و(الكلمة) على وشك الصدور بلغنا خبر رحيل الكاتبة العربية الكبيرة رضوى عاشور، ومحرر (الكلمة) الذي عرف الكاتبة الكبيرة منذ بداية الرحلة مع الكتابة في ستينيات القرن الماضي، إذ يعيد هنا نشر آخر دراسة له عن روايتها الأخيرة، فإنه يدرأ بها صدمة الفقد، حتى يتاح للكلمة أن تعد عنها ملفا جديرا بإنجازها الكبير.

رضوى عاشور .. وقدرة الفن على استنطاق المحو

قراءة في رواية «الطنطورية»

صبري حافظ

(1) النص الأدبي: سياقات القراءة والتأويل:
قرأت رواية رضوى عاشور الجديدة (الطنطورية) قبل الثورة بشهور قلائل، وأردت الكتابة عنها، ولكني وجدت نفسى حينما شرعت في ذلك مدفوعا للحديث عن انشغال الكاتبة ببلبال العالم من حولها، وبما يدور في واقعها من أحداث، فما أن بدأت الكتابة حتى بلغني خبر تحويل مدير جامعتها لها (جامعة عين شمس في القاهرة) للتحقيق، إثر الأحداث المؤسفة التي كشفت عن تردي الجامعة، وتعيين صنائع جهاز أمن الدولة رؤساء لها. إذ حولها وقتها مدير جامعتها للتحقيق بشكل فج وغبي بمناسبة مطالبتها، مع مجموعة من أساتذة الجامعة من «جماعة 9 مارس» المعروفة، بتنفيذ حكم المحكمة التي قضت بإزالة الحرس الجامعي وإلغاء كل مظاهر وجود الأمن (أمن العائلة العصابة، والذي كان يسمى لمرارة المفارقة بأمن الدولة) من الجامعة. وكتب هذا المدير الفضيحة رسالة سفيهة لزميله في التعيين الأمني، مدير جامعة القاهرة،  يشكو له أعضاء هيئة التدريس من جامعة القاهرة الذين تظاهروا مع رضوى عاشور تأييدا لقرار إلغاء الحرس الجامعي. فكتبت بدلا من ذلك عما كان يدور وقتها، وفقا لأولويات السياق والفعل التاريخي. حيث فاق همي بتردي الواقع المصري وتدهور الجامعة فيه، وتعرية ما يدور فيها من خراب، رغبتي في الكتابة عن رواية جديدة ومهمة. واستعدت بدلا من الكتابة عن روايتها الجديدة (الطنطورية) شيئا من أطياف رواية سابقة لها هي (أطياف) تناولت فيها ما آل إليه حال الجامعة في مصر، وحال مصر معها، من ترد وهوان. دار هذا كله في شهري نوفمبر وديسمبر من العام الماضي، قبيل اندلاع الثورة حينما كان الأفق مشحونا بشراراتها.

ثم اندلعت الثورة في يناير، وبعد أسابيع من ذلك الحدث بالغ الدلالة الذي دار في جامعة عين شمس، واستأثرت أحداثها والرغبة في بلورة أولوياتها باهتمامي وبكتاباتي وقتها، وحتى الأن، ودفعت رواية (الطنطورية) إلى الوراء قليلا من اهتماماتي، وإن ظلت على مكتبي وظلت الملاحظات التي دونتها عليها ضمن أوراقي المرفقة بها تستجدي الكتابة. ثم جاءت ذكرى النكبة الفلسطينية، والطريقة الجديدة التي استلهمها إحياؤها من ربيع الثورات العربية، وتوجه الجماهير العزلاء إلى الحدود المصطنعة التي أقامها الغاصب الصهيوني فوق الأرض العربية تعلن للعالم كله، بطريقة سلمية ومتحضرة، أنها لم تنسَ أرضها ولم تتخلَ عنها، لتعيد اهتمامي بالرواية وتردني للكتابة عنها. هنا بدأت التفكير في أهمية سياقات قراءة النص والكتابة عنه في تأويله. هل يمكن الكتابة حقا عن هذا النص بعيدا عما جرى؟ صحيح أن النص سابق على الحدث التاريخي، واندلاع شرارة الثورات العربية، لكن هل يمكن قراءته بعيدا عن ذلك الحدث؟ فالنص، كما يقول إدوار سعيد،(1) دنيوي، لأنه يوجد في العالم ويشتبك مع الكثير من تفاصيله، وهو ليس ابن العالم الذي صدر عنه فحسب، بأوسع معاني كلمة العالم التي تجعلها أقرب إلى الدنيا، لأنه ليس أداة جمالية بحتة وإنما نص بالمعنى الحديث لهذه الكلمة، مشتبك بلغته ومثقل بسياقاته وبالواقع الإجرائي الذي انبثق فيه وصدر عنه. وهو أيضا ابن الرغبة في لعب دور في هذا العالم، والانشغال بهمومه وقضاياه. ولكن عملية القراءة والتأويل هي الأخرى عملية دنيوية، لا تستطيع أن تمارس قراءاتها، مهما تذرعت بالحياد والموضوعية، بعيدا عن هذا العالم أيضا. لأنها كما يقول سعيد لابد أن تأخذ وثاقة علاقة النص بالعالم بالاعتبار، دون أن نتناسى وثاقة علاقة تأويله بالعالم الذي يؤول فيه. إذن فالنص بهذا المفهوم يخلق علاقة جدلية فعالة بين عوالم ثلاثة، عالم النص، والعالم الذي صدر عنه النص، والعالم الذي يقرأ فيه ويؤول في سياقاته. ويبدد سعيد في دراسته تلك الكثير من الأوهام الشائعة حول استقلالية النص المطلقة، واعتماده الكامل على نفسه، والتي يروج لها نقاد كبار من عينة ميشيل ريفاتيرا الذين يتحدثون كثيرا عن الأغلوطة القصدية، والأغلوطة السياقية، والأغلوطة السيرية (نسبة إلى سيرة الكاتب) والأغلوطة النفسية أو التجنيسية أو التناظرية، ويتبعه في ذلك الكثير من النقاد الذين يحرصون على ألا يختفي النص تحت وطأة أي من هذه الأغاليط، بصورة يصبح معها النص كونا مغلقا على ذاته ولذاته.

فالنص عند سعيد، وهو أمر أشاركه الرأي فيه، يفرض بعض القيود على من يشرع في تأويله، أو كما يقول سعيد «إن وثاقة علاقة النص بالعالم تفرض على القراء أخذ الاثنين بعين الاعتبار»،(2) ناهيك عن وثاقة العلاقة بين العالم والنقاد الذين يسعون إلى تقديم قراءة متميزة له. وهذا في رأي سعيد هو الطريق الوحيد لتجنب أن تتحول كل القراءات إلى إساءة قراءات Misreadings حسب تعبير عزيز على هارولد بلوم،(3) تتساوى كلها في إساءتها لقراءة النص، ولا تخرج أي منها عن أن تكون مجرد قراءة، أو بالأحرى إساءة قراءة فردية لا تميزها عن غيرها سوى فرديتها تلك. وهكذا يتخلى النقد في نظر تلك الرؤى النقدية، المسرفة في الدفاع عن استقلالية النص وانغلاقه على ذاته، عن معياريته وموضوعيته، بل عن نقديته وعقلانيته الصارمة. ولأنني أتفق مع إدوار سعيد في تصوره لوثاقة العلاقة بين النص والعالم، ومفهوم العالم عند سعيد أوسع كثير ممن مفهوم الواقع القديم والتقليدي، وأشدد على جدلية هذه العلاقة وحيويتها، لا في أي قراءة ذكية ومستبصرة للنص فحسب، ولكن في أي تأويل يسعى للعب دور في العالم، مثله في ذلك مثل النص نفسه، الذي يطرح فيه هذا التأويل نفسه، وجدت أنني لا أستطيع أن أتعامل مع النص الذي أريد الكتابة عنه هنا، دون أن آخذ كل التغيرات التي انتابت الواقع العربي بعد كتابته ونشره بعين الاعتبار. خاصة وأن النص نفسه، كغيره من نصوص الكاتبة، لا يسعى فحسب إلى الصدور عن العالم الذي كتب فيه وانطلق من انشغاله ببلباله، ولكنه يسعى أيضا إلى لعب دور تنبؤي واستشرافي فيه، ينهض عبره بعبء إضافي هو أحد أعباء وجوده في العالم، وهو عبء إرهاف بصيرة القارئ بحركية هذا العالم، وبالأمل في تغييره، كجزء أساسي من دوره في تأسيس هذه القدرة على التغيير في واقع استكان لدعة الاستنامة لخنوع طال.

وهاهو الواقع ينفض عن نفسه استنامته وخنوعه، فيما يتعلق بموضوع النص نفسه وبعالمه. فقد شهدت ذكرى النكبة هذا العام تغيرا ملحوظا وغير مسبوق في طريقة تعامل الفلسطينيين معها. تغيرا ابتعد بها عن الاحتفالات التي تندب الخسارة، أو تتدارس دروس ضياع فلسطين وتتباكى عليها. واستلهم ثورات الربيع العربي ومنهجها في طرح الموقف الأخلاقي الأعلى سلميا في مواجهة القوة الغاشمة العارية من أي حق أو شرعية أو أخلاق. وخرجت جموع الفلسطينيين إلى الحدود، تتطلع إلى أرضها، وتعلن للعالم أجمع أن هذه الأرض المغتصبة هي أرضها، وأنها تتمسك بحقها فيها، وأنه مهما طال الاستيطان الصهيوني فيها، فإنه ليس إلا استيطان استعماري بغيض، في أرض لايزال أصحابها يطالبون بها، ولا يعترفون للمستوطنين بأي حق فيها. فما برح الفلسطينيون يذكرون العالم كل يوم، وبصيغ مختلفة، ربما كانت السياسية منها هي أكثرها تخاذلا وترديا، بأنهم أصحاب أرض، وأصحاب حق، وبأنهم لن يتنازلوا عن أرضهم وعن حقهم مهما طال الزمن. وربما لهذا السبب نفسه يلجأ العدو الصهيوني باستمرار، لا إلى العدوان المستمر فحسب، وإنما إلى رفع سقف مطالباته العبثية التي كان آخرها المطالبة السخيفة والعنصرية بالاعتراف بيهودية دولة الاستيطان. فالعدو الصهيوني يعرف أكثر من غيره، أنه اغتصب أرض الغير، وأن استمرار استعماره الاستيطاني لها مرهون بضعف العرب وتخاذلهم، أو بالأحرى بتناسيهم لحقوقهم في أرضهم السليبة. لذلك كان انزعاج هذا العدو من فقدانه لذخره الاستراتيجي، المتمثل في نظام مبارك المخلوع، الذي حمى مشروعه الاستيطاني البغيض لثلاثين سنة، كبيرا، وهلعه على سقوطه ملحوظا للعيان.(4)

لكن لابد في الوقت نفسه من التأكيد على أن أخذ كل تلك المتغيرات بعين الاعتبار في التعامل مع النص عند تأويله، لا يعني بأي حال من الأحوال، التجاوز عن أي من قواعد النقد الأدبي الأساسية في التعامل معه وتحليله وفق معايير أدبية ونصية صارمة. فإذا كانت دنيوية النص تتطلب منا أخذ كل ما يطرحه علينا وجوده في العالم بعين الاعتبار في عملية قراءته وتأويله، فإن أدبية النص تتطلب منا أخذ كل العوامل النصية المشاركة في بنيته وصياغة رؤاه بعين الاعتبار أيضا، بما في ذلك ما أحب أن أدعوه بمحتوى الشكل الأدبي الذي اختاره النص وما ينطوي عليه الشكل نفسه من دلالات، واستراتيجياته النصية المختلفة، وبنيته الفنية واختياراته لمنظور السرد، وطريقة تعامله مع الزمان والمكان فيه، وكل تلك العناصر المساهمة في صياغته النصية كنص أدبي. لذلك فإنني وبعد أن أخصص قسما من هذه الدراسة لبلورة السياق الذي تتم فيه عملية التأويل، أي لدنيوية النص ووجوده في العالم، ودنيوية تأويله أيضا، فإنني سأخصص كل الأقسام التالية من هذه الدراسة لأدبية النص ولنقدية العملية التأويلية التي أطرحها حوله. ولنفرغ في القسم التالي من التعامل مع طبيعة السياق ومتغيراته، قبل تكريس بقية الدراسة للتحليل النقدي للرواية.

(2) الثورة المصرية واستعادة فلسطين:
والواقع أن الربط بين المتغيرات الوليدة التي أخذت في التبرعم مع الربيع العربي، وبين تغير طبيعة تعامل الفلسطينيين هذا العام مع ذكرى النكبة ليس مجرد مصادفة، ولكنه نتيجة حتمية لتراكمات كثيرة جذرتها في الوعي العربي كل الكتابات الرافضة للتردي والفساد، والقبول بالعدو الصهيوني. ولوعي جماهيري حدسي مضمر بأن كثيرا من الشروط العربية التي حمت مشروع الاستيطان الصهيوني وكرسته، قد بدأت في التزعزع مع بداية اليقظة العربية، والوعي الجديد الذي يتبرعم عبر ذلك الربيع العربي، وتحتاج براعمه الغضة إلى الكثير من الرعاية والحرص عليها من أعداء الداخل والخارج على السواء. فمع تلك اليقظة العربية الجديدة التي نادت بإسقاط النظم (التي كان من سقط منها، ولاتزال النظم القائمة منها، «ذحرا استراتيجيا» للعدو ومشروعه الاستيطاني البغيض في فلسطين) ستتآكل بالتدريج الشروط التي تدعم استمرار هذا المشروع الاستعماري: آخر المشاريع الاستعمارية الباقية، وأطول احتلال لأرض الغير في عالمنا المعاصر.

ستتآكل هذه الشروط عندنا كما تآكلت، أو إن شئنا الدقة المتناهية بدأت في التآكل التدريجي والمتنامي، في الغرب الذي أخذ  يدرك طبيعة الوجه العنصري البشع لدولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين. فقد كان غريبا ومحبطا لكل عربي أن يرى تآكل دعم الغرب للمشروع الصهيوني ودولته، بينما يتعاظم التأييد الرسمي العربي له ويحميه، بالصورة التي يصبح معها حاكم أكبر دولة عربية «ذخرا استراتيجيا» للمشروع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين. وتنامي وعي الشعوب الغربية بخطل المشروع الصهيوني وبافتقاره للشرعية. فإذا أخذنا الجامعة، وهي المؤسسة التي تعمل بها رضوى عاشور وتهتم بها كمثال، سنجد أن حركة مقاطعة الجامعات الغربية لجامعات العدو الصهيوني في ازدياد مستمر. فبعد أن كانت هذه الحركة تضم 18 جامعة في بريطانيا وحدها عام 2008، تزايد العدد إلى 27 جامعة عام 2009، ثم إلى 42 جامعة عام 2010. هذا التصاعد في الوعي بلا شرعية المشروع الصهيوني في الغرب، وبضرورة مقاطعة مؤسساته الأكاديمية، يقابله انصياع مخز بين الأنظمة العربية الواقعة تحت الضغط الأمريكي لمصالحه وحمايتها له. فقد كانت، ولازالت الكثير من النظم العربية نظما خائنة لشعوبها ولقضية فلسطين معا. وما أكثر ما كتبت بحسرة عن هذه المفارقة بين ما يدور في الغرب وما يدور عندنا في هذا المجال. كما أن تحقيق شعار الثورة الثلاثي المهم: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية، سيخلق حالة جديدة من الوجود الحضاري للأمة العربية، باعتبارها أمة من شعوب حرة تتمتع بكرامتها ووعيها العقلي القادر على تمحيص الأمور وتحديد أجنداتها، وبالتالي قدرتها على فرض أولوياتها. فما أن يتوفر لها قدر معقول من الحياة الكريمة التي تحققها العدالة الاجتماعية المبتغاة، حتى تتحول مشاعرها الوطنية السليمة إلى أفعال وسياسات. وهو أمر يشكل مجرد احتمال تحققه في المستقبل، أحد أهم هواجس أعداء الثورة. لأنهم يدركون أنه لا حياة في هذه المنطقة لمشروع نهضوي عربي حر لها، ومشروع أمريكي يستنزف ثروات المنطقة، ويرعى دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين فيها.

وهذا التناقض بين المشروعين: مشروع النهضة/ الثورة في المنطقة العربية من ناحية، والمشروع الأميركي الصهيوني فيها من ناحية أخرى، يعيه أعداؤنا باستمرار، ويرسمون سياساتهم وفقا له على مد تاريخنا الممتد من الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم. ولابد أن تعيه الثورة المصرية، والثورة العربية من ورائها، وأن ترسم استراتيجياتها وفقا له أيضا. وكما أن هذا الوعي الشديد بالتناقض، بل التعارض الجذري بين المشروعين، من مضمرات الخطاب السياسي الصهيوأميركي، الذي يتذرع على السطح الآن بدعم الثورة، ودعم التعايش السلمي بين الجلاد والضحية. فلابد أيضا أن يكون من مضمرات خطاب الثورة السياسي، ولا يطفو على السطح، حتى لا يسهّل لأعدائها الهجوم عليها، دون أن تكون مستعدة تماما لأي مواجهة مع أعدائها. فكم عانينا من العنتريات التي لا تنهض علي أسس من التفكير العقلي والاستعداد السليم، والتي تصب في نهاية الأمر في صالح العدو، بينما يبدو أنها في الظاهر تعمل ضده. وأدرج ضمن تلك العنتريات كل حديث الآن، وقبل أن تكمل الثورة مشروعها، وترسخ بنيتها التحتية التي تضمن تحقيق شعاريها: إسقاط النظام القديم، وتأسيس نظام جديد صلب يكرس الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، عن إلغاء كامب دافيد، أو الصلاة في المسجد الأقصى. فلابد أن نتذكر درس أغلاق مضايق تيران، دون أن تكون لنا القدرة على رفد الفعل بالقوة العسكرية القادرة علي تحقيقه، وما جره علينا من هزيمة بشعة عام 1967 لازلنا نعاني من ويلاتها حتى اليوم، فكامب ديفيد في رأيي الشخصي من أبشع مخلفاتها، لأنها كما كتبت من قبل أكثر من مرة هي التجلي الأكمل لانتصار الهزيمة، بعد رفض مصري وعربي لها دام لأكثر من عشر سنوات.

والواقع أن قيام الثورة المصرية في حد ذاته وجه ضربة قاصمة لأعدائها في الخارج والداخل على السواء. وهو أمر لا تعيه دولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين فحسب، وإنما يعيه كل رعاتها الغربيين، وفي مقدمتهم راعيتها الأولى وحاضرتها الأم، بمعنى المتروبوليتان الاستعماري لها، الولايات المتحدة الأمريكية. فلا يوجد محلل أميركي أو غربي جاد لا يدرك، أو بالأحرى لم يكتب بصور تتفاوت بين التعليق الصحفي والدراسة الجادة، أن ثورة مصر كانت أكبر لطمة على وجه المشروع الأميركي وسياساته في المنطقة، بل وفي العالم من ورائها. ولا يوجد في الوقت نفسه استراتيجي أميركي جاد لا يبذل قصارى جهده الآن، تفكيرا ودراسة وتحليلا، لتطويق هذه اللطمة، واستيعاب أثرها التدميري على سياسات الولايات المتحدة في المنطقة، وتشتيت بصلتها، وإفراغها من أهدافها الراديكالية، في نوع من الممارسات المعروفة باسم الحد من الخسائر Damage Limitation أو تطويقها. ودون تكرار ممل فإن سياسات الولايات المتحدة في المنطقة تتمحور حول أمرين أساسيين: تأمين السيطرة على النفط العربي، وضمان استمرار المشروع الصهيوني في المنطقة. وهما أمران مترابطان ومتكاملان في مخطط السياسة الأمريكية على الصعيد الدولي. والواقع أن محاولات تقليل الخسائر الجارية الآن على قدم وساق، ليست إلا التمهيد الضروري للانقضاض على الثورة واستئناسها بتفريغها من محتواها الثوري والحقيقي. وما خطابات أوباما الأخيرة إلا الخطوة الأولى على طريق طويل ومحفوف بالمؤامرات لا بالنسبة للثورة المصرية وحدها، وهي واسطة العقد، وإنما بالنسبة لربيع الثورات العربية كله.

لذلك فإن المهمة الأساسية الآن لكل مصري ولكل عربي هي الوعي بكل تلك الأخطار المحدقة بالثورة وكشفها ودعم مسيرتها كي تحقق أهدافها، في استكمال اسقاط النظام وكل رموزه من ناحية، وفي تأسيس بنية كفيلة بتحقيق شعارها الثلاثي: حرية، كرامة، عدالة اجتماعية من ناحية أخرى. ولابد أن يضع هذا الوعي نصب عينيه ما يسعى إليه أعداء الثورة في الخارج، وهم يعملون بدأب على استيعاب الصدمة، ثم استدراج مصر للوقوع في فخاخهم التي لم يتوقفوا يوما عن نصبها لها. وما كل ما يدور الآن من تخبط في الساحة المصرية، واندلاع لأحداث الفتنة الطائفية، والانفلات الأمني والبلطجة، إلا بعض أهون تلك الفخاخ التي ينصبونها لها. فثمة حرص شديد في كل دوائر التخطيط الاستراتيجي الصهيوأمريكية على التسلل إلى الثورة كي يفرغوها من محتواها، أو يحاصروا تأثيراتها على مشروعهم في المنطقة. وبالإضافة إلى اليقظة لما يقومون به، لابد أيضا من يقظة مماثلة إزاء ما يفعله أعداء الداخل أيضا. لأن تلك العنتريات التي يطلقها أعداء الثورة من السلفيين حول الصلاة في المسجد الأقصى، لا تقل خطرا عليها من ردود أفعال أعدائها، فغايتها استدراجنا للوقوع في شبكة أعداء الثورة في الخارج، وتوفير الذرائع لهم كي يجهزوا عليها بسهولة، والزج بالثورة الوليدة في معارك لم تستعد لها، تقدمها فريسة سهلة لأعدائها.

فما قدمته الثورة لفلسطين بالفعل كثير وجديد، ولا أعني بذلك اتفاق المصالحة، أو فتح المعابر مع قطاع غزة، ولكني أعني قبل أي شيء هذا النموذج المتحضر في طرح الموقف الأخلاقي الأعلى في مواجهة العسف وغطرسة القوة. لأن هذا النموذج أهم كثيرا من تلك العنتريات الفارغة بل المسمومة. كما أنه يؤكد من خلال ممارسته العقلية أن الطريق لفلسطين قد تغير، ولابد أن يتغير. إذ يعتمد على العقل والحق والموقف الأخلاقي الأعلى قبل أن يعتمد على القوة، وبقدر اعتماده عليها. ويعتمد أكثر ما يعتمد على ضرورة معرفة الجمهور المصري العريض، وخاصة أجيال الشباب منه، بقصة فلسطين كي تتجذر في وعيه، وكي تتكون من جديد ذاكرته التاريخية القادرة على التصدي بعقلانية ومعرفة وحكمة للمشروع الصهيوني البغيض الذي يستهدف مصر قدر استهدافه لفلسطين. وهذه المعرفة المهمة هي ما تقدمه له رضوى عاشور في روايتها الملحمية الجميلة «الطنطورية» التي تعيد فيها على الورق بناء الذاكرة الفلسطينية التاريخية، وتستعيد فيها القرية الفلسطينية الدارسة: «الطنطورة» على الورق، وقد أحالتها إلى استعارة شفيفة لفلسطين، تمهيدا لاستعادة فلسطين في الواقع.

فالرواية حريصة منذ صفحاتها الأولى على تأسيس القرية التي اختارتها، وكأنها قرية بدئية ذات علاقة أولية بالبحر وبالأرض، بحر القرية في بكارته، هو بحر فلسطين بالمعنى الكلي المطلق. وأرضها هي أرض فلسطين الخصبة بالزراعة والأزهار البرية. فهي قرية تعمل بالصيد والفلاحة، وهي ليست المهن الفلسطينية التقليدية في مطالع القرن الماضي فحسب، ولكنها المهن البدئية التي تزرع تلك القرية في التاريخ البعيد. وحتى يتم تجذير القرية في زمن بدئي أبدي تضبط الرواية إيقاعات حياتها، لا بالتواريخ المعروفة، وإنما بالأغاني الشعبية الفلسطينية التي لا تعرف زمنا محددا، وإنما تعيش في زمن سرمدي حسب تعريف والتر بنيامين للزمن السرمدي الذي يجعله مضادا للزمن الكرونومتري الذي يقاس بالساعات والأيام. ولأنها تؤسس القرية كواقع ورمز معا، فإنها تحرص على أن يكون أول ذكر لليهود فيها هو ذكرهم كقطاع طرق. فحينما يهون أبو الصادق على زوجته التي ترى أن حدود العالم هي حدود قريتها البدئية تلك، قصر المسافة بين القرية وحيفا «تركبين القطار فتصلين لابنتك في أقل من نصف ساعة. قلت: ولو قطع اليهود علينا الطريق»(ص 13) ثم تتأكد هذه الأشارة مرة أخرى (ص 15) ومرة ثالثة من خلال استخدام التعبير الموفق «استحلوا البلد»(ص148)، كي تتأسس عبرها مفردات اللعبة بين قرية آمنة وقطاع طريق يحترفون ارتكاب المجازر والسرقة. وهذا الحرص على تأسيس كل مفردات القرية وإعادة خلق جغرافياها في الخطاب السردي أمر بالغ الأهمية والتوفيق. فقد علمنا ميشيل فوكو أهمية العلاقة بين الخطاب والواقع، وأنه لابد من صياغة خطاب نكسب فيه قضايانا قبل أن نكسبها بحق على أرض الواقع. هذا فضلا عن أنها وضعت على خريطة الوعي العربي مذبحة منسية بشعة، لا تقل بربرية عن مذابح دير ياسين وكفر قاسم وغيرها، هي مذبحة الطنطورة. في هذا السياق، سياق اللحظة التاريخية الفارقة، وسياق العالم المتغير بالربيع العربي والمؤامرات المحيطة به التي تستهدفه من الخارج والداخل على السواء، تبلور القراءة النقدية رؤاها، وتطرح على القارئ كشوفها.

(3) استعادة فلسطين على الورق أولا:
قليلة هي الروايات التي تغنيك قراءتها عن قراءة عشرات الكتب في التاريخ والمأثورات الشعبية والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية وعلم الأنسان، وعلم الاجتماع، وحتى الجغرافيا، حول شعب معين، أو مرحلة تاريخية محددة. ثلاثية نجيب محفوظ الرائعة (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) من هذه الروايات التي تعلّم قارئها الكثير عما دار في مصر على مد فترة زمنية طويلة من تاريخنا الحديث تمتد من الحرب العالمية الأولى حتى قرب نهاية الحرب العالمية الثانية، أو بالتحديد من 1917 – 1944(5). ورواية رضوى عاشور الجميلة الجديدة (الطنطورية) هي الأخرى من هذا النوع من الروايات النادرة التي تغنيك قراءتها عن قراءة عدد من المراجع الكثيرة والمتنوعة عن فلسطين منذ قبيل النكبة بقليل، عام 1947 وحتى منتصف العقد الأول في القرن الحادي والعشرين، وما بعد عام 2000 عام ميلاد «رقية» الصغيرة، وعام تحرير الجنوب اللبناني: تاريخها، قراها، عذابات أهلها وصمودهم، مأثوراتها الشعبية، لغتها، أغانيها وأهازيجها، أشجارها وزرعها ومحاصيلها، ورموزها، وما جرى لأهلها الذين أجبروا على النزوح منها بالعسف والبطش والتطهير العرقي والتقتيل، ولم يسلم تاريخهم بعدها من هذا العنف الذي زرعه المشروع الصهيوني البغيض في واقعنا العربي ومازال يرعاه ويعيش عليه حتى اليوم.

صحيح أن الرواية تعود إلى أزمنة سابقة على 1947، وتتحدث عن دور الأب «أبو الصادق» والعم «أبو الأمين» في مقاومة الانجليز وانتفاضة 1936 ونضالات أمين الحسيني وغيرها من الأحداث الفلسطينية الكبرى، لكن زمن الرواية السردي ينطلق حقيقة من تلك اللحظة التي بدأت رضوى عاشور فيها روايتها، في عام 1947. لحظة أن خفق قلب بطلتها «رقية» بالحب لأول مرة وهي في شرخ المراهقة، لم تكمل بعد الثالثة عشرة من عمرها، حينما انشق البحر، وطلع عليها طرحه في هيئة هذا الفتى الوسيم «يحيى» ابن «عين غزال» الذي لن يقدر لها أن تراه بعد تلك المرة الأولى، برغم أنه جاء مع أهله وخطبوها. فالرواية كما يقول عنوانها، والعنوان هو عتبة النص الأولى، هي رواية «الطنطورة» وهو عنوان يعمد إلى اصطياد عصفورين بحجر واحد: أي يقدم لنا القرية «الطنطورة» التي تسعى الرواية لسرد حكايتها وهي تشتبك بحكاية فلسطين، والراوية «رقية» أو «الطنطورية» التي تقدم الرواية حكايتها، وتطل على العالم من خلال منظورها النسوي له. فالرواية تقول لنا أنه ليس ممكنا أن نكتب حكاية المرأة الفلسطينية دون أن نكتب معها، وبها، حكاية فلسطين، أي حكاية «الطنطورة» تلك القرية الساحلية الفلسطينية من قضاء حيفا والتي تتداخل في البحر والواقعة إلى الجنوب قليلا من حيفا، والتي محتها العصابات الصهيونية من على الخريطة أو كادت عام 1948. أو بالأحرى هي رواية تلك المرأة «الطنطورية» الفريدة «رقية» التي ولدت عام 1935 أي أنها من جيل رضوى وإن كانت تكبرها بتسع سنوات، (إذ ولدت رقية في نفس العام الذي ولد فيه عدد من أبناء جيلنا من محمد عفيفي مطر إلى بهاء طاهر وعبدالحكيم قاسم وأحمد حجازي) لكن هذه المجايلة مهمة لأنها زودتها بشيء أساسي، تحرص عليه رضوى عاشور في جل كتاباتها منذ (حجر دافئ) وحتى (فرج)، ويرفد هذه الكتابة بدرجة عالية من الصدق والإقناع، ألا وهو الخبرة العميقة بالشخصية والمعرفة الدقيقة بالزمن التاريخي الذي تكتب عنه. فبطلة الرواية وإن كانت مختلفة كلية عن كاتبتها، فهي بنت زمنها، وبنت شيء من خبرتها بهذا الزمن وفهمها له.

وللبنية الزمنية في هذه الرواية حديث يحتاج إلى دراسة ضافية. تقدم لنا الرواية بعض مفاتيحها حينما تقول لنا: «استحلوا البلد وأطلعونا فشردنا إلى لبنان. تمضي الحكاية، ولا تمضي تماما، لأنها وهي تتقدم إلى الزمن التالي تظل ترجع وتسترجع» (ص 148). فالحكاية تبدو وأنها تمضي في زمن خطي يبدأ كما قلت من عام 1947 ويتسمر إلى بدايات هذا القرن الحادي والعشرين، ولكنها برغم خطيتها البادية تلك «ترجع دائما وتسترجع»: ترجع لأننا كما تعلمنا الرواية نفسها لا نستطيع أن نفهم الحاضر إلا إذا ما وضعناه في سياقه وماضيه، وتسترجع لأن الاسترجاع هو أداتها السردية لإعادة خلق ما يمحوه المشروع الاستيطاني البغيض من الذاكرة مرة، ومن على أرض الواقع بالهدم والتجريف والدمار أخرى، وتثبيته في وعي الرواية ووعي القارئ معا. فالرواية هي رواية تذكر واسترجاع، تطرح الذاكرة في مواجهة تصاريف التاريخ والسياسة معا، وتعيد خلق ما ضاع من الواقع على الورق. رواية مروية من خلال منظور «رقية» التي طلب منها ابنها حسن (ابن النكبة بلا نزاع فقد كان رضيعا حينما وقع العدوان الثلاثي على مصر، وتأكدت بهزيمتنا العسكرية فيه النكبة وترسخت) أن تكتب حكايتها/ شهادتها: «إحك الحكاية! اكتبي ما رأيته وعشته وسمعته، وما تفكرين فيه وإن صعُبت الكتابة، إحكِ شفاهةً وسجلي الكلام، بعدها ننقله على الورق. هذا مهم يا أمي! أهم مما تتخيلين»(ص 204) نعم هو أهم مما تتخيل «رقية» التي عاشت المأساة برمتها، لأن حكايتها تتحول من خلال هذا السرد المؤتلق المستعاد إلى حكاية فلسطين، وإلى جزء من ذاكرة تاريخية قومية تكتب ملحمة الشتات، وتطرح الحقيقة الفلسطينية وتفاصيلها الغنية بألق الحياة، ونصاعة الحق، وجلد الصمود في مواجهة الأكاذيب والأساطير الصهيونية التي لاتزال تسعى لتخليق شرعية زائفة لدولة الاستيطان الصهيوني في فلسطين.

وتبدو الرواية بسبب غناها السردي والفني الفادح وكأنها مفتوحة على قراءات متعددة، وتأويلات مختلفة ولكنها في الوقت نفسه مؤتلفة ومتكاملة. ففي مستوى من مستويات التأويل تبدو وكأنها رواية امرأة عربية بسيطة وجلدها في مواجهة ما جرى في عالم ينهار من حوله، ولكنها ترفض انهياراته. وتذود عن حقها وحق أسرتها في الحياة، وتسجل لنا رحلتها مع الإخفاقات والتحقق، رواية امرأة ورحلتها مع النضج والتكوين Bildungsroman والتحرر النسوي Feminist إن شئنا استخدام المصطلحات الشائعة. حيث تحكي قصة «رقية»، هذه الصبية «الطنطورية» الرقيقة التي فرض عليها المشروع الصهيوني البغيض تجربة الشتات والنفي. طردها من قريتها الساحلية الوادعة، وحرمها من حبها الأول، وجعل حياتها سلسلة من الارتحالات والمنافي. قصة تسترجع فيها «رقية» ما فعلته بها تصاريف الحياة، وما عاشته فيها من أفراح وأتراح، وتلخص لنا في الوقت نفسه تجربة المرأة الفلسطينية التي فُرِض عليها أن تُحرم من أرضها، ومع ذلك حافظت على هويتها وصلابتها، ورعت ثقافتها الشفهية والاجتماعية، وساهمت بقدر ما تستطيع في الحفاظ على نفسها وكرامتها كامرأة وكأم، وعلى قضيتها حية ومستمرة ومتقدة، دون طنطنة أو ادّعاء أو زعيق. وأهم من هذا كله نقلت هذا الوعي بهويتها وكرامتها وعدالة قضيتها إلى أبنائها وأحفادها من بعدها، وجعلتهم لا يحافظون على هويتهم فحسب، بل يعتزون بها ويدافعون عنها، ويحمونها من التبدد والنسيان.

فـ«رقية» محور هذا النص الروائي ومصدر وجوده، امرأة بسيطة، ولكنها صلبة ورقيقة، قوية وهشة في آن. تعي أنها حاضنة أبنائها وأنها مستودع قيمهم الاجتماعية والوطنية على السواء. ولذلك فإن قصتها لا تنفصل عن قصة هؤلاء الأبناء الأربعة، فهم بكل تصاريف حياتهم، جزء لا يتجزأ من قصتها في الحياة ورحلتها مع التكوين Bildungsroman وكيف تخلقت قصة كل منهم في بوتقة العلاقة المتصلة بها أولا وبفلسطين أولا أيضا. فالتكوين في هذه الرواية مثله مثل التحرر النسوي فعل معاش ومراوغ معا لا تطرحه الرواية على السطح، ولكن في اشتباكه المستمر بالهوية وبما دار لفلسطين. فحينما تسعى «رقية» للتعلم واستدراك ما فاتها من معارف، فإنه ما أن يدعوها المخيم لمساعدة سكانه، حتى تحقق تحررها في عملها به، قدر ما كان من الممكن أن تحققه بمواصلة التعليم الذي حرمتها رحلة الحياة والشتات منه. وإن حرصت على توفيره لكل أبنائها. فالتكوين في هذه الرواية يمضى خطوة بخطوة مع التحرر لا من البنية الأبوية التقليدية فحسب، ومن كثير من سلبياتها القديمة دون طنطنة أو زعيق، وإنما أيضا من أوهام الطرح المغلوط للقضية الفلسطينية ولسبل استعادة الأرض السليبة.

ولأنها رواية تكوين «رقية» وتحررها، فإن منطق تخليق الشخصيات في السرد يرتبط كلية بها، فلا تظهر أي شخصية فيه، بالإضافة إلى أفراد اسرتها إلا لارتباطها بها. وتكشف الرواية في أكثر من مكان عن صلابة معدنها هذا وعن أنها لاتساوم على قضيتها ولا على قيم أسرتها الصغيرة، التي وإن نجح أحد أفرادها ماديا، وهو صادق، وأصبح من الأثرياء، فإنها تحرص دوما على تذكيره بأصله الفلسطيني المتواضع، كابن مخيم كما تقول. تدرك «رقية» أهمية أن تذكر ابنها بذلك وهي ترى انفصاله عن جذوره «غضب حين قلت لأهل زوجته يوم ذهبنا لخطبتها في عمّان إننا أولاد المخيم. تفصل بين الوليمتين ثلاث حروب ومجزرة»(ص 280). بالرغم من أن الأسرة برمتها لم تعش يوما في المخيمات، ولكنه الانتماء الفكري والوطني للمخيم كرمز، هو الذي يجعلها تحرص على أن تذكره برغم نجاحه الطبقي الباهر، وتذكر بقية اخوته بهذه الحقيقة التي تعتبرها من رواسي تصورها لهويتها الفلسطينية وانتمائها، لا في لقاء خطبة ابنها البكر صادق والذي جرى في عمان فحسب، وإنما أيضا في بيته في أبي ظبي بعدما نجح وأصبح من الموسرين الذين يعيشون في بيت مليء بالخدم والحشم. فصعود صادق الطبقي يواجهه اعتزاز الأم بكرامتها وأصولها الطبقية المتواضعة، وانتسابها الجذري للطنطورة، لتلك القرية الساحلية في فلسطين، والتي تمنحها هويتها وتمنح النص كله عنوانه.

وهي حريصة على أن تنقل هذا الإحساس بالاعتزاز لأبنائها. تنقله مرات من خلال حدتها حتى مع ابنها الأكبر صادق وزوجته، بعد ان انتقلت للحياة معهم في أبي ظبي. لكنها تحرص على ألا تؤثر هذه الحياة الاصطناعية في الخليج على ابنتها مريم. تحكي لنا مريم، كيف أعطتها أمها أثناء إقامتهما في بيت صادق في الخليج «درس في الأخلاق» (ص 290 -293) بعد عشر سنوات من هذا الدرس الذي لقنته لها أمها، تحكي لأخيها، فللحكي في الرواية أكثر من دور: ترسيخ القيمة/ الدرس من ناحية، ثم نقل التجربة لأخيها بحذافيرها وبطريقة أدهشت الأم من ناحية أخرى، وأكدت لها نجاحها في درسها: «سيذهلني أن مريم وهي تسترجع ما جرى وتنقله إلى أخيها تتذكر تفاصيل الحوار بالنقطة والفاصلة. وبعد أكثر من عشر سنوات»(ص 291) تقول مريم لأخيها عبد «زنقتني في الحجرة، و«فين يوجعك» درس في الأخلاق والتاريخ والجغرافيا وشجرة العائلة. جدك أبو الصادق كان .. أخوالك .. جدك أبو الأمين كان .. واللازمة: نحن فلسطينيون. لاجئون. أولاد مخيّم. ويا ماما ماذا فعلت؟ قالت إنها لاحظت أنني أتعالى على الشغّالة السيرلانكية، وأنني بدأت أتصرف كما تتصرف البنات هنا في الخليج. ولو كانت إقامتك هنا سوف تحولك إلى واحدة منهن سنعود إلى لبنان. نعود إلى صيدا ونسكن عين الحلوة، فيربيك المخيّم ويعرفك من أنت»(ص291). هكذا تحرص الأم/ فلسطين على فلسطينية بنيها، وهكذا تكرس الطبقة الوسطى، مستودع القيم والأخلاق والوطنية، قيمها وترسخها في أبنائها، والأهم في بناتها.

(4) الزمكان: جدلية الزمان/ المكان في الرواية:
وتبدو الرواية في قراءة ثانية وكأنها رواية الجغرافيا الفلسطينية التي جهد العدو الصهيوني في محوها، وإزالة معالمها من على وجه الخريطة، كي يفرض بدلا منها خريطته الشوهاء ويشيدها على أنقاضها. ولا غرو فإن الكثيرين من سكان المستوطنات الجديدة من شذاذ الآفاق الذين جلبتهم الأيديولوجية الصهيونية العنصرية من فجاج الأرض يشعرون كثيرا بأن أشباح قتلاهم تعمر مدنهم (قل خرائبهم)(6) الجديدة تلك. والواقع أن نجاح الرواية في إعادة تشييد تلك الجغرافيا نابع من استخدامها لما يدعوه ميخائيل باختين بالزمكان Chronotope. وهو مصطلح يدمج الجذرين اللاتينيين: زمان/ مكان، ويتحول في منهج باختين في تحليل النص السردي إلى وحدة واحدة يصبح فيها الزمان بعدا أساسيا للمكان، ولا يتجلى فيها المكان دون تشبعه بالزمان وتغلغله فيه. أي أن الزمان عنده هو البعد الرابع للمكان، والمكان هو البعد الرابع للزمان. وهو مفهوم بالغ الأهمية وخاصة حينما يكون النص مشغولا بعملية محو المكان وتزوير التاريخ/ أي الزمان المستمرة معا، والتي تعد أحد أسس المشروع الاستيطاني الصهيوني الذي ينهض على تغيير كل من المكان والزمان معا من أجل نشر أساطيره الزائفة. وأهم ما يميز مفهوم باختين للزمكان هو «أنه على العكس من الاستخدامات السابقة لمفهومي الزمان والمكان في تحليل النصوص الأدبية، لا يميز باختين أيا من البعدين عن الآخر، وإنما يؤكد على اعتمادهما المطلق كل على الآخر. بصورة يتحول معها الزمكان إلى أداة كشف في التحليل السردي تشبه جهاز أشعة أكس الذي يعرى القوى الفاعلة في النظام الثقافي الذي ينبثق عنه أي تعبير سردي عن الزمان أو المكان بشكل كلي ونهائي في آن.»(7)

لذلك فإن الرواية وهي تزيح مستوطنات العدو الصهيوني عن المكان الفلسطيني الذي استباحته، تزيحها من فوق الخريطة جانبا في فعل معاكس لفعل الاستعمار والاستيطان، هو فعل تحرير، تعيد فيه لفلسطين القديمة ألقها وجمالها. تؤسس معالمها ومفرداتها من جديد وترسم خرائطها: فإنها لا تستطيع أن تفعل ذلك بمعزل عن روايتها للزمن المستعاد في حركة مراوحته البندولية بين الماضي والحاضر على الدوام. فكل مكان يقدمه لنا زمانه، ولا نتعرف عليه دون الزمان الذي يجلبه للسرد، ويمنحه بعده الزمني الرابع. فعندما يرسم لنا النص جغرافيا فلسطين التي تعرضت للمحو والتزييف، فإنه يقدمها لنا وهي طالعة من نوستالجيا الماضي الجميل، أي الزمن الذي أئتلقت فيه فلسطين وكانت الحياة فيها عادية ورخية وحلوة قبل استنبات هذا المشروع الاستيطاني البغيض على أرضها. فالنوستالجيا للمكان هنا ليست مفصولة عن حنين إلى زمان مغاير كان فيه لهذا المكان معناه الحقيقي، وقبل أن يشوهه العدوان ومشروع الاستيطان البغيض.

إذ تعيد الرواية وهي ترسمه خلق جغرافياها من الذاكرة ومن الزمان معا، بكل قرى الساحل وبلدات الجليل، من قضاء حيفا، إلى قضاء طولكرم، وقضاء يافا التي سرقوها وسموها «تل أبيب» كما تصرخ وصال (ص 323)! إلى قضاء طولكرم وقضاء جنين ونابلس والرملة. ببيارات البرتقال وأشجار الزيتون، وإلى الطبيعة الفلسطينية بكل أشجارها وأزهارها البرية ومحاصيلها. لكنها تركز اهتمامها على قضاء حيفا وعلى الطنطورة وما جاورها من قرى من عين غزال وإجزم وجبع وقيسارية إلى فريديس وطربيخا وعين حوض وتل البرج والشجرة وصفورية وبلد الشيخ والمطلة، إلى أم الشوف والطيرة، وبريقة والدامون ووادي عرة والخالصة والناعمة والسنديانة .. وعشرات غيرها. إنها في هذه القراءة رواية المكان بلا نزاع، في طبيعته السردية الزمكانية وتحولات هذا المكان أو بالأحرى مسخه بعدما يطرد منه أهله، ويتحولون إلى لاجئين في مخيمات قميئة لا تنسى الرواية أن تخلق لنا جغرافياها الجديدة، جغرافيا الواقع الكئيب الذي جرى فيه مسخ هذا الماضي الجميل، واقتلاع سكانه من دورهم وقراهم التي لم يتخلوا عنها أبدا، وظلت مفاتيح تلك الدور القديمة التي دُعُّوا عنها عنوة معلقة كالنير أو كالراية في أعناق النساء، لا يخلعنها أبدا، حتى أثناء استحمامهن، وكأنها أصبحت جزءا من أجسادهن، ومن كينونتهن بالمعنى العميق للمرأة كسكن، وكوطن.

أما الجغرافيا الجديدة التي جرى حشرهم فيها بعد الاقتلاع تحظى هي الأخرى باهتمام الرواية ورصدها. حيت نتعرف فيها على تلك المخيمات المترعة بالذل والهوان وإملاءات المكتب الثاني اللبناني: من عين الحلوة إلى المية مية، ومن ويفل وبرج الشمالي إلى نهر البارد والرشيدية، ومن صبرا وشاتيلا إلى برج البراجنة ومخيم البص وغيرها من مخيمات اللاجئين المنتشرة في أرجاء الخريطة اللبنانية. صحيح أن هناك مخيمات أخرى كثيرة انتشرت في بقية الأرض العربية، لكن الرواية تركز اهتمامها على مخيمات لبنان، وتقدمها في الرواية بطريقة تربط بينها وبين زمن الهوان الأول في الخمسينيات والستينيات حيث كان اللاجئون يخضعون لإملاءات المكتب الثاني اللبناني، ويقاسون الأمرين في حركتهم داخل لبنان، ثم تكشف عن تحولات وضعها في زمن الكرامة التالي لمعركة الكرامة وصعود المقاومة وبدايات الحرب الأهلية، وصولا إلى ما جرى لها نتيجة للاستقطاب الطائفي المقيت وما أعقبه من مجازر من تل الزعتر إلى برج البراجنة، ولكن كان أشهرها وأبشعها مجزرة صبرا وشاتيلا في الثمانينيات.

(5) السرد المستعاد ورواية زمكانية الأجيال:
وتبدو في قراءة ثالثة وكأنها رواية أجيال، تستخدم منظور المرأة والسرد المستعاد لتحكي لنا قصة أسرة من أربعة أجيال، ترسم لنا على غلافها الأخير شجرة عائلتها التي تبدأ بالجد الكبير «أبو الصادق» الذي ولد عام 1906 في «الطنطورة» وقتله الصهاينة بعد وقوعه في الأسر عقب اجتياح «الطنطورة» عام 1948، ودفنوه مع ولديه في مقبرة جماعية للأسرى في مجزرة أخرى من المجازر العديدة التي قام علي دمها المشروع الاستيطاني الصهيوني البغيض، وصولا إلى الحفيدة «رقية» ابنة حسن الصغرى المولودة في «اللد» عام 2000، برغم ملحمة الشتات الطويلة، والتي تسلمها رقية الكبيرة الراية/ مفتاح الدار. فهي ابنة زواج فلسطينيي الشتات بفلسطينيي الأسر المعروفين بفلسطينيي 1948. وهي قصة تكتب من خلال تناسخ الشخصيات وتكرار الأسماء أو توالدها من بعضها البعض استحالة محو العدو لفلسطين، أو القضاء على الفلسطينيين. فبعد أن يقتل الصهاينة أخواها الصادق وحسن، ويلقون بجثتيهما على الكوم مع جثة أبيها، تنجب «رقية» من جديد، في نوع من الانتقام المراوغ أو الضمني، الصادق وحسن، وفوقهما فوق البيعة، عبدالرحمن. فقد دأب العدو الصهيوني على قتل رجال هذه «الطنطورية» المدهشة: قتل أباها وأخويها ثم جاء إلى بيروت ليقتل زوجها إبان اجتياحه لبيروت، ودأبت هي بدورها على تبديلهم برجال جدد أشد من أسلافهم وعيا وصلابة.

وكأنها تدرك أن جينيولوجيا العائلة هي الرد الذي باستطاعتها كامرأة أن تطرحه في وجه تواريخ الدم والشتات والدمار، فهم يدمرون ويقتلون، وهي تبني وتنشئ الحياة. فلديها إصرار مضمر على إعادة تشييد الممحو، في البشر قبل المكان، تنفي وجود ما شيد على انقاض ما محي، لأنها تكتب لاشرعيته، وتعيد خلق أصحاب الحق السليب الذين قتلهم العدو الصهيوني في واحدة من مجازره المنسية، وهم أكثر تمسكا بحقهم. فما يضفي على هذه الرواية أهمية مضاعفة هو أنها تتيح لكاتبة مصرية أن تعيد تشييد فلسطين. فهي في رأيي أهم محاولة مصرية لكتابة فلسطين التي ظلت هما مقيما يشغل الثقافة المصرية منذ النكبة ويتغلغل في كثير من أعمالها الأدبية،(8) ولكنها لم تكتب من قبل بهذا الاستيعاب والشمول. وهي في هذه الكتابة تضع على خريطة الوعي المصري، والعربي من ورائه، مذبحة جديدة كانت مجهولة نسبيا، لأنها لم تدلف إلى فضاء الأدب بالقوة التي دخلته بها مذابح دير ياسين وكفر قاسم. فالأدب هو الذي خلد هذه المذابح، بعد تجذيرها في الوعي والخطاب الأدبي شعرا وسردا. وها هي رضوى عاشور تضع على خريطة الوعي الأدبي مذبحة أخرى، درسها الفلسطينيون، وبعض المؤرخين الجدد من شرفاء اليهود غير المتصهينين، هي مذبحة الطنطورة. وتتيح لهذه المذبحة أن تتغلغل في كل ثنايا السرد. لأن الكاتبة وقد بدأت بها في الفصول الأولى من روايتها (الفصول 4 – 8) تعود مرة أخرى لتكمل فصول المذبحة عبر شاهد آخر هو «أبو محمد» (في الفصلين 37 – 38) يكمل لنا فصول ما لم تشهده «رقية». فالرواية حريصة من هذه الناحية على أن تكتب المذبحة بكل دمويتها وبشاعتها، وبتغلغلها لا في حياة أبناء أسرة هذه «الطنطورية» فحسب، وإنما في شبكة المآسي العربية واشتباكها بمأساة الكردي العراقي الذي علمه صابئي فن صياغة الحلي وهو ينقش خصيصا، بعد ما تعرف عليه ابنها عبدالرحمن حليته الخاصة والمنقوش عليها «الطنطورية» بطريقة فريدة تتضافر فيها المآسي العربية والتي أهداها عبد لأمه في زيارته لأبي ظبي،(ص 363) بصورة ترقش اسم الرواية وموضوعها، لا في ثنايا السرد فحسب، ولكن في خريطة المآسي العربية الأوسع أيضا.

لكن الرواية وهي تكتب قصة الأجيال تلك، تحرص على زمكانيتها التي يتضافر فيها الزمان بالمكان كي يكتب التاريخ بصورة شديدة العمق والشمول. فكل جيل لا يرتبط بزمان فحسب، يعيشه ويقدم لنا متغيراته، ولكنه يرتبط زمكانيا بمكان يرسم جزءا خريطة فلسطين، أي بزمان متجذر في المكان. فإذا كان جذر العائلة أبو الصادق وزوجته «زينب» أم الصادق، قد ارتبطا أساسا بالطنطورة ولدا فيها، وقتل أولهما على مشارفها عند المقبرة، وقتل معه الولدان: الصادق وحسن المولودان فيها، بينما قدر على الثانية الشتات. فإن البنت «رقية» التي ولدت وعاشت حتى «حرطها خراط البنات» في الطنطورة تعيش أكثر من زمكان: لأن كل زمان عاشته في مكان مختلف: من صيدا إلى بيروت، إلى أبي ظبي، إلى الاسكندرية، ثم صيدا من جديد. ولأن رقية الطنطورية هي في مستوى من مستويات التأويل في الرواية رمز فلسطين، فإن تنقلاتها في الأمكنة والأزمنة، وأولادها الثلاثة وبنتها، تنطوي هي الأخرى على أبعاد متراكبة من الزمكان الفلسطيني. وتفعل الرواية ذلك بمهارة ملحوظة حيث يتحرك كل جيل في الزمان وفي المكان في آن، بصورة تشمل كل تجليات الشتات، أو التحرك الفلسطيني، وعلاقته بالأسر أي الفلسطينيين الذين بقوا في الأرض الفلسطينية الأسيرة في قبضة المشروع الاستيطاني الصهيوني. وتكمل الرواية زمكانيتها تلك من خلال عمليات تزاوج الأبناء بصورة تتكامل فيها أجزاء الأسرة الفلسطينية الأكبر.

فإذا كانت «رقية» قد تزوجت «أمين» ابن عمها «أبو الأمين» الذي رأى الهزيمة العربية في فلسطين مبكرا، وجنب أسرته معاناة الطرد الصهيوني وهوان الشتات، ووفر لابنه تعليما مكنه من أن يصبح طبيبا مرموقا، يوفر لأسرته حياة كريمة، ورخية إلى حد ما. فإن ابنه الآخر «عز الدين» يتزوج «كريمة» الصفورية بنت رحلة شتات أكثر قسوة. تأخذنا إلى عالم المخيمات والقيود المفروضة عليه في لبنان خاصة، وما يعانيه سكانه من عسف إملاءات المكتب الثاني اللبناني، والحاجة إلى الحصول على تصريحاته في كل نأمة وحركة. بينما يتزوج ابن «رقية» الأكبر «صادق» من رندة النابلسية في محاولة للجمع بين من وقعت أرضهم تحت الاحتلال الصهيوني عام 1948، ومن وقعت أرضهم، مثل نابلس في قبضته بعد نكسة عام 1967. لهذا كانت مراسم الزواج تتم في عمان، بكل ما تمثله عمان في حياة الفلسطينيين من زمكانية. أما حسن فإنه يتزوج من فاطمة اللداوية، التي بقيت أسرتها الفلسطينية في فلسطين بعد تأسيس دولة الاستيطان الصهيوني على أرضها عام 1948. في نوع من لم شتات الأسرة الفلسطينية الواحدة على أرضها من جديد. لكن الأمر الذي يبدو بسيطا ومنطقيا في الحديث عن التوحد بين المنفى والأسر، استلزم اجراء هذا الزواج في اليونان، لأن كل أفراد الأسرة المنفية لا يسمح لهم المحتل الصهيوني بأي عودة إلى بلدهم، ولو للمشاركة في حفل زواج. فالرواية تحرص على أن تكشف لنا كيف تصبح تفاصيل الحياة اليومية ضربا من المعاناة بعد ان انتزع العدو العادية من الحياة العادية للفلسطينيين، وجعل مجرد زيارة الأهل لخطبة ابنتهم منهم ضربا من المستحيلات. بل لا تكرر الرواية أي من تلك الظروف بل تقدم ثلاث تنويعات لثلاث حالات مختلفة: زواج عز من كريمة بنت المخيم التي تتوزع أواصر علاقات أهلها بين المخيمات في زمن كان لابد من الحصول على تصريحات من المكتب الثاني للم شمل العائلة، وزواج صادق من رندة النابلسية وكان ضروريا أن يلتقي فلسطيني الشتات مع فلسطيني الاحتلال في عمّان، وزواج حسن من فاطمة اللداوية، الذي حتم أن يلتقي فلسطيني الشتات بفلسطيني الأسر أو فلسطيني 1948 في بيريوتس في اليونان. وهكذا يكتسب حفل الزواج الذي جرى في اليونان دلالاته المتراكبة في الرواية. ليس فقط من خلال الحوار الدال الذي أجرته وصال مع عابر يوناني نسب فستانها الفلسطيني إلى غاصبي فلسطين، ولكن أيضا من خلال تلك الرقصة الجميلة التي رقصتها «رقية» مع عروس ابنها «فاطمة» اللداوية. الرقصة التي قالت بها «ما يستعصي على الكلام» (ص320) كما تقول وصال، لأنها رقصة اتحاد المنفى بالأسر.

لذلك لم يكن غريبا، بل كان طبيعيا، على صعيد البنية الرمزية أن ينجب هذا الاتحاد «رقية» الجديدة التي سيعهد إليها وهي لاتزال طفلة بمفتاح الدار الذي أغلقت به جدتها الكبيرة الدار وعلقته في رقبتها حتى الموت، وحملته بعدها رقية، إلى أن اهدته لحفيدتها المولودة وعلقته في رقبتها بحركة مترعة بالدلالات زمنيا، بمناسبة تحرير الجنوب اللبناني وانسحاب العدو الصهيوني منه، ومكانيا على أرض فلسطين التاريخية. لأن «رقية» تشهد في هذه الرواية بعثها من جديد وهي لاتزال حية مرتين: أولاهما في صورة «مريم» تلك اللقية الرائعة الطالعة من مذابح الاجتياح الصهيوني لبيروت والتي لانعرف، وهذه ضربة معلمة روائية أخرى إن كانت حقا فلسطينية أم لبنانية، وثانيتهما من صلبها هي، لأن ابنها حسن ينجح في نهاية الرواية في أن تولد ابنته «رقية»، المسماة على اسم جدتها «الطنطورية»، مثل جدتها أيضا على أرض فلسطين، في «اللد» وعلى بعد كيلومترات من «الطنطورة».

فنحن إذن بإزاء «طنطورية» جديدة تولد في «اللد»، وعلى أرض فلسطين التاريخية، وليس في المنفى، وتسلمها جدتها مفتاح الدار الذي ظل معلقا في رقبتها، كالنير وكالحق/ النبراس معا، منذ وفاة أمها. وهو أمر بالغ الدلالة من الناحية الفنية، وبضربة معلمة حقا، من حيث التخطيط السردي وبينة الرواية الأيديولوجية والدائرية معا، حيث تستنبت الرواية بطلتها من جديد، بعد عمر من الشتات وسبعة دور في أربع دول مختلفة، في فلسطين التاريخية المحتلة منذ عام 1948، وكأنها تستشرف عبرها مستقبل القضية الفلسطينية، وعودة الأهل للأرض التي طردوا منها غدرا وعدوانا.

(6) أوجاع الشتات والصمود وجدلية الألم/ الأمل:
وهي في قراءة رابعة رواية التاريخ الفلسطيني وأوجاع الشتات والصمود، تقول الرواية: «إن الحكاية صعبة، لا تحكي. متشعبة. ثقيلة. كم حرب تتحمل حكاية واحدة؟ كم مجزرة؟ ثم كيف أربط الأشياء الصغيرة على أهميتها بأهوال عشناها جميعا»(ص205) كما أنها واعية بأن الحكاية، وكي تحكى بحق، ليست خطية بأي حال من الأحوال «تمضي الحكاية، ولا تمضي تماما. لأنها وهي تتقدم إلى الزمن التالي تظل ترجع وتسترجع. تتشابه الحكايات، وأيضا تختلف كالوجه وهو يحكي»(ص148). فالرواية واعية بأن عبء الحكي وعبء التاريخ صنوان. وأن الحكي هو الذي يعيد صناعة التاريخ، ويتيح للمقهور أن يُسمع صوته للآخرين. يقول لها ابنها حسن، الذي يريد منها أن تسجل حكايتها: «أطمع في الصوت. ولأنني أعرف قيمته أريد أن يتاح للآخرين أن يسمعوه ... حتى الشعوب، الجماعات تسعى طويلا وحثيثا حتى تجعل صوتها حاضرا مسموعا»(ص234) وهذا الوعي بالجدل بين الحكي والتاريخ من جهة، وبأهمية الصوت الفردي الذي يخرج بالضحية عن أن تكون رقما مجهولا الهوية، الصوت الذي يمثل صاحبه من جهة أخرى، هو الذي يكسب الحكاية قدرتها على أن تحكي لنا التاريخ وهي تتحدث عن أوجاع الشتات والألم. وتسجل لنا عبر صوت «رقية» وحكيها كيف استحل الصهاينة القرى وانتهكوا كل الأعراف والمقدسات بالمجازر والتطهير العرقي والبربرية الوحشية التي يندى لها كل جبين، من دير ياسين إلى الطنطورة وقرى الساحل العديدة، وحتى كفر قاسم وصبرا وشاتيلا. وكيف افتقد الفلسطينيون السلاح للدفاع عن دورهم من البداية، وتآمر الانجليز ضذهم، وتطوع الكثيرون لمساعدتهم. وكيف جاء المجاهدون من كل فج لنصرتهم: لا من البلدان العربية وحدها، وإنما من الهند والسند، ومن يوغوسلافيا والأناضول وتركستان للدفاع عن فلسطين أمام الهجمة الاستعمارية الصهيونية الشرسة. رواية مؤامرات الاستعمار البريطاني عليهم، وتشجيعه الذي يفتقر لأي حق أو أخلاق للصهاينة وتسليحه لهم، بينما كان يصادر كل سلاح قادم للفلسطينيين. تكتب فيما تكت بؤس الجيوش العربية وهزيمتها التعيسة أمام العصابات الصهيونية المسلحة منذ ذلك التاريخ البعيد، وحتى اليوم، من الميتروبوليتان الاستعماري المركزي: سواء أكان بريطانيا عقب الحرب العالمية الثانية في أربعينيات القرن الماضي، أو الولايات المتحدة الأمريكية منذ النصف الثاني من القرن العشرين وحتى الأن.

وهي من هذه الناحية رواية الخذلان والمسؤولية العربية عن ضياع فلسطين. وكيف تعلق الفلسطينيون طويلا بوهم أن تعيدهم الجيوش العربية لبلادهم، فتكشف الوهم عن سراب بلقع. بل عن هزيمة ثانية لاتقل ضراوة عن الهزيمة الأولى، ضاعت بها البقية الباقية من فلسطين. ثم تأخذنا الرواية إلى اكتشاف الجيل التالي من أبناء «الطنطورية» لأنفسهم في المقاومة الفلسطينية، بل اكتشاف «رقية» نفسها لنفسها فيها من ناحية، ووعيهم جميعا بضرورة توثيق الذاكرة الفلسطينية والإمساك بزمام كتابتها من ناحية أخرى. وهي في الوقت نفسه رواية مطاردة المشروع الصهيوني البشعة للفلسطينيين في بيروت وإلقائهم في البحر، فعلا لا مجازا، وهم الذين ملأوا العالم كذبا وافتراءا بأن العرب يريدون الإلقاء بهم في البحر الذي جاءوا منه لاغتصاب أوطان الآخرين.

ومع كتابة الرواية لهذا التاريخ المأساوي نكتشف معها تحولات جغرافيا الشتات الفلسطيني من صيدا إلى عمان وبيروت، ومن دمشق إلى قبرص وأبي ظبي وكندا. فإذا كان جيل «رقية» قد ولد في فلسطين، فإن جيل أبنائها قد ولد في لبنان، أما الأحفاد فقد ولد بعضهم في أبي ظبي، والبعض الآخر في كندا، أما الحفيدة «رقية» التي تغلق بها الرواية الدائرة، فقد ولدت في «اللد» في قلب فلسطين كجدتها من جديد، وعلى بعد كيلومترات معدودة من الطنطورة. وهي من هذه الناحية رواية هذه الفسيفساء الغنية التي اشتبك فيها مصير فلسطيني الشتات، بفلسطيني الاحتلال، وفلسطيني الأسر من ناحية؛ ومصير الفلسطينيين بمصير بقية الشعوب العربية من ناحية أخرى: في لبنان خاصة ومصر والأردن، وإلى حد قليل لدلالة المفارقة سوريا، بالرغم من أن اغلب أهل الطنطورة هجّروا إليها.

لكن هم الرواية الأول، وسر نجاحها في أن تكون بحق من روايات فلسطين الكبرى، ومن الروايات العربية الكبرى عامة، هو أنها استطاعت أن تضفر لنا في ثنايا حكاية تلك المرأة «الطنطورية» الآسرة جينيولوجيا الحكاية الفلسطينية الأشمل، وتواريخ الدم الفلسطيني والعربي، وتفاصيل حكايات الفلسطينيين المتعددة، من لجأ منهم ومن بقي في الأسر، ومن وقع تحت وطأة الاحتلال بعد 1967. أو بالأحرى حكايات الذين كتب عليهم الشتات في مخيمات اللاجئين حيث تدخلنا الرواية إلى عدد كبير من تلك المخيمات، وتسجل بعض ما تعرض له الفلسطينيون فيها من هوان وتقتيل. وحكايات الذين وقعوا تحت الاحتلال الثاني بعد النكسة كرفيقة صباها وتشردها «وصال». فلو تتبعنا كيف قتل الفلسطينيون في هذه الرواية لخرجنا منها أيضا بجنيولوجيا الدم الفلسطيني الذي تأسس عليه المشروع الصهيوني البغيض. بدءا من الأب والأخوين وعشرات غيرهم من أهالي الطنطورة في عملية التطهير العرقي البشعة عام 1948، مرورا باغتيالات غسان كنفاني، ومحاولة اغتيال أنيس صايغ، واغتيال كمال ناصر وأبو يوسف النجار وكمال عدوان، وليس انتهاءا باغتيال أبي نضال وأبي إياد ومجازر اجتياح بيروت وتل الزعتر وصبرا وشاتيلا. ولا تنسى القتال الفلسطيني الفلسطيني، وحرب المخيمات، واغتيال ناجي العلي.

هكذا تحقق الرواية عبر كتابة المرأة/ الوطن والاستمرار، كتابة الحكاية الفلسطينية ومحورها بالطبع المرأة. لأننا سنجد أن الشخصية المحورية، والتي تعنون بها الكاتبة روايتها، هي رقية/ الطنطورية/ بنت زينب، وأم مريم، وجدة رقية الجديدة. وهذه الجنيولوجيا لها دلالاتها المهمة في بنية الرواية حيث أن البطلة الرئيسية لم تنجب بنتا، فمريم ليست بنتها العضوية، ولكنها بنتها السياسية إذا صح التعبير. فالبنوة في هذه الرواية عضوية وسياسية معا، ومن تضافر العضوي مع السياسي تكتسب تلك البنوة دلالاتها الروائية. فدلالات الأحداث في العمل الروائي تختلف عن دلالاتها العفوية أو الاعتباطية في الواقع، لأن الفن اختيار وحبك. لذلك عملت الرواية على أن تعيد مفتاح الدار إلى الدار: إلى فلسطين: إلى «رقية» الحفيدة، وتعود به إلى فلسطين ببراعة روائية يؤكد عبرها النص أن الدار الفلسطينية ومفتاحها لا يبقيان في فلسطين فحسب، وإنما يظل المفتاح بيد الفلسطينية ،التي نأمل أو يوحي لنا النص، بأنها ستفتح به باب بيتها من جديد.

وإلى جانب هذه القراءات المتعددة والمتكاملة والمتفاعلة تخلق لنا الرواية مفرداتها الخاصة، ولغتها المتفردة، ورموزها الثرية الدالة التي تدخلها إلى وعي القارئ، وتدخل معها فلسطين في عالمه وتكوينه. ذلك لأن رضوى عاشور تدرك أهمية العلاقة الوثيقة بين الشخصية ولغتها، وتعي أهمية تلك المفردات الخاصة إلى الحد الذي تزود معه القارئ في نهاية الرواية بثبت من المفردات والعبارات الواردة بالدارجة الفلسطينية فيها. ولا يقتصر اهتمامها باللغة على تلك المفردات التي تمنح الشخصيات والأحداث نكهتها المتميزة، ولكنها تعمد إلى المزج بين اللغة السردية واللغة التحليلية واللغة التأملية في أكثر من موضع (راجع على سبيل المثال الفصل 13 المعنون مقال عن الانتظار). كما تستخدم إلى جانب هذه اللغات مجتمعة الكثير من الأغاني والأهازيج الشعبية الفلسطينية، وأهم من هذا كله الرموز الفلسطينية الثرية والدالة التي تتجذر بها القضية في حياة أبنائها، رموز دالة وثرية: مثل رمز مفاتيح الدور التي تعلقها النسوة في رقابهن، ويتوارثنها بنتا عن أم، قد تكون هذه الدور قد تهدمت، أو محيت من على وجه الخريطة، ولكن أصحابها لايزالون يتشبثون بها ويصرون على حقهم فيها، برغم الشتات والصمود والألم. بهذا الثراء السردي وتراكب اللغات وتعدد المستويات تكتب لنا رضوى عاشور رواية إعادة استنقاذ فلسطين من المحو والنسيان. وتضعها في مركز الوعي العربي. ولهذا طالبت أكثر من مرة بأن تدرس حكومة الثورة المصرية الجديد هذه الرواية على طلبة المدارس، فهذا الفعل أجدى لفلسطين مئات المرات من المطالبة الآن، وقبل أن تتجذر الثورة وتنجز مهامها الأساسية في الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية، بطرد سفير دولة الاستيطان الصهيوني، أو إلغاء معاهدة كامب دافيد المجحفة.

 

هوامش:
(1) للمزيد من التفاصيل في هذا الموضوع راجع كتاب إدوار سعيد المهم: Edward Said, The Worl, the Text and the Critic (Cambridge, Massachusetts, Harvard University Press, 1983).

(2) راجع المرجع السابق، ص 39.

(3) للمزيد من التفاصيل راجع: Harold Bloom, A Map of Misreading (Oxford, Oxford University Press, 1980).

(4) تواترت أخبار وتعليقات كثيرة عن مدى قلق العدو الصهيوني وهلعه لسقوط نظام مبارك، بدأت بدعمه اللامحدود لنظامه إبان الثورة، وتزويده بكميات إضافية من الغاز المسيل للدموع عندما نفد مخزونه منه، وببنادق القناصة الموجهة بالليزر التي استخدمت في قنص المتظاهرين في ميدان التحرير. كما أنه من الثابت أن العدو الصهيوني استخدم، أثناء الثورة، كل أدواته للضغط على الإدارة الأمريكية لدعم مبارك والحيلولة دون سقوطه. لكن أكثر الأنباء دلالة هي وفود أحد أقبح الوجوه الصهيونية مؤخرا، القس عوفاديا يوسيف، إلى مصر وسعيه للحيلولة دون محاكمة مبارك. وهذا في حد ذاته من أبلغ المؤشرات على خيانة مبارك لمصر، وعمله الدؤوب لخدمة عدوها التاريخي.

(5) تغطي الرواية الأولى (بين القصرين) الفترة من 1917 – 1923، أما الرواية الثانية (قصر الشوق) فتغطي الفترة من 1924 وحتى 1927، بينما تقفز الرواية الأخيرة (السكرية) قليلا في الزمن متجاوزة عن عدة سنوات، كي تغطي الفترة من 1936 – 1944.

(6) ثمة كثير من القصص التي تترى عن معاناة المستوطنين الذين ينتقلون لمستوطنات بنيت على القرى الفلسطينية المغتصبة من مطاردة أشباح ليلية لهم، وهناك أكثر من دراسة عن الأوضاع النفسية لهم وما تسببه لهم تلك الأشباح من منغصات.

(7) راجع M. M. Bakhtin, The Dialogic Imagination, edt. Michael Holquist, trans Cryl Emerson and Michael Holquist (Austin, University of Texas Press, 1981), p. 426.

(8) منذ أن كتب يوسف السباعي في أوائل الخمسينات روايته الشهيرة (طريق العودة)، وإن تجنبها بشكل مثير للتساؤلات نجيب محفوظ كلية في نصوصه السردية المتعاقبة التي تغيب عنها فلسطين كلية. وهو أمر أشرت له في دراسة سابقة قبل سنوات.