من سبيل إلى تبين أوجه هذه العلاقة من غير تحديد سمات الممارسة الإيديولوجية. وهو ما نستعين فيه بدراسة لبول ريكور ترصد فيها أهم الخصائص الواسمة للأيديولوجيا فحصرها كما يلي: (4)

1. الايديولوجيا محرك اجتماعي تنشر الأفكار وتصنع القناعات عبر التحريض على الفعل وتبريره. الايديولوجيا منتسبة –في هذا المستوى- إلى ما يسميه ريكور "نظرية الحافز الاجتماعي". إنها تتحرك لإظهار أن الجماعة التي تجاهر بها هي محقة في أن تكون ماهي عليه. لكن كيف تحافظ الايديولوجيا على ديناميتها؟ الجواب كامن في سمتها الثالثة: كل إيديولوجيا هي مبسطة وخطاطية، إنها شبكة لتحديد نظرة شاملة ليس فقط إلى الجماعة بل وللتاريخ، وفي الحد الأقصى للعالم، وهذا الطابع المسنن للأيديولوجيا ملتحم بوظيفتها التبريرية، لكن هذه القدرة على التغيير مشروطة بتحول الأفكار التي تنشرها إلى آراء ومعتقدات. وفي هذه الحال تفقد الأفكار صرامتها لتزيد من فعاليتها الاجتماعية. وعلى هذا النحو يتحول كل شيء إلى إيديولوجيا: الأخلاق، الدين، الفلسفة. وهذا التحول من نسق فكر إلى نسق اعتقاد هو جوهر الظاهرة الأيديولوجية.

يسمح هذا الملمح (الثالث) بملاحظة الطابع الاعتقادي للأيديولوجيا، حيث المستوى الأبستمولوجي للأيديولوجيا هو مستوى "الرأي"، مستودع الاعتقاد عند الإغريق، لأجل ذلك فإن الأيديولوجيا تعبر عن نفسها طوعيا من خلال الأمثال والشعارات والصيغ الموجزة، ولذلك لا شيء أقرب إلى البلاغة- فن الحكمة والإقناع من الايديولوجيا. الأيديولوجيا تعبير عن مقاصد عملية أكثر منها تعبيرا عن منازع نظرية، حيث القانون التأويلي للأيديولوجيا كامن فيما يتعوده الناس، ويؤمنون به أكثر من تصورات يتحركون نحوها.

الايديولوجيا مطبوعة بالجمود، ترفض الجديد وتسعى إلى المحافظة على الأنموذج القائم من خلال صيغة "التمثيل"، وهو ما يجعل الايديولوجيا في نفس الآن تأويلا للواقع وحشدا للممكن، وبهذا المعنى يمكن الحديث عن "السياج الإيديولوجي" بل "العمى الإيديولوجي". إن الناظر في سمات الايديولوجيا كما تحددت عند بول ريكور ليخلص فعلا إلى تبين أوجه الصلة الجامعة بين البلاغة من جهة، والممارسات الإيديولوجية من جهة ثانية. فالبلاغة تتحدد أساسا بوصفها فعالية خطابية واستدلالية يتوسلها المتكلم لعرض فكرة أو فرض نظرية، وفي الحالين تقوم البلاغة سياسة في القول مخصوصة يتلطف منها المتكلم إلى تحصيل مطلوبة: حمل المخاطب على الإذعان والتسليم بما يلقى إليه من مضامين وإن لم يعتقد فيها حقيقة قائمة، لأن التعويل في مقامات التخاطب التي قصدها التأثير إنما يرتكز على سحر البيان وسلطة الكلام، وليس صحة "المعلومة" أو صدق الخطاب. وفي هذا المستوى تظهر الصلة وثيقة بين العتاد البلاغي والممارسة الإيديولوجية، إذ الخطاب –في المطلق- واقعة تواصلية تلتبس فيها المقومات البلاغية بالمقاصد الإيديولوجية، فالخطاب –كل خطاب متضمن بالضرورة لمقتضى حجاجي واستدلالي، بما هو "رسالة" صادرة من باث إلى متقبل قد يكون فردا أو جماعة أو شعبا أو الإنسانية جمعاء، الغرض من بثها وإلقائها إيقاع التصديق والحمل على الاقتناع. وهو مقصد تأثيري وإقناعي يستند –بالتأكيد- إلى تصورات المجتمع المرتهنة إلى الرأي الشائع والقناعات المشتركة، إذ لا يمكننا أن نتصور "متكلما" يعي ما يقول يمكن أن يتوجه إلى رفض ما أطبق الناس على الاعتقاد فيه، أو دحض ما أجمعوا على رفضه وإنكاره. وعند هذه النقطة (الاقتناع استنادا إلى الرأي الشائع والمشترك) ينفتح المجال وسعيا لتلبس البلاغي بالإيديولوجي.

إن الناظر في علاقة البلاغة بالإيديولوجيا سيلحظ –لا محالة- التباسا وتعقيدا يطبعان –من غير شك- هذه العلاقة، ذلك أن الايديولوجيا تسخر البلاغة أداة حين تضطلع بدور تبريري ملازم لدورها القيادي –كما نبه على ذلك بول ريكور- وفي هذه الحال لا تعدو البلاغة أن تكون "تقنية" في يد الايديولوجيا تصطنعها خدمة للمقاصد. وهي بذلك تمثل الجانب التبريري في الايديولوجيا، ذلك أن الإيديولوجيات السياسية والاقتصادية جميعها صيغت بطرق استعارية،(5)  لكن تدقيق النظر في هذه المسألة من شأنه أن يقود الباحث لأن يستخلص أن البلاغة –من جهة مقابلة- خاصة عندما ترتبط بالمقاصد، كما هي متجسدة في مباحث الحجاج، عبارة عن خطاب عملي وظيفي وغائي مستند إلى خلفية إيديولوجية في عرض القناعات والتعبير عن المعتقدات. وبذلك تغدو البلاغة ضربا من الايديولوجيا: تحتج وتبرر، تستدل وتسوغ لحمل المخاطب على الإذعان وإن لم يحصل له اقتناع حقيقي، بما يؤشر على تغليب لـ "الغائية" واحتكام  لـ"القصدية" في سعي لتحويل "الرأي" إلى "عقيدة".

إن البلاغة بوصفها فن الاقناع بالرأي – كما يعتقد كثيرون- لهي "الايديولوجيا" عينها، إنها رؤية للكون وموقف من الوجود متى اعتنقناهما تحولنا من مجال الاقناع  بـ"رأي من آراء" إلى الحمل على الإذعان لـ"عقيدة" تفرض فرضا. وبهذا الفهم تغدو البلاغة ممارسة خطابية تنقل "البلاغي"، إذ يلتبس بـ"الإيديولوجي"، من مجال الإمكان والاحتمال إلى مجال البداهة والمصادرة على المطلوب، لأن "الما صدق" ليس شرطا في الحجاج الناجح كما هو مقرر عند علماء الحجاج ومنظريه.(6) فالبلاغة كما نص على ذلك التوحيدي "تحق الحق وتبطل الباطل على ما يجب أن يكون الأمر عليه، ثم تحقيق الباطل وإبطال الحق لأغراض تأتلف، وأمور لا تخلو أحوال هذه الدنيا منها من خير وشر وإباء وإذعان وعدل وعدول وكفر وإيمان".(7) ذلك أن المتكلم "لا يعد في المجادلين الحذاق حتى يكون، بحسن بديهته وجودة عارضته وحلاوة منطقه، قادرا على تصوير الحق في صورة الباطل، والباطل في صورة الحق".(8) صحيح أن الحق في المطلق واحد ولكنه في تجلياته العملية نسبي، وفي هذا المستوى تظهر الحاجة إلى "البلاغة" سياسة في القول مخصوصة، قادرة على قلب الحق إلى باطل والباطل إلى حق.

ومن الواضح أن الحقائق لا تنقلب في أعيانها ولكن في صورها اقتدارا من البليغ وتمهرا في فنون القول وسحر البيان، فكما أن السحر  لا يغير من الواقع شيئا وإنما الساحر يجري التغيير في عقول المستمعين، كذلك البليغ يستطيع بما يصطنع من إفصاح بالحجة ومبالغة في وضوح الدلالة من بلوغ أعلى مراتب التأثير العقلي والعاطفي في متلقيه، بما يكفل تحصيل المتكلم لمطلوبه في تكييف عاطفة السامع وتعديل اعتقاده على نحو يستجيب لمقاصده ومراميه. إذا كنا نستخلص مما سبق تلازم "الإيديولوجي" و "البلاغي" فإن ذلك يدفعنا إلى التساؤل عن حال البلاغة في السياق العربي : هل ارتهنت هي الأخرى إلى المقصدية الإيديولوجية في تشييد الأنساق الناظمة لمشاريعها البلاغية المعتبرة؟ أم أن النظام البلاغي العربي بلور تصوراته بمعزل عن التأثيرات الإيديولوجية المختلفة؟

لقد أسلمنا نظرنا في الموروث البلاغي العربي -في حدود فهمنا وطاقتنا- إلى تسجيل ملحظ لا يخلو –في تقديرنا- من أهمية مؤداه هيمنة المقصدية الإيديولوجية على هذا الموروث. وهي هيمنة يمكن تلمس بعض مظاهرها في مستويين : يتصل الأول بـ"بنية الخطاب" ويخص الطريقة المعتمدة عند علمائنا القدامى في بسط المشاغل البلاغية التي استأثرت باهتمامهم. أما الثاني فمتعلق بـ "فحوى الخطاب" ويهم القضايا التي استأثرت باهتمام علماء البلاغة العربية المعتبرين.

إن فحص "بنية" الخطاب البلاغي العربي باعتبار "نسق المفاهيم" و "نسق الغايات" يكشف عن خطاب إيديولوجي صريح من طوابعه توجه سجالي يحاور الخصوم متحديا، ويقيم الحجة ويطلبها، بما يجعل الخطاب البلاغي – في المحصلة- بنية حجاجية إيديولوجية عمادها الدفاع عن ملفوظ إزاء ملفوظات أخرى. لكن فصل البلاغة العربية عن أنظمة التفكير التي حاطت نشأتها أفضى إلى تغييب الملمح الإيديولوجي الذي وسم تشغيل المقولات البلاغية في السياق العربي. يقول محمد مفتاح :

"بقيت البلاغة العربية في الدراسات القديمة والحديثة مفصولة عن النظام الفكري الذي نشأت فيه وترعرعت، فهي وثيقة الصلة بالمنطق والأصول والنحو وعلم الكلام. وعدم مراعاة التفاعل بين هذه الفروع المعرفية عاق المصلحين أن يكتشفوا الآليات العميقة التي تحكم النشاط الاستدلالي اللغوي القائمة عليها تلك الفروع" .(9) يترتب عن التسليم بأن نشأة البيان العربي كانت في أصلها "كلامية"(10)  نتيجة هامة مؤداها أن "فهم أو تفسير العملية البيانية لابد أن يستند إلى هذه النشأة، ولذلك فإن حاجة الفهم أو الإصلاح أو التجديد تضطر إلى التحقيق في مسائل كلامية وأصولية؟، ويترتب عن هذه الملاحظة المهمة أن حديث بعض الأدباء مفصولا "يصبح أبتر ناقصا لأن مناقشته [أي البيان] الأولى كلامية"(11) .

فمن الشائع المعلوم لعموم الدارسين أن العلوم المختلفة المكونة لدوحة البلاغة العربية الشريفة، (والعلوم العربية عموما)، إنما نشأت وتخلقت استجابة لغاية سامية هي التدبر في هندسة العبارة القرآنية "البليغة"، لاستجلاء مظاهر "الإعجاز" فيها. ومن هذه القضية، الإيديولوجية في أصل منشأها، والمتخذة كساء معرفيا في العرض والمناولة، تناسلت معظم الإشكالات الثقافية والحضارية التي شغلت العقل العربي "البياني"(12)  طويلا،  فالتركيز على قضية الشعر الجاهلي إثباتا ونفيا، إنما كان باعتباره شاهدا على "الإعجاز" – السراب الذي جرى خلفه الأشاعرة وتخفف منه بعض المعتزلة لقولهم بالصرفة، ولم تكن قضايا مثل اللفظ والمعنى والفصاحة والبلاغة غير ستار بلوري يحجب صراعات سياسية حزبية، أو كلامية فلسفية مكتمنة لتناقضات وتعارضات بين المشتغلين في الحقل البلاغي -وكلهم صاحب نحلة أو منافح عن مذهب- حول فهم العالم وتفسير قضاياه. وفي ذلك ترجيح للفرضية القائلة إن الخطاب البلاغي العربي كان "ملكية مشاعة" بين المشتغلين بالحقل الثقافي العربي الإسلامي بشكل عام. وقد هيمنت عليه –لذلك- المقصدية الإيديولوجية، وهي الفرضية التي بها نأخذ وعنها نصدر فيما نستقبل من مباحث، انطلاقا من تصور يرى أن "ما يسمى إيديولوجيا هو شكل من أشكال البلاغة" .(13)

لقد صدرت "القراءات" البلاغية الإعجازية مثلا عن قصدية إيديولوجية صريحة أساسها اعتقاد غير مشروط في تفوق أسلوب القرآن على سائر الإبداعات اللفظية التي أنتجها "العربي". وقد راح المنظرون لبلاغة الإعجاز انطلاقا من هذا المعتقد الشريف يستقصون مواطن الإعجاز البلاغي، ومواضع التفوق الأسلوبي في خطاب النص القرآني بطريق مقابلته بجنس أدبي عتيد هو "الشعر"، الذي ملك على البلاغيين العرب مشاعرهم فلم يستطيعوا الفكاك من بلاغته وسحره، حتى وهم يستشرفون نصا "كريما" اعتبر قمة في "دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة". ذلك ما يستشعره قارئ أهم مصنف بلاغي هو "دلائل الإعجاز" المعتبر غرة كتب البلاغة العربية، فقد بسط عبد القاهر الجرجاني الأشعري المذهب في هذا الكتاب نظريته في "النظم"، التي جاءت جوابا حجاجيا –إيديولوجيا على أسئلة الإعجاز القرآني التي كانت موضوع مناظرة ومحل منازعة بين أبناء العصر، حيث يحاور عبد القاهر- صراحة وضمنا- أصحاب النظرة الاعتزالية مثل الجاحظ والجبائي والقاضي عبد الجبار، بل وأصحاب فكرة الصرفة مثل ابن سنان الخفاجي ليطرح –في النهاية- مفهوما للإعجاز البلاغي يتساوق ومقصدية المؤلف المرتهنة إلى مقررات المذهب الأشعري، الذي يصدر عنه "تلقي" عبد القاهر لنص القرآن العظيم. وهذه المقررات المذهبية نفسها التي وجهت عبد القاهر إلى بلورة نظريته في "النظم"  التي تجعل "الإعجاز" مختزلا في "التعليق" بما هو علاقة بين معاني الألفاظ.

وبالجملة فإن القراءة الفاحصة لـ"دلائل الإعجاز" تكشف عن صراع أصولي عميق اتصل بين عبد القاهر الأشعري وخصومه من المعتزلة، فجاء الكتاب –لذلك- مطبوعا بنبرة سجالية وحجاجية ظاهرة. وهو ما لحظه أحد الدارسين المعاصرين في سياق بحثه "الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن" فكتب يقول : "إن أثر الخصومة غالب على "دلائل الإعجاز" إلى حد يمكن معه أن يقال عنه إنه مناظرة حادة في النظم وإعجاز القرآن، اتصلت من بداية الكتاب إلى نهايته مع أولئك الذين جرى مؤلفه على نعتهم "بأنصار اللفظ".(14)

إن صدور البلاغة الإعجازية عن مبدأ الأفضلية، وهو مبدأ إيديولوجي محض، هو المسؤول –في تقديرنا- عن توجهها السجالي والاحتجاجي في مستوى بنية الخطاب رغبة في تحقيق الاقناع والإذعان، مدخل أصحابها إلى ذلك إثبات التشابه بين القرآن وكلام العرب في مرحلة أولى، حتى إذا استقام لهم ذلك توجهوا، في خطوة ثانية، إلى إثبات إعجاز القرآن، وبالتالي أفضلية أسلوبه على الإبداعات اللفظية "البليغة" التي أنتجها "العربي" وعلى رأسها جنس الشعر. ولعل هذا أن يفسر لنا ذلك التوجه في الدرس البلاغي الإعجازي إلى المقارنة  بين القرآن والشعر لإثبات أفضلية التعبير القرآني على ما يناظره في أشعار العرب، فقد وجدنا عبد القاهر الجرجاني يلوذ في "دلائل الإعجاز" - وهو الكتاب المرصود لبحث بلاغة القرآن- بجمالية الأسلوب الشعري، لإثبات تفوق الأسلوب القرآني مما دعاه أحد الدارسين المعاصرين "القراءة بالمماثلة".(15) وهي الغاية نفسها التي وجهت الباقلاني إلى عقد تلك المقارنة الشهيرة في كتابه "إعجاز القرآن" بين القرآن وقصيدة معدودة في عيون الشعر العربي هي معلقة امرئ القيس الذائعة الصيت، فقد كان الغرض من المقارنة –بالأساس- بيان تهافت القصيدة لإثبات تفوق البلاغة القرآنية.

وإذا نظرنا في الخطاب البلاغي العربي من زاوية "المشاغل" وجدنا المفاهيم البلاغية التي بلور تنتظم في نسق أكبر تحكمه مقصدية إيديولوجية واضحة، فليس ثمة شك في أن اختيار المفاهيم وتشغيلها مرتهنان –بالضرورة- إلى مقاصد إنتاج الخطاب وشروط بنائه، كما أن هذه المقاصد ذاتها ليست مفصولة عن الإشكالات التي تسود المجتمع في مرحلة محددة من تاريخه السياسي والثقافي، فتخترق من ثم خطابات معرفية شتى بما فيها الخطاب البلاغي الذي تفاعلت داخله –في  السياق العربي- المفاهيم والمقاصد بطريقة جدلية وفق منظور ابستيمي، تهيمن عليه قضايا كبرى ثلاثة هي قضية التدوين وقضية إعجاز القرآن ثم قضية القدامة والحداثة. فالمفاهيم الرئيسة في مدونة البلاغة العربية إنما نشأت وتخلقت استجابة لمقصدية إيديولوجية تمثلت في الانتصار لتيار القدامة أو الحداثة، سواء تعلق الأمر بشعر المحدثين في مقابل شعر الأقدمين، أو العلوم العربية الأصيلة القائمة على الرواية والنقل في مقابل العلوم الأجنبية الدخيلة المتأسسة على الفلسفة والعقل.

وإلى ذلك ارتبطت المفاهيم البلاغية مثل "البيان" و"الفصاحة" و"البديع" بمقاصد إيديولوجية أخرى ولدها صراع القوميات الطارئ على المجتمع الإسلامي الجديد، الذي استوجب الدفاع عن"اللسان العربي" أمام التيارات الشعوبية، كما يمكن أن نستبين من كتاب "البيان والتبيين" للجاحظ وكتاب "البديع" لعبد الله بن المعتز. ولذلك "ينبغي عدم إغفال الجو الجدالي الذي صيغ فيه مفهوم البيان العربي، فكون الذين أسسوا هذا المفهوم قالوا بامتياز اللغة العربية بالبيان، معناه أنه هناك من لم يكونوا يسلمون لهم بذلك، ولذا اتخذ الخطاب التنظيري للبيان طابعا سجاليا".(16)

أما زوج الفصاحة والبلاغة فقد توزعته مقصدية إيديولوجية أساس تمثلت في الدفاع عن الإعجاز القرآني" من خلال البحث في "دلائل إعجازه" و"أسرار بلاغته". وإذا كان من البدهي أن المقصديات الإيديولوجية لا تتنزل في "فراغ"، وإنما تتنزل في مناخ سياسي وثقافي ترتهن إليه في صوغ المفاهيم وتحديد الغايات، فإن المناخ السياسي والثقافي الذي احتكمت إليه المشاريع البلاغية التي أطلقها أصحابها في دار الإسلام، لم تكن سوى حركة التدوين التي وجهت مختلف المواقف في الفكر العربي ومنه التفكير البلاغي، حتى إننا إذا قلنا إن المواقف إزاء مختلف الإشكالات تحددت في ضوء حركة التدوين لم نكن قد بعدنا.(17)

لم تكن قضية الإعجاز الوجه الإيديولوجي الأوحد للخطاب البلاغي العربي وإلا فنحن واجدون مشاغل في نظامنا البلاغي أخرى اصطبغت بالصبغة الإيديولوجية معلنة حينا ومضمرة أخرى، وفي مقدمة هذه المشاغل تأتي قضية القدامة والحداثة. يقول عبد الله بن المعتز في مقدمة كتابه "البديع": "قد قدمنا في أبواب كتابنا هذا بعض ما وجدنا في القرآن واللغة وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وكلام الصحابة والأعراب وغيرهم، وأشعار المتقدمين من الكلام الذي سماه المحدثون البديع، ليعلم أن بشارا و مسلما وأبا نواس ومن تقيلهم وسلك سبيلهم لم يسبقوا إلى هذا الفن ولكنه كثر في أشعارهم فعرف في زمانهم حتى سمي بهذا الاسم، فأعرب عنه ودل عليه، ثم إن حبيب بن أوس الطائي من بعدهم شغف به حتى غلب عليه، وتفرع فيه وأكثر منه، فأحسن في بعض ذلك وأساء في بعض، وتلك عقبى الإفراط وثمرة الإسراف".(18)

ويقول أبو هلال العسكري في "الصناعتين": "فهذه أنواع البديع التي ادعى من لا روية له، ولا رواية عنده أن المحدثين ابتكروها، وأن القدماء لم يعرفوها، وذلك لما أراد أن يفخم أمر المحدثين".(19)

يثير هذان الشاهدان، كما لا يخفى على من شدا شيئا من علوم البلاغة العربية، قضية حجاجية كبرى متصلة بالصراع بين أنصار القديم وأنصار المحدث، وهي قضية لا يمكن تجاهل خلفياتها الإيديولوجية، فهي إن اتخذت –في مستوى المعلن- صورة الصراع بين القدماء والمحدثين، فقد كانت تحجب –في مستوى المضمر- تعارضات إيديولوجية تمثلت في الصراع الطاحن بين الموالي والعرب أحيانا، وبين تيار التقليد والتجديد في المجتمع العربي أحيانا أخرى، بما يفيد أن الموجه الأساس لهذه المشاغل البلاغية إنما كان الداعي الإيديولوجي، وليس الهاجس النقدي أو البلاغي، فقد كان الاختلاف حول قيم الحداثة والتقليد خاصة وسمت شتى قطاعات المعرفة الشائعة في دار الإسلام في هذه المرحلة التاريخية من فلسفة ودين وشعر ونقد، لأن القضية مرتبطة –في أساسها- بتحول اجتماعي وحضاري فرض على الأطراف المتصارعة اتخاذ موقف محدد، معلن أو مضمر، إزاء القضايا الحاسمة والمصيرية التي كانت تواجه "الأمة". وقد كان بدهيا أن ترتهن المواقف -في هذه الحال- إلى الزاوية الإيديولوجية. ومن هنا ألفينا ابن المعتز يستقصي فنون البديع إلى جانب الشعر في القرآن واللغة وأحاديث الرسول (ص) وكلام الصحابة والأعراب رغم إحساسه بأن صور البديع خاصة بالشعر كما صرح في كتابه : "البديع موضوع لفنون من الشعر يذكرها الشعراء ونقاد المتأدبين منهم فأما العلماء باللغة والشعر القديم فلا يعرفون هذا الاسم".(20)

إن بحث ابن المعتز عن "أصول"  لفن البديع  و"جذور" في التربة المحلية للتراث البياني العربي الخالص، إنما يجد تفسيره في السياقات التي كان كتاب ابن المعتز يشتبك معها في حومة الصراع الاجتماعي والاعتقادي، الذي بلغ ذروته في القرن الثالث للهجرة. وهي سياقات تصل الجانب الاجتماعي للشعوبية، بالجانب الاعتقادي للزنادقة من الأدباء المحدثين. ولعل هذا أن يفسر لنا تلك النزعة الدفاعية والتبريرية التي وسمت كتاب ابن المعتز. لقد أصبحت جدة "البديع" قرينة لـ "شبهة" الاتصال الفكري والأدبي بثقافة "الآخر" غير العربي، الذي يحاول فرض أنموذج حياتي من منظور اجتماعي شعوبي. وهو ما جعل "البديع" الذي ارتبط بـ"الموالي" قرينة انقطاع عن المتصل الديني والأدبي، ومن  هنا وجدنا الجاحظ يعلن، في حماسة دفاعه عن " العروبة"، أن "البديع مقصور على العرب ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة، وأربت على كل لسان".(21)

إن هذه النبرة الدفاعية عن العروبة واشية بالمقصدية الإيديولوجية التي وسمت الخطاب البلاغي العربي، الذي لم يستطع فصل متصوراته البلاغية عن المقاصد الإيديولوجية كما أكد محمد النويري الذي انتهى في خاتمة أطروحته عن "علم الكلام والنظرية البلاغية عند العرب" إلى تبين عمق العلاقة القائمة بين النسقين: الكلامي والبلاغي. يقول: "لقد أمكن لنا أن نتبين إلى أي حد كانت المفاهيم البلاغية وأنحاء إجرائها محملة بهواجس العقيدة، فهي التي توجه الفكرة وترسم آفاقها حتى بدا لنا أحيانا أن القاعدة البلاغية لم تنشأ إلا بغية فك الإشكال العقدي".(22)

البلاغة "الموجهة".
-  البلاغة في خدمة الاعتقاد:
يحيل متصور "البلاغة" على الإبانة والإبلاغ: الإبانة عن النفس وإبلاغ الرأي والمعتقد، لكن "البليغ"، كما تحدد في نظامنا النقدي والبلاغي القديم،  ليس من برع في الإعراب عما في خاطره، أو أحسن "الترجمة" عن نفسه فحسب، ولكن "البليغ" حقا من جمع، إلى ذلك، مقدرة على استمالة متلقيه، وإقناع مخاطبيه بالأهداف والمقاصد التي إليها قصد من إنشاء خطابه، مما أطلق عليه في المدونة البلاغية القديمة "سياسة البلاغة" التي هي أصعب من "البلاغة" فيما يروي "الجاحظ" عن "سهل بن هارون".(23) لقد تبلور متصور "البلاغة" في "التقليد العربي" من حيث هو تقنيات استدلالية في ساحات المعارضة على أيدي المجموعات المعارضة للسلطة القائمة .(24) وقد تولت طائفة بعينها هي "المعتزلة" إنضاج هذا المتصور في فترة معارضتهم للدولة الأموية ثم واصلوا تطويره في الأطوار اللاحقة، فقد كانت هذه الطائفة، كما هو متداول معروف، تصدر عن رؤية عقلانية في فهم العقيدة وتفسير الكون. وقد دفعهم تحكيمهم العقل، واحتكامهم إليه في الصراعات السياسية والدينية إلى الاهتمام بتأسيس بلاغة لفن القول تكون أداتهم في مخاطبة العقول، ويقتدر بها على إقناع المخاطبين وتقرير الحقائق في نفوسهم ومداركهم، فأضحى التأصيل لقواعد البلاغة مطلبا عندهم رئيسا، يتربى عليه صغار المعتزلة كما كبارهم.

وقد وصف الجاحظ تمهر المعتزلة في البلاغة وتملكهم ناصية البيان فهم، عنده، "فوق أكثر الخطباء وأبلغ من كثير من البلغاء".(25) لقد ظهر المعتزلة أول ما ظهروا على مسرح الثقافة العربية بوصفهم "أصحاب مقالة" و"دعاة مذهب" في عصر طغت عليه الشفاهية وغلب عليه "ديوان السماع" في بث المعرفة وتلقيها، إذ لم تكن الكتابة منتشرة ولا وسائلها متاحة، فشكلت "الخطابة"، من ثم، وسيلة المعتزلة الأساس في الدعوة إلى المذهب والرد على دعاوى الخصوم. وهو ما اقتضاهم العناية بشروط الإرسال الجيد؛ أي قوانين إنتاج الخطاب "المبين". وبذلك كان "المعتزلة" الرواد الأوائل لما سيعرف فيما بعد بـ"علم البلاغة". وقد عرف عن رجال الاعتزال عموما قوة العارضة واللسن، والمقدرة العاتية على الإقناع والجدل. والخبر الذي يرويه الجاحظ عن مرور بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جبلة الخطيب وهو "يعلم فتيانهم الخطابة"(26) يكتمن في هذا المساق أكثر من دلالة. فهو مؤشر على أن التمرس بالبلاغة والتمهر فيها أضحيا عند "المعتزلة" مطلبا كرس له أعيانهم من وقتهم وجهدهم ما ارتفع به إلى مستوى "التقليد التعليمي"، الذي شكل قناة عبرها تمر التجارب والخبرات من الجيل الراشد إلى الناشئة من الجيل الصاعد. ولعل صحيفة "بشر بن المعتمر"، الذي انتهت إليه رياسة "المعتزلة" ببغداد، أن تكون المثال الأظهر على ذلك، فهي أول تنظير للبلاغة مطول وصلنا.

ويظهر من مؤلفات الجاحظ أن "أعلام" الاعتزال كانوا أحرص الناس على الإحاطة بأفانين القول وسبل التعبير، حتى لتروى عن بعضهم "مأثورات" في التشدد على النفس لتطويع اللسان والتمهر في البيان، مما قد يبدو لنا اليوم من محض الوضع والاختراع. ومن أشهر هذه "المأثورات" ما كان من أمر واصل بن عطاء الذي يذكر الجاحظ أنه "لما علم أنه ألثغ، وأن مخرج ذلك شنيع، وإذ كان داعية مقالة، ورئيس نحلة، وأنه يريد الاحتجاج على أرباب النحل وزعماء الملل، وأنه لابد من مقارعة الأبطال، ومن الخطب الطوال، وأن البيان يحتاج إلى تمييز وسياسة، وإلى ترتيب ورياضة[...] رام أبو حذيفة إسقاط الراء من كلامه، وإخراجها من حروف منطقه، فلم يزل يكابد ذلك ويغالبه، ويناضله ويساجله، ويتأتى  لستره والراحة من هجنته، حتى انتظم له ما حاول واتسق له ما أمل" .(27)

لقد اهتم "المعتزلة" بتأصيل بلاغة فن القول المؤثر، وكان لهم "الفضل الأول في وضع الأسس الأولى لعلم الكلام، وعلم البلاغة وعلم الجدال والمناظرة"(28) . ويؤكد هذا الارتباط بين "البلاغة" و"المذهب الكلامي" ما نصادفه عند ابن المعتز من نص على أن "المذهب الكلامي" لون من ألوان البديع الخمسة التي رصد، مشيرا إلى أن الجاحظ هو الذي سماه بهذا الاسم، "وهو مذهب سماه عمرو الجاحظ المذهب الكلامي"(29) .وإذا كان ابن المعتز لا يعين المقصود بـ "المذهب الكلامي"، فإن مراجعة نصوص الجاحظ المتصلة بقواعد الخطاب الإقناعي تكشف بجلاء ارتباط هذا المتصور بطريقة المتكلمين العقلية في الاحتجاج والجدل، والاحتيال للعلل والمعاذير، استمالة للسامع واجتذابا لإصغائه، ومن ثم إيقاع التصديق في نفسه. يقول الجاحظ: "ولولا استعمال المعرفة لما كان للمعرفة معنى، كما أنه لولا الاستدلال بالأدلة لما كان لوضع الأدلة معنى[...] وللعقل في خلال ذلك مجال وللرأي تقلب. وتنشأ للخواطر أسباب وتتهيأ لصواب الرأي أبواب"(30) .

ولعله من الدال في هذا الشاهد، مما نحن منه بسبيل، استخدام الجاحظ لعبارة "استعمال المعرفة"، التي  يمكن أن تحمل على مبدأ "العمل بالعلم"، كما يمكن أن تحمل على القصد إلى "استعمال" المعرفة أداة لتحقيق المقاصد المذهبية. وهو فرضّ، إن صح، يؤكد ارتباط "البلاغة" بـ"المذهب الكلامي" أشد ارتباط وأوثقه، خاصة عندما نلم بتحديدات هذا المقوم البلاغي في مواضعها من كتب البلاغة العربية، فقد ذكر  الخطيب القزويني أن "المذهب الكلامي هو إيراد حجة المطلوب على طريقة أهل الكلام".(31) إن الربط الذي يقيم القزويني في الشاهد بين "المذهب الكلامي" و "طريقة أهل الكلام" ليفيد انشداد هذا المقوم البلاغي إلى المقاصد الإقناعية والمنازع الأيديولوجية. وهي النتيجة التي خلص إليها شكري المبخوت الذي أفرد فصلا من كتابه "الاستدلال البلاغي" لفحص هذا المفهوم وسمه بـ" تحليل استدلالي لظاهرة بديعية"، حيث انتهى الباحث من تتبع تعريف المفهوم وتاريخه إلى أنه "أسلوب من أساليب تركيب القول على نحو مناسب لمقتضى المحاجة؛ فهو يقوم على علاقة استدلالية تربط بين قول حجة وقول نتيجة تكون في الغالب ضمنية. والمهم كذلك أنه يدل على أن المقدمة (الحجة) موجهة لتغيير اعتقاد المخاطب بما أنها تقتضي مخاطبا معاندا يسعى إلى إلجامه بـ"الحجة الجامعة" (على حد تعبير الزركشي) وهذا السياق التخاطبي الحواري الذي يشير إليه بعض التعريفات يرسخ المذهب الكلامي في بعده الخطابي المحاجي"(32) .

لقد ارتبطت "البلاغة" في نشأتها بالصراع بين الفرق الكلامية والأحزاب السياسية. فاصطبغت، لذلك، بألوان أيديولوجية ظاهرة كان من نتائجه ما حدث في الثقافة العربية من وصل بين دلالة البلاغة والإقناع، حتى غدا "فن الإقناع" حدا لها وعلامة عليها، نتيجة بدهية لارتباطها بالجدل السياسي والاعتقادي. ومن هنا نظر للبلاغة بوصفها فعالية حجاجية وإقناعية يقتدر بها على تحقيق المقاصد فأنيطت بها، من ثم، وظائف أيديولوجية تتصل بإيقاع التصديق في نفوس المتقبلين ابتداء وحملهم، استتباعا، على الاستجابة للمقاصد التي يصدر عنها منجزو الخطاب. يوكد ذلك ويدعمه التلازم المشهود بين "البلاغة" و"السلطة"، فالعلاقة بين السيطرة سياسية أو دينية وفن البلاغة ثابتة معلومة منذ القدم، حيث البلاغة كافلة الإقناع. وإذا تحقق الإقناع أمكن التحكم في المخاطب وتوجيهه وفق إرادة "البليغ". لكن متى تتحول البلاغة إلى إيديولوجيا؟.

تصبح "البلاغة" إيديولوجيا عندما تتحول إلى أداة لخدمة غرض أو تحقيق مقصد فتسقط، بذلك، في "التبرير الإيديولوجي". ويتخذ التحول من "البلاغي" إلى "الأيديولوجي" صورا عدة جميعها متصل بمنطق التبرير من أجل حيازة "السلطة" مادية كانت أو رمزية. ويحدث ذلك عندما يلوذ أصحاب السلطة والسلطان بسحر البلاغة من أجل المحافظة على الوضع القائم بطريق الترويج للأفكار السائدة، التي تقدم للمتقبلين بوصفها أفكارا شمولية وشبه كونية، فتغدو المصالح الخاصة لفئة اجتماعية مسيطرة، وهي أقلية، مصالح عامة. كما يمكن لـ"البلاغة" أن تتلبس أردية إيديولوجية عندما يسخرها تيار فكري، أو جماعة دينية لخدمة أغراض مذهبية بما يبرر مشروعيتها ويسوغ سيطرتها الفكرية أو الاعتقادية.

وإذن، ترتبط "البلاغة" بالإيديولوجيا عندما تنـزع إلى التبرير الذي يرافق كل سلطة. ومن هنا كان التلازم بين "البلاغة" والسلطة سمة ثابتة في مختلف المحطات التي مر بها هذا العلم العتيق، سواء في التقليد العربي أو غيره من التقاليد البلاغية العريقة (اليونان والرومان)، كما يوضح ذلك ويجليه تاريخ الأفكار من وجهة نظر سوسيولوجيا الثقافة التي تبرز، فيما يستخلص بول ريكور، أن "كل المجتمعات بدون استثناء تعمل بواسطة معايير وقواعد، وشبكة من الرموز الاجتماعية، التي تصنع بدورها بلاغتها وتلتمس بيانها من الخطاب (السياسي) العمومي. وبالفعل كيف يتمكن هذا الخطاب من تحقيق هدفه، من إقناع الأفراد والتأثير فيهم؟ إن ذلك يتم بواسطة الاستعمال الدائم لمختلف أشكال التعبير المجازي كالاستعارة والنقد الساخر والإيهام والمفارقة والمبالغة. وهي ذاتها الأشكال الأسلوبية السائدة داخل النقد الأدبي والمعهودة في بلاغة الخطابة اليونانية والرومانية القديمة"(33) .

 

هوامش:
(1) راجع في ذلك مقال محمد أسيداه عن "السوفسطائية وسلطان القول- نحو أصول لسانيات سوء النية-" عالم الفكر ع4- 2005 ص:85.

وليس ينبغي أن يعزب عن بالنا أن فلسفة يونان "العقلانية"  إنما نشأت كرد فعل على فلسفة السفسطائيين بماهي "بلاغة القول المموه". أنظر في ذلك على سبيل المثال محاورة جورجياس لأفلاطون التي حملت عنوانا فرعيا هو "مقال في الرد على أهل البلاغة أو السوفسطائيين. تر. محمد حسن ظاظا مراجعة سامي النشار، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر. 1970 ص: 31

(2)  جان جاك روسو، العقد الاجتماعي، تر. دوقان قرقوط، دار القلم- بيروت. ط1- 1973 ص:39

(3) محمد سبيلا، الإيديولوجيا والبلاغة، مجلة المناظرة ع 4 – 1991 ص 72

(4) بول ريكور، من النص إلى الفعل- أبحاث التأويل، تر. محمد برادة، حسان بورقية، دار الأمان الرباط، ط1- 2004 صص: 211- 214

(5) لايكوف وجونسون، الاستعارات التي نحيا بها، ص: 220

(6) وليس عمل هذه الصناعة[الخطابة] أن تقنع ولا بد، أعني أنه ليس يتبع فعلها الإقناع ضرورة"- ابن رشد، تلخيص الخطابة، ص: 24 وانظر  كذلك أرسطو، الخطابة ص:28

(7) مناظرة التوحيدي لابن عبيد حول البلاغة والحساب –الامتاع والمؤانسة ج1 ص101.  

(8) قدامة بن جعفر، نقد النثر، تح. عبد الحميد العبادي، دار الكتب العلمية – بيروت1995 ص: 132

(9) محمد مفتاح، مجهول البيان، دار توبقال ط1- 1990 ص:11

(10) عن توجيه علم الكلام للنظرية البلاغية راجع أطروحة محمد النويري، علم الكلام والنظرية البلاغية عند العرب، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية- تونس، ط1 - 2001

(11) عبد الجليل ناظم، البلاغة والسلطة في المغرب، دار توبقال للنشر –البيضاء. ط1- 2002 ص22 والتعبير لأمين الخولي في فن القول (ص:147).-

(12) نستلهم هنا توصيفات الباحث المغربي محمد عابد الجابري صاحب مشروع "نقد العقل العربي" وبالضبط الجزء الثاني الموسوم ب "بنية العقل العربي" الذي توزعته مباحث ثلاثة : البيان (ص9) – العرفان (ص257) – البرهان (ص395) وبصفة أخص المبحث الأول الذي بسط فيه أسس "العقل البياني العربي" وبين القوانين التي تحكم اشتغاله.

(13) بول ريكور، البلاغة والشعربية والهرمينوطيقا، تر. مصطفى النحال، فكر ونقد، ع،7- 19.. ص 109

(14) أحمد أبو زيد، مقدمة في الأصول الفكرية للبلاغة وإعجاز القرآن، دار الأمان- الرباط ط1- 1989 ص:5. وقد أوضح الشيخ محمود محمد شاكر في مقدمة تحقيقه لـ "دلائل الإعجاز" من خلال نصوص وقف عليها من كتاب القاضي عبد الجبار "المغني" أن المقصود بالخصوم، الذين لا يسميهم عبد القاهر وينعتهم بـ "أنصار اللفظ"، القاضي عبد الجبار وأصحابه من المعتزلة – مقدمة المحقق لـ "دلائل الإعجاز" مكتبة الخانجي – القاهرة (د.ت) (ص:د)

(15) أحمد يوسف، بنية الخطاب البلاغي وسلطة النص الغائب "القراءة بالمماثلة" – دراسات أدبية ولسانية ع 7 – 1992 ص:اااا

(16) علي أومليل، السلطة الثقافية والسلطة السياسية، مركز دراسات الوحدة العربية ط1- بيروت – 1996 ص:82

(17) لتفاصيل أوفى راجع محمد عابد الجابري، تكوين العقل العربي – الفصل الثالث "عصر التدوين، الإطار المرجعي للفكر العربي" ص:56

(18) عبد الله بن المعتز، البديع ص:1

(19) أبو هلال العسكري، الصناعتين تح. علي محمد البجاوي ومحمد ابو الفضل ابراهيم المكتبة العصرية –بيروت 1986 ص: 267

(20) ابن المعتز، البديع ص: 58

(21) الجاحظ، البيان والتبيين ج 3 ص:620

(22) محمد النويري، علم الكلام والنظرية البلاغية عند العرب، كلية الآداب الانسانية والاجتماعية – منوبة – تونس،  دار محمد علي الحامي – صفاقص – تونس. ط1- 2001 ، ص: 417

(23)  الجاحظ، البيان والتبيين، ج 1، ص: 124. 

(24) جابر عصفور، بلاغة المقموعين ضمن المجاز والتمثيل في العصور الوسطى، (مجلة ألف) دار قرطبة للطباعة والنشر، البيضاء، ط 2، 1993، ص: 27.

(25) الجاحظ، البيان والتبيين، ج 1، ص: 92.

(26)ـ الجاحظ، البيان والتبيين ، ج 1، ص: 90.

(27) الجاحظ، البيان والتبيين، ج1، ص: 16. والطريف أن ابن قتيبة، على عدائه الشهير لمذهب الاعتزال وأهله،  يذكر هذة "الفضيلة"  لواصل بكثير من الإعجاب – خطبة أدب الكاتب، ص: 19 .

(28) أحمد أمين، ضحى الإسلام، ج 3، ص: 72

(29) عبد الله بن المعتز، كتاب البديع، ص: 53

(30) الجاحظ، الحيوان، ج 2، ص: 278.

(31) الحطيب القزويني، التلخيص في علوم البلاغة، تح عبد الرحمان البرقوقي، دار الفكر العربي، (د.ت) ص: 374 .

(32)  شكري المبخوت، الاستدلال البلاغي، دار المعرفة للنشر وكلية الآداب، جامعة منوبة ـ تونس، ط 1، 2006، ص: 177.

(33) بول ريكور، الأيديولوجيا واليوتوبيا، ترجمة منصف عبد الحق، مجلة "الجدل" المغربية، ع 7/1987، ص: 19.