تكشف قراءة الكاتبة السورية التي تحاول مقارعة الشعر بلغة شاعرية أكثر منها نقدية عن أبعاد تجربة الشاعر الفلسطيني في ديوانه الأخير، وعن طبيعة الأسئلة التي تؤرقه.

محمد حلمي الريشة في «هاويات مخصبة»

حرائق تصحو على متن الصور من رمادها لاهثة تعتقل اللحظة

سمر محفوض

هكذا، وببساطة، ومنذ الاصطدام الأول بالحرف/ بالعنوان "هاويات مخصَّبة"، يأخذك الشاعر محمد حلمي الريشة للدهشة والذهول والمرارة والاشتباك بعوالمه الشفيفة، كما اكتشاف أول للحواس/ المرارة، لأنه فاتك الكثير وأنت غارق في زحمة الانشغال عن ما يحدث داخل روحك، ولأن كل ذلك حصل في غفلة عنك؛ تحسه ولا تعيه.. إنه الشعر أيضاً.. وأيضاً.., أيضاً يدعوك فتفتح بوابة الروح، وتحنو على الذاكرة، وتترك للشاعر أن يقودك على متن الشوق من رقعة إلى أخرى .. كل ذلك ونبضك يتواتر بين الصبر والثورة على الصبر، لتطرح مزيداً من الأسئلة. هل يمكن للشاعر أن يكون سوى نفسه في أي مكان مع القصيدة، مع المرأة، مع الحياة، الموت، الساسة، مع الكائن، أي كائن سوف يكون, كأقصى مدى هو نفسه؟ هل ثمة حقائق ثابتة في الكون؟ وهل ثمة في التجربة الإنسانية ما هو منجز ونهائي؟ لا ثمة أجزاء مركبة لعالم متناقض تكونه القصيدة، إنما ثمة ما هو ضائع فيك، وما القصيدة إلا مغامرة البحث عن هذا الضائع وتحقيقه.. إنها عند الشاعر محمد حلمي الريشة هي الرغبة؛ مساحة من قرنفل، وقبلة ندى، مساحة شوق تتراقص في غابة سحر يزرعنا فوق فراشات الحلم، فنصير ضياء يرفدنا بموسعات نبضه التي تحار كيف توسع شرايينك لاستقبالها. يكتبك على قوافيه مرة، وعلى شكل لون قزحي يرسمك لوناً يشبه لون الفرح، بكل تفاصيل الحب التي سكنت فصوله، ونطقت أشياؤه في حواره مع الذات والوقت والآخر.
تتكون اللغة الشعرية عنده كتعبير أقصى .. من هنا يمكن الدخول إلى تجربته الشعرية، حيث اللغة لديه مخلوق لا تكتمل حياته من غير المرأة المشتهاة؛ تلك التي ترتب قامتها على جناحين من ضوء، يغمسها في إبريق شغفه ويطلقها طيوراً مرسومة بالكلمات.. طافحة بالصمت والحرف معاً.. هذا التناغم الشديد الكثافة في الذهاب إلى الحدود القصوى من الصفاء والامتلاء. ثمة نفحة غير عادية لديه .. هو المليء بالذاكرة؛ ذاكرة الفعل وذاكرة الحلم، وذكاء الأسلوب المندغم حد الهوس بمشروعه، لتكون القصيدة علامة زمن معين؛ زمن يحيكه زهراً، حيث الكائن فيه منساق إلى الأعلى؛ إلى رائحة يعشقها؛ رائحة تسري به كالنمل، توثقه بالمتعة الكامنة وراء الحرف، فترقص حرية الكلمات بين أصابعه في منعطف ذهول، ويبقى هو العنوان هناك دائماً، وها حرائقه تصحو على متن الصور من رمادها لاهثة تعتقل اللحظة، وتستريح حالمة بطول الانتظار لأوراق مستحيلة.. يحاور حلماً على وشك الانعتاق في عالمه الشعري لتتراقص غنجاً ودلالاً.. إنها تلك العاشقة تفرد ظلها عالياً، ويخفق الشاعر بعبق الجانح فيكاد يفقده توازنه، بينما عيناه تسافر دون ركوع، وتزغرد النظرة طوال الوقت.
في فَاتِحة الرِّيح،
فَاتِحةٌ أخرى على رِيْح؛
لَم أَعِدْ أحداً بأنني سَأكونُ شَاعراً .. لقد وُلِدْتُ هكذا! 
هذه الشفافية والرقة والعفوية والنقاء الصوفي تشكل بالنهاية فضاء شاعرياً ولونياً خاصاً؛ إنها الروح الظامئة أبداً للانعتاق، تتنوع في أشكالها ومحمولاتها الدائمة الرغبة في المواءمة المفتوحة على احتمالات عدة من العفوية والجراءة، حاملة هواجسه المنحازة أكثر فأكثر نحو إشراقة الحالة الداخلية الانفعالية التي تتداخل وتتشابك لتطل الإشارة المستنبطة.
لا أنتِ فيَّ.. ولا أنا فيكَ.. وما بَينَنا: لا أَحَد! 
إنها تفصح عن قدرته على التحدي الذي يرى فيه امتداداً لسطوة الرغبة والحلم والإيقاع، والذي يقود بالضرورة إلى عوالم من التساؤل والدهشة التي هي خامة القلب ذاته.
يَخفِضُ لَها جَنَاحَ أَسرَارِهِ
كَنَحلٍ يُرَاقِصُ وَردَةً مَرشُوووووقَةً إلَى فَمِه،
يَتَورَّدُ مَاءُ لِسَانهِ بِسُكَّرٍ يَنبِضُ ولَوزٍ مُوسِيقيّ..
هُدِّيهِ، أَيَّتها الفِتنَةُ، مِن رَأسِهِ
إلَى
أَخْمَصَيهِ لِيَستَطيعَ بَهاءهَا؛
بَهجَةً.. بَهجَة. 
يصوغ الحلم امرأة تتصدر بحضورها العميق ساحة الشعور دائماً؛ هي في مربع الضوء والاهتمام والانفعال واتجاهاته، تشعل قنديلها مترقبة بفرح وقلق لحظة التوق كفعل أنثوي ممزوج بنزق الانتظار.
سَتأخُذُهُ من كُوَّةِ رُوحِهِ لِتَغسِلَهُ من غِيَابِه،
ثمَّ تَحلُمُ بِكَوكَبٍ يَتَراقَصُ نَشوةً عَلَى
سُرَّةِ نَومِهَا
بَعدَ صُعوبَتِه.
يوازن بين الكتل المتماهية في جنوحه نحو الحب، لكنه يتقصد، فيجليها بشفافية خارجاً من نقصان الواقع، متمماً له على امتداد الدهشة المتناثرة كزهور مبثوثة في حلم متوهج، تطل أنثاه على المدى تطل من حرائق الروح، تحتويه ولا تتردد في الاندماج به حتى التلاشي كأمل عصي على الإدراك، وهو يستقبلها كمرجع روحي لذاتها كملاذ .. أوَ ليس هو الشوق إلى الفطرة الأولى؛ يطهرها ببروقه دون بخور ولا مطر، يصليها شوقاً وفرحاً وحنيناً، فتسطع احتراماً لأحلامه، وما استهلكه من دقات القلب، وصهيل حروفه اللامتناهية في تأكيد قدرته المستمرة على تخطي المنجز، لتأسيس عبور شعري مفتوح على صدمة الروح المشحونة بنبوءاتها الآتية في فعل حسي، يسهم بخلق رؤية تناضل بكل اتجاه لتجسد القلق المتفجر في الذات المانحة صبواتها وصورها ووهجها الحر للغة وانزياحاتها.
لا ريب أن الحلم والحدس لدى الشاعر، وقدرته العالية على استنطاق المخيلة، يمنحون نصه دفئاً خاصاً على خريطة الأنثى التي تأتي في شعره على صورة وطن أبدي، وهكذا تتأسس في الصورة الشعرية، آخذة مجالها الحيوي الذي يعد نفسه بتحولات غير محدودة ومستمرة، لتتحول الصورة الشعرية لديه وميضاً جمالياً يهيمن على ما سواه، تتبعة الروح المتباهية بأشواقها التي بحجم القصد الجالس خلف الحروف، كخفقة القلب تهز الصور المتناسلة بشراهة حنين لامرأة بعيدة ككوكب منسي؛ يكابد النور ليقول: ثمة بحار على حافة الانهمار في النبض.
يَقولُهَا: عِبَارةً مُزدَوَجَة
مِرآةً لا يَرَى فيهَا سِواهَا
ولا يَسأَلُ: كَم منَ الخُطُواتِ الطِّينيَّةِ سَتَشرَبُ قَدَماه
قَبلَ وُصُولِهَا وَوَصلِهَا؟
كما عابد يجلس طويلاً؛ كل جملة خفاقة يعقبها صمت، مساحة من الصمت، يترك للقارئ أن يملأ هذه المساحة من الصمت, التي هي مساحة البياض .. يشرك الآخر في كتابة القصيدة، ولذا فالبياض عنده كلام مختزل، أو بالأحرى مسافة متاحة من الشاعر لنا، جزء من الكلمة يجلس أمام براءتها محاذراً هتك عباءتها    المنتسجة في فصول روحه نسيجاً رهيفاً من مواعيد ظامئة للحب، وقد جذبته نحو الشذا، ويوالي انجذابه بهدوء وسحر خالعاً عنه كل ثقل مادي.
حَرِيرُ سُطُوعِهَا هذا الَمسَاء،
يُشهِبُ جَبينَهُ من
بُرجِ
عَذرائِهَا،
وهوَ عَقرَبُ الأَثيرِ يُدَفِّفُ رَنينَهُ بِوسَادَةِ المِلح..
هل حَمَلُ الرَّعشَةِ مَا يَصطَفيهِ، الآنَ، يَا ثَعالِبَ انتِظَارِه؟
رُبَّما..
تلك اللهجة الماتعة والفائرة بالحنو المهلك تجتاحه بتتابع عميق؛ عميق كأنه بلا نهاية ليبدو كما كائن نزف آخر قطرة من روحه بعد أن فاضت في صور من الحب.
هَدأَةُ اللَّيلَةِ مَنَاقِيرٌ جَافَّةٌ:
هذهِ البُرودَةُ يَصطَليهَا أَلَمَاً
يَتعرَّى من فُتونِه،
القَهوةُ تَتلَعثمُ قَبلَ أَن تَنتَهي
من طَوافِهَا في دَمِه،
واندِلاعاتُ المَشَاعرِ ـ
تَصطَفُّ مِثلَ جَدَائل مُخضَّبةٍ
بِمَسافاتِهَا..
إنها المرأة؛ طالعة من حبق أصابعه؛ شفيعة تأخذه من نفسه إلى الأفاق البعيدة، بمعنى الفعل الإبداعي المتصل بالحياة بخفة متناهية، وهو متصل بها من كل جهاته في تجربة الحب التي تقود ذاتها، وكأنه وجد طريقه دون وساطة.
تَتلَوَّى مِثلَ صَلصَالٍ سَاخنٍ
أَمامَ سِعَةِ احتراقِهِ،
يَكادُ حَليبُ لَونِهِ يَتخَثَّرُ من كَثرَةِ مَا انتَهى مِنهُ
إلَيه ..
حُطِّي ضِفَّتَيكِ، كَجَناحَي غَيبةٍ آتيةٍ عَلَى 
                         مِيَاهِ مَشَاعرهِ اللامِعَة
عَلَّهُ يَتَعَنقَدُ بينَ جُوعَاتِكِ  
                          اللَّهفَة.
لتنطلق الأسئلة المشاكسة تتقافز بوجهه، فيلوذ بجغرافيا الجسد.. تتسع ساحة وعيه وهو عابر، أو صامت، أو معجب.. تنساب بروحه شلالات الحياة في فرصة للهروب، وملاحقة متعة القبض على الظلال المتسربة من بين أصابعه وغرائزه التي تفيض بالحياة.. كل هذا يحضرك معه لأن خيالك سوف يتسع بالحب الذي يطلقه الشاعر شهباً عليك.
كالَّذي يَرقُصُ فَوقَ 
                   صَحوَةِ المَجمَرَة ..
هذهِ النَّدَّاهَةُ تُولِعُهُ   
                  - في مَنفَاهُ -
                  تَترُكهُ يَتهَاوَى
                  إلَى 
                            حِضنِهَا 
                                   قِ سْ طَ اً
                                            قِ سْ طَ اً
وَدُونَ مَائِدَة.
بخفة ويسر يتشكل الامتداد الأحلى حيث الاستدراك تفاصيل يراد تشكيلها بالقدر الذي يأمل أن يخلفه أكثر من مجرد إشراك عابر للمرأة التي تسكن الروح والمدى. أين يبدأ المشهد ليقول: هذا مولدكِ من الجسد الذي يتسع لنجوم شاهدها في سرب أحلام، فأفسح لسكونها أن يتصدع فوق السطر، ملتقطاً حباته كما طائر.. كل ذلك وأنثاه العاشقة تستظل بعرائس مجنونة.. تعوم في هلام هيولاه دون أن تغرق، وهو الرجل/ الشاعر الذي يخط في كل صورة شعرية شرفة تطل على شموس الحنان.
أَيقَظَتهُ - هذا الصَّباحَ،
من سَريرهِ الضَّيِّقِ وحَوَاسِّهِ المَبتُورَة:
- عِمْ حُبَّاً
يَا مَريضي المُبهَمَ واللَّذيذَ في آن.
الصورة عنده تتجاوز اللفظة (بما هي وحدة لغوية غير منفصلة عن بنيتها، أو بما هي خلية في شبكة من الخلايا المتداخلة)، فلا يقتصر اعتناؤه على المفردة، على العكس فهو يهتم بالبنية، ولهذا تتسم كتابته بالكثافة التي هي أبعد من الإيجاز وأشمل، لأن الإيجاز يتصل باللفظية، والكثافة تتناول الحدود القصوى من الامتلاء الأجمل بمستويات متنوعة تُلمّح ولا تفصح، لأننا في النهاية لسنا أمام عرض سينمائي واضح. في شعره (محمد حلمي الريشة) نحن في حضرة لغة يقترن بها المجاز اقتراناً دائماً بالصورة.
يُروِّضُ عُزلَتهُ كلَّ يَومٍ
كَأنَّها سَمكةٌ في إِناءٍ من زَمنٍ جَافّ..
أُستُريهِ بِمُكَوَّريكِ المُعلَّقَينِ بِسلسِلَةِ الرُّوحِ،
أيَّتها الآنِيَّةُ - المُخَطَّأةُ بِصَوابِهَا 
                وبِئرِهِ النَّهِمَة.
حيث وجد في الاشتقاق فلسفة ملائمة لحاجاته المتنوعة، والتي ساعدت في السيطرة على عالمه الغني بتفصيلات تحقق إشباعاً مشهدياً للقارئ، وتحقق في الوقت ذاته استنباطاً دقيقاً لدوافعها الغريزية من جهة أخرى.
مُنذُ عَلامَةِ رَفرَفَةٍ صَافِنَةٍ
غَرَزَتْ نَجمَهَا في لَحْمِ شَهِيَّتي،
كأَنْ رَأيتُ حَوَافَّ شُبهَتي المُستَديرَة
تَتأَبَّطُ كتَابَ ثِمَارهِ الغَامِضَة..
هذا اليُفَاجِئُني بِتَسَارُعِ يَنابِيعِهِ نَحوَ حَيِّزِ شُرُودي
يَطردُ فَرَاغاً مَلأتْهُ أَورَاقي المُعشِبَة..
كأَنْ رَائِيةٌ أَنا / لَهُ
يُشرِقُني بِلَذَّةِ لَسْعاتِهِ 
             عَن 
                   ... بُعد!

أصابع حنينه أمطرت من الذاكرة لتخط امرأة الشغف المهيمن، فأين سيتجه للاستقرار والطمأنينة؟ أليس التجوال في هذا الفضاء الزمني الواسع يعني احتفالية ما بفضيلة الخيال الشعري؛ حيث لا شعر بدون مخيلة أو ذاكرة للارتقاء به إلى شرفة الحلم على النحو الذي تذوب فيه الفواصل داخل إطار ضاغط لاتجاه حسي متوالد عن الشعور المتطلع لنسج صورته على شكل حنين طاغ   ضمن إشراقات الصدى، والذي يظهر في إيقاع الشعر عند الشاعر، حيث في المجموعة، موضوع المقاربة، نجده رشيقاً متطلعاً نحو آتٍ يدفعه لتجاوز المحيط، والانتقال إلى الفعل الأسطوري ذاكرةً وحلماً، طبعاً وهو ما يزال محتفظاً بنكهته الخاصة التي صيرها الحرف أكثر سحراً في استقرار الصورة وتوقدها الذي يضمنها كل الجزئيات الصغيرة   برضى عجيب،  فنقبلها بحب رحيم، إذ المرأة تتحول من شفافية اللون في دفقه شعورية إلى شكل ثابت ينزرع بنظام القصيدة،   وينزع بها نحو الإفصاح الذي هو زمن الحدث لديه، بل هو حدث دائم التجدد موضوعه.
كأَنَّهُ يَسحَبُ أَنفَاسِي بِبِضعَةِ أَصَابِع لِلحَواسّ؛ 
                  أَعلَى منَ القَدَمينِ
                        وأَقرَبَ من فَمٍ يَتَّكئُ عَلَى صَلاتِه..
كأَنَّهُ مَغَارةُ الجُرحِ بلا جِدَارٍ في... نِهَايَتهِ،
وَكأَنَّهُ يَعني ابتدَائي بِفُضُول!
هي (المرأة) تراها تنطلق في تناقض جوهري بين العري والتستر، بين الإباحة والحياء، وتفضي في كل مرة إلى تجاوز الحسي إلى لا نهاية الحسن، من حيث هو معنى من معاني الخلق في لحظة تجسيد يمعن في تجذير معنى اللقاء ضمن عاطفة الرغبة أو غريزة الشهوة وروحانية الشوق معاً عبر الكلمات المتجانسة.
يَسكبُ هَدأَتهُ الصَّاخِبَةَ تَحتَ قُبَّعَةِ أُذُني كَسَائلٍ مُذَهَّب..
العِنَايةُ أَنَّهُ صَيدِي الرَّحيم..
سَأَسلُبهُ؛
          رِقَّةَ استعَارَتهِ التُسَاوي رَجفَتي
          ظِلَّهُ بِقُربي إذ يَتهيَّأُ آيةَ الجَسَد /
          انتِبَاهَةَ الدَّبيبِ في رَحيقِهِ الدَّائريّ /
          وَحبرَهُ المُمَغنطَ كي أَكتُبَهُ
                        عَلَى صَدرِ كَثَافَتي المُشَرنَقَة!
هي امرأة بلا تعريف، وفي هذا التناقض تكمن جدلية التخفي والانكشاف لدى الشاعر، لأنها (المرأة) عنده تتوق لطلاقة الفطرة، عارية كحواء البدء، تكتسب حركتها الرمزية الدالة عليها، والمتعدية حدود الواقع في براءة الخلق والحنين والجنس، واختلاط الشهوة بالطهر كله.
أُشرِعُ -
بَابَ المَدَى عَلَى مُستَودَعِ الحَنين
أَشتَاقُهُ -
لُغزَاً يَتَفكَّكُ صَدَفَةً بَينَ يَدَي
أَشُدُّهُ -
نَحوي بِرَقصَةِ الكَلمَاتِ البَارِقَة
أُشَبِّهُهُ -
بِأَيِّلٍ يَتَواثبُ رَفيفُهُ فوقَ صَحَارى صَدري
أَشُمُّهُ -
حَبَقاً يَعبُرُ تُوَيجَاتِ رَاحَتي المُتَرنِّحَة
أَشَرشِرُهُ -
سَواكبَ طَلٍّ لِنَوابِضي الحَارَّة
أُشَيِّئهُ -
مُبهَماً كي أُقَشِّرَ إثَارَاتِه
أُشَكِّلُ -
جُوعَهُ لِيَلتَهِمَ وَحدَتي!
إنها لا مكشوفة ولا مستترة، وقد خفف الجسد من كثافة المادة ونقّاها من كل شيء سوى الحب، فصار جمالاً صرفاً، وانحل لطافة متناهية ليشع شفافاً، فيقترب طرباً من المشتهى عبر الجسد. سَيكُونُ - أو هكذا أُمَنِّي النَّفسَ - كتابَ النَّشواتِ
عَلى سُرَّةِ سِيْمَتهِ العَاليَة،
إذ لا أَبْهى ولا أَدنَى
منَ افتِتَانٍ كَهذَا.
هي المرأة مرة، ومرة مصدر قوته وحيويته التي هذبت الكائن فيه بعد توحش في أسلوب الشاعر، فلا يبوح بسر التحول وإن هو يوحي بأنه شيء كالوصال تسري فيه رعشة الروح.  
أُفَتِّشُ - بِسِرِّيَّةٍ - عن أَسرَارِهِ المُوبِقَة
فَهذهِ الغَيَاهِبُ تُعلِّمُني حِكمَةَ التَّحديقِ بِانكِفَاءِ الحَدَقَتينِ
عَلى مَائهِمَا
كأَنَّهُمَا سَهمانِ إلَى غِشَاء.
تعبير يلخص كل شيء؛ مرة يصرح ومرة تشعر بأن الصورة لا توحي، إنما تشير من جديد إلى حرص الشاعر على حجب الجسد في لحظة النشوة بالحروف.
ثمَّ جَذَبَني بِخَدَرِهِ المُتوَرِّدِ مثلَ عِطرٍ
يَتَخثَّرُ في دَمهِ الأُقحُوان
فَهذهِ المسَامَاتُ الَّتي تَتَحَيوَيُ من نَقَراتِ سَأَمهِ الكَثيفِ
تُشَرنقُني بِرَائحةِ أَوصَافِهِ الصَّائبَة.
وهكذا تبقى الأصوات تنسج عبر المسافات أبعاداً للدلالة من إباحة إلى دفء.. كل ذلك وهو (الشاعر) على خط الالتباس؛ لا فاضح ولا غامض، إنما يحوك للجسد ضياءات من مجازات تدمج بالصورة بياضاَ بعد بياض، لتشكل شفافية تخترقها العين، فلا تلمس شيئاً من شذوذ يصدم الذائقة، ولا يرشح منها سوى الحنين.
أَنَا: حَنِينٌ مَرِيضٌ / .. 
     أَحمِلُنِي بينَ ضفَّتَيْ سُعَالٍ .. وَ .. آخَر !
وهيَ: شَائِكَةٌ وجَافَّةٌ / .. 
        مِثلَ رَملِ مَسَافَةٍ مَلِيئَةٍ بِيَقَظاتٍ
        تَنبضُ أَمامَ عَرَبةٍ [ تَرثيني ] مُشَوَّشَةٍ 
                                بِنَوايَا الخَطيئَة !
هي عنده امرأة في شكل موجة كونية؛ بحركتها تتفاعل العناصر وتنسكب.. تلك صورتها النهائية التي أراد الشاعر أن يقفل المشهد على جمالها المتواشج بالرحيق، فأعاد للجسد شفافيته ونصاعة الفعل، وهي حاضرة عارية ومنتمية لفطرة الطبيعة، مؤتلفة بنعمة الجسد الساخن الكامل الذي يحتاج لمسة الشاعر ليتحرر من مداراته السكونية، فيغدو فعلاً نابضاً بالشهوة للحياة بحركةٍ هي قوام الانفعال الأول لدى الشاعر، وقد شافت حواسه حدود الارتواء في تسجيل الرؤى والإشارات بعبارات رشيقة مبهرة.
مَا مِن عُذرِيَّةٍ لإِثَارَةٍ مَوهُوبَةٍ بِدِلتَاهَا الشَّقِيَّة..
هيَ.. مُنهَمِكَةٌ بِهِرَّةِ ضحكَتِها المُرَّة،
وأَنا.. أَشتَغِلُ عَلَى كَآبَتي
       بِرِقَّةِ حِصَانٍ في فَضَاءاتِ وُحُولاتهِ المَسبُوكَة!
نضجاً وعطفاً للانبهار الذاتي أمام الألق الروحي؛ يتجلى الشاعر تارة فيكون هو المشهد، وطوراً هما معاً في نسق تخيلي مشترك لا فكاك عنه ولا ارتواء، حتى مهاوي الموجة.. كل ذلك جاء بمثابة اختلاجة في مخاض القصيدة التي لا تعرف الحدود والمسافات، وبالتالي لا تخضع لوعي جدلي، بل لعذوبة مذوبة في أتون انفعال الشاعر، فلا نحس باستقلاليتها عنه أو عنا، مع احتفاظها بكامل فرديتها التي تصر على البقاء ضمن إطار الحلم، لأن طبيعة الاحتلام قلب الأشياء والمقاييس والهيئات بالانكفاء أو الارتداد، وقد توسعت الحركة وبقيت الصور موحية موائمة في مساحة توسع الخيال دون أن تدمن تكرار الحالة، أو تغير الأمكنة، كمؤشر على خصوبة الشحنة الشعرية لديه.  
بِاسْتِطَاعَة اللُّغةِ أن تَأتيني:
بِعَرشِ سَاقَيها الغَضِّ
بِمَنابتِ عُلوِّها تَحتَ سَفْحِ فِطَامي
بِأَيائل نَظَراتِهَا السَّائبات
بِتأويلِ طَلسَمها الفَادح في هُبوبِه
لكن ..
مَن سَيأمنُ لي
أن لا تُوقظني وَخزةُ شَعرةٍ لَها
مِنَ الحُلم؟
معنى ذلك أن المرأة لدية أكبر من التجربة، ولذا أتت الحالة الشعورية مدوية عاصفة؛ تتفتح بحمم هدير واعد أبعد مدى وأعمق وجداً، وهي ذاتها ميلاد اللحظة الشعرية والصورة في حضرة الذات التي تشهت أن تشهد ميلادها فواصل ونقط وتراكيب سحرها، ولها دورها وآثارها المدهشة.
أيَّتها اللَّحظةُ المُكَوَّرةُ
مثلَ حبَّةِ ثَلجٍ
مِن
عَلٍ :
أَشتَهي لَكِ طُولاً بِفُسْحَةِ وَردَةِ النَّار
وقَراراً في غَيابَةِ صَوتي
حينَ نَكونُ فيكِ؛
بِألوانِ نُهوضِهَا وريشَتي.
وهكذا، دون توقف، احتلت أفق اللوحة الشعرية المرأة التي زرعت النذوف بين أنساق الصورة لديه، كما ابتدعت الشغف، تراه بيسر وغنى لا يوصف ولا يتوقف عند حد حراً، وفي سعي دائم يرسم حدوداً ويزرعها علامات كالحلم، دون أن يجعل القصيدة عصية على الفهم، إنما يعطيها مسحة من الخصوصية في لحظات مخطوفة من أحلامه، ومبثوثة أبداً بنكهة حروفه غير العادية، بلغة شعرية صافية الجرس، عذبة المذاق،   شديدة الأسر، وفي دفق حار يصف ما يعتمل في جنبات روحه ومعارجها، وفوق ذراها يحملنا معه في طواف مبهور نحاول أن نفسر معاني صوره الأبعد مذاقاً والأشمل حضوراً ومدى. كيف تمكن من تحقيق المعادلة بمنأى عن المؤثرات وهو من جيل شهد أكثر من حرب إقليمة وعربية، وشهد أكثر من هزيمة، ومحاصر بالاحتلال والحروب والهزائم؟ كيف استطاع أن يجعلنا لا نلتقط أنفاسنا على مدى سطور مجموعته المستغرقة بفتح بوابات الروح، والمنتمية إلى خطوة متقدمة بنماذجه المتوغلة بإيقاع تجربة أصيلة تحرر نهراً بنفسجياً من أحاسيس مختلفة هي دوائر النار؛ رمز الحب الأنقى الذي لم يخل من رشحات محرقة آخذة بالترقي والارتفاع نحو مدارج الدخول، والتحول بكل جزئية من كيانه الروحي.  هو هكذا مكتمل مع/ منفصل عن أحداث ماضية، مفتوح لا ينغلق على حالة محددة، لأنه هو الحدث الدائم الحضور.. كل هذا بلغة سهلة قريبة غنية بتفصيلاتها الواقعية عبر مواجهة قيمة لبعدين هما مكان الوجود المادي والمكان الحلمي بوصفة عنصراً، لأن المكانين يتشكلان من خلال التفاعل مع الكتل المجازية التي تودعه رغباتها وأحاسيسها الموغلة في الشفافية تارة وبالوجع الدفين تارة آخرة، فنكبح حرائقنا بصمت مرهق.

* شاعرة وناقدة من سوريا