يتناول الناقد المصري هنا تجربة شاعر من خلال ديوان يجمع جل أعماله، مما مكنه من تحديد محاور التجربة الشعرية، بهمومها الفنية والموضوعية على السواء، والتوقف عند كل منها بالدرس والتحليل، ثم الانتقال بعد ذلك إلى روافد التجربة ومصادرها التي تدعم عملية التحليل، وتجذرها في حياة الشاعر وتجربته.

«سنابل العمر» وحصاد التجربة

قراءة في ديوان الشاعر محمد حماسة

حسام جايـل

هناك بيت من الشعر أحفظه منذ الصغر، وكلما سمعت أو قرأت شيئا لشخص يتكلم عن شيء ما بإتقان رددت هذا البيت بيني وبين نفسي وهو قول الشاعر:

لا يـعـرف الـشـوق إلا مـــن يـكـابـده          ولا الـصـبـابـة إلا مــــن يعـانـيـهـا

وعندما قرأت ديوان (سنابل العمر) وعندما انتهيت من المقدمة رددت هذا البيت، وأدركت أن هذا رجل عليم بالشعر خبير بدروبه. ففي ديوانه الذي يجمع جل أعماله بين دفتيه، والصادر عن دار غريب بالقاهرة يحدثنا الشاعر محمد حماسة في البدء عن رحلته مع الشعر فيما يمكن أن نطلق عليه السيرة الذاتية الشعرية للشاعر، وقد اصطفى ما جمعه في هذا الديوان وفقًا لمعايير عنده لم يخبرنا بها. كما يخبرنا أن خياله تعلق بالشعر منذ سن الحادية عشرة من عمره، ويخبرنا كذلك  عن الحب الذي عرف طريقه إليه في سن مبكرة وسيكون لهذا أثر في شعره من بعد، كما أنه استشعر في قرارة نفسه أنه مجنون ليلى، ولا يخفى علينا ما لتلك الأفكار وهذه الخيالات من أثر بالغ فيما ينتجه المرء من شعر وفكر، وفي تكوين شخصيته الشعرية بخاصة.

وهناك جملة يحدثنا بها الشاعر عن طموحه الشعري وهي .. «وكلما قرأت شيئًا أدركت أن بيني وبين ما أريد من الشعر بونًا بعيدًا تتقطع دونه الأنفاس» صـ14. كما أن عبارة الرجل صـ64، 65 توضح مذهبه الشعري وتوجهه ... «كما أجدني إذا حاولت شيئا منه مبتعدا عن الشعر الحر، مائلا إلى الكلام الموزون المقفى، وأجدني أعدل عن الأبحر الشائعة المطروقة إلى الأبحر غير الشائعة وأجدني أحب القافية الواضحة الجلية غير الذلول، وحبذا لو كان بها لزوم ما لا يلزم حتى تكون أكثر وضوحا».

وعلى مدار ثلاث وأربعين قصيدة متنوعة بين الشعر العمودي والشعر الحر ومتفاوتة في الطول والقصر يطوِّف بنا الشاعر في عالمه الشعري الذي نحاول أن نستجلي ملامحه ومحاوره الرئيسية التي يدور حولها الديوان.

وهذه المحاور هي:

1-     الرومانسية.

2-     الهم الوطني.

3-     الهم القومي الإسلامي العالمي.

*وتتجلي الرومانسية في هذا الديوان من خلال القصائد التي يدل تشكيلها اللغوي سواء على مستوى المفردات أو التركيب أو الصور على هذا المنحى الرومانسي لدى الشاعر مثل قصيدة: الهدية الأولى، في الطريق إلى حبيبتي.

ولاشك أن الحب يهذب اللغة والمشاعر، وقد لاحظ الشاعر ذلك حين قال "حاولت بالحب أن ألين لغتي" صـ17، وهو هنا لا يعدو الحقيقة، فتاريخ الشعر نفسه يبرهن على أن الحب يجعل اللغة أكثر سهولة ويسرًا؛ وما غزليات شوقي وشعر إبراهيم ناجي ومن قبل شعر عنترة وغزل امرئ القيس:

أفاطم مهلا بعض هذا التدلل

إلا دليل على ما نقول. ولعل هذا ما جعل الشاعر يرى في نفسه بعض الشعراء العذريين والمجنون بخاصة.

ولعل توجه الشاعر إلى الرومانسية يعد أمرًا طبيعيًّا في تلك المرحلة العمرية؛ حيث نجد أن القصائد الدالة على ذلك التوجه والمليئة بالصور الرومانسية قد كتبها الشاعر في مرحلة الشباب، وهذه القصائد هي الهدية الأولى في الطريق إلى حبيبتي، مخاوف قرب الشاطئ، أين الكلمة، رسالة عتاب صغيرة، ربما يرجع يومًا، أنين الذكريات، الذي لن يعود، السيف الآخر، حكاية مع الليل، أخاف من عينك، ماذا بعد، الوداع الأخير، النار والحطب، في البدء كانت الكلمة، لماذا، الطائر الجريح، أحن إليها، عندما تغيبين، لا مفر، قوليها، انصرف يا قلب، الآن أبدأ، حديث إلى النفس، الحنين إلى النبع، ومجموع هذه القصائد 25 قصيدة أي أن الرومانسية تمثل ما يتجاوز 58% من الديوان، وهذا له دلالته على تكوين المشاعر وتوجهه.

وكما أن هذه القصائد بها إشارات غير رومانسية فإن القصائد الأخرى بها إشارات رومانسية دلالة على تغلغل الحس الرومانسي وتعمقه في بنية الشاعر الحسية وتراكيبه اللغوية، وصوره المجازية.

ربما ساعد على هذا أيضًا – إلى جانب مكونات القراءة الأولى وعاطفة الشباب وحب الصبا- التكوين الموسيقى لدى الشاعر وارتباطه بأوزان الشعر العربي، والتي تطرأ حتى على كلمات الشاعر النثرية .. فخيوط نفوسنا نحن –البشر- قد تتلاقى أو تتباعد، قد تتقاطع أو تتوازى .. قد تتعارف أو تتناكر.. ص 6.

والتجربة الرومانسية لدى الشاعر لا تسير على نمط واحد بخلاف نمط العاطفة إذ تتوزع ما بين عاطفة الشباب الحاد، وحزن الرومانسية النبيل، وصد المحبوب وعناد المحب، وهدوء العاطفة والاتكاء على المحاورة الرقيقة، وحكمة المجرب، وعشق الجمال.

ففي قصيدة الهدية الأولى وهي مفتتح الديوان نلمح رغبة المحب في الإفصاح عن مشاعره والتعبير عما بداخله، يساعد على ذلك استخدام الشاعر للأفعال المضارعة مما يشي بالحركة والاهتمام بالحدث، وعدم الكف عن الحديث ولكن الشاعر ببراعته ينهي القصيدة في تركيز رومانتيكي عذب يليق بحداثة التجربة وبراءتها

لكني لم أجد الكلمات

ووجدتك أنت بقلبي

يا حبي

لا أملك إلا أن أهديك القلب

بديلاً عن كل الكلمات صـ70

وتسيطر على لغة الشاعر في توجهه الرومانسي لغة بسيطة محملة بدلالات عصرية، رغم ظهور بعض الأساليب والصور التراثية، كما في قصيدة الطريق إلى حبيبتي حيث تدمي قدميه أشواك الطريق، والقلب قطاة، والحبيبان عصفوران في عشهما، وكما في قصيدة مع حكاية الليل.

وهذا من فعل الرافد التراثي الذي يدخل في تكوين الشاعر ويستمر الخط الرومانسي بما يستدعيه من عاطفة جياشة، وأخيلة متوثبة، وتراكيب رنانة، وصور من الطبيعة الحالمة والأبحر الموسيقية الخفيفة كما في أين الكلمة صـ79

وربما كانت قصيدة «ربما يرجع يومًا» هي قمة الفعل الرومانسي والدراما العاطفة لدى الشاعر في ديوانه سواء على مستوى الصياغة أو العاطفية أو الصورة حيث تتسم مفردات القصيدة وكذلك أسلوبها ببساطة التعبير وتلقائية الصدق؛ فلا نجد مفردة غريبة أو تراكيب مغربة، بل نجد ألفاظًا عذبة وأسلوبًا سلسًا وتراكيب فصيحة بسيطة ممتلئة بدلالات عاطفية، وكذلك الصور الجديدة

ربما يرجع يومًا ربما     ....    واختفت في دمعها المنسكب

يقطر المنديل في راحتها ....    قلبها.. يا كم به من لهب

"لست لي" وارتعشت في ...             يده "دبلة" قيد صغير ذهبي

فالدموع نزيف القلب الملتهب، والدموع الكثيرة تخفي المحبوبة، والدبلة- ذلك الاستخدام الحداثي- قيد صغير ذهبي ترن في الأرض ولا ترجع غير الصدى المكتئب 

وتتنامى العاطفة ويحتدم الصراع بين الأماني والأحلام والواقع المؤلم، ويتخذ الشاعر عبر البنية النحوية متكئًا ومنطلقًا لتعدد صوره، وتصوير صراع الحبيبة مع نفسها ومن قبل صراع الحبيبين، وذلك من خلال تكرار شطر المفتتح "ربما يرجع يومًا" الذي يمثل مرتكزا ضوئيا للقصيدة. ويبلغ الشاعر قمة تألقه الخيالي في رسم ذكريات الحبيبة المهجورة وأمانيها تلك المعلقة على الجدران، أو عرق المنديل (التعب) وصورة العرس والحياة الهادئة الوادعة، ولكن زوابع الحياة ومكدرات الصفو تفاجئ الإنسان مثل الموت تمامًا فيضيع كل شيء سدى.

ويعيدنا الشاعر إلى نقطة البدء مرة أخرى ليضعنا في قلب الصراع ووسط المشهد، وذلك بإعادة بيتي المفتتح، كاملين في ختام القصيدة، ومن ثم تصبح القصيدة دائرية المعاني (وهذه سمة أسلوبية عند الشاعر) والصور في تعبيرها عن مشهد مستمر في حياة الناس، ما يكاد يبدأ حتى ينتهي، وما يكاد ينتهي حتى يبدأ.

*وإذا انتقلنا إلى المحور الثاني من محاور التجربة الشعرية لدى الشاعر محمد حماسة وهو المحور الوطني استعطنا أن نوضح أبرز ملامح هذا المحور وهي:

-      الانغماس في هموم الوطن وقضاياه والانفعال بالأحداث.

-      المشاركة الفعالة وإن بالكلمة وما هي بالقليل.

-      ممارسة دور الشاعر آنذاك المتمثلة في الحلم والوعظ والأمل، والنبوءة.

ومن يقرأ مقدمة الديوان، أو رحلة الشاعر مع الشعر، يرى أن الحس الوطني والاهتمام بقضايا الوطن المصري والعربي موجودة لديه ومسيطرة على حواسه. فهو ابن هذا الوطن. وهو ربيب الثقافة العربية والعقيدة الإسلامية، ويتنامى الإحساس الوطني لدى الشاعر ويتزايد الاهتمام، ويبلغ التفكير في الوطن وقضاياه ذروته حتى يصل في بعض القصائد إلى حد الكوميديا السوداء .. كما في قوله: وقالوا خطه لك يا مشير، ص56، حيث يتخذ التعبير عن التجربة المنحى الساخر ويرسم الأشخاص رسما كاريكاتوريا، وما ذلك إلا بعض طرائق المصريين في التعبير عن غضبهم ورفضهم لما لا يحبون.

وهنا تبرز قصيدة لكننا نسير دلالة واضحة على هذا المنحى عند الشاعر والتي تحمل في دلالتها العزم والإرادة والرغبة في التغيير رغم كل شيء من خلال استخدام لكن التي تدل على الاستدراك والتوكيد معا والتي تتكرر في النص كثيرا هي وبعض حروف الرجاء والتمني. والقصيدة عبارة عن تسعة أسئلة متفاوتة الطول ما بين سؤال يستغرق سطرا واحد إلى متى سنفغر الأفواه؟

وسؤال يستغرق تسعة عشر سطرا:

                      إلى متى نناصب العداء

...

وتهرب الحروف، ص88

والأسئلة كلها استنكارية غرضها الحث على الثورة على الوضع القائم، واستبداله بأفضل منه، بل إن الشاعر يستنكر منهم أن يرموه بالمثالية والمخاطرة فيبادر ليوضح لهم موقفه

يا إخوتي..

لسوف تزعمون أنني مخاطر جريء

لكن خاطري بحبكم يضيء

لو تكشفون عن قلوبكم!

وتفتحون صدوركم!

لسوف تصعدون للسماء

هناك تعلق النجوم في جباهكم

هناك تخضرّ الحروف في شفاهكم

تقبلون بعضكم

يعانق الربيع أرضكم

ولأن الشاعر هنا يتخذ دور الناصح أو بالأحرى دور المحرض فهو حريص على ألا يمله مستمعوه، لذلك فهو حريص على التقطيع السريع والعبارات الأخاذة القصيرة معضدة بالقافية :

تقبلون بضعكم

يعانق الربيع أرضكم

كما أنه حريص على أن يشعرهم بقربه منهم وذلك من خلال استخدام أسلوب النداء ومناداتهم بقوله: يا إخوتي وتكرار ذلك النداء أكثر من مرة.

كما أننا نلحظ أن ثورة الشباب وحماسة الوطنية تتبدى بشكل كبير هنا، من خلال الأسئلة والحض على التغيير وعدم الاكتفاء بالمشاهدة، وما ذلك إلا لإحساس الشاعر بمسئوليته تجاه شعبه ووطنه، ولأنه شريك لهم في الحلم والمعاناة، فهو أي الشاعر ليس مجرد موجه أو ناصح؛ بل إنسان يعاني مثلهم وليس أدل على الشراكة هنا من استخدام الفعل المضارع بصيغة الجمع ودلالته هنا واضحة جلية، وكذلك الأسماء تستخدم بصيغة الجمع أو مضافة لضمير الجمع:

سنفغر الأفواه/ لا تنطق الشفاه/ كلامنا/ سؤالنا/ نناصب الربيع عداءنا/ وننشد الخريف في دعائنا/ وننفث الدخان في طريقنا/ ونشعل اللهب فوق دربنا الوديع/ وقلبنا/ لنطفئ النيران/ تصافح الحياة/ أكفنا الراعشة/ ووجهنا المخضوب بالدماء /...

إن ثورة الشاعر وحرصه على استنهاض قومه يتبدى في القصيدة من خلال ذلك كله، ومن خلال حرص الشاعر على تكرار العنوان في قلب القصيدة ثلاث مرات لكننا نسير بدلالة الجمع والمضارعة، وكذلك من خلال تكرار بعض التراكيب والصور.

 *والمحور الثالث من محاور الديوان هو ما يدور حول الهم الإنساني الكوني وما يعتري حياة الإنسان من التفكر في القضايا الكبرى؛ الموت والحياة والمصير المجهول وما إلى ذلك.  وفي هذا المحور تتجلي براعة الشاعر في التعبير عن القيم الأخلاقية العليا، والمبادئ السامية، وتظهر التزاماته بمشاكل المجتمع الإنساني ككل، ويتجسد ذلك الملمح ويبلغ قمته في قصيدة حديث إلى النفس التي أراها تجربة إنسانية رائعة، يقدم لنا الشاعر فيها خلاصة رؤيته وعصارة تجربته الحياتية وهو الذي خبر الناس وبلاهم فانكشفوا عن بخيل مدعي كرم، وجبان بات منتفخًا وظنين في أخلاقه يزهو ببراءته، ووضيع يرى نفسه غاية التألق والنجاح، وبليد أخذ حظ المجتهد، وانهزم الشريف، وانتصر الخسيس، ومتكلم عن القيم هو محارب لها في حقيقة أمره، وذي الوجهين الذي يلقاك بابتسامة ونفسه تنطوي على شيء غير حميد لك أو كما قال صالح بن عبد القدوس:

يعطيك من طرف اللسان حلاوة         ويروغ منك كما يروغ الثعلب

أكثر من خمسة عشرة نوعًا من البشر أو خصلة من خصال البشر عايشها الشاعر ورآها في ناس كل يدعي عكس ما به.

والقصيدة من الشعر العمودي ويبلغ طولها ثلاثين بيتًا، قافيتها الميم المكسورة التي تعكس حزن الشاعر؛ حيث يوازن حرف الميم المكسور ما تشعر به ونتلفظ به أحيانًا عند التبرم والشكوى أو الفضفضة مع النفس بقول "اممممم" ومن هنا كانت تلك القافية التي يختتم بها كل بيت من القصيدة.

والقصيدة مكتوبة في الديوان على ثلاثة مقاطع وأظنها متعمدة، حيث يمثل كل مقطع فيها صورة من صور الحزن النفسي ويعكس رؤية الشاعر للدنيا ولبعض الأصدقاء الذين غيرتهم الأيام.

يتبدى المقطع الأول في شكل منولوج أو حوار مع النفس يستهله الشاعر بالتوجه إلى ذاته في شيء من التحذير في آخر البيت

رفرفي يا نفس في الحلم         وارجعي إن شئت بالألم

حيث تنم صيغة الأمر عن النصيحة بأخذ الحيطة والحذر، وأن تنتبه للأحلام ولا تأمنها، أو أنه يجب علينا التفريق بين الحلم واليقظة فهذا عالم وذاك عالم آخر لأن الحياة رؤى مختلفة –لاحظ دلالة الجمع- سابحات في دجى العدم.

إن قمة الدراما الإنسانية أن تكتشف كذب الصديق والخل الوفي فهو كاذب وليس ذلك فقط بل إن قوته وغذاءه ذلك الكذب فهو طبع فيه أصيل، ويعدد الشاعر خصال ذلك الشخص الكذاب في سرد مباشر وصور تجريدية عارية من الخيال، ولم لا فالحقيقة أبلغ من الخيال في كثير من الأحيان، ولعل سيطرة الحزن أيضًا هي التي جعلت صوره هنا بهذه الطريقة والتي تكون حكما في بعض منها.

كاذب يقتات من كذب   كل من يسعى على قدمي

ثم يأتي المقطع الثاني ليبلغ ذروة التصوير التجريدي لطبائع الإنسان، وهم أشكال وألوان بلاهم الشاعر وخبرهم كما قلنا سابقًا.

قد بلوت الناس فانكشفوا عن بخيل مدعي كرم

وجبان بات منتفخا كانتفاخ الأسد في الأجم

وظنين في خلائقه     كبريء غير متهم

ووضيع في وقاحته  يدعي إخمال ذي الهمم

ورنة الحزن هذه، ولوعة النفس تلك تذكرنا بتجريدات أبي العتاهية، وحزن أبي العلاء وصورهم لأفاعي البشر وجوارحهم.

ولعل الشاعر قد أفاق من حزنه قليلاً وتنبه لاستغراق تصوير طبع البشر لطاقته الشعرية فعاد لنفسه واستهل الشاعر المقطع الثالث بخطاب النفس مجددًا وكأني به يعزي نفسه فيكرر مطلع القصيدة.

رفرفي يا نفس في الحلم         وارجعي إن شئت بالألم

فيتوجه إلى نفسه بتسعة أبيات جميعها تبدأ بفعل الأمر، والبيتان الآخران توكيد لسابقيهم بالأوامر السابقة للنفس بأن تصدع لمنطق البشر، وتقيم في عزلة كعزلة صاحب المعرة فالجرح غير ملتئم، ولكن الشاعر- وربما بتأثير من طبيعة عمله التي لابد فيها من المخالطة والاجتماع- يدعو نفسه بما دعا به بشار من قبل

إذا كنت في كل الأمور معاتبا           صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه

فعش واحدا أو صل أخاك فإنه           مقارف ذنبا تارة ومجانبه

إذ أنت لم تشرب مرارًا على القذى        ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه

لذا فعلى نفسه أن تستعيد طموحها الخامد وتستمتع بالألحان الشجية وتنسى دنيا الناس أو بالأحرى تترك دنيا الناس للناس.

أشعلي النار التي خمدت        في حنايا الروح واضطرمي

واسمعي الألحان شاجية         في الفضاء الرائع النغم

واتركي للناس أمرهم             إنه يدعو إلى السقم

ولا يخفى على القارئ أن الشاعر يبني نصيحته معتمدًا على مقدرته اللغوية وخبرته في تصوير طبائع الناس حيث تبرز المفارقة بكل أشكالها اللغوية والدلالية، والتقسيم النحوي والصوتي والمقطعي في تصوير طبائع البشر، ووضع الضد في مقابل الضد وقديمًا قالوا "وبضدها تتميز الأشياء."

أكثر الناس شكاة هوى       قلبه خال من السقم

من لديه المال مكتنزا        يتشكى الفقر في برم

وبليد غير مجتهد          نال حظ الحاذق الفهم

كما أن سيطرة الجملة الاسمية على بعض مناطق القصيدة لاسيما في المقطعين الأول والثاني يشي بجمود حركة الحياة وثبات طبائع الناس الذين انخدع بهم الشاعر.

إن هذه القصيدة وغيرها من قصائد الذات والمجتمع تبرز لنا هم الشاعر الإنسان بدنيا الناس وما يعتريها من تغيرات وحوادث.

هذا استعراض لأهم محاور الديوان حسبما نراها، وحسبما نطق بها النص من قراءتنا له.

وفيما يلي استعراض لأهم الروافد التي ساهمت في تشكيل الرؤية الشعرية لدى الشاعر، وهي كما أرى تتمثل في الآتي:

1-     القرآن الكريم.

2-     التراث العربي.

3-     الأدب الحديث.

4-     التجربة الإنسانية.

يعتبر القرآن الكريم من أهم روافد التجربة الشعرية التي أثرت تجربة الشاعر وأثَّرت فيه. ولعل ذلك كان بحكم البيئة الريفية التي نشأ فيها الشاعر وهي لعمري بيئة متدينة بالفطرة، يكون القرآن الكريم هو الشغل الشاغل للناس، ويهرعون إلى إلحاق أولادهم بالكتاب، وهكذا كان الشاعر حيث التحق بالكتاب وحفظ القرآن الكريم، فلا غرو بعد ذلك أن نرى أثر ذلك في تجربته.

ويتمثل أثر ذلك الرافد في اللفظ والصورة والأسلوب ومن ذلك صورة يوسف في قصيدته الذي لن يعود صـ97، 98 حيث يستلهم قصة سيدنا يوسف عليه السلام ويجعلها محور تجربته.

وأما الرافد الثاني وهو التراث العربي شعره ونثره فهو أكثر من أن يحصى في هذا الديوان كما ساهم في إثراء التجربة بشكل كبير، وقد ساعد على تأثر الشاعر به نشأة الشاعر الريفية بحضور الموالد، وسماعه للأشعار في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ودراسته في الأزهر ثم في دار العلوم وحضور هذا التراث واضح جداً في الديوان، ومن ذلك قصيدة أنين الذكريات وصورة القلب القطاة والوجه المستعار، وعندما تغيبين.

والرافد الثالث هو الأدب الحديث الذي عايشه الشاعر وتأثر بكتابه واستضاف نجوم ذلك العصر في جماعة الشعر بالكلية، وهذا واضح في عناوين القصائد والأخيلة والصور الجديدة مثل حديث إلى النفس التي تمتاز بالأسلوب الهادئ وانتشار الحكمة في ثناياها وكذلك قصيدة ماذا يقول الموتى، وقصيدة قالوا مات.

وبعد فهذه إطلالة على هذا الديوان، حاولت فيها استشراف أفقه واستيضاح رؤيته وتبين أبرز عناصره وسماته الأسلوبية، وفي نهاية الأمر لا أملك إلا أن أشيد بالديوان وأنه ثمرة رائعة من ثمار الشعر العربي جمع بين دفته أشكالاً متفاوتة من فنون القول الشعري، وإن كنا نحث الشاعر على أن يجمع أشعاره الأخرى في ديوان وأن يكون حريصًا على تأريخ القصائد في الطبعة الأخرى من هذا الديوان وما سوف يصدره من دواوين أخرى إن شاء الله.